ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 26-02-2022 09:05 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (156)

صـــــ(1) إلى صــ(21)

[التذكير بالوصية]
قوله: [وتذكيره التوبة والوصية]: أي: تذكر المريض أن يوصي إذا كانت عليه حقوق، والوصية تكون واجبة، وتكون مندوبة مستحبة.
أما الوصية الواجبة: فإذا كان على الإنسان حقوق، كأن يكون عليه دين، أو يكون لإنسان عليه حق، فعليه أن يكتب هذه الحقوق كاملة لأصحابها، ويأمر بردها لأصحابها، ولا يجوز للإنسان أن يتساهل في هذا.
وكل إنسان ابتلي بالدين قليلا كان أو كثيرا فالواجب عليه أحد أمرين: إما أن يكتب هذا الدين ويشهد عليه ويعطي الكتاب لصاحب الدين؛
لأمر الله عز وجل بذلك في كتابه المبين:
{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282]، فأمر بكتابة الدين.وإما أن يكتب الوصية المشتملة على حقوق الله وحقوق العباد، فإذا كتب الدين في وصيته فقد برئت ذمته إن شاء الله تعالى.وإذا كانت عليك حقوق لله، مثل الحج إلى بيته الحرام، إذا كان الإنسان قد قدر على الحج ولكنه قصر فلم يحج، فعليه أن يكتب أنه لم يحج، وإذا كانت هناك كفارات واجبة عليه كتب أن عليه كفارات من أيمان أو نحو ذلك، ويكتب عددها، وما هو واجب لله عز وجل في هذا، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق المالية لله عز وجل.
أما الوصية المندوبة، فهي أن توصي لقريب ضعيف، كأن يكون لك ابن عم، أو ابن خال، أو قريب فقير ليس عنده مال، وأنت ستترك لورثتك مالا، فتأخذ من وصيتك في حدود الثلث فتوصي لأقاربك؛ إذا لم يكونوا من أهل الإرث، أما إذا كانوا وارثين فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك،
فقال:
(لا وصية لوارث).وقد أعطى الله الحقوق لأصحابها في الميراث، فإذا كان القريب وارثا فلا توص له، وإنما توصي للقريب الذي لا يرث، كابن عم محجوب، أو ابن أخت أو ابن خالة أو ابن عمة، وتعلم أنه محتاج فتوصي له، فهذه وصية مندوبة مستحبة.وقد تصدق الله عز وجل على العباد بثلث أموالهم، وذلك هو الحد الذي يوصي الإنسان به،
لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الثلث والثلث كثير)، حينما كان سعد يريد أن يوصي بكل ماله.فالثلث هو الذي يوصي به الإنسان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث).
يعني: إذا أردت أن توصي فلا تصل إلى الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير)، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الوصايا في كتابها وبابها.والحاصل أن من حقوق المريض أن تأمره بالتوبة وتأمره بالوصية، وتقول له: يا فلان! إذا كانت عليك حقوق أو ديون فاكتبها، فهذا المرض الذي نزل بك يوجب عليك أن تحتاط لنفسك، وتستبرئ لذمتك، فتكتب ما عليك من الحقوق للعباد ولله.وإن كان على الإنسان صيام أيام كتبها، أو نحو ذلك من الحقوق والواجبات التي تقضى عنه بعد موته.
[استحباب ولاية أمر المريض لأحب الناس إليه وأصبرهم عليه]
يقول المصنف رحمه الله:
[وإذا نزل به سن تعاهد بل حلقه بماء أو شراب].
قوله:
(وإذا نزل به) أي: نزل به الموت، وللموت أمارات وتكون قبل سكرات الموت، ثم تفضي بالإنسان إلى السكرات، ثم تنتهي به إلى الممات،
فمن أمارات الموت وعلاماته: أن يكون المرض ميئوسا منه، أو يكون مرضه من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها، ولله عز وجل سنن كونية جعلها تدل على ما ينشأ أو يقع، فإذا كان هناك أطباء قرروا أن المرض الذي أصيب به المريض قد ثبت بالتجربة والعادة والاستقراء أنه لا يبقى صاحبه، فهذه من علامات الموت.ومن العلامات التي تدل أن الإنسان سينتهي به مرضه -في الغالب- إلى الموت أن يشتد به المرض، أو يحصل له من الحوادث أو الوقائع ما يدل على أنه لا يرجى برؤه ولا يرجى بقاؤه، فهذه كلها من الأمارات التي تسبق الموت وتدل عليه.
فإذا كان الإنسان قد رأى علامات الموت، أو اطلع الأطباء على أن المرض الذي معه لا يرجى برؤه؛ فينبغي على الإنسان أن يتهيأ، وعلى أقرباء المريض إذا رأوا أن المرض لا يرجى برؤه، فعليهم أن يتركوا أمر المريض إلى أحب الناس إليه وأرفقهم به؛ وذلك لأن هذه الساعات الأخيرة من الدنيا يكثر فيها شكاية المريض، ويكثر فيها توجعه، ويكثر تفجعه وتألمه.فإذا كان الذي يتولى أمره معروف باللطف والإحسان في المعاملة، فإنه يتسع صدره في تحمل هذه الأمور، ويكون أدعى إلى الرفق بالميت.ولذلك نبه العلماء رحمة الله عليهم والسلف الصالح -منهم الإمام الشافعي - على أنه يستحب أن يترك أمر ولاية المريض في آخر حياته إلى أرفق الناس به، وقد يكون أرفق الناس به ابنه، وقد تكون إحدى بناته، وقد تكون إحدى زوجاته، وقد يكون أحد أقاربه من أبناء الأعمام أو أبناء الأخوال، فالشخص الذي يعرف ارتياح المريض له، وكذلك حبه له وأنسه به، هو الذي يترك له القيام على شأنه.ويتأكد ذلك حينما تكون هناك الأسباب والعواقب الحميدة لهذه الولاية؛
منها: الرفق بالمريض وعدم التضجر والسآمة، بخلاف ما إذا وليه من هو دون ذلك، فإنه ربما يضجر ويسأم، فالمريض في شدة المرض إذا رأى السآمة والملل من الذي يليه وقع بين نارين، لا يدري أيصبر على مرضه فيكتوي بنار المرض، أم يبوح بسره أنه يحتاج إلى أمر فيكتوي بنار المذلة والمهانة والتضجر والسآمة، خاصة إذا كان عزيزا كريم النفس، فإنه ربما لو رأى الموت لا يسأل الناس؛ من شدة كرامة نفسه عليه وأنفته.فينبغي أن يترك أمر ولاية المريض إلى أرفق الناس به، وألطفهم في معاملته وأحلمهم به، ويجب على المسلم أن يتقي الله في المريض، فإن المريض ممن يرحم ويستحق الرحمة؛
ولذلك لما سئل أحد الحكماء العقلاء من العرب في الجاهلية: من أحب ولدك إليك، وأكثر عطفك عليه؟
قال:
(الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ) فالمريض يحتاج إلى العطف والرحمة والشفقة.وينبغي للإنسان مهما رأى من الأذية والضجر أن يتسع صدره، خاصة إذا كان المريض أحد الوالدين، أو ممن له حق أو فضل كالعالم؛ لأن المريض أثناء المرض تضيق عليه الأرض بما رحبت، بل وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، ومن شدة وطأة المرض قد لا يستطيع أن يترفق في أسلوبه ولا في كلامه ولا في معاملته، وقد يغلب عليه الجفاء، وقد يكون فظا في كلامه وحديثه، فينبغي للإنسان أن يتسع صدره.
[أمور تعين من يلي المريض على سعة الصدر]
ومما يوسع الصدر: العلم بسعة ثواب الله جل وعلا، خاصة إذا كان من الوالدين ومن القرابة؛ فإن الله يعظم أجرك ويجزل ثوابك، فترحمه.فاستشعار عظم الثواب عند الله عز وجل، فإنه مهما تضجر المريض منك وآذاك وثقل عليك؛ إذا تذكرت ما لك عند الله من المثوبة، هان عليك كل ما يكون منه، ولذلك كلما تذكر المسلم عظم الثواب هانت عليه مشقة الطاعات وعناؤها وكدرها.ومن ذلك أن تنزل نفسك منزلته، فإنك حينما ترى ما هو فيه من الألم والمشقة والعناء؛ فإنه يتسع صدرك لتحمل ما يكون منه،
وتقول:
لو كنت مكانه لفعلت أشد، ولقلت ما هو أسوأ من هذا.
ومن الأمور التي تعين على سعة الصدر: أن تذكر حقه عليك إن كان والدا ونحوه، فإن تذكر الحقوق يدعو إلى الصبر؛ فتتذكر اليد والنعمة والإحسان حتى تصبر على ما يكون من أذية وامتهان، ومن شأن الكرماء والعقلاء أنهم لا ينسون الفضل.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة.فلا يزال الإنسان مملوكا لمن أحسن إليه، وكأنه رقيق يملكه؛ بسبب ما كان منه من إحسان.فإذا تذكرت ما للوالد من فضائل، وأنه كلما مرضت داواك وقام عليك، وتحمل مشقتك وعناءك، والأم في ذلك أشد وأكثر، فإنه يهون عليك ما تراه من الأذية والضجر.والعلماء رحمهم الله نبهوا على أنه ينبغي أن يلي أمر المريض من هو أرفق وألطف به.ثم إذا وليه ينبغي له أن ينتبه لحقوق الله وحقوق العباد التي سبق ذكرها، ويهيئه لما فيه الخير.
[أمور ينبغي الإلمام بها لمن ولي أمر المريض]
من الأمور التي ينبغي على من ولي أمر المريض أن يكون على إلمام بها إذا رأى أمارات الموت: أن يذكر سعة رحمة الله عز وجل، فعند قرب الأجل ينبغي دائما الاستكثار من ذكر الآيات والأحاديث وقصص السلف الصالح التي تقوي يقين الإنسان بالله جل وعلا، وتحسن ظنه بالله سبحانه وتعالى، فيتلو آيات الرحمة وآيات المغفرة، وآيات الجنة وما أعد الله فيها لعباده من رفعة الدرجات والنعيم المقيم والرضوان العظيم، فهذه تحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.
ورد عن بعض السلف أنه لما حضرته الوفاة، أمر ابنه أن يقرأ عليه الأحاديث التي فيها ذكر التوبة، فكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون ذكرها عند الموت؛ لأنها تحسن الظن،
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بثلاث ليال:
(لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل).
والسبب في هذا: أن الميت إذا نزل به الموت، وكان قد تهيأ له بحسن الظن بالله، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه؛ والمرء يختم له بما كان عليه من خير أو شر، فنسأل الله العظيم أن يختم لنا ولكم بخاتمة الحسنى.ورئي سلمان الفارسي رحمه الله بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟
قال:
ما وجدت مثل حسن الظن بالله.فحسن الظن بالله عز وجل من الفأل الحسن، وهو يقوي يقين الإنسان بالله سبحانه وتعالى،
ولما شكي للنبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان ربما يتفجع ويكره الموت قال:
(إنما ذلك العبد الصالح، إذا حضرته الملائكة فبشرته بما عند الله من المثوبة؛ أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، والعبد الفاجر إذا نزل به الموت فبشرته الملائكة بما عند الله من العقوبة؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه) نسأل الله السلامة والعافية.وقد ذكر العلماء رحمهم الله -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن عشر- أن السلف الصالح تسامحوا في بعض الرؤى والقصص والمنامات، بشرط ألا تعارض الأصول الشرعية، وألا تشتمل على محاذير؛ فبعض الرؤى التي تتضمن ما دلت عليه النصوص في الكتاب والسنة من حسن الظن بالله، لا حرج أن يحكيها الإنسان ويخبر عنها ما لم تعارض كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما عند الله فوق ما فيها من البشارة؛ فإنه مهما كان في نفسك من حسن الظن بالله، فاعلم أن الله فوقه دون أن يخطر لك على بال.أثر عن الإمام مالك رحمه الله أنه مرض مرض الموت، فأغمي عليه ثلاثة أيام، ولما أفاق في اليوم الرابع -وكان آخر أيامه من الدنيا- قالوا له: كيف أنت يا أبا عبد الله؟
قال:
أرى الموت -أي ما أظن إلا أني ميت- ولكنكم ستعاينون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال.وهذه بشارة عظيمة من هذا الإمام العظيم رحمة الله عليه، ولذلك إذا رأى المؤمن دلائل البشائر، ورأى أمارات السرور من الملائكة التي تتلقاه؛ لو خير ساعتها بين الرجوع إلى الدنيا وما عند الله لاختار ما عند الله على أهله وماله وولده والناس كافة.
فلا شك أن حسن الظن بالله مطلوب، فمن يلي المريض يقوي مثل هذه الأمور في نفسه، ويقص عليه من قصص السلف الصالح وأخبارهم، وكيف كانت خواتمهم؛ فإن ذلك مما يقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى؛ ويعينه على ما هو فيه من شدة الموت وسكراته.
[استحباب تعاهد بل حلق المريض بماء أو بشراب وبيان العلة في ذلك]
قول المصنف رحمه الله:
[سن تعاهد بل حلقه بماء أو شراب]: المراد به أن يقوى المريض على قول لا إله إلا الله، وهذا من الرفق بالمريض؛ وذلك أنه إذا ختم له بهذه الكلمة العظيمة دخل الجنة،
ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
قال بعض العلماء: أي قالها بقوة إيمان ويقين كامل؛ فإنه سيدخل الجنة.
بمعنى:
أنه لا يسبقه على ذلك عذاب من الله سبحانه وتعالى، وهذا إذا كمل توحيده، وكمل إخلاصه، فإنه يقولها عند الموت بقوة يقين؛ لأنه قد ترك الدنيا وراء ظهره، وأقبل على الآخرة؛ ولذلك تجده في هذه الحالة أصدق ما يكون،
ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لما بلغ هذا المبلغ عند ذكر وصيته قال:
في ساعة يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر، وذلك بسبب ما يرى الإنسان من إمارات الحق لدار الحق والصدق وهي الآخرة، فإذا قال الإنسان هذه الكلمة ختم له بخاتمة السعداء، وهذه من علامات حسن الخاتمة.
[علامات حسن الخاتمة]
للخاتمة الحسنة علامات في الأقوال والأفعال، وظواهر الموتى، فمن علامات حسن الخاتمة القولية: قول "لا إله إلا الله"، والموت على ذكر الله جل جلاله،
ومن هنا قال العلماء:
(من أكثر من شيء في الدنيا فإنه يختم له به)،
أي: في الغالب، فإن كان كثير الطاعة لله جل جلاله، كثير الصلاة، كثير الصيام، كثير القربة؛ فإنه يأتيه الموت وهو ساجد بين يدي الله أو راكع أو صائم، أو يأتيه وهو ذاكر تال للقرآن، أو يأتيه وهو على تسبيح أو على استغفار أو تهليل أو تحميد، أو غير ذلك من الطاعات والقربات.ومن أكثر من الصلة والبر والإحسان إلى الضعفة والمساكين؛ ربما جاءه الموت وهو خارج في صلة رحم، أو بر والدين، أو طاعة لله سبحانه وتعالى على حسب ما استكثر.
وأما من استكثر من الحرام والفحش، فإن الله عز وجل يختم له بما كان له من غالب حاله، حتى لربما ذكر بلا إله إلا الله فامتنع عن قولها، ولربما تكلم بالحرام، ولربما تكلم بالغناء والفحش والدعارة وهو في آخر لحظاته من الدنيا فيختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية! وفي حوادث الناس وأخبارهم ما تشيب له رءوس الولدان مما كان من حسن الخاتمة وسوئها، فالإنسان إذا أكثر من الخير فإن الله يختم له بخير،
ومن هنا قال بعض العلماء في قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102]؛ قالوا: الإنسان لا يملك أن يموت على الإسلام، بمعنى أنه لا يستطيع أن يقطع أن يموت مسلما، ولكن المراد من الآية وكونوا على الإسلام، حتى إذا جاءكم موت جاءكم وأنتم على طاعة الله جل جلاله وعلى محبته ومرضاته؛ فيختم للإنسان بالخاتمة الحسنة.
ومن علامة حسن الخاتمة التي تكون في الأفعال:
أن يموت وهو في صلاة، أو يموت وهو في حج، أو يموت وهو في عمرة،
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي وقصته ناقته:
(اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا).
فقوله: (إنه يبعث يوم القيامة ملبيا) أي: يبعث على هذه الحالة التي مات عليها من طاعة الله تبارك وتعالى، ولذلك ينبغي للمسلم -كما قلنا- أن يكون على خصال البر حتى يختم الله عز وجل له بالخاتمة الحسنة، ومن هنا شدد العلماء في تعاطي المحرمات التي قد تفضي إلى الموت -كشرب الخمر والعياذ بالله- فإن الإنسان إذا تعاطى مثل هذه المحرمات قد يختم له بها، فقد يموت شاربا للخمر فيهوي في النار لزوال عقله، فيحرق بنار الدنيا قبل نار الآخرة، وقد يكون شاربا للخمر فيتردى من فوق بيته أو من شاهق، أو يطعن نفسه أو ينتحر والعياذ بالله، فهذه من علامة سوء الخاتمة في الأفعال، فكما أن حسن الخاتمة يكون في الأفعال كذلك -أيضا- سوء الخاتمة يكون بهذه الأفعال.
ومن علامات حسن الخاتمة: رشح الجبين، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن موت المؤمن يكون بعرق الجبين)، فإنه يرشح جبينه، وتكون على المؤمن الصالح البر التقي علامات الطمأنينة وعلامات الاستبشار، حتى أن بعضهم يموت وهو مبتسم؛ مما يرى عند الله عز وجل من البشائر الحسنة، فتجد ثغره باسما يتهلل.بل إن بعض الأموات من الأخيار والصالحين لا ترى في وجوههم وحشة الموت، ولقد رأيت أحد الفضلاء وقد كان كثير الصدقات،
كثير الإحسان، بعيدا عن أذية الناس، كثير الخير للضعفاء والمساكين، رأيته بعد موته فوالله ما رأيت أشرق منه وجها تلك الساعة، ولقد كنت أتمنى ألا يحجب وجهه عن رؤيته من لذة ما تراه، فو الله الذي لا إله إلا هو لكأنك تنظر إلى شمس تتهلل من النور والضياء، وكأنه حي، لا ترى عليه وحشة الميت؛ وهذا كله بفضل الله عز وجل؛ ثم بما كان من الإنسان من الأعمال الصالحة.أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه لما حضرته الوفاة، لقنوه قول "لا إله إلا الله" ثم نظر إلى السماء فتبسم ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.وهذا يدل على أنه رأى خيرا من الله سبحانه وتعالى،
وهي بشارة حسنة، وكم في قصص الأخيار والصالحين من حسن الختام، والبشائر التي تدل على لطف الله عز وجل بأوليائه وأحبابه! ولا شك أن الإنسان إذا عمل العمل الصالح، فإنه ينتظر من الله أن يرحمه ولا يعذبه، وينتظر من الله عز وجل أن يعزه ولا يذله، وأن يكرمه ولا يهينه، وألا يخزيه لا في الدنيا ولا في الآخرة،
فمن عاجل ما أعد الله للأخيار الصالحين: أن الله لا يخزيهم في الدنيا ولا يخزيهم في الآخرة؛ ولذلك تكون خاتمتهم على أحسن ما تكون عليه الخواتم، وترى من ثناء الناس ودعائهم وتفطر القلوب على فراقهم، ما يشهد بالقبول من الله جل وعلا، فإن الله إذا وضع القبول للعبد في السماء وضعه له في الأرض.
قوله: [تعاهد بل حلقه بماء أو شراب] أي: حتى يسهل عليه النطق بهذه الكلمة، وحتى يكون آخر ما يقول "لا إله إلا الله"،
وإذا قال:
"لا إله إلا الله" (مرة) سكت عنه حتى لا يضجر، فإن تكلم بعدها بكلام من الدنيا أعيدت عليه بعد فراغه من كلام الدنيا وقضاء حاجته.
وفي تلقين الأموات أحوال:
فبعضهم قد تخاف منه السآمة والضجر، وبضعهم لا تخشى منه شيئا، بل إن بعضهم يفرح حين يجد من يلقنه التهليل ويستبشر، وتجد عليه الأنس والسرور، فهذا لا إشكال فيه.أما إذا كنت تخشى منه الضجر أو تخشى منه السآمة فعليك أن تلقنه بطريق غير مباشر، كأن تذكر شيئا من عظمة الله عز وجل،
ثم تقول:
لا إله إلا الله، أو تقولها بلسان خاشع وقلب خاشع إذا رأيت منه الغفلة؛ فإن هذا يدعوه إلى التأسي بك والاقتداء بك، فإن ذكر الله يحث على ذكره سبحانه وتعالى، ويشوق إلى ذكر هذه الكلمة الطيبة.
يتعاهد بل حلقه بالماء أو بالشراب إذا كان هناك عصير ونحو ذلك مما يعين على سهولة نطقه وحديثه.وكذلك بل الحلق بالماء فيه فائدة ثانية، وهي أنه ربما يحتاج المريض إلى شيء، فإذا احتاج إلى هذا الشيء لا يستطيع أن يتكلم وحلقه جاف، وفي جفاف الحلق عسر عليه وأذية ومرض، فمن اللطف والرحمة به أن يبله، وهذا يدخل في عمومات الشريعة التي تدل على الرحمة والإحسان.
يقول المصنف رحمه الله:
[وندي شفتيه بقطنة].
قوله: [ويندي شفتيه بقطنة] كل ذلك من أجل أن يسهل عليه الكلام والحديث، وهو أيضا أرفق؛ لأنه إذا اخشوشن حلقه ربما تضرر، وحصلت له المشقة إذا طلب شيئا أو سأله، وربما تعذر عليه أن يتكلم بما يحتاج.
قال المصنف:
[وتلقينه "لا إله إلا الله" (مرة) ولا يزد على ثلاث، إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق].هذه من علامات حسن الخاتمة، وقد تقدم الحديث عليها، ومنها أن يختم للإنسان بقول "لا إله إلا لله"،
ومن قال: "لا إله إلا الله" في آخر حاله من الدنيا؛ فإن الله عز وجل يحجبه عن النار على أحد الأقوال.
وقال بعض العلماء:
قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) أي: أنه إذا كان عاصيا أو عنده كبائر ذنوب وأراد الله أن يعذبه، فإن الله لا يخلده في النار، وأن أمره سينتهي به إلى الجنة.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
يتبع



ابوالوليد المسلم 26-02-2022 02:25 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (157)

صـــــ(1) إلى صــ(21)

الأسئلة
[تكرار عيادة المريض]
q هل من السنة تكرار عيادة المريض، خاصة إذا طال مرضه أثابكم الله؟

Aلا يخلو تكرار عيادة المريض من أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون المريض محتاجا إلى هذا التكرار فلا إشكال في مشروعيته، وقد يتأكد، وقد يجب وذلك إذا كان المريض شديد القرابة كالوالدين والأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فهؤلاء جرت العادة أن الإنسان يعودهم، بل قد تجري العادة في بعض الأحيان ألا يفارقهم إلا عند الحاجة والضرورة؛ فلذلك يتأكد على الإنسان أن يكرر عيادتهم ويتفقد أحوالهم.
الحالة الثانية: أن تكون تكرار عيادة المريض موجبة للسآمة والملل والضجر، فهذا ينبغي للإنسان أن يتقيه، وفيه مضرة وأذية للمريض، وأذية لأهل المريض، بل ينبغي على الإنسان أن يخفف عنهم، حتى في حال الزيارة لا يطيل القعود، ولا يطيل المكث، إلا إذا كان المريض يرتاح لذلك، وغلب على ظنك أنه يأنس بك، وأما إذا كان إنسانا ثقيلا فإنه ينبغي عدم الإطالة، وإذا رأيت من المريض السآمة والملل، فإنه يشرع لك أن تقيم هذا العائد بأسلوب ليس فيه طردا له، خاصة إذا رأيت تعب المريض وضجره، فإن بعض الناس يمل ويثقل ويؤذي، وربما يدخل في العيادة بعض المشاكل أو بعض الفتن التي تقع بين القرابات أو تسبب خصومة، فمثل هذا يرى بعض العلماء أنه يشرع حجبه إذا كان في تكراره ما يوجب ذلك، أو يحصل به هذا المكروه؛ فإن درء المفاسد مطلوب، وما يتوقف عليه درء المفاسد يعتبر لازما؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فدرء المفاسد واجب، وما لا يتم تحقيق هذا الواجب إلا به فهو واجب.
أما الحالة الثالثة: فهي أن يطول العهد بينك وبين المريض، أو تريد أن تطمئن عليه فلا ترتاح نفسك، كحبك وصديقك، فتريد أن تتفقد حاله؛ لأنك لا ترتاح حتى تراه وتطمئن عليه، فهذا تؤجر عليه، وهو -إن شاء الله- يعتبر من الإحسان الذي ندب إليه، والله تعالى أعلم.
[قياس أجر زيارة المريض بصاحب الهم والمصيبة]
Qهل تقاس زيارة المهموم وذي المصيبة على زيارة المريض من حيث ثواب الزيارة والعيادة أثابكم الله؟

a أما الثواب فهو أمر غيبي لا يعلمه إلا الله علام الغيوب، ليس هناك نص معين يدل على مقدار ما للإنسان إذا واسى مصابا أو عزى من له ميت، فهذا مما يسكت عنه ويوكل الأمر إلى الله جل جلاله، فقد يكون ثوابه أكثر من عيادة المريض، وقد يكون مساويا له، وقد يكون أقل، فعلم ذلك إلى الله جل وعلا، وهذه الأمور يسميها العلماء بالأمور التوقيفية، ويسمونها بالسمعيات؛ لأنه يتوقف فيها، ولا يتكلم المفتي فيها إلا بحدود النصوص، وليس في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحديد مقدار الأجر في ذلك، هل هو أكثر من العيادة أو مثلها أو دونها، ولذلك يتوقف في هذا الأمر، والظن بالله حسن والله تعالى أعلم.
[نبش القبر إذا قبر الميت دون غسل]
Qهل ينبش قبر الميت ويغسل إذا قبر قبل غسله؟

a نعم، هذه من الأحوال التي تبيح نبش القبور، إذا أمن التغير ودفن قبل أن يغسل أو قبل أن يكفن، فإنه في هذه الحالة يطلب نبش القبر وتغسيله وتكفينه والقيام بحقه، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام بحق الميت من تغسيل وتكفين، فقال -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - في الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر -هذا أمر، والأمر للوجوب- وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) فأمر صلوات الله وسلامه عليه بهذه الأوامر، ونهى عن هذه النواهي، وهذا يدل على اللزوم والوجوب.
وكذلك قال في ابنته: (اغسلنها بماء وسدر) (اغسلنها): أمر، فذلك في الرجال وهذا في النساء، فهذا يدل على وجوب القيام بتغسيل الميت وتكفينه ورعاية حقه، فإذا قبر الميت قبل أن يغسل، أو قبل أن يكفن فإنه يشرع نبش القبر وتغسيله وتكفينه.وهكذا إذا غسله ولم يتم تغسيله على الوجه الذي يحصل به القيام بالواجب، كأن يكون ترك عضوا من أعضائه، فحينئذ ينبش ثم يغسل مرة ثانية ويكفن وهكذا إذا قبر عاريا بدون كفن، فإنه يشرع أن ينبش ثم يكفن ويقام بحقه على الوجه المعتبر والله تعالى أعلم.
[حكم كشف وجه الميت في القبر]
q هل يصح كشف وجه الميت في القبر أثابكم الله؟

a هذا ذكره العلماء في الكشف عن وجه الميت، قالوا: لأن التكفين إنما هو للجسد، ويكشف بمكان الحساب، ولا أحفظ في ذلك نصا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى به عمل الناس، ولكن لا يحكم ببطلانه إلا بدليل، خاصة وأن بعض العلماء -رحمة الله عليهم- أشاروا إليه، وقالوا: إنه تحل عن الميت الأربطة، ويكون حل الأربطة في القبر لمكان الإقعاد، وفي الصحيح (يأتيان ملكان فيقعدانه) قالوا: فتحل الأربطة ويكشف عن الوجه؛ وذلك لمكان السؤال والحساب والله تعالى أعلم.

[حكم صلاة الجنازة على المحدود في حد من حدود الله عز وجل]

q ما حكم صلاة الميت على المقتول حدا، أو كان مقتولا بحد الحرابة أثابكم الله؟

a الميت المسلم إذا قتل بحد، كأن يكون زانيا محصنا، ثم رجم حتى مات، أو قتل عمدا وعدوانا، ثم اقتص منه فقتل، أو قتل حرابة؛ فإنه يشرع تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ويصلى عليه ويدعى له ويستغفر له ويترحم عليه؛ لأنه من المسلمين، وهو أحق بالاستغفار والترحم؛ لمكان حاجته إلى توبة الله عز وجل عليه، وإن كان قيام الحدود بالمذنبين كفارة لهم في الدنيا، وكفارة لهم في الآخرة، ولكن كونه على جرم أو كونه على فسق؛ أدعى أن يستغفر له الإنسان وأن يترحم عليه، وهكذا إذا كان مبتلى بالمسكرات والمخدرات يشرع أن يصلى عليه، وأن يعزى أهله، وليس هناك دليل يخرجه من الإسلام حتى يحكم بمعاملته معاملة الكافر.
فبعض من الناس -أصلحهم الله- يغلو، فتجده لا يعزي أهل الميت إذا مات في شرب خمر، أو مات في معصية من كبائر الذنوب، وهذا خطأ! فإن المسلم العاصي إذا لم تبلغ معصيته به إلى الكفر يشرع معاملته معاملة المسلم المطيع.ولكن الذي ذكره العلماء رحمة الله عليهم: أنه لا يصلي الإمام العام ومن له تقدم كأهل الفضل، على أهل المعصية؛ زجرا للناس أن يفعلوا فعلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز.
والصحيح: أنه يشرع أن يصلى عليه، وخاصة إذا اعترف بذنبه وأقر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر: (أتصلي عليها وقد فعلت ما فعلت -المرأة التي زنت-؟! قال: والذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وأثنى عليها عليه الصلاة والسلام، لأنها تابت وأقرت.
قالوا: كما أنها تابت وأقرت، كذلك من أقيم عليه الحد، فإنه في حكم ذلك، وهذا هو الصحيح، فإذا أقر بذنبه وأقيم عليه الحد شرع أن يصلي عليه حتى الإمام الراتب؛ لأنه تاب وخرج من ذنبه، فبقي على الأصل العام، بل إنه إذا صلى عليه الإمام الراتب، دعا أن يسلكوا مسلكه ليتوبوا إلى الله وينيبوا من ذنوبهم.
أما لو أقيم عليه الحد بدون إقرار منه، فبعض العلماء يقول: إنه لا يصلي عليه الإمام الراتب، زجرا للناس، فإن كان هذا المعنى -وهو الزجر- يتحقق، قد يشرع له على هذا القول، أما إذا كان لا يتحقق فإنه لا مانع أن الإمام يصلي عليه؛ لأنه يفوت على نفسه فضيلة القراءة في الصلاة عليه والاستغفار له والترحم عليه.ولذلك يشرع أن يصلى على أموات المسلمين عموما، وأن يقام بحقوقهم، وأن يدعى لهم، ويستغفر لهم، وكونهم أذنبوا فيما بينهم وبين الله لا يمنع أن نقوم بحقهم من الدعاء والاستغفار لهم؛ ولذلك قالوا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال:
إنه كان يغبط الحجاج على أمرين -وكان الحجاج كثير المعصية لله عز وجل بما كان منه عمل- فكان عمر بن عبد العزيز يغبطه على أمرين: الأمر الأول: أنه كان يعتني بكتاب الله عز وجل، وكانت عنايته بالكتاب عجيبة.وأما الأمر الثاني الذي غبطه عليه: أنه قال قبل أن يموت: اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي.أي: إن مغفرتك وحلمك وعفوك أوسع من هؤلاء، وإني أسألك -مع أنهم يقولون إنك لا تغفر لي- أن تغفر لي، فإن يقيني بك أنك ستغفر لي.
فغبطه على هذه الكلمة، حتى إن الحسن البصري رجا له الخير حينما سمع عنه أنه قال هذه الكلمة.فالعصاة والمذنبون ربما يكون بينهم وبين الله عز وجل توبة، وقد يكون بينهم وبين الله عز وجل عمل، فيغفر الله لهم ما كان منهم.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المخطئين والمذنبين من الأئمة: (فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم -أي: عملكم الصالح- وعليهم -أي: خطؤهم عليهم-) فهذا مذنب وذنبه عليه، ولكن كونك أنت مسلم تحس بما بينك وبينه من حقوق، فلا يمنع أن تترحم عليه، وتستغفر له وتدعو له بالخير، ولعل الله عز وجل أن يرحمه بشفاعتك، فيكون هذا من الخير لك في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، فيستغفر لهم ويترحم لهم، ويذكرون بما كان منهم من صالح الأعمال، ويكف عن سيئاتهم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.


ابوالوليد المسلم 26-02-2022 02:27 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (158)

صـــــ(1) إلى صــ(29)


شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الجنائز [2]
هناك أمور ومستحبات ينبغي فعلها عند من حضره الموت، منها ما يفعل عند معالجته للسكرات، ومنها ما يفعل بعد قبض روحه، كغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ويسن الإسراع في تجهيزه، وإنفاذ وصيته، وقضاء دينه.
[من أحكام المحتضر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [ويقرأ عنده: يس].
لا زال المصنف رحمه الله يبين جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالمحتضر؛ وذلك أن الفقهاء -رحمهم الله- من عادتهم أن يبينوا بعض السنن والآداب والأحكام المتعلقة بالمرضى والمحتضرين في باب الجنائز، وقد سبق بيان جملة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في الشخص المحتضر، وما ينبغي عليه من التهيؤ في قدومه على الله عز وجل، والمحافظة على حقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق عباده من الوصايا ونحو ذلك من الأمور التي سبق التنبيه عليها.
[قراءة يس عند المحتضر]
وهنا قال رحمه الله:
(وتقرأ عنده (يس)).وقد ورد بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنه غير واحد من أهل العلم، وذكر بعض أهل العلم -رحمهم الله- أن السبب في ذلك: أنها تسهل خروج الروح من جهة كون الإنسان يسمع فيها ذكر الجنة، وما أعد الله عز وجل لعباده المحسنين من حسن الثواب والعاقبة، فيحب لقاء الله عز وجل، وكلما كان الإنسان في مثل هذا المقام يحسن الظن بالله عز وجل واليقين فيه سبحانه وتعالى، كان ذلك أرجى لرحمة الله له
، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).
فلهذا قالوا:
لقد ورد الخبر بقراءة هذه السورة لاشتمالها على ذكر الجنة، وما فيها من إحسان الله عز وجل لعباده المؤمنين.وأما بالنسبة لما قاسه بعض العلماء على هذه السورة،
فقال بعض أهل العلم: يقرأ (الفاتحة) لفضلها، ويقرأ سورة (تبارك) لأنها المنجية.
والصحيح: أن تخصيص (الفاتحة) وتخصيص سورة (تبارك) لا أصل له في هذا الموضع؛ ولذلك لا يقاس على (يس) غيرها من السور، بل ينبغي أن يعبد العبد ربه بما شرعه له، فإن ثبت الخبر بـ (يس) اقتصر عليها.وسورة الفاتحة لا شك أنها من أفضل القرآن وأعظمه وأجله، ولكن لا يخص هذا الوقت وهذا الزمان بفعل ولا بقراءة إلا بدليل شرعي، وعلى هذا يقتصر على قراءة (يس).
وأما قول بعض العلماء: إنه يقرأ سورة (تبارك)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بكونها منجية،
فالخبر ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءتها عند النوم: (أعرف في القرآن سورة ثلاثون آية، ما زالت بصاحبها حتى أنجته من عذاب القبر) ثم ذكرها وهي {تبارك الذي بيده الملك} [الملك:1] فهذا يدل على تخصيصها في هذا الموضع، فيقرؤها في هذا الموضع، وأما ما عدا ذلك فإنه يقتصر على الوارد، وهذا هو الأصل والسنة وينبغي المحافظة عليه.
[توجيه المحتضر إلى القبلة]
قال رحمه الله: [ويوجهه إلى القبلة].هذه الأمور -قراءة سورة (يس) والتوجيه- تتعلق بالشخص الذي عند المحتضر، ومن عادة العلماء أن يبينوا الأمور التي يقوم بها الإنسان في حق نفسه، وكذلك الأمور التي ينبغي على الغير أن يقوم بها في حق ذلك المحتضر،
فذكروا بالنسبة للشخص الذي عند المحتضر فعليه أمران:
أحدهما: قولي، وهو قراءة السورة.
والثاني:
فعلي، وهو توجيه المحتضر إلى القبلة.
وللسلف رحمهم الله في توجه المحتضر قولان:
قال جمهور العلماء بمشروعيته، وأنه يستحب أن يوجه عند الاحتضار.
وقال بعضهم: بأنه لا يوجه، وهو المأثور عن سعيد بن المسيب رحمه الله، وأنكره على ابن أخيه.والصحيح: أنه يشرع؛ وكونهم فعلوه بـ سعيد بن المسيب رحمه الله دل على أنه كان معروفا في زمانه،
وقد قال عليه الصلاة والسلام في القبلة:
(قبلتكم أحياء وأمواتا) وأفضل ما يوجه إليه هو القبلة،
ومن هنا:
لا حرج في تقبيل الميت وتوجيهه إلى القبلة، وهذا التوجيه يكون على صورتين: الصورة الأولى: أن يرفع صدره قليلا، وتكون رجلاه إلى جهة القبلة، فيكون مستقبلا للقبلة بصدره وبوجهه.
والصورة الثانية:
أن يكون مستقبلا للقبلة كحال من ألحد في القبر، بأن يضجع على شقه الأيمن على جهة القبلة.
والأرفق به الصورة الأولى:
وهي أن يرفع صدره قليلا، ثم يكون وجهه إلى جهة القبلة، على خلاف ما يفعله بعض العوام من وضع رأسه جهة القبلة، فإن هذا على عكس القبلة، وإنما التقبيل أن توضع قدماه أو رجلاه جهة القبلة، ويرفع صدره قليلا،
والدليل على ذلك:
أن الإنسان إذا صلى وهو مضطجع، يصلي على هذه الحالة، ولذلك يكون التقبيل بهذا الوجه.
[من أحكام الميت بعد قبض روحه]
قال المصنف رحمه الله:
[فإذا مات سن تغميضه].
[تغميض عيني الميت]ذكرنا أنه إذا كان الإنسان في حالة الاحتضار والنزع يلقن "لا إله إلا الله"؛ لما فيها من الفضل، ولأن الإنسان إذا كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة،
ومن هنا قالوا:
يلقن هذه الكلمة، فإذا فعل من عند المحتضر ما ذكرناه من الأقوال والأفعال ومات الإنسان، فالسنة أن يبدأ أول ما يبدأ بإغماض عينيه، فتغميض عيني الميت من الآداب والسنن التي تفعل بالميت إذا مات.بعد أن بين لنا رحمه الله الأمور التي تفعل قبل الاحتضار في حال المرض، والأمور التي تفعل أثناء الاحتضار شرع رحمه الله في بيان الأمور التي تفعل بعد خروج الروح، فإذا قضى الإنسان، وخرجت روحه، فهناك حقوق وواجبات وآداب وسنن ينبغي على من حضر الميت أن يفعلها،
وهي من حق الميت على الحي:
أولها: تغميض عينيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غمض عيني أبي سلمة،
وكذلك جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإغماض العينين، وقال: إن الروح إذا قبضت تبعها البصر) فلذلك يشخص بصر الميت عادة إلى السماء،
فالسنة: أن يبدأ أول ما يبدأ بتغميض عينيه، فيطبق الجفنين على بعضهما.
[لزوم الصبر على المصيبة]
وبعد تغميضه للعينين يشرع أن يقول الوارد من الاسترجاع، وذكر الله عز وجل، وأن يبتعد عن التسخط والجزع، وأن يرضى بما أنزل الله به من بلاء، فإن الله تعالى يمتحن عباده بمثل هذا، فمن رضي في مثل هذه المواقف أرضاه الله عز وجل، وهي المواقف التي يسميها العلماء بمواقف الزلزلة؛ لأنه يزلزل فيها المؤمن، ويمتحن ويختبر ويبتلى.فإذا أراد الله أن يلطف به ثبت قلبه، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) أي: ما نحن إلا ملك لله سبحانه وتعالى، ومآلنا ومصيرنا إليه جل وعلا، (إنا لله) أي: ملك له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يرد له قضاء سبحانه وتعالى، فإذا قال هذه الكلمة (إنا لله وإنا إليه راجعون) صلى الله عليه ورحمه وغفر له، ولربما أن الله عز وجل أعظم منه هذه الكلمة فبوأه بها درجة أو منزلة في الجنة؛ وذلك لعظم هذا الموقف؛ ولما فيه من ابتلاء الله سبحانه وتعالى لعباده، خاصة إذا كان الميت عزيزا عليه كوالديه أو ولده.وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى إذا ابتلى عبده فحمده واسترجع، فإن الله سبحانه وتعالى يعظم له الثواب، ويخلف له خيرا مما فقد،
كما في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منها! إلا آجره الله في مصيبته، وأخلفه خيرا منها).
فأول ما ينبغي عليه:
الصبر، والصبر أمر يرجع إلى القلب، فهو عمل قلبي، وأعمال القلوب قد تفوق أعمال الجوارح الأخرى، وهي من أحبها إلى الله سبحانه وتعالى وأقربها إليه؛ لأنها تتصل بالعقيدة، فإذا رضي وصبر فهذه أول منزلة، وأول نعمة، ورحمة يرحم الله بها المبتلين بمثل هذه المصائب.فيظهر أثر الصبر على لسانه، فيذكر الله عز وجل؛ لأن المؤمن إذا نزلت به المصيبة لا يتوجه إلا إلى الله، وهذا من كمال إيمانه، ولكن الكافر وضعيف الإيمان يتسخط ويجزع ولا يدري أين يذهب، فمن رحمة الله عز وجل بالمؤمن أن الله يثبته في مثل هذه المواقف،
فيقول:
إنا لله وإنا إليه راجعون، ويقول الوارد في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[الرضا بما قدر الله عز وجل]
ثم بعد ذلك يصحب هذا الصبر الرضا، فإنه قد يعطى الإنسان الصبر ولا يعطى الرضا؛ أي أن الإنسان قد يصبر على كره ويبقى في نفسه متسخطا جزعا.وينبغي أن يصحب صبره بالرضا؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الترمذي وغيره: (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضاء.ومن سخط فعليه السخط) فالناس إما راض وإما متسخط.فالأمر الثاني الذي يصحب الصبر عمل قلبي وهو رضاه بما أنزل الله به من مصيبة، فلا يجزع ولا يتسخط.قال العلماء: ومن الرضا عند المصيبة إحسان الظن بالله عز وجل، فالإنسان إذا فقد أباه سلط عليه الشيطان ابتلاء واختبارا،
فيقول له: قد فقد من يعولك! وقد فقد من يقوم عليك! وقد فقد كذا وكذا فإذا أراد الله أن يجعل له الرضا على أتم وجه أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فقال: ما هذا الأب إلا رحمة من الله عز وجل، وكما أن الله رحمني بأبي فسيرحمني بغيره، ولن يكلني إلى أحد سواه، فيصبح فقري إلى الله وغنائي به، وكفى بتلك نعمة.
فإذا لا بد من هذين الأمرين: أن يصبر ويرضى، ويظهر الأثر بذكر ما ينبغي من الاسترجاع، وذكر الله عز وجل،
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر الثالث فقال:
(إن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) وذلك لما قبض أبو سلمة رضي الله عنه وصاح من في الدار، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرهم أن يقولوا خيرا، وبين أن الملائكة تشهد المؤمن، وأنها تؤمن على ما يقال.فإذا رزق الله العبد الصبر والرضا عند المصائب التي لا تختص بالموت من مصائب الدنيا وفجائعها،
فقال:
اللهم ثبتني! اللهم ارحمني! اللهم وفقني! فدعا الله أمنت الملائكة على دعائه، وكان ذلك أدعى للإجابة، فإذا قال قال خيرا،
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قبض أبو سلمة قال الدعاء المأثور: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين! وافسح له في قبره، ونور له فيه) وهذا هو الذي يفيد؛ وهو الكلمات الطيبة، والدعاء المأثور، وذكر الله سبحانه وتعالى الذي يعود بالخير على المتبلى، ويعود بالخير حتى على الميت وأهله.فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدعوة الخير من جميع وجوهه،
فهو يقول: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة) فهذا خير للميت، (وارفع درجته في المهديين) فجعل ما يقدم عليه أبو سلمة في الآخرة رفعة درجة، وهذا من أفضل ما يكون وما يرجوه الإنسان من ربه، وبقيت حاجة أبي سلمة التي يحزن عليها من فراق أهله، فقال: (واخلفه في عقبه في الغابرين) بمعنى أن يتولى الله ذرية الإنسان وما خلف وراءه،
ثم قال:
(واغفر لنا وله يا رب العالمين): لأن الإنسان إذا دعا لأخيه وأشرك نفسه معه في دعائه؛ فإنه يؤمن الملك على دعائه، فقوله: (واغفر لنا وله يا رب العالمين) أي: ليس أبو سلمة وحده الذي يحتاج إلى الدعاء، بل نحن أيضا نحتاج إلى المغفرة والرحمة، فكما يدعو الإنسان لغيره يدعو لنفسه، فيعطي الحق لنفسه ولغيره.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وافسح له في قبره، ونور له فيه) فهذا هو الدعاء المأثور عند نزع الروح، فإذا نزعت روح الإنسان، أو بلغت خبر إنسان كريم أو إنسان من عباد الله المؤمنين توفي أو قضي أو حضرت موته قلت هذا الدعاء،
وإذا كنت لا تعرف اسمه تقول: (اللهم اغفر له، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين) فتنال عدة أمور كما ذكر العلماء: أولا: تصيب فضل الدعاء.
ثانيا:
تصيب أجر الإحسان إلى أخيك بهذه الدعوة.
وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى يأجرك على الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛
ولذلك قالوا:
هذه الدعوة من أفضل الأدعية التي تقال عند قضاء الروح وبعد نزعها؛ لما فيها من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.كذلك يشرع له إذا كان في الدار أناس ضعاف أو متأثرون أن يذكرهم ويعظهم ويثبتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت آل أبي سلمة، فإذا كان من طلاب العلم، أو كان من الصالحين الأخيار ذكرهم بما عند الله من المثوبة، وأن البكاء والجزع والسخط لا يرد غائبا؛ ولذلك إذا قال هذه الكلمات أحسن إلى أهل الميت، وكان فيها خير له ولهم من جهة التواصي بالحق والأمر بطاعة الله عز وجل.
[شد اللحيين]
قال رحمه الله: [وشد لحييه].
إذا قبضت الروح قد يبقى فم الإنسان مفتوحا، وحينئذ لا يؤمن من دخول الهوام، خاصة إذا احتاج إلى وقت لكي ينقل ويغسل، فينبه العلماء على أمور هي من باب المحافظة على حرمة المؤمن، فشد اللحيين وإن لم يرد به نص معين لكنه داخل في الأصول العامة، والعلماء ذكروه ونبهوا عليه؛ لأن الميت إذا بقي فمه مفتوحا فإنه يبقى حتى في قبره، وحينئذ تدخله الهوام ويؤذى،
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(كسر عظم الميت ككسره حيا) أي: في الإثم، فجعل حرمته ميتا كحرمته حيا؛
ولهذا قالوا:
يرفق به.وشد اللحيين يكون بإطباق الفم، ثم بعد ذلك يجعل عصابة تجمع اللحيين؛ لأنه بعد مضي فترة يصعب رد الفم إلى طبيعته، وقفله، ولذا يبادر بذلك بعد الوفاة مباشرة؛ لأن المفاصل لينة، وتستجيب أعضاء الميت لما يفعل به من قفل الفم.
[تليين مفاصله]
قال رحمه الله: [وتليين مفاصله].لأنه يحتاج لذلك عند تغسيل الميت وتكفينه، وحينئذ إذا مات فإنه تلين مفاصله، حتى يسهل عند التغسيل أن يدير الماء على جميع أعضائه، والمفاصل إذا لينت بعد الوفاة مباشرة لانت عند الغسل، ولكن إذا بقيت على حالتها يابسة لم تلن عند الغسل؛
ولذلك قالوا:
يلين مفاصل الميت، فيبدأ -مثلا- باليدين يجمعها من ساعده إلى عضده، ثم يردها حتى تلين، ثم بعد ذلك يضمها إلى صدره، وبعد أن ينتهي من مفاصله العليا يأخذ رجله فيلين مفاصل الرجلين، فيضم الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى الجنب، ثم يكرر ذلك مرتين أو ثلاثا على حسب ما تقتضيه الحاجة، فإذا لانت مفاصله سهل غسله، وسهل تفقد المغابن والمواضع الخفية أثناء الغسل، وهذا يحقق -كما ذكرنا- مقصود الشرع من القيام بغسله على وجهه.ولأنه لو ترك دون تليين فقد يكون منقبضا أو منحنيا، فحينئذ يصعب تكفينه ووضعه على وضعه الطبيعي ممدودا، لذلك لا بد من التليين حتى يبقى مستوي الأعضاء، ويمكن بعد ذلك حل ثيابه وتكفينه، والصلاة عليه، وإنزاله في قبره ووضعه بالصفة الشرعية التي ينبغي وضعه عليها في اللحد.

يتبع

ابوالوليد المسلم 26-02-2022 02:29 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (159)

صـــــ(1) إلى صــ(29)

[خلع ثيابه وستره]
قال المصنف: [وخلع ثيابه وستره بثوب].وبعد أن يغمض عينيه، ويشد لحييه، ويلين مفاصله يقوم بستره بثوب، ثم ينزع عنه الثياب؛ لأن الثياب إذا بقيت سخن الجسم، وحينئذ ينتن ويتفسخ، ولذلك تخفف الثياب التي عليه، فإذا أمكن نزع الثياب عنه نزعت ولا شيء في ذلك.ثم يسجى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي سجي ببرد حبرة، وهذه سنة، وفي هذا إكرام للميت،
فإن بقاءه مكشوفا أمام الناس منظر غير حسن، وربما يكون أكمل وأستر وأولى له أن يغطى ويسجى، فإذا احتيج لكشف وجهه لتقبيل ونحو ذلك فلا حرج، فهذا أكمل في هيبته ورعاية حرمته.وقد فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخذ العلماء من هذا دليلا على سنية التسجية، وأنه لا يبقى مكشوفا أمام الناس، ويوضع في مكان أرفق بجسمه وأبعد أن ينتن هذا الجسد ويتضرر بذلك النتن.
[وضع حديدة على بطنه]
قال رحمه الله:
[ووضع حديدة على بطنه].لأن عادة الموتى أنه إذا ترك أحدهم ربما انتفخ، وهذا الانتفاخ يعيق في الغسل، وكذلك ربما يكون أسرع في نتنه، وتضرر من يحمله ويصلي عليه بوجود رائحة كريهة خاصة إذا انتفخ فماذا يفعل؟ يوضع شيء على بطنه، والمحفوظ عن أنس رضي الله عنه في الأثر أنه كان يأمر بوضع الحديدة، ومن هنا نجد بعض الفقهاء ينصون على أنه توضع الحديدة كمرآة ونحوها على بطنه، ولكن ذلك ليس بمقيد بالحديث، فلو وضع أي شيء يكون ثقيلا نوعا ما على بطنه فلا بأس.
وضعه على سرير الغسل متوجها منحدرا نحو رجليهقال رحمه الله: [ووضعه على سرير غسله متوجها منحدرا نحو رجليه].فيوضع على سرير؛ وذلك أنه إذا وضع على الأرض أسرعت إليه الهوام، وخاصة في الزمن القديم، فإن الضرر أكثر، وإن كان في عصرنا -والحمد لله- قد يكون آمنا، ولكن لا يزال الجسم إذا وضع على حالة معينة يتضرر،
ولذلك قال تعالى عن أهل الكهف:
{ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} [الكهف:18] هذا التقليب لأنهم لو بقوا على حالة واحدة لتآكل الجنب، ولكن الله سبحانه وتعالى قلبهم حتى لا يحدث التآكل في الجنب، وإن كان سبحانه وتعالى قادرا على أن يجعلهم على حالة واحدة لا تآكل معها، ولكن هذا من باب الإشارة إلى الأسباب؛
ولذلك قالوا:
يوضع على سرير، فلا يلي الأرض؛ لأنه ربما يحمي الجسد، ثم إذا سخن الجسد وليس ثم روح فيه تسارعت الأعضاء والأطراف والجلد إلى التلف؛ لأن الجسد يبقى بروحه، فإذا نزعت منه الروح ضعف عن مقاومة الأذية، والهوام ونحوها من الجراثيم التي تصيب الإنسان.وكل هذا ليس بواجب وإنما هو من باب الكمالات، ولا يشترط التعيين في مثل هذه الأمور، إنما المراد الرفق، فلو كان على الأرض حديد -مثلا- يوضع عليه ويؤمن منها الضرر فلا حرج،
ولو كانت الأرض طبيعية، فإذا وضع عليها أسرع إليه الهوام رفعناه عنها على بساط أو على مركبة أو نحو ذلك ولا حرج، فلا يشترط السرير بعينه، وإن كان صلى الله عليه وسلم سجي عليه، لكن كل ذلك من باب الأسباب، فليس بأمر إلزامي ولا واجب، خاصة إذا كان غسله قريبا فالأمر فيه واسع والحمد لله.ثم يرفعه فيجعل صدره مرتفعا قليلا إذا وضع على السرير ليسهل خروج ما في بطنه، ولذلك يجعله على هذه الحالة حتى يكون أدعى لخروج الفضلات الباقية، فيسهل غسله بعد ذلك ونقاؤه، فلا يتعب من يقوم بتغسيل الميت.
[الإسراع بتجهيزه]
قال رحمه الله: [وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة].بعد هذه الأمور -إذا هيأ الإنسان الميت، وقام بحقه بعد قبض روحه بالأمور التي ذكرناها- ينبغي عليه أن يسرع بتجهيزه، وذلك بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه؛
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أسرعوا بالجنازة)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالإسراع، ونص أهل العلم رحمة الله عليهم على وجوب ذلك، بمعنى: أن الأصل أن الإنسان يجب عليه أن يبادر بالميت، والسبب في هذا أن بقاء الميت مظنة أن يتغير وأن يتضرر جسمه، وأن يتضرر جسده؛
ولذلك قالوا:
ينبغي أن يبادر ويحسم إليه في التغسيل والتكفين والقيام بحقه.
ومن هنا:
لا يجوز حبسه وتأخيره إلا لضرورة وحاجة، فإن وجدت الضرورة والحاجة -كما في الحالات الاستثنائية- كأن يكون به أمر يحتاج إلى كشفه كما في الجرائم ونحوها، أو يحتاج إلى أن يؤخر حتى تعرف ملابسات الجريمة والاعتداء عليه، فلا حرج أن يؤخر، ويكون تأخيره بقدر الحاجة والضرورة.كذلك أيضا لو خشي أنه لو دفن يتضرر من أقربائه، فيؤخر من أجل دفع المفسدة ولا حرج، أما أن يؤخر من أجل أن يحضر الأقرباء بدون وجود ضرورة ولا حاجة فلا؛ لأن حق الميت مقدم على حقهم، وحينئذ ينبغي أن يبادر بدفنه، ولأن حضورهم لا يزيد في الأمر ولا ينقص منه شيئا، فقد نفذ القضاء ومضى قدر الله عز وجل، ولا يستطيعون أن يردوا من قدر الله عز وجل ما كان.
وعلى هذا:
لا مصلحة في تأخير الميت، وفيه حديث -وقد تكلم في سنده- (لا يحل لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله) وهذا يعتبره العلماء ويقولون: متنه صحيح، والأصل أن أهل الميت ممنوعون من تأخير جنازة الإنسان بدون حق وضرورة، والتوسع في مثل هذه الأمور لا يخلو الإنسان فيه من تبعة ومسئولية أمام الله عز وجل.فتأخير الموتى بدون حاجة يبقي لأهلهم الإثم والمسئولية أمام الله عز وجل؛ لما فيه من الإضرار بالميت، وعلى هذا لا يؤخر، بل ينبغي أن يسرع في تجهيزه؛ فتبحث عن من يقوم بتغسيله، فتسرع بإحضار المغسل، وتحضر ما يحتاج إليه لكفنه،
وكذلك أيضا:
تسرع بالقيام ببعض الأمور التي تتصل به من حقوقه قبل دفنه؛ من إخبار خاصة قرابته وإعلامهم حتى يشهدوه ويدعوا له بالمغفرة، وحينئذ إذا قام الإنسان بهذا على الوجه المطلوب فقد أحسن إلى الميت وأحسن إلى قرابته، وذلك مطلوب ومرغوب.
وأما قوله: [غير فجأة]: فالذي يموت فجأة لا يؤمن أن يكون حيا، كما في حالة السكتات، فيموت في الظاهر ولكنه في الحقيقة لا يزال به حياة، فالاستعجال بتغسيله وتكفينه ودفنه ربما أفضى إلى قتله وهو حي، وعلى هذا إذا مات فجأة -بمعنى: أصابته سكتة، والعياذ بالله، أو جاءه شيء طارئ من فجعة ونحوها ظن معها موته- فلا يبادر بتغسيله وتكفينه، بل ينتظر، والمرد في هذا إلى أهل الخبرة كالأطباء ونحوهم، خاصة في هذه الأزمنة التي تيسر فيها معرفة الموت بالعلامات الدقيقة.
فلا يبادر أهل الميت بدفن الميت إذا كان موته فجأة، وقد وقع حتى في زمن السلف رحمة الله عليهم قصص عجيبة في المبادرة بدفن من مات فجأة، حتى إن بعض من يقوم بنبش القبور وحفرها ربما يجد الميت جالسا في بعض الأحيان، وذلك إذا أصابته سكتة، ثم دفن، ثم بعد أن يفيق يجلس في مكانه ولا يجد أحدا فيموت جالسا في نفس القبر، وهذا أمر جد خطير! خاصة إذا حصل فيه التساهل والتسيب فإنه لا يؤمن معه من التبعة والمسئولية.
[حكم الحياة على التنفس بالأجهزة بعد موت الدماغ]وهنا مسألة، وهي: مسألة موت الدماغ،
فإنها حيرت الأطباء: هل إذا مات دماغ الإنسان يعتبر ميتا أو ليس بميت؟ وهي التي يسمونها (الموت السريري) وقد عمت بها البلوى خاصة في هذا الزمان، وصورة المسألة أن جذع الدماغ يموت، ويقرر الأطباء أن جذع الدماغ قد مات، فلا يتحرك الإنسان ولا يستجيب لأي حركة، حتى ولو غرز بالإبرة أو أوذي فإنه لا يتضرر ولا يحدث أي استجابة في جسمه،
غاية ما في الأمر:
أن قلبه ينبض، وأن نفسه ظاهر، يتنفس تنفس الحي بواسطة الأجهزة، حتى لو أن هذه الأجهزة سحبت عنه يموت من ساعته.فq هل هذه النوعية من المرضى تعتبر ميتة، وينبني عليها ما ينبني على الحكم بموت الإنسان، من شرعية سحب الأجهزة والحكم بكونه ميتا حتى يورث، ونحو ذلك من التبعات الفقهية المترتبة على الحكم بموت الإنسان، أم أنه ليس بميت؟
في الحقيقة هذه المسألة أولا: تحتاج إلى بحث من جهة إثبات موت الدماغ، فالأطباء أنفسهم لم يتفقوا على صيغة معينة وشروط معينة تبين أو تحدد بالدقة الموت الحقيقي للدماغ، وهناك قرابة ثلاث مدارس للأطباء في حقيقة إثبات موت الدماغ، والمشكلة ليست هنا، المشكلة أن معرفة موت الدماغ، والتأكد أنه قد مات لا يمكن التوصل إليه في أقوى المدارس الطبية إلا بواسطة أجهزة دقيقة لا تتيسر في غالب الأمكنة.
ولذلك:
فالاستعجال بالحكم، بكون هذا موتا يحتاج إلى نظر، والأصل الشرعي يقتضي أن من به حركة يحكم بحياته؛ لأن الحركة دالة على الروح، والجسم كانت فيه الروح التي هي الحقيقة، وأثرها التي هي الحركة.
وعلى هذا فإننا نقول:
(الأصل بقاء ما كان على مكان)، ولم أجد دليلا شرعيا صحيحا يدل على أن موت الدماغ يدل على موت الإنسان، بل وقعت حوادث تخالف هذا، حتى إن من الأمور التي حدثت بسبب هذه المسألة أنهم اختلفوا في امرأة، هل هي ميتة أو ليست ميتة في منطقة من مناطق الخارج، فحكم الأطباء بموتها، وأصر آخرون على أن موت الدماغ لا يجيز لهم سحب الأجهزة، واختلفت الكنائس في الخارج في الحكم بموت هذه الفتاة، حتى بقيت عشر سنوات تحت الأجهزة ثم أفاقت بعد عشر سنوات! وهذا أمر يؤكد أن الاستعجال في مثل هذه القضايا يحتاج إلى نظر؛ ولذلك فالأصل أنه حي، والأصل أنه لا يجوز الإقدام على سحب الجهاز عنه إلا بمبرر شرعي، فيبقى على هذه الحالة،
فالذي تطمئن إليه النفس أنه حي.وهناك مسألة فقهية قديمة يمكن أن نخرج عليها هذه المسألة، وهذه المسألة تعرف عند العلماء بالقاعدة التي نبه عليها الإمام النقري في القواعد، وكذلك غيره كـ الزركشي في المنثور،
وهي القاعدة التي تقول: (الحياة المستعارة، هل هي كالعدم أو لا؟).تكلم العلماء على هذه المسألة، في مسألة ما إذا ما هجم الذئب على شاة أو غنمة فبقر بطنها، فإنه إذا بقر بطنها الغالب أنها ميتة، فلو أنك أدركتها قبل أن تموت وهي تتحرك -ترفس بقدميها- وأسباب موتها قد وجدت، فذكيتها في هذه الحالة،
فإن قلنا:
الحياة المستعارة -يعني: التي هي في الأخير- حقيقية فذكاتك مؤثرة والشاة يجوز أكلها، وإن قلنا: إنها حياة كالعدم؛ حينئذ ذكاتك في هذا الوضع لا تأثير لها.
فإذا: كأنهم يفصلون على مسألة الحركة، فالذين يقولون: إنها حية،
والذكاة مؤثرة يقولون:
لا زالت الروح حية، فوقعت التذكية على حي، وكل تذكية لحي موجبة لحله إذا كان مما يحل أكله.وبناء على ذلك عندنا أصل من العلماء يعتبر الحياة المستعارة، وإن كان بعض أهل العلم خرج هذه المسألة على مسألة إنفاذ المقاصد، كأنهم يقولون: إن الذئب إذا قتل الشاة بالبقر، فقد أنفذت مقاتلها، بمعنى: أنها استنفذت بالهلاك بهذه الوسيلة، فيخرجها عن المسألة التي معنا، لكنها تصلح للاستشهاد.
والذي يعنينا:
أن الميت الذي مات دماغه لا يزال محكوما بحياته، خاصة وأننا لو فتحنا هذا الباب تحت الأجهزة، وعلى هذا لا يتيسر معرفة موت الدماغ إلا بصعوبة وفي أماكن خاصة، وربما يفتح هذا الباب الإقدام -حتى عند بعض المتساهلين من الأطباء -على سحب الأجهزة- ممن لا يصل إلى درجة القطع بموت دماغه، وهذا أمر ينبغي أن يحتاط فيه لأرواح الناس كما هو الأصل الشرعي.
لكن هناك مسألة: لو فرضنا أن رجلا كبير السن في آخر عمره وضع الجهاز عليه، أو رجل شاب في شبابه لكنه أصيب بحادث أو نحو ذلك، والغالب أنه يهلك، وقد مات دماغه في كلام الأطباء، وجاءت حالة ثانية لإنسان ترجى حياته أكثر، وليس عندنا إلا جهاز واحد، فهل يشرع سحب الجهاز عن هذا الذي قد غلب على الظن هلاكه لكي نبقي هذه الروح أو لا يشرع؟a نعم، يشرع أن يسحب منه في هذه الحالة،
فهذه هي الحالة التي تعتبر مستثناة في سحب الأجهزة:
أنه إذا وجدت حالات أحوج يجوز حينئذ سحبها،
وهذا مقرر على الأصل الشرعي في ازدحام الحقوق:
أنه إذا ازدحم حق يمكن تداركه مع حق لا يمكن تداركه أو مع مصلحة لا يمكن تداركها، قدمت المصلحة والحق الذي يمكن تداركه.هذا بالنسبة لمسألة من مات فجأة، وموت الفجأة بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه رحمة من الله بالمؤمن، ونقمة عاجلة من الله بالكافر، وموت الفجأة استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ لأن موت الفجأة يحول بين الإنسان وبين خير كثير، يحول بينه وبين الوصية في أمور ربما تكون من فضائل الأعمال،
يحول بينه وبين تنبيه أهله وذويه على أمور قد يكونون محتاجين إليها، خاصة أن الأب إذا أوصى في آخر حياته كان لوصيته في قلوب أبنائه وبناته وقعا كبيرا، فلذلك كان موت الفجأة يحول بين الإنسان وبين خير كثير، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه.لكنه أخبر في الحديث الآخر أن موت الفجأة رحمة بالمؤمن؛ لأن الإنسان إذا مات ربما تألم وتأوه في مرضه وإن كان تأوهه وتألمه يرفعه درجة،
حتى ورد في الحديث أن الله يشدد على العبد: (إذا أحب الله عبدا من عباده غفر له ذنوبه، فإذا بقيت له ذنوب خفف عنه بالبلاء قبل الموت) فشدد عليه في سكرات الموت، وشدد عليه في مرض الموت، حتى يوافي الله عز وجل بلا ذنب ولا خطيئة.فموت الفجأة رحمة من جهة كونه يحول بين الإنسان وبين الألم والضرر الذي في ظاهره عناء وعذاب به،
وأيا كان:
إذا مات الإنسان يجب مراعاة هذه الأمور؛ لكن لو قرر الأطباء أنه ميت فعلا فحينئذ يحكم عليه بالموت.
[إنفاذ الوصية]قال المصنف رحمه الله: [وإنفاذ وصيته].
أنفذ الشيء:
إذا أتمه وقام به، وإنفاذ الأمر: المضي به، فقد يوصي الإنسان بحقوق عليه لله عز وجل وحقوق لعباده، فيعمل بهذه الوصية، وهناك وصايا معجلة لا تحتمل التأخير،
كأن يقول مثلا: إذا أنا مت فيتولى تغسيلي فلان من أهل العلم أو من أهل الصلاح والخير، فيأمر بأن يغسله، وهذا شيء درج عليه السلف رحمة الله عليهم، وقد أوصى أبو بكر أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وكذلك أوصى أنس بن مالك رضي الله عنه أن يغسله محمد بن سيرين الإمام الجليل من أئمة التابعين، فتكون هذه وصية فتنفذ.
وتقرأ وصيته قبل أن يغسل؛ لأنه ربما تكون هناك أمور ينبه عليها في تجهيزه، كأن يوصي أولاده بالصبر واحتساب الأجر، فتقرأ وصيته وينفذ ما يمكن تنفيذه عاجلا خاصة الحقوق التي ينبغي المبادرة إلى قضائها كالديون ونحوها، ولو أمكن أن تقضى ديونه قبل الصلاة عليه فهذا أولى، بل واجب إذا أمكن ذلك؛ لأنه لا يجوز تأخير ديونه، وهذا أمر يتساهل فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، فيؤخرون ديون الأموات، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء؛
لعظم أمر الدين.ولذلك لو توفي وعنده سيولة نقد وعليه دين، وتعلم أنه مكتوب لفلان ألف وللآخر ألف فينبغي أن تقوم بأخذ الألفين قبل أن تغسله أو تكفنه إذا أمكن، وتعطيها لأصحابها، إنفاذا لوصيته، وهذا من أبلغ البر وأفضله؛ حتى يوافي الله عز وجل سالما من حقوق عباده.كذلك أيضا وصاياه بالأقربين، من الإحسان المبادرة بها ولو بعد وفاته مباشرة، وإنفاذ وصيته بالحقوق التي لله عليه كالحج عنه والعمرة عنه، والصدقة عنه، إذا أوصى بها، فهذا كله ينفذ.
[الإسراع في قضاء دينه]
قال رحمه الله:
[ويجب الإسراع في قضاء دينه].ومن هنا يأثم الورثة بتأخير سداد الديون، فإذا مات الوالد أو القريب وقد ترك مالا أو ترك بيتا وعليه دين فيجب على الورثة أن يبيعوا البيت لسداد دينه، وهم يستأجرون أو يقومون بما يكون حفظا لهم من الاستئجار أو الانتقال إلى مكان آخر، أما أن يبقى الدين معلقا بذمته وقد ترك المال والوفاء فهذا من ظلم الأموات، وإذا كان بالوالدين فالأمر أشد؛
وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(أن نفس المؤمن معلقة بدينه) قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كان عليه دين فإنه يمنع عن النعيم حتى يؤدى دينه،
ولذلك قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) وفي رواية (معلقة بدينه) بمعنى: أنها معلقة عن النعيم حتى يقضى دينه.ويؤكد هذا حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح، فإنه لما جيء برجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (هل ترك دينا؟ قالوا: دينارين.فقال: هل ترك وفاء.قالوا: لا.قال: صلوا على صاحبكم.
فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد.حتى لقيني يوما، فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم.
قال: الآن بردت جلدته) فهذا يدل على عظم أمر الدين، فينبغي المبادرة بقضاء الديون وسدادها، خاصة ديون الوالدين فالأمر في حقهم آكد.والله تعالى أعلم.
يتبع



ابوالوليد المسلم 26-02-2022 02:45 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (160)

صـــــ(1) إلى صــ(29)

الأسئلة

[حكم قراءة يس بعد الدفن]
q هل يقتصر قراءة سورة (يس) أثناء الاحتضار، أم يجوز قراءتها على قبره بعد دفنه، أثابكم الله؟

a السنة قراءتها عند الاحتضار، وأما بعد موته أو بعد دفنه فإن ذلك مما لا أصل له، وهو بدعة كما نص العلماء رحمهم الله على ذلك، فقراءة (يس) على القبر، أو قراءتها عند إنزاله في القبر، أو قراءتها أثناء تشييع الميت؛ كل ذلك مما لم يرد به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حدث وبدعة والله تعالى أعلم.
[فضل تغسيل الميت]
q هل ورد فضل معين في تغسيل الميت أثابكم الله؟

a هناك أحاديث لكنها ضعيفة (ما من مسلم يقوم بغسل أخيه المسلم فيحسن غسله وتكفينه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ولكن هذا الحديث ضعيف، إلا أن القيام بهذا العمل يعتبر قربة وطاعة لله عز وجل؛ لأنه امتثال للأمر، وامتثال الأوامر يجعلها في مقام القيام بالواجبات، والواجبات لها فضل، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وهذا مما افترض الله، والقيام به قربة وطاعة وحسبة، مع ما فيه من إحسان المسلم إلى أخيه المسلم خاصة إذا كان من القرابة والله تعالى أعلم.
[هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه]
q كيف نوفق بين حديث: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وبين قول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] أثابكم الله؟

a هناك وجوه: أولها: أن يكون الميت قد وصى بذلك، وهذا كان من عادة أهل الجاهلية، وأشعارهم في ذلك مشهورة، وكانوا يوصون بالنياحة والبكاء والجزع، والإشادة بالفضائل وما كان عليه في حياته، فهذه الحالة لا إشكال عند العلماء رحمة الله عليهم أنه إذا وصى أنه يعذب؛ لأنه تسبب، فيكون قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] أي: لو كان غير متسبب، فلما تسبب فإنه يتحمل مسئولية ما تسبب فيه.الوجه الثاني: أن يكون عالما أنهم سيفعلون ذلك فيرضى ولا ينهاهم، فالرضا بالشيء كفعله؛ ولذلك وصف الله بني إسرائيل بأنهم فعلوا المحرمات، مع أن الذي فعلها بعضهم، ولكن رضا الآخرين كأنه فعل منهم؛ ولذلك قالوا: الرضا منزل منزلة الفعل، ومن هنا قالوا: من علم أو غلب على ظنه أن أهله يفعلون ذلك، أو يتسخطون ويجزعون، أو ينوحون عليه، فسكت فإنه يعذب بهذا ويؤذى.والوجه الثالث: صرفوا قوله: (يعذب) عن ظاهره، فقالوا: هو العذاب المعنوي وليس المراد به العذاب الحقيقي، فيعذب بمعنى: أن الله يسمعه بكاء أهله؛ فيتألم لهذا البكاء؛ لأن الإنسان يشفق على قريبه خاصة أهله، والميت دائما عنده الجزع والحزن كما قال تعالى عن أهل الإيمان: {ألا تخافوا ولا تحزنوا} [فصلت:30] لأن الإنسان يحزن على فراق أهله،
فإذا كان الأهل يبكون أسمعه الله بكاءهم؛ ولذلك جاء في الخبر: أنه لما ذكرت مآثر أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أغمي عليه بعد موته، فصارت المرأة تثني عليه، قال: فما زال الملك يغمزه ويقول له: هل أنت كذلك؟ هل أنت كذلك؟ فلما استيقظ قال لهم: إنه كان من أمركم كذا وكذا، فما زلت أغمز على كل ذكر ذكرتموه.قال العلماء: هذا عذاب معنوي، بمعنى أن الإنسان يسمع بكاء أهله، لا أنه يعذب حقيقة، فتكون الآية: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] أي: في تحمله للعذاب،
وهذا ليس بمتحمل لعذاب منفصل، إنما هو إسماع من الله له لبكاء أهله فيتألم، كالشيء العارض الذي يكون في أمور الدنيا.فهذه ثلاثة أوجه هي من أقوى ما ذكره العلماء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في تعذيب الميت ببكاء أهله.
[الحزن لا ينافي الرضا بقضاء الله]
q هل ما يجده الإنسان من الحزن وألم الفراق يكون من السخط وعدم الرضا أثابكم الله؟

a إن القلوب تحزن، ولا شك أن فراق الأحبة له وقع عظيم في القلوب، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه دمعت عيناه وقال: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فدل هذا على أن ما يكون من الحزن، وما يكون من الشجى في النفس أنه أمر جبلي لا يمكن للإنسان أن يدفعه، ولكن إذا كمل الإيمان، وقوي اليقين في الرحمن، وتذكر العبد ما عند الله من الإحسان؛ هان عليه المصاب، ورجا عند الله حسن الثواب؛ فبدد الله أحزانه؛ وأذهب أشجانه؛ ورفع في الجنة مكانه.ولذلك ينبغي للإنسان أن يستذكر في مثل هذه المواقف عظمة الله سبحانه وتعالى الذي فيه خلف عن كل فائت،
وفيه عوض عن كل ذاهب، فإن الله سبحانه وتعالى إذا نظر إلى قلب الإنسان وقد توجه إليه وأقبل عليه عوضه خيرا مما فقد، فمهما كان الحبيب والصاحب والقريب فإنه لا يزن شيئا أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، وهو الذي القلوب بين إصبعين من أصابعه، فإن نظر الله إليك وأنت في حالة الحزن والشجى والأسى ولوعة الفراق تتجه إليه، وتعزي النفس بما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء والثواب، وما تنتظره من حسن القدوم إليه والمآب؛ أفرغ عليك الصبر، وثبتك وربط على قلبك، وكان ذلك من عاجل ما يكون من إحسانه ولطفه بعبده والله تعالى أعلم.
[حكم الوقوف للجنازة]
q هل يشرع الوقوف لجنازة الميت إذا أتي بها للصلاة عليها؟ وكذلك لو شهدت جنازة الكافر فهل يوقف لها أثابكم الله؟

a هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه سلم أنه وقف لمرور الجنازة، وقال: (إن للموت لفجعة) أي: أثر وهيبة، والصحيح أن هذا القيام منسوخ، ولذلك مر على النبي عليه الصلاة والسلام بجنازة ولم يقم، وهذا صنيع بعض المحدثين رحمهم الله؛ فإنه ذكر الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام بالجنازة عند مرورها، ثم أتبعها بالأحاديث في نسخ ذلك، فدل هذا على أنه كان هذا أول الأمر والله تعالى أعلم.
[حكم نقل الميت من بلد إلى بلد]
q ما حكم نقل الميت من مدينة إلى أخرى لدفنه، خصوصا إذا أوصى بذلك؟

a لا يشرع انتقال الميت من مكان إلى مكان، فإذا قبضت روح الإنسان في مكان، شرع أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في ذلك المكان الذي مات فيه.أما إذا كان المكان بلاد كفر لا يقام فيها بحق المسلم، وأراد أن ينتقل وأوصى أن ينقل من هذا المكان، فإنه ينتقل إلى أقرب بلاد المسلمين، تحصيلا للأصل في المسارعة بالجنازة، وحينئذ يكون هذا هو الأصل المعمول به.أما إذا كانت بلاد المسلمين عنه بعيدة، وكان ذلك يؤخر ذلك جنازته، فإنه لا يرخص إلا بقدر الحاجة، ويجتزأ بأقرب المواضع إليه من بلاد المسلمين، ولا يشرع النقل إلا في هذه الحالة، وهي: أن يتعذر وجود من يقوم بحقه من تغسيل وتكفين والصلاة عليه، فحينئذ لا حرج أن ينقل، ولا مانع في هذه الحالة من تعاطي أسباب نقله، وما عدا ذلك تكلف وخروج عن الأصل والسنن والله تعالى أعلم.
حكم الوضوء لمن حمل الجنازة والغسل لمن غسل ميتا
qهل من السنة لمن حمل الجنازة أن يعيد وضوءه، ولمن شارك في غسل الميت أن يغتسل، أثابكم الله؟

a في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ).وهذا الحديث اختلف العلماء رحمهم الله في صحته، والأقوى ضعفه، وإن كان قد حسن بعض العلماء إسناده، لكن هناك أحاديث أصح منه وأقوى تدل دلالة واضحة على أن حمل الميت لا ينقض الوضوء.وعلى هذا فلو قلنا بحسن الحديث -كما يميل إليه بعض المحدثين- فإننا نحمل الأمر على الكمال لا على الوجوب واللزوم والله تعالى أعلم.
[ترك الغسل والتكفين لشهيد المعركة دون غيره]
q هل الشهادة الواردة فيمن مات بالبطن أو الطاعون، تنزل منزلة الشهيد فلا يغسل، أم الأمر خاص بشهيد المعركة فقط أثابكم الله؟

a شهادة المبطون والطاعون والنفساء وغيرهم ممن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! الشهيد شهيد المعركة.قال: إذا إن شهداء أمتي لقليل، ثم ذكر عليه الصلاة والسلام المبطون والغريق وصاحب الهدم والحرقى والنفساء والطاعون) وهذا إنما هو في فضل الشهادة المطلق، أما بالنسبة لأحكام الشهيد فإنها تختص بشهيد المعركة، فشهيد المعركة هو الذي لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لمكان الفضل، ولا يفتن في قبره، وله الفضائل التي وردت في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينها الله عز وجل في كتابه، وأثنى على أهل منازلها، وكل ذلك إنما هو خاص بشهيد المعركة دون غيره.
[ترك الغسل والتكفين لشهيد المعركة دون غيره]
q هل الشهادة الواردة فيمن مات بالبطن أو الطاعون، تنزل منزلة الشهيد فلا يغسل، أم الأمر خاص بشهيد المعركة فقط أثابكم الله؟

a شهادة المبطون والطاعون والنفساء وغيرهم ممن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! الشهيد شهيد المعركة.قال: إذا إن شهداء أمتي لقليل، ثم ذكر عليه الصلاة والسلام المبطون والغريق وصاحب الهدم والحرقى والنفساء والطاعون) وهذا إنما هو في فضل الشهادة المطلق، أما بالنسبة لأحكام الشهيد فإنها تختص بشهيد المعركة، فشهيد المعركة هو الذي لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لمكان الفضل، ولا يفتن في قبره،
وله الفضائل التي وردت في السنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينها الله عز وجل في كتابه، وأثنى على أهل منازلها، وكل ذلك إنما هو خاص بشهيد المعركة دون غيره.أما المبطون فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر، وكذلك بالنسبة للحرقى والهدمى، وإنما يختص الحريق إذا كان جلده لا يحتمل الغسل بأن ييمم، وأما بالنسبة لفضل الشهيد من كل وجه فهؤلاء لا يبلغون فضل الشهادة من كل وجه، وإنما لهم الفضل النسبي، وفرق بين الفضل النسبي والفضل الكلي والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة على الغائب]
q هل تجوز الصلاة على الميت الغائب أثابكم الله؟

a أما الصلاة على كل ميت غائب فهذا مما لا أصل له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحابه في مواضع متفرقة، وقد مات كثير منهم رضي الله عنهم وأرضاهم في حياته عليه الصلاة والسلام، وما صلى عليهم صلاة الغائب، إنما صلى صلاة الغائب على النجاشي؛ ولذلك قال العلماء: تشرع الصلاة على الغائب إذا أمر بها ولي أمر المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أصحابه،
وتكون لرجل مات في موضع لا يصلى عليه، كمن يموت في بلاد كفر؛ فـ أصحمة النجاشي مات في بلاد الحبشة وكانت بلاد نصارى.كذلك -أيضا- لمن له شأن عظيم في المسلمين، كالإمام العادل، والعالم الفاضل، والعبد الصالح الذي له بلاء في الدين، يشرع أن يصلى عليه صلاة الغائب، وهذا خاص بمن ذكرنا.وأما تعميم الأمر والصلاة على كل أحد فذلك ليس من السنن، وعلى هذا يختص الحكم بما ذكرناه؛ إعمالا للأصول والنصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزالها منازلها والله تعالى أعلم.
[بدعية رفع الصوت مع الجنازة بالتهليل والتكبير]
q هناك من يشيع الجنائز، ويكثر من التهليل والتكبير أثناء التشييع، فما هو الحكم الشرعي في ذلك أثابكم الله؟

a نص العلماء على أنه لا يرفع الصوت بالذكر في الجنازة، وأن رفع الصوت بالتهليل والتكبير، وأمر الناس بذلك من البدعة والحدث، وإنما يشرع أن يمشي معها، ويلتزم الأصل الوارد من هديه عليه الصلاة والسلام دون تكلف، أما أمر الناس بتهليل أو تكبير، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكر ألفاظ التفجع والتوجع ونحو ذلك كله من الحدث، وقد ذكر العلماء ذلك في كتبهم، ونبه الفقهاء والأئمة على أن ذلك مما لا أصل له، بل السنة أن يمشي معها، ويكون ذلك بالدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا قبر الميت قال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) هذا هو المحفوظ من هديه صلوات الله وسلامه عليه، وأما رفع الصوت فمما لا أصل له والله تعالى أعلم.
[وجوب التفريق بين المتراضعين إذا تزوجا]
qلي ابنة عم رضعت معي رضعات كثيرة أكثر من شهر، والحليب لوالدي، وقد تزوجها أخي من أبي وله منها أولاد، فما الحكم في ذلك أثابكم الله؟

aهذه أخت لأخيك من أبيك، وعلى هذا: يفرق بينه وبينها، والأولاد يعتبرون شرعيين، وحينئذ ينسبون إلى أخيك، ولكن ما بعد اليوم وما بعد علمه بأنها أخته من الرضاعة، لو وطئها فحكم ذلك حكم الزنا الذي حرمه الله ورسوله.ولذلك: ما مضى يعذر فيه بالجهل، ويستأنف الحكم، وتعتبر أختا له من الرضاعة، وحينئذ الأولاد ينسبون إلى أمه وينسبون إلى أبيهم، فهم أولاد شرعيون لمكان الجهل وعدم العلم بالحكم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



ابوالوليد المسلم 26-03-2022 02:22 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (161)

صـــــ(1) إلى صــ(11)

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [1]

غسل الميت ودفنه وتكفينه فروض كفائية، وفي غسل الميت أحكام ينبغي معرفتها، كالترتيب بين الأقارب في استحقاق تولي الغسل، وكذا ما يجوز وما يمنع من غسل الرجال للنساء والعكس، وهناك شروط ينبغي توافرها في المغسل، كالعلم والثقة والأمانة.

[الحقوق الواجبة على الأحياء تجاه الميت]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول رحمه الله: [فصل: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية].
تغسيل الميت من فروض الكفاية، أما كونه فرضا فلورود الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،
قال صلى الله عليه وسلم:
(اغسلنها بماء وسدر) وهذا أمر في ابنته لما توفيت رضي الله عنها وأرضاها.
وقال في الرجل الذي وقصته ناقته كما في حديث ابن عباس في الصحيحين:
(اغسلوه بماء وسدر) وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب والفرضية.
وهذا الوجوب فرض كفائي بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به البعض، فإنه يتعلق وجوبه بالجميع، بحيث يأثمون إذا قصروا جميعهم ولم يقم أحد بتغسيله.ويتولى التغسيل من يكون على علم به، فلا يجوز أن يتولى تغسيل الميت من لا يحسن تغسيله؛ لأن من لا يحسن التغسيل ولا يقوم بحقوق التغسيل كما ينبغي، فوجود تغسيله وعدمه على حد سواء، ولربما ضيع أمورا واجبة وأخل بالغسل، ولذلك لا يلي التغسيل إلا من يعلمه.
ومن هنا يجب على طالب العلم ومن يبتلى بمثل هذه الأمور أن يكون على علم وإلمام بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تغسيل الميت، وأمره بالأمور التي ينبغي مراعاتها في هذا التغسيل.الميت الأصل أنه يغسل؛
لكن يسقط تغسيل الميت في مواضع:
أولها: إذا كان شهيدا كما سيأتي، فالشهيد لا يغسل؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ادفنوهم بدمائهم) فأمر بدفن الشهداء بدمائهم، وذلك لأن دماءهم شهادة لهم بين يدي الله عز وجل،
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(ما من كلم -يعني جرح- يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون دم والريح ريح مسك) فهو شهيد له بين يدي الله.ثم إن هذا الدم فضلة طاعة وقربة لا تشرع إزالتها،
ومن هنا قالوا:
إنه لا يغسل، ولا يعتبر داخلا في هذا الأصل، لكن يختص هذا الحكم بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في نفس ساحة المعركة، أما لو أنه خرج وفيه الحياة، وبقي بعد ضربه ثم توفي بأثر الجراح، فإنه يغسل ويكفن ويعامل معاملة الأصل؛ لأن سعدا رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فغسل وكفن وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصيب في سبيل الله ثم مات بعد ذلك فشهيد المعركة لا يغسل.
ممن يستثنى في التغسيل: أن يكون الميت قد احترق، بحيث لو غسل نفط جلده، أو يكون به مرض كالجدري ونحو ذلك -أعاذنا الله وإياكم من الأدواء- فلو غسل لتضرر، أو يكون معه مرض لو قام مغسله عليه، لم يأمن بتضرره بتغسيله، بحيث إنه لا يمكنه أن يغسله؛ لأنه لو غسل انتقلت العدوى، أو به أشياء تنتقل بمباشرة التغسيل فهذه أحوال تستثنى من التغسيل.
أيضا: سيذكر المصنف رحمه الله حالة الرجل بين النساء، فالرجل إذا توفي بين النساء وليست هناك زوجة له منهن ولا أمة؛ فإنه حينئذ ييمم ولا يغسل، كذلك العكس: لو أن المرأة توفيت بين الرجال، وليس لها زوج منهم، ولم تكن أمة معها سيدها فحينئذ تيمم ولا تغسل.هذه الأحوال هي التي تستثنى من هذا الفرض والأمر الواجب.وتغسيل الميت المراد به: تعميم جسده بالماء، وهذا الحكم يشمل جميع أعضاء الجسد بالتفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله.
قوله: [وتكفينه].سيبين رحمه الله تفصيل التكفين،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله: (كفنوه) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بتكفين ابنته، فأمر صلى الله عليه وسلم بتغسيلها فقامت النساء بتكفينها، ومن هنا يقول العلماء: إن حديث ابن عباس يدل على أن تكفين الميت واجب وفرض.وهذا التكفين فرض كفائي، لكن التكفين ليس كالغسل، فالغسل يكون بالماء وهو غالبا يتيسر؛ لكن -مثلا- لو كان هذا التكفين يحتاج فيه إلى وجود النفقة التي يكون بها مئونة التكفين، وحينئذ تتصل بميراث الميت، وهي من الحقوق التي تخرج قبل قسمة التركة من تغسيل وتكفين ونحوه، فهذه المئونة التي يحتاج لها لشراء الكفن تخرج من مال الميت، وتعتبر سابقة للميراث، وهذا حق من حقوق الميت في تركته.
أما لو كان الميت ليس عنده مال، فحينئذ ينظر إلى تجب عليه نفقته فيقوم بتكفينه، وإذا عجز فحينئذ يكون كفنه من بيت مال المسلمين، ولذلك يتعلق حقه بنفسه، ثم بمن يلي القيام عليه من حقوق النفقة، ثم بعامة المسلمين كما لو لم يكن له قريب وليس له مال.
هنا مسألة أيضا: إذا تعذر الغسل وتعذر التكفين فإنه ينتقل من الغسل إلى التيمم، وتعتبر هذه الحالة تابعة للحالات التي ذكرناها مستثناة من الوجوب، وكذلك إذا لم يوجد الكفن إلا اليسير فإنه تغطى عورتاه إذا لم يجد ما يستر به إلا العورة، وإذا كان هناك فضل على العورة ستر بقية البدن على حسب الموجود من الفضل.
قوله:
[والصلاة عليه].الصلاة عليه أيضا من الفروض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا على أصحمة النجاشي رضي الله عنه وأرضاه لما توفي، وقال عليه الصلاة والسلام: (توفي اليوم عبد صالح، ثم أمر الصحابة أن يخرجوا وصلى بهم)، فمن حق المسلم على إخوانه المسلمين أن يصلى عليه ويدعى له بالمغفرة والرحمة، وعلى ذلك هديه صلوات الله وسلامه عليه.ولذلك لما توفيت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد فدفنوها ليلا ولم يخبروه، وكأنهم تقالوا شأنها انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها -وهذا من خصوصياته- فصلى عليها وقال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) ووجه التخصيص قوله: (بصلاتي) كما في صحيح مسلم.فهذا يؤكد أهمية الصلاة؛
ولذلك يقول العلماء:
إن من فضائل الصلاة على الميت: أنها تذهب ظلمة القبر ووحشته،
وذلك لقوله:
(ينورها بصلاتي عليهم)، فكأنه يشير إلى العلة من الصلاة على الميت، ولذلك شرع أن يدعى للميت بالرحمة والمغفرة،
وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(ما من ميت يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله فيشفعون فيه إلا شفعهم الله)، وهذا إذا كان الدعاء بإخلاص وصدق، ولذلك أمر عليه الصلاة والسلام بالإخلاص، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الصلاة وكيفيتها،
لكن المراد التنبيه على هذه الأمور:
(تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه) فإنها فرض كفاية.
وعلى هذا:
لو أن الميت لم يغسل ولم يكفن ولم يصل عليه وقبر، فإنه يشرع نبشه ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه، لكن مشروعية النبش تتقيد بأن يؤمن تغيره، بمعنى: أن يغلب على ظننا أنه لا زال جلده قابلا للغسل، أما لو مضت المدة التي يغلب على الظن إسراع الدود إليه وذهابه فحينئذ لا ينبش، وهذا طبعا على قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم: أنه إذا قصر في حق الميت ودفن دون تغسيله، أو دون تكفينه، أو دون الصلاة عليه،
قالوا:
يشرع أن ينبش ويغسل ويكفن ويصلى عليه، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقيام بهذا الحق، وأمر من كفن أخاه أن يحسن إليه.
[ودفنه فرض كفاية]
.
وهذا أيضا مما يتبع ما سبق من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فالأصل في الآدمي أن يقبر ويدفن: {قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين} [المائدة:31].
فلذلك يقول العلماء:
إن الأصل يدل على أن الآدمي يقبر ولا يبقى عرضة للسباع ولا للهوام ولا للطيور تنبشه وتأكل من لحمه كسائر البهائم، فهذا من التفضيل والتكريم الذي فضل الله به بني آدم،
ولذلك قال تعالى:
{ثم أماته فأقبره} [عبس:21] فمضت السنة على أنه يشرع قبر الميت الآدمي.حتى ولو كان كافرا فإنه يوارى فلا يبقى في العراء؛ لأن بقاءه في العراء أذية للآدميين، وأبلغ في النتن، وأذهب لحرمته، فإن هناك حرمة عامة للآدمي؛ لأن الله لم يفرق بين آدمي كافر ومسلم في المواراة،
ولذلك يقول العلماء:
إن هذا التفضيل من جهة الآدميين، فيوارى الكافر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما أخبره علي أن أبا طالب قد مات،
قال:
(اذهب فواره)، ووارى عليه الصلاة والسلام قتلى بدر من المشركين في القليب، فدل على أن السنة قبر الميت، ولا يترك للسباع والهوام ونحوها كالطيور الجارحة تنهشه وتؤذيه.

[الذي يتولى غسل الميت]
قال رحمه الله: [وأولى الناس بغسله وصيه].
بعد أن بين لنا رحمه الله أن الغسل لازم، شرع في التفصيل، فذكر من يلي تغسيل الميت.
أولا: ينبغي أن يكون الذي يلي تغسيل الميت عالما بصفة التغسيل، فلا يجوز أن يتولاه الجاهل، فإذا كان الشخص عنده علم وإلمام بالطريقة التي يغسل بها الميت، فحينئذ يشرع له أن يتولى تغسيله، وأما إذا كان جاهلا فلا يشرع له أن يقوم بهذا الأمر؛ لأن جهله ربما أوقعه في البدع، وربما أوقعه في الأمور التي يخل فيها بحق الميت في تغسيله وتكفينه؛
ولذلك قالوا:
إنما يتعلق القيام بهذا الحق -أعني التغسيل- بمن يعلم لا من لا يعلم.ثم هل يشترط أن يكون مكلفا؟ المجنون لا يلي تغسيل الميت، واختلفوا في الصبي، فإذا كان مميزا عالما بطريقة الغسل ويمكن أن يقوم بحق الميت،
قالوا:
لا حرج أن يلي التغسيل.
وضيق بعض العلماء من جهة النية فقالوا:
إن الصبي لا يلي الغسل لمكان نية الغسل، وسيأتي إن شاء الله التنبيه على النية، وإن كان الأقوى أن الصبي إذا عقل -وكان يحسن القيام بالتغسيل- أنه يلي التغسيل ولا حرج في قيامه، وهو مقدم لا شك خاصة إذا لم يوجد الكبير، فإنه يلي تغسيله.

[شروط المغسل]
والأصل في المغسل أن يراعى فيه أمور:
أولها: العلم.
ثانيها: الثقة.
ثالثها: الأمانة.فهذه ثلاثة أمور لا بد من وجودها في المغسل.
أولا:
علمه بطريقة التغسيل ولو كان من عوام الناس، فيقدم ويكون أحق.
ثانيا:
الثقة؛ لأن الإنسان قد يكون عالما بطريقة التغسيل، ولكنه فاسق والعياذ بالله، والفاسق كما أنه جريء على حدود الله قد يجرؤ على ترك حق الميت، وقد يجرؤ على كشف عورته أو على أمور لا تحمد؛
ولذلك قالوا:
لا يلي تغسيل الأموات إلا من عرف بالثقة، فيكون ثقة مأمونا، والسبب في ذلك أن ما يتصل بتغسيل الميت من الأمور التي لا تنبغي يجب أن يكون سرا، فلربما يطلع على أمور خفية، من البشائر الطيبة، والبشائر السيئة، فقد يكون الميت عبدا صالحا، فيرى بشائر صالحة، من تهلهل وجهه وإشراقه، وهذا معروف ومألوف.وأذكر أنني دخلت على أحد أهل الفضل -رحمة الله عليهم- فلم تمل العين النظر إلى وجهه وهو يغسل! وتراه بصفة هي أشرق وأجمل من حاله وهو حي، ولا ترى فيه وحشة الأموات،
وهذه من عاجل بشرى المؤمن:
أنك ترى وجهه مشرقا، خاصة في حالة النزع والتغسيل.ربما تظهر أمور، وهذا أمر متضافر ومشهور عند العلماء رحمة الله عليهم، ومضت به السنن من الله سبحانه وتعالى، وهو أن الأخيار يظهر في هذه المواطن لطف الله عز وجل بهم.
وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يقول لأهل البدع: (بيننا وبينكم الجنائز)، أي: أن الأمور تنكشف في موت الإنسان، فيجعل الله له بعض البشائر عند موته، من ذكر الله عز وجل والختم بالخير، ويجعل له بعض البشائر في تغسيله وتكفينه حتى في قبره ودفنه؛ ولذلك ينبغي أن يكون الذي يلي التغسيل ثقة، فإذا حدث الناس بالخير صدقوه، ويكون ذلك أدعى لانتشار الخير والإحسان إلى الميت بالترحم عليه وحسن الظن به.
كذلك أيضا:
لا يحدث بكذب، ولا يكذب على الميت ولا يسيء إليه.
مأمونا:
أي مأمون النظر إلى عورة الميت، ومأمون التصرف.
فهذه أمور لا بد من توفرها في الغاسل:
أن يكون عالما بالغسل، وأن يكون ثقة، وأن يكون مأمونا، فيؤمن منه النظر إلى العورة، ويؤمن منه المس للعورة، ويؤمن منه الإخلال بحقوق الميت.كل ذلك مما ينبغي توفره فيمن يلي تغسيل الميت.
يتبع

ابوالوليد المسلم 26-03-2022 02:23 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (162)

صـــــ(1) إلى صــ(11)

[أولى الناس بتغسيل الميت]
يقول المصنف رحمه الله: [وأولى الناس بتغسيله وصيه].
يبين رحمه الله بهذه العبارة أن أحق الناس بتغسيل الميت وصي الميت، وهذه الوصية مشروعة؛ وذلك لأنه ربما كان ذلك الشخص الموصى إليه معروفا بالعلم والاستقامة والسنة، والحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء بالخير؛ فيكون أفضل من غيره وأولى وأحرى، وخاصة في الأماكن التي يكثر فيها الجهل أو توجد فيها البدع والأهواء، ويكون هناك من عرف بالاستقامة والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون الوصية لمثله آكد وأولى وأحرى.
وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه وصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، وهذا يدل على مشروعية الوصية، وكذلك جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه وصى أن يغسله محمد بن سيرين، وكان مرهونا في دين، فأخرج من سجنه لتغسيل أنس رضي الله عنه؛ لأنه وصى له بذلك.فالوصي مقدم على غيره؛ لأن الميت اختاره من دون الناس، خاصة إذا وجد المبرر -كما قلنا- من علم واستقامة وحرص على الخير.
وقوله: [ثم أبوه].يلي الوصي الأب، فالأب أحق بتغسيل ابنه؛ وذلك لمكان عظيم الشفقة والقيام بحقه على أتم الوجوه.
وهذا إنما يكون إذا تنازع القرابة فقال الأخ:
أنا أريد تغسيله،
وقال الابن:
أنا أريد تغسيله، واختصم الأقرباء، فحينئذ يحتاج الفقهاء إلى وضع ترتيب للأقارب بحيث يبين من الذي يقدم من الأقارب، فقال رحمه الله: [ثم أبوه] أي: الأب هو أول من يقدم من قرابة الميت، والأمر واضح؛ فإن أحق الناس هم الوالدان، ولكن الأم يتعذر غسلها لابنها، فبقي الحق للأب على الأصل في تغسيل الرجل للرجل.
وقوله:
[ثم جده].الضمير عائد إلى الميت، أي: جد الميت: وهو أبو الأب، فالمراد جهة الأبوة،
إذا قلت:
يقدم الأب ستنظر إلى هذه الجهة، وتبدأ بالأب المباشر، ثم أبوه وإن علا، فيقدم الأب على الجد، والجد الأقرب على الجد الأبعد، فأبو الأب مقدم على جد الأب؛ وهذا لأن الجهة يقدم بها،
فإذا تساووا في الجهة نظر إلى القرب:
فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا لو اختصم أب وجد في تغسيل الابن فإنه يقدم الأب المباشر على الجد، وهكذا لو اختصم الجد وجد الجد، قدم الجد الأقرب على الجد الأبعد.
وقوله: [ثم الأقرب فالأقرب من عصباته]: الآباء ثم الأبناء ثم الإخوان، فإذا لم يوجد له أب ولا ابن -الذي هو الفرع- ينتقل إلى جهة الإخوة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) والعم أخ للأب، فجعل الأخ مع أخيه كالشيء الذي خرج من أصل واحد، فبعد الأب يقدم الابن، ثم إذا لم يكن للميت ابن يقدم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم أبناء الإخوة لأب، ثم الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب،
ثم بعد ذلك أقرب العصبات:
فيقدم ابن ابن العم على ابن ابن ابن العم، على حسب الترتيب الذي سبق الإشارة إليه.
وقوله: [ثم ذوو أرحامه]: أي: فيقدمون على حسب منازلهم، كابن بنت الابن مع ابن بنت بنت الابن؛ فإنه يقدم الأقرب على الأبعد، وذوو الأرحام في الفرائض هم الذين ليس لهم فرض ولا تعصيب، كابن الخالة، فإنه ليس له فرض ولا تعصيب، ولهم ميراث خاص سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه في باب الفرائض.
وقوله:
[وأنثى وصيتها].بعد أن بين الرجال فقال: نقدم الآباء ثم آباءهم وإن علوا، ثم الأبناء وأبناءهم وإن نزلوا، ثم الإخوة، ثم أبناء الإخوة، ثم الأعمام، ثم أبناء الأعمام على الترتيب الذي ذكرناه؛ شرع في الإناث،
فقال:
الحكم في المرأة كالحكم في الرجل سواء بسواء، فقال: [وصيتها] فلو أوصت امرأة أن التي تلي تغسيلها هي فلانة، ولو كانت أجنبية فإنها تقدم على قريباتها.وقوله: [ثم القربى فالقربى من نسائها]: أي: على نفس الترتيب، فتقدم الأم أولا، فإذا وجدت الأم فهي أحق من يلي تغسيل ابنتها، ثم أمها وهي الجدة -أم الأم- وتقدم القربى على البعدى، فأم الأم مقدمة على أم أم الأم، وبعد جهة الأمومة ينتقل إلى البنوة، فالبنت إذا لم توجد أمها، أو كانت الأم لا تستطيع أن تلي التغسيل فننتقل إلى البنات، فبنتها أحق بتغسيلها، ثم بنت بنتها وإن نزلت، ثم بعد ذلك أختها الشقيقة، ثم أختها لأم، وقال بعض العلماء: أختها لأب.
وإن كان من جهة الأم قالوا: نقدم الأم، على خلاف الذكور، فإنا نقدم من جهة العصبة والرجل والذكر.
ثم بعد ذلك بنات الأخوات الشقيقات، ثم بنات الأخوات لأم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى العمات؛ ثم بنات العمات على حسب الترتيب الذي عكسه في الرجال.


مسائل في غسل الميت
[جواز تغسيل كل من الزوجين لصاحبه]
قال المصنف:
[ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه] أي: من حقه أن يلي تغسيل صاحبه،
حتى قال بعض العلماء:
الزوج يقدم على جميع الأقرباء، والزوجة تقدم على جميع الأقرباء.أما كون المرأة تلي تغسيل الرجل فهذا يكاد يكون كالقول الواحد عند العلماء رحمة الله عليهم.
وأما هل الرجل يغسل المرأة؟ فللعلماء قولان: الجمهور يرون أن للرجل أن يلي تغسيل امرأته، ولا حرج عليه في ذلك، وعصمة الزوجية باق حكمها، ولا تنفسخ بالموت.الحنفية رحمة الله عليهم لا يرون أن للرجل أن يغسل زوجته، ويرون أنه بمجرد أن تموت يحل له نكاح أختها، وكذلك أيضا يحل له نكاح بديل عنها إذا كانت هي الرابعة،
قالوا:
فحينئذ لا يلي تغسيلها؛ كأن العصمة شبه زائلة بالموت.
والصحيح:
ما ذهب إليه الجمهور؛
فإن حديث ابن ماجة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ عائشة:
(لو أنك مت فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ثم دفنتك) وهذا حديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو يدل على أن للرجل أن يلي تغسيل امرأته.
كذلك أيضا فعل السلف الذي صار كالإجماع بين الصحابة؛ وذلك أن عليا رضي الله عنه تولى تغسيل زوجته فاطمة رضي الله عنها، ولم ينكر أحد من الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، فصار كالإجماع السكوتي،
ومن هنا قالوا:
إن تغسيل الرجل لزوجته يعتبر مشروعا، وهذا هو الصحيح.
وقوله: [وكذا سيد مع سريته]: أي: وكذا السيد مع سراريه، فالنساء اللواتي يتسرى بهن -وهن الإماء- من حقه أن يلي تغسيلهن؛ فإنه لا يزول ذلك بالموت، كما أن من حقه أن يلي تغسيل زوجته، وكذلك للأمة غسل سيدها.


[جواز تغسيل الرجل والمرأة لمن دون سبع سنين]
وقوله:
[ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط].بعد أن بين لنا رحمه الله مراتب القرابة بالنسبة لتغسيل الميت، وحكم الزوجين، وحكم الإماء، شرع رحمه الله في مسألة ثانية تتصل بولاية تغسيل الميت.فالصبي الذي دون سبع سنين، إن وليته أمه أو وليه أبوه فلا حرج، وكذا لا حرج أن يلي تغسيله الرجال أو يلي تغسيله الإناث ولو أجانب، هذا بالنسبة للمولود دون سبع سنين.وابتدأ بالأقل والأخف الذي لا خلاف فيه وأمره يسير -وهو الصغير- لكي يتدرج منه إلى من هو أكبر؛ وذلك لأن تغسيل الأموات يختلف بعد السبع السنين بالنسبة للرجال والنساء،
فالأصل:
أن الذي يلي تغسيل الرجال هم الرجال، والذي يلي تغسيل النساء هم النساء، ما عدا مسألة الزوجين والسراري والإماء؛ وعلى هذا شرع رحمه الله في بيان مسائل تتعلق بهذا المبحث،
فقال:
إن من كان دون السبع السنين -وهو الصبي، وكذلك الصبية- فإن أمرهما خفيف، ولا حرج حينئذ أن يلي تغسيله الرجال أو يلي تغسيله الإناث.


[حكم تغسيل رجل مات بين نسوة والعكس]
وقوله: [وإن مات رجل بين نسوة أو عكسه يممت].
أي:
وإن مات رجل بين نسوة وليس فيهن زوجة ولا أمه، أو ماتت امرأة بين رجال وليس فيهم زوج ولا سيد، فحينئذ تيمم المرأة وييمم الرجل، قالوا: ولا يلي الرجال تغسيل النساء إلا ما ذكرنا من الرجل مع زوجته وأمته، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يغسل الرجل المرأة ولا تغسل المرأة الرجل، وإنما يلي الجنس الجنس، وذلك لعدم أمن الفتنة غالبا، لأن الرجل مفتون بالمرأة، والمرأة مفتونة بالرجل، وحينئذ يصار إلى الاحتياط، فلا يلي الرجال النساء ولا تلي النساء الرجال، وإنما ييمم الرجل إذا مات بين النساء، وتيمم المرأة إذا ماتت بين الرجال.
والتيمم: أن يضرب الحي بكفيه الأرض ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإن وجد محرم فهو الذي يلي ذلك؛ لأنه سيحتاج إلى المس،
وأما إذا لم يكن من أقاربها فقال بعض العلماء:
إنه يرخص في هذا اللمس لوجود الحاجة والضرورة، ومسح الكفين والوجه أخف من غسله لها ومرور يده على بقية أجزاء جسمها، ولو ولي الرجل المرأة لخلا بها، والأصل يقتضي حظر خلوة الرجل بالمرأة وخلوة المرأة بالرجل؛
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وهذا يدل على أنه لا يلي الرجل تغسيل المرأة، والمرأة لا تلي تغسيل الرجل.


[حكم تغسيل الخنثى]
قال المؤلف: [كخنثى مشكل].
الخنثى:
هو الذي يكون له ما يدل على أنوثته ويدل على رجولته،
وهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: خنثى مميز، أي: تميز حاله بأن ظهرت فيه أمارة الفحولة والرجولة، فهو رجل وملحق بالرجال، أو ظهرت به أمارات الأنوثة والنساء فهو امرأة، وحينئذ لا إشكال.
القسم الثاني:
خنثى مشكل، ليس فيه أمارات تدل على فحولته ولا أمارات تغلب أنوثته، ولذلك لم يقتصروا على وصفه بكونه خنثى، وإنما أضافوا إليه وصف الإشكال، فأشكل أمره،
أي:
التبس، والشيء المشكل هو الذي أصبحت أشكاله كالشيء الواحد، فشكله امرأة وشكله رجل، -أي أن فيه شبها من الرجال وشبها من النساء، فهذا لا نستطيع أن نقول: يليه النساء؛ لخوفنا أن يكون ذكرا،
ولا نستطيع أن نقول:
يليه الرجال؛ لخوفنا أن يكون أنثى، فهذا الخنثى ييمم.


[حرمة تغسيل المسلم للكافر أو دفنه]
وقوله:
[ويحرم أن يغسل مسلم كافرا أو يدفنه، بل يوارى لعدم].
بعد أن بين لنا رحمه الله أن الطفل الصغير يليه الرجال والنساء على حد سواء، ثم الرجل بين النساء والمرأة بين الرجال ييممان، ثم الخنثى ييمم؛ لأنه نظير ملحق بما تقدم، والعلة بينه وبين من فقدت منه ما ذكرنا من الرجال والنساء واحدة، شرع رحمه الله بذكر الحكم بالنسبة للكافر.فلا يجوز للمسلم أن يغسل الكافر، فالكافر لا يغسل ولا يكفن وإنما يوارى جسده، وهذا فيه حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه علي بن أبي طالب وذكر له أن عمه أبا طالب قد توفي،
قال:
(اذهب فواره) وهذا الحديث متكلم في سنده، لكن أقوى منه ما فعله عليه الصلاة والسلام بقتلى بدر حيث أمر بهم في القليب، ولم يأمر بتغسيلهم ولا بتكفينهم، وحينئذ انعقد الإجماع على أن الكافر لا يغسل ولا يقام عليه كما يقام على المسلم.


ابوالوليد المسلم 26-03-2022 02:57 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (163)

صـــــ(1) إلى صــ(24)

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [2]

غسل الميت واجب على المكلفين، وصفته قد جاءت مفصلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحكام ومستحبات متعلقة بغسل الميت، لابد من العلم بها حتى يكون المغسل ملتزما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

[أحكام غسل الميت]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
وقوله: [وإذا أخذ في غسله ستر عورته وجرده]: بعد أن بين لنا -رحمه الله- من الذي يلي التغسيل، ومن له حق التغسيل، وفصل في الجنسين، وفي المسائل المترتبة على فقد الجنس المماثل، شرع رحمه الله في صفة الغسل.
وتغسيل الميت من المهمات التي ينبغي على الناس أن يكونوا على إلمام بها، فإن الرجل ربما فجع بقريبه ميتا، وربما فجع في سفر بصاحب له أو رفيق له، فيحتاج أن يعرف أحكام غسل الميت، ولذلك كان بعض العلماء والمشايخ رحمة الله عليهم عندما يجلسون في المجالس مع العوام، بدلا من أن يضيع الوقت دون فائدة يعلمون العوام صفة تغسيل الميت بالتطبيق الفعلي، ويطبقونها في المجالس؛ إحياء لهذا الأمر اليسير، ولكن بعض الناس ربما يدخل عليه بعض التكلفات التي تجعل الناس يظنون أنه شاق، وأنه لا يليه إلا خاصة الناس، مع أن الأمر يسير والدين يسر، وهو رحمة من الله عز وجل بعباده، وليس فيه حرج ولا مشقة.فالأمور التي يتكلفها البعض في تغسيل الميت وإحداث صفة معينة فيها كلفة ومشقة، فكلها أقرب إلى الاجتهادات والآراء التي لا تستند إلى حجة من الكتاب والسنة، وهي أمور لا أصل لها، وإنما يقتصر على سماحة الإسلام ويسره في ولاية أمر الميت وتغسيله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يسر أمر الغسل سواء كان الميت رجلا أو امرأة،
وقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في المحرم:
(اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)، وهذا أمر في غاية الاختصار واليسر والسماحة.وكذلك أيضا لما أمر بتغسيل ابنته زينب وتكفينها رضي الله عنها كما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها الذي هو أولى وأقوى من حديث ليلى الثقفية رضي الله عنها، وفيه يسر أيضا، وإذا تأملته وجدت أن التغسيل وصفة التكفين كلها يسر، وليس بذاك الأمر الصعب الذي يظنه بعض الناس وأنه لا يتيسر إلا لخاصة طلاب العلم، بل الأمر على خلاف ذلك، فقد تجد من العوام من يحسن ذلك لسهولته ويسره.


[ستر عورة الميت قبل التغسيل]
قال رحمه الله: [وإذا شرع في تغسيله ستر عورته وجرده].
بعد أن بينا من الذي يلي التغسيل ومن هو أحق بالتغسيل -وهذا من ترتيب الأفكار- وبينا من الذي يغسله من الرجال والنساء، ومن الذي تغسله المرأة من الرجال والنساء، حينئذ يردq كيف نغسل؟ فقال رحمه الله: [وإذا شرع]-أي: أراد أن يغسل-[ستر عورته] أي: ستر عورة الميت وستر عورة الميتة، لأن الأصل أن عورات الأموات والأحياء حرمتها واحدة، ولا يجوز كشف السوءات والعورات لا من حي ولا من ميت، إلا ما وردت الرخصة والضرورة به من علاج ونحو ذلك، وأما بالنسبة لتغسيل الميت، فالأصل: أن من يريد أن يغسل الميت فعليه أن يستر عورته.
وبناء على ذلك يكون ستر العورة على حالتين:
الحالة الأولى: إما أن تدخل على ميت عليه ثيابه، فحينئذ تخفف الثياب وتبقي عليه ما يستر عورته كالسراويل ونحوها؛ والسبب في ذلك أن درجة حرارة الجسم ترتفع، وإذا كانت الثياب على الميت فإنها تفسخ جلده، وخاصة إذا كانت ثقيلة كما هو الحال في أيام البرد ونحوها.أما دليل تخفيف الثياب والاقتصار على ما يستر العورة، فهو ما ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة قالوا: (أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟!) قالوا: إن هذا التجريد المراد به أن نزيل عنه جميع ما يلي بدنه، وتبقى العورة على الأصل من كونها محظورا كشفها والنظر إليها.
بناء على ذلك: يبقى عليه سراويل أو إزار يستر عورته، فمواضع العورة تبقى مستورة، ويبقى صدره ورأسه ورجلاه وساقاه مكشوفة؛ ثم إذا كان عليه ثياب بعد أن يجرده هذا التجريد يهيئه للغسل.
الحالة الثانية: أن يكون الميت عاريا، وهذا يقع في بعض الأحوال، كما يحدث في بعض الأحيان إذا مات في المستشفى وعليه غطاء مسجى به، فحينئذ إذا أردت تغسيله بدأت بعورته، فلا تكشف الثوب عنه حتى تحتاط لعورته، فتلبسه ما يستر العورة، أو تضع على عورته ما يسترها، ثم تشرع في تغسيله.


[ستر الميت عن العيون عند غسله]
وقوله:
[وستره عن العيون].هناك أمران في الستر: الأمر الأول: الستر في الجسد نفسه، بأن تبقي على جسده ما يستر عورته على التفصيل الذي ذكرناه.والأمر الثاني: أن تهيئ موضعا أبلغ في ستره وعدم تغسيله أمام الأعين؛ فإن ذلك أحفظ لحرمته وأرعى لها وأصون، وصورة ذلك: أن يختار الإنسان الغرف ونحوها، فلا يغسله في فناء واسع، وخاصة إذا كان هناك أشخاص ينظرون إليه، أو فناء مكشوف تطل عليه البيوت الأخرى أو نحو ذلك، فهذا فيه حط من قدر الميت ومنقصة لمكانته، وحينئذ لا يفعل به ذلك.


ثم في الغرف نفسها: فأضيقها مقدم على أوسعها ما لم يكن في السعة ما يعين على تغسيله، أو تكون هناك حاجة لإخراجه إلى مكان أوسع لكي يكون الماء قريبا منك، أو كان في الموضع الذي فيه الماء ولا تستطيع أن تنقله إلى موضع آخر، فحينئذ لا حرج أن تغسله في ذلك الموضع ولو كان واسعا.

فتختار له الغرف الضيقة والمستورة من أعلاها، وهناك حديث تكلم العلماء في سنده،
وهو:
النهي عن تغسيل الميت في غرفة ليس لها سطح، ولكنه ضعيف، والصحيح: أنه لا حرج أن يغسل وهو إلى السماء، بمعنى أن يكون في غرفة أو فناء أو نحو ذلك، ولكنه خلاف الأولى.


[كراهة حضور غسل الميت إلا لمن احتيج إليه]
قال رحمه الله: [ويكره لغير معين في غسله حضوره].
وهنا ننبه على أمر! فمع أن المنكشف من الميت غير عورته، وهو صدره وساقاه ونحو ذلك، فلا ينبغي أن يحضره إلا من يلي تغسيله، وهذا يدل على الحفظ الأكمل للإنسان، حتى وإن قلنا بجواز أن يرى الرجل ساق الرجل وأن يرى صدره،
ومع ذلك نقول:
إن حفظ هذه الأمور أولى وأحرى.نفرع عليه المسألة المشهورة،
وهي:
أن بعض النساء -أصلحهن الله- يترخصن بقول بعض العلماء: إن عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، فيقولون: لا حرج أن تبدو المرأة كاشفة الساقين أو الفخذين -نسأل الله السلامة والعافية- وكاشفة الصدر؛ لأن عورتها المغلظة السوأتان والفخذان كالرجل مع الرجل.
ونقول:
لو كشف الرجل عن عورته في مجامع الناس لسقطت عدالته وردت شهادته، وكذلك المرأة إذا جلست بين النساء مكشوفة الفخذين أو مكشوفة الساقين أو مكشوفة الصدر؛ فهي ساقطة العدالة ذاهبة المروءة -نسأل السلامة والعافية- ومثلها لا تقبل شهادتها، وهذا بإجماع العلماء: أعني أن من يرتكب ما يخل بالمروءة لا تقبل شهادته؛ لأنه ناقص العقل، والشهادة إنما تقبل ممن عنده عقل يعقله ويردعه.

لذلك يقول العلماء: لحفظ كرامة الميت ينبغي ألا يحضر تغسيله -مع كونه محفوظ السوأتين- إلا من احتيج إليه، كأن يكونوا أعوانا يقومون بمعونته، أو يكون عالما من أهل العلم يرشد أو يبين، فحينئذ لا حرج أن يحضر، وأما من عدا ذلك فلا.
ورخص بعض العلماء في بعض القرابة للشفقة، كأن يكون ابنه فيحب أن يكون حاضرا لتغسيله، وقد يكون ذلك من بعض الأقرباء؛ حتى يكون أدعى لرضاه بقدر الله عز وجل، لأنه ربما رأى أمارات تبشره بالخير، ويكون ذلك أدعى لصبر الأقرباء، وهذا معروف: ربما غسل فظهرت أمارات طيبة في تغسيله، فتكون أدعى لصبر أقربائه واحتسابهم للأجر فيه.
[رفع رأس الميت وعصر بطنه برفق عند غسله]
قال المصنف رحمه الله: [ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه]: أي: بعد أن يهيئ الغاسل المكان الذي يريد أن يغسل الميت فيه، يختار بعض العلماء أن يكون الميت على سرير؛ لأنه إذا كان على الأرض يكون غسله من الصعوبة بمكان، ولذلك اختاروا أن يكون على سرير أو على شيء عال؛ حتى يتيسر نزول الفضلات والأقذار؛ ويكون ذلك أدعى لسلامة الجسد منها، فيضعه على سرير ونحو ذلك ويجعل صدره مرتفعا قليلا، فيرفع صدره ورأسه حتى يتيسر خروج الخارج أثناء تغسيله.

وقوله: [ويعصر بطنه برفق]: أي: بعد أن يرفعه من جهة صدره ورأسه يقوم بعصر بطنه عصرا رفيقا، فإن هذا الرفع والعصر يسهل خروج الفضلة الباقية في ذلك الموضع؛ فتخرج الفضلة، وذلك أدعى لنقائه.
ثم لا يعصر بمبالغة، ولا يضغط ضغطا شديدا؛ وذلك لأن حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا، كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند ابن ماجة وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا في الإثم) قال العلماء: فيه دليل على أنه يأخذ الحرمة ميتا كما كانت له حيا، وعلى هذا قالوا: لا يبالغ في عصره، ولا يبالغ في الإضرار به وأذيته.


وقوله: [ويكثر صب الماء حينئذ]: هذه أمور كلها من باب الاستعانة على النظافة، ليس فيها نص أنه يجب أو يلزم الإنسان عبادة أن يكثر الماء، إنما المراد أنه يكثر الماء حينئذ؛ لأن التجربة أنه إذا عصر البطن خرج الخارج، وحينئذ ينتن رائحة يتضرر منها من يلي تغسيله ومن عنده، فإذا أكثر الماء كان أدعى لخروج هذه النجاسة، وكذلك أدعى لسلامة البدن منها، وسلامة البدن مقصودة، وكذلك أيضا الرفق بمن حضر بزوال الرائحة والنتن مطلوب.
[تنجية الميت بخرقة]
[ثم يلف عليه خرقة فينجيه].إذا: أول ما يبدأ بقضية إخراج الفضلات، وإخراج الفضلات يستلزم منك أمرين: الأمر الأول: أن تقوم برفع الجذع الأعلى من جسده حتى يتيسر نزول الفضلة والعصر الرفيق على بطنه، يتكرر ذلك على حسب الحاجة.


وبعد أن تعصر وتتأكد من خروج الخارج ويكون مع خروج الفضلات صب الماء حتى لا يؤذي برائحته، وأيضا حتى لا يتضرر البدن ببقاء النجاسة، فكثرة صب الماء أثناء خروج الخارج أدعى لذهاب النجاسة والقذر، وهذا مطلوب شرعا.
فهذان أمران: العصر ووضع الميت في حالة تعينه على خروج الخارج، ثانيا: كثرة صب الماء لنقائه وتنظيفه.

بعد هذا تكون مرحلة النقاء المقصودة، وذلك أن يأخذ خرقة فيلفها على يديه، ثم يصب الماء على السوءة ويبدأ بغسلها وإنقائها كالحي سواء بسواء، أي: كما أنه ينجي نفسه ينجي الميت كذلك.
لكن قال بعض العلماء: لو تيسر وجود أي حائل، حتى ولو كان بالأكياس الموجودة الآن فلا حرج، فإنما العبرة بأن ينقى الموضع، سواء كان الحائل خرقة أو غيرها.
[حرمة مس عورة من بلغ سبع سنين]
وقوله:
[ولا يحل مس عورة من له سبع سنين]: هذا دقة الفقهاء رحمة الله عليهم! فإنه لما ذكر غسل الميت، كان من المناسب لذلك أن يذكر فيها مس عورة الأجنبي مع وجود الحاجة للغسل، فقال رحمه الله: (ولا يحل مس عورة من له سبع سنين).


والمس يكون بالمباشرة، أي: الإفضاء إلى الشيء بالشيء بدون وجود حائل؛
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(من مس ذكره) وإذا وجد الحائل فلا يقال: مس؛ وربما يقال: لمس، وإن كان بعض العلماء يقول: اللمس يقتضي عدم وجود الحائل، لقوله تعالى: {فلمسوه بأيديهم} [الأنعام:7] فأيا ما كان: فالمس أن تباشر البشرة البشرة، لكن إذا وجد الحائل فلا يقال إنه مس، وإنما يقال: وضع يده، أو أدخل يده أو نحو ذلك.

وحينئذ يضع على يديه اللفافة وينجيه إذا كان ابن سبع سنين فما فوق، وإذا كان دون السبع السنين فلا حرج على أمه وأبيه أن يغسلاه، إلا أن بعض العلماء فرق فيما يكون فيه شبه الرجال كبعض الأبناء الذين يبرز مبكرا في سنه حتى يشابه الرجال، وقد تفتن به المرأة ولو كانت قريبة، فهذا يحتاط فيه، وكذلك بالنسبة للصغيرة المشتهاة أو التي تكون أشبه بالكبيرة وفيها فتنة، فهذه مسائل مستثناة، نص العلماء على استثنائها بأعيانها.

[استحباب مس سائر الجسد بخرقة]
قال رحمه الله:
[ويستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة]: أي: سائر جسد الميت.


لقد بين لنا رحمة الله عليه أن أول ما يبدأ به الإنسان إنما هو إنقاء الموضع بعد خروج الخارج، وقال: إن هذا الإنقاء إذا كان الميت ابن سبع سنين فما فوق ينبغي أن يكون بحائل، فلما تكلم على الحائل من أجل العورة ناسب أن يذكر أن هذا الحائل الأفضل أن يكون هناك مثله لبقية الجسد؛ لكن ليس للعلة التي في العورة وإنما لعلة أخرى، وذلك أن وجود الخرقة يصبح بمثابة المعين على دلك الجسد ونقائه، بخلاف ما إذا باشرت اليد الجسد، فإنها لا تقوى على إزالة الوسخ والقذر كما لو كان بليفة أو نحو ذلك من الأشياء.

فقال: (يستحب)، أي: يستحب في سائر البدن أن يكون هناك شيء من القماش أو نحوه على اليد، حتى إذا مرت اليد على الجسد كان ذلك أدعى لمكان الخشونة أن يزيل الأقذار أو ما علق بجسد الميت مما هو غريب عنه.

[صفة وضوء الميت]
قال المؤلف: [ثم يوضئه ندبا].(ثم) هنا جاءت للترتيب، والمصنف رحمه الله ذكر لنا أنك تبدأ بإنقاء العورة من الفضلات وغيرها، ثم بعد ذلك قال: وتكون هناك خرقة لغسل سائر البدن، فأدخل مسألة الخرقة لسائر البدن بعد الطهارة، فكأنها فاصل فقال: (ثم) ولم يقل: (و) كأنه يشير إلى أن مسألة الخرقة لسائر البدن مسألة مقحمة ذكرت لنظيرها، وإلا فالأصل بعد انتهائك من تغسيل عورته وإنقاء الموضع من النجاسة أن تنتقل إلى توضئة الميت،
فننبه على الترتيب:
فيبدأ الإنسان أولا بإنقاء الموضع من النجاسة، ثم يبدأ بتوضئة الميت، فبعد أن ينجيه كما ينجي الحي نفسه من النجاسة، ويرى حينئذ أنه قد انقطع الخارج النجس، وأن النجاسة قد زالت عن الموضع؛ ينتقل إلى الوضوء، وهذه هي السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل بدأ صلوات الله وسلامه عليه بإزالة الأذى،
قالت أم المؤمنين:
(فغسل الأذى، ودلك بيديه الأرض بعد أن غسل الموضع)، وهذا يدل على أن السنة في غسل الميت كالحي: أن يبدأ بإزالة النجاسة ثم الوضوء.وتوضئة الميت هي أول ما يكون في غسله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أمر النساء أن يغسلن بنته: (ابدأن بميامينها -يعني: جهة اليمين- وبأعضاء الوضوء منها)، فدل على أن السنة البدء بالوضوء، وكان عليه الصلاة والسلام: (إذا اغتسل ابتدأ بالوضوء)، فغسل كلتا يديه، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وبعد ذلك أخر غسل رجليه إلى آخر غسله؛ لكن هنا في الميت قالوا: لا يؤخر؛ لأن العلة التي في الحي ليست موجودة في الميت، فيبتدأ بتوضئة الميت.


وقوله: [ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه]: بعد أن بين لنا أن نوضئ الميت، قال: (ولا يدخل الماء في فمه ولا في أنفه) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتغسيله، وإنما يقتصر على غسل الشفتين، ولذلك قالوا: يبل يديه ثم يمر بهما على شفتيه؛ لأنهما من الخارج، وذلك يغني عن إدخال الماء إلى الداخل، وهكذا بالنسبة لمنخريه،
قالوا: إنه يبل يديه ويدخلهما في المنخرين كأن الماء قد دخل، وإن كانت الصورة أشبه بالمسح؛ لكنهم قالوا: إن صب الماء على اليد ثم إدخالها أقرب إلى الغسل، فصار المسح أخف من الصورة التي ذكرناها، فكأن الصورة أقرب إلى الغسل.

وعلى هذا: فبدلا أن يمضمض الميت ويدخل الماء في أنفه يقوم بوضع الماء على شفتيه، بوضع إصبعيه مبلولتين على شفتيه، وإدخالهما في منخريه أيضا،
وهذا ما ذكره المصنف رحمه الله بقوله:
[ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء]: أي: لا يدخل الماء في فمه ولا أنفه.


إذا بهذا نكون قد بينا أن السنة توضئة الميت.

[حكم البسملة والنية عند غسل الميت]
قال رحمه الله:
[ثم ينوي غسله ويسمي].قوله: (ثم ينوي غسله): هذا فيه خلاف بين العلماء: فالحنفية لا يرون نية الغسل، والجمهور يرون نية الغسل وهو الصحيح، وأصل المسألة مفرعة على غسل الحي أيضا؛ والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنها تشترط، ولا يصح الغسل من الجنابة لحي إلا بنية، وقد قدمنا هذه المسألة وذكرنا الأدلة وخلاف العلماء والراجح فيها، فالصحيح أنك تنوي.


وبناء على ذلك: ما فائدة أن نقول: إنه لا بد من النية؟
فائدة ذلك: أنه لو أخذ الميت ووضع في موضع عمم الماء على بدنه، كأن يوضع في بركة صغيرة -بطريقة أو بأخرى- ويكون عالي الصدر، ويمر الماء على سائر جسده بقصد التنظيف، أو صب الماء عليه بقصد تنظيفه لا بقصد القيام بحق الغسل، فحينئذ نقول: هذا الغسل ليس تعبديا؛ لأنه لم ينو، فحينئذ يلزم أن يعاد الغسل مرة ثانية، هذا هو وجهه.وأما الدليل على اشتراط النية فقد قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:5] وقال تعالى: {فاعبد الله مخلصا له الدين} [الزمر:2] فأمر سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له، والغسل من الجنابة دين وعبادة، ولا يمكن للإنسان أن يقصد القربة بهذا العمل -أعني: الغسل- إلا بالنية؛ لأن الغسل يقع على صورة العبادة ويقع على صورة العادة، فيقع على صورة العبادة كما في غسل الجنابة وغسل النفساء، ويقع على صورة العادة كالغسل للاستحمام، فلما كان الفعل في حد ذاته صالحا للعادة وصالحا للعبادة؛ فإنه لا يمكن تميز العادة عن العبادة إلا بالنية، فأصبحت واجبة،
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
(إنما الأعمال بالنيات) والغسل عمل.


وقوله: (ويسمي) أي: يقول: (باسم الله) عند تغسيله.
وقوله: [ويغسل برغوة السدر رأسه ولحيته فقط]: وذلك بأن يأخذ إناء مخصوصا ويضع السدر فيه ويضربه فيه حتى تصير له رغوة كرغوة الصابون، فيأخذ هذه الرغوة النقية من السدر ويغسل بها رأسه وشعر وجهه، والأصل في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر).
يتبع

ابوالوليد المسلم 26-03-2022 02:58 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (164)

صـــــ(1) إلى صــ(24)

[الشروع بتغسيل الشق الأيمن ثم الأيسر]
وقوله:
[ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر]: يغسل شقه الأيمن؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) ثم شقه الأيسر، إن كان مضطجعا ووجهه إلى السماء فتبدأ بالشق الأيمن للميت لا للغاسل.وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو أحرمت بعمرة وأردت أن تتحلل بعد انتهائك منها، أو بحج وأردت أن تتحلل منه، فهل السنة إذا جاء الحلاق ووقف قبالة وجهك أن يبدأ بيمينه الذي هو يسار لك، أو بيساره الذي هو يمين لك؟

الصحيح: أن العبرة بك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الحلاق شقه الأيمن،

فلما قال: ناول الحلاق شقه الأيمن؛ دل على أن العبرة بالميت الذي يغسل، فيبدأ بيمين الميت لا بيمين الغاسل؛ لأنه ربما وقف الغاسل فكان يمينه يسار الميت، وكان يساره يمين الميت، فحينئذ العبرة بالميت نفسه؛ لأن الغسل متصل به، والعبادة كذلك متصلة به، فحينئذ يبدأ بيمين الميت،

لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأن بميامينها) فأسند اليمين إليها، والإضافة تقتضي التخصيص.
وعلى هذا: تكون اليمين للميت لا للغاسل، فإن كان مضطجعا إلى السماء تأتي إلى الناحية اليمنى وتصب الماء عليها، وتغسل أعلاه ثم أسفله، بأن تقلبه حتى يعطيك قفاه، فتغسل الجهة التي تلي الظهر من اليمين؛ تبدأ بهذا ثلاثا.

وبعض العلماء يرى: أنه عليك أن تبدأ بالغسلة الأولى بالشق الأيمن، ثم تقلبه على شقه الأيسر وتغسل الأيسر، ثم تعود ثانية إلى الأيمن، ثم تعود ثالثة بنفس الطريقة؛ كأنه يرى أن الغسلة تتم بالجمع بين اليمين واليسار،
ولكنهم قالوا: الأرفق والأولى أن يبدأ باليمين فينتهي منه كلية، فيغسله ثلاثا، ثم بالشمال ويغسله ثلاثا فينتهي منه بعد انتهائه من اليمين.
[عدد الغسلات في غسل الميت]
وقوله:
[ثم كله ثلاثا].أي: كل جسده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح بدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، وقالت أم المؤمنين: (ثم أفاض الماء على رأسه -وفي رواية- على جسده).، فهذا يدل على أن الإفاضة تكون بعد البدء بالشق الأيمن؛ تشريفا لليمين، ثم انتهائه من الأيسر.
وقوله:
(يفيض الماء على جميع جسده)؛ لا بأس باستعمال الوسائل التي يستعان بها في صب الماء كخرطوم المياه ونحو ذلك، فإن شئت أن تصب الماء عليه وتدلك بيديك فابدأ بشقه الأيمن، ثم اقلبه على الأيسر وادلكه بيدك، ثم عمم سائر الجسد، ويكون غسلك لسائر الجسد ثلاث مرات، والثلاث المرات أن تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ ثم تبدأ بأعلاه وتنتهي بأسفله؛ حتى يكون أدعى لضبطك؛ لأنك لو فرقت بدون إمعان ربما تكررت الثلاث متفرقة على البدن، فتكون غسلت بعض البدن ثلاثا وبعضه مرتين وبعضه مرة.
فالأولى: أن تبدأ بترتيب جسده، فتبدأ بأعلاه فتعتني بكتفيه وجهة رأسه، ثم إلى صدره ثم إلى ظهره، ثم بعد ذلك على ما أقبل من أسافل رجليه ثم ما أدبر.
وبعض العلماء يقول:
إنما يبدأ بالأعلى وهو منقلب على وجهه إلى السماء، فتبدأ بأعلاه ثم إلى أسفله، ثم تقلبه وتبدأ بأعلاه وهو مقلوب إلى أسفله.والأمر واسع، والعبرة أن الماء يعم الجسد سواء بهذه الطريقة أو بتلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه) ولم يحد في ذلك حدا معينا.

وقوله: [يمر في كل مرة يده على بطنه]: أي: يمر في كل مرة يده على بطنه برفق؛ حتى إذا كان هناك خارج يخرج ويبقى نظيفا نقيا كما هو المقصود من غسله وتنظيفه.
وقوله: [فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى ولو جاز سبعا].
أي: فإذا كان بعد الثلاث قد نقي فلا إشكال، وإن لم تنقه الثلاث زيد وترا، فيكون بخمس ويكون بسبع على حسب الحاجة؛

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن) فهذا يدل على أن الأمر مرتبط بالنظافة؛ ولذلك يختلف الوضع في الصيف والشتاء، فقد يكون في الصيف أسهل وفي الشتاء أصعب، وقد يكون بعض الأجساد به من النتن والقذر ما يحتاج إلى غسله سبعا أو تسعا أو إحدى عشرة مرة؛ فالعبرة في هذا الأمر بتنظيفه وإنقائه.

[وضع الكافور في الغسلة الأخيرة]

وقوله: [ويجعل في الغسلة الأخيرة كافورا]: أي: لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور) والكافور ميزته أنه يطرد الهوام، فإذا وضع في قبره فإن الهوام لا تبادر بالهجوم على جسد الميت، وذلك أدعى لبقاء الجسد أكثر مدة،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلن في الآخرة كافورا) يدل على أنه من السنة.

[حكم استعمال الأشنان في الغسل]

وقوله: [والماء الحار والأشنان، والخلال يستعمل إذا احتيج إليه]: الماء الحار على ضربين: حرارة نسبية معقولة يستعان بها على خفة الماء على الجسد وسهولته، وكذلك تأثيره على القذر الموجود على ظاهر جسد الإنسان.
وحرارة شديدة يتفسخ معها الجسد أو يتضرر منها الجلد.
والعلماء رحمهم الله لا يعنون بالحرارة النوع الثاني الذي يضر بالبدن ويؤذيه، إنما المراد الماء الحار الذي يقصد به الرفق بالبدن، وسهولة إخراج القذر منه، والسبب في ذلك أن الجلد إذا غسل بماء حار سهل إخراج ما علق به من الأوساخ والأقذار.


فذكر رحمه الله أن الأصل أنه يغسل بماء عادي غير حار ولا بارد ينفع الجسد بإنقائه وتطهيره وإزالة القذر الذي عليه، ولكن إذا وجدت الحاجة لوجود أوساخ أو أقذار عالقة بالبدن؛ فحينئذ يصب الماء الحار، ولكن بشرط ألا تكون حرارته شديدة بحيث تؤذي البدن وتضر به.
و (الأشنان): كالصابون ونحوه، فيمكن أن يغسله بالصابون إذا احتيج إليه كما إذا كان شديد القذر، فبعض الموتى يكون على حالة يحتاج معها إلى وجود الطيب أكثر، كأن يغسل بالصابون وما في حكم الصابون من رغوة الأطياب الموجودة في عصرنا الحاضر، فحينئذ يوضع في الماء ويغسل برغوة الصابون ونحوه، وهو الذي يسميه العلماء بالأشنان.

(والخلال): وهو تخليل أسنانه ومواضع الأذى بالأعواد، لكنها في الأصل تكون في الأسنان، ولو احتيج لتخليل الأسنان كأن يكون بينها أقذار أو أوساخ، كما يقع في بعض الحوادث، أو يكون هناك فضلة دم في الفم، فلا يستطيع أن يزيلها إلا بشيء من الأعواد الصغيرة التي تستعمل لتخليل المنافذ الموجودة بين الأسنان، فهذه تستعمل إذا احتيج إليها، وإلا فالأصل أنها لا تستعمل.

[حكم قص شعر الميت وتسريحه وقص أظافره]
وقوله: [ويقص شاربه ويقلم أظفاره]: أي: إذا أراد أن يغسل الميت يقص شاربه؛ لأن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قص الشارب، وهي من الفطرة كما في الصحيح في حديث: (خمس من الفطرة، ومنها: قص الشارب) والشارب للعلماء فيه كلام من ناحية إحفائه وقصه، فبعض العلماء يرى أن العبرة في القص أن يبدو إطار الشفة؛ لأنه إنما ندب وعد من الفطرة أن يقص الشارب؛ لأنه إذا نزل الشارب على الفم أنتن وتعلقت به فضلات الطعام، والأطباء يمدحون ويفضلون تخفيف الشارب؛ لأنه قد يضيق نفس الإنسان بكثرة وجود الفضلات المنتنة على شاربه وقد يتضرر، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- على هذه الخصال.


فلو كان شاربه طويلا متدليا على فمه، فتقص أطراف الشارب، وهذا من السنة، وذهب بعض العلماء إلى أن الميت لا يقص منه شيء؛ لأن أجزاءه تحفظ كما هي، وهذا القول هو الأقوى وهو الصحيح، أي: أنه لا يمس شيء منه إلا إن وجدت الضرورة والحاجة لإزالته بحيث يحكم بجوازه، كأسنان الذهب إذا أمكن إزالتها بدون ضرر، إما إذا وجد ضرر فتبقى.

فلا يزال من جسده إلا ما دل الدليل على حرمة بقائه، وأما ما عداه فيبقى على الأصل، وإنما يكلف بقص شاربه لو كان حيا، أما وقد مات فقد انتهى التكليف، فلسنا مطالبين إلا بما قاله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين) فنحن مطالبون بالغسل والتكفين، وأما بالنسبة لقص الأظفار والشعر فلا.
وقال بعضهم:
إذا قصت أظفاره وضعت في الكفن، وإذا قص شيء من شعره وضع في الكفن، كأنهم يرون أن الأصل أن يحافظ على كامل الجسد بما فيه، فهم يسلمون بهذا الأصل.
ولذلك نقول:
إن قص الشارب والأخذ من الأظفار الأولى تركه؛ فإن فعله أحد لم ينكر عليه، وله أجر إن شاء الله؛ لأن هذا أمر اجتهد فيه بعض العلماء، ورأوا ذلك من الإحسان إلى الميت، وإن كان الذي تميل إليه النفس وتطمئن إليه -بدلالة النصوص- عدم مس شيء من هذا.
وقوله:
[ولا يسرح شعره].أي: ولا يسرح شعره خوف التساقط؛ ولذلك كرهه بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا غلب على ظنك تساقط شعره فلا تسرحه؛ لأنه سبب في زوال جزء من البدن.
وقوله:
[ثم ينشف بثوب]: بعد أن بين رحمه الله صفة الغسل وطريقة الغسل، ذكر أنه إذا تم الغسل، فإنه ينشف بثوب، فيؤخذ شيء من المناديل الكبيرة وتوضع عليه، وتمر على أعلى بدنه ثم على أسفله، حتى يتم تنشيف جميع البدن، ولا يوضع مباشرة بعد التغسيل في الكفن؛ لأنه لو وضع مبلولا على الكفن قد ينتن؛ ولذلك ينشف حتى يكون أدعى لمس الطيب له وحصول المقصود من بقاء الكفن عليه دون وجود ضرر البلل.


وقوله: [ويظفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها].

(ويظفر شعرها) أي: المرأة، (ثلاثة قرون) كما ورد في تغسيل زينب رضي الله عنها من حديث أم عطية رضي الله عنها.

(ويرمى وراءها) أي: وراء المرأة ولذلك قالوا: إن هذا يؤكد أن المعروف في النساء إنما هو ظفر الشعر ورده إلى الخلف، وأما القصات الموجودة ونحوها مما يكون في تفصيل الشعر فهذا مما أخذه بعض الناس من العادات الواردة عليهم،
ولكن يقول العلماء: إنه يظفر ويسدل وراءها، وهذا أفضل ما يكون في المرأة في تسريحها لشعرها.

[حكم خروج شيء بعد الغسلة السابعة]
وقوله:
[وإن خرج منه شيء بعد سبع حشي بقطن، فإن لم يتماسك فبطين حر].بعد أن بين صفة الغسل، فبعد الفراغ من الغسل بتجفيفه وتهيئته للتكفين، ترد مسألة يعتني العلماء بها وهي: لو خرج شيء بعد تغسيله سبعا فالحكم فيها: أن يحشى الموضع -وهو الدبر- بقطن، لكي يتماسك ويمنع الخارج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة لما غلبها الدم: (أنعت لك الكرسف -والكرسف: هو القطن، أي: ضعيه في الموضع حتى يمنع خروج الدم- قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك.قال: تلجمي).

فإن لم يتماسك قالوا: فبطين حر، كل ذلك من باب الأسباب التي تعين على حفظ طهارته.
وقوله: [ثم يغسل المحل ويوضأ]: أي: ثم يغسل محله ولا يعاد الغسل.فإذا غسلته سبعا وانتهيت منه، ثم بعد ذلك خرج الخارج فلا تعد الغسل، بل إذا انتهى الغسل بالسبع وخرج منه الخارج فإنك تحشي الموضع بالقطن، فإن لم يتماسك فبطين حر، ثم تغسل النجاسة الموجودة في الموضع نفسه، ولا تطالب بالزائد على ذلك.

وقوله: [وإن خرج منه بعد تكفينه لم يعد الغسل].
أي: لا تلزمه إعادة الغسل، حتى قال بعض العلماء: إذا خرج بعد التكفين فإنه لا يلتفت إليه ولا يشتغل به ولا حتى يغسل؛ لأنه قد فعل ما وجب من تغسيله وتكفينه، وذلك يشبه ما لو وضع في قبره فإنه آيل إلى الفناء والتلف؛ فلو خرج الخارج لم يؤثر.

الأسئلة

[تحديد وقت نية الغسل]
q هل تكون النية بعد غسل أعضاء الوضوء أم تكون قبل غسل أعضاء الوضوء، علما بأن المصنف رحمه الله ذكرها بعد غسل أعضاء الوضوء؟

aالنية تكون عند بداية توضيء الميت، وأما بالنسبة لإزالة نجاسته وقذره فلا تشترط له نية؛ لأن إزالة النجاسة من الوسائل، وإنما تشترط النية في المقاصد لا في الوسائل، فلو أن إنسانا- مثلا- دخل إلى دورة المياه وقضى حاجته، ثم بعد ذلك غسل الموضع الذي خرج منه الخارج ولم ينو هذا الغسل للصلاة أجزأه؛ لأن مقصود الشرع تنظيف هذا الموضع بغض النظر عن كونك ناويا للصلاة أم لا، فعلى هذا تكون النية عند ابتداء توضيء الميت إذا كان يريد أن يوضئه، وإذا كان يريد أن يغسله مباشرة فإنه يكون عند ابتداء غسله والله تعالى أعلم.


[حكم خروج فضلات بعد إتمام الغسل]
q لو أنه بعد غسل الميت وعند القرب من الانتهاء ولكن دون سبع غسلات خرجت منه فضلات، هل يعيد الغسل من الأول أم يبني في عدد الغسلات؟

a هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، منهم من يحد الثلاث، ومنهم من يحد الخمس، ومنهم من يحد السبع كحد أعلى؛ فالذي يحد السبع يقول: إذا كان قبل السبع يعود ويغسل حتى يصل إلى السبع؛ فإن وصل إلى السبع فهي أقصى ما يصل إليه، وحينئذ لا يلزمه أن يعيد بعد هذا غسله، وإنما يغسل الموضع ويقتصر عليه.


[حكم غسل العبد لسيدته]
q هل يغسل العبد سيدته؟

a العبد لا يغسل سيدته، وإنما يغسلها زوجها، وتغسل الأمة سيدها، والحكم مختص بالسيد مع أمته لا بالسيدة مع عبدها والله تعالى أعلم.


[حكم من أوصي إليه بالغسل وهو جاهل به]
q إذا أوصى الميت بأن يغسله شخص، وهذا الشخص معروف بالجهل، هل يعمل بالوصية أم لا؟

a هذا فيه تفصيل: إن أمكن تعليم هذا الشخص، أو أن يكون بجواره من يعلمه الغسل، فهذا أبلغ في إنفاذ وصية الميت، وأما إذا لم يمكن، وأصر أن يغسله وحده فلا عبرة بتغسيله إذا كان لم يؤمن معه الإخلال بالواجبات والأمور المطلوبة، وحينئذ تكون الوصية في غير محلها، ويعتد بغسله على الوجه المعتبر والله تعالى أعلم.


[مسألة في تغسيل ذوي الأمراض المعدية]

q أشكلت علي مسألة، وهي ترك غسل من به جدري أو مرض يخاف انتقال العدوى من الميت إلى المغسل وفي الحديث حديث (لا عدوى ولا طيرة) أثابكم الله.
a مسألة العدوى وانتقال العدوى هذه فيها نصوص تكلم العلماء رحمهم الله عليها، وظن أنها متعارضة، وإن كان ظاهرها يوهم التعارض، فالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة) وصحت عنه الأحاديث بإثبات العدوى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام قال -كما في الصحيح-: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإن وقع بأرض فلا تخرجوا منها) وقال أيضا: (فر من المجذوم فرارك من الأسد).

فللعلماء في هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض أوجه: منهم من يقول: العدوى منفية، ويستثنى من ذلك المجذوم والطاعون؛ لأن التعارض ليس من كل وجه، فيقولون: تنتقل العدوى في الأمراض التي فيها عدوى، ويكون المجذوم والطاعون أصلين وما مثلهما ملتحق بهما، فالمجذوم في الجلد والطاعون في داخل البدن، فكأنه ذكر أصل الأمراض المعدية الظاهرة، والأمراض المعدية الباطنة.وهذا هو أقوى الأقوال جمعا بين النصين، ويكون قوله: (لا عدوى)، أي: أنها لا تضر بنفسها كما كانت العرب تظن وتعتقد في الجاهلية أن العدوى بذاتها مضرة، ويغفلون مسبب الأسباب ورب الأرباب سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل هو الذي سبب كونها معدية، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد بقوله: (فمن أعدى الأول؟) فكأنه يقول لهم: لو كانت العدوى بذاتها لكانت أشبه بالأمور الطبيعية، فلا إله والحياة طبيعة؛ لكنه قال: (من أعدى الأول؟) أثبت أن الأول به عدوى، وأن العدوى قد وضعها الله عز وجل، ولم ينكر عليهم دخول الإبل المريضة على الإبل الصحيحة وعدواها، وقد قال: (لا يورد ممرض على مصح).
فإذا: كأن الحديث ليس على ظاهره: (لا عدوى)، فليس المعنى أنها لا عدوى بالكلية، والنفي من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون على ظاهره في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كاملا، وليس المراد: النفي الكامل من كل وجه الذي يقتضي نفي صحة الإيمان والحكم بالكفر.
فإذا: النفي يكون مسلطا على العموم، ويراد به أمر معين يقصده عليه الصلاة والسلام لاعتقاد ونحوه، فيكون قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: لا تظنوا أن العدوى بذاتها تؤثر، وهذا الصحيح؛ فإن الناس في العدوى على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول يقول: لا عدوى بالكلية، وينفيها كلية، ويخالف الحس والواقع الذي يشهد بوجودها.

ومنهم من يقول: العدوى ثابتة وهي بنفسها تضر، كما كان عليه أهل الجاهلية.وجاء الشرع وسطا بين الأمرين، فقال: العدوى موجودة؛ ولكن لا تضر بنفسها، فتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن الحس شاهد لانتقال العدوى؛ ولذلك قال: (لا يورد ممرض على مصح) وعلى هذا يكون الأمر في قوله: (لا عدوى) راجع إلى العقيدة، أي: اعتقاد أن العدوى تؤثر بنفسها.ولذلك ترى الرجل من قوة إيمانه ربما ورد على المريض -وهو قوي اليقين بالله سبحانه وتعالى- رغم أن مرضه معد ولا ينتقل إليه، والعكس: أنه قد ينتقل من إنسان متحفظ خائف يتعاطى الأسباب، ومع ذلك ينقل الله إليه المرض، وقد أشار الله إلى هذا: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة:243] قال الله لهم: (موتوا) لأنهم ظنوا أن الخروج من أرض الوباء نجاة، وأنهم يسلمون من الهلاك بالسبب نفسه، وهذه العقيدة يهدمها دليل الكتاب والسنة، وهي الغلو في الأسباب، والإسلام وسط يقرر الأسباب لكن يعطيها حقها دون إفراط ودون تفريط.

فأنت تقول: العدوى مضرة وموجودة وثابتة، والحس شاهد، والله سبحانه وتعالى قد جعل الأسباب والمسببات، وسبحان من قدر وحكم وعدل، وهو أعلم وأحكم سبحانه، لكن لا نغلو في هذا الشيء.ومن هنا ترى أن بعض الذين يغلون في العدوى -كبعض الأطباء- يبالغ فيها حتى يعتقد أنه لو دخل إنسان صحيح على إنسان مريض فإنه سيصاب بالعدوى لزاما، ويغفل قضية العقيدة، وهو أنه مهما كان الأمر ومهما كان السبب فإن لله عز وجل قدرة تفوق هذا الأمر كله؛ ولذلك قال الله تعالى: {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} [الأنبياء:69].فالنار لو ألقي فيها الحي احترق وصار فحما ورمادا، فقلبها الله لإبراهيم بردا وجعل بردها سلاما، ولم يجعل بردها هلاكا؛ ولذلك قال بعض العلماء: لو قال الله: (بردا) لأهلكته من البرد، ولكن الله سبحانه قال: (بردا وسلاما).

فالمقصود أن نكون وسطا، ولا نقول لا عدوى بالكلية، ولا نبالغ في العدوى، فتجد الإنسان إذا دخل على صاحب مرض معد، ربما دخل والخوف يرجف في قلبه، وتجد عنده غلو في مثل هذه الأمور كما هو شأن بعض الأطباء أصلحهم الله، حتى يصير طبه وبالا عليه، ولا تكون عنده العقيدة القوية في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ينبه العلماء على أنه لا ينبغي المبالغة في الأسباب.
انظر الآن إلى أهل البادية: ربما جاء الرجل منهم على الأرض، وتجد الأرض مليئة بالتراب، والماء مليء بالتراب، وفيه من النتن ما فيه، ومع ذلك يشربه متوكلا على الله معتمدا عليه ولا يضره، وتجد الرجل في الحضر، والماء نقي وفيه من وسائل المحافظة ما الله به عليم، ومع ذلك تجده خائفا من كثرة ما يقولون في العدوى، حتى بالغوا في الأشياء وأصبح الإنسان لا يأمن في شيء يأكله أو يشربه، وهذا هو المحظور.

المحظور أن يبالغ في الأسباب وتعد أنها هي المعول عليها، وأنها هي المؤثرة وهذا لا ينبغي، بل ينبغي ربط قلوب الناس بالله سبحانه وتعالى.
فالمريض مرضا جدريا أو معديا إذا قلنا للحي: اغسله.يقول العلماء: تعارضت مصلحتان: مصلحة حي ومصلحة ميت، فمصلحة الميت بتغسيله، ومصلحة الحي بسلامته من ضرره، فإن قلنا له: اغسله.تعرض للضرر في الغالب، والغالب كالمحقق، والله تعبدنا بغلبة الظن، فقال: {فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة:10] فغالب الظن علم.ونحن بغالب ظننا بالاستقراء والتجربة أنه لو دخل ابتلي؛ فحينئذ نبني على هذا الغالب ونقول: فلو غسله، فقد حصلنا مصلحة الميت وفوتنا مصلحة الحي، فقالوا: ننظر في مصلحة الحي، فلو قلنا له: ييممه؛ فإنه يسلم من ضرر تغسيله؛ لأنه ربما علق به ما يؤدي به إلى الضرر، فينتقل إلى التيمم؛ لأن تغسيل الميت له بدل، وفوات روح الحي أو تعرضه للمرض المعدي لا بدل له، والقاعدة: أنه إذا تعارضت مصلحتان، مصلحة لها بدل ممكن أن تحقق به، ومصلحة لا بدل لها، دفعت المصلحة التي لا بدل لها بالمصلحة التي لها بدل.
فنقول: ييممه؛ لأن التيمم بدل عن الغسل، وكما أن الذي لا يمكن غسله كالمحروق نظرنا فيه إلى مصلحة الميت، وكذلك أيضا من باب أولى وأحرى أن ينتقل المرض إلى الحي كالأمراض الجلدية المعدية، وكذلك أيضا الأمراض الوبائية التي تكون في أجهزة الإنسان، كل ذلك مما يشرع فيه أن ينتقل إلى التيمم، لكن إذا وجدت وسائل الحفظ فيجب تغسيله مع تعاطي هذه الأسباب، والله تعالى أعلم.
[علة تخصيص غسل الرأس واللحية برغوة السدر]
q لماذا خص المصنف غسل الرأس واللحية برغوة السدر دون سائر الجسد؟

a أشار بعض العلماء رحمة الله عليهم وبعض المعاصرين أيضا إلى أن تفل السدر لو أنه غسل به وجه هذا لعلق في شعره؛ ولذلك يقتصر على رغوة السدر حتى لا تتخلل في الشعر فيصعب إخراجها ويتضرر الإنسان، والمعروف أن رغوة السدر تكون سالمة من تفل السدر؛ لأن السدر سيدق، ثم بعد ذلك يوضع في الماء، وهذا السدر لو أنه خلطه وحرك الماء وغسل الوجه به لعلقت فضلات السدر في الشعر وفي مغابن الوجه، ولذلك قالوا: لا يغسله إلا بالرغوة، فيأخذ السدر ويضربه بيده حتى تكون له رغوة، فيجمعها ثم بعد ذلك يغسل بها الوجه، والمقصود يتحقق بهذه الرغوة.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.




ابوالوليد المسلم 26-03-2022 03:37 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (165)

صـــــ(1) إلى صــ(23)

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [3]

من مات وهو محرم فإنه يعامل كما لو كان حيا محرما، فلا يطيب، ولا يلبس مخيطا، ولا يغطى رأسه.
إلى غير ذلك من محظورات الإحرام، ومن قتل شهيدا في أرض المعركة فإنه يدفن بثيابه التي قتل فيها، ولا يغسل ولا يصلى عليه؛ لعلو منزلته، ورفعة شأنه، ومن تعذر غسله كالمحروق والمجذوم فإنه ييمم، وأما من مات غير مقتول ولا مدفوع من الكفار -حتى وإن كان في أرض المعركة- فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
أحكام غسل من مات محرما وتجهيزهبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [ومحرم ميت كحي، يغسل بماء وسدر]: تقدم بيان الأحكام المتعلقة بغسل الميت، وبعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الغسل وهي الصفة التي يمكننا أن نصفها بأنها عامة، شرع رحمه الله في بيان الصفة التي تتعلق بالنوع المخصوص، وهو المحرم، والمراد بالمحرم: من تلبس بالإحرام، فدخل في أحد النسكين، الحج أو العمرة.ثم إن المصنف رحمه الله لما بدأ بالصفة العامة، وأتبعها بالصفات الخاصة دلنا ذلك على المنهج الفقهي، وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبين أمرين: أحدهما عام، والثاني خاص، أن يبين القاعدة العامة أولا، ثم بعد ذلك يبين ما استثني من هذا العموم، أو هذه القاعدة.

فبعد أن بين لنا صفة الغسل عموما قال رحمه الله: (والمحرم كحي) أي: أن المحرم حكمه حكم الحي إذا مات، وذلك من جهة كونه يمنع من الطيب ويمنع من إلباسه المخيط، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله.

قوله: [ومحرم ميت كحي]: المحرم وصف إنما يصدق على الإنسان إذا تلبس بأحد النسكين وهما الحج أو العمرة، ولذلك يقال: أحرم بالشيء إذا دخل في حرماته، كما يقال: أنجد إذا دخل نجدا، وأتهم إذا دخل تهامة.فالعلماء -رحمهم الله- يقولون: أحرم إذا نوى أحد النسكين أو هما معا.بناء على ذلك: لو أن الإنسان نوى العمرة أو نوى الحج فخرج دون أن يصل إلى الميقات، أو قبل أن يصل إلى الميقات ثم توفي، أو كان في الميقات واغتسل من أجل أن ينوي، ثم توفي، فإننا نعامله معاملة الحي الذي ليس بمحرم، ونغسله بالصفة التي تقدمت، ولا يحضر علينا أن نمسه بالطيب وغيره من محظورات الإحرام.فيشترط أن يكون المحرم قد تلبس بالنسك، فلو خرج لأجل العمرة كأن يخرج من مكة إلى الحل سواء التنعيم أو غيره، ثم في الطريق توفي، فإننا نعامله معاملة الحلال، والعكس بالعكس، فلو أنه نوى ثم بعد النية مباشرة توفي، كما إذا لبى بأحد النسكين أوهما معا فقال: لبيك حجا، أو: لبيك عمرة، أو: لبيك عمرة وحجا، ثم توفي فإنه بعد دخوله في نسك الإحرام نحكم بكونه يعامل معاملة المحرم سواء بسواء، كذلك أيضا لو مضى فأتم عمرته، وقبل أن يتحلل ولو بلحظة واحدة توفي، كأن يكون طاف وسعى بين الصفا والمروة، ثم توفي قبل أن يحلق أو يقصر فإنه لا زال في حكم المحرم، ونعامله معاملة المحرم، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.ولو أنه في الحج رمى جمرة العقبة ثم توفي ولم يتحلل، أو توفي عشية عرفة كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو ليلة العيد، فإننا لا نحكم بمعاملته معاملة الحلال، بل نبقيه على حكم المحرم، ونحكم بالمحظورات في حقه كما نحكم بها في حق الحي.يقول رحمه الله: [ومحرم ميت]: يعني إذا مات المحرم.
[كحي]: أي: حكمه حكم المحرم الحي، فلا نمسه بالطيب، ولا يخمر وجهه، ولا يغطى رأسه، وكذلك بقية المحظورات، والأنثى والرجل في المحظورات كل على تفصيل.والأصل في هذا الحكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفا بعرفة، ووقف معه أصحابه رضي الله عنهم فسقط رجل من على دابته فوقصته فقتلته، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا وجهه، ولا تغطوا رأسه) وفي رواية السنن: (ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) اعتبرها الأصوليون رحمة الله عليهم بمثابة التعليل، أي: أمرتكم أن تنزلوه بهذه المنزلة، وأن تحظروا عليه هذه الأمور؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا، فكأنه يقول لهم: حكمه حكم المحرم سواء بسواء.فلذلك قال المصنف رحمه الله يجمل هذه الأحكام: [ومحرم ميت كحي] أي: في تغسيله وما يحظر عليه كالحي.
وقوله: [يغسل بماء وسدر]: لأنها السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر)، وللسدر خاصية في طرد الهوام وكذلك في جلد الإنسان وظاهر بدنه.
قوله: [ولا يقرب طيبا]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمسوه بطيب) فهذا يدل على أنه لا يطيب، ولأن المحرم يحظر عليه الطيب، وهذا نص حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) فنهى عليه الصلاة والسلام عن الطيب في البدن والطيب في الثياب.

وقوله: [ولا يلبس ذكر مخيطا]: ولا يلبس الذكر المخيط، فالذكر محظور عليه المخيط، والمخيط: ما أحاط بالعضو، وليس المراد به أنه يخاط، كما سيأتي تفصيله في الحج، فبعض الناس يظن أن المخيط: ما فيه خيط، وهذا خطأ، فما من ثوب إلا وفيه خيوط، وإنما المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو،
ودليلنا على هذا الأمر الذي نص عليه جماهير العلماء أن المخيط أو الثوب الذي يحيط بالعضو محظور: أن النبي صلى الله عليه وسلم حظر إحاطة العضو في أعلى البدن، وإحاطته في أوسطه، وإحاطته في أسفله، وإحاطته كله،

فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا القمص -والقميص كان لأعلى البدن- ولا العمائم -وهي تحيط بالرأس- ولا السراويلات)، فمنع من إحاطة أسفل البدن بقوله: (السراويلات) وأعلى البدن بقوله: (القمص)، وأعلى أعلاه بقوله: (العمائم)؛ لأن العمامة ليست مخيطة، وإنما تحيط بالرأس وتغطيه،

ومن ثم قال العلماء: إنه إذا أحاط بالعضو فإنه يأخذ حكم المخيط، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من دقته عليه الصلاة والسلام في اختيار المناسب للحكم، وهو من أمثل ما يكون في الشمولية في منهج التشريع.

ووجه ذلك: أن الثياب منها ما يتعلق بأعلى البدن، ومنها ما يتعلق بأسفله، ومنها ما يجمع الجميع؛ فالبرنس فيه غطاء للرأس، وفيه غطاء لجميع البدن، ففصل كل جهة.
وعلى هذا فإن من الأخطاء الشائعة الذائعة الآن والتي أصبحت تنتشر: تفصيل ثياب الإحرام بوجود ما يجعلها في حكم الفوط، وهذا النوع الذي انتشر الآن يجعل له أزارير، فيأتزر بإحرامه ثم يظن أن هذا خارج عن المخيط، فوضعوا له زرا من الحديد، وهذا من وهمهم، فيظنون أن المخيط ما كان فيه خيط، والواقع أن المراد بالمخيط: ما أحاط بالعضو.

ومن لبس المخيط فإن عليه الفدية، ومن لبس هذه الأزر التي يكون فيها الحديد فإنها تأخذ حكم ما فصل للبدن؛ لأنها تعتبر كالمحيطة بالبدن، لأنها فصلت على البدن تفصيلا لا على سبيل الإزار المعهود المعروف.وقوله: [ولا يغطى رأسه]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس العمائم، والعمامة تغطي الرأس، وسميت عمامة لأنها تعم الرأس بالغطاء.
[ولا وجه أنثى]: هذا على الأصل في الإحرام في حديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) على أن المرأة في الإحرام إحرامها في وجهها وكفيها، فإذا رأت الرجال الأجانب سدلت، كما في حديث أسماء رضي الله عنها وكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،

وحديث أسماء أقوى من حديث أم المؤمنين عائشة: (أنهن كن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بهن الركب سدلت إحداهن خمارها)، فدل على أن السدل يستثنى من هذا، وعلى هذا فإنه لا يغطى.
وقوله: [ولا يغسل شهيد]: شرع رحمه الله في بيان الأحكام الخاصة بالشهيد، والمناسبة بين الشهيد والمحرم، أن كلا منهما فضله الله عز وجل، وشرفه وكرمه وخصه بهذه الخصائص.

فالمحرم لا يعامل معاملة الحلال، تشريفا له وتكريما وعاجل بشرى، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) أي: يبعث على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة التي قبض الله روحه وهو متلبس بها.كذلك فإن الشهيد به آثار طاعة، وآثار قربة هي من أحب القربات وأجلها عند الله تبارك وتعالى، وهي الشهادة في سبيل الله عز وجل.

والشهيد سمي شهيدا: قيل: لأن الملائكة تشهده، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جابرا رضي الله عنه لما قتل أبوه يوم أحد جعل يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، فما زال يبكي، فقال له: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)، فقالوا: إنه لفضله سمي شهيدا.وقيل: لشهادة الخير له.
وقالوا: إنه سمي شهيدا لأن الملائكة تشهده، بمعنى تحضره، ويقال: شهد الشيء إذا حضره، قال تعالى: {وما كنت من الشاهدين} [القصص:44] أي: من الحاضرين، فشهود الشيء: الحضور.
[حكم تغسيل الشهيد]وقوله: [ولا يغسل شهيد]: الشهيد هو شهيد المعركة، ولذلك خصه المصنف رحمه الله بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في المعركة، لأن هناك من هو في حكم الشهيد، كالمبطون والغريق والحريق والهدمى والنفساء والطاعون، وغيرهم ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمن قتل دون ماله أو عرضه أو أهله.فالشهادة من حيث هي -كما يقول العلماء رحمهم الله- مراتب،
أشرفها وأكرمها وأقدسها: الشهادة في سبيل الله عز وجل بالقتل؛ لأن صاحبها قد باع أعز ما يملكه وهي نفسه التي بين جنبيه، ولذلك بشر أهل هذه الصفقة فقال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} [التوبة:111].
فالمقصود أن الشهيد هنا شهيد المعركة، وهو الذي يقتل في المعركة، ويشمل ذلك: أن يكون قد بقيت منه أجزاء أو بقي كاملا، فيكون قد طعن، أو بقرت بطنه، أو ضرب في مقتل فمات، أو ذهبت أشلاء أو أعضاء منه وبقي جزء من بدنه، فالحكم كله سواء، سواء بقي البدن كاملا أو بقي أكثر البدن، أو جزء من البدن، وكل ذلك يعامل هذه المعاملة، فلو أنه انفجر وبقيت منه أشلاء وأعضاء، فإنها تجمع كما هي، ثم تدفن بحالها، وهذا على الأصل في الميت أنه إذا تلف بحرق أو نحو ذلك، فإنه يؤخذ ما بقي من بدنه ثم بعد ذلك يعامل معاملة بقية الجسد، على تفصيل عند العلماء رحمة الله عليهم من حيث الغسل وعدم الغسل بالنسبة لغير الشهيد، وشهيد المعركة هو الذي يموت في ساحة المعركة.

وعلى هذا فشهيد غير المعركة فيه تفصيل، فهناك الشهيد الذي يقتل دون ماله، ودون عرضه، ودون نفسه، والمقتول ظلما كأن يعتدى عليه، فهؤلاء لهم أحكام تخصهم، وهم في حكم الشهداء.
والشهادة أصلا لا تكون إلا في القتال بين المسلمين والكافرين؛ لكن لو أن طائفتين من المسلمين وقع بينهما قتال تأويل وشبهة، كما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في معركتي صفين والجمل، فإنه يعامل معاملة الشهيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين).

أما بالنسبة لفئة الجماعة، وهي التي تكون مع إمامهم، فإن من قتل مع إمامهم فهو شهيد بدون خلاف بين العلماء، ويعامل معاملة الشهيد.

[حكم تغسيل من قتل في فئة باغية]

ولكن اختلف في الفئة الباغية، لو أن قوما خرجوا وقتلوا هل يعاملون معاملة الشهداء، بمعنى: أنهم لا يغسلون ولا يكفنون؟ اختلف العلماء في هذه المسألة،

والذي مال إليه جمع من المحققين: أنهم يأخذون حكم الشهداء، والدليل على ذلك: إجماع الصحابة ومن حضر من التابعين في قضية صفين والجمل، فإنهم لم يغسلوا أحدا ممن قتل فيها،

مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمار: (تقتله الفئة الباغية)، كما في الحديث الصحيح، فوصف فئة معاوية بأنها باغية، ومذهب أهل السنة والجماعة أن الحق مع علي رضي الله عنه وأرضاه، وأن معاوية معذور في اجتهاده وله أجر واحد، ولـ علي رضي الله عنه الأجران، وعلى هذا فإن الصحيح أن من قتل في الفئة الباغية فإنه يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن، وهذا اختاره جمع من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني.

وقوله: [ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلما إلا أن يكون جنبا]: قال العلماء: السبب في ذلك أن شهيد المعركة دمه وجراحه تشهد له بين يدي الله عز وجل.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون دم، والريح ريح مسك).أي: ما من إنسان يطعن ولا يجرح ولا يخدش، قليلا كان ذلك الكلم أو كثيرا.(إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما): أي: كأنه قتل من ساعته.

وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في السنن أنه قال في شهداء أحد: (زملوهم بدمائهم فإني شهيد لهم) أي: أشهد لهم بين يدي الله عز وجل أنهم قتلوا في ثيابهم، ولم يأمر عليه الصلاة والسلام بغسل شهداء أحد، فدلت هذه النصوص على أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل، ولذلك يترك على حاله إلا إذا كانت به نجاسة، فلو أنه أثناء المعركة أصابته نجاسة أو بعد أن قتل جاءت النجاسة على طرف من أعضائه أو يده أو نحو ذلك، فإنها تغسل، فلو أنه قاتل كافرا ثم خرج عليه دم الكافر، ثم قتله الكافر، وأصبح أثر دم الكافر على يده، فإنا نغسل يده غسل تطهير من النجاسة، وليس المراد به غسل الميت المعهود.
حكم تغسيل من قتل ظلماوقوله: [ومقتول ظلما]: أي: وهكذا المقتول ظلما، هذا أحد القولين عن العلماء، كأن يعتدى على إنسان في عرضه فدافع فقتله الباغي، فإذا قتل دون العرض فهو شهيد، وهو مقتول ظلما، وهكذا لو أنه اعتدي عليه فلم يشعر إلا بإنسان قد هجم عليه يريد أخذ ماله أو يريد قتله، وفي الحديث: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) فالمقتول ظلما هو الذي يقتل بدون حق، فإذا قتل بدون حق فللعلماء فيه قولان: قال طائفة من العلماء: المقتول ظلما في غير ساحة المعركة يعامل معاملة الميت طبيعيا، فيغسل ويكفن ويصلى عليه.
والقول الثاني: أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما يدفن بجراحه كالشهيد.

والصحيح: القول الأول؛ لأن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قتل، فغسلته أمه أسماء رضي الله عنه وعنها، فدل هذا على أن المقتول ظلما باق على الأصل،

ولأن القاعدة في الأصول: (إعمال الأصل حتى يدل الدليل على الاستثناء)، فالأصل عندنا في كل ميت أنه يغسل حتى يدل الدليل على الاستثناء، فاستثنى الدليل الشهيد ولم يرد دليل باستثناء من قتل ظلما.

وإنما قاس بعض العلماء من قتل ظلما على الشهيد، بجامع كون كل منهما فاتته نفسه بدون حق؛ ولكن هذا القياس محل نظر، وذلك لأن القياس في العبادات ضيق، فقد يكون في الشهيد معنى ليس بموجود في المقتول ظلما، ولذلك قالوا: إنه يختص الحكم بالشهيد في المعركة دون غيره.
وهذا هو الصحيح، وعلى هذا يكون تشريك المصنف -رحمه الله- بين المقتول ظلما مع الشهيد على المرجوح، والراجح أن المقتول ظلما يغسل ويكفن ويصلى عليه.
حكم تغسيل الشهيد أو المقتول ظلما إذا كان جنباوقوله: [إلا أن يكون جنبا]: أي: إذا كان الشهيد والمقتول ظلما عليه جنابة، فحينئذ يغسل، وللعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: أن الشهيد إذا كان جنبا أنه يغسل، بناء على أن الجنابة قد وجبت عليه.

والقول الثاني: أنه لا يغسل، وهذا مذهب الجمهور.وهكذا المرأة إذا قتلت في المعركة وكانت شهيدة، فإنها لا تغسل، وكذا لا تغسل غسل الجنابة إذا قتلت وهي جنب، أو قتلت وقد طهرت من حيضها لكنها لم تتمكن من الغسل، فالصحيح في هؤلاء كلهم أنه لا يغسلون، وذلك إعمالا للأصل.وأما من قال بأنهم يغسلون فقد استدل بحديث حنظلة غسيل الملائكة،

وذلك أنه رضي الله عنه: (لما سمع الهيعة -وهي: الصيحة- خرج إلى القتال فقتل، وكان قد جامع أهله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله، فقالوا: إنه كان على جنابة، فسمع الهيعة فترك أهله -أي: لم يغتسل من الجنابة- ثم انطلق حتى قتل في سبيل الله شهيدا).

قالوا: لما غسلت الملائكة حنظلة دل على أن من قتل في سبيل الله شهيدا أنه يغسل إذا كان جنبا، والصحيح: أنه لا يغسل؛ لأن حديث حنظلة حجة لنا لا علينا، فإنه يدل على أنه لا يغسل، حيث إنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته، ولم يأمر الصحابة أن يغسلوه، فدل على أن الأصل باق في أن الشهيد لا يغسل، وأنه يلفف في ثيابه على الأصل الذي قررناه في كل شهيد.
يتبع





ابوالوليد المسلم 26-03-2022 03:39 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (166)

صـــــ(1) إلى صــ(23)



[حكم دفن الشهيد بثيابه التي قتل فيها]

وقوله: [ويدفن في ثيابه بعد نزع السلاح والجلود عنه]: أي: سواء كانت الثياب يسيرة أو غالية، فالحكم واحد أنه يدفن في الثياب التي قتل فيها،

وإذا لم يكن له ثوب قال العلماء: إذا جرد عن ثيابه أو احترقت ثيابه، أو نزعت عنه، فأصبح عاريا، قالوا: يشرع حينئذ أن يوضع شيء على عورته ثم ينزل إلى قبره ويلحد، دون أن يكفن الكفن المعروف،

وهذا على الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (زملوهم في ثيابهم)، فأمر في الشهداء أن يزملوا في ثيابهم، وأن يكونوا بنفس الثياب التي لقوا بها العدو، لا يزاد عليها ولا ينقص منها.

لكن يؤخذ من الثياب السلاح ونحوه، كمحامل الأسلحة ونحوها، ويؤخذ بثيابه ثم يلف فيها، قال صلى الله عليه وسلم في مصعب رضي الله عنه، وقد كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه وإذا غطوا قدميه بدا وجهه::
(غطوا بها وجهه، واجعلوا على رجليه إذخرا أو شيئا من الإذخر)، وهذا فيه دليل على أنه إذا كانت ثيابه تسع أعلى البدن دون أسفله فإنه حينئذ يقدم ويشرف أعلى البدن ثم يترك الأسفل مكشوفا، فإذا كان هناك إذخر فإنه يستر بالإذخر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واجعلوا على رجليه إذخرا أو شيئا من الإذخر)، فدل على استثناء الإذخر وحده دون غيره.

حكم من قتل شهيدا ثم سلبت ثيابه

وقوله: [وإن سلبها كفن بغيرها]: قال بعض العلماء: تستر عورته.

وقال بعضهم: بل يكفن الكفن الذي يكون سترا لسائر بدنه، وهذا قول من يعمل الأصل،

ويقول: إن الأصل أنه يحسن الإنسان في كفن أخيه المسلم، فلما كان الشهيد قد فاتت ثيابه واحترقت، أو زالت أو سلبها العدو أو أخذها،

قالوا: حينئذ يزمل في ثياب ولو كانت جديدة، ثم بعد ذلك يدفن.
[حكم الصلاة على الشهيد]

وقوله: [ولا يصلى عليه]: هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم، وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل، فإن الصلاة على الميت فيها من الفضل والخير للأحياء والأموات ما الله به عليم،

ولذلك: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، فيشفعون له إلا شفعهم الله فيه)، وهذا يدل على فضل الصلاة على الميت والدعاء له، فجعلها الله فضلا للأحياء والأموات، أما الأحياء فجعل فيها القراريط من الأجر، وما يكون لهم من أجر الدعاء للميت.
وأما الأموات فلأنه خير يكون لهم قبل أن يلقوا الله عز وجل بدعاء إخوانهم وسؤال الرحمة، وقد يتجاوز الله عن سيئات الميت بسبب خالص دعاء الأحياء، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص الدعاء للأموات، وأن على الإنسان إذا دعا لأخيه الميت فعليه أن يخلص في الدعاء ويجتهد، فلما كانت الشهادة يرجى لصاحبها من الخير والفضل ما يرجى، صار كأنه ارتفع عن هذا كله، لعظيم ما له عند الله من المنزلة، والدرجة، مع أن الصلاة فيها دعاء واستغفار له، فكأنه قد جاوز ذلك إلى رحمات وجنات وفضائل من الله سبحانه وتعالى تغنيه عن الدعاء.

ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن فتنة الشهيد في قبره: هل يسأل الشهيد في قبره ويفتن بالفتان؟ قال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، أي: كفى ببارقة السيوف على رقبته فتنة، وذلك لأنه قتل في سبيل الله مقبلا غير مدبر بائعا نفسه لله عز وجل، فكأنه قد أقبل على الله سبحانه وتعالى بخير عظيم.

ولذلك ورد في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (تكفل الله.

وفي رواية: تضمن الله) والضمانة والحمالة والكفالة من الله سبحانه وتعالى تدل على ما له عند الله سبحانه وتعالى من الفضل العظيم والثواب الجزيل.
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة، تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش) وهذا يدل على فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل، فلا يصلى عليه، لأنه في رحمة منذ أن تقبض روحه ويقتل في سبيل الله عز وجل.
والشهيد لا يجد من قبض الروح وفتنة السكرات كقرصة النحلة، وتؤخذ روحه -كما يقول بعض العلماء- كأنه أشبه بطرفة العين، تؤخذ منه كأحسن ما يكون من سلت الروح دون أذى ودون ضرر، ثم ما إن تقبض روحه حتى يكون له الفضل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر).

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه ذكر شهداء أحد وأنهم لقوا الله عز وجل فرضي عنهم ورضوا عنه).

وفي الحديث الصحيح أن جابرا رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، فقال له: يا جابر! إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها) وهذا يدل على فضل ما يكون للشهيد، وكلما أخلص وصدق مع الله، وكلما كان بلاؤه في الجهاد أعظم؛ كانت شهادته أرجى.

وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله لا يكلم أحدا إلا من وراء حجاب إلا ما كان من أبيك فقد كلمه كفاحا، وقال: تمن عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من فضائل الشهادة.
فتبين أنه لا يصلى على الشهيد لعظيم ما له عند الله من الفضل والمثوبة.

نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا هذا الفضل الكريم.
[حكم من سقط من دابته في المعركة]

فقوله: [وإن سقط من دابته، أو وجد ميتا ولا أثر به، أو حمل فأكل، أو طال بقاؤه عرفا؛ غسل وصلي عليه]: هذه الصور تستثنى من الأصل في الشهيد، فعندنا أصل عام، وهو تغسيل كل ميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وعندنا ما استثني الشهيد من الأصل العام في تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، بقي دفنه، ثم هذا الشهيد يفصل فيه،

فلا يقال: إن كل من قتل أنه يحكم بكونه يعامل هذه المعاملة، بل الأمر فيه تفصيل، فالشهيد الذي لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه هو الذي تقبض روحه في أرض المعركة، وشرط ذلك أن يكون مقتولا، بمعنى: أن نفسه تفوت بسبب القتل.

فلو سقط من على دابته فإن السقوط قتل، ولكن لم يقتل شهيدا في هذه الحالة، وإن كان له فضل ومنزلة، وما من عبد يسأل الله الشهادة أو يأخذ بأسبابها -ولا تكون له- إلا بلغه الله منازل الشهداء.هذا من جهة الفضل؛ لكن من جهة الحكم شيء آخر، فإنه لو زلت به دابته فسقط، أو كان في المعركة ثم حصل أمر فاتت به نفسه دون قتل، فإنه وإن فاتت نفسه في أرض المعركة؛ لكن بغير شهادة، فحينئذ يعامل معاملة غير الشهداء؛ كما إذا سقط من دابته، أو قتل أو لم يوجد به أثر، كأن وجد بكامل أعضائه دون أن يوجد فيه ضرب أو طعن مما يدل على أنه قتل، فحينئذ يحتمل أن يكون مات قدرا، كأن يكون مات من فجعة أو صدمة، فيبقى على الأصل.
فإننا متحققون أن الأصل فيه أن يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن؛ لكن لما شككنا هل مات بالشهادة أو مات بغيرها ولم توجد دلالة ظاهرة، قدم الأصل على الظاهر، وهذا من تقديم الأصل على الظاهر؛ لأنه ليست به علامة ولا أمارة ولا دليل يدل على أنه مات بسبب القتل، وبناء على ذلك يحتمل أن يكون مات من فجعة أو صدمة، أو وافق قدرا فتوفي في أرض المعركة، أو رأى عزيزا عليه قتل، أو رأى حالة قتل ففجع بها ومات، وهذا محتمل،

ولذلك قالوا: دلالة الظاهر من كونه في أرض المعركة، لا تكفي في الخروج والعدول عن الأصل، بل نبقى على هذا.
لكن لو أنني رأيته بعيني أو رآه من يوثق بخبره أنه دفعه عدو من على دابته، فسقط بدفع العدو ومات، فإنه في حكم الشهيد، وحينئذ قالوا: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.

وقال بعض العلماء: بل يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بدمائهم).
فامتنع التغسيل عند أصحاب القول الثاني لمكان الدم، فإذا كان موته بدون جرح، كأن يكون دفع أو رض فمات بالرض،

قالوا: إنه لا يعامل معاملة الشهيد، وهذا بناء على أن منع التغسيل لأثر الدم، وليس المراد به للشهادة بذاتها.والقول الأول له وجهه من جهة الأصل من كونه شهيدا.هذا بالنسبة للصور التي ذكرها.بقيت معنا صورة.

إذا: عندك حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد ميتا في أرض المعركة ليس به دليل ولا عليه أمارة تدل على أنه قتل، فحينئذ تبقى على الأصل من كونه يحتمل أنه مات قدرا أو مات بفجعة أو بدفعة أو نحو ذلك، فحينئذ تغسله وتكفنه وتصلي عليه، وتعامله معاملة الأصل.
[حكم من أكل أو شرب بعد طعنه الذي مات به]

الحالة الثانية: أن تجد به أثر القتل كأن يطعن أو -مثلا- يكون به جراح ثم يحمل من أرض المعركة، لكنه يأكل أو يشرب، فحينئذ يعامل معاملة الأصل، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن.أما بالنسبة لحالة كونه يأكل ويشرب،

فإنهم يقولون: إذا أكل أو شرب بعد الطعن وبعد الأثر الذي كان به من الضرب، فإننا في هذه الحالة قد تحققنا حياته بعد طعنه، فيخرج عن حكم الشهيد، وموته بعد ذلك وإن كان بأثر القتل؛ لكنه تبع لا أصل، والموت وإن كان بأثر الضربة في سبيل الله عز وجل فإنه شهيد في الأصل؛ لكنه لا يعامل معاملة الشهيد.
والدليل أن سعدا رضي الله عنه وأرضاه ضرب في أكحله، فسأل الله عز وجل أن يؤخر موته حتى يقر عينه من بني قريظة؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، وهذا من شدة غيرته رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله، وهو من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فسأل الله عز وجل ألا يموت حتى يقر عينه بما يشفي غيظه ويروي غليله فيهم، فكان الحاكم فيهم رضي الله عنه وأرضاه.
فلما ضرب في أكحله أخر الله أثر الجرح، وهذه آية من آيات الله عز وجل، فسلم رضي الله عنه حتى حمل إلى بني قريظة في قصة التحكيم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فقال: (أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم،

فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات).ثم انتقض عليه جرحه، فمات رضي الله عنه وأرضاه فغسله النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وصلى عليه، وعامله معاملة الأصل، مع أن الجرح الذي مات بسببه هو في الأصل من المعركة.
فلذلك قال العلماء: لما حي حياة مستقرة بعد الجرح نزل منزلة الأصل، فصار الحكم خاصا بمن قبض في أرض المعركة، دون من جلب عن أرض المعركة، ودون من أكل أو شرب بعد طعنه وضربه الذي فاتت به نفسه.

حكم من طعن فطال بقاؤه عرفا ثم مات

وقوله: [أو طال بقاؤه عرفا؛ غسل وصلي عليه]: من طال بقاؤه عرفا فماله مما يحتكم فيه إلى العرف، فإن قال أهل الخبرة والأطباء: إن حياته مستقرة، فحينئذ لا يعامل معاملة الشهيد، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، أما لو قصرت مدته وبقي بعد الطعنات ينزف في أرض المعركة، ثم فاتت نفسه، فإنه شهيد،

وعلى هذا: فالشهيد يستوي فيه أن يضرب فيقتل من ساعته، أو يضرب ثم تسيل دماؤه فينزف وينزف لمدة ساعة أو ساعتين فإن هذا ليس بطول؛ لأن النزف القاتل يشمل مثل هذا، فحينئذ يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه.

[حكم تغسيل السقط والصلاة عليه]

قال رحمه الله: [والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه]: السقط: هو الذي تسقطه المرأة الحامل جنينا، سواء كان ذكرا أو أنثى، هذا السقط إذا بلغ أربعة أشهر، (مائة وعشرين يوما)،

لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيؤمر بكتابة أربع كلمات، عمره وأجله وعمله، وشقي أو سعيد)، فهذا يدل كما يقول العلماء رحمة الله عليهم على أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وهذا ما تقرر على ظاهر الحديث،

ويقولون: إذا بلغ هذا القدر فإنه يعامل معاملة الطفل الحي، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويسمى -أي: يسميه أبوه- سواء كان ذكرا أو كان أنثى.
[التيمم لمن تعذر غسله]

وقوله: [ومن تعذر غسله يمم].بعد أن بين لنا حكم غسل المحرم، وحكم تغسيل الشهيد، وما يستثنى من الشهداء، شرع رحمه الله في بيان المسائل التي تلتحق بهذا.

والمناسبة بين هذه المسائل وبين الشهيد والسقط ومن تقدم، أن الجميع خارجون عن الأصل، فلهم حكم خاص يستثنى من الأصل.والذي لا يمكن تغسيله يشمل أصنافا من الناس، منهم المحروق، فإن المحروق إذا غسل ينتفط جلده ويصعب في هذه الحالة أن يحصل النقاء الذي هو مقصود الشرع، بل إن صب الماء عليه فإنه يزيده ضررا، وحرمة الميت المسلم ميتا كحرمته حيا،

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا في الإثم)، فجعل للميت المسلم حرمة، فلو أننا غسلناه أنتن جسده وأنتن جلده ونفط، وحصل من الضرر الشيء الكثير.
كذلك لو كان به مرض في جلده بحيث إذا صب عليه الماء نفط، وكما في المجدور فإنه لو غسل فإنه يتضرر جلده.

وكذلك أيضا إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله، كما هو الحال في الأمراض المعدية إذا لم يمكن تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه الأحوال كلها استثنى العلماء رحمهم الله هؤلاء من الأصل وقالوا: إنهم لا يغسلون، وإنما ييممون.

وهكذا لو فقد الماء فلم يوجد، كأن يموت شخص بالصحراء، فحينئذ ييمم؛ لأن الشرع جعل طهارة التراب قائمة مقام طهارة الماء، فهذا أصل، فإذا وجبت طهارة الماء ولم يمكن القيام بها عدل إلى البدل الشرعي وهو التراب، فييمم الميت، والتيمم أن تضرب بيديك على الأرض، ثم تمسح بهما وجه الميت وكفيه، فإذا فعلت ذلك فإنه حينئذ يحصل المقصود، كما تقدم معنا في صفة التيمم الشرعية.

ما يجب على من يغسل ميتا

وقوله: [وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسنا]: شرع رحمه الله في الآداب التي ينبغي على من قام بتغسيل الموتى أن يراعيها، فعلى الغاسل ستر ما رآه إذا لم يكن حسنا، فإن تغسيل الأموات تحصل فيه أمور غريبة، فربما غسل الإنسان ميتا، فرأى من آثار وبشائر الخير ما يكون عاجل بشرى له في الدنيا قبل الآخرة.
وقد يرى أمورا فظيعة تقع في وجهه وحاله أثناء تغسيله، فنسأل الله السلامة والعافية وأن يتولى أمورنا بالستر الجميل.

ولذلك قالوا: على الغاسل أن يحسن إلى الميت، فإن وجد عورة سترها، كأن يرى وجهه بحالة لا تسر، أو يراه تغير وجهه، وإن رأى خيرا نشره، فإن بعض الأخيار إذا غسلته رأيت في وجهه من النور والبهاء ما لا ترى معه وحشة الأموات، وقد رأينا ذلك وهو أمر مجرب، وكثيرا ما يقع للعلماء والأخيار والصالحين أن ترى بشائر الخير عليهم في تغسيلهم.
فما رأى من الخير نشره؛ لأن هذا يعين على الطاعة، كأن يكون عالما أو صاحب سنة أو إنسانا له فضل على المسلمين، أو إنسانا فيه استقامة، أو عرف بخصلة من خصال الخير كالصدقات أو صلة الرحم أو القول بالمعروف والأمر بالطاعات، فمثل هذا إذا نشر ما وقع أثناء تغسيله من البشائر يعين الناس على حب الخير، ويعينهم على إحسان الظن بأخيهم، وهو أدعى للترحم عليه وذكره بالجميل، والاقتداء به، وكل ذلك مقصود شرعا.
ومن هنا إذا رأى المغسل بشائر طيبة ذكرها لما فيها من الخير ولما فيها من الدعوة إلى الخير، وهذا يحقق مقصود الشرع.وإذا رأى غير ذلك ستره؛ إلا أن يكون صاحب هذا الأمر صاحب بدعة وسوء وشر، كأن يكون إنسانا معروفا بأذية المسلمين والتربص بهم، فمثل هذا إذا نشر ما وقع له من الشر انزجر الناس وخافوا وارتدعوا من فعله، أو كان صاحب بدعة وهوى، أو كثير الإعراض عن أوامر الشرع، أو فاسقا متهتكا مستخفا بحدود الله؛ فحينما يذكر ما يكون له من الأمور السيئة، فإنه يكون قد زجر الناس وخوفهم وردعهم، وكان عاجل بشرى الشر له، ولما ينتظره عند الله عز وجل من العقاب وأعظم، إلا إذا رحمه الله برحمته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الخير والشر ببشارة،

(.فمر عليهم بجنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال: وجبت.ثم مر بجنازة فأثني على صاحبها شرا، فقال: وجبت.

فقال عمر: يا رسول الله! مر بجنازة فأثني على صاحبها خيرا فقلت: وجبت.

ثم مر بالثانية فأثني عليها شرا فقلت: وجبت، فما وجبت؟

قال: أما الأول فأثنيتم عليه خيرا؛ فقد وجبت له الجنة، وأما الثاني: فأثنيتم عليه شرا؛ فقد وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).

فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وجبت وجبت) فنشر الخير ونشر الشر، فنشر الخير لما ظهر عليه من آثار الخير من ثناء الناس عليه، وذكر ما يكون للآخر من عاجل العقوبة عند الله عز وجل على ما ذكر عليه بالسوء والشر، فقال: (أنتم شهداء الله في الأرض).

فما وقع من الأمارات والعلامات على الميت إن خيرا ذكر، وإن كان شرا ستر؛ ولذلك قال العلماء رحمة الله عليهم: ينبغي أن يكون الغاسل ينبغي أن يكون أمينا؛ لكي يحفظ الأسرار ولا يبثها، ولا يذكر ما يكون له من الأمور الغريبة في تغسيل الميت.


ابوالوليد المسلم 30-05-2022 07:32 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (167)

صـــــ(1) إلى صــ(23)

الأسئلة

[حكم الصلاة على الميت في المقبرة]

q ما حكم الصلاة على الميت قبل الدفن أو بعده في المقبرة؟
a الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في القبور، والعلماء رحمهم الله يقولون: إن الأصل أن لا يصلى في القبر.

ومذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم أن الصلاة في القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام؛

لما ثبت في صحيح مسلم: (لما توفيت المرأة السوداء ولم يخبروه بشأنها ودفنوها ليلا، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يدل على قبرها، فدل على قبرها فوقف عليه وصلى، ثم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) فقوله: بصلاتي، يدل على التخصيص؛ ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بهذه الخاصية، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله.
وذهب جمع من العلماء إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي على الميت إذا كان على نعشه في المقبرة، ويصلي على قبره أيضا إلى أربعة أشهر،

ومنهم من يقول: إلى شهرين، ومنهم من يقول: ما لم يتغير أو يغلب على الظن تغيره.فهذه ثلاثة أقوال في المسألة، وإن كان الأقوى والذي تطمئن إليه النفس أنه لا يصلى عليه، وأن من شهده وصلى عليه فإنه يجزئ؛ لأنه لو فتح هذا الباب فما من جنازة تشيع إلا وفيها أقوام قد تكون فاتتهم الصلاة عليه، فيسترسل الناس في هذا، وكلما جاء إنسان يعيد الصلاة عليه حتى يتأخر في دفنه؛ ولذلك إذا صلي عليه في قبره فإنه يحبس ويؤخر عن دفنه،

والمشروع في السنة: أنه بعد الانتهاء من الصلاة الصلاة العامة عليه فإنه يبادر بدفنه، كما في الحديث: (أسرعوا بالجنازة).

ولذلك: فالذي تطمئن إليه النفس أن يبادر بالدفن، ولا يؤخر من أجل الصلاة عليه، وإنما يصلى عليه الصلاة العامة، فمن أدركها فالحمد لله، ومن فاتته فإنه لا يفوته أن يدعو له ويستغفر ويترحم عليه، ومن صلى فلا حرج إذا كان يتأول القول الذي يرى الصلاة عليه؛

لكن الأصل: أن المقابر تحفظ عن الصلاة، ويمنع من الصلاة فيها إعمالا للأصل؛ لما ذكرناه من الأدلة التي دلت على حظر الصلاة في القبور، وتخصيصها بصلاة دون صلاة محل نظر، خاصة وأن اللفظ عام، والله تعالى أعلم.
[مسألة الصلاة على شهداء أحد]

q ذكرتم -حفظكم الله- أن الشهيد لا يصلى عليه، وقد أشكل علي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد؟

a النبي عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد كالمودع، ما صلى عليهم بعد المعركة، ولم يثبت نص صحيح أنه صلى عليهم بعد المعركة، إنما ثبت في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام صلى عليهم بعد سنين، وكان -كما ذكر العلماء- كالمودع لهم عليه الصلاة والسلام، ومعنى الخصوصية فيه قوي؛ وللنبي عليه الصلاة والسلام من الخصوصيات ما ليس لغيره،

ومن هنا يقوى القول الذي يقول: بأن هذا النص مما خرج عن الأصل، خاصة وأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا مع غيرهم، ولذلك لم يفعله مع شهداء بدر ولم يفعله مع غيرهم، ويختص هذا الحكم بشهداء أحد.
يقوي طائفة من العلماء أنه صلى كالمودع لهم، وإن كان ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه زارهم، وكانت زيارته مودعا لهم كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، ويرون أن هذه الصلاة من جنس التوديع كزيارته لهم عليه الصلاة والسلام؛ لكن كونه يدل على مشروعية الصلاة على الشهداء هذا محل نظر، فالنصوص واضحة في عدم مشروعية الصلاة على الشهداء.
وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره في قصة الصحابي جليبيب الذي كان معه في الغزوة رضي الله عنه، أنه قتل فقده النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني أفقد جليبيبا فابحثوا عنه، فطلبوه فوجدوه مقتولا، فدفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه، وقال: إني شهيد له يوم القيامة)، فهذا يدل على عدم مشروعية الصلاة على الشهداء، وهو يؤكد ما قرره جماهير العلماء من أنه لا يشرع أن يصلى على الشهداء؛
وإنما شذ الحسن وسعيد بن المسيب فقالا: يشرع أن يغسل الشهيد ويصلى عليه، وهذا القول من مفردات المسائل، ويحتمل أنهما لم يطلعا على النصوص التي دلت على عدم تغسيل الشهيد وعدم الصلاة عليه، والله تعالى أعلم.
غسل وتكفين من وقصته دابته وإن كان مجاهدا

q الذي يكون في المعركة ثم سقط عن دابته أو وجد ميتا ولا أثر للجراح به، لماذا لم يأخذ حكم الشهداء، والقاعدة: أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، حيث إنهم خرجوا للجهاد وقاتلوا ولكنهم قتلوا بالسقوط ونحوه، فلماذا لم يأخذوا حكم الشهداء؟

a هم آخذون منزلة الشهداء، ومنازل الشهداء تختلف؛ لكن مسألة أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن، هذه تختص بما ورد، وذلك نظرا لأن الجراح فيها دماء والبلاء بها أعظم، والشهادة فيها أكثر أذية وضررا وبلاء في الغالب؛ فإنه يختص الحكم بمن كانت فيه الجراح وقتل بجراحه، وأما من قتل بالصعق وبغير جرح فهذا لا يشمله الحكم، وقد نص على هذا جماهير العلماء كما ذكرناه في المسألة التي تقدمت؛

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زملوهم بثيابهم) ونهى عن تغسيلهم، وهذا يدل على أن المراد الدم، وفي نفس الحديث الذي أمر بتزميل الثياب قال عليه الصلاة والسلام: (فإنه ما من جرح يجرح في سبيل الله ... ).
فقوله: (فإنه) جملة تعليلية، أي: أمرتكم بتزميلهم في ثيابهم؛ لأن جراحهم تشهد لهم؛ وهذه من العلل المنصوصة؛ لأنه أشار إليها بالنص، وإن كان العلماء رحمة الله عليهم استنبطوها بالمعنى، فإنه لما قال: (زملوهم) ثم قال: (فإنه) يدل على التعليل؛ لأن قوله: (فإنه) بمثابة تعليل لما قبلها، والجمل التعليلية تعتبر حجة في التعليل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يديه) أي: أمرتكم بهذا لأن أحدكم لا يدري أين باتت يده.

وقال في الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) أي: أمرتكم بهذا، فانظر إلى قوله: (لا تمسوه بطيب) وقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) تجده دليلا على أن هذه الجمل بمثابة التعليل؛ فكأنه يقول: لا تغسلوا الشهداء إذا جرحوا؛ لأن جراحهم تشهد لهم، والله تعالى أعلم.
[حكم ستر العورة عن الزوج أو الزوجة عند التغسيل]

q هل يجب ستر العورة إذا غسل الرجل امرأته أو غسلت المرأة زوجها؟
a إن نظر كل من الزوجين لعورة الآخر في الحياة إنما قصد به أن يحفظ الإنسان نفسه من الفتنة، وأن يكون سببا لعصمته بإذن الله عز وجل من الوقوع في الحرام، وهذا المعنى ليس موجودا في تغسيل الميت؛ ولذلك يقتصر على تغسيلها بالقيام بحقها دون نظر إلى هذه الأمور؛ خاصة وأنه لا يأمن من الوقوع فيما يحظر عليه.والله تعالى أعلم.

[حكم إلقاء الميت في البحر]

q ما حكم إلقاء الميت في البحر، والسفينة تبعد مسافة طويلة عن جميع الموانئ؟

a يقول بعض العلماء في هذه المسألة: إنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ثم يرمى في البحر.وهذا نوع من القبر له؛ لأن البحار تطوي من بها وتستره، والمقصود من دفن الميت: ستره؛ ولذلك جاء في كتاب الله: {قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} [المائدة:31] فإذا رمي في البحر ستره البحر، وأمن من النظر إلى عروته، وعلى هذا قال العلماء: إذا تأخر وصول السفن ونحوها كالبواخر الموجودة الآن إلى البر فإن البحر يكون مقبرة له.

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذكر شهداء البحر: (أنه نام عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، فاستيقظ وهو مسرور يضحك صلوات الله وسلامه عليه، فعجبت من أمره وذكرت له ذلك فقال لها: لقد رأيت أقواما من أمتي ملوكا على الأسرة -أو كالملوك على الأسرة- يغزون ثبج البحر -أي: أنهم شهداء البحر- فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: أنت منهم)، فتوفيت رضي الله عنها حينما غزت، ونزلت بطرف لبنان إبان غزو الصحابة رضي الله عنهم للشام، فلما نزلت وقصتها دابتها فماتت رضي الله عنها، فتحققت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.فهذا يدل على أن البحر قد يكون قبرا لصاحبه؛ لأن المقصود من البر أن تتوارى العورة، والقبر يحقق هذا المقصود.

أما إذا غلب على الظن الوصول قبل أن يتغير فبعض العلماء يقول: إنه يبقى على الأصل؛ لأن الأصل أن يوارى في التراب، ويكون حينئذ مما يستثنى من التعجيل في دفن الميت، والله تعالى أعلم.

[حكم كشف رأس ووجه الميت]

q في قول المصنف رحمه الله: [ولا يغطى رأسه ولا وجه أنثى] هل يفهم من ذلك أن يظل رأس ووجه الميت مكشوفا ينظر إليه أثناء حمل الجنازة والصلاة عليها وقبرها؟ أثابكم الله.

a هذا هو الأصل، نص عليه العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قالوا: ولا حرج أن يظلل بشمسية ونحوها، ويبقى وجهه مكشوفا ولا يغطى الوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تخمروا وجهه ولا تغطوا رأسه) فهذا نص يدل على أنه لا يغطى ويصلى عليه وهو مكشوف الوجه، وقالوا: لا حرج أن يظلل عن الشمس بشمسية ونحو ذلك كالحال في الحياة، هذا استثناه بعض الفقهاء؛ لكن الأصل أنه لا يستر وجهه، والله تعالى أعلم.

[حكم الغلو في الخوف من القبر وعذابه]

q هل الخوف على الميت من عذاب القبر وما آل إليه من نعيم أو عذاب يعد من عدم الصبر والرضا؟ أثابكم الله.
a إذا مات الميت وهو على إحسان وطاعة وبر لله عز وجل؛ فإنه يرجى له الخير والرحمة، والله تعالى يقول: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} [البقرة:223] فهو يقول لك: ستلقاني وأبشر؛ فالظن به حسن سبحانه وتعالى، ولو رأيت المؤمن وهو في سكرات الموت يرى ما عند الله من البشائر ومن الخير، فلو خير ساعتها بين أهله وماله وولده والناس كافة، وبين إقباله على ربه لاختار ما عند الله عز وجل؛ لما يرى من رحمته، والناس تفزع من هذا، ولكن هذا كله ضعف إيمان بالله سبحانه وتعالى، وإلا لو علم الإنسان مقدار رحمة الله وحلمه ولطفه بعباده سبحانه وتعالى، لكان أشد شوقا إلى ربه من شوقه إلى أهله وولده.

ولذلك لما قدم سليمان بن عبد الملك رحمه الله على المدينة قال: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، فلو غاب الإنسان عن أهله وجاء من غربة وقدم عليهم فهو قدوم البشر والسرور والفرح والحبور، وما عند الله أجل وأسمى؛ فإن الله وصف الجنة ونعيمها وسرورها ولذة أهلها وبهجتهم، وما هم فيه من الرحمة والغفران من رب راض عنهم غير غضبان، ومع هذا كله يقول: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
مع هذا كله ومع ما وصف الله في كتابه سبحانه وتعالى من الصفات العظيمة والمنازل الجليلة الكريمة يقول: (ولا خطر على قلب بشر)، فمعنى ذلك أن عنده من الرحمات والفضائل ما الله به عليم؛ ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن بعض المنامات التي تقوي أصول الشرع كان السلف الصالح يذكرونها لحسن الظن بالله عز وجل، وقد ذكر هذا في الجزء الثامن عشر من مجموع الفتاوى، قال: كانوا يتسامحون في بعض المنامات التي لا تعارض أصول الشرع.
وقد ذكر الإمام أبو نعيم في الحلية عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه مات ورئي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت بعد الإيمان أفضل من حسن الظن بالله عز وجل.

فإن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه، فإن العبد يقدم على الله وهو ضعيف فقير أسير، تخلى عن أهله وماله وولده وحوله وقوته، والله عز وجل أرحم بالعبد من نفسه بنفسه.فكيف يكون الظن إذا كان الإنسان يقدم وهو يحس أنه فقير إلى رحمة الله، وأنه فقير إلى عفوه ولطفه، أفيخيبه سبحانه؟! حاشاه، فهو سبحانه يرحم من لم يسأله، فكيف بمن سأله ورجاه! ولذلك ينبغي على أهل الميت أن يحسنوا الظن بالله عز وجل، وأن يعلموا أن ما قدم عليه ميتهم من رحمة الله وعفوه ما دام مؤمنا مطيعا لله سبحانه وتعالى أسمى وأسنى، ويصبح انصباب جهدهم إلى ما هو أهم وهو الدعاء له بالمغفرة، فإنه ولو مات وهو على أفجر ما يكون ما لم يكن كافرا؛ فقد يدركه الله قبل موته -ولو بساعات ما لم يغرغر- بحسن الظن بالله؛ قال الحجاج لما حضرته الوفاة: (اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي)، قال عمر بن عبد العزيز: والله ما غبطته إلا على أمرين: أحدهما: عنايته بكتاب الله.أي: حبه للقرآن وعنايته به، فقد كان الحجاج محبا للقرآن معتنيا به.
وأما الثانية: فقوله عند موته: (اللهم اغفر لي؛ فإنهم يزعمون أنك لا تغفر لي).
فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عز وجل قد يدركه الله عز وجل بحسن ظنه، فيغفر الله له ذنوبه، ولا يستطيع أحد أن يدخل بين العبد وربه، فقد ترى الإنسان وهو على فسق وفجور ويرحمه الله قبل موته وقبل سكرات موته.
وأصدق شاهد على ذلك حديث أبي هريرة الذي فيه قصة الرجل الذي قتل مائة نفس وآخرها الرجل العابد، فهذا أمر من أشنع ما يكون من الإجرام والعتدي لحدود الله والأذية لعباده، ومع ذلك ما خاب ظنه بالله عز وجل، فغبر قدميه في آخر عمره مقبلا على الله، فقبض روحه مع الصالحين.

فما خاب ظنه بالله حينما قال له العالم: وما يمنعك من التوبة؟! يعني: من يحول بينك وبين الله؟! ومن يحول بينك وبين رحمة الله؟! فخرج إلى ربه تائبا منيبا، فكان تغبيره لهذه الأقدام عزيزا عند الله سبحانه وتعالى، عظمت عند الله هذه الأقدام حينما تاب بنفسه وبفعله، فاجتمعت له توبة الظاهر والباطن، فتوبته ظاهرة حينما خرج إلى قرية الصالحين؛ لأنه ما خرج لقرية الصالحين إلا وهو يريد الصلاح، وما خرج لقرية المفلحين إلا وهو يريد الفلاح.
فلما فعل هذا عظم عند الله عز وجل، فكيف إذا كانت من الإنسان الحسنات والخيرات؟! والله تعالى يقول: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} [الأحزاب:45 - 47] و (كبيرا) من الله ليست بالهينة! {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} [الأحزاب:47].ويقول عن أهل الجنة: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} [الزمر:35].
فالإنسان إذا أحسن الظن بالله عز وجل، وأخذ بأسباب الإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الله لا يخيبه.فينبغي على أهل الميت -ولو كان الميت على معصية- أن يستغفروا له، وأن يترحموا عليه؛ فإن الله ينفع الأموات، ولو مات وهو على المخدرات وعلى المعاصي والمنكرات، فإنه أحوج ما يكون إلى دعائك.
بل إن من كان على المعصية قد يكون أشد حاجة لأن تدعو الله أن يغفر له ويرحمه، فهذا شيء من رحمة الله عز وجل ومما أبقاه الله من حسنات الإيمان للمؤمن بعد موته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله رحم المؤمن بإيمانه حتى بعد موته، ولذلك كانت الصلاة عليه والدعاء له بسبب إيمانه، فلولا أنه مؤمن لما صلي عليه ولما دعي له، فما دام أنه مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولم يأت بما يخرجه من ملة الإسلام، فهو إن شاء الله من أهل الجنة؛ لكن ما كان منه من زلات وهنات فإن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض فضله: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء:23].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن ظننا فيه، وأن يجعل لنا من رحمته وعفوه ومغفرته ولطفه ما لم يخطر لنا على بال.نسأل الله العظيم أن يتلقانا برحمته أحياء وأمواتا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

ابوالوليد المسلم 30-05-2022 07:48 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (168)

صـــــ(1) إلى صــ(11)

شرح زاد المستقنع - باب الغسل والتكفين [4]

لقد كرم الله سبحانه وتعالى عباده المسلمين أحياءً وأمواتاً، ومن تكريمه جل وعلا لمن مات من المسلمين: أن يغسل ثم يكفن ثم يصلى عليه، وتكفين الميت أمر سهل، لكنه يحتاج إلى تعلم؛ وقد ذكر الفقهاء صفة الكفن، وكيفية تكفين الرجل والمرأة، وعلى من تكون قيمة الكفن، وغير ذلك من الأحكام التي ينبغي أن يعتني بها كل مسلم.
[تقديم الكفن على قضاء الدين]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله:
[فصلٌ: يجب تكفينه في ماله].
فهذا الفصل يعتبر هو المقام الثالث الذي انتقل المصنف به إلى بعض الأحكام المتعلقة بالميت، وقد تكلم في الموضع الأول عن حكم عيادة المريض، وما ينبغي أن يصنع بالمحتضر إذا حضرته الوفاة، ثم ما ينبغي به أن يهيأ به لتغسيله، هذه هي الجزئية الأولى التي تحدثنا عنها في الموضع الأول.ثم أتبع ذلك بفصل خصه بصفة تغسيل الميت، ثم أتبعه بهذا الفصل والذي يتعلق بصفة تكفين الميت، وهذا كله من ترتيب الأفكار، فالأصل أن الإنسان إذا احتضر أن يبدأ بأحكام الاحتضار، ثم ما يتبع ذلك من أحكام غسل الميت، ثم تكفينه؛ لأن التكفين يقع بعد التغسيل، فبين رحمه الله أنه يجب تكفين الميت.وهذه العبارة دلت على أن تكفين الميت يعتبر فرضاً على ورثته؛ وكذلك على عموم المسلمين الذين يحضرون الميت.
أما بالنسبة لوجوبه: فالأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته يوم عرفة (اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (كفنوه في ثوبين) أمر يدل دلالة واضحة على أن الكفن واجب، وأنه لا يجوز قبر الأموات بدون كفن.ومن هنا أخذ العلماء أنه لو وضع الميت في قبره بدون كفن فإنه يشرع نبش قبره وتغسيله ثم تكفينه، والقيام بحقه من الصلاة عليه، ثم دفنه، فهذا يؤكد على أن تكفين الميت لا بد منه.هذا الكفن يحتاج إلى مال، وهذا المال الذي يستحق دفعه في كفنه يكون من ماله، وهذا هو الأصل؛ وبذلك إذا مات الميت فإن مئونة التجهيز تؤخذ من ماله قبل قسمة تركته، فهذه من الحقوق المقدمة، ويعتبرها العلماء من الحقوق العاجلة التي ينبغي أن يبادر بها في أموال الموتى، وأهل الفرائض رحمة الله عليهم من الفقهاء حينما يتكلمون عن أحكام الفرائض،
يقولون:
من بعد القيام بحقه من تجهيزٍ.فمئونة التجهيز يدخل فيها المال المحتاج إليه للكفن، فلو أنه احتيج إلى لفافتين لتكفينه، وهاتان اللفافتان تكلفان مبلغاً، فإنه يؤخذ هذا المبلغ من ماله ولو ترك ورثة من أيتام وغيرهم، فهذا حق للميت في ماله.ثم لو أن هذا الميت كان عليه دين، وأصبح هناك ضيق بين أن نقضي دينه وبين أن نكفنه،
قالوا:
يقدم تكفينه على دينه، وحينئذٍ يكفن ثم ينظر الباقي فيقسم على أصحاب الديون على قدر حصصهم من أصل الدين كما سيأتي إن شاء الله في الوصايا.
فالمقصود: أن تكفين الميت واجب، وأن هذا الوجوب يتعلق بمال الميت إن وجد، فإذا كان الميت ليس عنده مال يشترى منه الكفن وما يحتاج إليه في مئونة تجهيزه، فحينئذٍ ينتقل إلى الذي يجب عليه نفقة الميت، فإذا كان هناك والد أو ولد أو أخ عاصب أو نحو ذلك من القرابة الذين يقومون بحقوق النفقات، فإنه حينئذٍ يتعين على الموجود منهم أن يدفع مئونة التجهيز، فإذا لم يوجد عند قرابته انتقل الوجوب إلى بيت مال المسلمين.ويجب على من حضر أن يقوم بهذا الحق، فيكفنوه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويحسنوا إليه في كفنه، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث.
وقوله:
[مقدماً على دينٍ وغيره].
أي:
تقدم مئونة التكفين على الديون التي للناس، وغيرها من الحقوق الأخرى، فلو مات ميت ولم يحج، واحتيج لحجه إلى ألفين وترك ألفين، فحينئذٍ إن أردنا أن نكفنه ربما نقص المال عما يقام به الحج عنه،
فحينئذٍ يقولون:
يقدم التجهيز، ويؤخذ من هذا المبلغ ولو كان سبباً لعدم السداد والوفاء بحق الحج عنه.
[من يلزمه تكفين الميت إذا لم يكن عنده مال]
وقوله: [فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقته إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته].
أي:
فإن لم يكن لهذا الميت مال فعلى من تلزمه نفقته، أي: أنه يجب تكفينه على الشخص الذي تلزمه نفقة ذلك الميت؛ لأن الأصل أن العبرة بالغرم؛ ولذلك الذي يلي النفقات من الورثة ويكون عاصباً يقوم بدفع المال المحتاج إليه لتكفين قريبه، فيكفن الوالد ولده، والولد والده، والأخ أخاه، ونحو ذلك من القرابات الذين يجب عليهم القيام بالنفقات.واختلف في الزوجة، فقال بعضهم: الموت يقطع حق النفقة على الزوج، فلا يجب على زوجها أن يشتري الكفن لها إذا توفيت، ومنهم من قال: إن الموت لا يقطع حق النفقة،
وتسامح بعض العلماء وقال:
إن العشرة بالمعروف تقتضيه، ولكن إذا نُظِر إلى الأصل، فالأصل يقتضي أن النفقة قائمة مقام الاستمتاع، لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فهذا هو الأصل، وبناءً على ذلك يقولون: بالموت ينقطع الحق بالموت كما لو نشزت فإنها لا تستحق النفقة، وهذا يؤكد أن النفقة مرتبة على الاستمتاع كما سيأتينا إن شاء الله في باب الحقوق الزوجية،
وحينئذٍ إذا قلنا:
إن الزوجية تنفصل؛ فإنه ينتقل إلى بيت مال المسلمين، وإذا قلنا: إنها لا تنفصل؛ فينتقل إلى الزوج.
فقوله: (إلا الزوج): استثناه لأن الذين تجب عليهم النفقة، منهم من تجب نفقته من باب القرابة: كالأب مع ابنه، والابن مع أبيه، والأخ مع أخيه، ومنهم من تجب نفقته لسبب كالزوجية؛ فإن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته لمكان الزوجية، والدليل ما ذكرناه من الكتاب، وكذلك من السنة في أمره عليه الصلاة والسلام بإطعامها إذا طعمت، وكسوتها إذا اكتسيت، كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.إذا ثبت هذا -وهو أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته- فحينئذٍ إن قلنا: إن الموت يقطع الزوجية فلا تجب عليه النفقة،
وإن قلنا:
إن الموت لا يقطع حق النفقة بالزوجية فيجب عليه أن يكفنها، واختار المصنف سقوط النفقة عنه، فقال: (إلا الزوج)؛
لأنه عندما قال:
(فعلى من تلزمه نفقته) أدخل الزوج بهذه العبارة؛ لأن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته، فلما أدخل الزوج احتاج أن يخرجه بالاستثناء بقوله: (إلا الزوج)،
أي:
فلا يجب عليه أن ينفق على زوجته إذا ماتت بتكفينها.
وهذا هو الأقوى بظاهر النص، ولكن العشرة بالمعروف -كما ذكرنا- وعوائد النفس المحمودة تستبشع وتستبعد ألا يقوم الزوج بحق زوجته في تكفينها، إلا إذا كان عليه ضرر وكلفة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
[صفة تكفين الميت]
[ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض].
بعد أن بين لنا رحمه الله حكم الكفن، وأنه يجب عليك أن تكفن أخاك المسلم إذا مات، شرع في بيان ما يحصل به الكفن، وهذا يختلف باختلاف الجنسين، فالرجال لهم حكم والنساء لهن حكم.فالرجال لهم حكم يختص بهم لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قدر ما يكفن به المسلم، والنساء لهن حكم فيما يكفَّن به، فابتدأ بالرجال،
فقال رحمه الله:
(ويستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض)، وهذه الجملة مبنية على ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام،
كما جاء في حديث أم المؤمنين في الصحيحين:
(كُفّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة).
والثلاثة الأثواب لها صور:
إما أن تمد لفائف ويوضع الميت عليها، ويكون القميص والعمامة فضلٌ عن الثلاث في الأصل، فحينئذٍ تكون مجموع ما يكفن به خمسة في الحقيقة وثلاثة في الصورة، وذلك لأن القميص والإزار كانا عليه عليه الصلاة والسلام؛ ولم يجرد عليه الصلاة والسلام منهما، وبالنسبة للأكفان الثلاثة تبسط بالصورة التي سنذكرها،
فيكون المجموع:
القميص ثوب، والإزار ثوب، والثلاث لفائف ثلاثة أثواب؛ فأصبح المجموع خمسةً، هذا بالنسبة للأكمل والأفضل في تكفين الرجل.
قال بعض العلماء: إنه يكفن في ثلاثة أثواب، ويكون منها القميص والإزار، فيكون القميص لأعلى البدن، والإزار لأسفل البدن، فحينئذٍ يكون كل منهما يعتد به ثوباً، فيصبح المجموع ثوبين، والثوب الثالث هو اللفافة التي تلف عليه،
فتكفين الميت في ثلاثة أثواب له هاتان الصورتان: إما أن يكفن بقميصٍ وإزارٍ ولفافة، فالمجموع ثلاثة، أو يكفن بثلاثة أثواب فضلاً عن القميص والعمامة.وهذا التكفين على سبيل الاستحباب، وإلا فالأصل أنه لو تعذر تكفين الميت بحيث لم نجد إلا ثوباً واحداً يستر عورته فإنه يجزئ، ويكون محصلاً للواجب وموجباً لبراءة الذمة، فلو أنه كفن في ثوبٍ واحد يستر بدنه ويستر عورته أو يستر أغلب بدنه ومنه العورة؛ فإنه يجزئه.فلو أن قوماً مات عليهم رجل في صحراء، وليس عندهم ما يكفنونه به، ولكن هذا الرجل عليه قميصه وإزاره وثوبه الذي فوقه، فغسل ثم لبس ثوبه وصار كفناً له،
قالوا:
يعتد بذلك ويجزئ؛ لأن المقصود هو ستره.والدليل على أن العدد لا يشترط، وأن المقصود هو ستر الميت: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه قُتِلَ يوم أحد وليست له إلا شملةٌ واحدة، إن غطوا بها قدمه بدا وجهه، وإن غطوا بها وجهه بدت قدماه،
فقال صلى الله عليه وسلم:
(غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) فكونه عليه الصلاة والسلام يكتفي بثوب واحد يدل على أن مقصود الشرع هو ستر الميت وستر عورته، فإذا ضاق الحال ولم يتيسر إلا ثوب واحد كفاه.ولذلك كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه إذا أراد أن يضرب المثل بفقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الشدة في عهده صلى الله عليه وسلم، ذكر قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (فمنا من مات ولم يهدب ثمرته، منهم مصعب من عمير، كانت له شملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه، وإذا غطوا قدميه بدا وجهه،
فقال صلى الله عليه وسلم:
غطوا بها وجهه ... )
الحديث.فهذا يدل عل أن الثوب الواحد يكفي، ولذلك قال المصنف: (يستحب) فدل على أن الثلاثة ليست بواجبة، وإنما هي السنة والأفضل.
[تجمير اللفائف وجعل الحنوط فيما بينها]
وقوله:
[تجمر ثم تبسط بعضها فوق بعض، ويجعل الحنوط فيما بينها].تجمر هذه الثلاثة الأثواب بالند والعود أو بأي طيب، وذلك مبني على أمره عليه الصلاة والسلام بإحسان كفن المسلم، وقد أمر من ولي تكفين أخاه المسلم أن يحسن في كفنه.فيبدأ بتطييب هذه الثلاثة الأثواب، ثم يبسط الأولى ويكون أجملها وأفضلها مما يلي الناس؛ لأن حال الإنسان أنه يجعل الزينة في الظاهر، فيجعل أجمل الثلاث اللفائف مما يلي الناس، وهي الأولى تبسط على الأرض، ثم بعد أن يجمرها يجعل حنوطاً فوقها، ثم يأتي بالثانية ويبسطها فوق الأولى، ويجعل الحنوط فيها.
والحنوط:
هو أخلاطٌ من الأطياب التي توضع في الكفن لدفع الهوام وطردها عن جسد الميت، ولإبقاء الجسد مدة أطول، فيوضع الحنوط على الثوب الأول، ثم يوضع على الثوب الثاني، ثم تبسط اللفافة الثالثة ولا يوضع عليها شيء؛ ولذلك كره الصحابة رضي الله عنهم وضع الحنوط على اللفافة الثالثة، فاللفافة الثالثة لا يوضع عليها حنوط، وإنما تبقى على ما هي عليه، ثم بعد ذلك ينقل الميت إليها بعد الغسل.
[استخدام القطن للميت في عدة مواضع]
وقوله: [ثم يوضع عليها مستلقياً].
أي:
ثم يوضع الميت على هذه الثلاث اللفائف مستلقياً، وجهه إلى السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أُدرج فيها إدراجاً، فهذه هي السنة: أن يوضع في وسطها، ويكون نصفها عن يمينيه ونصف اللفافة عن يساره، والثلاث كلها مبسوطة إلى الأرض.وقوله: [ويجعل منه في قطنٍ بين إليتيه].
أي:
ويجعل من الحنوط في قطن، ويكون القطن هذا لسد المنافذ إذا خرج شيء من النجاسة أو القذر فإنه يعالجه، ويكون أيضاً أنفع لدفع النتن إذا حُمِل أو أُريد وضعه في قبره، فيجعل الحنوط في قطنة وتكون بين الإليتين.
[ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان تجمع إليتيه ومثانته].

هذه الصفة يذكرها العلماء من باب الكمال، وليست تشريعية توقيفية يلزم فعلها، وذكر العلماء رحمة الله عليهم لها مندرج تحت أصل عام وهو إحسان الكفن، وليس بأمر متعين بحيث إن الإنسان لو تركه يأثم، إنما ذكره العلماء رحمة الله عليهم على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.وتجعل كالتبان،
التبان:
السروال القصير الذي يصنع للملاحين ونحوهم، والمعنى: أنه تشق على صورة السراويل القصيرة تشد ما بين الفخذين وتمنع خروج الخارج، وذلك لتمنع النتن والرائحة أن تؤذي من يقترب من الميت فيتضرر بذلك إذا حمله أو أراد أن ينزله في قبره، فهذا كله -كما ذكرنا- على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض، وهذه الأمور لا يقصد منها سوى الإحسان إلى الميت، فمن تيسر له فِعْلُها فعَلَها، ومن صعب عليه ذلك أو لم يجد الحنوط فله أن يستبدل بطيب آخر يطيب به الميت، ولا يشترط أن يوضع بين الفخذين بالصورة التي ذُكِرت، وإنما هو على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض كما ذكرنا.
وقوله: [ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، وإن طيب كله فحسن].
أي: ويجعل الباقي من الحنوط والطيب على منافذ جسده، مثل الأنف، والمنفذ: هي الفتحة الذي ينفذ منها إلى البدن، ويشمل ذلك: الأنف والفم وجهة العيون ونحوها، فيجعل الحنوط عليها حتى يكون أدعى لدفع الهوام عن الدخول إلى البدن؛ لأن الهوام لا تقوى على رائحة الطيب؛ فيكون ذلك أدعى لبقاء البدن أو الجسد أكثر مدة وأطول، وهذا من الإحسان إلى الميت.فيجعل في منافذ بدنه، ومواضع سجوده، وإن طيب كله فلا حرج، وقد أثر عن بعض السلف الصالح أنه لما حضرت أنس الوفاة أوصى أن يغسله الإمام الجليل محمد بن سيرين، وكان محمد رحمه الله عليه دين ومسجوناً في دين، فأُخرج من سجنه للقيام بتغسيل أنس، فطيب أنساً كله.وهذا قد فعله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
لكن لو كان الطيب قليلاً أو لم يتيسر من الحنوط إلا اليسير، فإنه يوضع في أشرف المواضع، وهي مواضع السجود؛ تكريماً لها، وكذلك أيضاً المغابن، وهي مواضع النتن من الإنسان كالإبطين؛ وكذلك أيضاً المغابن التي تكون في أسفل باطن الركبتين، فهذه يوضع فيها الحنوط لأن الفساد يسرع إليها أكثر من غيرها.
[كيفية لف اللفائف على الميت]
وقوله:
[ثم يُرَد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن].بعد أن يوضع الميت على الثلاث اللفائف في وسطها كما ذكرنا، يرد طرف اللفافة على شقه الأيمن تشريفاً وتكريماً لليمين، لأنه إذا لبس الإنسان يشرع له أن يقدم اليمين، فيفعل به كما كان يفعل حياً،
وقد قال عليه الصلاة والسلام في تغسيل بنته:
(ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) فشرف اليمين وشرف أعضاء الوضوء؛ ولذلك لما ذكروا عن مواضع السجود أنها تطيب فذلك لشرفها شرعاً.فحينئذٍ يبدأ بشقه الأيمن ويقلب طرف اللفافة العليا، فإذا غطى شقه الأيمن قلب من شقه الأيسر بعد ذلك على لفافة الأيمن ويردها عليه؛ ثم اللفافة الثانية يبتدئ بجهتها اليمنى بالنسبة للميت ويقلبها على شقه الأيمن، ثم يأخذ يسراها ويقلبها على يساره، ثم الثالثة كذلك، فهذا من إدراج الميت في الكفن وهو سنة، ولما فيه من التيمن الذي فضله الشرع وثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المصنف رحمه الله: [ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم بالثانية والثالثة كذلك، ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه]: وقوله: (ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه) وذلك لكونه أبلغ في ستره وتشريفاً له؛
أما الدليل على أننا نجعل الفاضل جهة الرأس:
فعندنا جهتان: إما أن نجعل الفاضل من جهة القدم أو جهة الرأس، فلما قال عليه الصلاة والسلام في الشملة: (غطوا بها وجهه، واجعلوا على قدميه شيئاً من الإذخر) دل على تشريف أعلى البدن وتفضيله على أسفله، ومن هنا قالوا: إنه يجعل الفاضل من جهة الرأس ولا يجعل من جهة القدم، ويتفرع على ذلك فوائد، منها أنه لو وجدت لفافة، ولكن هذه اللفافة تسع أكثر البدن، ولا تسع البدن كله، فإنها تلف عليه ويجعل النقص من جهة الأقدام لا من جهة أعلى البدن؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث مصعب رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله: [ثم يعقدها وتحل في القبر].(ثم يعقدها): أي يربطها، والضمير عائد إلى اللفافة، فيعقد من رأسه ويعقد من وسطه؛ وكذلك من جهة قدميه على حسب ما يقتضيه الحال، والسبب في هذا هو خوف انتشار الثياب وانكشاف عورة الميت، خاصةً إذا دُلي في قبره، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى أن تكون اللفافة مربوطة، فلربما انسل من اللفائف إذا لم يكن مربوطاً فانكشفت العورة وحصل ما لا يحمد خاصة مع النساء؛ فلذلك جاءت الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الأربطة، وأنها تحل في القبر.
وقوله:
[وإن كُفِّن في قميص ومئزر ولفافة جاز].(وإن كُفن في قميص): القميص يكون لأعلى البدن، كـ (الفنيلة) فهذه أشبه بالقميص، وفي حكمها الصدرية، وهكذا الجبة ونحو ذلك، كل ذلك يعتبر من ستر أعالي البدن ويعتد به ثوباً.ثم يجعل لأسفل البدن ثوباً أو إزاراً؛ لأن العرب تسمي ما يغطي الأعلى دون أن يكون مستحكماً رداءً، والذي للأسفل يسمونه إزاراً، وأوضح ما يكون هو يلبسه الإنسان في حجه وعمرته من ثوبي النسك، الأسفل منهما يسمى إزاراً والأعلى منهما يسمى رداءً.فلو أن إنساناً وجد له قميصاً وإزاراً ولفافة، فلا حرج، ويكون القميص ثوباً والإزار ثوباً، وتكون اللفافة ثوباً ثالثاً.
[تكفين المرأة في خمسة أثواب]
وقوله:
[وتكفن المرأة في خمسة أثواب]: تكفن المرأة في خمسة أثواب؛ لأن عورتها أشد فحشاً من الرجل،
وفي ذلك حديثان:
أما الحديث الأول: فحديث ليلى بنت قائف الثقفية، وهو متكلمٌ في سنده، وضعفه غير واحد من الأئمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن بتغسيل ابنته وتكفينها، وكانت هي التي تولت غسلها، فذكرت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما ناولها حقوه، وهو ما يكون لأسفل البدن كالإزار كما ذكرنا، ثم بعد ذلك أعطى صلوات الله وسلامه عليه الدرع، وهو لأعلى البدن، ثم ناولها الخمار وهو للرأس، ثم الملحفة، وهو ما تلتحف به المرأة، وهو يشمل الأعلى والأسفل؛ ثم أُدرجت في الثوب الآخر، فهذه خمسة أثواب، جاءت مفصلة في حديث ليلى المتكلم في سنده، ولكنها جاءت مجملة في حديث أم عطية الذي هو أصح سنداً من حديث ليلى؛ فإن حديث أم عطية أنها كفنت في خمسة أثواب، لكن حديث ليلى بنت قائف الثقفية رضي الله عنها فصل هذه الأثواب، وهو يدل على أن السنة إذا ألبست المرأة الخمسة الأثواب أن يبتدئ بستر الأسفل أولاً؛ لما فيه من غلظ العورة وعظم الحق فيه؛ ثم بعد ذلك أعلى البدن، ثم الخمار للرأس، ثم الملحفة التي تعم أعلى وأسفل البدن، ثم بعد ذلك أدرجت في الثوب الآخر، وهو خامس الأثواب، وهي اللفافة التي تلف فيها الميتة.
وقوله:
[إزار وخمار وقميص ولفافتين]: الإزار لأسفل البدن، والقميص لأعلى البدن، والخمار للرأس، وبالنسبة للفافتين لعموم البدن، وعلى هذا لو أن امرأة تيسر لها ثلاثة أثواب فإنه لا حرج أن تكفن فيها؛ فتبسط الثلاثة الأثواب وتوضع الميتة فيها على الصفة التي ذكرناها في الرجل، وترد عليها وتكون كفناً لها.
[الواجب في الكفن ثوب واحد يستر الميت]
وقوله:
[والواجب ثوب يستر جميعه].
والواجب في تكفين الميت ثوبٌ يستر جميعه، وهذا من دقة المصنف، فبعد أن ذكر لك صفة الكمال شرع يبين لك ما هو اللازم؛ لأنه بعد أن بين ما هو الأفضل والأكمل ذكر أن الواجب ثوب واحد وأن ما عدا الواجب فضلٌ لا فرض، إن فعلته أحسنت وأجرت وإن تركته فلا حرج.
الأسئلة
[حكم غسل من مات وهو جنب]
q لو مات الإنسان وهو جنب هل يغسل غسل الجنابة أم يكتفي بالغسل المعهود؟

aإذا مات الميت وهو جنب فإنه لا يغسل غسل الجنابة؛ لأن التكليف قد انقطع، وحينئذٍ يغسل وينوى في غسله غسل الميت ولا ينوى غسل الجنابة، وهذا هو الأصل على ظاهر الحديث الذي ذكرناه في حنظلة الغسيل، فإن حنظلة -رضي الله عنه وأرضاه- لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يغسل أمرهم أن يسألوا، فسألوا امرأته فقالت: إنه سمع الهيعة والصيحة فخرج رضي الله عنه فقتل شهيداً قبل أن يغتسل من الجنابة، فهذا الحديث يقلب على من يقول: إنه يغسل، ويدل على أنه لا يغسل؛ لأنه غسل في الآخرة ولم يغسل غسل الدنيا، ولو كان غسل الجنابة واجباً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فالظاهر أنه لا يغسل والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.




ابوالوليد المسلم 30-05-2022 08:05 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (169)

صـــــ(1) إلى صــ(10)

شرح زاد المستقنع - باب الصلاة على الميت [1]

صلاة الجنازة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، ولها فضلٌ عظيم، ولها كيفيةٌ خاصة، وأحكامٌ لابد من تعلمها.
ويفرق بين الصلاة على الصبي والكبير من حيث الدعاء فقط، ويتفرع عن هذه المسألة: حكم أطفال المشركين، وهي مفصلة في هذه المادة.
[صفة صلاة الجنازة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول رحمه الله: [فصل: السنة أن يقوم الإمام عند صدره، وعند وسطها].
لقد بين رحمة الله عليه صفة التكفين، وهي يسيرة، وليست كما يظن بعض الناس أن تكفين الميت يحتاج إلى شيء من الدقة ويحتاج إلى شيء من الكلفة، وهذا ولله الحمد من رحمة الله بهذه الأمة،
وقد أشار الله إلى هذه الرحمة العامة فقال:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فتكلف بعض الناس في بعض صفات التكفين وإلزامهم الناس بصفة معينة خطأ، لأنها ليست واجبة في أصل الشرع بحيث يعد أن من لم يفعلها كأنه أساء إلى الميت، فهذا مما لا أصل له.وشرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة على الميت؛ لأنه بعد أن يفرغ من تكفين الميت يتجه الأمر بالصلاة عليه، وهذا هو الحق الثالث للميت،
فأولاً:
يغسل،
وثانياً:
يكفن، وثالثاً: يصلى عليه.
أما الصلاة عليه فإنها واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا على صاحبكم) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، ولذلك قالوا: من مات ودُفِنَ ولم يصل عليه ولم يكفن، شُرِع أن ينبش قبره ويخرج ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه؛ قياماً بحقه.والصلاة على الميت لها صفةٌ مخصوصة واردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من هديه أنه إذا جيء بالميت فإن كان رجلاً قام عند رأسه، وإن كانت امرأةً قام عند وسطها.
وللعلماء تعليلان: بعضهم يقول: هذه السنة سببها أن فتنة الرجل أكثر ما تكون في قلبه بالوساوس والخطرات، فيقوم حيال صدره كما ورد في الحديث، والمرأة أكثر فتنتها تكون في الفرج والشهوة فيقوم عند وسطها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) فهم يقولون: إنها لفتنة المرأة في الشهوة.
وقال بعض العلماء:
إن السبب في ذلك أنه إذا قام في وسط المرأة كان أبلغ في سترها، وكأنه يسترها عن المأمومين؛ ويكون ذلك أدعى لتفرغ الناس للدعاء وبعدهم عن الفتنة؛ لأن الذي وراءه يباشر هذا الموضع لو أنه قام عند صدرها أو حيال رأسها.لكن الأولى: أن يتوقف في هذا؛ لأنه لا ينبغي تعليل الأحكام دون أن يكون هناك دليل يدل على تلك العلة صراحةً أو ضمناً، أما أن يتكلف استنباط العلل بالصورة التي ذكرناها فهذا محل نظر؛
ولذلك فالأفضل أن يقال: هذا شيء تعبدنا الله به وهو أعلم بعلته، ولا يسأل عن مثل هذه الأمور؛ لأن السؤال عنها من التكلف، وقد كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يسألون عن مسائل من هذا النوع فكان يطرد السائل في بعض الأحيان، وربما ينتهره ويعنفه إذا كان من طلابه؛ لأنها من التكلف، وهذه المسائل التي يكون فيها تكلف وتنطع قد نهي عنها.فالإنسان إذا جاءه الأمر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يسعه إلا السمع والطاعة والامتثال، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
فإذاً:
لا بد من التسليم، يقوم بهذه الصفة التي ذُكِرت لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، وثبت فعله عليه الصلاة والسلام لها في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لما قام حيال صدر الرجل ووسط المرأة فسئل عن ذلك فقال: إنها السنة؛ فدل ذلك على أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة]
وقوله: [ويكبر أربعاً يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة]: (ويكبر أربعاً): هذا ثابت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه كبر على النجاشي أربع تكبيرات) وكان بعض العلماء يقول: هي التي داوم عليها عليه الصلاة والسلام، وما جاء من غيرها فإنما يكون في بعض الأحوال، والأفضل المداومة على الأربع؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه.
والخمس وردت عنه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض العلماء يمتنع منها؛ لأنه حافظ عليها بعض أهل البدع، فكانوا العلماء يرون أن هذا الأفضل فيه المحافظة على الأربع؛ لأن الخمس ثبتت في صور الأفراد، والزيادة إنما ثبتت في قضية شهداء أحد مع أن الصلاة عليهم نفسها خارجةٌ عن الأصل، ومن هنا قال العلماء:
إن الأفضل أن يداوم على الأربع، وهي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الغالب.وصلاة الميت ليس فيها ركوع ولا سجود، وهذا بالإجماع كما حكاه الإمام ابن حزم الظاهري رحمة الله عليه بل يقف فيها المصلي ويقوم على الصفة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى دون أن يكون هناك ركوعٌ أو سجود، لكن اختلف في سجود السهو لها في الواجبات التي سنذكرها بعد.
قال: (يقرأ في الأولى بعد التعوذ الفاتحة) هذا فيه فوائد: الفائدة الأولى: أن دعاء الاستفتاح ليس بمشروع في الصلاة على الميت، فصلاة الميت يكاد يكون بالإجماع أنه لا يشرع لها دعاء الاستفتاح؛ لكن بعض المتأخرين كان يقول: يستفتح في صلاة الميت لأن أم المؤمنين عائشة تقول: كان إذا استفتح الصلاة يقول.
والصحيح أنه لا يشرع دعاء الاستفتاح في الصلاة على الميت، وإنما يقرأ مباشرةً، ويكون هذا من باب الفرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وبين صلاة الجنائز.قوله: (بعد التعوذ) لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] فالأفضل أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو لفظ سورة النحل، وأما غيره من الألفاظ الأُخر فهو سنة ولا حرج فيه، مثل: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) لكن الأفضل أن يقول الذي أُمر به في الكتاب لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
قال بعض الفضلاء: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن اهل النقل (ولفظه المختار ما في النحل) أي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.ثم بعد ذلك يقرأ الفاتحة، وللعلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة قولان: منهم من يقول: يشرع أن تقرأ سورة الفاتحة، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وطائفة من أهل الحديث،
والدليل على ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام:
(لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.الحديث) فإنك إذا تأملت هذا اللفظ وجدته من صيغ العموم، فقوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، والقاعدة: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.(أيما صلاةٍ) أيضاً يدل على العموم؛ لأن (أي) عند الأصوليين من صيغ العموم، فلما قال: أيما صلاةٍ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فقد عمم ولم يفرق بين صلاة الجنازة ولا غيرها، فدل على أن صلاة الجنازة يجب أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.
وتأكدت هذه العمومات بحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى على الجنازة وجهر بالفاتحة؛ لكي يعلم الناس أنها سنة، فدل هذا على أن السنة أن يقرأ الفاتحة على الميت.وخالف في ذلك الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم، وقالوا: إنه يقتصر على الدعاء، لآثار وردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة على الميت، ذكر فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء،
قالوا:
فهذا يدل على أنه لا تقرأ الفاتحة.والجواب عن ذلك: أن المرفوع مقدمٌ على الموقوف، ويحمل كلام الصحابة على أن المقصد الأسمى والأعلى في الصلاة على الميت: أن يدعى له، فذكروه وتركوا غيره للعلم به بداهة، هذا مما يعتبر به.
وأيضاً: يحتمل أنه لم يبلغهم النص بقراءة الفاتحة، وقد يخفى على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من السنن ما لم يطلع عليه؛ ولذلك يُعمل بما ورد عنه عليه الصلاة والسلام ويقدم على غيره.
[الصلاة الإبراهيمية في صلاة الجنازة]

قال رحمه الله: [ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهد].
أي: يكبر بعد ذلك التكبيرة الثانية، ويصلي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة التشهد، وهي الصلاة الإبراهيمية المعروفة، وقد ثبت في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن صلاة الميت يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: من فائدة ذلك أن صلاة الميت مشتملة على الدعاء والشفاعة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء مظنة الإجابة، والأحاديث في ذلك معروفة، أي: أن من أسباب قبول الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك شرعت الصلاة قبل الدعاء لما فيها من الخير العظيم؛ ولأنها سببٌ في رحمة الله للعبد، فهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فتأتيه من الله عشر صلوات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، فَيُرحم بهذه الرحمة العظيمة ويكون أرجى لقبول دعائه.
[الدعاء المأثور في صلاة الجنازة وشرحه]

قال رحمه الله: [ويدعو في الثالثة فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته فتوفه عليهما، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره ونور له فيه].
هذه الجمل التي ذكرها رحمه الله تشتمل على مسألتين:
المسألة الأولى: أن السنة في التكبيرة الثالثة أن يدعو، وهذا سببه أن الصلاة إنما شرعت من أجل الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وهذه رحمةٌ من الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث جعل للأموات حظاً عند الأحياء أن يذكروهم بصالح الدعوات.
ولا شك أنه ليس هناك مسلم إلا وهو محتاج إلى من يدعو له، ولو كان عبداً صالحاً؛ فإن الصالح يزداد من رحمة الله عز وجل، وأما غيره فأمره أشد وحاجته أعظم أن يترحم عليه ويستغفر له، فمن رحمة الله عز وجل أن شرع هذه الصلاة، ولقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشفعون له إلا شفعهم الله فيه، وما من مسلمٍ يقوم عليه مائة يسألون الله له إلا وجبت) كما في صحيح مسلم، قيل: وجبت دعوتهم أو وجبت شفاعتهم، وهذا فضلٌ عظيم، فكيف إذا قام عليها الألوف؟! ومن هنا: يستحب كثرة المصلين على الميت؛ لكثرة الدعاء وسؤال الله عز وجل رجاء الإجابة، خاصةً إذا وُجدَ فيهم من هو حافظٌ لحدود الله، فهو أرجى أن يقبل الله عز وجل دعاءه.
والسنة أن يكون عددهم كثير، فإذا نقص عددهم يُسن ألا يقلوا عن ثلاثة صفوف، فيجزؤهم الإمام ثلاثة صفوف، وفي ذلك حديث مالك رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ثلاثة صفوف: (أنهم إذا شفعوا للميت شُفِّعوا) وكان مالك رضي الله عنه إذا استقل العدد جزأهم ثلاثة صفوف، حتى ولو كانوا ستة جعل كل اثنين صفاً، كل ذلك لفضل كثرة الصفوف على الميت.
فهذا الدعاء كلما كان من عددٍ أكبر؛ كلما كان أفضل وأرجى.وعلى هذا قالوا: إنه يختار المساجد التي هي أكثر عدداً؛ لكثرة الشفعاء وكثرة المصلين والداعين له.
وأما الأدعية التي ذكرها: فإنه نوع رحمه الله في الأدعية وأدخل بعضها في بعض، والمحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار -على رواية الشك- عذاب القبر أو عذاب النار) قال الصحابي: حتى تمنيت أن أكون ذلك الرجل.
فإن كانت امرأة يقول: أبدلها أهلاً خيراً من أهلها، ولا يقول: زوجاً خيراً من زوجها؛ لأن المرأة لزوجها في الآخرة إذا ماتت عنه وهي في عصمته، أما لو تزوجت أكثر من زوج وتوفيت فقد سألت أم سلمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي يكون لها أكثر من زوج لمن تكون يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هي لأحسنهم خُلقاً) ولذلك يقولون: لا يقال في المرأة: (وأبدلها زوجاً خيراً من زوجها)؛ لأنها قد تكون لزوجٍ واحد، وإنما يكون الزواج للرجال، فيقال: (أبدله أهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه) إشارة إلى الحور العين، وما جعل الله من الكرامة فيها، وهو حكم الله الذي لا يعقب.
وأما قوله:
(اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا -إلى قوله:- إنك على كل شيءٍ قدير) زيادة (إنك على كل شيء قدير) ليست واردة، الوارد إلى قوله: (إنك تعلم متقلبنا ومثوانا) وهذا فيه مناسبة الحال، وهو أيضاً دعاءٌ محفوظ.
وأما المقطع الأخير الذي ذكره رحمة الله عليه:
(اللهم افسح له في قبره ونور له فيه) فهو قطعة من دعائه صلوات الله وسلامه عليه لـ أبي سلمة؛ فإنه لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وقد جاد بنفسه فسمع صوت الصائح فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصياح، وقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي: هذه الساعة تؤمن الملائكة على ما يقال- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه) وذلك إشارة إلى حال السعداء إذا نزلوا القبور، وذلك أن المؤمن يفسح له في قبره مد البصر؛ لأن إفساح القبر يزيد في فُسحة الصدر، وفسحه القبر.والقبر يضيق على الكافر والمنافق حتى تختلف أضلاعه، ومن هنا كان من رحمة الله بالمؤمن أن يفسح له في القبر.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء للميت:
(افسح له في قبره) دليل على أن القبور تنفسح وتضيق، وأن هذا من عالم الغيب الذي لا يمكن للعقول أن تدرك كيفيته؛ فإنك لو نظرت إلى القبور رأيتها متجاورة، وقد يكون الكافر بجوار المسلم والمنافق بجوار الموقن، وكذلك الصالح بجوار الطالح، ولكن الله سبحانه وتعالى أعلم بما بينها من الدرجات والدركات، فكم من قبورٍ تراها في كهوفٍ مظلمة قد ملئت أنواراً ورحمةً على أهلها، وقد تكون في الفيافي والقفار الموحشة ولكن الله يؤنس أهلها بالفسحة والسرور، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم من أهل هذه القبور.
وأما القسم الثاني فهم الذين تضيق عليهم قبورهم، فكم من قبور وهي في الضياء، والناس حولها يسرحون ويمرحون، ولكن أهلها في عذابٍ ونكد، حتى يأذن الله عز وجل ببعث الأرض ومن فيها.وأما المقطع الصحيح الذي أشرنا إليه: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه)، دعا له المغفرة؛ لأن الإنسان لا يأتيه الشر في آخرته ولا في دنياه إلا بذنبه؛ فإن غفر الله الذنب لم يؤاخذ العبد، وذهب عنه شؤم معصيته، وقد سميت السيئة سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها في الدنيا؛ فإن سلمه الله من شرها في الدنيا فإنها تسيء إليه في القبر، فإن سلم من الدنيا والقبر فإن الله قد يجعل نكالها مجموعاً عليه في الآخرة؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر له) فجعلها مغفرةً قبل دخوله لقبره، وقبل معاينته لصالح عمله وطالحه، وكونه يسأل المغفرة قبل أن يدخل في قبره من الشفاعة له بألا يرى ما يسوؤه وهو قادمٌ على عمله؛ خاصةً ما يكون منه من المعاصي في أقواله وأفعاله.
قوله:
(اللهم اغفر له) فإن غُفِر للعبد أصابته الرحمة، ولذلك قال: (وارحمه) فإن الإنسان قد يغفر له ولكنه يحتاج إلى الرحمة، ثم قال: (وعافه) لأن القبور فيها فتن وأهوال وشدائد، فيحتاج الإنسان أن يعافى منها، والعافية: السلامة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) وفي الحديث الصحيح: أنه كان إذا أمسى وأصبح يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي) فهذا يدل على فضل سؤال العافية.
(وعافه واعف عنه) هذا بالنسبة للحقوق التي لله سبحانه وتعالى.(وأكرم نزله) وهذا يدل أن في القبر نزلاً، وقيل: المراد (أكرم نزله) أي: في الآخرة، وهذا إشارة إلى حال السعداء.(ووسع مدخله): أي في القبر.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(اللهم افسح له في قبره، ووسع مدخله، واغسله بماءٍ وثلجٍ وبرد) فيه فوائد منها: أن الماء هو الأصل في التطهير، وبناءً على ذلك قالوا: الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالحجارة؛ لأنه هو الأصل في التطهير، وفيه دليل على أن المائع هو الأصل في الإنقاء (واغسله بماء وثلجٍ وبرد).
أما حقيقة الغسل فللعلماء وجهان:
منهم من يقول: اغسله حقيقةً، فالميت يغسله الله جل وعلا على صفةٍ لا نعلمها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغسل.ومنهم من يقول: (اغسله بالماء والثلج والبرد) كنايةٌ عن المغفرة، فيجعل الأمر على المجاز لا على الحقيقة.والصحيح: أن (اغسله) على حقيقته، وأن حقيقة الغسل ترد إلى الله سبحانه وتعالى علام الغيوب.وأخذ بعض العلماء من قوله: (والثلج) أن الثلج يمكن أن يتوضأ به؛ وذلك أنه وصف الثلج بأنه يُغسل به؛ فدل على أنه لو أخذ الثلج ومر به على أعضاء الوضوء، وأصاب بلل الثلج الأعضاء ووجد بلله عليها فإنه قد توضأ.
وبناءً على ذلك:
لو وجد الثلج ولم يجد الماء فإنه لا يعدل إلى التيمم، وفي حكم الثلج البرد، لقوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد).والذين يقولون: إن الثلج والبرد لا يغتسل بهما ولا يتوضأ بهما، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسله بالماء) وأما الثلج والبرد فزيادة نعيم له، كما أن الكافر يعذب بزيادة الجحيم فالمؤمن ينعم بزيادة النعيم، فجعلون الثلج والبرد تبعاً للماء ولم يجعلوه أصلاً.والأصل في الرواية أنها تقصد الجمع؛ ولذلك يقوى قول من قال: إنه لو مر بالثلج على يده فقد حصلت الطهارة.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
(ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) في رواية: (ونقه من الخطايا).بعض العلماء يقول: هناك فرق بين الذنب والخطيئة، ومنهم من يقول: لا فرق بين الذنب والخطيئة، وهناك كلام فيه تكلف في هذه المسألة؛ فأحياناً تُجعل الخطايا دون الذنوب، وأحياناً الذنوب أعظم من الخطايا، وهذا في مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.والتنقية من الذنوب والخطايا فيه إشارة إلى أن من يفعل الذنب فإن الذنب يتعلق ببدنه، وهذا له أصل، وهو الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أن العبد المؤمن إذا توضأ خرجت كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه من
[مصير أطفال المسلمين والمشركين]
وقوله:
[وإن كان صغيراً قال: اللهم اجعله ذخراً لوالديه وفرطاً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم].هذا الدعاء مقتبس، وليس باللفظ الوارد.
أولاً: هناك أطفال المشركين وهناك أطفال المسلمين؛ أما أطفال المسلمين فحكى طائفة من العلماء أن الإجماع على أنهم يبقون على حكم المسلمين وأنهم في الجنة، والحديث الصحيح يقوي هذا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ذكر فضل المرأة التي يموت لها ثلاثة، ثم قامت له امرأة وقالت: يا رسول الله! واثنين؟ قال: واثنين.وأن الله سبحانه وتعالى يجعلهما حجاباً لها من النار.
وسأل الرجالُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما سأله النساء: هل لهم فضل مثل ما للنساء في موت أبنائهم، وسألوه عن صغار أبنائهم، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أولئك دعاميص الجنة، لا يزال أحدهم يأخذ بأبيه حتى يدخله الجنة) أي: يقول: يا رب! أبي أبي، فيأخذ بيده ويشفع له حتى يدخله الجنة، فهذا يدل على أنه يشفع، وأنه فرط لأبيه، والفرط:
هو السابق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أنا فرطكم على الحوض) فالفرط: هو السابق؛ ففرطه على الجنة بمعنى: أنه يسبق أباه إلى الجنة.وأما أطفال الكفار ففيهم خلاف مشهور: فمن العلماء من قال: إنهم في النار، وهذا من أضعف الأقوال، قالوا لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه، فمآله إلى دين أبيه).أطفال الكفار لهم حالتان:
الحالة الأولى: أن يكونوا دون البلوغ وهم أحياء، فهؤلاء حكمهم حكم آبائهم، فأنت لو دخلت بلاد كفار وعندهم أطفال، فالأصل في هذا الطفل أنه يعامل معاملة أبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يهودانه أو يمجسانه) والعلماء يقولون: هذا من باب التقدير، وقد أشار إلى هذه القاعدة العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" قال: التقدير يكون بتقدير المعدوم مكان الموجود، وينزل منزلة الموجود، والموجود مكان المعدوم، وهذا له نظائر.فتقدير المعدوم مكان الموجود من أمثلته أطفال الكفار، فإنهم في الحقيقة لم يكفروا؛ فقُدّر المعدوم فيهم وهو الكفر ونزّل منزلة الموجود، فهذا من تقدير المعدومات؛ لأن أطفال الكفار لا بد فيهم من حكم؛ ولذلك حكم سعد رضي الله عنه في أولاد يهود بني قريظة أن تسبى ذراريهم، فجعل السبي على الذراري؛ وذلك بإلحاق الأطفال بآبائهم، وهذا من حكم الشريعة؛ لأنه لابد للشريعة أن يكون لها حكم للصغير والكبير.
فلو أن صبياً أبواه كافران فجئت به لكي يصلي معك: هل تصح صلاته أم لا؟ إن قلت: إنه على الأصل والفطرة، فقد صح أن يصلي معك وانعقدت صلاته، ولكن إذا كان على الكفر ولم يعلم الإسلام ولم يشهد؛ فإننا نقول: إنه على الأصل وآخذ حكم والديه.وهكذا في الجزية وأحكامها، فكلها مسائل تتفرع على الحكم بأنهم تبعٌ لآبائهم؛ للنص الذي يقول: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ولما حكم سعد رضي الله عنه في ذراري اليهود أن يسبوا، وعاملهم معاملة آبائهم الذين كانوا على الكفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الجبار من فوق سبع سماوات) فقُدّر المعدوم -وهو الكفر- بمنزلة الموجود.
ومن تقدير المعدوم بمنزلة الموجود: إذا نام المؤمن فإنه ليس في حالة إيمان؛ لأنه ليس معه عقل ولا معه إدراك، فتقول: يقدر المعدوم موجوداً ونحكم بكونه مؤمناً، وهكذا لو كان مؤمناً ثم جنّ فإننا نقول: إنه مؤمن؛ استصحاباً للأصل، فقدر المعدوم بمنزلة الموجود، وهكذا في أطفال الكفار قدّر المعدوم موجوداً، وهكذا أطفال المسلمين يقدر المعدوم -وهو الإسلام- موجوداً بالتبعية.فعلى القول بأنهم كفار لا إشكال أنه لا يصلى عليهم، ولا يأخذون الأحكام الشرعية، وحكمهم حكم آبائهم إذا ماتوا.
القول الثاني:
أنهم على الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة) وهذا القول من القوة بمكان، فالأصل فيهم الإسلام من حيث الحكم في الآخرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب بدون أن يكون هناك عمل من العامل يقتضي تعذيبه كما دلت النصوص من الكتاب والسنة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: حتى تقام الحجة، فالأصل في هذا الولد أنه على الإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولودٍ يولد على الفطرة) فجعل قوله: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) بعد عقله وإدراكه، ومن هنا يقولون: إن الأصل فيه الإسلام.
وهناك قولٌ ثالث: أنهم خدم المؤمنين في الجنة.وهناك: من توقف فيهم فقال: لا يحكم لهم بإسلامٍ ولا كفر، ولكل هذه الأقوال وجه، فكما ترون كلٌ منهم يتمسك بأصلٍ يدلّ على قوله.
فإذا قلنا: إن أطفال الكفار مسلمون؛ فحينئذٍ لو أُسقط أو توفي وهو صغير فإنه يصلى ويعامل معاملة المسلم، وهكذا لو أن نصرانيةً توفيت وفي بطنها جنين، فإنه يجعل وجهها لغير القبلة وظهرها إلى القبلة؛ لأن الجنين يكون وجهه إلى ظهره أمه، فتحول أمه عن القبلة ليتوجه إليها هو، فينزل بمنزلة الأصل ويعامل بهذه المعاملة.
قال بعض العلماء:
إن أطفال الكفار الله أعلم بما يكون منهم من الخير والشر، واحتجوا لذلك بما ثبت بظاهر القرآن، وذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] فأخبر سبحانه وتعالى أن مآله سيكون إلى الأذية والضرر والكفر والبغي، ومن هنا قالوا: إنه لا يمتنع أن يكون حاله إلى خيرٍ أو شر، وعلى ذلك قرروا أن يتوقف في الحكم عليه لاحتمال أن يكون شقياً أو سعيداً.والصحيح: أن الطفل لا بد من الحكم عليه إما بخيرٍ أو شر، أو الحكم عليه بإيمانٍ أو كفر؛ لأن النص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث عبد الله بن مسعود: (أنه يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات)، وهذا دليل على أنه لا يخرج مولود من بطن أمه بعد نفخ الروح فيه إلا وقد كتبه سعيداً أو شقياً، وبناءً على ذلك: كونه يموت قبل البلوغ لا يمنع من الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء؛ لأن الله أعلم بما يكون إليه أمره من سعادةٍ أو شقاء.
وجعل بعض العلماء الصغار في حكم الممتحنين، وإن كان الأصل في ذلك أنه لأهل الفترة ومن في حكمهم كالمجانين والذين لم تبلغهم الدعوة، فإن الله يمتحنهم، والامتحان كما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إنهم يحتجون على الله عز وجل، فيأمر الله عز وجل بعنق من نار، ويقول لهم: ادخلوه.
فمن دخل الموضع -وهو العنق من النار- قلبه الله عليه جنة ونعيماً، ومن امتنع وتلكأ يقول الله تعالى له: ها قد عصيتم، كيف لو جاءتكم رسلي؟! فترسل عليهم النار فيعذبون بها) فالله أعلم بما يكون من مآلهم.
الوقوف قليلاً بعد التكبيرة الرابعة ثم التسليم
وقوله: [ويقف بعد الرابعة قليلاً].
أي: بعد التكبيرة الرابعة يقف قليلاً، وهي السنة، وقال بعض العلماء: كان بعض الصحابة يفهم من هذا أن وقوفه عليه الصلاة والسلام قليلاً بعد الرابعة لأجل أن يسمع التكبير منه عليه الصلاة والسلام، ولكي إذا انتهوا من التكبير سلّم صلوات الله وسلامه عليه، وهي التكبيرة الأخيرة، ومن هنا قالوا بعدم الدعاء بعدها.
وقوله: [ويسلم واحدة عن يمينه].وهي السنة: أن يسلم ويخرج الإنسان من الصلاة بالتسليمة الأولى، وقد ذكرنا أحكام التسليم في الصلاة مبسوطاً.
وقوله:
[ويرفع يديه مع كل تكبيرةٍ].
في هذه المسألة قولان للعلماء: منهم من يقول: يرفع يديه في جميع التكبيرات، وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.ومنهم من يقول: إنه لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، وهو مذهب المالكية والحنفية رحمة الله على الجميع.
والأقوى:
أنه لا يرفع؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح أنه رفع يديه بالتكبير على الجنازة؛ ولكن لو رفع الإنسان تأسياً بـ ابن عمر، أو قوي عنده أن ابن عمر وهو المعروف بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته فرفع يديه؛ لأنه يعتقد أن ابن عمر لا يفعلها في الغالب إلا وله أصل، فلا حرج عليه في ذلك، فلا ينكر على من رفع ولا ينكر على من لم يرفع، وكلٌ على سنةٍ وخير.
الأسئلة
[حكم صلاة النساء على الجنازة]
q إذا أراد نساء من أهل الميت أن يصلين على ميتهن قبل خروجه إلى المصلى، فهل يجوز ذلك؟

a لا حرج في صلاتهن على الميت إذا كُنّ في الدار، ولكنه لم يجر عليه فعل السلف، والأولى تركه، أما من حيث الأصل من جواز صلاة النساء والرجال على الجنازة فلا حرج فيه والله تعالى أعلم.

[مكان وقوف الإمام للصلاة على الطفل]
q أين يقف الإمام بالنسبة للطفل؟

a بالنسبة للطفل قالوا: له حكم الرجل إذا كان ذكراً، وحكم الأنثى إن كانت طفلة، ولكن المعروف أن الأطفال فيهم من ضيق الحجم ما ليس في الكبار؛ ولذلك أمرهم أوسع من أمر الكبار.




ابوالوليد المسلم 30-05-2022 08:23 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (170)

صـــــ(1) إلى صــ(9)

شرح زاد المستقنع - باب الصلاة على الميت [2]

الصلاة على الجنائز فرض كفاية، ولها أركان، وتتعلق بها مستحبات وأحكام، وللعلماء رحمهم الله خلاف في الصلاة على الغائب، والصلاة على القبر، وكذا في الصلاة على أصحاب الكبائر.وفي هذه المادة ذكر الشيخ ما يتعلق بذلك مدعماً بالأدلة، مرجحاً للصحيح من الأقوال.
[واجبات صلاة الجنازة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
قوله رحمه الله: [وواجباتها: قيامٌ وتكبيرات أربع].(قيامٌ مع القدرة وتكبيرات أربع): أما القيام فلأصل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (صلِّ قائماً) فالأصل: أن يصلي الإنسان قائماً.
وقال بعض العلماء: صلاة الجنازة من النوافل؛ ولذلك لو صلى الإنسان فإنه يصلي نافلة، فيجوز له أن يصلي وهو قاعد، وهذا القول لم يخل من نظر؛ لأننا قلنا إن ظاهر قوله: (صلوا على صاحبكم) يقتضي الوجوب، لأنه أمر، والأمر يدل على الوجوب ما لم يصرفه الصارف، ولا صارف.
وقوله:
[وتكبيرات أربع]: وهي واجبة، فإذا ترك التكبيرات الأربع لم تصح صلاته إذا تركها عمداً، وإذا نسي ومن عادته أن يكبر أربعاً فكبر ثلاثاً ونسي الرابعة وسلم، فللعلماء وجهان: منهم من يقول: يبادر بسجود السهو، ومنهم من يقول: صلاة الجنازة لا سهو فيها، أي: لا يسجد فيها لسجود السهو.
وقوله:
[والفاتحة]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وقوله: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم]: أي: إعمالاً للأصل في الصلاة، وقد تكلمنا على مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والتشهد، وبينا هناك أرجح الأقوال من العلماء.
[الدعاء للميت من واجبات صلاة الجنازة]
وقوله:
[ودعوة للميت].هذا مذهب من يقول بالتنويع في الدعاء، لأن المقصود من الصلاة عليه الدعاء؛ ولذلك إذا وجبت الصلاة وجب الدعاء؛ لأنه المقصود من الصلاة وهو المعتبر، وعلى هذا قالوا: يجب أن يدعو للميت.
والذين يقولون بعدم وجوب الفاتحة يقولون: إنه يدعو أقل الدعاء، يعني يدعو بأقل ما يسمى دعاءً، فلو قال: اللهم اغفر له، وكبر وسلم؛ صح، ولو قال: اللهم ارحمه، وكبر وسلم؛ صح، ولكن ينبغي أن يجتهد في الدعاء؛ لأن السنة أن يدعو ويجتهد، وأن يكون الدعاء مصحوباً بالإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من صلى على الميت أن يخلص في الدعاء.
ومن الأسباب التي تعين على الإخلاص في الدعاء للميت: تنزيل الإنسان نفسه منزلة الميت، وكذلك رؤية حال الميت وما هو عليه من الإقبال على الآخرة وافتقاره؛ فإن هذا يعين الإنسان على الشفقة عليه والرحمة به.
ومما يعين: تذكرك أن الله سبحانه وتعالى يجزي المحسن بإحسان، فكما أخلصت الدعاء لأخيك في هذه الحالة فإن الله سيقيض لك من يخلص لك الدعاء إذا ما مت غداً.إذا علمت أنك إن أخلصت لأخيك المسلم في الدعاء فإن الله سيسخر لك من يخلص لك في الدعاء، فإن ذلك أدعى أن تدعو له، وهذه من الأمور التي تعين على الإخلاص في الدعاء وكثرة الدعاء لموتى المسلمين والترحم عليهم، وذلك أن الإنسان إذا تذكر أنه سيئول إلى مآلهم، وأن الله سيجزيه ويشكر له إحسانه، ويقيض له من يدعو له ويستغفر له ويترحم عليه كما ترحم على أموات المسلمين؛ فإن هذا يدعو إلى كثرة الترحم عليهم والدعاء لهم سواء في الصلاة عليهم أو في غيرها.ولذلك ينبغي على الإنسان ألا ينسى هذا الفضل، وهو أنه يقيض له من يفعل به مثل ما فعل بإخوانه؛ لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فهو يجزيك في الدنيا والآخرة، فإنك إن أحسنت لإخوانك المسلمين بدعائك لهم حياً سيحسن الله لك بإحسان إخوانك إليك -أيضاً- في حال موتك.
والعكس بالعكس:
فإذا أصبحت صلاة الموتى شيئاً يغفل الإنسان عن معناه وعن مقصوده، ويدعو وهو غافل ساه لاهٍ؛ فإنه أحرى إذا صُلي عليه أن يصرف الله القلوب فلا تخلص له في الدعاء، فمثلما كان يقف على إخوانه المسلمين خاوي القلب ساهياً لاهياً يفكر في أمور الدنيا بعيداً عن الترحم عليهم والشفقة عليهم، والنظر إلى حالهم وهم في هذه الحالة أفقر ما يكونون إلى دعوة صالحة منه؛ فإن الله يقيض له أن يفعل به مثلما فعل بإخوانه، فإن الله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على قدر ما يكون منه من العمل.
وينبغي للإنسان إذا مر على القبور أن يخلص في الدعاء لأهلها، وإذا ذكر أموات المسلمين خاصةً العلماء، فلا يقل: قال العلماء فقط، وإنما يقول: قال أهل العلم رحمهم الله.
وإذا ذكر ميتاً من أهل العلم قال: قال العالم فلان رحمه الله.تصور إذا قلت: قال الحنفية رحمهم الله أو المالكية رحمهم الله أو الشافعية رحمهم الله، أو قلت: قال أهل الحديث رحمهم الله، أو أهل العلم رحمهم الله؛ يكون في ميزان حسناتك ملايين الحسنات؛ لأنك تترحم على أمم لا يعلم عددها إلا الله سبحانه وتعالى.
فكيف إذا أمسيت وأصبحت وأنت تقول: رب اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، كيف إذا أمسيت وأصبحت وأنت تذكر أموات المسلمين وأحياءهم بالرحمة، كم لك من الأجور! وكم من الرحمات ستغشاك إما عاجلاً أو آجلاً! ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الله) فهذا من رحمة المسلم بأخيه المسلم، وأما الغفلة عن حقوق الأموات والدعاء لهم والترحم عليهم فسيبتلى صاحبها بمثلها، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل.
وقوله:
[والسلام].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فالتسليم منها واجب للخروج منها، أي: الخروج من حرمتها، فيسلم تسليمةً واحدة يخرج منها.
[حكم من فاته شيء من التكبيرات]
وقوله: [ومن فاته شيءٌ من التكبير قضاه على صفته].
هذه المسألة تأتي على صورتين:
إما أن تكون الجنازة موجودة، وإما أن تحمل مباشرة وترفع؛ فإن كانت الجنازة باقية قضيت ما فاتك من الدعاء والأذكار، وللعلماء وجهان: بعضهم يقول: إذا دخلت في صلاة الجنازة تبدأ بصلاتك مرتبة.
وبناءً على هذا القول:
لو دخلت والإمام يدعو فإنك تقرأ الفاتحة، وكذلك لو دخلت وهو في التكبيرة الثانية أو وهو يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فإنك تقرأ الفاتحة، فحينئذٍ يرون أنه يعتد بصلاته مبتدئاً، بحيث إذا صار في آخر الصلاة صار إلى الدعاء.
ومنهم من يقول:
يدخل مع الإمام حيث كان، وهو أقوى، وهذه المسألة لها نظائر، منها: لو دخلت في صلاة ما فأدركت الركعة الأخيرة أو الركعتين الأخيرتين من الظهر فصليت وراء الإمام، فهل تقرأ الفاتحة وسورة بعدها؟ لأن السنة في صلاة الظهر أن تقرأ بعد الفاتحة سورة أما في صلاة العصر فلم يرد نص، وإن كان بعض الفقهاء قال: تقرأ سورة بعد الفاتحة، لكن الأفضل التأسي بقراءة الفاتحة وحدها.
وهل العبرة بك أم بالإمام؟ فإن قلنا: العبرة بك، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة بعدها؛ لأنها أول صلاتك، فإذا جلست للتشهد فإنك تتشهد التشهد الأول والإمام يتشهد التشهد الأخير، ولا تزيد في تشهدك على الصفة الواردة في التشهد الأول.
والقول الثاني وهو الأقوى والأصح: أنك تعتد بحالتك كحالة الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ويتفرع على هذا العمل في الأفعال كما في الأقوال، فلو أنك دخلت وراء الإمام -مثلاً- في صلاة المغرب، وهو في التشهد الأول، فقام إلى الركعة الثالثة، فعند ذلك سيرفع يديه -لأنه سيقوم إلى الثالثة- فهل ترفع يديك أم لا؟ قالوا: لا ترفع يديك إذا كنت تعتد بحالك، وترفع يديك إذا كنت تابعاً للإمام، وهو الأقوى والأصح، أنك إذا كنت وراء الإمام فعليك أن تعتد بحاله، لقوله: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به) قولاً وفعلاً، فعلى هذا القول تقرأ التشهد كاملاً، وتدعو وتستغفر كأنك في آخر الصلاة، حتى إذا ما سلم قمت لتتم ما فاتك من الصلاة، فأنت وراءه في ركنه متابعةً، وأنت منفردٌ مستقل إذا سلم الإمام وانفصلت عنه.
أما بالنسبة لمن فاتته تكبيرة الجنائز: فإذا فاتتك التكبيرة على الجنازة فتنظر: إذا كانت الجنازة تترك قليلاً قضيت ما فاتك فتدعو وتترحم على الميت، وأما إذا رفعت مباشرة فعليك أن توالي بين التكبير ولا تدعو، فلو فاتتك تكبيرتان وقال الإمام: السلام عليكم، فقل حينئذٍ: (الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم).فهذا يعتبر من التأسي بالنسبة لحال الصفة في الصلاة، فإن الصلاة لا تصلى إلا على الجنازة الحاضرة ولا يصلى عليها قبل حضورها، فكما أنك لا تصلي على الجنازة قبل أن توضع، فلا تصلي عليها بعد أن ترفع.
ومن هنا فالجماهير على أنك لا تقول الأذكار إذا رفعت مباشرة، وفرق بعض العلماء بين أن ترفع وتبقى تجاهك، وبين أن ترفع وتتوارى عنك، وهذا التفريق ذكره القرافي رحمه الله في "الفروق"، وفي "الذخيرة" وغيره من العلماء رحمة الله عليهم، لكن لا أحفظ له دليلاً؛ لكن كأنه يرى أنك إذا كنت ترى الجنازة أمامك ولو كانت خارجة كأنها أمامك، ولكن القول لا يخلو من نظر، ولكن الأقوى أنها إذا رفعت أنه لا يصلى عليها، كما أنها قبل أن توضع لا يصلى عليها والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت]

يقول المصنف رحمة الله:
[ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر].
بعد أن بين المصنف رحمه الله صفة الصلاة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، شرع رحمه الله في بيان حكم من فاتته الصلاة على الميت في المسجد، فقال رحمه الله: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر).وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل يشرع له ذلك أو لا يشرع؟ ولها نظائر، منها: لو كان الإنسان مسافراً، ثم قدم بعد وفاة قريب له أو إنسان يعرفه، وأحب أن يصلي عليه بعد دفنه، فهل يشرع ذلك أو لا يشرع؟ للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: يشرع لمن فاتته الصلاة على الميت أن يصلي على قبره.وهذا القول يقول به فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وهو مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فروي عن علي وعبد الله بن عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع.
القول الثاني: لا تشرع الصلاة على القبر، وإنما تختص الصلاة بالصفة المعهودة التي تكون قبل دفن الميت، ولا يشرع لأحدٍ أن يصليها على أحدٍ بعد قبره إلا في حالة ما إذا لم يصل عليه، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية رحمة الله على الجميع.
فتحصل معنا أن العلماء -رحمهم الله- ينقسمون إلى طائفتين: طائفةٌ تجيز الصلاة، وطائفة تمنع، ومن الذين يمنعون من يستثني حالة ما إذا لم يصل على الميت، فيجيز الصلاة على الميت إذا لم يصل عليه.وبناءً على ذلك يكون محل الخلاف إذا صُليّ عليه قبل دفنه، أما إذا لم يصل عليه قبل دفنه فكلهم يقولون بجواز الصلاة عليه بعد قبره.أما بالنسبة للأدلة فقد استدل الذين قالوا بجواز الصلاة على الميت بعد دفنه، بحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد -تنظفه وتكنسه- فإنها توفيت في الليل، ولم يُعلم النبي صلى الله عليه وسلم بها، ثم إنه افتقدها صلوات الله وسلامه عليه، فسأل عنها رضي الله عنها، وكانت تسمى أم محجن، ثم إنه لما أخبر عليه الصلاة والسلام أنها توفيت، وأنهم صلوا عليها بالليل، قال: هلا آذنتموني؟! ثم انطلق إلى قبرها وقال: دلوني على قبرها، فدلّ صلوات الله وسلامه عليه على قبرها، فقام على قبرها وصلى.في هذا الحديث دليل على مشروعية الصلاة على الميت بعد دفنه، فأصحاب هذا القول يقولون: لو كانت الصلاة على الميت بعد دفنه ممنوعة لما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا كذلك بحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد، وذلك أنه قدم المدينة بعد وفاتها فقام على قبرها وصلى عليها رضي الله عنها وأرضاها، قالوا: فبهذه النصوص يتبين أنه يشرع أن يصلى على الميت بعد دفنه.
وهناك حديث ثالث أشار إليه البخاري رحمه الله، وهو حديث عبد الله بن عباس، وقد قيل إنه في الأصل حديث طلحة بن البراء رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان بقباء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد زاره وهو مريض، فقال لأهله: (ما أظن طلحة إلا قد نزل به الموت، فإذا مات فآذنوني) يعني: أعلموني- فلما ذهب عليه الصلاة والسلام قال طلحة رضي الله عنه لأهله: إذا أنا متّ فلا تؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أخاف عليه اليهود أن يمسوه بسوءٍ، ففعل أهله ما أمرهم به، فلم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فأُخبِر صلوات الله وسلامه عليه بعد دفنه، فذهب إلى قبره فقام عليه ودعا، حتى جاء في دعائه: (اللهم الق طلحة، تضحك إليه ويضحك إليك).
فحمل بعض العلماء حديث ابن عباس في الصحيح:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى على قبرٍ بعدما دفن) وفي روايةٍ: (على قبرٍ منبوت) -وهي الرواية المرسلة التي أشار إليها البخاري في صحيحه- على قصة طلحة، وقالوا: إن هذا يدل على مشروعية الصلاة على الميت بعد قبره، وبمجموع هذه الأحاديث يقول هؤلاء العلماء رحمةُ الله عليهم:
إنه لا حرج إذا جئت بعد الصلاة على الميت أن تقوم على قبره وتصلي عليه.وذهب الحنفية والمالكية إلى عدم مشروعية الصلاة على القبر، وأن من خصوصياته عليه الصلاة والسلام: أن يصلي على الميت على قبره بعد دفنه إذا صُليّ عليه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) قالوا:
فهذا نص من لفظه عليه الصلاة والسلام يفسر ما كان من فعله، ويدل دلالة واضحة على معنى الخصوصية؛ قالوا:
ولذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم هذا إلا في أحوالٍ مخصوصة، فصلى على أم سعد، تطييباً لخاطر سعد وذلك لمكان سعد وعظيم بلائه في الإسلام، كما صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي سلول تطييباً لخاطر ابنه عبد الله، وكما فعل في المرأة التي كانت تقم المسجد، ومع هذا قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم).
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم له خصوصية الصلاة، فكانت إعادة الصلاة منه عليه الصلاة والسلام لمعنىً يختص به، لا يشاركه فيه غيره من الصحابة، وقالوا: إن ما سبق في الحديث يؤكد هذه الخصوصية.ولكلا القولين وجهه، وإن كان التعليل الذي ذكره أصحاب القول الثاني من القوة بمكان، خاصةً وأنه لم يقع إلا في الأفراد، وهذا من كلامه عليه الصلاة والسلام الذي يدل دلالة واضحة على التخصيص؛ فإن قوله: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) نصٌ صحيح وصريح، والعلة إذا جاءت منصوصة من كلامه لا بد من اعتبارها.
ومن الأدلة التي تقوي القول الذي يقول بمنع الصلاة عليه:
عموم النهي عن الصلاة في المقبرة، فإن الأصل عدم الصلاة في المقبرة، وذلك يشمل مطلق الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما فرق بين صلاةٍ وأخرى، ولذلك قالوا: لو فتح هذا الباب لاسترسل الناس، وأصبح كلما فاتت الصلاة على إنسان جاء ووقف على القبر وصلى، مع أن الشرع قد أعطى البديل عن ذلك، بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار له.
قالوا:
فلما وجد البديل الذي لا شبهة فيه؛ فإنه يبقى على الأصل الذي يقتضي حظر الصلاة في داخل المقابر، خاصةً وأن السنة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الصلاة في المقبرة وفي الحمام.
وإذا قلنا:
إنه يشرع أن يصلى على الميت بعد قبره، فما هو الأمد الذي يشرع للإنسان أن يصلي في حدوده، فإذا جاوزه لم يجز له أن يصلي على الميت؟ للعلماء أقوالٌ في هذه المسألة: القول الأول:
أنه إلى ثلاثة أيام، وهو وجهٌ يختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله كما درج عليه الخراسانيون من أصحابه، وعليه الفتوى عندهم.
والقول الثاني: أنه إلى شهر؛ وذلك على ظاهر حديث أم سعد رضي الله عنها، أنه صلى عليها بعد شهر.
والقول الثالث:
ما لم يتغير، فيشرع أن يصلى على الميت ما دام يغلب على الظن أنه لم يتغير وأنه باق، وهذا مبني على النظر؛ لأن الصلاة شرعت على الميت، فإذا كان موجوداً صُلّيَ عليه، وإن كان متحللاً.قد فني فإنه لا يصلى عليه كمن أكله السبع.
والوجه الرابع: أنه إلى الأبد، وهذا من أضعف الأقوال عند العلماء رحمة الله عليهم.
[حكم الصلاة على الغائب]
قال المصنف رحمه الله:
[وعلى غائب بالنية إلى شهر].
(وعلى غائبٍ) أي: يشرع أن يصلى على الميت الغائب، والميت الغائب: هو الذي يتوفى في بلدٍ غير بلده، وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يشرع لك أن تصلي عليه صلاة الغائب أو لا يشرع؟ وهذه المسألة من المسائل القديمة، والخلاف فيها مشهور، فمن أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: لا تشرع الصلاة على الميت الغائب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
والقول الثاني:
تشرع الصلاة على الميت الغائب، وبه يقول بعض أصحاب الإمام الشافعي وهو مذهب الحنابلة.ومن أهل العلم من توسط بين القولين، فقال: إذا كان الميت الغائب قد مات في بلدٍ لم يصل عليه فيها، كأن يموت في بلد كفار، أو كان ممن له بلاءٌ في الإسلام كالعالم العظيم الأثر، والوالي الذي عُرفَ بصلاحه وبلائه للمسلمين، فإنه يُشرع أن يُصلى عليه صلاة الغائب، وأما من عدا ذلك من أفراد الناس وآحادهم فلا يشرع أن يصلى عليهم صلاة الغائب.
أما الذين قالوا بالجواز فاحتجوا بما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(أنه نعى النجاشي - أصحمة - رضي الله عنه وأرضاه يوم توفي، وقال: توفي اليوم عبدٌ صالح، ثم خرج صلوات الله وسلامه عليه بأصحابه وصفهم، ثم كبر وصلى عليه).
قالوا: فهذه صلاةٌ على ميت غائب، لأن النجاشي توفي بالحبشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فدل هذا على مشروعية الصلاة على الميت الغائب.
والذين قالوا بالمنع قالوا:
إن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً على العموم، وهذا أصل اعتبره العلماء رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم خلاف في تطبيق القاعدة.
وقضايا الأعيان: هي الصور التي ورد الشرع بآحادها، وفُهم من الشرع قصده لهذه الآحاد، فلذلك يقولون: قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم.وضابط هذه القاعدة: أن يكون الأصل على خلاف ما ورد به النص، فالأصل عندنا: أن الميت لا يصلى عليه إلا بحضوره، ولذلك لو غسل وكفن ولم يشهد في المسجد لم يشرع لك أن تصلي عليه، فهكذا إذا كان غائباً، قالوا: لا يصلى على ميت قبل حضوره وشهود الإنسان للصلاة عليه، وبناءً على ذلك قالوا: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أصحمة يعتبر خاصاً به.
فمنهم من يقول: إنه خاص؛ لأن النجاشي كان ببلدٍ ليس فيه مسلمون، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى عليه، وكانت صلاته بمثابة العوض عن المسلمين الذين يصلون على الميت حال حضوره.
ومنهم من يقول: إنه تخصيص لفضل هذا الرجل، وعظيم بلائه في الإسلام، ولا شك أنه رضي الله عنه وأرضاه وقف مع المسلمين موقفاً عظيماً حتى ضحى بولايته في سبيل نجاة المسلمين، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا بالحبشة، ولذلك شُرّف بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وثنائه عليه، حتى قال: (توفي اليوم عبدٌ صالح) وهذه تزكية من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، ويعتبر من الصحابة على مذهب من يقول: إنه لا تشترط الرؤية؛ فإنه آمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبر صحابياً من هذا الوجه، ومنهم من يقول: إنه كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوصف بكونه صاحباً مع كونه مؤمناً به، فيلغزون به ويعنون به النجاشي رضي الله عنه وأرضاه.
أما القول الثالث فقال أصحابه:
الأصل أن لا يصلى على الغائب، فلما جاءت واقعة النجاشي نظرنا فيها، فوجدنا أن النجاشي فيه معان: إما أنه عظيم البلاء في الإسلام؛ فيلحق به كل من كان مثله، فتكون مشروعية الصلاة على أمثال هؤلاء ليقتدى بهم في الخير، فإذا كان عالماً فإن ذلك يدعو غيره من العلماء أن يبلوا كبلائه، وهو من باب الوفاء له لما قدم من جميل الإحسان للمسلمين، وهكذا إذا كان والياً وكان له بلاءٌ على المسلمين؛ فإنه يشحذ همة غيره من الولاة أن يسيروا بسيرته وأن يقتفوا بأثره، وهكذا إذا كان مجاهداً.
فقالوا: إن أصحمة النجاشي كان ممن له فضل على المسلمين؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاة الغائب لكي يرفع من منزلته؛ ويجل شأنه لما كان منه من نصرة الإسلام والمسلمين، فحفظ له هذا الفضل والجميل، فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه صلاة الغائب.
ومن أهل العلم من قال: تشرع الصلاة على الميت الغائب إذا أمر بها ولي الأمر، وإذا لم يأمر بها فإنه لا يفعلها الأفراد، وهذا على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا عليه، فدل على أنهم إذا أُمِروا فإنه يشرع أن يصلى على الميت الغائب، ولا يشرع لآحاد الناس وكل من هب ودب أن يقوم ويصلي على الميت الغائب، هذا عند أصحاب هذا القول.وفي الحقيقة أن هذا التفصيل من القوة بمكان، فيقال: من كان عظيم البلاء في الإسلام صُلِّي عليه، أو إذا أمر ولي الأمر فيصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة فصلوا.
أما أن يقال: بجواز الصلاة على كل ميتٍ غائب، وكل من مات له قريب في بلد يصلي عليه، فهذا محل نظر، ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي أصحابٌ له في المدينة، وهو في غزواته وأسفاره، ومع ذلك ما صلى على واحد منهم صلاة الغائب، وبذلك يقوى القول: أن في النجاشي خصوصية من جهة المُصلي ومن جهة الأمر بالصلاة عليه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عليه، أو له فضل أو له مزية؛ فإنه حينئذٍ يشرع أن يصلى عليه صلاة الغائب، وأما أن يصلى على كل غائب فهذا مرجوحٌ من جهة النظر في الأدلة.
قال المصنف رحمه الله: [بالنية إلى شهرٍ].
قوله:
(بالنية إلى شهر)، أي: لأن الميت الغائب ليس بحاضر، وشرط ذلك أن يكون في بلدٍ غير بلد المصلي، أما لو كان معك في نفس المدينة فإنه يشرع أن يذهب الإنسان إلى مسجده، ويُصلى عليه في مسجده الذي يصلى عليه، أما لو صلى أهل حيّ على ميتٍ في بلدهم ينوون به صلاة الغائب فإن ذلك غير مشروع.
[حكم الصلاة على الغال]
قال المصنف رحمه الله: [ولا يصلي الإمام على الغال].
(الإمام) يطلق بمعنيين: إما أن يقصد به الإمامة الكبرى، وهي: أن ولي أمر المسلمين لا يصلي على الغال.
والغال: هو الذي غلّ من الغنيمة.
والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ويكون أشبه بالسرقة، فيسرق من الغنيمة ويأخذ منها قبل قسمتها، وهذا هو الذي توعده الله، فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] فأخبر أنه يفضح على رءوس الأشهاد يوم القيامة.وأجمع العلماء على أن الغلول من الغنيمة من كبائر الذنوب التي توجب فسق صاحبها وسقوط عدالته ورد شهادته، وتوجب تعزير صاحبه، فلا يصلي الإمام العام عليه.
والمعنى الثاني للإمام:
الإمام الخاص، وهي التي يسميها العلماء الإمامة الصغرى، وهي إمامة الصلاة، ولا شك أن الإمام الراتب وإمام الحي ينزل منزلة الإمام العام، فإذا توفي في الحي من عُرف بفسقه وفجوره، وفيه هذا المعنى الذي هو الغلول أو ما هو مثله من المعاصي الكبيرة، فإنه لا يشرع أن يصلى عليه أهل الفضل كالعلماء ونحوهم ممن لهم فضل؛ زجراً للناس أن يكونوا على حالتهم.
أما الدليل على عدم الصلاة على الغال فما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام:
(أنه أتي برجل ليصلى عليه، فامتنع عليه الصلاة والسلام وقال: صلوا على صاحبكم! فتغيرت وجوه القوم، فقال: إنه غلّ، ففتش رحله فوجدت فيه خرزات من خرز اليهود) وهذا يوم خيبر، وكانت الخرز لا تساوي درهمين، فحُرِم بسببها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ودعاؤه واستغفاره له.
وقال بعض العلماء:
كل من اقترف الكبائر، وكان في حكم الفساق فإنه لا يصلي عليه الإمام، وعليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله إلحاقاً له بمن غل في الغنيمة، قالوا: لأن المعنى واحد، وإن كان الأقوى أنه يصلى عليه إعمالاً للأصل، ويستثنى من ورد النص باستثنائه وهو من غل من الغنيمة ومن قتل نفسه.
[حكم الصلاة على قاتل نفسه]
قال المصنف رحمه الله: [ولا على قاتل نفسه].
أي: ولا يصلى على من قتل نفسه، وهو المنتحر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (أنه أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فامتنع من الصلاة عليه، فصلى عليه الصحابة) وفي هذا دليل على أنه يترك ليصلي عليه الناس، أما الإمام -الذي هو إمام المسجد أو الإمام العام- فإنه لا يصلي عليه؛ زجراً للناس عن فعله.والقاتل لنفسه ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعذب بما قتل به نفسه، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري-: (من تحسى سماً فمات منه؛ فهو في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها، ومن طعن نفسه بحديدة فمات فهو يجأها في نار جنهم خالداً مخلداً فيها، ومن صعد إلى شاهق فتردى منه فمات، فهو في نار جنهم يتردى خالداً مخلداً فيها) نسأل الله السلامة والعافية.
والخلود هنا للمستحل الذي استحل هذا الفعل، ولا شك أن الإقدام على الانتحار إنما يكون لضعف الإيمان، ولذلك ينبغي للمسلم أن يسعى في زيادة إيمانه، وأن يعود نفسه كلما ضاقت عليه الدنيا أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن كثرة الضيق وكثرة الهموم والغموم توجب على المؤمن التسلح بالتعلق بالله عز وجل أضعاف ما نزل به من البلاء، وكلما كان التجاء العبد إلى الله أصدق، ويقينه بالله سبحانه وتعالى أكمل؛ كلما كان الفرج أقرب إليه من حبل الوريد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118] فلما بلغ الأمر مبلغه، ووصلوا إلى قوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118]، جاء الفرج عند قوة اليقين أنه لا ملجأ ولا منجى ولا مفر ولا مهرب من الله إلا إلى الله؛ فإن بلغ العبد هذا المبلغ فقد نعمت عينه في البلاء، وهذا هو مقام اليقين في حال الكرب.
فإن الإنسان تنتابه الهموم في نفسه وأهله وماله وولده، فإذا اطرح بين يدي الله عز وجل داعياً ضارعاً شاكياً مبتهلاً متضرعاً متخشعاً فإن الله يحب منه ذلك، ولعل الله أن يجعل هذا الابتهال والتضرع سبباً في زيادة قربه منه؛ لأنه كلما ابتهل وتضرع لله سبحانه وتعالى وصدق في يقينه كلما زاد قربه من الله، وكم من إنسان نزلت به المصيبة فكانت سبباً في قربه من الله جل وعلا، وهذا الذي يسميه العلماء: تحول النقمة إلى نعمة، أي: أنها نقمة في الظاهر لكنها آلت إلى نعمة في الباطن.فينبغي على المؤمن ألا يقدم على هذه النهاية التي هي أسوء النهايات، وهي من علامات سوء الخاتمة، والله عز وجل جعل النفس أمانةً في عنق كل الإنسان، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
يقول بعض العلماء: إن الله قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ثم قال بعدها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} كأنه يقول: أبشروا، مهما أصابكم من الهم والغم فإني رحيمٌ بكم، ولا يحتاج الإنسان لتفريج همه وإزالة غمه أن يقدم على تعذيب نفسه، بل عليه أن يقبل على الله سبحانه وتعالى، وأن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا ملجأ للعبد ولا منجى منه إلا إليه سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه عند النوم أن يقول: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك).
فإذا فوّض العبد أمره إلى الله ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية، وصعدت كلماته ودعواته وابتهالاته ومناداته إلى الله سبحانه وتعالى، كلمات تفتح لها أبواب السماوات؛ لأنها تخرج من قلبٍ صادق متعلق بالله جل جلاله؛ فيرحمه الله عز وجل، ولكن إذا أراد الله أن يشقي عبداً أسلمه إلى الشيطان، وأسلمه إلى سوء الظن بالرحمن، فأصبحت تضيق عليه نفسه التي بين جنبيه، فأول ما ينزل به من الكرب في نفسه وماله وولده، تضيق دائرته عليه ويتسخط على القضاء والقدر، ولربما يتسخط على ربه، ويذكر الكلمات التي لا تليق بالله سبحانه وتعالى، وأن الله ظلمه، وأن الله نكد عيشه وأن الله، وأن الله، فلا يزال ربك يضيق عليه حتى يضيق من نفسه التي بين جنبيه، فيتسلط عليه الشيطان، فيقدم على قتلها وينتحر والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.فهذا لا يكون إلا مع ضعف الإيمان، فمن قتل نفسه وأقدم على الانتحار فإنه لا يصلى عليه؛ لكن بشرط:
أن يكون إقدامه على قتل النفس والانتحار بغير عذر، أما لو انتحر بعذر كإنسان مجنون رمى نفسه من شاهق، فإنه يصلى عليه ويترحم عليه، ويدعى له، وهو على خير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يشفيك.
قالت:
أصبر ولي الجنة).فمثل هذا إذا ابتلي ببلاء في نفسه من سحرٍِ أو مسٍ أو جنون فانتحر؛ فإن الله عز وجل يؤجره على ما كان منه، ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويترحم عليه، لما له من الأصل، ويكون فعله هذا معذوراً به على حاله الذي بلي به.
وهكذا يقول العلماء:
لو شرب المسكر غير عالم به، ثم قتل نفسه؛ فإنه لا يكون في حكم المنتحر، كإنسان أعطي شراباً يظنه عصيراً أو ماءً فشربه، فإذا به مسكر، فسكر وقتل نفسه؛ فإن مثل هذا يصلى عليه؛ لأن سكره كان بعذر، وهكذا لو خدر في جراحةٍ ونحوها، وحصل منه شيء عند زوال إدراكه وعدم وعيه حتى مات وتَلِفت نفسه؛ فإنه في هذه الحالة يعتبر معذوراً، كما لو أقدم على سل شيء من نفسه لنفسه ونحوه فمات بسبب عدم وجود النفس؛ فإنه في هذه الحالة يعذر ويصلى عليه، ويصلي عليه الإمام، ويدعى له ويستغفر له.
أما بالنسبة لغير هؤلاء من عموم العصاة فللعلماء فيهم قولان:
من أهل العلم من يقول: كل من ارتكب الكبائر -خاصةً من يجاهر بها- فإنه يمنع من الصلاة عليه، أي: لا يصلي عليه الإمام، أما أفراد الناس فيصلون عليه، والسبب في ذلك: أنهم مطالبون بالصلاة على الميت، إضافةً أنهم يؤجرون عليها، فلا وجه أن تحرم نفسك القيراط في الصلاة عليه.فيصلى عليه.
لكن بالنسبة للإمام فلا يصلى على هؤلاء للاستثناء الذي ذكرناه، والقول: بأنه يختص بما ورد من قاتل النفس والغال من القوة بمكان، ويبقى ما عداهم على الأصل الموجب لصلاة الإمام وغيره عليهم.
[حكم الصلاة على الميت]
قال المصنف رحمه الله:
[ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد].
(ولا بأس)
: أي لا حرج ولا جناح أن يصلى على الميت في المسجد، والضمير في قوله: (عليه) ليس عائداً على القاتل نفسه ولا على المنتحر، إنما هو عائد على الميت، وهي مسألة خلافية: هل يجوز أن تدخل الجنازة إلى المسجد أو لا يجوز؟ بعض العلماء يمنع من إدخال الجنائز إلى المسجد، وكان هذا القول يقول به بعض الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما أرادت عائشة رضي الله عنها أن تصلي على سعد -رضي الله عن الجميع- أمرت أن يدخل إلى المسجد فأنكر الناس ذلك، فقالت:
(سبحان الله! سرعان ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد).
فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجوز إدخال الجنائز إلى المساجد للصلاة عليها، وخالف في ذلك أصحاب مالك رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنفية فقالوا: لا تدخل الجنائز إلى المساجد، وإنما يكون للجنائز مصلى، وقد كان للجنائز مصلىً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا على سبيل الأفضل، وأما دخولها إلى المسجد فلا حرج فيه، وهذا الذي عناه المصنف بقوله: ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد،
أي:
لا جناح ولا حرج؛ خلافاً لمن قال من أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه لا تدخل الجنائز إلى المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل مصلى يصلى فيه على الجنائز؛ لكن الصحيح أنه لا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهل في المسجد، وهذا حديث صحيح ثابت عنه عليه الصلاة والسلام.




ابوالوليد المسلم 30-05-2022 08:46 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (171)

صـــــ(1) إلى صــ(16)

شرح زاد المستقنع - تشييع الميت ودفنه

للجنائز أركان متعلقة بتشييعها وحملها، ومن ذلك: صفة المشي بها، وكيفية حملها، وما يسن في المشي بها، وما يكره أو يحرم، ونحو ذلك، وهناك أحكام متعلقة بالدفن، منها: كيفية إدخال الميت إلى القبر، وأيهما أفضل الشق أم اللحد، وغيرها من الأحكام.
[صفة حمل الجنازة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يقول رحمه الله: [فصلٌ: يُسَنُّ الترْبِيع فِي حَمْلِهِ].
في الواقع أن الحمل قد يسبق الصلاة؛ لأن الإقبال بالميت إلى المسجد يحتاج إلى حمل، وتأخير المصنف للحمل له وجه، فبعض العلماء يقدم أحكام الحمل على الصلاة، وبعضهم يؤخر أحكام الحمل عن الصلاة.
فيكون وجه من قدم أحكام الصلاة على الحمل:
أن الصلاة واجبة؛ فألحقت بالواجبات المتقدمة من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه؛ فألحقت بالنظير من جهة مرتبة اللزوم.
ثم الحمل بعد ذلك؛ لأنه يكون بعد الصلاة.وحمل الميت فيه فضيلة؛ وذلك أنه عملٌ يقصد به القربة، ويعتبر من الحسنات، أي: أن الإنسان يثاب إذا قصد به وجه الله عز وجل، والعلماء رحمة الله عليهم يتكلمون عليه ويبينون أحكامه؛ لورود السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الميت، وكذلك الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اعتنى المصنف رحمه الله ببيان هذه الأحكام والمسائل، فقال رحمه الله: (يسن التربيع في حمله).
[التربيع في حمل الجنازة]
فقوله: (يسن التربيع): من المعلوم أن سرير الميت يكون على أربعة أعمدة يحمل الميت بها:
عمودان في مقدمة الجنازة، وعمودان في مؤخرة سرير الجنازة؛ والأفضل والأكمل للإنسان أن يكون حمله من هذه الجهات الأربع، وفيه أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولكن فيه انقطاع، ولذلك يعتبر مرسلاً، لأن أبا عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
والتربيع:
أن يبدأ بمقدمة الجنازة ويأخذ باليمين؛ لفضل اليمين وشرفها؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المؤخرة في نفس جهة اليمين، ثم بعد ذلك يرجع إلى المقدمة فيحمل بالأيسر، ثم يتأخر المؤخرة للأيسر، فيكون قد ربع.هذا هو الذي يقصده العلماء من التربيع.
أي: أن يكون حمل الإنسان للجنازة من جهات السرير الأربع، ولا يقتصر على جهةٍ دون جهة؛ للحديث الذي ذكرنا، ولو صح لا شك أنه يعتبر دليلاً على الفضيلة، لكن الأمر واسع إن شاء الله تعالى، ولا حرج أن يحمل الإنسان من أي جهة، ولا شك أن أن يبدأ بجهة اليمين تأسياً بتفضيل اليمين.
فإن شق عليه لمكان الزحام وضرر الناس، بحيث يصعب عليك أن تنتقل إلى جهة اليسار، أو صعب عليك أن تتقدم حتى تنال المقدمة فالأمر واسع.
وقال بعض العلماء:
الأفضل أن يحمل بعمودي السرير، أي: أن يكون وسطاً في مقدمة السرير، ويرون هذا في المقدمة لا في المؤخرة، وتوضيح ذلك: أنه في المقدمة يمكن أن يرى من أمامه، فيحمل بطرفي عضادتي السرير، وفي ذلك حديث وراد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمله لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: إن هذا يدل على أن الأفضل أن يأخذ بهما.والذي يظهر أن الأمر واسع، خاصةً قي حال الزحام، ولأنه ربما أضر بغيره، وربما أجحف به، وربما لا يصل إلى الجهات على الطريقة التي ذكرناها إلا بأذية.
أما بالنسبة للتثنية وحمل طرفي السرير من آخر السرير فهذا من الصعوبة بمكان؛ لأنه إذا حمل من مؤخرة السرير لا يأمن أن يطأ أحداً أمامه أو يؤذيه، وربما تكون هناك حفرة أو يكون هناك شيء لا ينتبه له؛ لأنه لا يرى الذي أمامه، فضيقوا في المؤخرة، بخلاف المقدمة فإنهم وسعوا فيها وقالوا: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر في المقدمة.
يفرق بين التربيع وبين التثنية: أن التثنية تكون من مقدمة السرير دون المؤخرة، وأما التربيع فإنه لابد فيه أن يكون من الأربع الجهات.وفي التثنية لا يشترط أن يضع طرفي السرير على كتفيه، بمعنى: أن يجعل الطرف الأيمن على عاتقه الأيمن، والطرف الأيسر على عاتقه الأيسر، إنما يعتبر أن يحمل، فإذا حصل الحمل فهو المقصود؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لك إذا كان طرفا السرير متباعدين، فإن تيسر ذلك كما إذا كان للسرير حمالات ونحوها، فيمكن أن يضعهما على كتفيه؛ لكن هذا أمرٌ من الصعوبة بمكان، فيما لو كان السرير من الخشب كما هو موجود في حالنا ليوم، فحينئذٍ يخرج بطرفي السرير بيديه كأنه حامل، وينبغي عليه أن لا يؤذي الناس.
[التداول في حمل الجنازة]
وهناك مسألة وهي:
لو أنك حملت على طرفي السرير، وجاء رجلٌ لكي يحل محلك، فهل تبتعد تمكيناً له من الفضل أو تصر وتبقى؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: كان بعض مشايخنا يقول: تبقى؛ لأنه لا إيثار في القربات، فتبقى ممسكاً به لفضيلة الحمل، ولا تتركه لغيرك حتى تعيا، أو لا تستطيع أن تقوى؛ فحينئذٍ تترك لغيرك؛ فيرون أن الأفضل أن يتمسك الإنسان به حتى يصيب أكثر الأجر ولا يؤثر غيره بالفضل.
ومن هنا قالوا: لا يجوز أن يقوم الإنسان من الصف الأول إلى الصف الثاني ولو لكبير سن؛ واختلفوا في الوالد، وإن كان الأقوى والأصح أنه يجوز أن تتأخر لوالدك؛ لأنك إذا تأخرت نلت مرتبة البر، وهي أفضل، وهذا له وجه، يعني يستثنى في الإيثار في القرب والطاعات أن يكون فيه بر للوالد.
فهنا:
لو كان إنسان له حق عليك كالعم والخال ونحوه ممن له حق القرابة، فيمكن أن تؤثر لمكان صلة الرحم، وأما غيرهم من عامة الناس فلا، فيصبح الأمر أشد إذا كان المحمول والداً أو قريباً، فيكون من البر أن تصر على البقاء ما لم تضعف، فيكون فيه الوجهان: كونه من بالغ البر، وكونه أيضاً يحصل عظيم الأجر؛ فيبقى قدر استطاعته في ذلك المكان ولو زاحمه غيره فيه؛ تحصيلاً لهذا الأجر والثواب.
قوله:
[ويباح بين العمودين].
فيه ما ذكرناه من حديث سعد.
[صفة المشي بالجنازة]
قال المصنف رحمه الله:
[ويسن الإسراع بها].
[الإسراع بالجنازة]
يعني:
بالجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة) وهو حديث تكلم العلماء في سنده، وفيه مسائل:
الأولى: أن قوله: (أسرعوا بالجنازة) فيه دليل على أن السنة أن يكون المشي بها رملاً وإسراعاً، وهذا هو الأفضل، وقد جاء حديث آخر صحيح يدل على أن الصحابة كانوا يرملون بالجنائز، وهذا أفضل من المشي.وفيه دليل على خطأ بعض العامة الذين ينكرون على الناس إذا أسرعوا بالجنازة.وفيه أنه يرمل بها تحصيلاً لفضيلة ما ذكرناه من التأسي وإصابة السنة.
والمسالة الثانية: أن السنة ألا تبقى الجنازة وأن يبادر بها، ولذلك لا تؤخر إلا لأمر ضروري، أو وجود ما يدل على استثناء شرعي يجيز لنا أن نؤخر الجنازة، وإلا فالأصل أن يبادر بها، ولا يجوز للأهل أن يؤخروا الجنازة إلا لوجود عذرٍ شرعي؛ لأنه أُمِر بالإسراع بها.فقوله: (أسرعوا بالجنازة) يشمل الإسراع في تغسيله، بمعنى أن نهيئ تغسيله في أقرب وقت، وليس المراد أن نعجل أثناء التغسيل؛ لأنه ربما إذا عجل أثناء التغسيل أضاع حقوقاً واجبة، وإنما المراد أن يسرع بالتغسيل.
ويشمل الإسراع في تكفينه، فلا يتركه بعد تغسيله ممدداً في الفناء، بل يعاجل بتكفينه، ثم يسرع في حمله ثم الصلاة عليه، ثم يسرع في دفنه، فهذا معنى الإسراع بالجنازة.والمراد بالإسراع في الحديث إسراع المشي؛ لأنه هو السنة، ولأن الجنازة إذا كانت صالحة تقول: قدموني، قدموني.
وهذا ثابتٌ في الصحيح، فكأننا إذا أسرعنا بالجنازة حققنا مقصود الشرع، وأرفقنا بالميت إن كان صالحاً.
وإذا كان حديث:
(أسرعوا بالجنازة) ضعيفاً، فإننا نقول: إن حديث الصحيحين (قدموني، قدموني) يدل على مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من التعجيل بها، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إلا لشرف تقديم المسلم من الأحياء على قبره والعجلة في ذلك.
[موقع المشاة والركبان من الجنازة]
قال المصنف رحمه الله: [وكون المشاة أمامها والركبان خلفها].
قوله: (وكون المشاة أمامها) السنة أن يُمشى أمام الجنازة، وأن يكون الركبان وراءها، وفي ذلك الحديث المشهور عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ويقولون: إن الركبان يكونون في الخلف حتى لا يؤذى الناس؛ لأنهم إذا كانوا في الأمام أضروا بالناس وأجحفوا بهم، وفي حكم الركبان المركبات الموجودة الآن كالسيارات ونحوها؛ لأنها إذا كانت في الأمام ربما عطلت الجنازة عن المضي؛ فتكون في الخلف ليمكن المشي بالجنازة؛ وهو الأفضل.فإذا كانت الجنازة محمولة في المركبات كالسيارات ونحوها فحينئذٍ لا إشكال فإن الحكم أن يكونوا وراءها، لأنه لا يتيسر للمشاة أن يرافقوها، وإنما يكونون وراءها، ثم يبادر بها على الصفة المعهودة الآن.
قال: [ويكره جلوس تابعيها حتى توضع].فقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس حتى توضع، وهناك روايتان: رواية: حتى توضع على الأرض، ورواية: حتى توضع في القبر، فإذا خرجت في تشييع جنازة ودخلت المقبرة ثم وضع السرير، فعلى الرواية الأولى بل والثانية لا يجوز لك أن تجلس حتى يوضع السرير، وعلى الرواية الثانية: حتى ينزل الميت إلى القبر.
والأقوى:
أنه لا يجوز حتى توضع على الأرض؛ لأن رواية (على الأرض) أقوى من رواية (في القبر) ولأنه ثبت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو حديث مشهور: (إن العبد المؤمن إذا احتضر حضرته ملائكةٌ بيض الوجوه معهم كفن من الجنة ... ) إلى آخر الحديث.
في هذا الحديث يقول البراء:
(خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة أنصاري، فجلس عليه الصلاة والسلام وجلسنا حوله حتى يلحد له) أي: حتى يحفر القبر ويلحد، فدل على جلوس النبي صلى الله عليه وسلم قبل وضع الرجل في قبره، وهذا يدل على أنه يشرع أن يجلس من شيع الجنازة قبل أن يوضع الميت في القبر، فإذا وضعت على الأرض جاز لك أن تجلس.
[حكم تسجية قبر المرأة والرجل]

قال: [ويسجى قبر امرأة فقط].أي: لأنه أمكن للستر، وأثر ذلك عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وأنكر بعض الصحابة تغطية القبر للرجال.
والتسجية: أن يؤخذ بغطاء الجنازة أو يؤخذ لحاف ثم يوضع فوق القبر، أي: يغطى أثناء عمل الملحد للميت وقيامه على شأنه.فالتسجية: أن يغطى القبر.
والتسجية تكون على حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون للنساء، فالمرأة إذا دُليت في قبرها شرع أن تغطى؛ لأنه أدعى لسترها وحفظ عورتها، لأنها وإن كانت ملفوفة في كفنها لكن جرمها وجسمها واضح أمام الناس من جهة تقاطيع الجسم، خاصةً في الأكفان؛ ولذلك تدلى حتى ولو وضعت في سرير حتى يكون أبلغ في سترها، وأبعد عن الفتنة بها، فتدلى في القبر ويسجى القبر، أي: يغطى ويترك بقدر الهوي ونحوه، فيوضع الساتر ويمسك الناس بأطرافه، ولا حاجة أن ينظروا إليها أثناء وضعها في لحدها.
الحالة الثانية:
أن يسجى القبر لشدة الحر والظهيرة ونحوها في الرجال، أي: إذا وُجِد الموجب في الرجال، فإذا كان في شدة ظهيرة أو كان المطر نازلاً وأريد تسجية الميت، فإنها ليست لستر العورة وإنما هي لدفع الضرر، وحينئذٍ لا حرج أن تكون التسجية لمعنى؛ وبعض طلاب العلم لا يفرق فينكر ذلك إطلاقاً، والواقع: أن فيه تفصيلاً: فإن كانت التسجية بمعنى الرفق بمن هو داخل القبر، من دفع حر الشمس عنه، فحينئذٍ لا حرج أن يغطى، بمعنى أنه يستر حتى يقيه حر الشمس وضررها، وأما إذا كان بمعنى التسجية فإنه بدعة، وقد أنكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: مع عهدنا ذلك إلا في النساء، فدل على أنه يشرع في النساء دون الرجال.
[أفضلية اللحد على الشق]

قال المصنف رحمه الله:
[واللحد أفضل من الشق].
اللحد كان في المدينة، والشق كان بمكة، وللقبر صورتان: إما أن يلحد، وهو أن يوضع الميت ويحفر له في جانب القبر.
وإما أن يشق وتحفر له الحفرة في وسط القبر، فيوضع فيها على جنبه.واللحد أفضل؛ لأن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما توفي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة هل يلحد له أو يشق، وكان أبو عبيدة يشق، وكان أبو طلحة يلحد، فأرسلوا إليهما فسبق الذي يلحد، فعلموا أنه اختيار الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فكان اللحد أفضل لذلك، لأنه أمكن في الستر.
الشق يكون في الجدار ونحوها كالأماكن الصلبة التي يصعب فيها حفر اللحود؛ لأنه أرفق وكذلك إذا كان في كهف فيشق، فلو أن الأرض كانت جبلية وتوفي الميت، وليس هناك مكان يمكننا أن نحفره، فحينئذٍ لا حرج إذا وجد كهف أو شق في جبل -صدع- وأمكن أن يوضع ثم يرص عليه، فإنه يفعل به ذلك، ويعتبر بمثابة القبر.
[مشروعية وحكمة الدفن]

والدفن واجب ولازم، وقد شرعه الله عز وجل بكتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في مشروعيته من الكتاب قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31].
وهذه قضية قابيل وهابيل؛ فإن قابيل لما قتل أخاه هابيل، وهو أول قتلٍ من بني آدم وقع في الأرض، أرسل الله الغراب يبحث في الأرض، أي: يحفر ليدفن حاجته، كأنه يشير له إلى ما ينبغي أن يفعله لأخيه من ستر عورته، فقال: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31] فهذا دليلٌ على شرعية الدفن، وهي أول قضية دفن كما يقول المفسرون رحمة الله عليهم.
وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] فدل على مشروعية القبر.وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بالقول والفعل.ويشرع قبر الموتى سواء كانوا كفاراً أو كانوا مسلمين، فلو أن كافراً مات فإنه يشرع أن يقبر، ولا يجوز أن تترك جثته هكذا؛ لأن الله كرم بني آدم فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وهذا يسميه العلماء التكريم العام الذي يشمل المسلم والكافر، فمن إكرام الله للآدمي أنه إذا مات فإنه يقبر وتحفظ عورته، بخلاف البهائم والوحوش والسباع وغيرها، فإنها تنبذ بالعراء، ومن هنا قالوا: إنه يقبر ولو كان كافراً، لكنه لا يقبر على صفة المسلم، بمعنى: أنه لا يلحد ولا يشق، وإنما يوارى، فتحفر له الحفرة ثم تواريه دون أن تراعي في ذلك شقاً ولا لحداً؛ لأنه لا كرامة له.
وإنما يشرع أن يقبر الميت مسلماً كان أو كافراً، لحديث قتلى بدر، فإنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقليب فرموا فيه، فووريت أجسادهم، وعلى هذا لا حرج أن يوارى الكافر إذا مات، وأما المسلم فإنه يوارى بالصفة المخصوصة التي ذكرناها.
وفي القبر حكمٌ عظيمة منها:
أن الله سبحانه وتعالى دفع ضرر الأموات عن الأحياء؛ فإن الأحياء يستضرون برائحة الموتى، ويستضرون برؤية قراباتهم وذويهم أمواتاً أمامهم، ويحصل لهم من الهول والفاجعة ما الله به عليم، فإن بقاء الأموات فيه فزع، ورؤية الأموات تحدث في النفوس الفزع والخوف والرعب، ولربما يتنكد عيش الإنسان خاصةً إذا فقد العزيز والكريم عليه فرآه أمامه عشيةً وصباحاً، ولذلك رحم الله الناس بهذا، وجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، فجعل الأرض ستراً لهم، وفيها أيضاً رحمة بالأموات؛ لأن عوراتهم تحفظ وسوآتهم تصان، عندما ينزلون في القبور.
والأصل أن الإنسان بالنسبة للقبر له أحوال:
بالنسبة للأنبياء فإن قبورهم في أماكن موتهم، كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قبر عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة لما قبض فيها، أما من عداهم فإنهم يقبرون في مقابر المسلمين العامة التي أوقفت.والقبر في مقابر المسلمين أفضل من أن يكون الإنسان في موضعٍ خاص؛ لأنه إذا كان في موضع خاص لا يؤمن أن ينبش، وإذا كان في موضع خاص وكان ملكاً له كأرضه أو مزرعته ونحو ذلك، فلا حرج أن يحفر له قبر ويدفن فيه، أما إذا كانت أرضاً لغيره فلا يجوز أن يحفر له فيها قبر إلا بإذن مالك الأرض؛ لأنها في أصل الشرع ملكٌ لأهلها، فلا يجوز لأحدٍ أن يقبر فيها أحداً بدون إذن أهلها، ولذلك لو قبر الإنسان في أرضٍ يملكها الغير وشرع للغير أن يطالب أهله بإخراجه فإنه يحرم عليه ذلك لمكان الغصب كما يقول العلماء، وفي حكم هذا أن يقبر في مسجد، فإن المسجد لا يملكه أحد؛ لأنه لله عز وجل، ولا يجوز أن يقبر أحد فيه حتى ولو كان صاحب المسجد؛ لأنه لما أوقفه للصلاة فيه فقد خرج عن ملكه، ولذلك من أوقف مسجداً فليس من حقه أن يملك هذا المسجد أو يبيع شيئاً منه؛ لأنه خرج عن ملكيته.
ومن هنا لا يجوز أن يدفن فيه، مع أن الأصل الشرعي يقتضي حرمة أن تتخذ القبور مساجد، أو يكون القبر في مسجد، وهذا مجمعٌ عليه بين العلماء وهو من كبائر الذنوب كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الكنائس التي كانت في الحبشة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يفعله النصارى بعظمائهم من البناء على قبورهم.
[كيفية إدخال الميت القبر]
قال المصنف رحمه الله: [ويقول مُدخِلهُ: باسم الله وعلى ملة رسول الله].
السنة المحفوظة أن يسل الميت، بمعنى: أنه ينزل إلى القبر من رأسه.فالمكان الذي فيه الميت إن كان لحداً أو شقاً فإنه يُسَل، فيدخل من عند رجل القبر إلى أن يصل إلى موضع الرأس، فينزل شيئاً فشيئاً، على هذا يكون أول ما ينزل أعلاه -لشرف الأعلى- ثم بعد ذلك أسفله.
ولا يدلى: بمعنى أن تُنزل رجلاه قبل رأسه؛ فيجعل السرير أو النعش عن يسار القبر، ثم بعد ذلك يدلى.وهناك وجهٌ آخر: وهو أن يجعل السرير في القبلة، ثم ينقل بعد ذلك إلى داخل القبر، وكلاهما جائز، فيأخذه اثنان من النعش ويناولان من بداخل القبر، فهذه صورة ثانية؛ لكن الأفضل السلّ، وهو الذي وردت به السنة.
فإذا أراد أن يضعه يقول مُدخله:
(باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص؛ لأنه لفظ مخصوص في موضع مخصوص، لا تشرع الزيادة فيه ولا النقصان منه.اسم الله بركة، وهو فاتحة الخير، ولذلك قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78] وهو أدعى لرحمة الله بالعبد، ومعنى: (باسم الله وبالله) أي: مستعينين بالله، فالباء للاستعانة.
قال بعض الفقهاء:
التقدير: باسم الله أنزلك، وعلى ملة رسول الله أخلفك، ونحو ذلك من التأويلات، وهذا كله لم يرد به وجه صحيح، لكنه ذكرٌ مخصوص مناسبٌ للمقام؛ أي أن الإنسان قد وضعه على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أفضل الملل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، والملة التي لا يقبل الله ملة دونها ولا غيرها، وهي ملة الإسلام، وهي الحنيفية التي لا نجاة للعبد إلا بها.
[كيفية وضع الميت داخل القبر وحال الناس من حوله]
قال المصنف رحمه الله:
[ويضعه في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة].
قبل أن ينزله في القبر يكون هناك على الأقل شخصان، وهذا أرفق بالميت: أحدهما يكون عند رجليه، والثاني عند رأسه.والسنة أن يوسع من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتوسيعه، فلا يكون اللحد ضيقاً بمقدار ما يسع جسد الإنسان، بل الأفضل أن يوسع الحفر في جانب القبر من جهة الرأس ومن جهة الرجلين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.
ثم يوضع على شقه الأيمن مستقبل القبلة، ففي الحديث الصحيح عن البراء: (إذا أويت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: باسم الله ... ) الحديث.
قالوا: والنوم هو الميتة الصغرى، وأما استقبال القبلة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) فهذا يدل على أن السنة أن يوضع الميت مستقبل القبلة، وهذا بالنسبة لمن مات من أهل الإسلام.وأما بالنسبة للكافر فإنه يوضع على حاله، إلا إذا كانت المرأة كافرة وفي بطنها جنين، فإنها توضع على شقها الأيسر؛ حتى يكون جنينها إلى القبلة، على القول بأن أولاد الكفار على الفطرة، وحينئذٍ يكون جنينها في هذه الصورة على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأن الجنين يستقبل ظهر أمه.
وأما غير ذلك من أحوال الكفار فإنهم يوارون، ولا يقبرون على الصفة التي شرف الله بها أهل الإسلام.وإذا فرغ من وضعه في قبره فإنه ينصب اللبن عليه كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ينتهي من نصب اللبن يمكن الناس من دفنه وإهالة التراب عليه.
وينبغي للإنسان في هذه الحالة أن يكون أقرب إلى الاعتبار والاتعاظ، فإن بعض العلماء رحمهم الله يقول: إن ورود القيراطين على الصلاة وشهود الدفن كائن لما فيه من المصالح العظيمة من التذكير بالآخرة، وذلك لأن شهود الدفن يذكر الإنسان بحاله، ويدعوه إلى الاتعاظ والاعتبار بغيره، فإذا وضع الميت في قبره فالأفضل للإنسان أن يكون قريباً من القبر، على خلاف ما ألفه بعض الناس من البعد عن القبر.
الأفضل الاقتراب من القبر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن شهدها)، و (شهد) بمعنى: حضر.والأفضل أن ينظر إلى حال المقبور؛ لأنه أدعى لشفقتك عليه وترحمك عليه؛ فإن الإنسان إذا نظر إلى أخيه المسلم وهو يدلى في القبر، ونظر إلى قرابته كأبنائه وإخوانه وعشيرته، وما عليهم من الحزن وأمارات التفجع والتوجع؛ دعاه ذلك إلى أن يستغفر له وأن يترحم عليه؛ وتأثر تأثراً بليغاً حتى لربما تذكر أولاده من بعده وقرابته إذا نزل به مثل ما نزل بأخيه.فكونه يكون بعيداً عن القبر يفوت هذه المصالح العظيمة.
وأما ما ورد من حديث البراء من كونهم تحلقوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس فيه أنه دفن؛ لأنهم كانوا يحفرون القبر، وفرقٌ بين حفر القبر وبين التدلية للقبر.
ومن كان قريباً من القبر، ناظراً إلى حال الميت متفكراً معتبراً، فإنه يكون أكثر حضوراً للقلب، وأكثر خشوعاً وأكثر تأثراً، وأكثر دعاءً واستغفاراً للميت وترحماً عليه.
والعكس بالعكس:
فإنه إذا ابتعد عن القبر ربما جاءه إنسان من أهل الدنيا، وشغله بفضول الأحاديث، ولربما تكلم في شيء من الدنيا يخرجه عن المقصود من شهوده للجنازة، وعلى هذا فإن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان مطلعاً على القبر قريباً من القبر، ولو أدى ذلك إلى زحام لا ضرر فيه، بل حتى ولو كان فيه ضرر على الإنسان فإنه يصبر؛ لأنه باب المزاحمة على الخير، وهي مشروعة، أي: كون الإنسان يزاحم ولا يؤذي غيره ولكن غيره يؤذيه، فإنك إذا لم تؤذ أحداً وتضررت بالزحام أجرت؛ ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه، يقف عند الحجر ولا يجاوزه حتى يقبله، ولربما يضرب من الناس ويرعف ثلاث مرات كما ورد في الروايات عنه رضي الله عنه.
ولا شك أن الإنسان كلما أوذي في الطاعة كلما كان أعظم أجراً، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحبون مثل هذه المقامات التي يستوي فيها رفعاء الناس ووضعاؤهم.
أثر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه دنا إلى بئرٍ يريد أن يستقي، فقال له أصحابه: هلا كفيناك؟ فامتنع رضي الله عنه، فلما دخل في الزحام لكز وأوذي وضر في جسده وفي ثيابه، فلما خرج قيل له: ألم نقل لك: نكفيك هذا الأمر؟ قال: هكذا طاب لي العيش، دخلت وأنا ابن المبارك، وخرجت وأنا ابن المبارك.فالإنسان إذا دخل بين الناس وشعر أنه كواحدٍ منهم، وتأذى في الطاعة أو في الخير، فإن الله يؤجره.
فإن رؤيتك لهذه الحال صلاح لك في دينك وأجرٌ لك في آخرتك، ولقد قصر البعض، خاصةً من طلاب العلم في مثل هذه المواقف، ولربما تجد بعض العوام في بعض المواقف أبلغ تأثراً من طلاب العلم، فإنك تجد من العوام من يبكي على القبر ويتأثر برؤية هذه المشاهد، ولكن ربما تجد طالب العلم بعيداً عنها، وربما يقف بمنأى عن القبر، وينتظر حتى يفرغ الناس، ثم يأتي ويحثو الحثوات دون أن يتعظ ويرى هذه المشاهد المؤثرة، والإنسان الذي يشهد هذه المواقف ولا يتأثر بها؛ فلأنه لم يجد من نفسه ما يدل على صدق رغبته في التأثر، ولو هيأ نفسه لذلك فخرج وهو يشعر أنه كواحد من المسلمين ودخل في حطمة الناس، فإنه سيشعر أنه كواحد من عوامهم ولو كان عالماً.
وإنك لتعجب عندما يطوف الناس وتسمع عوام الناس يبكون ويخشعون في طوافهم، حتى إن الإنسان في بعض الأحيان يبكي على نفسه في علمه عندما يجد في عوام الناس من الخشوع في العبادات ما لا يجده من خاصة طلاب العلم، ولكن نسأل الله برحمته الواسعة أن يرحم قلوبنا من قسوتها وغفلتها، وأن يجيرنا من هذا البلاء العظيم.فإن الإنسان إذا حرم التأثر بالطاعة فقد حرم خيرتها وبركتها، فإن أفضل ما يكون في الطاعة أن تتأثر بها، وأعظم الناس أجراً في شهود الجنائز من رجع منكسر القلب خاشعاً، وقد أثر فيه المشهد والمنظر كأن ذلك الميت قريبه، وتجد بعض الناس من كمال خشوعه أبلغ تأثراً من أهل الميت؛ وذلك لأنه لا ينظر إلى فقد هذا الميت ولكن ينظر إلى فقده وحاله الذي نزل به.فينبغي لطالب العلم أن يهيأ نفسه إذا شهد الجنائز أن يكون في منظره وسلوكه ودله وحاله ما يدل على صدق تأثره بما يرى؛ حتى يكون علمه مترجماً بالعمل، فإذا رآه العامي أحس بأثر العلم في عمله، وأثر العلم في عبادته، ولا ينبغي له أن يكون في بعدٍ عن الأسباب التي تهيئ من خشوع القلب وفي مثل هذه المواضع التي كلما كان الإنسان فيها خاشعاً كلما كان أعظم أجراً، وكان أدعى لقبول سعيه في طاعته لله عز وجل.فإذا قبر الميت وأهيل عليه التراب؛ فإن السنة أن يهيل من حضر عليه التراب، والسنة أن يحثُو عليه ثلاث حثيات إذا لم يشارك في دفنه؛ والأفضل أن تشارك في دفنه؛ وجميل من طالب العلم أو من العالم إذا ساوى عوام الناس وأخذ بالآلة ودفن معهم، خاصةً إذا كان المدفون من أهل العلم والفضل، أو من له حقٌ عليك كقريبك؛ فإن مثل هذه المواقف تدل على التواضع، وتدل على البساطة والبعد عن العلو، وتدل على الحرص على الخير؛ فإن الناس إذا رأوا طالب العلم يدعوهم إلى الخير، ورأوه في هذه المواقف يشارك الناس في حصول الخير وينافسهم ويحرص عليه؛ فإن ذلك أدعى لقبول دعوته وحبه والتأثر به.
وقد يكون داعياً بفعله دون أن يتكلم، وهذه هي الدعوة الصادقة التي يجمع الله للإنسان فيها بين دعوة الكلام والفعل.ومن فعل ذلك أجر مرتين: الأجر الأول: على الطاعة والفعل.
والثاني: على تأثر الناس واقتدائهم به في ذلك؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً، اقتتل الصحابة على ذلك الفعل من تأثرهم به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي للداعية أن يكون قدوة.أما لو كان الإنسان عالماً وشغل بسؤال الناس، أو رأى أنه لو جلس فإنه يتأثر بالنظر وبحال الناس وهم يهيلون التراب عليه، وأنه أبلغ، أو كان به مرض يخشى أن يتضرر لو اقترب من الغبار، فهذا شيءٌ آخر، لكن انوِ في قلبك أنه لولا هذا البلاء لكنت مشاركاً لهم؛ حتى يبلغك الله منزلتهم؛ فإن الإنسان ربما يدخل الجنة بحسنةٍ واحدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] فلربما استوت حسنات الإنسان وسيئاته بسبب مظالم الناس، فأخذ من حسناته حتى تستوي الحسنات والسيئات، فتأتي حسنة واحدة وربما هو التراب الذي تهيله على الميت فتنجيك من النار؛ ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبحثون عن رحمة الله في كل عملٍ صالح، من قول أو فعل، ظاهر أو خفي، فإن فاته الفعل نواه بقلبه، فإن الإنسان لا يدري لعل الله أن يجعل نجاته في حسنة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً مر على غصن شوك فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين.فزحزحه؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم).
نقول هذا لأن مثل هذه المواقف مهمة جداً، خاصة لطلاب العلم، وفيها تربية، فقد كنا نتأثر بعلمائنا ومشايخنا حينما نراهم مع عوام الناس، ونرى الرجل منهم يحضر جنازة العامي، ولقد رأينا من مشايخنا رحمة الله عليهم من يشهد جنازة الرجل الذي لا يؤبه به لفقره، أو ضعف نسبه، فتجد من الحزن والبكاء عليه كأنه واحدٌ من قرابته، وهذا لا شك أنه يدل على كمال الإيمان وصلاح القلوب.فنسأل الله بعزته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يزيدنا من فضله العظيم والله تعالى أعلم.
الأسئلة
[عرض الأديان على الميت]
qما صحة القول بعرض الأديان على الميت، وهل يحصل هذا العرض لكل شخص أثابكم الله؟

a السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنة القبر تكون بالسؤال: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟).فعند أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب: (إن العبد المؤمن إذا احتضر نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت ويقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى رحمةٍ من الله ورضوان.فتسيل روحه كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فلا يدعونها معه طرفة عين حتى يضعونها في ذلك الكفن، فتخرج منها كأحسن نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض؛ ثم يصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون بنفرٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ قالوا: روح فلان بن فلان بأحب أسمائه إليه، حتى تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم ردوه إلى الأرض فإني منها خلقته وفيها أعيده، ومنها أخرجه تارةً أخرى، فترجع روحه، فيأتيه ملكان فيقعدانه) ثم ذكر عليه الصلاة والسلام الفتنة، وقال: يسألانه عن ربه، ويسألانه عن دينه، ويسألانه: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً قال: هو عبد الله ورسوله، وشهد بالإيمان، وإن كان منافقاً قال: ها ها لا أدري -وفي رواية- فيقال له: لا دريت ولا تليت؛ لأن الإنسان ينال العلم بإحدى طريقتين:
إما أن يدري لنفسه فيكون عالماً بالشيء، أو يتلو، فيتعلم، فقيل له: (لا دريت ولا تليت)، أي: ليس بك علم، لا بدراية ولا بتلاوة.قال: (ثم يضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة فيسمعه جميع خلق الله إلا الجن والإنس، ولو سمعوه لصعقوا)، أي: ماتوا من ساعتهم، وهذه هي الفتنة التي تكون في السؤال، وهي الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.
[حكم التلقين على القبر]
qما حكم التلقين على القبر أثابكم الله؟

aتلقين الميت بعد قبره، فيه حديث معاذ رضي الله عنه: (إذا وضع أن يقوم على قبره الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة: اذكر ما كنت عليه في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، فيقول الملك: ما لك في رجلٍ يلقن حجته من حاجة، فيقومان عنه) وهذا الحديث ضعيف، وهو معارض لما هو أصح منه، فإن حديث البراء بن عازب ذكر المؤمن، ولا شك أن الله لا يظلم عبده، فإن المحسن سيجيب والمسيء لا يجيب ولو لقنه من في الأرض جميعاً، فمن مات على التوحيد والإيمان فإن الله هو الذي يثبته وهو الذي يلقنه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].ثبت في تفسيرها كما جاء في حديث البراء أنه قول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، عند جوابه بهذه الأجوبة الثلاثة، فهذا من تثبيت الله؛ لأنه إذا رأى الملكين فزع، وهاله المطلع في مكانٍ لم يعهده ولم يألفه، وهي أول ساعةٍ وأول منظرٍ يراه؛ فيكون من أشد الهول على العبد، وهي أول منازل الآخرة التي يفزع فيها العبد، فإن كان مؤمناً ثبت الله قلبه، وذلك على قدر ما فيه من الإيمان والخير؛ فإن كان على كمالٍ من الإيمان وكمالٍ من الصلاح فإن الله سبحانه وتعالى يثبته تثبيتاً كاملاً، ولا يخذله، والله عز وجل يوفق عبده ولا يظلمه.فلا داعي أن يلقن الإنسان، فإن الله عز وجل سيلقنه حجته، ويبين له سبيله ومحجته؛ فإن الله سبحانه وتعالى لطيفٌ بأوليائه المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:62 - 64].فالإنسان الذي يموت على الإيمان لا يضيعه الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] فالمؤمن لا حاجة له إلى أن يُلقن.ولذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لقن ميتاً؛ فيقتصر على هذا الوارد، وهو السنة المحفوظة.وأما حديث معاذ فضعيف كما تكلم العلماء رحمة الله عليهم على سنده وبينوا ضعفه والله تعالى أعلم.

[حكم قول الحاضرين عند إنزال الميت: باسم الله وعلى ملة رسول الله]

q هل يقول الحاضرون أيضاً مع مدخل الميت: (باسم الله وعلى ملة رسول الله)؟

a المحفوظ أن يقوله من يدخله ومن يضعه في قبره، أما بالنسبة للحاضرين الذين يشهدونه فإنهم يسكتون، ويقتصرون على الدعاء له والترحم عليه، وسؤال الله التثبيت، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد دفن الميت: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل) ولذلك كان الأفضل والأكمل بعد دفن الميت ومواراته أن يقتصر على سؤال الثبات في تلك اللحظة التي تلي الدفن، ويقتصر على سؤال الله له الثبات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، فيستغفر له لأنه يبتلى بذنوبه، فإذا غفرت ذنوبه أمن من البلاء في قبره، وقوله: (واسألوا له التثبيت) من دعاء المناسبة.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم؛ أن يجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



ابوالوليد المسلم 14-06-2022 04:35 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (172)

صـــــ(1) إلى صــ(22)



شرح زاد المستقنع - أحكام القبور وأحكام أهل الميت
إن كثرة البدع التي تشاهد في المقابر، ومخالفة السنن والآثار في تلك المواطن تحتم معرفة أحكام القبور على الخاصة والعامة، ومن تلك الأحكام: حكم رفع القبر من الأرض، وحكم تجصيصه والبناء والكتابة والجلوس والاتكاء والوطء عليه، وحكم دفن الاثنين أو أكثر في قبر واحد، وحكم قراءة القرآن عند الدفن، وحكم إهداء الثواب للميت، وحكم صنع الطعام من أهل الميت أو لأهل الميت.
الأمور المنهي عن فعلها بالقبر
حكم دفن اثنين فأكثر في قبر واحد

قال المصنف رحمه الله: [ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة].
أي: ويحرم في القبر دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وهدي السلف الصالح؛ مضت على قبر المقبور في قبره دون أن يدخل عليه أحد أو يُجمع معه أحد، وهذا هو الأصل؛ فيكون القبر للمقبور وحده دون أن يُجعل معه آخر، ولو كان قريباً له.
أما الضرورة فتقع في حالة الحروب والقتال، كما وقع في غزوة أحد، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبر شهداء أحد الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، والسبب أنه كانت تفنى الأنفس في الحروب في القديم، ولربما وصل القتل في بعض الوقائع إلى مائة ألف، وفي هذه الحالة يصعب أن يحفر لكل شخصٍ قبر، ولربما جلسوا أياماً وهم لا يستطيعون أن يواروا هذه الأجساد، فيضطروا إلى جمع الاثنين والثلاثة في القبر، وحينئذٍ يشرع أن يوسع القبر من داخل؛ حتى يصلح لجمع هؤلاء ولا يضيق؛ بمعنى أن يُجعل القبر الذي للواحد للاثنين والذي للثلاثة للأربعة أو الخمسة، فإن للأموات حرمة، فيختص التوسيع بقدر الحاجة رفقاً بالأموات، فيجعل القبر للاثنين إذا وسعهما وللثلاثة إذا وسعهما، على حسب ما ذكرنا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع شهداء أحد رضي الله عنهم وأرضاهم الرجلين والثلاثة، وإذا جُعل الاثنان والثلاثة والأربعة في القبر فالسنة أن يبدأ بأحفظهم لكتاب الله عز وجل وأعلمهم، فيُجعل من جهة القبلة لشرف البداية وشرف الجهة، فيقدم على غيره، ويكون ظهره إلى غيره لا ظهر غيره إليه، فيشرّف لأن الله شرفه بالعلم، وهذا يدل على فضل العلم والعلماء، وأن الله سبحانه وتعالى يكرم أهل العلم حتى بعد موتهم؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه كان إذا أراد أن يقبر الشهداء يوم أحد سأل عن أكثرهم قرآناً فقدمه في اللحد ).
وهذا كما يدل على فضيلة أهل العلم، فهو يدل على أنه ينبغي للناس أن يأتسوا بهذا، فإذا اجتمع القوم وفيهم من هو أحفظ لكتاب الله قدم وشرف بشرف العلم؛ حتى يكون ذلك أدعى لتعظيم شعائر الله عز وجل.
وكذلك الحافظ للسنة، فلو كان أحفظ لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره فإنه يقدم، وكذا إذا كان أعلم بالأحكام الشرعية، أو كان أكثر بلاءً وجهاداً ودعوةً وتضحيةً، أو كان رجلاً معروفاً بالكرم والجود والإحسان إلى الناس وستر عورات المسلمين ونحو ذلك من الفضل؛ لأن تقديمه يدعو غيره إلى التأسي والاقتداء به؛ ولأنه تعظيمٌ لشعيرة الله عز وجل من جهة كون ما تخلق به واتصف عملاً صالحاً فإذا قُدّم قدم من أجله، فكأننا نعظم العمل الصالح وما كان منه من خير، وهذا أدعى لدعوة الناس إلى الائتساء والاقتداء به، مع ما فيه من الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
وإذا كان يحرم أن يُجمع الاثنان في قبرٍ واحد، فذلك يأتي على صورتين: الأولى: إما أن يدخلهما معاً، أي: ندخل أحدهما ثم ندخل الآخر في نفس الوقت، فالحكم التحريم إلا من ضرورة وحاجة.
الثانية: أن تدخل الأول فتقبره اليوم، ثم بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث، أو يوم أو يومين أو ثلاثة، أو أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة، يؤتى ميت آخر فيفتح القبر الأول لدفنه فلا يجوز.
فالحكم يستوي فيه أن يدخلهما معاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهداء أحد، فلا يجوز أن يجمع بين الاثنين على هذه الصورة، وكذلك فتحه ونبشه للقبر لكي يقبر ميتاً فيه.
وعلى هذا: لا يجوز إدخال ميتٍ على ميت، فلا يجوز إدخال الثاني على الأول، ولا الثالث على الثاني إلا بعد أن تبلى عظام المتقدم، وللعظام حُرمة، فما دام عظم الميت في القبر فإن الأرض موقوفة عليه مسدلة عليه محبوسة له، لا يجوز أن يقدم أحد على نقل عظامه ولا على إخراجها، إلا قبور المشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبورهم فنبشت، ثم بنى مسجده صلوات الله وسلامه عليه، كما في الصحيحين.
أما المسلم فلعظامه حرمة تدل على بقاء حرمة قبره، وحينئذٍ لا يجوز أن ينبش، ولا يجوز أن يدخل عليه غيره، ولا يجوز أن يبنى عليه وعظامه باقية، ولا يجوز أيضاً أن تتخذ الأرض مزرعة أو نحو ذلك ما دامت العظام ورمم الأموات باقية، فإنها دليل على تسبيل ذلك الموضع لهؤلاء الأموات، والميت أحق بقبره ما دام فيه، أي: ما دام ما يدل عليه باقٍ.
لكن لو استحال الميت تراباً وفنيت عظامه وبلي، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تذهب الحرمة، فيجوز أن ينبش وأن يدفن غيره في مكانه، وعلى ذلك درج عمل السلف الصالح رحمة الله عليهم، كما في قبور البقيع، فإنها نبشت، ومضى على ذلك هدي الصحابة رضوان الله عليهم، ودفن فيها الجديد من الموتى بعد أن بلي القديم.
والنبش يشرع إذا بلي الميت أو غلب على الظن أن العظام بليت، ويستثنى من هذا أن يكون المكان ضيقاً كما في قبور مكة فإذا بقي شيءٌ قليل من العظام، فإنهم اغتفروها لمكان الضرورة؛ فقد نص بعض العلماء على استثنائها لصعوبة الحفر فيها وتعذر ذلك في الغالب.
وإذا كان الموضع يشق كالمواضع السهلة التي بها الطمي والطين أكثر، ويصعب فيها وجود القبور، ويتعذر وجودها إلا بندرة، قالوا: إذا فنيت وبقي شيءٌ من العظام تغتفر، ويجوز قبر الثاني مع وجود بقيةٍ من عظام الأول إذا كانت يسيرة.
أما والعظام باقية فالدليل يقتضي تحريم قبر الثاني على الأول وإدخاله عليه، وكذلك يحرم التصرف في هذا القبر بالبناء عليه أو الزارعة فيه أو نحو ذلك من التصرفات، وما فيه من التصرف فإنه لاغٍ، فلو أنه زرع على قبورٍ لا زالت باقية، أو غلب على ظننا بقاء الجثث فيها، فإن إحياءه باطل؛ لأنه إحياءٌ لمسبلٍ وموقوف وملك للغير، وإحياء المملوك للغير ليس بإحياء شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح : ( من أحيا أرضاً ميتةً فهي له ) فنص على كونها ميتة، فإذا كان فيها الميت فإنها ليست بميتة؛ لأنها قبر، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم داراً، فقال: ( السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ) فهي حية بوجود الأجساد فيها، وإن كانت ميتة في الظاهر، لكنها في حكم الدور وكأنها معمورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف القبور بكونها دوراً.
قال: [ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب].
أي: فإذا وجدت الضرورة لقبر الاثنين، فيجعل بين كل اثنين حاجزاً؛ حتى يكون أشبه بالفصل، قالوا: درج على ذلك عمل السلف رحمة الله عليهم، فكأنه فصل الموضع الأول عن الموضع الثاني، وحينئذٍ كأنه تعدد القبر كما لو قبروا بجوار بعضهم مع وجود الحائل من التراب.
حكم القراءة على القبر
قال المصنف رحمه الله: [ولا تكره القراءة على القبر].
المراد بالقراءة: قراءة القرآن، وجمهور العلماء من السلف رحمة الله عليهم كالحنفية والمالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد -وهي الرواية الثانية عنه- على أنه لا تشرع القراءة على القبور؛ وأنها من الحدث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ على قبور أصحابه، ولا قرأ أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا من بعدهم من السلف الصالح من الأئمة ومن أُمرنا بالائتساء بهم، فحينئذٍ فإن هذا الفعل يعتبر من البدعة والحدث.
وجاءت رواية عند الإمام أحمد أنه رخص في ذلك، وفي ذلك ما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما.
والصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تشرع القراءة على القبر؛ فإن وقعت إجارةً كأن يستأجر مقرئاً يقرأ على القبر، فالإجماع قائم على المنع والتحريم، وإنما الخلاف في المحتسب، وهو الذي يقرأ على القبر تبرعاً، أما من استؤجر للقراءة فإن الإجماع منعقد على أنها إجارة باطلة، وفي ذلك حديث (يس)، أنه إذا قرئ على القبور (يس) أنه يخفف عنه ذلك اليوم، ويكون له من الحسنات والأجور على عدد الموتى، وهو حديثٌ ضعيف.
والصحيح الذي هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن السنة إذا قُبِر الميت أن يقام على قبره، وأن يدعى له؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما انتهى من دفن الميت : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل ) فدل على أن المشروع هو الدعاء، وهذا هو ظاهر التنزيل في قول الحق تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [الحشر:10] فدل على أن المشروع هو الدعاء، والدعاء أنفع وأصلح للميت والحي: أما للميت فلأنه رحمة جعلها الله للأموات عند الأحياء؛ ولما يكون بسبب هذا الدعاء من الخير له؛ فيفسح له في القبر وينور له فيه، خاصةًَ إذا كان الداعي مخلصاً لله عز وجل.
وفيه مصلحةٌ للحي؛ لأن الحي يكتب الله أجره بإحسانه لأخيه المسلم ودعائه وترحمه واستغفاره له؛ ولذلك وصف الله الأخيار بأنهم يترحمون على إخوانهم الأموات الذين سبقوهم بالإيمان، ومن حق المسلم على المسلم بعد موته أن يترحم عليه وأن يدعو له وأن يستغفر له.
أما بالنسبة للقراءة فقلنا: إن الصحيح أنها لا تشرع، لا تخصيصاً بسورةٍ معينة ولا تشرع عموماً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمل لفعله صلوات الله وسلامه عليه وهديه يعلم علماً واضحاً بيناً أنه لا يشرع أن يقرأ على القبر؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله من بعده من الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم، فحيث لم يفعل ذلك لا من رسول صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين، فإنه يبقى على الحظر؛ لأن أمور العبادة توقيفية، ولا يجوز لأحدٍ أن يجتهد فيها ولو كان الأمر مستحسناً.
حكم إهداء ثواب القربات لميت أو لحي
قال المصنف رحمه الله: [وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك].
القربة: ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ويشمل ذلك الطاعات، سواء كانت قولية أو فعلية، ظاهرة أو باطنة، لأن العبد إذا فعلها فإنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى أحبه ووفقه وسدده، وأحسن له العاقبة في الأمور.
فكلما كان العبد أقرب لله كلما كان أقرب لرحمة الله وعفوه وتيسيره ولطفه له في الدنيا والآخرة؛ ولذلك فالوصف بالقربة وصفٌ شرعي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله تعالى: ( ما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) فهذا يدل على أن العبد يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويزداد قرباً من الله عز وجل على حسب ما يكون منه من الخير والطاعة والبر.
أقسام القربات في إهداء الثواب
فالقربات تنقسم إلى ثلاثة أقسام -قسمين يقبلان للانقسام إلى ثلاثة-: النوع الأول: القربة البدنية المحضة.
النوع الثاني: القربة المالية المحضة.
والنوع الثالث: القربة الجامعة بين البدن والمال.

فأما القربة البدنية المحضة: فكالصلوات وكقراءة القرآن وكالصيام.
وأما القربة المالية المحضة: فالصدقات، كأن يتصدق ذو مال على فقير أو معسر أو نحو ذلك، أو يذبح شاةً ينويها صدقة على أمواته، أو يضحي أضحية ينويها عن والده أو والدته، فهذه قربةٌ ماليةٌ محضة.
والقربة الجامعة بين البدن والمال: الحج والعمرة؛ فإن الذي يحج يجمع في حجه بين عبادة البدن وعبادة المال: أما عبادة البدن: فبفعل المناسك والشعائر.
وأما عبادة المال: فإنفاقه للوصول إلى هذهِ المناسك وبلوغ هذه المشاعر.
فأما ما كان من القرب البدنية المحضة فإن الجماهير على أنه لا يشرع فعل قربةٍ بدنيةٍ للميت إلا ما استثنى الشرع، فلا يجوز أن يصلي الحي عن الميت، ولا الحي عن الحي، ولا أحدٌ عن أحد؛ لأنها قربةٌ بدنية لا تصح إلا من المكلف نفسه، وعلى هذا فلو صلى عن والديه ما صلى فإنها لا تصح أن تكون قربة للغير.
وذهب إسحاق بن راهويه رحمه الله إلى القول بجواز أن يصلي الحي عن الميت، وينوي هذه الصلاة عن الميت سواء كانت فريضة أو نافلة، واحتج بدليلٍ دقيق وهو: مسألة الحج عن الميت، فإنه لما أنكر عليه: كيف تقول بجواز الصلاة عن الميت مع أنها قربة بدنية يكاد الإجماع يكون على منعها؟ قال: أرأيتم لو حج حيٌ عن ميت أيجوز ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: أرأيتم لو طاف أيصلي؟ قالوا: نعم.
قال: أليست الصلاة عبادة بدنية؟ قالوا: بلى.
فكأنه يرى أن ركعتي الطواف لما أذن بها الشرع عن الميت، دل على مشروعية الصلاة عنه؛ لأنه سيصلي عنه ركعتي الطواف، وركعتي الطواف من العبادات البدنية.
والجواب عن هذا الدليل: بأن إجازة العبادة البدنية -أعني: ركعتي الطواف- جاء تبعاً ولم يأت أصلاً، وفرقٌ بين العبادة المقصودة وبين العبادة التبعية التي تقع تبعاً للشيء، ولهذا نظائر في الشرع، ولذلك يقولون: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع نخلة قد أُبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )، فجعلها للمبتاع بالشرط، مع أنها بعد التأبير لم يبد صلاحها، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه ) ، قالوا: ففي حديث ابن عمر : ( من باع نخلة قد أبرت ...) وقعت الثمرة تبعاً للأصول، فجاز الشيء تبعاً ولم يجز أصلاً، فالصلاة أصلاً لا تصح، لكنها تبعاً تصح، هذا مع وجود الخلاف فيما إذا صلى ركعتي الطواف، هل يقصدها على الميت أو يقصدها عن نفسه أصالةً ويكون ثوابها للميت.
فهذا حاصل ما ذُكر؛ والصحيح أن العبادة البدنية لا تصح عن الميت، إلا ما استثناه الشرع من صيام النذر، قالت: ( يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية عنها؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى ) فأجاز لها عليه الصلاة والسلام أن تفعل العبادة البدنية المحضة من الصيام عن أمها، وجعل ذلك بمثابة قضاء الدين، فدل على مشروعية فعل هذه العبادة البدنية عن الميت إذا مات ولم يفعلها.
وهل تلتحق بذلك الكفارات كصيام الكفارات وصيام رمضان أو لا يلتحق؟ وجهان للعلماء: منهم من خصه بما ورد به النص.
ومنهم من قال: النص على النذر معللٌ بعلةٍ نصية، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ) وهذه العلة النصية يستوي فيها سائر الواجبات، وهو الصحيح؛ أعني أن سائر الصيام الواجب يشرع لك أن تصومه عن الميت.
هذا بالنسبة لما استثناه الشرع: استثنى ركعتي الطواف تبعاً من العبادات البدنية، واستثنى صيام الفريضة في النذر ورمضان والكفارات ونحو ذلك، وأما صيام النافلة عن الميت فلا؛ لأن الأصل الحظر في العبادة البدنية.
وأما بالنسبة للعبادة المالية المحضة: فالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشروعية ذلك كما في الصحيح من حديث سعد ، قال: ( يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت )، والشيء الذي ينفلت زمامه من الإنسان لا يتداركه، بمعنى: أن الموت نزل بها قبل أن تدرك نفسها فتتصدق، وهذا أشبه بموت الفجأة، فموت الفجأة لا يستطيع الإنسان أن يتدارك فيه، قال: أفأتصدق عنها؟ فأذن له صلوات الله وسلامه عليه أن يتصدق عنها، فتصدق بحائطه المخراف، وكان من أفضل بساتينه رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه من البر؛ ولعظيم حق الأم، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت.

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 04:36 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (173)

صـــــ(1) إلى صــ(22)


وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد، وقال في الثاني: عمن لم يضح من أمة محمد ) ومعلوم أن الذين لم يضحوا من أمة محمد فيهم أموات، منهم من مات قبل أن يضحي صلوات الله وسلامه عليه، كأصحابه الذين ماتوا من قبل، فوقعت هذه الأضحية عن الميت.
فدل هذا الحديث كما نص العلماء والمحققون على مشروعية التضحية عن الميت، ولا حرج أن يضحي الإنسان عن والده ووالدته، وأن يتقرب إلى الله عز وجل في ذلك اليوم المفضل بالأضحية، فيريق الدم قربةً إلى الله عز وجل وصدقةً عن أمواته بالتشريك والإفراد؛ بالتشريك كأن تقول: هذه عن والدي وعن والد والدي إلى المنتهى مثلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين أمواتٍ عديدين، فقال: ( عمن لم يضح من أمة محمد ) صلى الله عليه وسلم.
وبالإفراد كأن يقول: هذه عن أبي، أو هذه عن أمي؛ فإنه إفراد.
فإن أوصى الميت فلا إشكال وتكون واجبة، وأما إذا لم يوص فإنه إذا أحب الإنسان أن يتنفل بالصدقة عنه فلا حرج، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه اشتكى إليه صحابي أن أمه ماتت، وأنه يريد أن يتصدق فقال: (نعم، وعليك بالماء) ففضل له الصدقة بالماء، كسقي الظمآن، لما في ري الظمآن من الأجر، كما في الحديث الصحيح: ( أن امرأةً زانية من بغايا بني إسرائيل مرت على كلبٍ يأكل الثرى، فنزلت فملأت موقها وسقته، فشكر اللهُ لها ) أي: أن الله عظم منها هذه الحسنة والرفق بهذا الحيوان الضعيف؛ فشكر الله لها هذا الفعل فغفر لها زناها وذنوبها.
وفي رواية: (فشكر اللهَ لها) ، يعني: الكلب سأل الله أن يشكرها؛ لأنه لا يستطيع أن يوفي لها حسنةً أنقذته من الموت؛ فغفر الله لها ذنوبها، قالوا: فمن أفضل الأعمال سقي الظمآن، ففي ذلك إزالة لريه، فإطفاء حر الأكباد من شدة الظمأ والعطش، بحفر الآبار في البوادي والقرى والأماكن النائية التي يشق على أهلها جلب الماء إليهم؛ من أفضل القربات والطاعات، بل إن بعض العلماء قد يفضل هذا الأمر على بناء المسجد إذا كان إنقاذاً للأنفس، ويقولون: إن بهذا الأمر بقاء الصدقة والبر؛ لأنهم إذا شربوا تقووا على طاعة الله عز وجل، لأن البلاء بالعطش أعظم، فكان الرفق بعمل ما يدفعه أعظم في الأجر عند الله، فيفضلون مثل هذه القربات، فيقولون: لو تصدق عن الميت بماءٍ، كحفر بئرٍ وتسبيله فهو أعظم في المثوبة.
ولو برد الماء فيما يوجد في عصرنا هذا من البرادات ونحوها ففيه تفصيل: إن كان قد اشتراه وبرده، فهو مأجورٌ على الاثنين: على الماء بعينه، وعلى تبريده وإطفاء ما في الأكباد من حر الظمأ بهذا الماء البارد.
وأما إذا كان الماء من غيره، وهو قائم على تبريده، فيكون له أجر التبريد، وعين الماء المتصدق به لصاحبه الأصلي إن رضي بذلك.
هذا بالنسبة للصدقة بالأموال، ويشمل ذلك الذبح، وإطعام الجائع، وغير ذلك من القربات المالية المحضة، وكذلك التصدق بالمال، فلو أخذ عشرة أو مائةً فنوى في قلبه أنها صدقةً عن أبيه، فهذا من البر الذي يبقى بعد الموت؛ ولذلك شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه حينما سأله الصحابي.
ومن هذا ما ورد النص فيه كالبساتين، فالتصدق بثمار البساتين يعتبر من القرب المالية المحضة؛ لأن البلح والرطب والتمر يعتبر مالاً، ومن هنا يقولون: لا حرج أن يتصدق بالأموال سواءً كانت عينية أو كانت أطعمة أو كانت أسقية.
وهكذا الكساء، فلو أنه جلب كساء لبردٍ أو حرٍ فجعله ليتيم أو أرملةٍ أو نحو ذلك، ونواه صدقةً عن ميته، فهذا من القربات، حتى ولو زاد عن حاجة الإنسان، كأن تكون عند الإنسان ثيابٌ فاضلة يتصدق بها عن أمواته؛ فإنها من الحسنات، وهي من البر، كأن ينويها عن أبيه أو عن أمه؛ لأن النص ورد بإجازة هذا النوع من الصدقات.
إهداء الثواب للحي
قوله: [أو حيّ نفعه ذلك].
الأصل: أن الإنسان يتصدق عن نفسه، ويكون ذلك من باب الإيثار للنفس بالقرب والطاعات، أما بالنسبة للميت فقد يكون ذلك لعظيم حقه كالوالدين والقرابة، وقد يكون صديقاً بينك وبينه الود والمحبة، فتحب أن تحسن إليه بعد موته بالصدقة عنه، لعل الله أن يجعل في هذه الصدقة رحمةً تغشاه في قبره، أو تجعلها صدقةً عامةً للمسلمين، فكل ذلك مما لا حرج فيه.
وأما أن يكون من حي لحيٍ فهذا لا يحفظ فيه أصل، لكن بعض العلماء أجازه بالقياس، بإلحاق النظير بنظيره، وحكى بعضهم أنه لا خلاف فيه، ولكن لا أحفظ لهذا الإجماع مستنداً، فيتوقف في صدقة الحي عن الحي، بمعنى أن ينوي بأعماله الصالحة أن يكون ثوابها للحي.
وأما بالنسبة لنية الأعمال الصالحة عن الأموات إذا قلنا بمشروعيتها، فإنه يستثنى من ذلك هبة ثواب الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة منع منها العلماء رحمةُ الله عليهم، وبعض الناس يفعلها جهلاً، فيقول: إن هذه الصدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا باطل ولا أصل له، والسبب في ذلك أن حسنات الأمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم، سواء نويت أو لم تنو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من دعا إلى هدىً كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً ) سواء كانت عبادات بدنية أو مالية أو جامعةً بينها، فأجور الأمة كلها في ميزان حسناته بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وهو ليس بحاجة إلى أن يتصدق أحدٌ أو ينوي صدقته عنه صلوات الله وسلامه عليه، فهو في مقام عظيم وفي منزلٍ كريم بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه.
صنع الطعام لأهل الميت
قال المصنف رحمه الله: [ويسن أن يصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم].
أي: لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصنع لأهل الميت طعامٌ يبعث به إليهم، وهو محفوظٌ عنه في يوم موت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ففي السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد أتاهم ما يشغلهم ) والسبب في ذلك: أن أهل الميت يفجعون بميتهم، فيشتغلون بالفاجعة والمصيبة عن تهيئة الطعام ونحو ذلك، فحينئذٍ كان من الرفق أن يصنع لهم الطعام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فقد أتاهم ما يشغلهم)، والمحزون والذي فجع بفاجعةٍ في ولده أو قريبه يذهل عن طعامه وشرابه، ولربما وضع الطعام بين يديه فلم يستسغه، وكذلك ربما وضع الشراب بين يديه فلا يستسيغه؛ مما يكون في كبده من ألم الفراق ولوعة الحزن وشدته عليه في نفسه، ولذلك يرفق به بصنع الطعام.
وينبغي أن يكون صنع هذا الطعام من باب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم لا من باب الرياء ولا المباهاة؛ وإنما يقصد به وجه الله تبارك وتعالى، حتى يثاب صاحبه ويؤجر.
قوله: (يصنع لهم) للعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يصنع لهم يوماً واحداً، وهو يوم المصيبة والفاجعة، وأما اليوم الثاني والثالث فلا يصنع.
ومنهم من يقول: الثلاثة الأيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحداد ثلاثة أيام؛ فلما سوغ لأهل الميت أن يحدوا على ميتهم ثلاثة أيام، فمعناه أنهم مشغولون في الثلاثة الأيام أكثر من غيرها، فيشرع أن يصنع لهم الطعام في الثلاثة الأيام، والأمر محتمل، لكن الوارد عنه عليه الصلاة والسلام أنه أطلق، فقال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد آتاهم ما يشغلهم) فإن قيل باليوم فهو الأصل وهو الأقوى، وإن قيل بالثلاثة الأيام فله وجه؛ لأنه قال: (فقد أتاهم ما يشغلهم) فقد يكون شغلهم في الثاني والثالث كشغلهم في الأول، بل قد يشتد حزنهم أكثر في الثاني والثالث.
وعلى العموم: الأقوى أن يقتصر على اليوم الأول .
الأسئلة
حكم رفع اليدين عند الدعاء والاستغفار للميت

السؤال
عند الدعاء والاستغفار للميت هل يشرع رفع اليدين؟ وكيف يدعو: هل يتوجه إلى القبلة أم ماذا؟

الجواب
الدعاء للميت له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون بعد دفنه مباشرة.
والصورة الثانية: عند زيارة المقابر.
أما إذا كان دعاؤه بعد دفنه مباشرة، فالسنة ألا ترفع اليد، كما نص على ذلك جمعٌ من العلماء رحمهم الله، وإنما يدعى له ويستغفر ويترحم عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل ) ولم يرفع يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك درج عليه فعل السلف، إلا أنه أثر ذلك عن ابن عمر ، لكن لم أطلع على من صحح الرواية عنه في ذلك.
أما بالنسبة لرفع اليدين عند الزيارة، كأن تزور القبور وتريد أن تدعو لأهلها، أو تزور قبراً معيناً كوالدٍ ووالدةٍ وقريب وصديق ونحو ذلك، فلا حرج أن ترفع يديك، بل هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ( أنه لما خرج بالليل قام على القبور قياماً طويلاً ورفع يديه واستغفر لهم ودعا لهم ) وحينئذٍ يستقبل القبلة ويدعو للميت، ويترحم عليه، وعند السلام يستقبله من وجهه كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فيأتي للقريب من وجهه ويسلم عليه، ثم يتوجه إلى القبلة ويدعو ويترحم على ميته وأموات المسلمين، هذا هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه من المواضع التي ورد فيها النص بمشروعية رفع اليدين في الدعاء.
وأما ما ذكرناه في حال الدفن فلا يُحفظ فيه نصٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.

حكم التعزية بعد الدفن في المقبرة

السؤال
ما حكم وقوف أقارب الميت في المقبرة بعد الدفن لتعزية الناس لهم، أثابكم الله؟

الجواب
لا حرج أن يعزى أقارب الميت عند القبر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزّى عند القبر كما في الحديث الصحيح: ( أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأةٍ وهي تبكي على قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اصبري.
فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب.
فلما ولى قيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءت تعتذر إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) فكان عزاؤه عند الصدمة الأولى، أي: لما صدمت وفجعت وبكت على ميتها، فعزّاها صلوات الله وسلامه عليه فقال: (يا أمة الله! اصبري)، فلا حرج أن يعزى في القبر.
ولذلك أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على مشروعية التعزية عند القبر، وفيه رفقٌ بالناس؛ لأنهم يتكلفون الحضور إلى بيت الميت ثانياً، فالأولى أن يعزوا عند القبر؛ ولأن آل الميت أحوج ما يكونون إلى التعزية في مثل هذا الموضع الذي يشتد فيه حزنهم ويعظم فيهم مصابهم؛ لأنهم يرون أن الميت قد ووري وغاب عنهم، وحينئذٍ تكون الفاجعة به أشد، لكنه قبل دفنه يكون كأنه موجودٌ أمامهم يرونه فيتسلون برؤيته، ولربما تسلت الأم برؤية ابنها، وتسلى الأب برؤية ابنه، لكنه إذا دفنه وتحقق عندها موته؛ فإنه تكون الفاجعة به أشد.
ولذلك يعتري كثير من الناس من الحزن والفاجعة في مثل هذا الوقت ما لا يكون بعده، ففي هذه الحالة يشرع أن يعزوا في القبر لشدة ألمهم، وما يجدونه من الحزن والوجد على فراق أقاربهم.
ويعزى أهل الميت إذا عُرِفوا، وخفف بعض العلماء وتسامح في كونهم يقفون مصفوفين حتى يعلم الغريب أنهم قرابة للميت فيعزيهم، أما لو كانوا لا يتميزون؛ فإنه من الصعوبة بمكان أن يعرفهم الغريب؛ ولذلك رخص بعض المتأخرين من العلماء في هذا فقالوا: الأمر فيه واسع، لكن لا يعتقد أنه من السنة، إنما يقال: يفعل للحاجة، ولا يعتقد أنه لو تركه أحد أن يقال: إنه أساء؛ لأنه أمر فعل للحاجة، فلو تميز آل الميت وعُرِفوا فتركه أولى.
أما إذا وجدت قرابة من الميت وهم بحاجة إلى أن يواسوا ويعزوا فاصطفوا لذلك، فهذا درج عليه كثير من العلماء ولم ينكروه؛ لأنه يحتاج إليه خاصة في هذا الزمان عند اتساع المدن، وقد يشهد الجنازة من لا يعرف أهلها، ولا يعرف قرابتها، فلو قيل له: اذهب وتخيّرهم بين الناس لصعُب، خاصةً إذا كان الميت قد شهد جنازته كثير، وقد تعرف الصديق والقريب ويخفى عليك قرابته، ويخفى عليك أهله وجماعته؛ فحينئذٍ تحتاج إلى من يميزهم.
فمثل هذا ليس بعبادةٍ مقصودة، أعني: إذا اصطفوا ووقفوا، أنهم لا يفعلون ذلك بقصد العبادة، إنما بقصد أن يعرفوا ويميزوا، فخفف فيه بعض المشايخ رحمةُ الله عليهم ممن أدركناهم من أهل العلم من هذا الباب.
أما لو اعتقد أنه من السنة، أو أنه لا بد من الوقوف، وأنه يكون على حالة معينة أو مخصوصة فهذا من البدعة والحدث الذي لا أصل له والله تعالى أعلم.

حكم شد الرحال للعزاء

السؤال
ما حكم شد الرّحال للعزاء أثابكم الله؟

الجواب
شد الرحال للبقع نُهي عنه لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) فلا تشد للقبور ولا للمشاهد، لكن إذا كانت الأعمال الصالحة: كبر الوالدين، وطلب العلم، والحج والعمرة، فتشد لها الرحال؛ لأنها أعمال وليست بأماكن، وفرقٌ بين المكان وبين العمل، فإذا أراد أن يشد الرحل للعزاء فهذا فيه تفصيل: إن كان الميت قوي القرابة من الإنسان كأبيه، فكان يريد أن يشد الرحل إلى أهله وإخوانه وأخواته ليكون معهم ويثبتهم ويواسيهم ويصبرهم، فهذا لا إشكال أنه من صلة الرحم، وأنه لا حرج عليه أن يسافر من أجل أن يصبر أمّه ويصبر إخوانه وأخواته وأقاربه.
أما أن يسافر لصديقه ويتكلف السفر لصديقه ونحو ذلك من المجاملات، فهذا لا أصل له، بل إنه قد يكون عبئاً وثقلاً عليه، والأحسن أن يعزيه بالاتصال هاتفي، خاصةً مع تيسر وسائل الاتصال الآن، أو يكتب له رسالة أو يبرق له، فيشعره بتأثره بما نزل به من بلية، وفي هذا الكفاية وفيه الخير والله تعالى أعلم.

حكم دفن الوالدة مع ولدها إذا ماتا معاً

السؤال
إذا ماتت الوالدة في ولادتها هي وولدها، فهل يشرع دفنهما سوياً أثابكم الله؟

الجواب
الجمع بين الاثنين في قبر لا يشرع إلا من حاجة، والأصل أن الأطفال الصغار يقبرون على حدة، فإن وجدت حاجة من كثرة عددهم وصعوبة دفنهم منفردين فلا حرج أن يجمعوا، سواء جُمِعوا مع كبيرٍ بالغ أو مع صغارٍ مثلهم، ففي هذه الحالة لا حرج أن يقبر مع أمه.
وأما ما يعتقده العامة من أن هذا الصغير يخفف العذاب عن الكبير فباطل ولا أصل له، والله تعالى لا يظلم عباده شيئاً، وهو سيتولى العبد بإحسانه إن كان محسناً، وبعدله إن كان مسيئاً، أو بفضله ورحمته وعفوه وكرمه إذا أحب أن يعفو عن إساءته.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يشملنا بواسع لطفه وحلمه، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



ابوالوليد المسلم 14-06-2022 05:16 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (174)

صـــــ(1) إلى صــ(18)





شرح زاد المستقنع - زيارة القبور
نهى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر عن زيارة المقابر، ثم أمر به واستحبه، وبين العلة من ذلك وهي أنها تذكر بالآخرة، فينبغي على المسلم أن يزور المقابر بين الفينة والأخرى، وأن يكون ملماً بالأحكام المتعلقة بها، كحكم زيارتها، وتعظيم خطر الغلو في القبور وما أحدث فيها من البدع، وحكم زيارة النساء للمقابر، ومعرفة آداب زيارة القبور وما يقال عند زيارتها.
حكم زيارة القبور
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد بين المصنف رحمه الله الأحكام المتعلقة بالميت، حتى فرغ من بيان أحكام الدفن، وما يتبع ذلك من المسائل المتعلقة بالقبور، ثم شرع رحمه الله في هذا الفصل في بيان بعض الأمور المتعلقة بما بعد الدفن، فقال رحمه الله: [فصل: تسن زيارة القبور].
هذه السنية تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فأما القول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن مسعود و أبي سعيد و أبي هريرة و أنس و عائشة رضي الله عن الجميع: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة ).
ولما سألته أم المؤمنين ماذا تقول إذا زارت القبور؟ فقال: ( قولي: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ...) الحديث.
وأما الفعل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم زار القبور ودعا لأهلها واستغفر، وأقر زيارتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه قام في جوف الليل، وتبعته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقام قياماً طويلاً ودعا لأهل القبور واستغفر، ثم رجعت قبله صلوات الله وسلامه عليه)، فدل هذا على مشروعية زيارة القبور.
وللعلماء تعبيران في هذه المسألة: فمنهم من يعبر ويقول: تُسن، ومثل هؤلاء أيضاً من يقول: يباح، ومنهم من يقول: تشرع، فهذهِ ألفاظٌ متقاربة وهناك قولٌ آكد وأقوى، وهو التعبير الثاني: تستحب.
فأما من قال: إن زيارة القبور مباحة؛ فإنه نظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها ) فقال: إنه أمرٌ بعد الحظر، والأمر بعد النهي والحظر يقتضي الإباحة عند هؤلاء.
وأما من قال بالاستحباب والتأكد فقال: إنه أمرٌ مصروفٌ عن ظاهره الدال على الوجوب إلى الندب والاستحباب.
فأما الذين قالوا: إنه أمرٌ بعد حظر، فإنه إذا ورد نهيٌ في الكتاب والسنة، ثم جاء بعده أمرٌ بذلك المنهي عنه فللعلماء أقوال: قال بعض العلماء: كل أمر بعد الحظر محمولٌ على الإباحة، وهذا يختاره جمعٌ من فقهاء الشافعية والحنابلة وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على الوجوب، وهو مذهب الظاهرية.
والقول الثالث: كل أمرٍ بعد الحظر محمولٌ على حالته قبل النهي.
توضيح ذلك بالمثال: صيد البر حرمه الله على المحرم، ثم قال: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة:2] فوقع قوله: (فاصطادوا) بصيغة الأمر التي هي بعد الحظر والتحريم، فهل نقول: إن الصيد واجب أو مندوبٌ أو مباح؟ فهذه هي مذاهب العلماء.
فمن يقول: إنه للوجوب، يقول: لأنه أمر، حتى أن بعض الظاهرية يوجبون الصيد على ظاهر الآية، وهو من أغرب الأقوال وأكثرها شذوذاً.
والذي قال: إنه للندب والاستحباب يقول: إن الأمر رفع النهي، فأصبح مصروفاً عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى ما هو دون ذلك وهو الندب والاستحباب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة:9]، فقوله: (وَذَرُوا الْبَيْعَ): نهي وتحريم وحظر، جاء بعده قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة:10] فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: بالتجارة، كقوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة:198] فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة.
فهل قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) محمولٌ على ظاهره من الوجوب أو للندب والاستحباب، أو للإباحة التفاتاً إلى ما كان عليه الحال قبل ورود النهي؟ فأصح الأقوال في هذه المسألة: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى حالته قبل الحظر، فيرفع الأمرُ النهي، ويبقى الحكم للأصل، فلما كان الصيد في الأصل تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون مكروهاً، ويكون مندوباً، ويكون واجباً ويكون حراماً، ويكون مباحاً؛ فإن الأمر بالتحلل في قوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة:2] يرفع الحظر والتحريم، ويرجع حكم الصيد إلى التفصيل وهي الأحكام التكليفية الخمسة: إن كان صيداً لمحرم فمحرم، وإن كان صيداً لمكروه فمكروه، وإن كان صيداً لإنقاذ نفسٍ فواجب، وإن كان من أجل أن يتقوى به على طاعة الله فمستحب، وإن خلي من الدوافع والموانع فهو مباح.
كذلك أيضاً في قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ } [الجمعة:10] فلما كانت التجارة من المباحات التي ليست بواجبة ولا لازمة على المكلف، ولا بمحرمةٍ على الإطلاق، وإنما تحظر أحياناً وتباح أحياناً؛ فإن أمر الله عز وجل بالبيع والشراء بعد صلاة الجمعة يرفع الحظر الذي كان موجوداً أثناء الصلاة، ويبقى حكم التجارة على الأصل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ) فالذين يقولون: تباح الزيارة ولا يعبرون بالاستحباب يلتفتون إلى هذا الأصل، فيقولون: إنه أمرٌ بعد حظر؛ فيرجع إلى الإباحة، والذين يقولون: إنه للندب والاستحباب، يقولون: الأمر في قوله: (فزوروها) رفع التحريم، وبقيت زيارة القبور مستحبة، خاصةً وأن في الحديث كلمة تدلّ على الاستحباب والندب بقوله: (فإنها تذكر الآخرة) فقوي هذا المذهب، ولذلك كان التعبير عند بعض العلماء بقوله: (وتستحب زيارة القبور) أقوى من التعبير بقوله: (تسن).
والإجماع منعقد من حيث الجملة على أن الزيارة سنة بالنسبة للرجال، أما بالنسبة لفضلها فإنها تستحب، والسبب في ذلك: أن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فما كان وسيلةً لواجبٍ فواجب، وما كان وسيلةً لحرام فحرام، وما كان وسيلة لمندوبٍ فمندوب، فلما كان تذكر القبور واستشعار الآخرة، وكون المكلف دائماً يستحضرها في قلبه مما يعينه على طاعة الله، ويقوي عزيمته على الخير، ويكفه عن كثيرٍ من الشر والمحارم والحدود، ويهذب أخلاقه ويقوّمُ سلوكه؛ كان هذا من جنس المستحبات لما له من الأثر العظيم.
ويبقى النظر بالنسبة لزيارة القبور: هل هي لمصلحة الزائر، أو لمصلحته ومصلحة المزور وهو المقبور الذي يزار؟ فإن كانت لمصلحة الزائر فظاهر قوله: (فإنها تذكر الآخرة) متعلق بالزائر، وحينئذٍ تكون الزيارة لمصلحة الحي.
والصحيح: أنها لمصلحة الحي والميت، أما الحي: فإنه ينتفع بالاتعاظ والادكار، خاصةً إذا صحب الزيارة حضور القلب، وهذا هو المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهو ينظر إلى القبور متقاربة، ولكنها في الأجور والحسنات والنعيم والجحيم متباعدة، فقد يكون القبر إلى جوار القبر، ولكن هذا في غاية النعيم، وهذا في درك الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية! وتراهم وهم جيران قربٍ لا يتزاورون، وغرباء سفرٍ لا ينتظرون، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
فإذا نظر الإنسان إلى حال القبور، خاصةً إذا كان على علمٍ بأهلها، فيعلم أهلها وأصحابها، وبالأخص إذا كانوا من الأقرباء والأصحاب والأحباب؛ فإن وقع ذلك في القلوب بليغ، ولذلك يتأثر الإنسان من مثل هذه الزيارات، ويصبح قصير الأمل في الدنيا، وإذا قصر أملُ الإنسان في الدنيا خشع قلبه، وإذا خشع قلبه صلُح، وإذا صلح القلب صلح سائر الجسد كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ) فلا شك أنها لمصلحة الحي من هذا الوجه، حيث تعينه على ذكر الآخرة، وتكسر كثيراً من الغرور، وتحول بينه وبين كثيرٍ من الشرور؛ فلربما زار قبر إنسان مسرف على نفسه كثير العصيان فنظر إلى حاله فاتعظ وادّكر، وكره عمله وما كان عليه من حال، وإذا زار عبداً صالحاً مستقيماً على طاعة الله عز وجل؛ فإنه يحمد ما كان منه من طاعة وبر؛ فيكون حريصاً على التشبه به والتخلق بأخلاقه؛ لعل الله أن يبلغه منزلته، ولذلك جاء في دعاء المقابر: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير والبر والطاعة والاستقامة؛ حتى نكون مثلهم أو خيراً منهم.
وقوله: (تسن زيارة القبور) هذا بالنسبة للتعبير العام، وإلا فالحكم يستوي أن تزور قبراً معيناً أو قبوراً، فلو أن إنساناً أراد أن يزور قبراً معيناً بدون أن يشد له الرحل، فزاره ووقف عليه وسلّم على صاحبه، ودعا له بخير؛ فإن هذا له أثر، لأن العلة واحدة، سواء زرت الجماعة أو زرت الفرد؛ ولذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: (فإنها تذكر الآخرة) فهم العلماء من هذا أنه لا فرق بين زيارة قبر أو قبور، فكون الإنسان يزور قبراً ليتعظ لا شك أنه سيكون لمصلحته.
بقي أن ينظر في مصلحة الميت المزور، فمصلحته بالدعاء والاستغفار له والترحم عليه؛ فمن زار المقابر وترحم على أهلها لا شك أنه سينال أجر هذه الدعوة الصالحة، فلربما مررت عليهم في ساعة يعذب فيها أقوام، فسألت الله لهم الرحمة فرحمهم الله، ورفع عنهم ما هم فيه من العذاب، وقد يكونون أمم لا يحصون، فيكون لك كأجرهم؛ لأنك نفست عنهم هذه الكربة العظيمة، لأنهم انقطعوا عن أعمالهم، فإذا دعوت لهم بالخير وترحمت عليهم، وسألت الله أن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور عليهم؛ فإن الله عز وجل يثيبك على هذه الدعوة الصالحة: (ولك بمثل)؛ لأنك تدعو لأخيك بظهر الغيب.
ومن هنا يعظم أثرها على الزائر ويتأكد ذلك في حق الوالدين والأرحام والقرابات والشيخ ونحوه ممن له فضل على الإنسان من العلماء والدعاة، ونحوهم ممن لهم فضلٌ على الأمة وفضلٌ على المسلمين؛ فهؤلاء لا شك أن زيارتهم أكثر خيراً في الدعاء لهم والترحم عليهم، ورد شيءٍ من جميلهم على الإنسان كالوالدين والأقرباء الذين لهم حقٌ عليه.
(تُسنّ زيارة القبور): هذه الزيارة المقصود منها -كما قلنا- أن يصلح ا
حكم زيارة النساء للقبور
قال المصنف رحمه الله: [تسن زيارة القبور إلا للنساء].
النساء اختلف فيهن على قولين: القول الأول: تشرع زيارة القبور للنساء كما تشرع للرجال، وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: تحرم زيارة القبور على النساء، ويختص الجواز بالرجال دون النساء، وهؤلاء انقسموا على طائفتين: فمنهم من يقول: إنها محرمة وليست بكبيرة إلا إذا صحبها التكرار والعود؛ لقوله: (زوارات القبور).
ومنهم من يقول: هي كبيرة مطلقاً.
أما الذين قالوا: إن الزيارة مشروعة للنساء، فقد استدلوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها ) قالوا: وهذا عام، والقاعدة في الأصول: (أن الأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه).
قالوا: ومن استدل بالتحريم بقوله: ( لعن الله زائرات القبور ) ، فإن هذا الحديث ورد أثناء التحريم، وأما حديث: ( قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ) فإنه نصٌ صحيح صريح، يدل على أن هذه الإباحة سبقها تحريم؛ ولذلك قالوا: إن ما ورد من التحريم محمولٌ على الزمان المنسوخ، وهذا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (كنت قد نهيتكم) فلو كان النساء خارجين من هذا الحكم لقال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها إلا النساء)، ولنص عليه الصلاة والسلام على استثناء النساء؛ فبقي التحريم منسوخاً.
واعترض عليهم بأن هذا الحديث: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها ) لا يعارض حديث: ( لعن الله زائرات القبور ) فقوله: (فزوروها) هذا خاصٌ بالرجال، والتحريم للنساء ورد به النص، قالوا: ولا يوجد دليل يدل على النسخ.
وهذا الاعتراض أجيب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن دلالة النسخ في النص ظاهرة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (كنت قد نهيتكم) وهذا عام، ثم قال: (فزوروها) وهذا أيضاً عام، فدل على أنه نهي تحريم في الأول، وإباحةٌ في الثاني، فالأول عام، والثاني عام، فلا وجه للتخصيص بدون مخصص.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه نص على النسخ، فقال: (كنت) ثم قال: (فزوروها) وهذه هي صيغة نص واضحة.
أما الدليل الثاني: فقالوا: إن أم المؤمنين عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن -كما في الأثر الصحيح عنها- بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله زائرات القبور )؟ فقالت رضي الله عنها: لكنه قال بعد: ( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها ) .
وهذا الحديث ليس من كلام عائشة ، إنما يكون أثراً عن عائشة يقدم عليه الحديث المرفوع لو كانت عائشة فهمت شيئاً، أما هنا فإنها تنقل النسخ بقولها: (لكنه قال بعد) فقد حضرت تحريماً وحضرت إباحة، ونصت على أن التحريم سابق والإباحة لاحقة، فمثل هذا لا إشكال في دلالته على النسخ وجهاً واحداً عند الأصوليين؛ لأنها حفظت الزمان، وحفظ الزمان في أصله تشريع، بخلاف ما لو اعترضت برأيها كقولها مثلاً: (بئس ما عدلتمونا به) في حديث الكلاب والحمير، فذلك واضح أنه اجتهاد.
ثم إنها رضي الله عنها من أفقه الصحابة وأعلمهن بأحكام النساء، وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يختلفون في أمرٍ من أحكام النساء إلا رجعوا إليها، ولا أفتت بحكم فراجعها أحد، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما اختلف الصحابة في مسألة الإنزال المشهورة، بعث إلى أم المؤمنين عائشة فحدثته بالحديث، فقال: (من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً).
ونحن نفهم النسخ من ظاهر قوله: (كنت قد نهيتكم) وهو نصٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تأكد هذا بدلالة الصحابي، حيث يعضد ذلك بالبيان في قولها رضي الله عنها: (لكنه قال بعد).
وقد فعلت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال الجمهور: فهذا يدل على جواز زيارة النساء للقبور.
واستدل الذين قالوا بالتحريم بقوله عليه الصلاة والسلام: ( لعن الله زائرات القبور -وفي روايةٍ: زوارات القبور- ) قالوا: إن اللعن لا يكون إلا على فعل حرامٍ أو ترك واجب؛ وبناءً على ذلك: تكون الزيارة بالنسبة للمرأة محرمة؛ وقوله: (زائرات القبور) يقتضي تخصيص الحكم بالإناث دون الرجال.
ثم أكدوا ذلك من جهة النظر والمعنى، فقالوا: إن المرأة ضعيفة القلب، فلا تأمن إذا دخلت إلى القبور أن تتغير، ولربما تصرخ وتتكشف، خاصةً إذا زارت أقاربها، فإنها لا تأمن من شدة الفاجعة أن تذكر شيئاً أو تنظر إلى أحوال الميت، فيصدر منها الصوت أو يصدر منها الفعل على وجه محرمٍ محظور.
قالوا: بناءً على ذلك فإنه لا يشرع لها أن تزور المقابر، سواء كانت قبوراً عامة أو قبوراً خاصة، لكنها لو مرت بالقبر مروراً وسلمت فلا حرج عليها في ذلك.
والناظر في هذين القولين وأدلتهما يرى أن من قال بالتحريم له وجهٌ بالترجيح من جهة الأصول، والقائل بالجواز له وجهٌ وقوة من جهة الأدلة.
أما الذين قالوا بالتحريم؛ فإن القاعدة في الأصول: (إذا تعارض حاظر ومبيح، يقدم الحاظر على المبيح) ولذلك يقوى قول من قال بالتحريم على قول من قال بالجواز من جهة وجود هذا الأصل؛ لأنه لو قلنا للمرأة الآن: لا تزوري المقابر.
فإنه في هذه الحالة يفوتها فضل الزيارة الذي يمكن أن تعوضه بالدعاء والاستغفار للميت والترحم عليه؛ لكننا لو قلنا لها: زوري المقابر.
فإننا لا نأمن أن تكون قد أصابت المحظور، أو على الأقل شيئاً مكروهاً؛ ولذلك يكون تغليب باب الحظر من هذا الوجه أقوى وأولى.
ثم إذا نظرنا إلى واقع الناس وحالهم اليوم، وعدم انضباط كثير من النساء بالحدود والضوابط الشرعية؛ فإنه يقوي قول من قال بالحظر.
واتفق العلماء على أنه لا تجوز زيارة المقابر إذا كانت المرأة ضعيفة أو لا تتمالك نفسها أو غلب على الظن أنها تفعل المحظور عند القبر، وإذا كانت شابةً فاتنة وذهبت إلى القبر فتنت غيرها أو فتنت نفسها أو جمعت بين الفتنتين فلا تجوز بالإجماع، فليست هذه مسألة خلافية، إنما الخلاف يكون في امرأة عاقلة حكيمة الغالب على الظن أنها تضبط نفسها، وتريد أن تتعظ؛ فهذا هو الذي يجيزه جمهور العلماء لها من الزيارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على المرأة وهي تبكي عند القبر لم يقل لها: لعن الله زائرات القبور، ولم يحظر عليها ذلك، قالوا: فقد أقرها عليه الصلاة والسلام؛ لكن الناظر في حال الناس اليوم قد يجد أغلب النساء -إلا من رحم الله- أنهن لا يطقن الزيارة، مع أنه بإمكانهن أن يعوضن هذا الأمر المشتبه فيه إلى أمرٍ لا شبهة فيه بالدعاء والاستغفار للموتى.
ما يقال عند زيارة القبور
قال المصنف رحمه الله: [ويقول إذا زارها أو مر بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم].
هذا هو الدعاء المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم والوارد عنه، وهو من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين حيث جعل للأموات دعاءً عند الأحياء، وجعل للمسلم على أخيه المسلم أن يذكره بعد موته بالدعوة الصالحة، فإذا مرّ على هذه القبور أو دخلها يقول: السلام عليكم.
السبب في هذا: أنه لما نُزّل الميت منزلة الحي، ودل النص على مشروعية السلام عليه؛ أخذ هذا السلام الأصل الشرعي، فأنت تسلم على من مررت به ومن جئته وجلست معه، فيشرع أن تسلم مارّاً ويشرع أن تسلم داخلاً.
قوله: (السلام عليكم) المراد به السلامة من الآفات والشرور، وهو اسمٌ من أسماء الله تعالى، لكنك إذا قلت: (السلام عليكم) لا تقصد هذا الاسم، وإنما تقصد معناه، أي: سلمكم الله من الآفات والشرور وغيرها من المصائب.
وأما بالنسبة للأموات فإن الأموات لا يأمنون في قبورهم من الفتن وعذاب القبر، وما في القبر من الأهوال والشدائد، نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا منها، وأن يلطف بنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
فشُرِع أن تقول: السلام عليكم، أي: سلمكم الله، فإن كانوا معذبين سلمهم الله بدعائك، وإن كان ينتظرهم العذاب فإن الله سبحانه وتعالى يقيهم بصالح دعائك.
قوله: (دار قومٍ مؤمنين) فيه فوائد: الفائدة الأولى: وصف القبور بكونها داراً، فيدل على أن الدور ثلاثة، كما هو مذهب السلف الصالح رحمة الله عليهم: الدنيا، والآخرة، والبرزخ.
وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك، أما الدنيا والآخرة فواضح، قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا } [القصص:83] فجعلها آخرة وجعل الدنيا للعمل، وكذلك أيضاً قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى:16-17] فذكر دارين.
أما الدار الثالثة -وهي البرزخ-: فقد أشار إليها: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون:100] فدل على أن البرزخ دار، وذلك في قوله: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين.
الفائدة الثانية: أنه لما قال: (دار) أخذ منه بعض العلماء أنه لو حلف وقال: والله لا أدخل داراً، فدخل القبر أنه يحنث، وقال بعض العلماء: لا يحنث؛ والسبب في هذا: أن الدار في العُرف هي الدار المعروفة ولا تشمل القبور؛ فانصرف هذا اللفظ اللغوي إلى المعروف عرفاً، وهذا من باب تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة العرفية.
فإن قيل: إنه يؤاخذ على وصفه بالدار فيستقيم قول من قال: إنه يحنث؛ لأنه المقابر وصفت بكونها داراً.
ومدة هذه الدار من يوم دفن الإنسان إلى أن يبعثه الله عز وجل؛ ولذلك ورد في حديث البراء ( هذا مقامك حتى يبعثك الله ) وبناءً على ذلك يقولون: حتى لو أن هذا الرفات نقلته الريح، وأشلاءه وأعضاءه أخذتها السباع ونحو ذلك فلا يزال الحكم للقبر الذي قُبِرَ فيه، ولذلك يقول بعض العلماء: إن العبرة بالقبر نفسه؛ لأنه داره ولو قُبر فيه الملايين.
ثم لو قبر ملايين الصالحين في مكانٍ واحد لأفسح الله لكل صالح مد البصر، ولا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82] وهذه من الغيبيات والسمعيات، التي لا يخاض فيها بالعقل؛ لأن العقل لا يمكن أن يدرك هذه الأشياء، ولا يمكنه أن يدخلها، ولما دخل فيها الفلاسفة بالعقل والمنطق وقعوا في الحيرة والظلام، ووقعت منهم زلات وأخطاء عظيمة، حتى أن بعضها تمس اعتقاد الإنسان، حتى إن بعضهم يقول: إن هذه تخيلات -أي: لا حقيقة لها-!! حسبنا الله ونعم الوكيل، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب يوم القيامة ) وهو آخرك الذي تراه مثل الدائرة، فإنه إذا أذن الله عز وجل ببعث الناس تركب المخلوق وابتدأ خلقه من عجب الذنب، وقامت عليه أعضاؤه، فإذا هو قائمٌ بين يدي الله عز وجل.
وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين): فالدار دار قومٍ كافرين، ودار قوم مؤمنين، ومن هنا نفهم أن الزيارة تختص بمقابر المسلمين، فلما قال: (دار قومٍ مؤمنين) فهمنا أنه لا تشرع زيارة قبور الكفار؛ لكن إذا زارها الإنسان للاتعاظ لا للدعاء ففي هذه الحالة التي أشار إلى العلة فيها: أنه إذا كانت لمصلحة الحي جاز له أن يمر بها متدبراً متأملاً، ويبشرهم بما عند الله من العذاب والعقوبة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من مر بقبور الكفار أن يبشرهم بما عند الله من العذاب والنكال؛ حتى يزدادوا غماً إلى غمهم وهماً إلى همهم، نسأل الله السلامة والعافية.
فالزيارة تختص في الأصل بقبور المؤمنين، لكن بالنسبة لقبور الكفار: فإنه إذا نظر إليها متعظاً متدبراً أو موبخاً مبكتاً -كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في قليب بدر- فلا حرج في ذلك، أما لمصلحة المزور فلا، وهذا مما تختص به قبور المسلمين عن قبور الكافرين؛ قوله: (من المسلمين والمؤمنين) من باب التنويع؛ فإنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا ذُكر أحدهما شمل الآخر.
وقوله: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) المراد بذلك أهل الإسلام، سواءٌ كانوا من المؤمنين أو في درجة الإسلام أو الإحسان، فالكل داخل في هذا العموم، وأما رواية (من المؤمنين) فإنها عامة بالنسبة لأهل الإسلام.
قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: متى شاء الله، وهذا تعليق بالزمان، ويجوز التعليق بالزمان، مثل: متى شاء الله أزرك، ومتى شاء الله آتك، ومتى شاء الله أعطك فهذا تعليقٌ بالزمان، ولذلك يقسم العلماء (إن شاء الله) إلى تحقيقية وتعليقية: فالتحقيقة: كقولك: (إن شاء الله أزرك) أي: أنك جزمت بأنك زائر فقصدت التحقيقية، كقولك: أنا إن شاء الله فاعلٌ كذا.
بقصد أنه واقعٌ منك ولا بد بعد قدرة الله عز وجل لك.
وأما التعليقية: فهي التي يعلق بها المكلف الفعل فيما يستقبل من الزمان.
وهذا النوع الثاني -وهي التعليقية- تحظر في الدعاء، كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، لأنه يعلق مغفرة الله على مشيئة الله، فإن الله لا مستكره له، بل عليه أن يعزم المسألة ويقول: اللهم اغفر لي وارحمني.
فتشرع التحقيقية بأن يقولها الإنسان تحقيقاً للأمور كقوله: إن شاء الله سآتيك، ويقصد التحقيق والتعليق.
وهذا الحديث: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تُحمَل فيه على التحقيقية إذا قُصِد بها الموت، فإنه لا محالة أننا ميتون؛ لأن الله يقول: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر:30] فأخبر أن الإنسان ميت، وأنه لاحق بهؤلاء القوم إما عاجلاً أو آجلاً، وكل ما هو آتٍ قريب؛ ولذلك يقول: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: إن لحقونا بكم مؤكد، فلا يحول بين الإنسان والموت إلا عدم حضور أجله، وإلا فهو ميتٌ، إذا ثبت هذا على هذين الوجهين يكون التعليق لا إشكال فيه.
وقوله: (لاحقون): اللاحق هو الذي يأتي تبعاً للإنسان، فلما تأخر موت الزائر عن المزور وصف نفسه بكونه لاحقاً له.
قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) وفي بعض الروايات: (يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين).
(المستقدمين): تَقدُّم الشيء على الشيء معلوم ومعروف، وقوله: (المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذا عموم بذكر أفراد العام، حيث قسم الناس إلى متقدم ومتأخر، والناس إما سابق وإما لاحق، فقال: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين).
ثم إن قوله: (يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين) هذه دعوة عامة تشمل الأحياء والأموات، فالأموات متقدمون والأحياء متأخرون.
(اللهم) أي: يا ألله، والميم تأتي عوضاً عن حرف النداء (يا) ولذلك لا يصح أن يقال عربية: (يا اللهم) إلا في قريض الشعر؛ لأنه لا يجمع بين البدل والمبدل، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله -رحمه الله-: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض ومن هذا الشاذ الذي يكون في القريض والشعر قول الشاعر: إني إذا ما حدث ألم ناديت يا اللهم يا اللهم أي: يا ألله يا ألله.
وقوله: (اللهم لا تحرمنا أجرهم) أي: لا تحرمنا ما كانوا فيه من الخير، والسبب في ذلك: أن الإنسان مع الميت على إحدى حالتين إذا كان الميت صالحاً؛ لأنك إذا زرت المؤمنين فالأصل أنهم توفوا على الإيمان فقد نجوا من الفتنة -أعني فتنة الكفر والخلود في النار- فإذا زارهم الزائر لا يخلو بعدهم من حالتين: إما أن يكون بقاؤه بعدهم لخيرٍ يزداد منه، وإما أن يبقى لشرٍ يزداد فيه، أو لفتنة تنتظره يكون بها شقاؤه نسأل الله السلامة والعافية.
فإن بقي لخيرٍ فهو أفضل، حتى ورد في الحديث الصحيح في الرجلين الأخوين اللذين كان أحدهما أصلح من الثاني، فمات الصالح وتأخر من هو أقل صلاحاً أربعين يوماً فاختلفوا: أيهما أصلح؟ فخرج النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( وما يدريكم ما الذي تبلغ به صلاة أربعين يوماً ) فلا شك أن الإنسان إذا بقي بعد الميت ولو يوماً واحداً فإن الله قد يبلغه في هذا اليوم ما لم يبلغه في سنوات ودهور، كما في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم الرجل ثم حمل على القوم فقُتل شهيداً، قال صلى الله عليه وسلم: ( عمل قليلاً وأُجر كثيراً ) .
ومن هنا كان الأمران، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم لا تحرمنا أجرهم ) أي: أحينا بعدهم حياةً طيبةً تبلغنا إن كانوا صالحين ما هم فيه من الصلاح، وزدنا من فضلك.
فقوله: (لا تحرمنا أجرهم) أي: ما بلغوه من الخير والفضل.
وقوله: (ولا تفتنا بعدهم) أي: لا تجعل بقاءنا بعدهم إلى فتنة ولا
شرح زاد المستقنع - تعزية أهل الميت
التعزية لمن أصيب قريب أو حبيب؛ جبراً لخاطره، وتسلية له، وليس لها لفظ مخصوص، بل تصح بكل لفظ يدل على التعزية، وهناك أمور مبتدعة محرمة لا يجوز فعلها عند التعزية، ويحرم على أهل الميت النوح والشق ولطم الخد وغيرها من أمور الجاهلية التي كانت تفعل عند الموت.
حكم التعزية لأهل الميت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وتسن تعزية المصاب بالميت].
التعزية: سلوان من العزاء، وهي كلمات يقولها الإنسان للمصاب يحدث بها طمأنينة قلبه وقوة يقينه وحسن ظنه بالله عز وجل؛ فيصبر بعد أن كان جزعاً، ويطمئن بعد أن كان قلقاً.
والتعزية مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة لما مر عليها وهي تبكي عند القبر: ( يا أمة الله! اصبري.
فقالت: إليك عني، فلست أنت المصاب ) فدل على مشروعية التعزية للمسلمين وأنها سنة.
وتكون التعزية للمرأة الأجنبية والقريبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عزى هذه المرأة وهي أجنبية، فقال لها: (يا أمة الله! اصبري) ولكن بشرط: أن تؤمن الفتنة عند تعزية المرأة الأجنبية.
ومن الأدلة أيضاً على مشروعية التعزية قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، فمرها فلتصبر ولتحتسب ) .
والتعزية تكون قبل الدفن وبعد الدفن، فتكون قبل الدفن من باب التسلية كقوله لابنته حين أرسلت إليه وابنها يقضي ليأتيها فقال للرسول الذي جاءه هذه الكلمات: ( مرها فلتصبر ولتحتسب، إن لله ما أعطى وله ما أخذ ) إلى آخر الحديث.
فهذا يدل على مشروعية الكلمات التي يعزى بها الإنسان قبل الدفن، لكنها في الأصل تكون بعد الدفن؛ لأنه بعد الدفن يتحقق من موت الإنسان، فلربما حدث له ما يظن معه موته كسكتةً قلبية ثم يزول عنه ذلك فيشفى ويقوم من بلائه، وحينئذٍ يقولون: لا يعزى إلا بعد الدفن؛ لأنه بعد الدفن قد تحقق من وفاته، وحينئذٍ يكون مصابه أشد؛ فإن الناس يفجعون بعد الدفن أشد من فجعهم قبل الدفن، فإن مناظر القبور والفراغ من دفن الميت يقطع الأمل فيه، بخلاف ما إذا كان قبل ذلك؛ فإنه لا يمنع أن يكون به سكتة ثم بعد ذلك يحيا أو يقوم، فهذا هو الذي جعل بعض العلماء يقولون: التعزية تكون بعد الدفن.
وهذا هو الأصل والغالب؛ لكن إذا احتاج إليها فلا بأس أن يعزي أخاه المسلم قبل الدفن عند وجود الحاجة، كأن ترى أخاً لك أو قريباً أو زوجةً شديدة التفجع والتوجع، فتذكرها بالله عز وجل، وتصبرها بالّتي هي أحسن.
وينبغي على من يعزي أن يترفق بمن يعزيه، وألا يكون شديداً عليه، وألا تكون عباراته فظة غليظة، فبعض الناس إذا جاء يعزي كأنه يوبخ من يبكي ويقرعه، وهذا لا ينبغي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه الرفق؛ ولذلك لما أراد عمر أن يضرب النساء -كما في حديث السنن- نهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وأخبر أن الله لا يعذب إلا باللسان، يعني: بما يكون من النياحة ونحو ذلك من الأمور المحرمة، كشق الجيوب وغير ذلك من أفعال الجاهلية، فلا ينبغي أن تأتي لأخيك المسلم قد فجع بقريبه فتقول له: لا تبك كالمرأة.
أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تجوز لما فيها من كسر الخواطر، وإهانة الميت؛ لأن هذا يدل على أنه ينبغي ألا تكون للميت عنده مكانة، لأن الإنسان يبكي على عزيزه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) فالله سبحانه وتعالى خفف عن عباده أن يكون منهم هذا البكاء حتى يخرج ما في القلوب من أثر الحزن؛ وهذا مما يعتبر من إعجاز الشريعة: أنها جمعت بين طب الأرواح وطب الأجساد؛ فإن الإنسان إذا كُظم حزنه وتوالت عليه الأحزان، ومنع من إبداء أثر الحزن، فإن ذلك يؤثر عليه كثيراً، وربما يأتي على نفسه، ولذلك قال تعالى: { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف:84] وهو نبي من أولي العزم، فالإنسان قد يستطيع الكظم، وقد لا يستطيع أن يكظم، ولما عاتبوه { قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [يوسف:85-86] فالإنسان في حال المصيبة يحتاج إلى من يترفق به ويحسن إليه، وتكون يده رفيقة وكلماته رقيقة، تخالج قلبه فتقوي يقينه، وتبعثه على الصبر والسلوان.
وأما الجفاء والغلظة فلا يأتيان بخير، حتى أن بعض الناس يعتقد أن من بكى على ميته كأنه يعتبر ساقط الرجولة، وأنه ليس برجل، وأن من الرجولة أن تكون عصيّ الدمع، وألا تبكي على القريب، وبعضهم يعتقد أن البكاء على النساء كالأم والأخت والبنت أنه من العيب ومن الحرج، ولربما تجد أبناء العم يعتبون على ابن عمهم أنه بكى على بنته أو بكى على أخته! هذه من أفعال الجاهلية: أنهم ينتقصون النساء، ولا يقيمون للمرأة وزناً! وهذا لا يجوز، وينبغي نصح الناس وتذكيرهم في ذلك، كالخطيب يخطب خطبة يبين فيها أمور الحزن المشروعة على الأموات وأن التفريق بين الذكور والإناث من أدران الجاهلية الباقية، فإن العرب في جاهليتهم الجهلاء ما كانوا يقيمون للمرأة وزناً؛ ولذلك كانوا يدفنونها وهي حية، نسأل الله السلامة والعافية.
فمن أدران الجاهلية: أنها لو ماتت وبكى عليها؛ فإن هذا نوع من الحط من مكانة الرجل! ولذلك لا يجوز مثل هذا الاعتقاد، وهو من اعتقاد الجاهلية؛ فإن الأخت ربما تكون عزيزة على الإنسان وقريبة إلى قلبه، وقد تكون صالحة، وقد يكون فيها من الخير ما لا يكون في رجال كثير، وقد تكون بنتك بنتاً صالحة، وقد تكون أمك، والأم لا يجحد فضلها ولا ينسى معروفها؛ فلذلك لا يجوز مثل هذه العقائد والأدران الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وينبغي على طلاب العلم أن ينتبهوا لمثل هذه الآفات في المجتمعات التي لا زالت فيها مثل هذه العقائد أو هذه الأفعال التي تخالف شرع الله عز وجل.
فكون الإنسان يبكي ويحتاج إلى من يعزيه في امرأة أو في رجلٍ فإنه يشرع له ذلك، ولكن إذا وصل إلى حد الجزع والتسخط فحينئذٍ ينهى ويغلظ عليه؛ حتى يتقي الله عز وجل في نفسه ولا يذهب عليه أجره.
وأعظم ما يكون الصبر عند الصدمة الأولى، وهو أحبه وأكمله، وأعظمه ثواباً عند الله سبحانه وتعالى، وكلما صُدِمَ الإنسان بالمصيبة فتلقاها بالصدر الرحب واللسان الصادق فقال خيراً؛ فإن الله يحمد منه ذلك الأمر، ولربما أن الله عز وجل يجمع له بين عوض الدنيا والآخرة، في الدنيا من عاجل ما كان له من ثواب العمل الصالح، ولما ينتظر عند الله أعظم.
فإن الإنسان يفجع بابنه، أو الأم تفجع ببنتها، والأخ يفجع بأخيه، فإذا رضي بقضاء الله وقدره، وتلقاها بالصدر الرحب، وقال: الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، إنا لله وإنا إليه راجعون.
فإن هذا من خير المنازل عند الله في المصاب، وإن الله تعالى يقول: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ } [ص:44] فمن أراد أن ينعم الله عليه فليصبر عند المصيبة، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، وكلما كان المصاب أشد والصبر أعظم كلما كان الثواب أكثر، كما قال سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10].

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 05:17 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجنائز)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (175)

صـــــ(1) إلى صــ(18)



حكم تعزية المصاب
يقول المصنف رحمه الله: (وتسن تعزية المصاب): أي: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعزي المسلم أخاه المسلم إذا أصيب بميته، بأن يذكر له ما عند الله عز وجل من الثواب إن صبر واحتسب الأجر، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صبّر ابنته فقال: ( مرها فلتصبر ولتحتسب ) وهذا يدل على أن من السنة أن يكون في تعزية الإنسان ما يقوي نفس المصاب؛ فإن الإنسان عند المصيبة يعزب عنه رشده وتضعف نفسه، ولربما يتسلط عليه الشيطان بالخواطر الرديئة، فإذا وجد من أخيه المسلم كلمةً تثبته أو كلمةً تقوي إيمانه، فإن ذلك يعود عليه بالخير؛ لأن الصبر عند الصدمة الأولى، فيقول له: أعظم الله أجرك، وغفر لميتك، وأحسن عزاءك .
ونحو ذلك.
قال العلماء: ألفاظ التعزية موسعٌ فيها؛ لأن الشرع لم يأمرنا بلفظ خاص، والقاعدة في الشريعة: (أن ما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه)، فكل لفظٍ يقوي نفس المصاب، ويجعله على حسن ظنٍ بالله عز وجل فإنه يعتبر من التعزية، ما لم يشتمل على محظور شرعي، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه عزى امرأة فقال: يا أمة الله! اصبري ) فقوله: (يا أمة الله! اصبري) يعتبر تعزية، ونحو ذلك من الكلمات والجمل، وقد حُفظ عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ( إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، مرها فلتصبر ولتحتسب ) فهذه أيضاً يعتبرها بعض العلماء من الألفاظ الواردة في التعزية، والأمر في ذلك -كما قال أهل العلم- واسع، فليس هناك لفظٌ مخصوص يلزم الإنسان به.
حكم البكاء على الميت
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز البكاء على الميت].
لأن الله لا يعذب بدمع العين، فإذا كان الإنسان قد أصيب بعزيز من والد أو ولد أو أخ أو صديق حميم، فلا حرج أن يبكي وأن تدمع عينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) فأثبت صلوات الله وسلامه عليه أن العين تدمع.
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه لما وضع إبراهيم دمعت عيناه، فقيل: ما هذا يا رسول الله؟! قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده ).
فالإنسان إذا تأثر بفراق العزيز ودمعت عينه، فإنه لا يلام على هذا الدمع، بل إنه يكون من دلائل المحبة والرحمة التي أسكنها الله في قلبه، ولا شك أن الإسلام وسط بين الغلو والتقصير والإجحاف، فالإنسان الذي يموت له والد أو تموت له والدة ولا تدمع له عينه، فإنه قاسي القلب، جبار لا رحمة في قلبه.
وكذلك أيضاً إذا بالغ وصاح وناحَ فإنه قد أسرف في هذا الأمر، وتجاوز الحدود في الحزن.
فالشرع جاء وسطاً، فيخرج المصاب ما في قلبه من الألم بدمع العين؛ لأن هذا البكاء يخفف الألم الموجود في القلب، وهذا من رحمة الله بالعباد؛ فإن الإنسان إذا بكى خف وطء المصيبة على قلبه؛ وأصبح أثرها خفيفاً على نفسه؛ ولذلك لم يعاتب المسلم ولم تكن عليه الملامة إذا دمعت عيناه؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إن العين لتدمع ) وثبت عنه: ( إن الله لا يعذب بدمع العين )، فدمع العين ليس به عذاب، ولا يعتبر الإنسان مقصراً إذا دمعت عيناه لفراق عزيزٍ عليه.
(وإن القلب ليخشع)، أي: من أثر هذه المصيبة ووقعها فيه، وقد قال الله تعالى: { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف:84].
فالإنسان إذا بكى لا حرج عليه؛ لأن الله يخفف عنه بالبكاء بعض الحزن الذي يجده في قلبه، ولو أن إنساناً أصابته المصيبة ومنعته من البكاء؛ فإنه يتضرر، ولربما يصل إلى درجة لا يتمالك فيها نفسه، وقد يفقد عقله والعياذ بالله، فإنه إذا منع من البكاء كتم الحزن وكظمه، حتى تأتي ساعة لا يستطيع أن يسيطر فيها على نفسه، فيفقد عقله أو يتأثر أثراً بليغاً في نفسه، ولذلك: لا عتب على من يبكي، بشرط أن لا يكون بكاؤه على وجهٍ محظورٍ مشتمل على نياحة ونحو ذلك من المحرمات.
ما يحرم عند نزول المصيبة
قال المصنف رحمه الله: [ويحرم الندب والنياحة].
ومن الندب: واسنداه! واعضداه! ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها ندبٌ للميت.
وكذلك النياحة: وهي ذكر محاسن الميت.
فكل ذلك مما حرم الله عز وجل، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم النياحة وقال: ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ).
وقد كانت المرأة في الجاهلية تنوح على زوجها، وتنوح على قريبها كأخيها ونحو ذلك؛ فحرم الله عز وجل النياحة، وهو أن المرأة إذا فُجِعت بزوجها أو ابنها صاحت بحزن، فهذا الصوت حرمه الله عز وجل، وهو الذي يعذب الله به من لفظ اللسان.
قال المصنف رحمه الله: [وشق الثوب].
فقد كانوا إذا أصابتهم مصيبة لطموا الخدود وشقوا الجيوب، وذكروا المحاسن، وأثنوا على الميت وبالغوا فيه، وكل ذلك مما حرمه الله عز وجل، وجعل قلب المؤمن قوياً أمام المصيبة، فأوصاه بتحملها والصبر عليها، وعدم إظهار هذه الأمور؛ فإن النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود يزيد من أثر المصيبة، ويحرك الغير للبكاء وللتأثر، ويكون من باب التحريض على التفجع.
ومقصود الشرع: الصبر على المصائب؛ لأن المصيبة قضاء وقدر من الله عز وجل، فإذا تفكر المؤمن وتدبر ونظر أن الله هو الذي ابتلاه؛ رجع إلى عقيدته من حسن ظنه بالله عز وجل، وأن الله سيخلف عليه خيراً مما فقد، وأن الله سيكتب له الأجر في الآخرة؛ فاطمأنت نفسه واطمأن قلبه، وارتاح إلى ما عند الله عز وجل من حسن الثواب، فأصبح أثر المصيبة خفيفاً على نفسه.
لكن لو سمح للناس بالنياحة والندب، وشق الجيوب ولطم الخدود؛ لتفجع الناس، وإذا رأى الإنسان إلى أمه وأخته وابنته وهي تلطم وجهها وتشق جيبها وتنوح، ربما لم يستطع أن يصبر بسبب ما يرى من أثر الحزن على أهله، خاصةً من النساء، فإن هذا فيهن أكثر؛ ولذلك حرم الله عز وجل هذه الأمور لكي يستقيم للعباد حسن ظنهم بالله عز وجل، ويقوى يقينهم في حسن الخلف من الله عز وجل وحسن الثواب في الآخرة.
قال المصنف رحمه الله: [ولطم الخد ونحوه].
وهذه لا تختص بالموت، فبعض النساء إذا أصابتهن المصيبة لطمت خديها بكلتا يديها أو لطمت أحد الخدين، وهذه من صنيع أهل الجاهلية التي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها؛ لأنها لا تليق بالمؤمن الذي قوي يقينه بالله عز وجل وخلص توحيده لله سبحانه وتعالى، فإذا رأى مثل هذه المصائب فإنه يتحملها؛ لكن لطم الخدود لا شك أنه يدل على عدم الرضا بقضاء الله وقدره وهو من صنيع أهل الجاهلية.
والله تعالى أعلم.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا من اليقين أضعاف ما ينزل علينا من البلاء، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

الأسئلة
حكم الوصية فيما لا يملك

السؤال

لقد توفي في بلدنا رجل وأوصى قبل موته بأن يدفن في الأرض التي ورثها هو وإخوانه من أبيه، وتصبح تلك الأرض مقبرة للمسلمين دون موافقة إخوانه؛ لأنهم لم يكونوا معه، فما حكم تلك الوصية أثابكم الله؟


الجواب
إن كانت هذه الأرض ملكاً له فإنه يجوز أن يُدفن فيها، وإذا امتنع الورثة نظر إلى قدر ما يدفن فيه من الثلث، فإن كان قد أوصى بثلثه فإنه تكون وصيته بعد الموت قد خرجت عن حد الثلث راجعةً إلى رضا الورثة، فمن برهم له أن يرضوا، وإن شاءوا صرفوه إلى المقابر العامة، فهذا من حقهم؛ لكنه يفوتهم البر.
وأما إذا أوصى بأرضٍ هي ملكٌ لغيره فإن وصيته موقوفةٌ على حكم الغير؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستبح مكانه من حجرة أم المؤمنين رضي الله عنها إلا بعد أن استأذنها، وخشي أن تكون أذنت له في حياته حياءً وخجلاً منه رضي الله عنه وأرضاه، فأمر ابنه عبد الله أن يستأذن بعد موته، وبعد أن يصلى عليه يقف على الباب ويستأذنها حتى يزول ما يكون في حال حياته من هيبته وخشيته، فقال: إن أذنت لك فادفني مع صاحبي، وإن لم تأذن فاصرفني إلى البقيع.
فدّل هذا على أن من أوصى أن يُدفن في أرضٍ هي ملكٌ للغير استأذن الغير؛ فإن أذن له فبها ونعمت، وإن لم يأذن له فإنه يصرف إلى مقابر المسلمين والله تعالى أعلم.
حكم تكرار دعاء زيارة القبور لكل قبر في المقبرة

السؤال
إذا دخل الزائر إلى المقابر فإن القبور تأتيه تلو القبور، فهل له أن يكرر الدعاء المأثور كلما مر على مجامع القبور؟

الجواب
السلام على القبر يكون عند دخول المقابر، ويشمل ذلك جميع من قبر في المقبرة، فلو أنه دخل على بقيع الغرقد -مثلاً- فإنه يشرع أن يكون دعاؤه عند دخول الباب، فيسلم على جميع من في المقبرة، ولا حاجة أن يكرر ذلك لكل فرد بعينه.
فإذا زار قبر إنسان معينٍ من بين هذه القبور وكان قد سلم عليهم جميعاً، وخص قبراً بدعاء فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص قبر المرأة السوداء بالدعاء وبالصلاة عليها، وفرقٌ بين الصلاة وبين مطلق الدعاء، فالصلاة فيها وجهٌ بالتخصيص، وأما بالنسبة لكونه يقوم على القبر فلا حرج في القيام على قبور المسلمين، إنما يحظر أن يقام على قبور الكفار والمنافقين، لقوله تعالى: { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [التوبة:84] وأما إذا كان مسلماً فإنه يقام على قبره ويدعى له، كالوالد والوالدة والقريب والابن والبنت .
ونحو ذلك من القرابات، لا حرج أن يخصه ويأتي إليه ويسلم عليه ويدعو له.
وإن شاء جمع الجميع بسلامٍ واحدٍ.
ولو مر على قبرين أو على ثلاثة قبور يعرف أصحابها فهو بالخيار: إن شاء سلم سلاماً عاماً على الثلاثة القبور، وإن شاء سلم سلاماً خاصاً لكل مقبور بعينه؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا مر بالقبر سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته، ثم قال: السلام عليك يا أبتاه ورحمة الله وبركاته.
ثم انصرف، فخص كل واحدٍ منهم بسلام.
فلا حرج إن كانت القبور معددة أن يخص كل قبرٍ بسلام، وأما إذا كانت قبوراً كثيرة فإن سلامه الأول يغني عن تكراره للجميع والله تعالى أعلم.
أهل الميت يعرف زائره يوم الجمعة

السؤال
قال صاحب الروض رحمه الله: ويعرف الميت زائره يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، فما صحة هذا التحديد؟

الجواب
ليس في هذا حديثٌ صحيح، وإنما فيه ما تُكلّم في سنده، وكذلك أيضاً منامات وقصص لا تقوى على هذا الحكم، فالأحكام التوقيفية لا بد فيها من نصوص إما في كتاب الله وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان إذا أفتى بذلك حاسبه الله عز وجل بين يديه، فلا يجوز للإنسان أن يأتي في مثل هذه الأمور الغيبية ويفتي بمشروعية شيءٍ إلا وعنده حجة؛ لأن الناس تأتمنه على دينِ الله عز وجل؛ فلا يجوز أن يخصص زماناً ولا وقتاً ولا ساعة إلا بحجة، وإذا وقف بين يدي الله حافياً عارياً يسأله: كيف أفتيت الناس وأمرتهم بذلك؟ يقول: قلت في كتابك أو قال نبيك صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي البينة والأثارة { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } [الأنعام:57] فليست من منام الإنسان ولا من رؤياه ولا من أحلامه ولا من كلام زيدٍ أو عمرو.
فمن أراد أن يقف بين يدي الله عز وجل ببينة فليجعل أمامه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس فيما ذكر شيء صحيح، ولو صح لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأموات مشغولون بما هم فيه؛ ولذلك لا فائدة في كونه يعرف من زاره أو لا يعرفه؛ إنما المقصود والأهم، والذي ينبغي أن تشتغل به النفوس وأن تصرف إليه الناس: أن يدعوا للأموات بقلوب خالصة، وأن يترحموا عليهم، وأن يعتبروا بحالهم.
ليست زيارة القبور أن يعرفك أو لا يعرفك، حتى لو عرفك ما الذي يستفيده وما الذي تستفيده؟! المقبور أحد رجلين: إما منعم، فما فيه من النعيم والرضا المقيم فهو أعظم من أن ينظر إليك أو يلتفت إليك.
وإن كان معذباً فما فيه من الجحيم والعذاب أحرى ألا يصرف معه إلى زيدٍ أو عمرو.
ولذلك ينظر الإنسان إلى الأصل، وهو أنك تزور القبر لأمرين: مصلحتك في الدعاء وحصول الأجر والثواب والاتعاظ، وكذلك مصلحة الميت والترحم عليه والدعاء له والاستغفار له.
وقد ورد حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الإنسان إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه، وحسن بعض العلماء إسناده، ويفتي بعض العلماء رحمة الله عليهم بذلك، حتى من مشايخنا من يفتي أنه من جاء يسلم على والده أو على قريبه فليأته من قبل وجهه، ولا يأتيه من وراء ظهره أو يأتيه من رجل القبر أو يأتيه من رأس القبر، وإنما يأتيه من جهة القبلة، يسلم عليه ويترحم عليه، وهذا لا حرج فيه.
أما أن يخص زماناً معيناً من بعد صلاة الفجر في يوم جمعة، أو من بعد صلاة العصر أو بعد صلاة العيد أو نحو ذلك، فكل ذلك لا نحفظ فيه دليلاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشرع اتباع لا إحداث بالآراء واستحسان للأهواء والله تعالى أعلم.
اعتبار زيارة قبر الوالدين من البر بهما

السؤال
هل زيارة قبر الوالدين من البر؟ وهل لها مدةٌ محدودة؟ ومن كان يكثر من الدعاء لوالديه ولكن لا يزور قبريهما، فهل هذا من العقوق؟


الجواب
زيارة القبور كقبور الوالدين والدعاء والاستغفار لهما، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأذن ربه في زيارة قبر والدته فأذن له، فلا حرج أن يزور الإنسان قبر والده ويسلم عليه؛ لأنه إذا زار قبر والده كان أدعى أن يترحم عليه وأن يحسن إليه بالدعاء الصالح، ولا شك أن الدعاء له وهو غائب ليس كدعائه وهو واقفٌ على قبره يتذكر إحسانه وفضائله.
وهكذا إذا زار قبر الوالدة ووقف عليها، وتذكر ما لها من الحسنات والفضائل، وما كان لها عليه من الفضل، وترحم عليها واستغفر لها؛ فإن هذا له أثر كبير في النفس، ويكون الدعاء فيه بقلب أكثر خشوعاً وأكثر تأثراً.
فلا حرج أن يزور الإنسان قبر والده ووالدته ويسلم عليهما ويدعو ويستغفر لهما ويترحم عليهما وهو من البر؛ لما فيه من الاشتمال على الدعاء والاستغفار والترحم، وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء للوالدين والاستغفار لهما من البر، وفي الحديث: ( يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ).
وقوله: (الصلاة عليهما) لا شك أن الدعاء عند وقوفه على القبر أبلغ تأثراً، وأبلغ حضوراً للقلب واستشعاراً لحاجة الميت للدعاء، بخلاف ما إذا ذكره وهو بعيدٌ عن قبره، فلا حرج إذا زار أو خص قبر الوالد والوالدة بالزيارة والسلام عليه والدعاء له، وهو إن شاء الله مأجورٌ على ذلك والله تعالى أعلم.

نصيحة لطالب علم


السؤال
إن طلب العلم طريق طويلٌ شائك، قد تنتاب الطالب وهو في طريقه وسيره الآفات من الغرور والفتور وغيرها، فهلا تفضلتم بكلماتٍ علاجية؟


الجواب

إذا وفق الله الإنسان لطلب العلم فإن الله سبحانه وتعالى يرزقه الشكر إذا أراد الله أن يزيده من فضله، فمن أهم الأمور التي يوصى بها طلاب العلم: كثرة شكر الله عز وجل، ولا تقوم من مجلس إلا وأنت تحمد الله عز وجل على ما سمعت فيه من الخير من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله قرن المزيد بالشكر.
فمن أراد أن يزيده الله من العلم، فعليه أن يكثر من شكر الله عز وجل وحمده، والثناء عليه سبحانه بما هو أهل، ولو كان مجلساً واحداً من الذكر، بل لو مررت على حلقة علمٍ فسمعت فيها آية أو حديثاً وفهمته، فإنه خيرٌ ترفع به درجتك؛ لأن الله يرفع أهل العلم درجات على قدر ما نالوا من العلم.
فهذا المجلس الذي تجلسه وتسمع فيه الآيات والأحاديث، ويوفقك الله لمعرفة السنن والآثار؛ تحمد الله عليه وتشكره؛ فيتأذن الله لك بالمزيد.
ومن آثار المزيد الذي يتأذن الله به لطالب العلم في بداية طلبه للعلم: أن يوفقه للعمل، فقل أن تجد طالب علم كلما قام من مجلسه حمد الله على ما سمع من الذكر والعلم النافع، وأثنى على الله بما هو أهل، إلا وجدته يوفق للعمل، ويعان على القيام بحق هذا العلم، ويوفق للدعوة إليه؛ لأنه يشكر نعمة الله عز وجل، فمن شكر تأذن الله له بالمزيد.
ومن الأمور التي يجب أن يتنبه لها طالب العلم: غفلته عن الشكر، وغفلته عن ذكر نعمة الله عز وجل عليه، فلا يزال يغفل عن نعمة الله حتى ينسى فضل الله وفضل عباد الله، حتى إنه يجلس المجلس ويقوم منه لا يذكر لله فضلاً ولا لعباده خيراً، ولربما لا يبالي بمن أسدي إليه من الخير والمعروف، ولربما يقوم من المجلس لكي يغتاب من استفاد من علمه، نسأل الله السلامة والعافية! فهذه من الآفات التي تكون بسبب الغفلة عن ذكر الله، ولذلك جعل الله ذكرهُ مقروناً بذكره سبحانه، فقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] فمن شكر الله وذكره بعد الاستفادة من العلم والعلماء، وأخذ الحكم وفهمها وفقهها، وقال: الحمد لله الذي علمني ما لم أكن أعلم وأسدى إلي الفضل العظيم، الحمد لله على هذا الخير، الحمد لله الذي جعل هذه الساعة في ذكره وشكره، حفتنا الملائكة، ونزلت علينا الرحمة، وذكرنا الله فيمن عنده، ما كنا على حرام ولا على فجورٍ ولا على آثام، ويحمد الله على هذا الفضل؛ يوفقه الله للخير الكثير.
فمن أعظم الأسباب التي ينبغي لطالب العلم أني يستشعرها دائماً، وأن يستحضرها بعد جلوسه في مجالس الذكر والعلم: أن يحمد الله على فضله، وإذا كان عندك الشعور بفضل الله عليك بهذا العلم أحسست بقيمته وأحسست بفضله فحفظته؛ فدعاك ذلك إلى أن تصونه وأن تراجعه وأن تضبطه، وأن تعطيه حقه من العناية والرعاية والتفقد؛ لأنك عرفت قدره بالشكر.
ثم بعد ذلك تعرف قدره بالعمل، وتعلم أنه لا مكانة لك عند الله في علمك إلا إذا عملت به، فتكون عالماً عاملاً.
فإذا علمت وعملت رضي الله عنك فوفقك للدعوة إليه، ووضع لك القبول بين العباد والحب بين الناس، وجعل لفتاويك وعلمك وأثرك وسمتك ودلك أثراً في قلوب الناس، وانتشر ذكرك بين الناس بما يعين على قبول علمك والعمل به وحبه والدعوة إليه بما تنال به من الأجور والحسنات.
ولذلك: لا خير للإنسان في علمه إلا بقدر ما يضع الله له من القبول في الخلق، فإنه إذا وضع القبول للإنسان انتشر علمه، وكثر خيره وبره، وصارت له حسنات بين الخلائق والدعاء الصالح بين الناس، ولا شك أن في هذا من الخير الكثير.
أما ما ذُكِر من خوف الآفات التي من أعظمها الغرور، فإن الغرور في طلب العلم لا يأتي إلا بسبب الجهل بالله سبحانه وتعالى، فإن المغرور جاهلٌ بنفسه جاهلٌ بربه، ومن أعظم الأمور التي تكسر الغرور من قلب الإنسان: كثرة ذكره للآخرة، وسؤال الله وحسابه له عن العلم؛ فإنك إذا علمت أن العلم مسئولية، وأنه أمانة، وأنه حقٌ لله عندك ينبغي أن تعلمه وتعمل به وتدعو إليه؛ خفت منه وهبته؛ فانكسر قلبك بدل أن تغتر به، وبدل أن تتباهى به، تصبح مشفقاً على نفسك، تعمل به وتعلمه وتنفع به الناس حتى تصيب الخيرية، قال عليه الصلاة والسلام: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
ولا يأتي الغرور إلا بسبب الحرمان، فإذا أراد الله أن ينزع البركة من علم الإنسان ابتلاه بالغرور.
فإذا كان الإنسان كلما جلس في مجلس اغتر بعلمه واغتر بفهمه، محق الله بركة علمه؛ ولذلك قل أن تجد إنساناً مغروراً مباركاً له في علمه، بل تجد القلوب منصرفةً عنه، كلما تذكرت عجبه واختياله بنفسه كرهت العلم الذي يكون منه، وهذا من عاجل نقمة الله للعبد في الدنيا.
فمن الآفات التي يبتلي الله بها المغرور أن الله لا يزال يسلط عليه الشيطان فيغتر بنفسه؛ حتى لا يجني الخير من علمه، فقل أن تجده يبارك له في العلم فينال منه حسنةً واحدة، بل إنه ربما اغتر حتى تجده يوماً من الأيام يتطاول على من علمه وفهمه؛ لكي يستدرك ويبدي الملاحظات ويأتي بالمناقشات، ويسيء الأدب، حتى يمحق الله البركة من علمه.
لكن إذا أراد الله الرحمة بطالب العلم رأيته موطأ الكنف، وجدته أليفاً رحيماً رقيقاً رفيقاً قريباً من العلماء، ومن أسدى إليه الخير كان قريباً منه، يتأدب معه ويستفيد منه ويتلطف، وتجده يتحمل كثيراً من المشاق والمتاعب من أجل هذه الرحمة التي أسكنها الله في قلبه.
لكن إذا أراد الله أن ينزع منه الرحمة جعله قاسي القلب، فتجده يغتر بنفسه، حتى إنه يجلس في المجلس لكي يتتبع العثرات والأخطاء، ولكي يحفظ أن فلاناً حدث بهذا الحديث الضعيف، أو أن الشيخ قال كذا أو فعل كذا، وقد لا يلتفت إلى عذر من حدثه بكونه يرى صحة ما يرى ضعفه، أو يرى حسن ما يرى عدم ثوبته.
فلذلك: ينبغي للإنسان أن ينتبه، وأن يتقي الله في نفسه، وأن يحفظ حرمة هذا العلم، وأن يعلم أن هذا العلم قد يكون وبالاً على صاحبه؛ فإن إبليس عليه لعنة الله لما اغتر بعلمه أهلكه الله ومقته، وجعله نسأل الله العافية في سفال، وأحل عليه اللعنة إلى يوم الدين، فأشقاه وأشقى من تبعه ومن سلك سبيله ونهجه.
فمن اغتر بعلمه حاق به ما كان به يستهزئ، والذي يتطاول على العلماء وعلى السلف الصالح من الأئمة الماضين، وتجده إذا جلس في مجلس العلم يجلس لكي يتتبع أخطاء الكتاب أو أخطاء المتن، ويتتبع عثرات العلماء الذين يستمع منهم، فإنه ممحوق البركة ونسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من هذه الشرور والآثام.
والوصية بتقوى الله؛ فإن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، والله ثم والله ما احتقرت نفسك إلا رفع الله شأنك، وإذا وكلت أمرك إلى الله فلم تتكل على حفظك ولا على فهمك ولا على ذكائك، وقلت: أنا مقصر، ومن أنا؟ وما الذي عندي؟ فأصبحت تنظر إلى نفسك بالنقص؛ فإذا بالله يكمل نقصك، ويجبر كسرك ويستر عيبك؛ فإن الله إذا نظر إلى العبد نظر إلى قلبه، فإذا وجد في القلب اللين والرحمة والإشفاق على النفس؛ بلغه من الخير ما يأمله، وزاده من فضله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.

هل الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟


السؤال
كيف نجمع بين الحديث الذي في صحيح مسلم: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) وبين قول الله تعالى: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام:164]؟


الجواب
حديث الصحيح ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) للعلماء فيه أوجه: الوجه الأول: أن المراد بقوله: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) إذا وصى بذلك، فإذا وصى بذلك فإنه يعتبر من كسبه وسعيه، فتكون الآية مستقيمة على هذا المعنى؛ لأنه تسبب في البكاء عليه بالوصية، وكان هذا البكاء من وزره وسعيه، ولا تعارض بين الآية والحديث من هذا الوجه.
الوجه الثاني: أن يكون الشخص عالماً أن أهله سيبكون عليه ويبالغون في هذا البكاء، فيقرهم على ذلك ويحفزهم عليه، ولا يوصي بامتناعهم عن ذلك، قالوا: فحينئذٍ يكون قصر وألزم بعاقبة تقصيره.
الوجه الثالث: ليس المراد عذاب العقوبة، وإنما المراد به عذاب الحزن والوجد، بمعنى: أن الله يسمعه بكاء أهله عليه فيتألم لذلك ويكون له نوعٌ من العذاب، وليس العذاب الحقيقي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمى العذاب الذي ليس مشتملاً على العقوبة بعذاب، وهو الألم النفسي كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( السفر قطعةٌ من العذاب ) مع أنه ليس بعذاب عقوبة، وإنما هو عذابٌ في النفس كما فسره بقوله: ( يمنع أحدكم طعامه وشرابه وراحته، فإذا قضى نهمته فليرجع ) فدل على أن قوله: ( السفر قطعة من العذاب ) أي: عذاب النفس وعنائها، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) أي: أنه يجد الحزن والألم حينما يسمعه الله بكاء أهله عليه، وقد جاء في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لذلك: ( أنه لما احتضر جعلت امرأته تثني عليه وتزكيه، فلما أفاق قال: إنه لكزني -أي: الملك- وقال: أأنت كذلك؟ أأنت كذلك؟ ما قلت شيئاً إلا لكزت عليه )، وقالوا: إن هذا إنما هو الألم النفسي.
وهذا الجواب الأخير هو أقوى الأجوبة؛ أن المراد به أنه يسمعه الله بكاء أهله عليه فيتألم ويحصل له من الحزن والوجد ما يكون نوع عذاب نفسي، لا أنه عذاب عقوبة وألم جسد.
ثم يليه في القوة: إذا وصى بذلك وأقر عليه؛ فإنه يقوى حينئذٍ أن يكون متحملاً لوزره، ولا تعارض بين الآية والحديث والله تعالى أعلم.
حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد بعد موت الميت

السؤال

ما حكم إقامة العزاء في أكثر من بلد، خاصةً إذا مضى زمن على موت الميت؟


الجواب
هذا من البدع، العزاء لا يكون إلا لأهل الميت، والزائد على ذلك لا أصل له، ويكون العزاء بتحري السنة والبعد عن البدع والمبالغة في العزاء، من إحضار الأشياء التي تكون أشبه بالعرس منه بالعزاء والحزن، كل ذلك من البدع التي أحدثها الناس، وإقامة العزاء على صور وأشكال معينة ما أنزل الله بها من سلطان، كل ذلك من المبالغات، إنما يكون العزاء لآل الميت، والزائد على ذلك كله لا أصل له، ولا يشرع فعله وإقامته والله تعالى أعلم.

الجمع بين تحريم ذكر مساوئ الميت وحديث الثناء على الجنازة بالشر


السؤال
كيف نوفق بين تحريم ذكر مساوئ الميت، وبين الحديث الذي ذكر سيئات جنازة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( وجبت )؟


الجواب
الناس يثنون بالخير والشر، بمعنى: أنهم يذكرون المحاسن والمساوئ، وهذا لا يستطيع أحد أن يحكم الناس فيه، فإن الناس بالجبلة والفطرة، إذا مات الميت سيذكرون محاسنه ومساوئه، فيكون كلام الصحابة بذكرهم لمحاسن المحسن ومساوئ المسيء خرج على أصل الفطرة؛ ثم جاء تعليق الشرع: بأن من أثني عليه خير فهو إلى خير، ومن أثني عليه شر فهو إلى شر.
الوجه الثاني: أن المسيء يكون ظالماً لغيره، فيجوز للغير أن يتحدث بمظلمته لقوله تعالى: { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [النساء:148] فلو أن ميتاً أكل مالك أو أخذ حقك أو ظلمك في أمر، فلما توفي قلت: فلانٌ ظالم، فإنه من حقك أن تقول هذا؛ لأنك مظلوم.
فإذا تحدث الإنسان بمظلمته فإنه مستثنىً من هذا، وأما المراد بقوله: (أن يكف عن مساوئ الميت)، فهو حديث الفضول الذي لا مصلحة فيه والله تعالى أعلم.

حكم إنزال الرجل للمرأة الأجنبية إلى القبر


السؤال
ما حكم إنزال المرأة الأجنبية إلى قبرها من قبل الرجل؟


الجواب
المرأة يشرع أن يليها أقاربها؛ لأنه أبعد عن الفتنة وأصون للمرأة، وأحفظ لها أن يليها أخوها وأبوها وزوجها وقرابتها كابنها ونحو ذلك من القرابات؛ لأنه أصون للمرأة وأحفظ وأبعد من فتنة الغير، فإن نزل الأجنبي في قبرها وأراد أن يتولى دفنها، وأمنت الفتنة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفنت بنته قال: ( أيكم لم يقارف أهله الليلة؟ فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله.
فأمره أن ينزل ) مع أنه أجنبي، وقد كان عثمان رضي الله عنه زوجاً لها ولم يأمره أن ينزل، فدل هذا -كما يقول العلماء- على أنه لا حرج أن يلي الأجنبي دفن المرأة، خاصةً في بعض الظروف التي لا يحسن أقرباء المرأة ما يُصنع بالميت في قبره.
فمثلاً: لو كان للمرأة ابن أو أب أو أخ من محارمها، ولكنه لا يحسن طريقة وضعها في القبر، ولا يحسن إعداد أو إصلاح حالها في القبر؛ فإنه حينئذٍ قد يكون الأجنبي الذي خُصص لهذا الأمر أقدر على هذا الشيء وأقوى عليه، فنقول حينئذٍ: لا حرج أن ينزل، ولا حرج أن يقوم بتهيئتها ووضعها في لحدها، وليس ثم محظور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ أبي طلحة أن يتولى بنته مع أنه أجنبي عنها والله تعالى أعلم.
حكم حلق شعر العانة والإبطين من الميت

السؤال
هل يجب عند تغسيل الميت حلق شعر العانة والإبطين؟


الجواب
هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: هل إذا مات الميت ولم يُنتف شعر إبطه، ولم تُقلم أظفاره، هل يجوز أن يقلم المغسل أظفاره وينتف شعر إبطه أو يحلقه؟ قال بعض العلماء: يشرع ذلك، وإن فعله وضعه في كفن الميت.
وقال جمعٌ من أهل العلم: إنه لا يشرع أن يتصرف بجسده، فلا يقلم أظفاره ولا يقص شعره، وإنما يغسله بهيئته التي هو عليها.
وهذا هو الصحيح: أنه يترك على حالته، ولا يتعرض لهذه الأشياء؛ لأن التكليف قد زال عنه، وأنت لست بمكلفٍ به، وإنما هو مكلفٌ في نفسه، وبناءً على ذلك فإنه يشرع تركه، فلو قلمت أظفاره وحلقت شعر إبطه فلا حرج.
أما العانة فأمرها أشد؛ لأن موضعها ليس كموضع الإبطين؛ ولذلك قالوا: لو مات غير مختون، فلا يشرع أن يختنه؛ لأن التكليف قد زال.
والصحيح: أنه لا يتعرض له، وإنما يغسل ويكفن بحالته التي مات عليها والله تعالى أعلم.
حكم دفن ميت مكان آخر قد بليت عظامه

السؤال
من المعلوم أن عجب الذنب لا يبلى، فهل يدفن ثم يوضع ميت آخر في نفس القبر؟


الجواب
إذا ذهبت العظام وتلاشت ولم يبق إلا عجب الذنب؛ فإنه يشرع أن يوضع في القبر ميتٌ آخر، ولا يعتبر وجوده مانعاً من قبر الغير فيه، والذي نص عليه الأئمة رحمة الله عليهم: أن عظام الميت ما دامت موجودة في القبر فلا يزال مالكاً لقبره، لا يجوز أن يقبر عليه الغير، ولا يجوز أن يزرع أو يبنى عليه، ولا تملك أرضه للغير، فتعتبر لهذا الميت لحرمته، فلا يجوز البناء عليه، ولا يجوز أيضاً حفر القبر ولا نبشه؛ لأن وجود العظام كوجوده هو؛ فهذه من حرمة المقابر.
أما لو أنها فنيت وذهبت وبقي عجب الذنب، فلا حرج حينئذٍ أن يقبر الغير عليه والله تعالى أعلم.
حكم قراءة سورة أخرى بعد الفاتحة في صلاة الجنازة

السؤال
هل يشرع في الصلاة على الميت أن يقرأ المصلي بعد الفاتحة سورة أخرى، أم يقف عند قراءة الفاتحة فقط؟


الجواب
السنة كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة )، ولذلك لا يشرع أن يقرأ سورةً مع الفاتحة، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة.

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 05:22 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (176)

صـــــ(1) إلى صــ(5)



شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الزكاة
الزكاة فريضة من فرائض الله عز وجل، وهي الركن الثالث بعد الشهادتين والصلاة، وقد أوجب الله الزكاة وفرضها على عباده في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على فرضيتها، وما فرضها الله إلا طهرة للأنفس والأموال، وتفريجاً وإحساناً إلى الفقراء والمساكين ومن كان من أهل مصارفها.
تعريف الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة].
الزكاة: أصلها من زكا الزرع والمال إذا نما وكثر، يقال: زكا الشيء إذا نما وكثر خيره، وقالوا: سميت الزكاة بهذا؛ لأن الله ينمي المال بها ويضع فيه البركة، فما نقصت صدقةٌ من مال، بل تزيده، والله عز وجل يجعل هذه الصدقة سبباً في حصول الخير في مال العبد.
وقيل: إنها مأخوذةٌ من زكا الشيء إذا صلح، والعبد الزكي هو الصالح المستقيم على طاعة الله عز وجل البعيد عن الذنوب، ومنه قوله سبحانه وتعالى: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } [الكهف:74] أي: لا ذنب لها فهي صالحة؛ لأن الصغار الأصل فيهم أنهم لم يبدر منهم الشر.
وكذلك تطلق الزكاة بمعنى الطهارة والحرص على الخير، والبعد عن كل دنس وعن كل ما يشين الإنسان، ومنه قوله سبحانه وتعالى: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:7-10].
فقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } قالوا في تفسيره: طهرها بالخير والاستقامة على الطاعة والبر فهذه من معاني الزكاة.
وسميت هذه الفريضة بهذا الاسم -من ناحية هذا الاشتقاق اللغوي- لأن الله يطهر بها المال، ويطهر بها نفس المزكي من الشح والبخل، فيؤدي الزكاة طيبةً بها نفسه، ومستجيباً لأمر الله عز وجل، فيكون أرفع من أن يملكه المال؛ فيصبح بذلك قوي النفس على إنفاق المال في وجوه الخير والطاعة والبر.
والزكاة حقٌ واجبٌ في المال، ويعرفها بعض العلماء بقولهم: حقٌ مخصوص في شيءٍ مخصوص على صفةٍ مخصوصة في شخصٍ مخصوص.
فالحق المخصوص قدره الله عز وجل بالمقادير، فيكون عشر المال، ويكون ربع العشر كما سيأتي إن شاء الله في قدر الواجب من الزكاة.
وقولهم: في مالٍ مخصوص؛ وهي الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة؛ ومن ذلك السائمة من بهيمة الأنعام، والنقدان وعروض التجارة، ونحوها من الأموال التي خص الشرع الزكاة بها.
ولشخصٍ مخصوص: وهي الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل بحيث تدفع الزكاة إليهم لا إلى غيرهم.
في وقتٍ مخصوص: وهو الذي اعتبره الشرع من حولان الحول، أو إذا كان من الزروع ونحوها عند الحصاد.
مكانة الزكاة وحكمها
الزكاة فريضة من فرائض الله عز وجل، وهي ركنٌ من أركان الإسلام، وهي الركن الثالث بعد الشهادتين والصلاة، وقد أوجب الله عز وجل الزكاة وفرضها على عباده في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على فرضيتها، ففي الكتاب في أكثر من آية قال سبحانه: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [البقرة:43] ولذلك قرنها مع الصلاة التي هي عماد الدين؛ إشارةً إلى علو شأنها وعظم أمرها، وقد رتبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة مباشرة، كما في الصحيح من حديث معاذ رضي الله عنه: ( فإن هم أطاعوك لذلك -يعني: للصلوات الخمس- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) .
وكذلك أيضاً وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالزكاة وبين مجمل القرآن فيها، فذكر النصاب وقدره؛ وكذلك القدر الواجب في الأموال، وأرسل السعاة والمزكين إلى الناس فأخذوا الزكاة منهم، وكانت سنته صلوات الله وسلامه وهديه على ذلك، وفي الصحيح عنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ...) وحديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه لما بعثه إلى اليمن -وكان في آخر حياته- ( فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ).
وهي حقٌ لله عز وجل جعله في مال الأغنياء، وأجمع المسلمون على وجوبه ولزومه.
حكم من أنكر الزكاة
ومن أنكر وجوب الزكاة فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون عالماً بوجوبها وفرضيتها وينكر، فهذا كافر مرتد بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه أنكر المعلوم من دين بالله بالضرورة، فمثلاً: لو قيل لرجلٍ: زك، فقال: ليس هناك زكاة، أو أنكر أن في الإسلام زكاة، وقال: الزكاة ليست بواجبة، وليس في دين الله زكاة، فهذا كفرٌ وردة، نسال الله السلامة والعافية.
أما إذا كان جاهلاً، والجاهل له أمثلة: كرجلٍِ أسلم من الكفار، فلما أسلم أُمرَ بالصلاة فصلى، ثم قيل له: زك، قال: ما هناك زكاة، فأنكر الزكاة لجهله وعدم علمه؛ فهذا لا يكفر، وإنما يعلم وتقام عليه الحجة، ثم بعد ذلك إن جحد بعد تعليمه وإقامة الحجة عليه فهو كافر؛ فيعذر في هذه الحالة بجهله، وهي من مسائل العذر بالجهل.
وهكذا لو كان في بادية بعيداً عن العلم وبعيداً عن العمران، فليس ثم عنده علماء يسألهم، فيعلم منهم أن هذه الزكاة فريضة من فرائض الله، فَسُئِلَ عن الزكاة أو أُمِرَ بالزكاة فقال: ليس هناك زكاة؛ عن جهلٍ منه؛ فإنه لا يكفر، وإنما يعلم وتقام عليه الحجة، ثم يحكم عليه بعد ذلك.
واختلف العلماء -رحمة الله عليهم- في أهل الردة الذين منعوا الزكاة على عهد أبي بكر رضي الله عنه وقتال أبي بكر لهم، فأهل الردة فيهم ما يدل على جحدهم للزكاة، وهو يقتضي الحكم بكفرهم، ويظهر ذلك من قولهم: مات الذي أمرنا الله بأداء الزكاة إليه، وقال بعضهم: قد كانت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لنا سكناً، وصلاة أبي بكر ليست لنا بسكن، يعنون بذلك قوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة:103] فقالوا: إن نص الآية يدل على تخصيص دفع الزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، و أبو بكر ليس داخلاً في هذا الحكم، فكأنهم بهذه المثابة قد أنكروا الزكاة وأنكروا فرضيتها؛ فاستقام تكفير الصديق رضي الله عنه لهم وقتالهم على هذه الردة.
وقيل: إن الصحابة لم يحكموا بكفرهم بناءً على وجود التأويل.
وإن كان الظاهر أن فيهم من أنكر الزكاة، فيحكم بكفره على ما ذكرناه من إنكار وجوب دفع الزكاة إلى أبي بكر الصديق ، واعتقادهم أن الزكاة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم من منعها عناداً، وكلٌ منهما أخذ حكمه، وقد ذكر الأئمة رحمة الله عليهم أنه لما عضتهم الحرب ووجدوا حرها، قالوا: ندفع الزكاة، فامتنع أبو بكر أن يقبل منهم ذلك -كما ذكر الإمام ابن قدامة في "المغني"- حتى يشهدوا أن قتلاهم في النار وقتلى المسلمين في الجنة، فشهدوا بذلك، فقالوا: إن هذا يدل على أنهم كفار.
وأجاب بعض العلماء: بأن كونه يحكم بكونهم في النار لا يقتضي الحكم بكفرهم؛ لأنه قد يعذب تارك الزكاة ومانعها بالنار كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم لارتكابه للكبيرة.
فالحاصل: أن من أنكر الزكاة وقال: ليس في دين الله زكاة، أو ليست الزكاة بواجبة، فإنه حينئذٍ يحكم بكفره؛ لأنه أنكر المعلوم من الدين بالضرورة إذا كان عالماً، وأما إذا كان جاهلاً فلا.
مقاصد الشريعة من فرضية الزكاة
يقول رحمه الله: [كتاب الزكاة].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بفرضية الزكاة.
والله تعالى قد أمر بالزكاة في كتابه وأجمل، حيث لم يبين ولم يفصل أحكام الزكاة، وإنما فصلتها السنة، ولذلك يعتبر الأصوليون رحمة الله عليهم الأمر بالزكاة في القرآن من المجملات، ويعتبرون أدلة السنة مبينة، ويذكرون من أمثلة المجمل إجمال القرآن للزكاة وتفصيل النبي صلى الله عليه وسلم لأنصبتها وشرائطها وأركانها مما يلزم للحكم بها؛ فلذلك يقولون: إن القرآن أجملها والسنة بينتها.
لقد أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة وفرضها لحكمٍ عظيمة، ففيها الخير لمن يزكي ولمن تؤدى إليه، ولا يقتصر الخير عليهما، بل يشمل المجتمع كله، ففيها خير للإنسان الذي يزكي، إذ هي زيادة قربةٍ وامتثالٍ وطاعةٍ لله عز وجل، فإذا أداها زاد خيره وعظم أجره بالامتثال.
ثانياً: أنها تقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى من جهة كونه يُحسن الظن بأن الله سيخلف عليه، وأن الله سيعوضه خيراً.
ثالثاً: أنها تطهر نفسه من أدران الشح والبخل، ومالك المال إذا جاد به وأنفقه وأحسن به إلى الناس أخرجه الله من رقه، فأصبح مالكاً للمال، ولم يكن المال مالكاً له، وإذا تعوّد الإنسان الإنفاق من ماله قوي على هذا المال، وإذا تعود على كنزه وحفظه، فإن المال يأسره -نسأل الله السلامة والعافية- حتى يأتي عليه يوم لا يستطيع أن ينفق من هذا المال حتى لصحته وصحة أبنائه وأطفاله وزوجته، كل ذلك لأن المال أسره، وحب المال -والعياذ بالله- فتنه، فإذا أدى الزكاة تعود أن يخرج من رق المال ومن أسر المال له.
وكذلك أيضاً فيها خير له من جهة أن الله عز وجل يضاعف له المال وينميه، ولا تنقص هذه الزكاة من ماله، بل إن الله عز وجل يعوضه في هذا المال حساً ومعنى: يعوضه حساً، فتربح تجاراته وتعظم أمواله؛ ولذلك تجد المزكين بخير الأحوال ولربما يعوضه معنى، فيجعل البركة في ماله؛ فإذا كانت تجارته أقل من تجارة الغير عدداً فإنها أكثر بركةً، والعبرة بالبركة، فإن الله سبحانه وتعالى قد يغدق المال الكثير على العبد وينزع منه البركة؛ فيصبح كأفقر الناس -نسأل الله السلامة والعافية- ولربما تجد الإنسان قليل المال، ولكن وضع الله له فيه البركة، فيعود عليه بالخير كما لو كان عندهُ أضعاف هذا المال، ولذلك يقول العلماء: ليس المهم أن يجد الإنسان الخير في الدنيا، ولكن الأهم أن يضع الله له البركة فيما وهبه من خير الدنيا.
فمثال ذلك: قد تجد عند الرجل التسعة والعشرة من الأولاد، ولكن الله ينزع منهم البركة، فيجد فيهم العقوق والأذية والضرر حتى يتمنى أنه عقيم لا ولد له -نسأل الله السلامة والعافية- فنزع الله منهم البركة، وجعلهم شقاءً عليه.
ومن الناس من تجد عنده الولد الواحد ذكراً أو أنثى، قد وضع الله فيه سعادة الدنيا، فيكفي أباه همه، ويقوم على شأنه، ويجده في الشدائد عوناً بعد الله سبحانه وتعالى، فيجد فيه من الخير ما لا يجده صاحب العشرة والعشرين من الولد مما وضع الله من البركة في هذا النسل أو هذا العقب.
فالعبرة في خير الدنيا الذي يهبه الله من الأموال والأولاد والتجارات ونحوها: أن يضع الله البركة فيها، وقد تجد الإنسان يملك الملايين ولكنها تذهب سداً، وقد تجده يملك مئات الألوف ولكن الله ينزع منها البركة، فزوجته مسرفةٌ في إنفاقها وأولاده يسرفون، فلا يجد بركةً لماله، خاصةً إذا اكتسب المال من الحرام؛ فإن أول شؤم الحرام أن ينزع الله منه البركة، فالزكاة سبب للبركة في الأموال، ويصلح الله بها حال المال، ولذلك تجد المزكي على خير دائمٍ في ماله وطمأنينة وانشراح صدر مع ما في الزكاة من دفع البلاء عن المال؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا وفى العبد له بحقه حفظ له ماله وبارك فيه.
كذلك أيضاً فيها خير لمن تؤدى إليه الزكاة، فالفقراء والضعفاء ينجبر كسرهم وتفرج كرباتهم، والمديون يُقضى دينه، وغير ذلك مما يحصل من الخير للضعفاء والمساكين.
هذا الضعيف والمسكين يرتاح قلبه بأداء الزكاة إليه؛ فتندفع نفسه عن التفكير في الحرام، وكذلك الحقد على إخوانه الأغنياء من المسلمين، فإذا وجدهم يحسنون إليهم أحبهم، وبناءً على ذلك يبتعد عن كثير من المفاسد، مع ما يحصله من المصالح، فيها خيرٌ للمجتمع؛ لأنها تقوي أواصر المحبة، فطبقة الأغنياء والفقراء لا بد منها؛ لأن الله رفع بعضنا على بعض وفضل بعضنا على بعض، وجعل بعضنا فوق بعض درجات ليتخذ بعضنا بعضاً سخرياً، ابتلاءً للأغنياء وللفقراء، فالأغنياء يبتلون كيف يعاملون الفقراء والضعفاء، والضعفاء يبتلون كيف يصبرون على أذية الأغنياء وإذلالهم لهم.
فهذا الابتلاء من لازم وجود الأغنياء والفقراء أن يحصل التنافس بينهم، فلربما يحقد الفقراء على الأغنياء، حتى تأتي الساعة التي تسرق فيها الأموال وتغتصب، وذلك بسبب منع الأغنياء لأموالهم، فلو أن الله لم يفرض الزكاة وأصبح الفقير فقيراً فسيحقد الفقراء على الأغنياء؛ لأنهم يجدون أنهم في ضيق وشدةٍ؛ هذا الغني يتمتع بملاذ الحياة، والفقير لا يجد قوام عيشه فضلاً عن أن يتمتع في حياته، فيحقد الضعيف على القوي، ويحقد الفقير على الغني.
فإذا جاء الغني وأعطى الفقير زكاة ماله، وأشعره كأنه شريكٌ له في هذا المال؛ اطمأنت نفسه، ودعا له بالخير والبركة، ولذلك تجد الفقراء يحبون الأغنياء بحسناتهم وصدقاتهم ويدعون لهم بالخير، حتى إنهم إذا سمعوا بالنكبة لهذا الغني دعوا الله أن يفرج عنه وأن يخفف عنه، فكم من بيوتٍ تقوم على إحسان الأغنياء، قد جعل الله هذا الإحسان سبباً في دفع البلاء عن هؤلاء الأغنياء، فترفع لهم الأكف آناء الليل وأطراف النهار بأن يحفظ الله أموالهم، وأن يحفظ الله أبناءهم وذرياتهم؛ فيعود الخير على أفراد المجتمع وتجتمع القلوب.
إضافةً إلى أن السرقات والغصوبات ونحوها مما تكون بسبب الفقر لا تنتشر بين المسلمين؛ لأن الفقير يعطى من الزكاة نفقة العام كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه، فكأنه كُفي، وبناءً على ذلك فإن انتظام الزكاة من صالح الأفراد والجماعات.
ونظرة الإسلام إلى المال وسطية، لأن هناك نظرة مادية تعظم المال حتى كادت أن تعبده، كما هو منهج الرأسمالية، وهناك نظرة تنظر إلى المال كأنه لا قيمة له إلى درجة سوت بين الأغنياء والفقراء كما هي نظرة الاشتراكية، فجعلت الفقير يشارك الغني في كده وتعبه ونصبه وشقائه فظلمت الغني، وأولئك ظلموا الفقراء، والشريعة عدلت بين الفقراء والأغنياء، فجعلت في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فبذلك حفظت الغني من بطره وأشره واكتنازه لماله، مع ما أعد الله للغني من الثواب في الآخرة.
فجاءت نظرة الإسلام وسطية بين تعظيم الأموال والنظرة إليها أنها هي كل شيء كما هو منهج الرأسمالية، وبين إهانة المال والاعتداء على الملكية الفردية كما هي نظرة الاشتراكية، فأتى الإسلام بالوسطية: فجعل للمال حقه، وجعل للغني يده، ولم يظلمه في تعبه، فكيف يسوى بين الذي يتعب ويكدح آناء الليل وأطراف النهار، ويحصل الأموال بكده وتعبه -بعد توفيق الله عز وجل- وبين العاجز الخامل؟! فلو أنه سويّ بين الغني والفقير -كما يقال في مذهب الاشتراكية- فإن هذا يجعل المجتمع في بطالة، ويقوي على البطالة ويعين عليها، ولكن الإسلام لا ينظر إلى هذا، يقول: أعط الفقير، ولكن بشرط أن يكون عاجزاً عن الكسب، يكون قد ضاقت يده في ظروفٍ معينة وحدودٍ ضيقة، وكذلك أيضاً ملَّك الغني ماله، فأعطى كل ذي حقٍ حقه، وما ظلم الله عز وجل لا الأغنياء ولا الفقراء، مع أنه سبحانه وتعالى هو مالك الأموال ومن ملكها، ولو قال الله عز وجل لنا: أدوا أموالكم كاملة لأديناها؛ لأنها ما كانت لنا ولم تكن إلا بفضله سبحانه وتعالى، هو الذي أنفق على عباده وأغنى الغني بفضله وكرمه.
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة].
من عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يرتبوا مؤلفاتهم الفقهية، فهم يبدءون بكتاب الصلاة، وحين يبدءون بكتاب الصلاة يهيئون له بكتاب الطهارة، فيبينون الشروط المعتبرة للصلاة ومنها الطهارة، وبعد بيانهم للصلاة وما يتعلق بها يقولون: كتاب الزكاة.
فبعد أن فرغ رحمه الله من كتاب الصلاة شرع في كتاب الزكاة، وعبر بـ(كتاب) ولم يقل: (باب)؛ لاشتمال هذا الكتاب على أبواب عديدة ومباحث متعددة تحتاج إلى تفصيل، ومسائل مختلفة تحتاج إلى بيان؛ ولذلك قال رحمه الله: كتاب الزكاة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه جمعين.

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 05:33 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (177)

صـــــ(1) إلى صــ(14)



شرح زاد المستقنع - باب شروط وجوب الزكاة
من شروط الزكاة حولان الحول، لكن هناك أموال لا يشترط فيها الحول، كالحبوب والثمار ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالزكاة، منها: زكاة الدين ومتى تجب فيه الزكاة ومتى لا تجب، وزكاة الشيء المغصوب، وزكاة من ملك مالاً ونسي موضعه، وزكاة من ملك نصاباً وعليه دين، والأحوال التي تسقط فيها الزكاة، وهل تجب الزكاة في عين المال أم في الذمة.
شروط وجوب الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [تجب بشروط خمسة].
تجب -أي: الزكاة- بشروط خمسة لا بد من توفرها للحكم بوجوبها ولزومها، وقوله: (خمسة) إجمالٌ قبل البيان والتفصيل، من فوائده: تهيئة السامع، وتشويقه إلى العلم بها أو بتفصيلها.
قوله: [حرية].
الشرط الأول في وجوب الزكاة الحرية، والعبد بالإجماع لا تجب الزكاة عليه من حيث الجملة، فلا تجب الزكاة في أموال العبيد، وإنما تجب على الأحرار.
أما الدليل على أنها لا تجب على العبد: فما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع عبداً وله مال؛ فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخلى يد العبد من الملكية، فقال: ( من باع عبداً وله مالٌ -أي: للعبد مال- فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) فدلّ على أن العبد لا ملك له للمال، وإذا كان العبد لا يملك المال فإنه لا يتوجه إليه الخطاب بزكاته، وإنما يتوجه إلى سيده.
وعلى هذا: فزكاةُ مال العبد واجبةٌ على السيد، وهذا مذهب الجمهور.
وقال مالك رحمة الله عليه: لا تجب لا على السيد ولا على العبد، فأسقط الزكاة عنهما، وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن الزكاة تتعلق بالسيد، وأنه تجب زكاة مال العبد لكن على سيده لا على العبد؛ وذلك لأنه مال، فهو داخلٌ في عموم الأدلة التي أمرت بأداء الزكاة.
والعبد له أحوال: إما أن يكون مملوكاً بكامله لزيدٍ من الناس، أو يكون بعضه حر وبعضه عبد، فإذا كان نصفه حراً ونصفه عبداً فما الحكم؟ قالوا: تجب الزكاة بقدر ما فيه من حرية، وحينئذٍ يكون مالكاً لنصف ماله، فتجب عليه الزكاة في هذا النصف بما فيه من الحرية.
المسألة الثالثة: إذا كان العبد مكاتباً -وهو الذي يسعى لحريته- فهل تجب عليه الزكاة أو لا تجب؟ للعلماء قولان: أبو ثور و داود الظاهري يوجبان على العبد المكاتب الزكاة، والجمهور لا يوجبون عليه الزكاة؛ لأنه لم تثبت حريته بعد؛ لأنه إذا عجز عن أنجم الكتابة رجع رقيقاً، فدلّ على أنه أثناء أدائه لثمن الكتابة لا يزال رقيقاً، وعلى هذا: فالمكاتب لا تجب الزكاة عليه، وإنما تجب على سيده.
قوله: [وإسلام].
أي: ومن شروط وجوبها الإسلام، فلا تجب الزكاة على كافر؛ فمثلاً: لو أن اليهود والنصارى كانوا أهل ذمة عند المسلمين، فلا نأتي ونقول لهم: أدوا الزكاة؛ إذ لا تجب الزكاة على الذمي؛ لأنه كافر، أما لو كان مسلماً ثم بعد ذلك ارتد، فإنه لا تجب عليه الزكاة، لكنه يطالب بالزكاة الواجبة عليه أثناء إسلامه، فلو أنه وجبت عليه الزكاة مائة ألف، فارتد بعد وجوبها ولم يؤدها بعد، فمن حق الإمام أن يأخذ من ماله قدر المائة الألف؛ لأنه إذا ارتد حُبِسَ ماله في بيت مال المسلمين، يحفظه الوالي، ثم يؤخذ منه بقدر ما عليه من الزكاة قبل أن يرتد، هذه هي الحالة التي تجب فيها الزكاة في مال المرتد، أما إذا كان في حال ردته فإنه لا يطالب بزكاة ماله.
واختلف في نصارى بني تغلب، وفيهم حكمٌ خاص قد يأتي إن شاء الله الإشارة إليه.
قوله: [ومُلك نصاب].
ملكية النصاب شرط لوجوب الزكاة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة ) وقال: ( ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الإبل صدقة ) فجعل للصدقة حداً سماه العلماء بالنصاب، وهي العلامات؛ لأنها تنصب علامةً على الشيء، فلما قال عليه الصلاة والسلام: ( ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة ) كأنه يقول: هذه علامة الوجوب، وما دونها لا تجب فيه الزكاة من الأموال، وما فوقها تجب فيها الزكاة.
وقوله: (ملكية النصاب): أن يكون مالكاً للنصاب، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة ) ( ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الإبل صدقة ) ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) هذا كله يدل على أن النصاب معتبر، وأن ما دون النصاب لا تجب فيه الزكاة بإجماع العلماء، فالزكاة لا تجب في كل مال، وإنما تجب في أموال مخصوصة؛ بشرط أن يكون الإنسان مالكاً لهذا الحد الذي نصبه الشرع وجعله علامةً على لزوم الزكاة.
قوله: [واستقراره].
أي: واستقرار الملك، وكون المال ليس مستقراً كالوقف على غير معين، فلو أن شخصاً -مثلاً- أوقف بستانه بغلته على الفقراء والمساكين؛ فإن هذا المال مال، لكن ليس له يدٌ مستقرة، فيكون للفقراء في زماننا، وإذا ماتوا وجاء فقراء غيرهم فهو لهم، فيد الملكية ليست بمستقرة.
إضافةً إلى أنه يكون وقفاً على فقراء، ثم هؤلاء الفقراء لو أنهم صاروا أغنياء انتفت عنهم الملكية، وانتقلت إلى غيرهم من الفقراء؛ فهو وإن كان موقوفاً عليهم لكنهم لا يملكونه، وإن كانت غلته يملكونها إذا أخذوها ولكنها ليست بمستقرة، وليست هناك يدٌ ثابتة على هذا المال، ولذلك من أوقف ماله فقد خرجت ملكية المال عنه لله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا قالوا: لو أنك بنيت مسجداً، وأوقفته صار ملكاً لله عز وجل، وليس من حقك بعد بناء المسجد أن تقول: لا يصلي فيه إلا فلان، ولا يدخل إلا فلان، ولا تفعلوا إلا كذا، أو اسمعوا كذا.
لأنه ليس ملكاً لك؛ فهو بالوقفية خرج عن ملكية الإنسان، وأصبح وقفاً لله -أي سبيلاً لله- عز وجل، فملكيته لله سبحانه وتعالى بالنسبة؛ وإن كان في الأصل أننا وما ملكنا ملكٌ لله عز وجل.
فالزروع وسائر الأشجار إذا نبتت في الفيافي، لو أن الشجر نبت في الفيافي والبراري فإنها أموال، لكن ليس هناك مالكٌ معينٌ لها، فلا تجب فيها الزكاة، وإن كانت مالاً وقد تبلغ النصاب، وقد يكون فيها خمسة أوسق من الحبوب، كأن يصيب الغيث أرضاً فتنبت الحب ويكون منها الخير، فإننا لا نوجب الزكاة؛ لأن الملكية هنا ليست بمستقرة وليست بثابتة على المكلف المخاطب بوجوبها.
قوله: [ومضي الحول].
(ومضي الحول) الحول: هو العام الكامل مأخوذٌ من الحال، وشرطه: أن يكون بالسنة القمرية لا بالشمسية، فالحساب في الشرع بالقمرية لا بالشمسية، فمن ملك في يوم، فلا بد أن يعتبر سنة قمرية لهذا اليوم حتى يأتي مثلها في السنة القادمة، والإنسان إذا مكث سنة كاملة يتغير من حالٍ إلى حال، فسمي الحول حولاً لأن الناس تتغير أحوالهم بمضيه.
ولا بد من مضي الحول، فلو أن المائة ألف التي معك ملكتها في اليوم العاشر من رمضان، وجاء اليوم العاشر من السنة القادمة من رمضان وهي معك فإنه تجب عليك الزكاة، فلو أنك قبل اليوم العاشر من رمضان في اليوم التاسع تلف هذا المال أو أوقفته، أو حصل له عارضٌ تزول به ملكيتك أو نقص عن قدر النصاب؛ فإنه تسقط عنك الزكاة ولا تجب ولو قبل غروب الشمس بلحظة واحدة، فلا بد من مضي السنة الكاملة على هذا النصاب.
قال: [في غير المعشر].
قوله: (في غير معشر) أي: الزروع والثمار والحبوب ونحوها مما أوجب الله زكاته حال الحصاد؛ لأن الله تعالى يقول: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141] فأوجب علينا في الجنات والزروع والنخيل أن نؤدي الزكاة إذا حصدنا، فدل على أنها قبل الحصاد لا تجب، ومن المعلوم: أنك لو حصدت الحب قد يكون مضى عليه أشهر ولم يمض عليه حولٌ كامل، فدل على أن زكاة الحبوب والثمار مستثناة من الحول، والإجماع منعقد على مضي الحول -وفيه حديث عند أبي داود وحسنه العلماء-: أنه ليس في الأموال زكاة حتى يحول عليها الحول؛ لكن هذا النوع من الأموال -الذي هو الزروع والثمار- أوجب الله زكاتها ولو لم يحل عليها الحول، فجعل الزكاة بالحصاد، فإذا حصد الحب وجلبه إلى مسكنه وبيدره، فإنه حينئذٍ يؤدي زكاته بالقدر الذي أوجب الله وسمى في زكاة الحبوب والثمار.
قال المصنف رحمه الله: [إلا نتاج السائمة وربح التجارة].
قوله: (إلا نتاج السائمة) البهيمة: تكون -مثلاً- عندك أربعون شاة، الأربعون بلغت النصاب، هذه الأربعة نمت أثناء العام، والعبرة بمجيء الساعي في حولها، فإذا كانت عندك طيلة السنة مثلاً مائة وعشرون شاة، فيها شاةٌ، وفي الليلة التي جاء فيها الساعي ولدت شاة، فأصبحت مائةً وإحدى وعشرين، فتجب عليك شاتان، فالذي حال عليه الحول تجب فيه شاة واحدة، لكن هذا النتاج تابعٌ لرأس ماله وأصله؛ فحينئذٍ تجب عليك الزكاة بشاتين، ويسمونها الشاة المشئومة من باب الكناية؛ لأنها شاة صغيرة ولكن ضيعت ما هو أكبر منها.
فلو ولدت شاة قبل مجيء الساعي -ولو بيوم واحد أو ليلة واحدة- وأصبح العدد مائة وإحدى وعشرين، وجبت عليك شاتان، فتلزم بدفع شاتين، مع أن الأصل أن في المائة والعشرين شاة واحدة.
فلا يشترط حولان الحول على النتاج.
وبناءً على ذلك قاس بعض العلماء الرواتب وما في حكمها.
يقولون: في الأصل لك الحق أن تجعل الراتب كل شهر تجعل حوله بحوله، فشهر محرم تكتب عليه شهر محرم، وتنتظر إلى السنة القادمة تنفق من شهر محرم، إلى أن يأتي شهر محرم من العام القادم، فإن بقي من هذا الراتب شيء زكيته إذا بلغ النصاب، وإن لم يبق ما يعد به قدر النصاب لا تجب عليك الزكاة، هذا الأصل: أن كل راتبٍ تجعله بحوله المستقل.
لكن إذا صَعُب عليك هذا، ولا شك أنه يفتح باب الوسوسة، ويؤدي إلى حصول الشكوك عند الإنسان وفيه ضيق على الإنسان أن يكتب على كل مبلغ وأن يجعله عنده بأرقامه وكتاباته، فهذا فيه عسر وتعب وعناء، قالوا: إذا لم يرد هذه الطريقة يزكي كسائمة بهيمة الأنعام.
فنقول له: انظر إلى أول شهرٍ استلمت فيه الراتب فتنتظر إلى مثله في العام القادم وتجمع ما عندك، حتى ولو كان من شهر ذي الحجة الذي قبلها بأيام أو بشهر، يجب عليك أن تزكيه على الأصل، هذا بالنسبة إذا كنت تختار الحول لشهر واحد.
أما الطريقة الأولى: فهي الأصل: أن كل راتب شهر بحسبه؛ لكن لو أحببت أن ترتاح، وأن تجعل حول رواتبك حولاً واحداً، في بداية المحرم -مثلاً- استلمت هذا الراتب الذي به يكون قدر الان
ذكر ما يستثنى منه الحول في إخراج الزكاة
قال المصنف رحمه الله: [ومضي الحول في غير معشّر إلا نتاج السائمة وربح التجارة ولو لم يبلغ نصاباً، فإن حولهما حول أصليهما إن كان نصاباً وإلا فمن كماله].
ذكر المصنف رحمه الله جملة من الشروط التي ينبغي توفرها للحكم بوجوب الزكاة، فإذا وجدت هذه الشروط فإن المكلف ملزمٌ بالزكاة، وإذا تخلفت هذه الشروط أو واحد منها، فإنها لا تجب، فما زال رحمه الله يبين لنا هذه الشروط، وكانت خاتمتها اشتراط الحول، وقد تقدم الكلام على هذا الشرط، وقد بيّنا أن إجماع العلماء رحمهم الله على أن الحول معتبر لوجوب الزكاة، ويستثنى من ذلك المعشّر؛ وهو الذي أوجب الله فيه العشر، والمعشّرات هي الزروع والثمار، والدليل على هذا الاستثناء أن الله سبحانه وتعالى قال في زكاة الزروع والثمار: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141]، ومن هنا نفهم أن من الأموال التي تجب فيها الزكاة ما يشترط فيه الحول كالذهب والفضة، ومنها ما لا يشترط فيه الحول كالزروع والثمار، فلو أن إنساناً زرع شعيراً، ثم كان القدر الذي استحصده منه بالغاً خمسة أوسق، فإننا نوجب عليه الزكاة إذا حصده وضمّه إلى البيدر، مع أنه لم يمض العام الكامل عليه، ولذلك يقال: إن هذا النوع من الأموال لا يشترط فيه حولان الحول، وحولان الحول أصل لكن له مستثنيات، منها ما ذكر المصنف رحمه الله.
قوله: (إلا نتاج السائمة) ذكرنا أن النتاج: هو ما يكون من نتاج بهيمة الأنعام -وهو صغارها- فلو أن إنساناً ملك مائة وعشرين شاةً، فإن الله أوجب عليه فيها شاة واحدة، ولا يجب عليه أكثر منها، فلو فرضنا أنه طيلة العام كانت عنده مائة وعشرون شاةً، فلما كانت ليلة الساعي ولدت إحداهن شاةً، فأصبح الذي عنده مائة وإحدى وعشرين شاة، ففيها شاتان، ولا نقول: إنه يجب أو يشترط أن يحول الحول على هذا النتاج الذي لم يبلغ السنة الكاملة، وبناءً على ذلك نقول: إن نتاج السائمة لا يشترط فيه حولان الحول.
أما لو اشترى غنماً وضمها إلى الغنم الأولى، فقال بعض العلماء: إنه يستأنف لهذه الغنم الجديدة الحول، ومنهم من يقول: إنها مضمومة إلى رأس ماله، ولهذا القول من الوجاهة قوة.
قوله: (وربح التجارة).
فلو كانت عند الإنسان مائة ألف اشترى بها تجارة من قماش أو غذاء أو غير ذلك، وعرضها للبيع، فإن هذه المائة الألف التي دخل بها للتجارة، إذا مضى الحول عليها فإنها تزكّى؛ فيجمع ما في الدكان أو البقالة أو المتجر ثم بعد ذلك يقدره بقيمته يوم تمام حوله ويخرج زكاة القيمة؛ فلو فرضنا أن هذه المائة ألف قامت على تجارة أكسية اشترى بها القماش، وما زال يبتاع ويشتري في هذا القماش، إذا برأس ماله الذي هو المائة ألف قد أصبح مائة وعشرين، فعنده نتاج وهو ربح لرأس المال وهو العشرون ألفاً؛ فإذا حال الحول فإنه يجمع المال كله فيؤدي زكاة مائة وعشرين، مع أن المائة والعشرين: منها ما حال عليه الحول وهو المائة ألف، ومنها ما لم يحل عليه الحول وهو العشرون التي تعتبر ربحاً للمائة، فهذا الربح لم يحل عليه الحول، ولكن الفرع تابع لأصله، فأصبح تابعاً لذلك الأصل الذي أنميته بالتجارة، فصارا كالشيء الواحد، وتزكيه زكاة واحدة.
بناءً على هذا يقول الفقهاء: يشترط حولان الحول في المال الذي تجب فيه الزكاة إلا إذا كان ربح تجارة، فاستثنوا المعشّرات ونتاج السائمة وربح التجارة.
فلو سألك تاجر وقال: قد ملكت كذا وكذا ألفاً وتاجرت بها السنة كاملة، وقبل نهاية السنة بيوم أو بأسبوع أو بشهر ربحت مثلها؛ فأصبحت المائة مائتين أو أصبحت العشرة عشرين، فهل في هذه الحالة يجب عليَّ زكاة الأصل وهو العشرة آلاف أو المائة ألف- أو زكاة الجميع؛ أعني مع ما حصل عليه من الربح؟ فالجواب أن تقول: عليك زكاة رأس مالك وكذلك نتاج رأس المال وهو الربح؛ لأنه تابع للأصل.
هذا هو مراده رحمة الله عليه، وعليه نقول: إنه يجب على الإنسان أن يراعي الحول في ماله الذي وجبت فيه الزكاة إلا إذا كان من المعشّرات أو نتاج سائمة أو ربح تجارة.
وقوله: (ولو لم يبلغ نصاباً).
ربح التجارة في بعض الأحيان قد يبلغ النصاب، وأحياناً أخرى لا يبلغ النصاب، فلو أنه ربح مع المائة ألف مائة ألف أخرى، فقد بلغت النصاب قطعاً، ولو ربح خمسين ريالاً فإنها دون النصاب، فحينئذٍ نقول: ربحك لما بلغ النصاب ولما دون النصاب الحكم فيه سواء فتضمه إلى أصله، وتطرد القاعدة أن الفرع تابع لأصله، فزكاة الأرباح زكاة رءوس أموالها، ويستوي في ذلك أن تكون بالغة النصاب أو دون النصاب.
قال المصنف رحمه الله: [فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً وإلا فمن كماله].
قوله: (فإن حولهما) يعني: حول الربح حول رأس ماله، فحينئذٍ تعتبر حولهما واحداً، فلو دخلت في التجارة من بداية محرم واكتسبت الربح في شوال مثلاً أو في رمضان، فإنك حينئذٍ تعتبر هذا الربح الطارئ في رمضان تابعاً لرأس المال الذي هو في محرم، ولا تقول: إنه ينبغي أن أستقبل به رمضاناً قادماً؛ لأنه في هذه الحالة يعتبر تابعاً للأصل.
وقوله: (وإلا فمن كماله) هذا الحكم الذي ذكرناه وهو كونك تتبع الربح لرأس المال يكون شرطه أن يكون رأس المال قد بلغ النصاب، فلو كانت عندك خمسون ريالاً، وهذه الخمسون دون النصاب المعتبر كما سنبينه إن شاء الله في زكاة النقدين، لكنك دخلت بها في التجارة، فما زلت تربح حتى بلغت النصاب، مثلاً ثلاثةً وخمسين أو أربعةً وخمسين على جبر الكسر الذي فوق الثلاثة وخمسين، فإذا بلغت أربعةً وخمسين في ربيع، فإن حولها من ربيع، وحينئذٍ يكون هذا الزائد وهو الثلاثة أو الأربعة التي بلغ بها النصاب هو بداية الحول، وحينئذٍ تعتبر حولهما واحداً وتضمهما لتزكيهما زكاة مال واحد.
أحكام زكاة الدين
قال المصنف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره على مليء أو غيره أدى زكاته إذا قبضه لما مضى].
هذه المسألة مسألة يحتاج إليها الناس وتعم بها البلوى، وهي زكاة الديون، فأنت عندك مال أخذه منك إنسان، وحينئذٍ لا تبحث عن هذه المسألة إلا إذا أمضى حولاً كاملاً، أو مرّ حول مالك الأصلي والدين عند الشخص الذي أعطيته إياه، فلو فرضنا مثلاً: أنك أعطيت رجلاً مائة ألفٍ ديناً، أعطيته إياها في محرم، فهذا الدين لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يحل أجله، فقلت له: هذا الدين توفيني إياه أو تعطيني إياه في نهاية رمضان، فهو سيوفيك المائة ألف قبل دخول الحول أو قبل بلوغ الحول، فإن كان أجل الدين قد دخل في الحول، فحينئذٍ تبحث عن حكم زكاته إذا لم يؤد الدين بعد تمام المدة، فأنت اشترطت عليه في نهاية رمضان أنه يعطيك المال، ولكن جاء رمضان وقال: لا أستطيع السداد، فبقي الدين عنده حتى شاء الله عز وجل ومضى إلى بداية حولك الذي هو محرم، فحينئذٍ إذا جاء محرم سألت: هل هذا الدين الذي لي على الرجل تجب علي الزكاة فيه، أو لا تجب؟ هذا الدين لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يكون الشخص الذي أعطيته الدين قادراً على السداد، وهو الذي يعبر العلماء عنه بالمليء، فإذا كان قادراً على السداد فحينئذٍ لا تخلو من حالتين: إما أن تستطيع مطالبته به ويعطيكه فحينئذٍ تجب عليك الزكاة؛ لأن الذي منعك من طلبه إنما هو الحياء، فقد يكون بينك وبينه مودة، أو قد يكون بينك وبينه معاملة فتترك الدين عنده، أو تريد أن يكون المال عنده؛ لأنه أحفظ لمالك؛ لأنه رجل أمين وتثق به، والسبب في وجوب الزكاة في هذه الحالة أن المال إذا كان على غني مليء بحيث لو طالبته أعطاك كأنه بيدك، فالمال وإن لم يعطِك إياه فإنه في حكم المال الذي بيدك، وتجب عليك زكاته، هذا إذا كان مليئاً وكنت قادراً على مطالبته ولا يماطل؛ بل يعطيكه في أي وقت تطلبه، ففي هذه الحالة يجب عليك زكاة المال، ووجه وجوبها أن المال وإن كان عند المدين، لكنه في حكم المال الذي بيدك، وعلى هذا الأصحاب فيما بينهم من مودة ومجاملات ربما يتركون الأموال عند بعضهم، وربما يغلبه الحياء عن مطالبته، فإذا كان الشخص تستطيع مطالبته ويوفيك عند المطالبة وهو قادر، فعليك زكاة مالك؛ لأنه وإن كان ديناً، ففي حكم المال الذي في يدك، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: إذا حلّ الأجل أن يكون عاجزاً على السداد، وعدك نهاية رمضان وجاءت نهاية رمضان، ولكنه لم يستطع السداد؛ لفقره وعجزه، فإذا كان فقيراً أو عاجزاً عن السداد أو طرأت له ظروف، ولكنه لا يستطيع أن يعطيك، فحينئذٍ للعلماء قولان: منهم من يقول: عليك زكاته، فتجب عليك الزكاة في كل سنة؛ فلو بقي عنده الدين خمس سنوات؛ عليك زكاة خمس سنوات، ففي كل سنة تحسب هذا المال سواء كان على فقير أو غني لا يفرقون، ويجب عليك أن تزكي، هذا هو القول الأول.
القول الثاني أنه إن كان عاجزاً عن السداد ولو طالبته بالدين لا يستطيع أن يوفيكه، فإنه لا تجب عليك زكاة المال، وهذا هو الصحيح؛ لأن المال غير موجود، وهو في هذه الحالة في حكم المفقود؛ فهو ليس بيدك، ولا تجب عليك زكاته، وإنما تنتظر، فلو جلس عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وبعد ثلاثين سنة جاء يوفيك فتزكيه لسنة واحدة، وبذلك أفتى علي و عائشة و عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع؛ لأنه لم يصل المال إلى يدك إلا في تلك السنة، واليقين أنك مطالب بتلك السنة وغيرها شك؛ لأن المال كان غير موجود، وحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة للسنوات التي مضت، هذا إذا كان عاجزاً عن السداد.
الخلاصة لهذه المسألة: أنه إذا حلّ الأجل وكان عاجزاً عن السداد، ولا تستطيع أن تأخذ المال منه، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة، ثم ننظر؛ فلو وفاك بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة، فلا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة فقط وغيرها لا تجب؛ لأن المال في حكم المفقود، وهذا الرجل الذي هو معسر -ولا يستطيع السداد طيلة السنوات التي كان المال في ذمته- لم يكن المال موجوداً عنده، ولا تجب زكاة المال المفقود، وحينئذٍ لا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة.
فإذا قبضت المال منه ولو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تزكيه لسنة واحدة، فإذا كان المدين غنياً بَيَّنَّا حكمه، وإذا كان فقيراً بَيَّنَّا حكمه.
الحالة الثالثة: أن يأتي الأجل ثم تطالبه وإذا به قادر على السداد ولكنه يمتنع، فيكون مليئاً غنياً ولكنه يماطل، وهذا ما يسميه العلماء بالمماطل -الغني القادر على السداد المماطل- فلا تخلو حينئذٍ في هذا المماطل من حالتين: إما أن تستطيع أن تقهره وتأخذ الحق منه سواء عن طريق القضاء أو عن طريق غيره من الناس ممن تستطيع أن تكلمه حتى يأخذ بحقك منه، فتجب عليك الزكاة؛ لأنه وإن كان مماطلاً لكنه في حكم من أنت قادر عليه والمال موجود عنده، فكونك تقصر في أخذ المال يلزمك بزكاته، هذا إذا امتنع عن السداد، وكان عندك قدرة على أخذه، فحينئذٍ يجب عليك زكاته.
أما لو امتنع، ولا تستطيع أن تأخذه منه؛ لقهره إياك، أو تخشى منه الضرر والأذية، أو ليس عندك شهود على المال ولا تستطيع إقامة القضاء عليه، فحينئذٍ تنتظر ولو مائة سنة، فإن قدرت ولو بعد مائة سنة تزكيه لسنة واحدة؛ لأنك ما قدرت على مالك إلا في تلك السنة، ولا تجب عليك إلا زكاة سنة واحدة، وأما بقية السنوات فالمال وإن كان مالك لكنه في حكم المعدوم لعدم القدرة عليه.
فإذا كان قادراً على السداد ويمتنع من السداد، فلا يخلو: إما أن تقدر على قهره، فتجب عليك الزكاة، وإما ألا تستطيع قهره، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة إلا لسنة واحدة على التفصيل الذي ذكر.
الحالة الرابعة: أن يكون المدين قادراً على السداد لكنه ينكر ويجحد مالك، وهذا يسمى بالجاحد -مثلاً: جاء الأجل وهو رمضان فقلت: يا فلان وفني حقي، فما بيني وبينك هو نهاية رمضان، فقال: لا شيء لك عندي، أو قال: ليس لك مال عندي- يقول: ليس لك عندي شيء، فالجاحد إذا جحد مالك يعتبر في حكم الغاصب، فلا تخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: أن تكون لديك بينة أو شهود أو تستطيع قهره وقسره على إعطائك الحق، فتجب عليك الزكاة؛ لأن المال في يدك.
الحالة الثانية: ألا تستطيع إقامة القضاء عليه فيه، لخوف ضرر عليك أو لأنه غصبه بقوة وقهر، فحينئذٍ لا تجب عليك الزكاة، وتنتظر إلى أن تتمكن، فمتى ما تمكنت من مالك المغصوب أو مالك المجحود تجب عليك الزكاة لسنة واحدة؛ لأن المال في حكم المفقود، وإنما ملكت مالك حينما قدرت عليه، فإن لم تقدر عليه فإن الله لا يكلفك بزكاته.
هذا حاصل ما يقال زكاة الدين إذا حلّ الأجل، فإذا حلّ الأجل فإن كنت قادراً، على أخذ المال وأخرّت المال عنده لمودة أو ثقة، وجبت عليك الزكاة، وإن كان غير قادر فلا تجب عليك الزكاة، وتنتظر حتى يسدد فتزكي لسنة واحدة، وإن كان قادراً على السداد ومطل أو جحد أو غصب، فإن كنت قادراً على إقامة الحق عليه، فتجب عليك الزكاة، وإن كنت غير قادر على إقامة الحق عليه، فلا تجب فيه الزكاة.
إذاً: فقه المسألة في القدرة على المال، فإن كان المال كأنه بيدك وجبت الزكاة، وإن كان المال كأنه مفقود، أو كأنه غير موجود لعوزٍ وضيق يد أو جحدٍ مع عدم القدرة على المطالبة بالحق، فحينئذٍ لا زكاة عليك، ومتى ما سددك أو قدرت على حقك زكيته لسنة واحدة هذا حاصل ما يقال في الديون إذا حلّ أجلها.
الصورة الثانية: ألا يحل الأجل، يأخذ منك الدين لعشر سنوات، فإنه في خلال العشر سنوات ليس من حقك أن تطالبه بهذا الدين، فالمال ليس بمالك، أو كأنه ليس بمالك ويعتبر مالاً له، وقد يأخذ منك المائة ألف أو المائتي ألف وينفقها، فلا تكون موجودة، فأنت تستحق المطالبة بعد عشر سنوات، فلا تبحث ولا تسأل عن زكاة هذا الدين إلا بعد العشر سنوات، فإذا مضت العشر سنوات، وحل الأجل، رجعنا إلى التفصيل الذي ذكرناه.
إذاً: عندنا في الدين حالتان: حالة يحلّ فيها الأجل ونفصِّل فيها بين كون المال في حكم المال الذي في اليد؛ لقدرةٍ ومحبة ومودةٍ، فحينئذٍ تجب الزكاة، أو يكون في غير حكم المال الذي في اليد؛ لعوزٍ أو جحودٍ وعدم قدرة على مطالبة، فحينئذٍ لا زكاة، فإن قدرت زكيت لسنة واحدة.
وأما إذا لم يحلّ الأجل، فالمال ليس لك؛ لأنك قد تنازلت عن هذا المال، وزكاته كونك قد أدنته وأعطيته إياه وفرجّت كربته، فذلك من زكاة المال، وهو من الخير الذي جعله الله لك في هذا المال، بل قال بعض العلماء: إن مسامحة المديون والعفو عنه والتيسير عليه والإنظار له من أفضل القربات وأحبها لله عز وجل، وقد جاءت الأحاديث في الترغيب فيها، والله يقول في كتابه: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة:280]، (فنظرة) أي: فانتظار، (إلى ميسرة) أي: إلى اليسار والغنى والقدرة على السداد، وعلى هذا فإن الديون لا يبحث فيها إلا إذا حلّ أجلها، وكان الذي عليه الدين قادراً على السداد وأنت تستطيع مطالبته بالدين، على التفصيل الذي ذكرناه.

يتبع

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 05:43 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (178)

صـــــ(1) إلى صــ(14)






صور الصداق وأحكام زكاته
قال المصنف رحمه الله: [ومن كان له دين أو حق من صداق أو غيره].
قوله: (من كان له دين أو حق من صداق أو غيره) الدين شيء والحق من الصداق يختلف، الصداق للمرأة، وقد يقع الصداق ديناً، فيشبه الدين ويأخذ حكم الدين إذا كانت المرأة قد طالبته بالسداد، مثلاً إذا قال: زوجتك بنتي بعشرة آلاف مثلاً، فقال: قبلت، ثم بُتّ النكاح على أن العشرة آلاف تكون حالّة، فيكون الزوج مطالباً بالعشرة آلاف حالة، فقال الزوج: هذه خمسة آلاف، وإذا يسّر الله الباقي أعطي الباقي، فالدين الذي عليه خمسة آلاف، فحينئذٍ في هذه الحالة، يكون الزوج مديوناً للزوجة مطالباً بالوفاء عند القدرة، متى؟ إذا كان قد بتّ .
وألزمه بالمهر بالعقد، فحينئذٍ قال: أنا عاجز الآن، ولكن إذا يسّر الله، هذا ثلث الصداق، هذا ربعه، هذا جزءٌ منه، هذا نصفه، فإن يسّر الله السداد أعطيتك، ففي هذه الحالة يكون في حكم الدين، إن كان الزوج قادراً على السداد والمرأة قادرة على مطالبته وقد تركت مالها لثقتها ببعلها وزوجها، فتزكيه لكل سنة؛ لأنه في حكم المال الذي في اليد، وكأنه مودع ومحفوظ عند الزوج، والودائع تزكّى، هذا إذا كان الزوج قادراً على السداد، والمرأة تستطيع أن تطالبه في أي وقت.
لكن لو أن الزوج بعد دخوله بالزوجة قد أعطى نصف المهر، ثم إنه افتقر ولم يستطع أن يسدد النصف الباقي، فحينئذٍ نقول: إن هذا النصف الذي بقي يأخذ حكم المديون المعسر، فلا يجب على المرأة أن تزكي هذا الدين الذي لها على زوجها حتى يسددها الزوج ولو بعد مائة سنة، فإذا سددها ولو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة فإنها تزكي لسنة واحدة، على التفصيل الذي ذكرناه، لماذا؟ لأن الزوج لما عجز عن السداد كانت العشرة آلاف التي هي دين عليه كأنها مفقودة، فهي وإن كانت ديناً للزوجة على زوجها لكنها في حكم المفقود، فلا يجب عليها أن تزكي حتى يستطيع السداد، فإذا استطاع السداد وطالبته وأعطى وسدد ولو بعد عشر سنوات وجبت عليها زكاة سنة واحدة، على الأصل الذي قررناه، فلو أنها بعد عشر سنوات تمكن الزوج من السداد، فقالت له: اترك العشرة عندك مثلاً، فمن حين قولها: اتركها عندك حينئذٍ تستقبل الحول، كل حول يأتيها يجب عليها الزكاة؛ لأن المال أصبح وديعة أو شبه وديعة عند الزوج، ولما كان الزوج قادراً على السداد كان المال وإن لم يكن بيد الزوجة لكنه في حكم الذي بيدها، نظراً لوجود الغنى والقدرة على السداد هذه حالة أولى للمهر.
الحالة الثانية: أن لا يبتّ الزوج وإنما يعلق بقية الصداق على الطلاق والفراق، فيقول له: زوجتك بنتي بعشرين ألفاً، عشرٌ منها حالة ويجب عليك سدادها وإعطاؤها، وعشرٌ منها إذا طلقتها، فحينئذٍ تكون العشر الحالّة لا إشكال فيها، وحكمها حكم الأصل، حتى لو أنه عجز عنها يكون حكمها حكم ما ذكرناه من التفصيل السابق، لكن لو قال له: إذا طلقتها، فهذا فيه نظر، وهو: هل صداق المرأة مستحق بالعقد أو بالدخول؟ فإن قلنا: مستحق بالعقد أو بالدخول فقد وجب هذا الدين، وثبت على الزوج بمجرد دخوله بها أو بمجرد عقده عليها، ويسري فيه التفصيل الذي ذكرناه، ويكون الإنظار إلى الطلاق أشبه بالوديعة، كأنه تركه وديعة عنده، فتزكيه لكل سنة.
وإن قلنا: إن بقية الصداق في حكم الدين المؤجل، فلا يجب عليها أن تزكي إلا إذا وقع الطلاق، فإن وقع الطلاق استقبلناه، فإن كان قادراً على السداد وجب عليها أن تزكيه، وإن كان غير قادر على السداد فإنها لا تزكي، حكمه حكم الدين سواءً بسواء، هذا من التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه.
إذاً: الصداق له حالتان: إما أن يبتّه ولي المرأة ويكون لازماً على الزوج بمجرد العقد، فحينئذٍ إذا بقي شيءٌ منه فهو دين وحكمه حكم الدين، إن كان الزوج قادراً على الإعطاء والوفاء، والزوجة تستحي أو لا تستطيع مطالبته بسبب الحياء، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة؛ لأن الدين في حكم المال الذي بيدها، والمهر كأنه بيدها.
وأما إذا كان هذا المال واجباً على الزوج، والزوج لا يستطيع وفاءه؛ لعوز ودين وفاقة؛ فلا يجب على الزوجة أن تزكيه حتى يصير الزوج قادراً على السداد، وتستقبل فيه حكم ما ذكرناه وهو القادر على السداد.
وأما إذا كان المهر أو الباقي منه قد علّقه الولي على طلاق أو فسخ أو على أمد معين، فحكمه حكم الدين المؤجل على أحد الوجهين، وعلى الوجه الآخر يسري فيه ما يسري على الديون الحالة من جهة كونه غنياً قادراً على السداد أو غير قادر على السداد.
كيفية إخراج زكاة المال المغصوب والمفقود
قال المصنف رحمه الله: [أو حق من صداق أو غيره].
قوله: (أو غيره) هناك مسائل أخرى تلتحق بمسائل الدين، منها: لو أن رجلاً جاء وغصبك مزرعتك، وهذه المزرعة فيها حبوب وثمار وزروع، فهي من جنس الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومن اغتصبها منك أو أخذها قهراً، فهو يدخل تحت قول المصنف: (حقٌ على غيره)، فيكون قوله: (كصداق) مثال، فيدخل في ذلك المال المغصوب.
فلو أن إنساناً اغتصب منك أرضاً زراعية فيها نخل أو حب، أو اغتصب منك ذهباً أو فضة، أو أخذ منك مائة ألف اغتصاباً، أو شخص سرق منك مالاً وعرفته، وتبين لك أنه سرق منك هذا المال، فلا يخلو من حالتين: إن كان هذا الغاصب تستطيع أن تنتزع حقك منه ببينة وشهود وقضاء، فحينئذٍ يجب عليك أن تزكي هذا المال.
وإن كنت لا تستطيع أن تأخذ حقك، أو تخشى ضرراً أعظم، وأنت في حكم المكره، وانطبقت عليك شروط الإكراه، سقطت عنك الزكاة، حتى إذا ملكت هذا المال، ورجع إليك، زكيته لسنة واحدة.
ويسري الحكم لبقية الأموال من ذهب أو فضة وحلي إذا غُصبت.
وقد ألحق بعض العلماء بهذه المسائل مسألة لطيفة، وهي: لو أن إنساناً كانت عنده مائة ألف، فأراد أن يخبئها في مكان، ثم نسي المكان الذي خبأ فيه المائة ألف، فهذا مال، وهو ملك له، ولكن هذا المال لا يستطيع أن يصل إليه، ولا يستطيع أن يهتدي إلى مكانه، فبعض العلماء يقول: إن نسي مكانه، أُلزم بزكاته، ووجبت عليه الزكاة كل سنة؛ لأنه فرّط على نفسه وقصر، وهذا التفريط لا يضيع حق الفقراء والمساكين، والأصل أنها واجبة عليه.
وقال بعض العلماء: لا؛ لأن هذا خلاف الشرع؛ لما فيه من الحرج والمشقة وتكليف الإنسان ما لا يطيق، فقد لا تكون عنده إلا هذه المائة ألف، والمال وإن كان ماله لكنه في حكم المفقود، ألا ترى من غُصب على ماله، ومن كان ماله على معسرٍ لا يستطيع سداده، قالوا: الناسي يستوي معه في الحكم، بل أشد منه ضرورة وأعظم منه بلية؛ لأنه إذا كان ماله على مدين فقير فإن يرجى له أن يجده، ولكن هذا ربما استغرق في النسيان إلى درجة لا يستطيع أن يتذكر موضع ماله، فقالوا: إنه لا تجب عليه الزكاة.
والنفس تميل إلى أنه لا تجب عليه الزكاة، فإن تذكر المكان ولو بعد سنوات زكّى لسنة واحدة.
وقوله: (على مليء أو غيره)، المصنف هنا اختار هذا القول.
وقوله: (أدى زكاته إذا قبضه لما مضى) وقد أُثر عن علي بعض الروايات يفهم منه هذا، أن الدين لا تجب عليك زكاته إلا عند قبضه، ولا يفصلون التفصيل الذي ذكرناه، ولا يفرقون بين المليء ولا غير المليء، ويقولون: إن هذا المال يعتبر كمال غيرك، فهو سيزكيه، فلا تزكيه أنت، حتى لا يزكى المال مرتين، وحينئذٍ قالوا: لا تزكيه إلا إذا قبضته، فإذا قبضته وجبت عليك زكاة سنة واحدة.
والصحيح: ما ذكرناه من التفصيل؛ لأن فقه المسألة يدور حول كون المال في يدك وفي حكم المال الذي في يدك، وبين كونه في يد الغير وفي حكم المال الذي للغير، وعلى هذا يكون التفصيل الذي اخترناه هو الأقرب والأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.
حكم من ملك نصاباً وعليه دين
قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب].
بعد أن بيّنا حكم دينك إذا كان لك على الغير دين، يرد السؤال في العكس، إذا كان للغير عليك دين فكنت مديوناً للغير؛ كشخص له تجارة وهذه التجارة فيها دين للغير، فلا يخلو إما أن يستغرق دين الغير جميع التجارة فتسقط عنه الزكاة؛ لأنه لا يملك شيئاً؛ لأنه مال للغير، هذا مذهب الجمهور أن الدين يسقطها، وأثر عن عثمان رضي الله عنه ما يدل على ذلك حينما كان يفرض للناس أعطياتهم إذا حلّ أجلها، وكان يقول: (هذا شهر زكاتكم لمن كان له دين) ويسقطه رضي الله عنه، وكان يعتبر الدين مسقطاً للزكاة عن المال، وهو مذهب الجمهور.
وقال بعض العلماء: الدين لا يسقط الزكاة؛ لأن هذا الرجل الذي له مال، وهذا المال ملك للغير يخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الناس حقوقهم، وإما أن يزكّي، أما أن يبقي المال عنده لا هو زكّى وأعطى الفقراء حقوقهم من المال، ولا هو سدد أصحاب الأموال؛ فإنه حينئذٍ يكون ظالماً، وهذا الظلم يقع على الفقراء، والأصل وجوب الزكاة.
ولا شك أن الإنسان الذي عليه دين: إما أن يوفي الناس ديونهم، وإما أن يؤدي زكاته، فالنفس تميل إلى هذا القول الذي اختاره بعض العلماء رحمة الله عليهم من أن الدين لا يسقط الزكاة .
تقسيم الأموال إلى ظاهرة وباطنة
قال المصنف رحمه الله: [ولو كان المال ظاهراً].
قوله: (ولو كان المال ظاهراً) العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم يقسمون الأموال إلى قسمين: أموال ظاهرة، وأموال باطنة، الأموال الظاهرة عندهم كالزروع والدواب والمواشي والعقارات ونحوها من المنقولات الأخرى، وهي تكون في المثمونات، وأما الأموال الباطنة فهي في الذهب والفضة، يسمون الأول ظاهراً وهو الزروع والمواشي والعقارات والأرضين والدور، كل ذلك يسمونه أموالاً ظاهرة، وأما بالنسبة للأموال الباطنة فهي كالذهب والفضة، ولذلك هي خفية والناس يؤتمنون عليها، يعني: حينما يأتي الشخص يكون عنده مائة ألف، قد لا تستطيع أن تفرض عليها الزكاة؛ لأن ماله خفي، لكن إذا كانت له عقارات وبقالات ومحلات تجارية، فإن هذه أموال ظاهرة مكشوفة أمام الناس، ولكن الذهب والفضة يكون باطناً خفياً عن الناس، ولذلك قالوا: الأول ظاهر، وقالوا في الثاني: باطن .
حكم من ملك نصاباً وعليه حق لله
قال المصنف رحمه الله: [وكفارة كدين].
هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأفكار، فقد بيّن لنا رحمه الله الحكم في حقوق العباد -إذا كان للإنسان على الإنسان دين- وأنه يختار رحمة الله عليه ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الدين يسقط الزكاة هذا إذا كان الدين لمخلوق، فما الحكم إذا كان الدين للخالق؟ القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه أن الرجل لو كانت عنده مائة ألف، وهي مال للغير ودين للغير يستحقه عليه لا تجب الزكاة، فيرد

السؤال
لو كان عنده ألف ريال، وعليك ديون لله عز وجل فيها، أو عندك خمسة آلاف ريال وعليك دين لله من عتق رقبة في كفارة قتل، أو كفارة جماع في نهار رمضان، أو في ظهار، الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنت تملك خمسة آلاف ريال، فعليك دين لله عز وجل.
فالمصنف رحمه الله بعد أن بين أن الديون تسقط الزكاة عن الأموال، قال رحمه الله: دين الله ودين المخلوقين سواء، فمن كان عليه دين للمخلوق يسقط به المال بحيث يستغرق المال كله أو ينزل به المال عن نصاب الزكاة فحينئذٍ يقولون: لا تجب عليه الزكاة، فلو كانت عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة بخمسة آلاف ريال، فحينئذٍ يقول المصنف رحمه الله وجمهور العلماء: هذا المال وإن كان مما تجب فيه الزكاة، لكنه مستغرق لحق لله عز وجل، قالوا: نقيس حق الله على حق المخلوق، فكما أسقطنا الزكاة بحق المخلوق وهو الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) ، وفي الصحيح: ( ودين الله أحق بالوفاء ) ، قالوا: فمن كانت عليه كفارات مجتمعة أو متفرقة تستغرق بحقها من المال والنقد النصاب، أو تستغرق أمواله كلها فلا زكاة عليه، مثل من عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة، أو عنده خمسة آلاف والرقبة قيمتها مثلاً ألفان وخمسمائة وعليه رقبتان تسقط عنه الزكاة، أو مثلاً عليه عتق رقبة كفارة، وعليه فدية أو عليه شاة جبراناً لواجب في الحج فوّته أو ضيعه، فحينئذٍ إذا جمعنا هذه الشياه الواجبة عليه في واجبات الحج، وجمعنا ما للرقبة من مال استغرق سبعة آلاف ريال وعنده سبعة آلاف ريال، أو عنده خمسة آلاف ريال وهي دون المبلغ المستحق عليه فلا زكاة عليه، هذا على القول الذي ذكرناه من أن الديون تسقط الزكاة، وقد ذكرنا ما هو راجح في هذه المسألة.
حكم زكاة من ملك نصاباً من صغار الغنم ونحوها
قال المصنف رحمه الله: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه].
قوله: (وإن ملك نصاباً صغاراً) الصغار كالسخلة من الغنم، فمعلوم أن الشرع إذا أوجب الشاة في الأضحية أو الهدي يشترط سناً معينة، الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلو فرضنا أنك ملكت شياهاً دون القدر الذي يعتد به وهي الصغار، والشاة الصغيرة هي التي تسمى بالجفرة، لو أن إنسان عنده جفار مثلاً أربعين جفرة؛ فإنه تجب عليه الزكاة منذ أن ملكها، ولا يقال أن هذه الصغار دون الحد الواجب، ولا تجب عليه الزكاة؛ بل تجب عليه فيها الزكاة.
صور انقطاع الحول
قال المصنف رحمه الله: [وإن نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول].
لو كان عندك نصاب من إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، وهذا النصاب في أثناء حولان الحول وقبل تمامه غيرّته أو بدلته أو أنفقت منه فنقص، فإن هذه مسألة يُحتاج إلى بحثها.
ما مناسبة هذه المسألة لما مضى؟ -حتى نعرف ترتيب العلماء للأفكار- الأصل في هذه المسائل التي نبحثها أنه تجب عليك الزكاة، وأسقطتها لحقوق الله عز وجل، فكأنه يبحث متى تجب وتسقط، فأنت في قاعدة وجوب الزكاة عليك وسقوطها لسبب؛ مثل ما ذكرنا؛ لديون أو حقوق، ففي حكم ذلك لو أن العوز والنقص اعتراك بحكم الشرع، فعندك نصاب وقبل تمام الحول نقص هذا النصاب، فلو فرضنا كانت عندك أربعون شاةً، وكان بداية ملكك لها في الأول من شهر المحرم، فأنت تستقبل بها حولاً كاملاً، جئت في ذي الحجة قبل تمام ذي الحجة ودخولك في المحرم حتى تجب عليك الزكاة ماتت من هذه الأربعين شاة، أو ذبحت لضيف منها شاة، أو بعت منها شاة أو شاتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ نقصت عن النصاب، فتستقبل الحول من جديد، وإذا ملكت شاة أخرى فإنك تنتظر إلى أن يتم النصاب من جديد، ولو قبل حَوَلان الحول بيوم واحد.
أي: في يوم تسعة وعشرين من ذي الحجة جاءك ضيف ونزل بك وذبحت له الشاة، فحينئذٍ يعتبر هذا المال قد خرج عن حكم الزكاة، ولا تجب عليك فيه الزكاة وتستقبل حولاً جديداً ولو بعد عشرين سنة، فإذا ملكت شاة أخرى فأصبحت هذه الشياه أربعين شاة؛ تبتدئ الملكية وتستقبل حولاً جديداً بالملكية، وحينئذٍ لا إشكال، هذه حالة، أن ينقص المال عن الزكاة، لكن يشترط في هذا النقص ألا يكون حيلة على الشرع، والحيلة على الشرع: الفرار من الزكاة ومن حق السائل والمحروم الذي أوجبه الله عليك في مالك زكاة له، فلو أن إنساناً عنده -مثلاً- مائة وإحدى وعشرون شاةً، الواجب عليه شاتان، وقبل أن يأتيه المصدِّق بيوم احتال في إعطاء هذه الشاة لشخص، فحينئذٍ أعطى شخصاً مثلاً شاة صغيرة السن كالجفرة مثلاً، فهذا من الحيلة بدل أن يدفع للمتصدق شاتين بالسن المعتبرة وهو الثني من المعز والجذع من الضأن، فإن كانت ضأناً فلا إشكال، وإن كانت من الماعز فماعز، لكنه قال: بدلاً أن أعطي شاتين من الثني من الماعز، فإنني آخذ هذه الجفرة وأهديها لجاري، فأهداها لجاره قبل مجيء المصدِّق، فهذه حيلة لا تسقط حق الله عز وجل في ماله، ويجب عليه أن يؤدي شاتين ولو كان الغنم دون النصاب المعتبر في الشرع، ولو أعطى ثلاث جفرات -مثلاً- فانتقص عن قدر الشاتين وجبت عليه شاتان، لماذا؟ لأنه احتال على الشرع، فهو يعامل بنقيض قصده، كمن طلّق امرأته وهو في مرض الموت ظلماً لها حتى يحرمها من حق الله، فهذا ظالم للمساكين قاصد حرمانهم من حق الله، كيف تثبت عليه؟ تقول: الأصل وجوب الشاتين عليه، ولكنه فرّ عن هذا الأصل بغير عذر شرعي، فكونه أعطى أو لم يعط عندنا على حد سواء؛ لأن إعطاءه افتيات على الشرع وظلم للناس، ولا يمكن للشرع أن يأذن بهذا الظلم، لأنك لو قلت: سقطت عنه الزكاة فقد أذنت بالظلم، وأجزت له أن يضيع حق الفقراء، وحينئذٍ خالفت مقصود الشرع، ولذلك يقولون: يجب عليه أن يؤدي الشاتين، ولو احتال بهذه الحيلة فوجودها وعدمها على حد سواء، فيعامل بنقيض قصده.
فمن طلّق امرأته في مرض الموت، فإن هذا التطليق لا يؤثر، وتكون وارثة له؛ لأنه قصد حرمانها من حقها.
لكن ما الدليل على أن الشرع يعامل المحتال بنقيض قصده؟

الجواب
لو أن إنساناً رأى أباه يملك مالاً كثيراً يقدر بالملايين مثلاً، فحبه للدنيا أغراه أن يقتل أباه، بحيث ينال ما عند أبيه من التركة والمال أو كان ابناً له، عنده مثلاً أموال كثيرة، فأقدم الأب على قتل ابنه، فإن الأب إذا قتل ابناً لا يقتل به؛ بشبهة الأدب، وهذه مسألة ستأتي -إن شاء الله- في كتاب القصاص، حيث نعلم أنه يمتنع قتل الوالد بابنه، فحينئذٍ إذا قتله وهو يريد الميراث منه، فإن الشرع لا يورث القاتل كما هو نص السنة: ( لا يرث القاتل المقتول )، فحينئذٍ عومل بنقيض قصده، إذ لو فتح للناس أن القاتل يرث، فإن الإنسان يقدم على قتل قريبه وهو يعلم أن ورثته لا يقتلونه، فإن الابن قد يقتل أباه، وهو يعلم أن بقية إخوانه سيتنازلون؛ لأنهم لا يرضون أن يفجعوا بأبيهم وأخيهم، فسيتنازلون عن القصاص، فإذا تنازلوا عن القصاص فإنه سيرث، ولذلك سدّ الشرع الذرائع المفضية إلى سفك الدماء والوصول إلى الأموال بهذه الحيل، ونهى عن توريث القاتل ممن قتل، وبناءً على ذلك فإنه لا يرث القاتل المقتول، وذلك معاملة له بنقيض القصد، قال العلماء: ففهم من هذا أن من قصد قصداً محرماً، فإنه يعامل بنقيض قصده، ولذلك قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصده لا مخالفاً له.
فإذا كان قد أعطاه الله مائة وإحدى وعشرين شاةً ويسرّها له، فقصد الشارع أن يعطي المسكين حقه من الشاتين، فإذا جاء يخالف قصد الشارع بنية منكرة، وجحود لنعمة الله عليه، وإضرار بالفقراء والضعفاء، عومل بنقيض قصده، فأوجبنا عليه الشاتين، مع أن ماله في الصورة ليس بمال تجب فيه الشاتان وإنما هو مال تجب فيه الشاة الواحدة.
هذا بالنسبة لما يتعلق بمسألة المعاملة بنقيض القصد.
قال المصنف رحمه الله: [أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول وإن أبدله بجنسه بنى على حوله].
قوله: (أبدله) من بدّل ماله من غنم أو بقر أو إبل، أو ذهب أو فضة أو غير ذلك من أموال الزكاة، فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يبدّله بجنسه مع اتفاق النوع، مثلاً عنده إبل فأبدلها بإبل، كأن يكون -مثلاً- عنده عِراض فأبدلها ببختية؛ لأن الإبل العِراض هي التي لها سنام واحد، والبختية هي التي لها سنامان، فأبدل الإبل بالإبل، حينئذٍ لا إشكال؛ لأن الجنس واحد فيبقى الحكم واحداً، فكأن المال لم يختلف.
الحالة الثانية: أن يبدله بغير جنسه، كأن يكون عنده ذهب وفضة، فاشترى بهما -مثلاً- عقاراً لكي يتاجر به، فحينئذٍ نقول: يستأنف الحول من شراء هذا العقار؛ لأنه خرج عن كونه ذهباً وفضة إلى كونه عقاراً، وخرج عن زكاة الأثمان إلى زكاة عروض التجارة، فحينئذٍ يستأنف الحول من جديد، لكن بشرط: ألا يكون قاصداً الحيلة على الزكاة، مثلما ذكرنا؛ فإنْ قصد الاحتيال على الزكاة؛ كإنسان يكون عنده مليون، فاشترى بها بيتاً قبل تمام الحول حتى يفر من زكاتها ثم باع هذا البيت -مثلاً- واشترى به بيتاً وهو واثق أن البيت سيأتي بقيمته ولا يتغير الحال ولا يقصد الربح ولا النماء ثم يبيعه بنفس القيمة، أو يشتريه وهو يعرف أنه سيخسر، ولكنه يقارن بين خسارته بهذا الشراء وخسارته في الزكاة، فيرى أن خسارته بالزكاة أعظم من خسارته بالشراء، فيشتريه ويبيعه بعد يوم أو يومين، فحينئذٍ نقول: هذا الشراء لاغٍ، وهذا التبديل لاغٍ، وعليه أن يبقى على الحول الأصلي، وذلك معاملة له بنقيض قصده.
إذاً لا بد للفقيه والمفتي أن ينظر إلى قصده، وأن يعلم ما يريد من هذا التبديل، فإن كان تبديله بريئاً ليس خروجاً من الزكاة؛ فإنه حينئذٍ يؤثر إذا كان من غير جنسه، وإن كان من جنسه فإن المال مال واحد وتجب عليه الزكاة.
وقوله: (بنى على حوله) يعني على حول الأصل.
تعلق الزكاة هل هو بعين المال أم بذمة مالكه
قال المصنف رحمه الله: [وتجب الزكاة في عين المال].
قوله: (وتجب الزكاة في عين المال) هذه مسألة خلافية الزكاة هل أوجبها الله في الأموال بعينها، أم أوجبها في ذمتك؟ إما أن تقول الزكاة واجبة في ذمم الناس متعلقة بالمكلفين، أو تقول: الزكاة واجبة في أموال الناس.
فللعلماء وجهان: اختار المصنف رحمه الله مذهب من يقول: الزكاة واجبة في عين المال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( في كل أربعين شاةً شاةٌ ) فإنه عبر بـ(في) جعل في الظرفية، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج:24-25] (في أموالهم) فجعلها حقاً في عين المال.
ومنهم من قال: حق في الذمة.
ما الفرق بين قولك: في عين المال، وبين قولك: في الذمة؟ هذا تترتب عليه فوائد، من ألطفها: لو أن رجلاً امتنع من أداء الزكاة في الغنم، عنده أربعون شاةً، تجب عليه شاة واحدة، فامتنع السنة الأولى وامتنع السنة الثانية وامتنع السنة الثالثة، ثم تاب إلى الله وأراد أن يزكّي، فإن قلت: الزكاة في عين المال، حينئذٍ يكون الواجب عليه شاة واحدة، لماذا؟ لأنها لما كانت في عين المال، وجبت عليه شاة واحدة في السنة الأولى، فأصبح عين هذه الشاة محبّساً وديناً عليه، فأصبح الذي عنده تسع وثلاثون شاة، وإنما تجب الزكاة إذا كان الذي عنده أربعون شاة، والذي عنده تسع وثلاثون فتعلقت الزكاة بعين ماله، وأصبحت هذه الشاة ديناً عليه لا يملكها، فإذا جاءت السنة الثانية جاءت وعنده تسع وثلاثون، وليس عنده أربعون، فحينئذ يكون عليه زكاة سنة واحدة، ولو جلس على هذه الوتيرة عشر سنوات، فالواجب شاة واحدة.
أما لو قلت: متعلقة بذمته، فحينئذٍ تجب عليه ثلاث شياه، الشاة الأولى للسنة الأولى، وهي دين في ذمته، وقد ملك أربعين، فجاءت السنة الثانية وقد ملك الأربعين فعليه شاة ثانية، ثم جاءت السنة الثالثة وعليه شاة ثالثة، فأصبح الواجب عليه ثلاث شياه.
هذا يتفرع على مسألة الحلي، إذا قلنا: على المرأة في حليها زكاة، إذا كانت نصاباً فلو فرضنا أن عندها نصاباً، وحد النصاب تسعون غراماً على أحد الأقوال، التسعون غراماً وجب عليها ربع عشرها، فإن قلنا: يتعلق هذا بعين مالها وهو الحلي، فإنها إذا امتنعت السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة؛ فالواجب عليها زكاة سنة واحدة؛ لأنها لما وجب عليها ربع عشر التسعين جراماً انتقص النصاب عن الحد الواجب، وحينئذٍ تكون في السنة الثانية غير مطالبة بالزكاة وكذلك في الثالثة والرابعة، فإن تابت إلى الله وجبت عليها زكاة سنة واحدة، هذا إذا تعلق الحق بعين المال.
أما لو تعلق حق الزكاة بذمة مالك المال، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة في السنوات مضاعفة مرتبة، ولا نظر إلى تأثيرها في النصاب وعدم تأثيرها، وهذا معنى قوله رحمة الله عليه: أن الزكاة متعلقة بعين المال.
قال المصنف رحمه الله: [ولها تعلق بالذمة].
قوله: (ولها تعلق بالذمة) هي المسألة التي ذكرناها آنفاً، وهذا ينبني على مسألة الدين، يقولون: لو قلت: إنها في عين المال سقطت عنه الزكاة، فإذا دخلت في ذمته يقولون: من جهة الاستحقاق بدليل إيجاب الزكاة على غير المكلف من الصبي واليتيم، فإنك أوجبتها في عين المال، وكذلك أيضاً تجب في الذمة من جهة الاستحقاق، وتفرّع على قول أنها متعلقة بالذمة أنها لا تصح بدون نية، ولا بد له من قصد العبادة، ولا بد له من التوكيل فيها وأن يقصد التوكيل، فلو أخرج إنسان زكاة عن رجل دون أن يأذن له ويوكله، فإنه لا تبرأ ذمته؛ لأنه لم ينو براءة الذمة، فهي عبادة متعلقة بذمته، فلو أن ابناً -مثلاً- تبرع عن أبيه بزكاة فإنها لا تصح؛ لأنها تعلقت بذمة الأب، وهذه الذمة لا بد وأن ينوي بها لإخراجه أصالة أو وكالة، فلما أوقعها الغير دون أن ينويها من تعلقت بذمته لم تجزه من هذا الوجه.
بيان الأمور غير المسقطة لوجوب الزكاة
قال المصنف رحمه الله: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء ولا بقاء المال].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي لا تعد مسقطة لوجوب الزكاة، ومن ذلك عدم القدرة على الأداء، بعد استقرار وجوب الزكاة في ذمة الإنسان، ومثال ذلك: أن يحول الحول على المال، ويكون حوله مثلاً في أول محرم، ثم يُجنّ أو يغمى عليه، ولا يستطيع أن يقوم بأداء هذه الفريضة، فإن طريان الجنون والإغماء عليه يمنعه من القدرة على الأداء، فهذا الطريان لا يؤثر في استقرار الزكاة ووجوبها، كما نص رحمة الله عليه على ذلك، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )، كما في حديث السنن الصحيح، فهذا الحديث بيّن أن الزكاة واجبة في المال، وبناءً على ذلك كونه يغمى عليه ولا يقدر أن يتمكن من الأداء، لا يؤثر في استقرار الوجوب وثبوته، ولزوم مطالبته بهذا الحق، كما لو أنه أُغمي عليه، فإن الصلاة واجبة، فكما طولب بالصلاة يطالب بالزكاة وغيرها من الفرائض على الأصل، إلا ما قام الدليل على استثنائه بالإسقاط، وبناءً على ذلك نص رحمه الله على أنه لا يُسقط مثل هذا وجوب الزكاة عليه، فإن كان مجنوناً وأُقيم وليه مقامه، فإن هذا الولي يخرج الزكاة عنه نيابة؛ لأنه تعذر الأصيل، فأقيم عنه الوكيل، فيخرج عنه الزكاة كما هو الحال في مال اليتيم.
قوله: (ولا بقاء المال).
وصورة ذلك: لو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة، ثم إن هذا المال استبدله بمال آخر بعد وجوب الزكاة عليه، أو حوّله إلى جنسٍ آخر، فلا تزال الزكاة واجبة عليه، ويعتبر مطالباً بهذه الزكاة؛ لأنه قد تعلّقت ذمته بهذه المطالبة، ولا دليل على إسقاطها، فلو أنه بادل هذا المال أو صرف عينه أو وهبه أو تصدق به بعد مضي الحول، فإنه يطالب بإخراج الزكاة.
تعلق الزكاة الواجبة على الميت بتركته
قال المصنف رحمه الله: [والزكاة كالدين في التركة].
قوله: (والزكاة كالدين) أي: حكمها حكم الدين، وتثبت في تركة الإنسان بعد موته، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: إن من لم يؤد الزكاة تعتبر ديناً عليه، تُخرج من ماله بعد وفاته، وأخذ بعموم قوله سبحانه وتعالى: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء:11] ، والآية الثانية: { يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء:12] ، والآية الثالثة: { تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } [النساء:12] ، فقال: إن الزكاة دين لله عز وجل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى ) ، قالوا: فقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم صيام النذر الذي تعلق بذمة الميتة وهي أم السائلة منزلة الدين، فإذا كان صوم النذر ديناً بوجوبه على المكلفة، فكذلك الزكاة صارت ديناً على المكلف بوجوبها؛ بتعلق ذمته بهذا الحق، وبناءً على ذلك، فلو مات ولم يؤد الزكاة، مقصِّراً في ذلك أو غير مقصر، فإنها تعتبر ديناً في ماله، ويُخرج هذا الدين من ماله، ولو تكرر لسنوات عديدة.
ومن أهل العلم من يقول: إن الزكاة لا تبقى متعلقة بذمة الميت، بمعنى: أنه لا يطالب الورثة بإخراجها من التركة، والتركة قد صارت إلى ملكية الورثة، فهم الذين ملكوها بمجرد مرضه للموت، ولذلك لا يتصرف إلا في حدود الثلث، وعلى هذا القول، قالوا: لو فتحنا هذا الباب لأصبح ذريعة للإضرار بالورثة، وهذا يقول به بعض أئمة السلف، ويختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فأصبح كل رجل يؤخر زكاة ماله إلى دنو أجله، فيصير ماله مستحقاً بكماله لسداد ديون الزكاة عليه، والأصل يقتضي رجحان قول الجمهور الذين يقولون: إنها متعلقة بالمال.
ومن أهل العلم من فرّق فقال: إذا فرّط فإنه تجب الزكاة على ماله، وتؤخذ من تركته، وإذا لم يفرِّط فإنه لا تؤخذ من التركة ولا يُطالب بها الورثة، والأول أقوى.

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 05:44 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (179)

صـــــ(15) إلى صــ(23)





الأسئلة
حكم زكاة الجواهر النفيسة من غير الذهب والفضة

السؤال
هل تجب الزكاة في المعادن الأخرى غير الذهب والفضة كالألماس والأحجار الكريمة؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الحلي من الذهب والفضة تجب فيها الزكاة على أصح أقوال العلماء، فإن اشتمل حلي المرأة على ألماس وعلى جواهر أخرى، فإنه لا تجب عليها الزكاة فيه، وبناءً على ذلك يقولون: يختص الحلي بالذهب والفضة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها ...) .
وأما بالنسبة للألماس والياقوت والمرجان واللؤلؤ؛ فهذه إن عرضها للبيع وكانت من عروض التجارة وجبت الزكاة في قيمتها، أما لو تحلّت بها المرأة أو كان فص خاتمها عقيقاً أو نحو ذلك، فإنه لا تجب على من ملكه الزكاة إذا اتخذه للبس وحلي.
والله تعالى أعلم.
حكم زكاة العقارات إذا عرضت للبيع

السؤال
من كانت عنده أرض يتربص بها السوق وينوي بيعها، فهل عليه فيها زكاة؟


الجواب
هذه المسألة وهي مسألة عروض التجارة إذا كانت من العقارات، عندك بيت أو أرض أو مزرعة عرضتها للبيع سنوات ولم تبعها إلا بعد عشر سنوات، فهل الواجب عليك أن تؤدي زكاتها في كل سنة، أم الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فقال بعض العلماء: الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة عندما تبيعها، فإذا بعت الأرض أو بعت المزرعة أو بعت الدار وجبت عليك زكاة سنة واحدة، وبهذا قال سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و خارجة بن زيد و أبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، فهو مذهب الأئمة السبعة -فقهاء المدينة السبعة- واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس ، وهو إحدى الروايتين والوجه أيضاً عند الشافعية، يقولون: إنه تسقط الزكاة عنه وتجب عليه لسنة واحدة.
وهذا هو أصح أقوال العلماء: أن ما عرضته للبيع من بيوتٍ أو عقارات أرضين ومخططات وزراعات كل ذلك لا تجب عليك الزكاة إلا عند البيع، فتزكيها لسنة واحدة ولو مضت عليها سنوات وأنت عارضٌ لها للبيع.
والله تعالى أعلم.
يقولون: أنه ليس مالكاً للمال أصلاً، ولم يثبت ملكه للمال إلا بالبيع، فإنه ربما عرضت للبيع ثلاث سنوات، ثم عدلت عن البيع إلى الملكية والقنية، ولذلك قالوا: إنه لا تجب عليك الزكاة، ثم إنك ربما -كما هو موجود الآن- ربما يكون قيمة العقار الآن مائة ألف ثم في السنة الثانية مائة ألف والثالثة مائة ألف والرابعة إلى عشر سنوات وقيمته مائة ألف، ثم ينزل هذا العقار حتى يباع بخمسة آلاف وقد يباع بعشرة آلاف، فتزكي طيلة هذه السنوات ثم تبيع ولا يبلغ قيمة بيعك ما زكيت.
وهذا موجود، خاصة الآن ربما كان المكان مرغوباً لسبب، ثم يشاء الله عز وجل لأمر أو لآخر أن يصبح هذا المكان كأنه لا قيمة له، فبدلاً من أن تكون قيمته مئات الألوف ولربما تبلغ الملايين يصبح لا قيمة له، ولذلك قالوا: إنه لا يزكي إلا عند بيعه؛ لأنه لما باع تحققت ملكيته للأرض، وأصبح هذا المال أشبه بالديون وأشبه بالمال غير الموجود، حتى يتحقق من بيعه، ولأن نيته غير ثابتة؛ إذ لو طرأ عليه طارئ للسكنى والقنية ونحو ذلك، فإنه سيسكن ويقتني ويخرج عن كونه متاجراً.
والله تعالى أعلم.
حكم زكاة الدين الذي لا أجل له

السؤال
ما حكم الدين الذي لم يسم له أجل، بل ترك أمره إلى المدين متى شاء سدده، هل تجب زكاته، أم لا؟


الجواب
إذا كان الدين لا أجل له، فإنه ينظر في صاحبه، فإن كان قادراً على السداد، فإنه يجب أن يحتسب وجوبه منذ قدرته على السداد، ويفصّل فيه كما فصّل في المليء، وأما إذا بقي عاجزاً عن السداد لسنوات طويلة فلا زكاة عليه حتى يسدده، وإذا سدده زكاه لسنة واحدة.
والله تعالى أعلم.

زكاة الأنعام إذا تعدد الملاك ووقعت الخلطة


السؤال
والدي ووالدتي لهما غنم تبلغ بمجموعها النصاب، ولكن كل واحد يطعم غنمه على حدة، ومبيتهما في حظائر متجاورة، فهل عليهما زكاة كلٌ على حدة، أم بمجموعهما؟


الجواب
هذه المسألة هي مسألة الشركة في بهيمة الأنعام، فشرط اعتبار المالين مالاً واحداً أن يكون مراحهما واحداً ومرعاهما واحداً وفحلهما واحداً، فإذا كان الأمر كذلك فإنه تجب الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجمع بين مفترق، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الزكاة ) .
فإذا كان المال على هذه الصفة فإنه تجب فيه زكاة المال الواحد؛ فلو ملك أحدهما عشرين شاة، وملك الآخر عشرين شاة، وجبت عليهما شاة واحدة، يدفعها أحدهما، ثم نقدر قيمة هذه الشاة، ويجب على الآخر أن يدفع نصف قيمتها، فلو أن هذه الشاة أُخذت من أحد الشريكين وقيمتها خمسمائة ريال، فإننا نوجب على الشريك الثاني أن يدفع له مائتين وخمسين ريالاً، وقس على هذا.
وأما إذا كان مراحهما مختلفاً، أو كان لكل واحد منهما حظيرة، ومرعاهما مختلف، أو كانت من المعلوفة كما ورد في السؤال ، فإنه لا تجب زكاتهما، وليسا بمال واحد، وإنما هما مالان مختلفان.
والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج زكاة الدين المقسط


السؤال
لقد استدان مني أحد الناس مبلغاً وقدره عشرون ألفاً، وهو يدفع لي المبلغ أقساطاً؛ كل شهر مقدار تسعمائة، فهل في هذا المال زكاة؟


الجواب
إذا مضى على هذا الدين سنة كاملة وحلّ أجل مطالبته، فحينئذٍ تنظر إلى كل قسط وتزكيه على حدة، وتجب عليك زكاة كل قسط منفرداً، فتؤديه لسنة واحدة.
والله تعالى أعلم.

حكم المطالبة بأداء الدين بعد إبراء المدين منه


السؤال
لو أن لي عند شخص مالاً، ثم أبرأته منه بسبب عجزه عن السداد في ذلك الوقت، ثم إن الله منَّ عليه بالمال وأصبح غنياً، فهل لي أن أطالبه به الآن؟ وما حكم ذلك؟ وهل له أن يرفض السداد؟


الجواب
إذا سامحت أحداً في الدين فقد وهبته المال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )، مضى أجرك على الله، واحتسب ثوابك عند الله، ولا تفسد عليك آخرتك بدنياك.
والله تعالى أعلم.
عقوبة تارك الزكاة

السؤال
ما عقوبة تارك الزكاة يوم القيامة؟

الجواب
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها، فأحميت؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرّ عليه أخراها أعيد عليه أولاها؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ثم ذكر ذلك في الغنم.
فهذه هي عقوبته في الآخرة.
وأما عقوبته في الدنيا، فمحق البركة من الأموال، وسوء العاقبة والمآل، ومن ضيّع حق الله ضيعه الله كما ضيّع حقه، ولينتظر كل من ضيّع أمانة الله وحقّه في الزكاة عقوبة عاجلة في نفسه أو ماله أو أهله وولده.
والله تعالى أعلم.
تعلق الأحكام بغلبة الظن

السؤال
ما معنى قولكم: (إن الله تعبدنا بغلبة الظن)؟

الجواب
معنى ذلك أن الشرع جعل غالب الظن محكوماً به، وقد قرر ذلك العلماء، ومن أنفس ما كُتب في ذلك كتاب الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ومصالح الأنام، قال: إن الشريعة بنيت على غالب الظن في كثير من المسائل، والدليل على هذا أمور: أولاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد ) ، فالقاضي يقضي في الدماء ويقضي في الأعراض ويقضي في الفروج ويقضي في غيرها من حقوق الناس بشاهدين، مع أن هذين الشاهدين ربما نسيا، وربما أخطأا، وربما توهما، وربما كذبا وزورا والعياذ بالله، فقد يستباح دم الرجل إذا شهد شاهدان عدلان أنه قتل فلاناً، فإذا شهد الشاهدان أنه قتل فلاناً، فإنه حينئذٍ يستباح دم المشهود عليه، ويُحكم بالقصاص، وتثبت حقوق القتل سواءً بسواء، كمن أقر، مع أن هذين الشاهدين ربما أخطأا وربما دلّسا وكذبا، ومع ذلك نحكم بشهادتهما؛ لغلبة الظن في أنهما لمّا زُكّيا وعرفت أمانتهما وعدالتهما أنهما صادقان، فغلب على ظننا صدقهما وحكمنا بذلك، هذا بالنسبة لحقوق العباد مع العباد.
وتعبّدنا الله بغلبة الظن فيما بيننا وبينه سبحانه وتعالى، فنحن نحكم بدخول شهر رمضان وخروج شهر رمضان، فنبني عبادة وركناً من أركان الإسلام، وكذلك حج الناس بشهادة الشهود على الهلال، مع أنه ربما كذب الشهود وربما أخطئوا وربما توهّموا، وأنت تدين الله عز وجل، وتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك، مع أنه يحتمل أنه أخطأ، تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فتمسك عن صيامك، وتسمعه يؤذن لأذان المغرب فتفطر من صيامك، وتعتد بذلك في عبادة هي ركن من أركان دينك، مع أن المؤذن يحتمل أنه أخطأ، ويحتمل أنه لم يصب الحقيقة في كون الشمس غربت أو كون الفجر قد طلع، ومع هذا جعل الله ذلك عبادة في الصلاة، وجعله عبادة أيضاً في الزكاة، فإن الإنسان يبني على غالب ظنه في الزكوات، فإن الإنسان إذا غلب على ظنه ملكيته لمال، بنى على غلبة الظن في ملكية المال، وبنى على غلبة الظن في الحول، وكل ذلك مما يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى به في زكاته، كذلك أيضاً في صومه وحجه، وقس على ذلك مما لا يُحصى كثرة.
فلو تعبدنا الله باليقين لحصل على الناس من الحرج ما الله به عليم، فأنت حينما تخرج من بيتك لصلاتك وأنت على طهارة، فإنك ربما جلست ساعة فيما بين طهارتك وبين صلاتك، ولا تتحقق يقيناً أنك لم تحدث، فلربما خلال الساعة خرج منك شيء، لكن غالب الظن أنك على طهارة، وأن طهارتك باقية، فتحكم بكونك متطهراً، وتستبيح الوقوف بين يدي الله عز وجل بغالب ظنك، وقس على هذا سائر الأحكام.
فإن الإنسان مثلاً لو قال لامرأته كلمة من كلمات الطلاق، وهذه الكلمة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إنها طالق، ومنهم من يقول: إنها غير طالق، فلو ذهبت إلى عالم وفقيه معتدّ بفتواه ومعتد باجتهاده، فأفتاك أنها امرأتك، فقد جعل الله السماحة على لسانه، فتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك من إصابة هذا المجتهد، مع أنه يحتمل أن يكون أخطأ وأنها ليست بامرأة لك، وأنها قد حرمت عليك.
فقس على ذلك من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك يقول العز بن عبد السلام كلمة نفيسة، يقول رحمه الله: إن الشرع يبني على غلبة الظنون، ولا يبني على ضعيف الظن، وغالب الظنون كالمحقق، ولو ذهبنا نعتبر أن الظنون الغالبة فاسدة لفسدت أحوال العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فمن رحمة الله عز وجل أن تعبدنا بهذا الغالب على الظن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد.


ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:14 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (180)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





شرح زاد المستقنع - باب زكاة بهيمة الأنعام
من رحمة الله على عباده أن فرض عليهم زكاة في أموالهم من نقود وأنعام وغيرها، فهي طهرة للغني، وعون للفقير وبلاغ يتبلغ بها، وليعلم كل غني أن الزكاة حق للفقير، وأن المال مال الله سبحانه وتعالى، فلا يمن به على الفقير، وليعلم أن الله عز وجل استخلفه في هذا المال، فليؤد حق الله تعالى فيه.
أصناف الأنعام التي تجب فيها الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة بهيمة الأنعام].
قوله: (بهيمة) فهي مأخوذة من أبهم الشيء، وإبهام الشيء استشكاله وعدم وضوحه، وقالوا: إن البهيمة سمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتمكن من النطق والكلام، ومن هنا يقال: كلامٌ مبهم، أي غير واضح، قالوا: لأن البهيمة لا تستطيع الكلام ولا الإبانة والإفصاح عما في نفسها، فسمِّيت بهيمة لذلك.
وقوله: (الأنعام) من النعم، والأنعام تشمل: الإبل، والبقر، والغنم، كما قاله أئمة اللغة ومنهم: الأزهري رحمه الله، تشمل كلمة الأنعام هذه الأصناف الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فلا يدخل في ذلك الوعول ولا الظباء ولا الغزلان، ولا غير ذلك من بقية الحيوانات.
فقوله: (باب زكاة بهيمة الأنعام) أي: في هذا الموضع سأذكر جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالزكاة الواجبة في الإبل والبقر والغنم، وهذه هي التي أمر الله عز وجل بزكاتها، فالإبل تشمل الإبل العراض والبختية، والغنم تشمل الضأن والماعز، والبقر يشمل البقر المعروف والجواميس، فهذه كلها تعتبر من بهيمة الأنعام.
حكم زكاة ما تولد من الأنعام ومن غيرها

ما تولَّد وكان أنثاه من بهيمة الأنعام، وذكره من غير بهيمة الأنعام أو العكس، ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: ما تولد وكان أصله مما تجب فيه الزكاة، كأن تكون أمه بقرة، فإنه يأخذ حكم الزكاة، بمعنى أنه تجب فيه الزكاة، ويأخذ حكم أمه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( الولد للفراش، وللعاهر الحجر )، فأتبع المولود لأمه، فإذا كان الذكر (الفحل) لا تجب في جنسه الزكاة، والأنثى تجب فيها الزكاة، فإن المتولد منهما يتبع أمه، وتجب فيه الزكاة.
أسباب ذكر زكاة الأنعام قبل غيرها
ابتدأ المصنف رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام لأسباب، من أهمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام قبل زكاة النقدين في كتابه المشهور الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، والذي يسميه العلماء: كتاب الصدقة، وهو أهم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنصبة الزكاة، ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه فيه ببيان الأنصبة المتعلقة بالإبل والبقر والغنم، ثم بعد ذلك ذكر نصاب الذهب والفضة وبينه صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك أيضاً من الأسباب الداعية لتقديم زكاة بهيمة الأنعام: أنها أعز ما كانت العرب تملكه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمُر النعم )، فكانت أعز ما يملكه الإنسان، وتتفاخر به العرب، لأنها كانت تحب هذا النوع من المال، ومن هنا قال سبحانه وتعالى في أمارات يوم القيامة: { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } [التكوير:4]، وهي من أعز ما كانوا يملكونه، وهي الناقة العشراء، (عطلت) أي: لم يُحمل عليها، وقيل: (عطلت) بمعنى: أن الإنسان من شدة أهوال يوم القيامة لم يلتفت إلى أعز ماله وهي الناقة العشراء.
سيتكلم رحمه الله عن على الثلاثة الأنواع وهي: الإبل والبقر والغنم، ويبدأ بالإبل ثم يتبعها بالبقر ثم يتبعها بعد ذلك بأنصبة الغنم.
شروط وجوب الزكاة في الأنعام
قال رحمه الله: [تجب في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ إذا كانت سائمة الحول أو أكثره].
أي: تجب الزكاة في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لورود النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس في بهيمة الأنعام خلاف، قالوا: إن الزكاة فيها واجب.
وقوله: (سائمة) من السوم وهو الرعي، وقيل: إنه مأخوذ من السيماء وهي العلامة، كما في قوله تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [الفتح:29] ، فالسوم قالوا: توصف الغنمة به؛ لأنها تُعْلِمُ الأرض، والرعي الذي هو السوم يعتبر شرطاً لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام، فالبهائم: الإبل والبقر والغنم تنقسم إلى قسمين: إما سائمة ترعى، وإما معلوفة، ويتفرع على ذلك قسم ثالث ينبني عليهما وهو الجامع بين السوم والعلف، فما كان منها سائم، فإنه تجب فيه الزكاة بالإجماع، بمعنى: أن الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى، فالعلماء متفقون على وجوب الزكاة فيها.
أما المعلوفة: فهي التي يشتري الإنسان لها العلف، أو يأخذه من مزرعته، أو يذهب بنفسه يجنيه ويحشُّه من الأرض ثم يعطيه للبهيمة، ولا يخرجها من حظيرتها، فهذه معلوفة، سواءً اشترى أو ذهب وجمع لها ثم أطعمها، فإذا كانت البهيمة معلوفة، فللعلماء فيها قولان: منهم من يقول: البهيمة المعلوفة تجب فيها الزكاة كما تجب في السائمة؛ لأن الأصل يقتضي وجوب الزكاة في جميعها.
والقول الثاني: أن الزكاة لا تجب في المعلوفة.
فأصحاب القول الثاني وهم الجمهور، يقولون: إن المعلوفة لا تجب فيها الزكاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من الإبل السائمة )، وقوله في كتاب الصدقة وفي السنن: ( وأما الغنم ففي سائمتها في كل أربعين )، فقوله في سائمة الإبل، أو الغنم: في سائمتها، يدل بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة، وهذا المفهوم هو الذي يسميه الأصوليون: مفهوم الصفة، فإن السوم صفة، والمفهوم له عشرة أنواع، ومنها: النوع الذي هو الصفة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (في سائمتها) مفهومه: أن المعلوفة التي لا ترعى لا تجب فيها الزكاة،وهذا كما قلنا: مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح: أن البقر والإبل والغنم إذا لم ترع لا تجب فيها الزكاة.
إذا ثبت أنه لا بد من السوم، يبقى النظر في النوع الثاني وهو الذي جمع بين السوم والعلف، فالذين قالوا باشتراط أن تكون سائمة؛ منهم من يقول: العبرة في السوم بأكثر الحول، وبناءً على ذلك فلو جمعت بين السوم والعلَف ننظر، فإن كانت أشهر السوم أكثر من أشهر العلف، فإنه تجب فيها الزكاة، وإن كانت أشهر العلف أكثر من أشهر السوم فلا تجب فيها الزكاة، مثال ذلك: لو كانت عنده أربعون من الغنم، وهذه الأربعون ترعى ثمانية أشهر وأربعة أشهر تكون في حظائرها ويعلفها، فإن الأكثر للسوم والرعي، فتجب فيها الزكاة، وأما إذا كان العكس وهو أنها ترعى أربعة أشهر وتُعلف ثمانية أشهر، فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها معلوفة، هذا حسب ما قيل في اشتراط السوم، فإذاً العبرة في السوم بأكثر الحول.
وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إذا سامت ورعت ولو بعض الحول تجب فيه الزكاة، ولا يفرِّق بين كونه أكثر الحول أو أغلب الحول.
والصحيح: أن الزكاة فيها إذا جمعت بين السوم والعلف تابع للغالب عليها، فإن كان الغالب عليها أن تعلف فلا زكاة إلا إذا كانت من عروض التجارة، فالزكاة في قيمتها، وأما إذا كانت تسوم وترعى أكثر الحول، فإن الزكاة تجب فيها؛ لأن الحكم للغالب منهما.
إذاً: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيها مسألتان بالنسبة لوجوب الزكاة فيها: المسألة الأولى: أنه لا تجب فيها الزكاة إلا إذا رعت، وكانت تسوم.
المسألة الثانية: أن يكون السوم في أكثر الحول، فإذا كان أكثر الحول للسوم وجبت فيها الزكاة.
وأما إذا كانت معلوفة؛ يُعلفها صاحبها ويطعمها أكثر الحول، أو كل الحول، فلا تخلو نيته من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قصده منها أن يأخذ غلتها، وأن يستفيد من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، فإذا كان قصده نماء المنفصل منها، فإنه حينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ كما إذا قصد منها أن يشرب من ألبانها، فيكون عنده أربعون من الغنم من أجل أن يشرب حليبها، وأن ينتفع من صوفها، وكذلك أيضاً يجعلها للضيف وللقرى ونحو ذلك، فهذا لا تجب عليه الزكاة.
الحالة الثانية: أن يقصد منها التجارة، كأن تكون عنده أربعون من الغنم ويقصد منها أن يبيع ويشتري، فيأخذ منها مجموعة لكي يطعمها ويقيم عليها حتى إذا غلت أسعارها أو كبرت أسنانها ذهب بها إلى السوق وباعها، فهذا زكاته زكاة عروض التجارة.
فخلاصة ما سبق: أن بهيمة الأنعام لها حالتان: إما أن تكون سائمة سواء كانت سائمة كل الحول أو أكثر الحول ففيها الزكاة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وإما أن تكون معلوفة، فإن كانت معلوفة: فإما أن تكون بقصد النماء لما يكون منها؛ من حليبها وأصوافها، وتكون طعمة للضيف وطعمة للبيت، فهذه لا زكاة فيها، وإما أن يقصد منها أن يبيعها ويستفيد بالمال الذي يبيعها به، فهذا حكمه حكم عروض التجارة، تقدّر عند كل حول وتكون الزكاة في قيمتها، فالفرق بين كونها تجب فيها الزكاة كسائمة وتجب فيها الزكاة كعروض التجارة: أننا إذا أوجبنا فيها الزكاة كسائمة، يُعتبر فيها النصاب وهو أربعون، وأما إذا أوجبنا الزكاة فيها كعروض تجارة فتكون العبرة بالقيمة، فلربما يكون عنده أربع شياه وتجب عليه الزكاة؛ لأن قيمتها تصل إلى نصاب زكاة عروض التجارة.
نصاب زكاة الإبل
قوله: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض].
ابتدأ رحمه الله بالأعلى وهي الإبل، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما كتب كتابه الذي رواه عبد الله بن أنس عن أبيه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ابتدأ بالإبل، فبين عليه الصلاة والسلام أنصبتها والأسنان الواجبة فيها، فيكون ابتداء المصنف رحمه الله بها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والإبل فيها حقان: الحق الأول ليس من الإبل نفسها وهو الحق الواجب، وإنما هو من الغنم، والحق الثاني يكون من الإبل نفسها، فأما الحق الذي يجب من الغنم فإنه يبتدئ بالخمس من الإبل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: ( ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة )، فإذا كان عند الإنسان خمس من الإبل فإنه تبتدئ فرضية الزكاة بهذا العدد، وما دونه كأن يكون عنده أربع من الإبل أو ثلاث أوناقتان أو ناقة فلا زكاة، إلا إذا كانت لغرض التجارة.
فإن كانت عنده خمس من الإبل وجب عليها شاة، فإن بلغت عشراً ففيها شاتان، فإن بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، فإن بلغت العشرين ففيها أربع شياه، فإن بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذاً تبتدئ بالغنم في كل خمس منها شاة، هذه الشاة يشترط فيها ما يشترط في الأضحية من سلامتها من العيوب، وبلوغها للسن المعتبرة، فلا يجزئ إلا الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلا يُخرج أي شاة، بل يشترط في الشاة التي تدفع زكاة عن هذه الخمس أن تكون قد بلغت السن المعتبرة؛ ففي الماعز يشترط أن تتم سنة كاملة، وتدخل في الثانية وهو الثني من الماعز، وفي الضأن تبلغ أكثر الحول؛ لأنه يكون جذعاً إذا فاق الستة الأشهر، خاصة إذا كان مرعاه طيباً.
فالمقصود: أن زكاة الإبل تبتدئ في الشاة الواحدة في كل خمس، وما دون الخمس لا زكاة فيه، إلا إذا قصد بهذه النوق البيع والشراء، فتقول له: زكاتك زكاة عروض التجارة خارجة عن مسألتنا؛ لأننا نتكلم على زكاة الإبل من حيث هي بوجوب النصاب فيها، فإذا بلغت خمساً وعشرين يقول عليه الصلاة والسلام: ( ففيها بنت مخاض )، والماخض: الحامل، وبنت مخاض أي: بنت ناقة حامل، ومعنى ذلك: أنه تمت لها سنة واحدة، ودخلت في الثانية، ويقولون لها: ماخض؛ لأن أمها قد حملت من بعدها فتكون ماخضاً، هذه تجب في كل خمس وعشرين إلى أن تبلغ ستاً وثلاثين، فمن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، وبنت اللبون: هي التي تمت سنتين ودخلت في الثالثة، واللبون: هي أم المرضعة ذات اللبن، فقد أنجبت ما في بطنها، وأخرجت ما في بطنها، فأصبحت ترضعه، فهي لبون، فبنت لبون أي: بنت ناقة لبون، فمعنى ذلك: أنه تمت لها السنتان.
هذا إذا جاوزت الخمسة والثلاثين إلى ست وثلاثين، فمن ست وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة؛ وهي طروقة الفحل، وصفت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل، وقيل: استحقت أن تُركب وأن يحمل عليها، الحقة تمت لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، فإن بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، والجذعة تمت لها أربع سنوات ودخلت في الخامسة؛ لأنها تجذع أسنانها، بمعنى أنها تسقط، إلى أن تبلغ خمساً وسبعين، فإذا جاوزت الخمس والسبعين إلى ست وسبعين، فمن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، فيكون الواجب فيها بنتا لبون من ست وسبعين إلى تسعين، فإن جاوزت التسعين إلى إحدى وتسعين، فمن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل، هذا هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأنصبة الإبل التي بيّنها عليه الصلاة والسلام وفصلها، كما في حديث أنس .
من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها بنت مخاض، ومن ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة، ومن إحدى وستين إلى خمس وسبعين فيها جذعة، ومن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، ومن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل.
هذا يحتاج إلى أن يحفظه طالب العلم ويضبطه على نفس الوصف الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك يكون الحكم مختلفاً، إذا بلغت مائة وعشرين، من بعد مائة وعشرين إن زادت عليها، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
بعد المائة والعشرين إذا جاوزتها بالعشرات فإنه للعلماء فيها قولان: منهم من يقول: تُستأنف الفريضة، واستئناف الفريضة يرى أنه بعد المائة والعشرين تنظر خمسة وعشرين ففيها شاة، ثم ثلاثين فيها شاتان، مائة وخمسة وثلاثين ثلاثة شياه، مائة وأربعين أربعة شياه، مائة وخمسة وأربعين، حينئذ تبدأ تضيف عليها أي: يستأنف الفريضة، وهذا قول مرجوح.
والصحيح مذهب الجمهور: أنها إذا بلغت مائة وعشرين وجاوزت المائة والعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، والمسألة حسابية، فالمائة والثلاثون: إذا جئنا ننظر إلى مائة وعشرين قبلها ففيها حقتان حسب حكم الشرع الصريح، ولو اعتبرنا القاعدة الحسابية التي تنص أن كل أربعين فيها بنت لبون، لكان فيها ثلاث بنات لبون، فإذا كان لديك نصاب زكاته من بنات اللبون، ثم زدت فوق ذلك النصاب عشراً من الإبل، فأسقط واحدة من بنات اللبون وأدخل حقة، ثم إن زادت عشراً أخرى فأسقط بنت لبون أخرى وأدخل حقة، توضيح ذلك بالتطبيق: فمائة وثلاثون فيها بنتا لبون وحقة، فبنتا اللبون عن الثمانين والحقة عن الخمسين، فإن جاوزت إلى مائة وأربعين ففيها حقتان عن مائة وبنت لبون عن أربعين، فإذا جاوزت إلى مائة وخمسين فأسقط بنت اللبون، وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث حقائق عن مائة وخمسين، فإن وصلت إلى مائة وستين ففيها أربع بنات لبون؛ لأن مائة وستين إذا قسمت على أربعين كان الناتج أربعة، ففيها أربع بنات لبون، فإن وصلت مائة وسبعين فأسقط واحدة منهن وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث بنات لبون وحقة، أما مائة وثمانين ففيها بنتا لبون وحقتان، حقتان عن مائة وبنتا لبون عن ثمانين، وسر على هذا، حتى تجتمع في بعض الأحيان الفريضتان، وكلما زادت عشراً سقطت واحدة من بنات اللبون ودخلت بدلها حقة؛ لأن الفرق بين الحقة وبنت اللبون إنما هو العشر، وبناءً على ذلك تستقيم الفريضة بعد هذا بهذا التفصيل، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
[وفيما دونها في كل خمس شاة].
يعني: فيما دون الخمس والعشرين في كل خمس شاة، فالخمسة فيها شاة والعشرة شاتان، والخمسة عشر ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه، وهذا أعلى ما يجب من جهة الغنم، فإن بلغت خمسة وعشرين فإنها تبتدئ بالواجب من الإبل نفسها، تبدأ ببنت المخاض، ثم تليها بنت اللبون، ثم تليها الحقة، ثم تليها الجذعة، ثم تجمع بين بنتي اللبون، ثم بين الحقتين على التفصيل الذي بيناه.
[وفي ست وثلاثين بنت لبون].
دون الستة والثلاثين فيها بنت مخاض، ولاحظ أنه قال: بنت لبون وبنت مخاض، فلا يقبل إلا الإناث -إلا في بنت المخاض يمكن أن يقبل بدلها ابن اللبون الذكر- والسبب في هذا: أن وجوب بنت اللبون وبنت المخاض والحقة والجذعة، إنما هو لكون الأنثى تنجب ويكون منها النسل، ويكون منها الحليب فنماؤها خير لبيت المال، فجعلها الله عز وجل واجبة من الإناث وهي أحق، لكن لو كانت الإبل ليس فيها إلا ذكور، فللعلماء فيها وجهان: منهم من قال: ألزمه بالبحث عن أنثى وليخرجها.
ومنهم من قال: إذا لم يكن عنده إلا الذكور يخرج ابن مخاض وابن لبون ونحو ذلك فيما ذكروه رحمة الله عليهم على نفس الترتيب الذي يكون في الإناث.
القول الثاني هو الأقوى، وسيأتي أنه اختاره جمع من العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن كل مال تجب الزكاة فيه من نوعه.
[وفي ست وأربعين حقة].
وهي كما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( فيها حقة طروقة الفحل )، قالوا: سميت حقة؛ لأنها استحقت أن تطرق بالفحل، واستحقت أن يُحمل عليها ويركب.
[وفي إحدى وستين جذعة].
لأنها جذعت أسنانها.
[وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة].
اختلف العلماء فيما بين المائة والعشرين وما بين المائة والثلاثين، فقد ذكرنا بعض العلماء يدخل الشياه في كل خمس فيجعل الخمس فيها شاة والعشر فيها شاتان، وقلنا: إن هذا مذهب مرجوح.
والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن زادت ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة )، فبعض العلماء يقول: إذا كانت مائة وعشرين، وزادت واحدة فإنني أوجب ثلاث بنات لبون بدل أن كانت على المائة والعشرين مستقرة بحقتين، وبناءً على ذلك يرى أن بنات اللبون تكون بزيادة الأفراد فيما بين مائة وعشرين ومائة وثلاثين، وقال بعض العلماء: لا يجب فيما بين ذلك، وهذا الوقص الذي يكون بين الفريضتين لا يجب فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل أربعين) و (في كل خمسين) فكأنه يشير إلى ما يقبل القسمة على الأربعين والخمسين، ويجمع ما بين الأربعين والخمسين، فمائة وإحدى وعشرين لا تعتبر جامعة بين الخمسين والأربعين، وبناءً على هذا فإن المائة والعشرين المائة والإحدى والعشرين والاثنتين والعشرين، والثلاث والعشرين، والأربع والعشرين، حتى تبلغ مائة وثلاثين، فما دون المائة والثلاثين يرى أن فيه حقتين على الأصل الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.

يتبع

ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:15 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (181)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





نصاب زكاة البقر
يقول رحمه الله: [فصل: ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة].
هذه زكاة البقر، وسمي البقر بقراً من البقْر وهو شق الشيء، قيل: سمِّي البقر بذلك؛ لأنه يشق الأرض بالحراثة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واتبعتم أذناب البقر )، أي: بالحراثة والزرع، وزكاة البقر واجبة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليها كما في حديث معاذ حينما بعثه إلى اليمن.
والجزيرة العربية يقل فيها وجود البقر، وإنما كان المشهور فيها الإبل والغنم، وأما البقر فكان قليل الوجود في جزيرة العرب، وذلك لكونه يطلب المرعى الأكثر، ولا يرتفق في الصحراء، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم زكاته حينما بعث عامله معاذاً على اليمن، وكان البقر موجوداً هناك، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر من النصاب، في كل ثلاثين تبيع، وهو الذي تمت له سنة ودخل في الثانية، وُصِف بذلك؛ لأنه يتبع أمه، ويكون وراءها، هذا التبيع يجب في كل ثلاثين، واختلف العلماء فيما دون الثلاثين من البقر كخمس من البقر وعشر وخمس عشرة وعشرين، قال بعض العلماء: نقيسها على الإبل، ففي كل خمس من البقر شاة، وفي كل عشر شاتان، وفي كل خمس عشرة ثلاث شياه قياساً على الإبل، وهذا القول يقول به سعيد بن المسيب ، والإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمة الله عليهم، لكن جماهير السلف يقولون: لا يجب فيما دون الثلاثين من البقر زكاة، وهذا هو الصحيح؛ لأن معاذاً رضي الله عنه -كما في حديث الدارقطني و البيهقي وغيرهما، رحمة الله عليهم- قال: ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ في البقر من كل ثلاثين تبيعاً )، فدل على أن ما دون الثلاثين لا تجب فيه الزكاة؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ووجوب الحق فيها.
قوله: تبيع، التبيع ذكر، أو تبيعة، وهي الأنثى، ولذلك يقولون: لا يؤخذ الذكر إلا ابن لبون، بدل بنت المخاض في الإبل، والتبيع أو التبيعة يخيّر بينهما في البقر، هذا بالنسبة لبهيمة الأنعام، وإلا فالأصل أنها تؤخذ من الإناث، فلا يؤخذ إلا الأنثى؛ لأنه أحب لبيت المال، وأحب للفقراء، وهو منصوص الشرع، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأنثى، ولذلك لا يخرج الذكر بدلها إلا في هذا الموضع، أو ما ذكرناه من كون ماله كله من الذكور.
[وفي أربعين مسنة].
وهي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة، والمسنة من الإناث، ثم بعد ذلك في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، وإذا بلغت السبعين ففيها تبيع ومسنة، وإذا بلغت الثمانين ففيها مسنتان، وإذا بلغت التسعين ففيها ثلاثة أتبعة، وإذا بلغت المائة أسقط تبيعاً منها وأدخل مسنة، فتقول: فيها تبيعان ومسنة، وقس على هذا، التبيعان بالستين والمسنة بأربعين، أصبح المجموع مائة، وقس على هذا حتى تجتمع الفريضتان في مائة وعشرين، في مائة وعشرين من البقر يخيّر، نقول له: إن شئت أخرج أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات، إن شئت أن تخرج هذه أو تخرج هذه، فالثلاث المسنات تعادل مائة وعشرين، والأربعة الأتبعة تعادل مائة وعشرين، يسمونه: اجتماع الفريضتين، حينئذٍ يخيّر، كمائتين في الإبل، يجتمع فيها بنات اللبون مع الحقاق، إن شاء أخرج في المائتين خمس بنات لبون أو أربع حقاق، ولا يلزم بواحدة منه إن شاء هذا أو ذاك.
[وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ويجزئ الذكر هنا، وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً].
هذا كله بيّناه، يعني: ابن لبون بدل بنت المخاض إذا لم يجد رب الإبل بنت مخاض فإنه يقول له الساعي: أخرج بدلاً منها ابن لبون ذكر؛ لأنه قد يستفاد منه فيكون فحلاً لهذه الإبل، وهذا منصوص الشرع، ولذلك لا يجتهد ولا يقال بالصيرورة إلى الذكور، إلا في حالة ما إذا كان المال كله ذكوراً، ويستوي البقر والجواميس في الزكاة.
خلطة الأنعام وأثرها في أحكام الزكاة

قال رحمه الله: [والخلطة تصيِّر المالين كالواحد].
بعد أن بين لنا الأنصبة، شرع في بيان الأحكام المتعلقة ببهيمة الأنعام، فقال: (والخلطة تصيِّر المالين واحداً) الخلطة: من الاختلاط، واختلط الشيء بالشيء إذا دخل فيه، تقول: اختلط الليل بالنهار إذا قارب طلوع النهار، وكذلك إذا قارب دخول الليل، فالخلطة أصلها دخول الشيء في الشيء، والعرب والناس عادةً إذا كانت عندهم البهائم لا يخلون من حالتين: إما أن ينفرد كلٌ منهم بغنمه وإبله وبقره، بالمرعى والمراح، فحينئذٍ لا إشكال، والمال للرجل والزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، لكن هناك إشكال، وهو أن يكون عندي من الشياه والغنم ما لا يبلغ النصاب، وعندك مثله، فلو جُمع المالان بلغا قدر النصاب، وكان بين مالي ومالك خلطة؛ شراكة شيوع؛ كأن نملك ستين من الغنم لك نصفها ولي نصفها؛ كرجل توفي عن ابنين وله ستون من الغنم، تقسم بين الابنين الذكرين هذا له ثلاثون وهذا له ثلاثون، فالمال بينهم مشاع؛ فهذه خلطة، إن جئنا ننظر إلى الابن الأول فله ثلاثون، وإن جئنا ننظر إلى الثاني فله ثلاثون، وكل من الثلاثين عند كل واحد منهما دون النصاب، لكن الذي أمامنا من المال هو ستون شاة، وقد بلغت النصاب، فالخلطة سواءٌ كانت بالشركة لإرثٍ أو شراكة بينهما في المال لعلاقة من قرابة ونحو ذلك، أو كانت في المراح كما يقع في القبائل وأبناء العم، وأحياناً تكون القبيلة مرعاها واحد، ويجتمع الثلاثة والأربعة والخمسة في مرعى واحد، تذهب إبلهم مع بعضها، وترجع مع بعضها، ويكون مراحها ومكان ظعنها وبقائها واحداً، فهذه تأخذ حكم المال الواحد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة )، فأعطى المالين المجتمعين حكم المال الواحد، فيشترط أن يكون المرعى واحداً، والسوم واحداً، والفحل واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل وتكون فيه واحداً فلا يختلف، والمحلب وهو المكان الذي تحلب فيه على أحد القولين عند العلماء رحمة الله عليهم واحداً، فهذا غالباً ما يكون في البادية، في البادية يتيسر فيه أكثر لسعة المكان، فتجد المالين كالمال الواحد، مرعاهما واحداً، والمكان الذي تسوم فيه الإبل واحداً، والفحل الذي يضرب واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل واحداً، والمكان الذي تحلب فيه واحداً، فإذا جمعت هذه الأوصاف فهي مال واحد، فإن كانت الغنم ستين شاة لكل واحد منهما ثلاثون، ففيها شاة واحدة، ولو نظرنا إلى ملكية كل واحد منهما لم تجب الزكاة فيه، هذا ثلاثون وهذا ثلاثون، لكن لأنهما بهذه الصفة وبهذه الحالة، فقد جعلا بمثابة المال الواحد، فتجب الزكاة عليهما، نقول لهما: أخرجا شاةً واحدة، لكن يرد

السؤال
هل يخرجها هذا أو ذاك؟
نقول: يخرجها أي واحد منهما، فإن أخرجها أحدهما طالب الآخر بنصف قيمتها، فإن كانت هذه الشاة قيمتها خمسمائة ريال، فعلى الآخر أن يدفع لمن دفع مائتين وخمسين ريالاً.
فإذا اتحد المال بالأوصاف التي ذكرناها، فإنه يأخذ حكم المال الواحد، وتجب الزكاة عليه.
ولا يفرق بين هذا المجتمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يفرَّق خشية الزكاة )، فدل على أنه لا يجوز أن يقال: هذا مال وهذا مال، ويفرَّق بينهما حتى لا تجب الزكاة عليه، أو قبل تمام العام وقبل مجيء الساعي يحرص الاثنان على التفريق بين الغنم وبين الإبل وبين البقر حتى لا يطالبهم الساعي بزكاة، فإن اطلع الساعي على ذلك ألزمهما بزكاة المال الواحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزّل المالين المختلطين منزلة المال الواحد، فتجب عليهما الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه.
الأسئلة
حكم زكاة الإبل التي تحتاج إلى العلف أحياناً

السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خير الجزاء: إذا كانت الإبل سائمة أكثر الحول؛ وذلك لأن الرعي لا يكفي، فهو يطعمها مع الرعي، فهل يجب فيها زكاة؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة ذكرها بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، إذا كان المرعى لا يكفي، وقد جعل الإنسان مع هذا المرعى علفاً يعلف به دوابّه، فهل نقول: إنها سائمة بناءً على أنها رعت، أو نقول: إنها معلوفة بناءً على أنه يعلفها ويقوم عليها؟ والجواب: أننا نقول: إنها سائمة؛ لأن العلف كان فضلاً وتقوية للطعام، ولم يكن أصل قوتها، فأصل قوتها كان على السوم، وبناءً على ذلك تجب فيها الزكاة وهي سائمة لثبوت الوصف.
والله تعالى أعلم.
حكم إخراج القيمة في الزكاة

السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا بلغ النصاب أربعين شاة، فهل يصح أن أخرج قيمة الشاة نقداً بدلاً من الشاة؟


الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها قولان: هل يجوز إخراج النقد بدل هذه التي سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسنان؟ الجمهور على أنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذه الأسنان وعيّن من نفس الإبل والبقر والغنم، وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يجوز؛ لأن معاذاً رضي الله عنه قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قالوا: فأخذ العِدل أو أخذ المِثل من الثياب بدل العين الواجب في الزكاة، وهذا أصل للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، يطرِدُه، بمعنى يجعله مطّرِداً، فيقول -مثلاً- في زكاة الفطر: يجوز أن تخرج بدلها النقود ونحوها من الكفارات.
والصحيح: مذهب الجمهور أنه لا يجوز الإخراج إلا مما سمّى النبي صلى الله عليه وسلم وعيّن، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذا وأقّته، وما حدّده الشرع لا يجزي إلا بعينه، ولأن المال النقد يأخذه المحتاج وغير المحتاج، وأما الطعام فلا يأخذه إلا المحتاج ولا يأخذه إلا الفقير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كان الذهب والفضة موجوداً في زمانهم، ومع ذلك ما أخرجوا زكاة الفطر من ذهب ولا فضة، وبناءً عليه فلا يجوز إخراج القيم؛ لا في الأعيان التي ذكرت في الزكوات، ولا في غيرها من الزكوات كزكاة الفطر ونحوها، وإنما يجب الإخراج على النحو الذي سماه الشرع، إن كان طعاماً فطعام، وإن كان إبلاً فإبل، وإن كان بقراً فبقر، وإن كان غنماً فغنم، وأما ما استدل به رحمه الله من حديث معاذ ، فيجاب عنه بأن الحديث ورد في الجزية، والجزية يجوز الانتقال فيها إلى المثل والبدل، بخلاف الزكوات، فإن الزكاة سمّيت وحُددت، فوجب عين المسمى والمحدد.
والله تعالى أعلم.

إذا وجبت الشياه على صاحب الإبل ولم يكن لديه غنم


السؤال
فضيلة الشيخ لو كان عند شخص عشر من الإبل ولا يملك غنماً، فكيف يزكي بشاتين، أثابكم الله؟


الجواب
إذا وجبت الشياه على مالك الإبل فإنه يطالب بها، أما الطريقة والكيفية فذلك مردّه إليه، والشرع لا يتدخل في كيفية حصول الناس على القدر الواجب، وإنما يلزمهم بالأصل.
والله تعالى أعلم.
حكم زكاة ذوات العاهات من الأنعام

السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، هل في بهيمة الأنعام ذوات العاهات زكاة؟


الجواب
إذا كانت البهائم فيها عاهات، أو كانت مريضة، فملك أربعين من الغنم كلها مِراض، أو ملك خمساً وعشرين من الإبل كلها سقيمة ومريضة، فإنه يُخرج مريضة، وتعادل هذا المال الذي يملكه، ولا يجب عليه أن يخرج صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )، هذا حديث معاذ في الصحيحين، فلا شك أن الصحيحة في المريضة كريمة المال، ولذلك لا يطالب بإخراج الصحيحة إذا كان عنده مِراض، وإنما يطالب بإخراج ما هو مماثل لماله، فلو كانت الغنم هرمة وكبيرة السن فإنه يخرج واحدة هرمة، وهكذا بالنسبة للإبل إذا كان بها عاهات، أو بها جرب أو غير ذلك، فإنه يطالب بالإخراج بمثل ما هو من ماله.
والله تعالى أعلم.
تلف المال بعد وجوب الزكاة فيه

السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا احترق المال بعد وجوب الزكاة، هل يلزم صاحب المال دفع الزكاة؟


الجواب
يجب عليه أن يزكي، إذا احترق المال أو تلف فإنه يجب عليه أن يزكي، ولكن لا يُلزم بإخراج الزكاة من السعاة ونحوهم إلا إذا ملك، ففرق بين وجوب الشيء وبين الإلزام به، فتقول: يجب عليَّ أن أدفع لك الدين، ولكن لا يلزمني أن أدفع لك الآن؛ وذلك لأني معسر، فهذا الرجل يعتبر معسراً، فإذا أعسر، فإنه تسقط المطالبة إلى أن يكون قادراً على السداد، لقوله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة:280]، فإذا تلف المال أو احترق المال وليس عنده ما يسدد به الزكاة، تركناه حتى يملك المال ولو بعد عشر سنوات، ولو بعد عشرين سنة، حتى يملك هذا القدر الذي وجب عليه، وإلا صار ديناً عليه يؤديه متى أطاق القدرة عليه.
والله تعالى أعلم.
زكاة الأنعام إذا كان بعضها سائماً وبعضها معلوفاً

السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا كانت بهيمة الأنعام بعضها سائمة، وبعضها معلوفة، وذلك كأن تكون صغارها التي لا تستطيع المشي معلوفة، والبقية سائمة، هل تجب الزكاة في جميعها، إذا كانت أكثرها السائمة، أم في سائمتها فقط؟


الجواب
بالنسبة لصغار الغنم كالسخلة ونحوها، فإنها تعد وتحسب، وجاء في الأثر: (عد عليهم السخلة ولا تأخذها منهم)، كما أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وبناءً على ذلك فإن كونها صغيرة لا يمنع وجوب الزكاة، ولا يمنع المطالبة بها، وهكذا إذا كان أكثرها يسوم والباقي تبع لهذا الذي يسوم، لكنه لا يرعى معه ولا يسوم معه، فإن الحكم للأكثر، ويكون الأقل تبعاً لهذا الأكثر، كما أن السخلة تبعت أصلها.
والله تعالى أعلم.
بعض العلماء يرى أنه يمتنع الحكم إذا لم يبلغ الأكثر الذي يسوم قدر النصاب، فلو كانت عنده أربعون شاة، وكان الذي يسوم ثلاثين، وكان الباقي لا يسوم لا تجب عليه الزكاة حتى يسوم الأربعون، لكن الذي ذكرناه من كونها تجب فيه إذا كان بالتبع، بمعنى أن تكون صغاراً وراء أمها ترضع، فهذه حينئذٍ تعتبر تبعاً، وتجب عليه الزكاة، ولا يؤثر وجود هذا العدد من الصغار، ويعتبر السوم للأمهات؛ لأن هذه الصغار في حكم التبع، فهي إذا رأت الأم شربت لبنها، فكأنها انتفعت من السوم الذي رعته، وهذا مذهب صحيح يرى أن حصول الارتضاع لهذه الصغار والانتفاع لها، إنما كان عن طريق السوم، وبناءً على ذلك يعتبر كأنه تابع للأصل، وتجب فيه الزكاة كما لو سام كله.
والله تعالى أعلم.

حكم الأنعام السائمة المعدة للبيع


السؤال
أثابكم الله فضيلة الشيخ، ما الحكم إذا كانت الأنعام سائمة، وجعلها من عروض التجارة، فأي الزكاتين فيها: زكاة بهيمة الأنعام، أم زكاة عروض التجارة؟


الجواب
إذا كان الشخص يملك الأنعام لنفسه، ثم طرأ له أن يتاجر فيها بالبيع والشراء، فيشتري الإبل بالبقر ويبادل، فمنذ أن نوى وغيّر نيته إلى التجارة يستأنف الحول، فإذا كان قد بقي على أصله إلى شهر محرم وحَوْلُه في صفر، فحينئذٍ نقول: منذ بداية محرم التي ابتدأ فيها نية التجارة يستقبل نية عروض التجارة، ويزكي زكاة عروض التجارة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:28 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (182)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [1]
الحبوب والثمار من الأصناف التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة، ولها نصاب معلوم، وتجب عند الحصاد، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بهذا الباب ذكرها الشيخ في هذه المادة.
وجوب زكاة الحبوب والثمار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب: زكاة الحبوب والثمار] هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لبيان الأحكام المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار.
والحبوب والثمار من الأنواع التي أوجب الله عز وجل زكاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141] فأمر سبحانه وتعالى بإعطاء الحق وهو الزكاة يوم الحصاد، أي: حصاد الزروع والثمار، ويكون ذلك بضوابط بينتها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصّل العلماء رحمهم الله أحكامها.
وزكاة الزروع والثمار أجمع العلماء رحمهم الله عليها، فهي من الأنواع المتفق عليها؛ لدلالة الكتاب والسنة في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الزروع والثمار من جنس ما يزكّى.
وقوله رحمه الله: (باب زكاة الزروع والثمار) أي: في هذا الموضع، سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا النوع من أنواع الزكاة.
والحبوب: تشمل البر والشعير والأرز والدخن والفاصوليا واللوبيا والعدس ونحوها من الحبوب، والثمار مثل التمر من النخل ونحو ذلك مما يخرج من الأصول الثابتة.
والعلماء رحمهم الله يعبِّرون بهذا التعبير مراعاة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، في قوله: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وإنما تكال الحبوب وكذلك تكال الثمار، فخرج بقية المزروعات كالخضروات والفواكه التي لا تكال، فإنها لا تدخل في هذا الباب، وسيبين المصنف رحمه الله هذه المسألة عند بيانه للأنواع التي تجب زكاتها من الزروع والثمار.
الحبوب التي تجب فيها الزكاة
يقول المصنف رحمه الله: [تجب في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً].
(تجب في الحبوب كلها) ؛ لأنها من جنس ما يكال، ولأنها تكون أقواتاً على التعليل بالقوت والكيل، والتعليل بالكيل أقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وهو حديث في الصحيحين، فكأنه بيّن لنا في هذا الحديث أن الزكوات في الحبوب إنما تجب فيما يُكال، وأما ما لا يكال فإنه لا تجب فيه الزكاة.
وبالنسبة لقوله رحمه الله: (في الحبوب كلها) تشمل البر والشعير، وما عرف في زماننا كالأرز وغيره؛ فالحبوب كلها تجب زكاتها إذا بلغت النصاب المعتبر وهو خمسة أوسق.
(ولو لم تكن قوتاً) اختلف العلماء رحمهم الله، هل يشترط في الحبوب أن تكون قوتاً أو لا يشترط؟ فيقع الخلاف إذا كانت الحبوب من جنس البهارات التي لا يقتات بها، وإنما يستصلح بها القوت، وكذلك ما يُتداوى به، فالذين يقولون أنه يشترط فيها أن تكون قوتاً كالأرز والبر والشعير فإنهم يوجبون الزكاة فيها دون ما لا يقتات كالحبة الخضراء -وسيذكر المصنف رحمه الله أنواعاً مما لا يعتبر من الأقوات- فبعض العلماء يمثِّل له بالحبة الخضراء وبذر القطن ونحو ذلك من الحبوب التي لا يقتات بها الناس، ولو كانت من جنس ما يستصلح به القوت كحبوب البهارات ونحوها، فهذه كلها لا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب الزكاة فيما يُقتات على القول الذي ذكرناه باشتراط القوت، والمصنِّف هنا لم يشترط القوت التفاتاً إلى الحديث الصحيح: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات.
الثمار التي تجب فيها الزكاة
[وفي كل ثمر يُكال ويدّخر].
مثل التمر، فإن تمر النخيل يكال ويدَّخر، ولذلك يرتفق الناس به الحول كله، فهو من جنس ما يُكال ويُدخر، فاشترط رحمه الله فيه الكيل مع الادخار، ومن أهل العلم من قيّد العلة بالكيل ولم يلتفت إلى الادخار، وهو أقوى على ظاهر الحديث الذي ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات، ولا الادخار.
[كتمر وزبيب].
فالتمر يكون من النخيل، والزبيب يكون من العنب من الزروع، فمثّل بهذين المثالين لأنهما من جنس ما يُقتات ويُدَّخر، وعلى هذا فإن ظاهر كلام المصنف أنه إذا لم يكن مدّخراً، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
أما ما لا يُكال -مثل البرتقال والتفاح والموز والبطيخ- فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أوجب الزكاة في الزروع والثمار قيّدها بالخمسة أوسق، فكأنه يقيدها بما يُكال، والبرتقال لا يكال، وينبغي أن يُنبّه على مسألة مهمة: وهو أنه اشتُهر في زماننا هذا الكيلو غرام، فيفهم البعض أننا إذا قلنا: لا يكال أي: لا يوزن، الكيلو غرام من جنس ما يوزن، وتوضيحاً لذلك نقول: إن الشيء إذا بِيع إما أن يباع بالكيل أو يباع بالوزن أو يباع بالعدد أو يباع بالذرع، وقد يباع جزافاً، وهذه الأشياء كلها: الكيل، والوزن، والذرع، والعدد، تقديرات للمبيعات؛ فما يباع كيلاً مثل بيع التمر بالصاع وبالمد، فهذا من جنس ما يُكال، وفي حكم المكيلات ما يوجد في زماننا من بيع الحليب باللتر، فهذا يكال، فيعتبر من جنس المكيلات، والكيل يرجع إلى حجم الشيء والوزن يرجع إلى ثقله.
والضبط بالوزن أدق من الضبط بالكيل، أي: من جهة تحرير الشيء، فالوزن من أمثلته الكيلو غرامات الموجودة الآن.
فالشيء إما أن يباع كيلاً أو يباع وزناً أو يباع عدداً كالبطيخ، تقول: بكم هذه الحبة؟ وكذلك السيارات فإنك لا تكيلها ولا تزنها، وإنما تنظر إلى أعدادها.
ونمثل بالأشياء الموجودة حتى يكون الضبط أبلغ، وإلا ففي القديم يقولون: كالإبل والبقر والغنم، هذه معدودات، فإن الإبل لا تباع وزناً ولا تباع كيلاً وإنما تباع بالعدد، فتقول: بكم هذه الناقة؟ أريد ناقة ناقتين ثلاثاً أربعاً فيرجع في بيعها إلى الأعداد، كذلك في زماننا هذا السيارات تعتبر معدودة.
وأما المذروع فيشمل الأقمشة، وأيضاً يكون في العقارات مثل بيع الأرض، كل ذلك يعتبر من المذروعات، والذرع يكون لتقدير الأطوال والمساحات.
فإذا باع الإنسان إما أن يبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً، فالشيء إذا كان من جنس ما يكال وجبت فيه الزكاة إذا كان من الزروع والثمار، وأما إذا كان يباع بالعدد أو بالوزن مثل البرتقال، فإنه يباع بالعدد فتبيعه بالحبة، وتبيعه بالوزن، تقول: أعطني كيلو غراماً، فلا تبيعه كيلاً، وإنما تبيعه إما وزناً وإما عدداً، فهذا ليس من جنس ما تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد للزروع والثمار نصابها بخمسة أوسق، فكأنه نبه حينما قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق ) أنه إذا لم يكن مكيلاً أنه لا زكاة فيه، فلو سألك سائل وقال: عندي أرض أزرعها بكراث أو فجل أو نحو ذلك من البقول والخضروات؟ فلتقل: هذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها ليست من جنس المكيلات، وإنما هي إما من جنس المعدودات أو من جنس الموزونات، وعلى هذا لا تجب فيها الزكاة، ومثلها ما كان من هذا النوع من الزروع.
وكذلك ما كان يباع بالوزن كالبرتقال والتفاح والموز، فهذا لا تجب فيه زكاة، فلو سألك إنسان عن أرض يزرع فيها التفاح والبرتقال أو الليمون أو نحو ذلك مما لا يكال، فلتقل: هذا لا تجب زكاته؛ لأن الزكاة مخصوصة بما يكال.
نصاب زكاة الزروع والثمار
قال رحمه الله: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطلٍ عراقي].
أجمع العلماء رحمة الله عليهم أن للحبوب والثمار نصاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في الحديث الصحيح عنه بقوله: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) فهو صلوات الله وسلامه عليه يبيّن أن الخمسة الأوسق هي نصاب الزروع والثمار، فما بلغ الخمسة وزاد عليها تجب فيه الزكاة، وما كان دون ذلك فإنه لا زكاة فيه، وعلى هذا فقد رتب المصنف الأفكار، فابتدأ رحمه الله ببيان النوع الذي تجب زكاته من الزروع والثمار، وهو ما يكال، على التفصيل الذي ذكره من جهة الاقتيات والادخار واشتراط كلٍّ أو عدمه، وبعد أن بيّن لك أنه من جنس ما يكال شرع في بيان الحد الآن عرفت النوع الذي تجب زكاته، فورد

السؤال
ما هو الحد الشرعي الذي يطالب المكلف بالزكاة إن بلغ ما يملكه من الحبوب والزروع والثمار مبلغه؟

تقول: هو خمسة أوسق، فإن زكاة الحبوب والثمار محدودة بهذا الحد، فلا نقول لكل من ملك حبوباً وثماراً: زك ما عندك، وإنما ننظر في الذي يخرج من زرعه، فإن بلغ الخمسة الأوسق أوجبنا عليه الزكاة، ولو نقص عنها ولو يسيراً لم تجب عليه الزكاة، فلو كان عنده أربعة أوسق فقط، لم تجب عليه الزكاة.
والوسق: ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد، والمد هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فعندنا صاع، وعندنا مد، فالصاع النبوي الذي كان في زمانه عليه الصلاة والسلام يسع أربعة أمداد، والمد هو ملء الكفين المتوسطتين -يعني: ليستا بكبيرة ولا صغيرة، وإنما الكف المتوسطة- لا مقبوضتين لأنه يقل المحمول، ولا مبسوطتين لأنه ينتشر، وإنما يكون بالوسط، فهذا القدر إذا وضعته يعادل المد، فإذا عادل المد فإن أربعة منه تعادل الصاع.
وهذا القدر الذي ذكرنا أنه المد هو الذي كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام بقدره كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ( كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع ) الصاع: أربعة أمداد، فيصبح المد هو ربع الصاع، فإذا قيل لك: ربع صاع أو قيل لك: مد نبوي فالمعنى واحد، ولا يزال الصاع موجوداً إلى زماننا هذا في المدينة يتوارثه الأصاغر عن الأكابر ويعتبر حجّة، ويحرّر فتأخذ الصاع من الصناع ثم تذهب إلى إنسان أخذ صاعه عن إنسان حرّره عن طريق أهل الخبرة، وبهذا تعلم القدر الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكال به من هذا الجنس من المكيلات.
فستون صاعاً من هذا الصاع النبوي تعادل الوسق، فالخمسة أوسق تساوي ثلاثمائة صاع، فقدر ثلاثمائة صاع هو الذي أوجب الله فيه الزكاة؛ فلو كان يملك مائتين وتسعين صاعاً أو مائتين وتسعة وتسعين صاعاً لم تجب عليه الزكاة حتى يبلغ هذا القدر بعد تصفيته وحصاده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والأصل في هذا التحديد السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه يرجع فيه إلى الكيل، وقد كان الوزن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبر الوزن، وننبه على أن المكيلات لا تضبط بالوزن، فالتمر لا يمكن أن تضبطه بالوزن، توضيح ذلك: لو أخذت صاعاً من تمر العجوة مثلاً وأخذت صاعاً من تمر الصفا -وهو نوع آخر- أو تمر الحلوة أو الربيعة، فإنك لا يمكن أن تجدهما في وزن واحد، فإن العجوة أثقل من الحلوة، والحلوة أخف، ولو أخذت نوعاً ثالثاً كالعنبر، فإنك تجده أخف من الحلوة؛ فلو جئنا نقول: الصاع يعادل أربعة كيلو غرام، فهل يعادل من العجوة، أو يعادل من العنبر، أو يعادل من الحلوة؟ ولذلك قالوا: إنه لا يجوز بيع المكيل بالوزن؛ لأنه إذا بيع بالوزن لم تتحقق المماثلة التي اشترطها النبي صلى الله عليه وسلم في الربويات كما سيأتينا إن شاء الله في كتاب البيوع، وقد نبّه على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني وغيره من الأئمة أن المكيلات لا تضبط بالوزن؛ لأن المكيلات العبرة فيها بالحجم، فقد يكون حجمها كبيراً وتسع فراغاً من الصاع بحيث لو وزنتها يكون وزنها خفيفاً، وقد تجد منها ما هو صغير الحجم ثقيل الوزن، فالعجوة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، والعنبر كبير الحجم خفيف الوزن، ولذلك لا ينضبط فيها الوزن.
ثم إذا جئت تضبط الحبوب بالوزن تجد أنها يختلف بعضها مع بعض من حيث الجودة والرداءة، ولذلك تجدهم إذا ضبطوها بالوزن قالوا: كذا كذا (كيلو غرام) من البر الجيد أو من الشعير الجيد، والجودة أمير غير مستقر ؛ فقد يكون جيداً في نظرك وليس جيداً في نظري، وقد يكون جيداً في عرف بلد ولكنه ليس بجيد في عرف بلد آخر، فالمكيلات لا تضبط بالوزن، ولذلك يحرِّر العلماء المكيلات بالكيل؛ لأن الشرع قصد الكيل فيها، وأما الموزونات فإنها تضبط بالوزن، وبناءً على ذلك لا تضبط الزكوات بالكيلو غرام، وإنما تضبط بالصاع، وإذا قلنا بلزوم ضبطها بالآصُع، وأكدنا على ضرورة ذلك ينبغي على طالب العلم أن يعلم، فإن هذا فيه إحياء للسنة؛ لأن الناس أصبحت تجهل الآصُع، ففقه الفتوى وفقه الفقه أننا نبقي الناس على هذا الأمر المسنون، فإن الناس قد نسوا الصاع، حتى أنك لو قلت لرجل في فدية الحج: عليك -مثلاً- ثلاثة آصُع تطعمها ستة مساكين، لم يدر ما الصاع، فإذا قلت له بالكيلو غرامات يدري، فعلى هذا تفوت السنة وتضيع، ومن هنا لزم رد الناس إلى الأصل وإحياء السنة، وهكذا في زكاة الفطر، فلو رد الناس إلى الكيلو غرامات فإنه يأتي زمان لا يضبطون الصاع، وقد يقرأ الرجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرضية زكاة الفطر صاعاً فيقول: أي شيءٍ هذا الصاع؟! ولذلك ينبغي إحياء هذه السنة، وكان العلماء رحمة الله عليهم يقولون في حديث الصحيحين لقوله عليه الصلاة والسلام: ( اللهم بارك لنا في مُدِّنا وصاعنا ) فلا ينبغي ترك المد والصاع لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بالبركة.
فإذاً لا بد من فقه الفقه أن تبقى هذه المكيلات، وأن تُحيا حتى يربط الناس بها، ويعرف الناس بها السنة، والكفارات ونحوها مما أوجب الله عز وجل لا يمكن ضبطها إلا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُصار إلى الكيلو غرامات ما أمكن، ومن ضبطها بالوزن فله ضبطه واجتهاده، ولكن الأصل من جهة إحياء السنة وبقائها بين الناس والمعروف في نصوص العلماء أنه ينبغي التأكيد على الكيل، ولذلك إذا قيل: إنها تعادل ثلاثة كيلو غرامات ونصفاً أو أربعة على اضطراب في هذا التقدير، فإذا قيل: إنها تعادل ذلك من الحب فحينئذٍ يرد السؤال: كم تقديرها من التمر؟ لو أراد أن يخرج الزكاة من التمر، وحينئذٍ لا يمكن للناس أن يصلوا إلى حد معيّن بالوزن.
ثم انظر إلى الكيل فإن الكيل إذا جئت تضع الحب فإنه ينتشر ولا يثبت على الصاع؛ لأن الصاع يملأ حتى ينتشر ويتساقط، وهذا الانتشار يختلف؛ وذلك يؤثر في الوزن قطعاً، والذين يضبطونه بالوزن يغتفرون هذا التأثير، ويقولون: هو يسير مغتفر، ولكنه قد يكون مغتفراً لو اضطررنا إليه، وليس هناك ضرورة إلى الصيرورة إلى الوزن ما دام أن الشرع قصد الكيل.
وخلاصة الأمر: ما دام أن الشرع حد الكيل فيما يكال مع وجود الوزن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي البقاء إحياءً لهذه السنة، وعلى هذا فلا يُلتفت إلى التقدير بالكيلو غرام، وإنما يقال كما قال العلماء والأئمة رحمة الله عليهم: إن الزكاة تجب في قدر ثلاثمائة صاع نبوي، وهذا هو الحد الذي تضبط به الزكاة وهو المعتبر.
وجوب ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب
قال رحمه الله: [وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب لا جنس إلى آخر].
(وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض) فلو زرع في نصف العام حباً، ثم زرع في نصفه الثاني حباً وجئنا ننظر إلى النصف الأول وإذا به قد بلغ مائتين صاع، والنصف الثاني قد بلغ مائة صاع، فإذا نظرت إلى زرعه الأول أسقطت عنه الزكاة، وإذا نظرت إلى زرعه الثاني مجرداً أسقطت عنه الزكاة، لكن ينبغي ضمهما إلى بعضهما؛ لأنهما في حكم الزكاة الواحدة في العام الواحد، وعلى هذا فالمعتبر أن يزرع في نفس العام، لكن لو زرع مثلاً في أواخر حزيران من العام الماضي، لأن الشهور الشمسية ينضبط بها الزراعة، ولذلك يقول الفقهاء: إذا زرع في حزيران، فلو زرع حباًَ في حزيران وحصد، ثم لما كان من العام القادم زرع في حزيران حباً بحيث لو نظرنا إلى زرعه العام الماضي وزرعه السنة، كل زرع مستقل لا تجب فيه الزكاة ولو ضممناهما وجبت، نقول: لا يضم؛ لأن زرع العام منفصل عن زرع السنة، ولكل سنة زرعها، فيشترط في ضم الثمرة أن تكون في نفس العام، كذلك أيضاً في النخيل، النخل يُطلِع مرة واحدة في السنة، ولكن إذا وضع الله فيه البركة، فإنه يطلِع مرتين، وفي بعض المناطق قد يطلِع مرتين إما لرِيِّه أو لحسن جوِّه، وهذا أمر يقع في بعض المناطق، كما ذكر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم بارك له في ماله وولده ) ، وفي رواية ( أكثر ماله وولده ) فأُعطي كثرة الولد وكثرة المال، فمما ذكروا في ماله أنه كان له نخل يطلِع مرتين في العام، وهذا من غرائب ما يكون، فإن النخل يطلِع مرة واحدة في السنة كما هو معلوم.
فإذا أطلع النخل مرتين ضم طلعه الأول إلى طلعه الثاني، ثم إن النخل نفسه يختلف، فالنخل بحكمة الله عز وجل إذا جاء فصله وزمانه الذي يكون فيه نضج ثمره، فإنه يختلف في النضج فشيءٌ منه ينضج في أول الصيف، وشيءٌ منه ينضج في منتصف الصيف، وشيءٌ منه ينضج في آخر الصيف، ثم الذي ينضج في أول الصيف يأكله الناس بسراً أو يأكلونه رُطباً، وأوساط الصيف غالباً يكون رطباً، وآخر الصيف يكون تمراً، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى حتى يبين لعباده عظيم فضله عليهم وعظيم منته عليهم، فتجد الذي يؤكل في أول الصيف لا تستسيغ طعامه في منتصف الصيف، والذي يؤكل في منتصف الصيف لا تستسيغ طعامه في آخر الصيف، بل ربما يكون الإنسان قد أكل الثمرة أمس، فإذا طلع سهيل ثم جاء يأكلها اليوم يجد طعمها مختلفاً تماماً، حتى لا يجد لها النكهة التي وجدها أمس، وهذا دليل واضح على عظمة الله عز وجل، وأن لهذا الكون خالقاً سبحانه وتعالى، فمن حكمة الله عز وجل أن ثمر النخيل لا ينضج مرة واحدة وإنما ينضج متتابعاً على الترتيب، فشيءٌ في أول الزمان، وشيءٌ في أوسطه، وشيءٌ في آخره.
فبالنسبة للثمرة فإن الإنسان قد يجذ الذي يكون في أول الصيف بعد تمامه ولم ينته الصيف بعد، ثم يجذه أوسطه، ثم يجذه آخره، فيُضم كل هذه الأنواع بعضها إلى بعض، ولا تقل: إنني أعتبر كل نوع على حدة، وأعتبر النصاب ثلاثمائة صاع لكل نوع على حدة، فلو نظرت إلى نوع منه يؤكل بُسراً في أول الصيف، ونوع منه يؤكل رطباً، ونوع منه يؤكل تمراً، فلا تفصل بعضه عن بعض، وإنما تضمها لأنها ثمرة عام واحد، فترى زكاتها العام الواحد، وترى أن بعضها يُضم إلى بعض حتى يصير الجميع نصاباً فتجب فيه الزكاة أو يكون دون النصاب فلا تجب فيه الزكاة.
أصناف الحبوب والثمار لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة
قوله: [لا جنس إلى آخر].
لو كان عنده حبوب جنس البر والشعير مثلاً، فإنه لا يضم البر إلى الشعير، ولا يضم الأرز إلى البر، وإنما ينظر لكل جنسٍ على حدة، واختلف في البر والشعير، وأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أنهما نوعان منفصلان، ودلت السنة على ذلك، ففي الحديث الصحيح عن عبادة الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، وموضع الشاهد في قوله: ( إذا اختلفت هذه الأصناف ) فأجاز لنا بيع البر بالشعير متفاضلاً، بشرط أن يكون يداً بيد، وذهب بعض السلف كما هو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس ، وكان يقول به معمر بن عبد الله الصحابي، يقول: إن البر والشعير بمثابة النوع الواحد؛ لحديث معمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل ) وفسّره الراوي وهو معمر بالشعير بالبر، وجعلهما نوعاً واحداً، ولكن الصحيح أن معمر رضي الله عنه جعل البر والشعير بمثابة النوع الواحد التفاتاً للعموم في قوله: ( الطعام بالطعام ) وهذا الالتفات جاء ما يفسره ويبينه في قوله في حديث عبادة الذي ذكرناه: ( البر بالبر والشعير بالشعير ) وهو آكد وأبين في فصل كل منهما عن الآخر.
يستفاد من هذا أنه لو كان عنده مائة صاع من البر ومائتان من الشعير، فإن قلت: هما نوع واحد؛ وجبت عليه الزكاة؛ لأنهما يُضمان إلى بعضهما، وإن قلت: إنهما نوعان مختلفان، لم تجب عليه الزكاة؛ لأن البر نوع والشعير نوع، ولم يكتمل النصاب في كل نوع على حدة، هذه فائدة هل نعتبر البر والشعير نوعاً واحداً، أو نوعاً مختلفاً؟ ولا يُضم جنس إلى جنس، فلا تقل: إذا كان عنده مائة صاع من الحب أُضيفها إلى مائتي صاع من التمر، وإنما ينظر إلى التمر على حدة وإلى الحب على حدة، والتمر نفسه أنواع بمثابة الجنس الواحد، فلو كان عنده الحلوة والعجوة والصفاوي كل واحد منها مائة صاع، فإنك تقول: أعتبرها نوعاً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والتمر بالتمر ) ولم يفصِّل، فدل على أن التمور كلها بأنواعها بمثابة النوع الواحد، بناءً على ذلك لو كان عنده مائة صاع تمراً من نوعٍ من أنواع التمور وعنده نوع ثان مائة صاع، ومن نوع ثالث مائة صاع، وجبت عليه فيها الزكاة، لأنها بمثابة النوع الواحد.

يتبع

ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:28 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (183)

صـــــ(1) إلى صــ(17)




اشتراط ملكية النصاب وقت وجوب الزكاة
قال رحمه الله: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة].
هذا أمرٌ لا بد منه للحكم بلزوم الزكاة عليه، ووقت الوجوب هو وقت بدو الصلاح.
وتوضيح ذلك: أن نقدم بمقدمة يتصور الإنسان بها حقيقة بعض الثمار والزروع.
النخل -مثلاً- يمر بمراحل، فمن حكمة الله عز وجل أن النخل أول ما يكون منه في ثماره الطلع، والطلع: كيزان تحمل ثمرة النخلة، هذا الطلع يكون أول ما يبدو في زمان معين من السنة، يخرج ذلك الكيس الخشبي الذي بداخله الثمرة المخلوقة بقدرة الله عز وجل، مرتبة منظمة حتى أنك لو فتشت هذا الكيس تعجب من بديع صنع الله عز وجل في ترتيبها ودقتها وتناسقها، فإذا كنت تعجب من كيس واحد، فكيف بهذه البساتين التي تحمل البلايين بل بلايين من هذه الأكيسة بنظام بديع غريب يدل على عظمة الله جل جلاله؟! فإذا خرج هذا الطلع يكون تقريباً في الغالب في حجم الذراع، على هذه الصورة، يخرج شيئاً فشيئاً في جذع النخلة، من أعلاها بين الجريد الذي لم ييبس، وهو قلب النخلة كما يسميه العامة، وفي ذلك حكمة، فلو خرج في جذع النخلة من أسفل لانكسر؛ لأنه لا يجد ما يحمله، وإنما يكون في قلبها في أعلاه حتى يكون على الجريد، ويحمله الجريد بقدرة الله عز وجل، فإذا عبثت به الرياح أو ثقل وزنه مع الزمان لم ينكسر، وهذه من حكمة الله جل جلاله، فإذا خرج هذا الكيس يتشقق وذلك في زمان مناسب حتى أنك في زمان البرد تجد أسابيع معينة يكون فيها شيء من سكون الهواء وحرارة الجو حتى تخرج هذه الكيزان، مع أنك في فصل من الفصول الباردة، فإذا خرجت هذه الكيسان تشققت، فبداخلها الثمرة، يأتي الفلاح ويأخذ طرفي الكيس الخشبي ويقطعهما وتخرج الثمرة التي هي العرجون بشماريخه، فهذا العرجون بشماريخه تجد فيه حبات التمر، الواحدة تلو الأخرى منظمة مرتبة على أحسن ما أنت راءٍ من تنظيم وترتيب، وتبارك الله أحسن الخالقين، فيأتي الفلاح ويأخذ من الذكور؛ لأن النخل فيه الذكر وفيه الأنثى، فالذكور تطلع كيزان مثل كيزان الإناث، ولكن فيها اللقاح، وهذا اللقاح يؤخذ ثم يغبَّر به تلك الثمرة الخارجة في الكيس الذي ذكرناه، فيلقح الفلاح، فتأتي مرحلة ثانية وهي التي تسمى بالتأبير، وفيها أحاديث ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ كحديث عبد الله بن عمر : ( من باع نخلاً قد أُبِّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ) ، فهذه مرحلة التأبير، وتترتب عليها أحكام شرعية، ومرحلة التأبير هي التي ورد فيها حديث المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على أهل المدينة وجدهم يؤبِّرون النخل، فأمرهم أن يتوكلوا على الله، فتركوا الثمرة ولم يؤبروها ففسدت، فقال: ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) فهذه مرحلة التأبير.
بعد التأبير تكون هناك فوق الشهرين مرحلة تسمى مرحلة العقد، مثل أيامنا هذه، فتبدأ الحبة تكبر؛ لأنها في بدايتها تكون قريبة من حبة الذرة، فهذه الثمرة التي تأكلها في نهاية العام والتي قد تبلغ في حجمها الإصبع الكامل، تكون بعد التأبير بقدر أصغر من حبة الذرة، فهذه الحبة الصغيرة تكبر شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان بما يزيد على الشهرين، حتى يكتمل حجمها المعتاد وهي خضراء، فإذا اكتمل حجمها المعتاد، ضربها اللون بقدرة الله عز وجل، فاصفرّت أو احمرّت على حسب ما جعلها الله عز وجل من ذلك النوع، هل هو أحمر أو أصفر، { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } [النحل:13]؛ لأن اختلاف الألوان يدل على وجود الخالق، لأنه لو كانت الأمور طبيعية كما يقول أهل الطبيعة: أن الحياة وجدت صدفة، لكان كله أحمر أو كله أصفر، ولكن هذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا أصفر، يدل على وجود من غيّر هذه الألوان، وهو سبحانه { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون:14].
وهذه المرحلة -مرحلة اللون- تسمى في الشرع بالإزهاء، وهي التي ورد فيها حديث أنس في الصحيحين: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو، قالوا: يا رسول الله! وما تزهو؟ قال: تحمارُّ أو تصفار ) وهي مرحلة الإشقاح، ومرحلة بدو الصلاح، كما ورد في الأحاديث: ( نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها )، ( نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو )، ( نهى عن بيع الثمرة حتى تشقح ) فهي مرحلة اللون، ويكون اللون أحمر أو أصفر.
بقي إشكال وهو: إذا كانت الثمرة لونها أخضر مثل النوع الذي يسمى بالخضري، يبقى أخضر، كيف يعرف صلاحه؟ قالوا: بالطعم؛ فإنه إذا جاء وقت بدو صلاحه صار حلو الطعم بعد أن كان مر الطعم، وهذا هو الذي عناه حديث ابن عباس في الصحيح: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى تؤكل أو يؤكل منها ) فردّ إلى الطعم، فهذه مرحلة بدو الصلاح، ولها ضوابط عند العلماء رحمة الله عليهم، فتكون باللون، وتكون بالزمان وهو طلوع الثريا، وفيه حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره و ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يطلُع النجم، وتؤمن العاهة ) وهو الثريا كما فسّره ابن عمر ، وهذا التفسير أشار إليه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير، وقال: إنه طلوع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة خلت من مايو أيار.
الشاهد: هذه المرحلة تسمى مرحلة بدو الصلاح، وهي المرحلة التي يحكم فيها بوجوب الزكاة، فلو أن الإنسان في هذه المرحلة كان غير مالك للثمرة، فإنه لا تجب عليه الزكاة، وينظر في تقدير فائدة هذا الحكم الذي ذكره المصنف رحمة الله عليه ما يترتب عليه من الحكم بإيجاب الزكاة.
بعد هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح تأتي مرحلة البُسر والبلح، فإذا ضربه اللون صار بُسَراً كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما جاء إلى الصحابي وجز له عرجون نخل، قال: هلا أتيتنا من ثمره! قال: إنما أردت أن تتخير من بُسره ورُطَبه وتمره ) .
فهذه مرحلة البُسر، يؤكل بعض الثمر الذي يكون من النخل، بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستسيغه إلا بلحاً، وبعضه يؤكل رطباً.
وبعد أن يصير بلحاً تمر عليه فترة الشهر والنصف وزيادة؛ يبدأ يذبل آخر الثمرة، ثم يذبل قليلاً قليلاً؛ ربع الثمرة ثم نصفها ثم ثلاثة أرباعها حتى يكتمل ترطيبها، فهذه المرحلة تسمى بمرحلة الرُّطَب، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التمر، ويسميها العلماء بمرحلة الصرام؛ لأنه يصير كالصريم وعندها يستوي كمال الاستواء.
هذه مراحل ثمرة النخل والذي يهمنا منها مرحلة بدو الصلاح، فلو أن هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح كان النخل في ملك غيرك، ثم صار إلى ملكك بإرث ونحوه لم تجب عليك الزكاة، وإنما وجبت في ملك الغير.
أوضح هذه المسائل: لو أن رجلاً كان له بستان فيه نخل، فلما بدا الصلاح توفي الرجل، وترك ابنين، الابنان يقسم البستان بينهما مناصفة، لهذا نصفه ولهذا نصفه، فلو فرضنا أن هذا البستان فيه ثلاثمائة صاع التي هي النصاب، فإذا قلنا: إن البستان في ملك الميت وجبت الزكاة؛ لأن النصاب كامل، وإذا جئنا ننظر إلى ملكية الابنين فقد ملك كل منهما مائة وخمسين صاعاً دون النصاب، فحينئذٍ يقولون: العبرة بوقت بدو الصلاح، إن جاء وقت بدو الصلاح والرجل لم يمت، فحينئذٍ الزكاة واجبة عليه، وتخرج من ماله وتركته قبل قسمة البستان، وإن جاء وقت بدو الصلاح كأن يكون أبّر النخل ثم توفِّي قبل بدو صلاحه، فحينئذٍ البستان في ملك الابنين، ولا تجب فيه زكاة؛ لأنه قد جاء وقت الوجوب ولم يملك كل منهما النصاب، هذه فائدة وقت بدو الصلاح.
بالنسبة للحبوب والزروع الأخرى، ما هي علامة بدو الصلاح؟ لبدو صلاح الحب علامات: منها الاشتداد كالحب، فالحب علامة بدو الصلاح فيه أن يشتد، وفي حديث مسلم : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد ) وذلك: أن الحب أول ما يكون في خلقه يكون ليناً، وتكون خلقته لينة حتى إنك لو ضغطت بإصبعك على الحبة لخرج ماؤها، ثم تبدأ تشتد شيئاً فشيئاً حتى يكتمل اشتدادها، فإذا اشتدت واكتمل اشتدادها فتلك مرحلة بدو الصلاح، فمن باع النخلة قبل الإزهاء الذي هو اللون، أو باع الحب قبل أن يشتد فبيعه باطل ولا يجوز، فهذا الوقت وهو وقت اشتداد الحب، ولون ثمرة النخيل هو الحد الذي يفصل فيه لجواز البيع وعدمه، وهو الحد الذي يفصل فيه في ملكية الثمرة ووجوب الزكاة وعدم وجوبها.
يقول العلماء: هناك علامات كثيرة لبدو الصلاح: أولها: اللون كما في النخل يحمار ويصفار.
ثانياً: أن يكون شديداً بعد لينه، كالبر والشعير فيشتد بعد اللين.
العلامة الثالثة: أن يلين بعد الشدة كالتين، فإن التين يكون شديداً أول ما يكون فإذا بدأ يلين بدا صلاحه، فهو عكس النوع الذي قبله، وألحق بعض العلماء بهذا النوع الثالث البطيخ عند بيعه، طبعاً ليس في البطيخ زكاة؛ لأنه ليس من جنس ما يكال، لكن في البيع يشترطون أن يلين؛ لأن البطيخ إذا بدا صلاحه لان، أما إذا كان شديداً فإنه لم يطب ولم يكن صالحاً لأكله.
العلامة الرابعة: أن يكتمل حجمه بعد صغره، أي: يبدأ يكبر حجمه حتى يكتمل كالطماطم والباذنجان ونحوها، هذه علامة صلاحها.
العلامة الخامسة: أن يكتمل طوله بعد قصره كالقثّاء والخيار ونحوها، فتحكم بجواز البيع إذا اكتمل حجمه.
والعلامة السادسة: أن يحلو بعد مرارته كقصب السكر، فإن علامة بدو الصلاح فيه أن يكون حلواً بعد أن كان مراً.
والعلامة السابعة: أن يتفتح من أكمامه فبعض الزروع يكون، بدو صلاحها عند بداية تفتحها كبذر القطن إذا ابتدأ تفتحه فهو علامة صلاحه، أو يكتمل التفتح كما في الورد إذا بيع بقصد الانتفاع به في مطعم ونحوه.
هذه علامات بدو الصلاح؛ يترتب عليها أحكام في الزكاة، وتترتب عليها أحكام في البيوع، كما سيأتينا إن شاء الله في بيع الأصول والثمار، ولا بد لطالب العلم أن يلم بمثل هذه الأمور.
ونحن ننبه إلى مسألة مهمة، وهي: أن من عادة فقهاء الإسلام رحمة الله عليهم والأ
لا تجب الزكاة فيما يكتسبه اللقاط أو يؤخذ كأجرة على الحصاد
قال رحمه الله: [فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده].
اللقاط: هو الشخص الذي يلتقط الثمار من تحت النخيل، من عادة الناس في القديم أنهم يتركون للضعفاء والمحتاجين إذا دخلوا البساتين أن يلتقطوا ما يتساقط من الثمر؛ لأن النخل إذا حمل تمره أو رطبه تتحرك به الرياح، فبتحرك الرياح يسقط شيء من هذا الثمر والرطب رزقاً قد ساقه الله عز وجل لهؤلاء الضعفاء، وكان من سنة الخلفاء الراشدين وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا دخل أحد إلى بستانك أو كنت في طريق في سفر، فمررت ببستان، جاز لك أن تأكل ما تساقط من ثمره بدون إذن صاحبه، لكن بشرط: أن لا تتمول، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له أن يرقى فيجني ولكن يأخذ ما تساقط، ففي هذه الحالة لا يُتعرّض للإنسان غالباً إذا أخذ هذا الشيء، فلو أن إنساناً يمر على البساتين، ويلتقط ما تساقط فبلغ الذي التقطه حد النصاب ثلاثمائة صاع، فهل تجب عليه الزكاة؟

الجواب
لا؛ لأنه بدا صلاح هذا الملتقط وليس في ملكه، وإنما في ملك غيره، فلا تجب عليه الزكاة.
[أو يأخذه بحصَاده].
هذه مسألة فيها خلاف، عندك ثمر من النخيل مثلاً أو حبوب، فمن عادة المزارعين أنهم يستأجرون أناساً للحصاد وللجَذاذ، فعندك مائة نخلة وقال لك رجل: أنا أجُذُّ لك هذه المائة نخلة وآخذ منك مائة صاع، أو آخذ منك خمسين صاعاً، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وهي من مسائل الإيجار.
بعض العلماء يقول: لا يجوز أن تستأجر الأجير بجزءٍ من عمله؛ لأنه غرر، وتوضيح ذلك: أنه إذا قال له: جذ لي النخل وخذ منه مائة صاع، فإن المائة صاع متوقفة على الجذاذ، ويكون أخذه من عمله، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له ذلك، واحتجوا بحديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وقفيز الطحّان ) وهذا الحديث ضعيف، ووجه قفيز الطحان قالوا: نهَى عنه؛ لأن الطحان سيطحن، سيقول له: اطحن لي هذا الحب وخذ منه نصف صاع أو خذ منه نصفه، فقفيز الطحان بمعنى: اطحن وخذ من طحنك، قالوا: لا يجوز، ومن أمثلتها: أن يقول له: اذبح الشاة وخذ جلدها، قالوا: لأننا لا ندري هل يخرج الجلد ثخيناً أو رقيقاً، وهل يسلم الجلد أثناء سلخه من الكشط والقد أو لا يسلم، ولذلك قالوا: هي إجارة غرر، فلو كان الحديث ضعيفاً فإن الأصول تقتضي منعها لوجود الغرر، وبناءً على ذلك قالوا: لا يستأجر الأجير بجزءٍ مما يقوم به، وإنما يُستأجر بمنفصلٍ عنه، وعلى هذا لا يصح هذا النوع من الإجارة.
هناك قول آخر يقول: يجوز أن يستأجر الأجير بجزءٍ من عمله، وعلى هذا يقولون: يصح أن يقول له مثلاً: خذ السيارة واعمل بها يوماً وخذ مما تخرجه مائة ريالاً، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرناها مثل مسألة قفيز الطحان، ومثل مسألة إجارة السلاخ بالجلد، وكذلك مسألتان، فإنه يقول له: جذ لي النخل وخذ ربع الجذاذ، واحصد لي الحب وخذ مائة صاع، فهذه إجارة بجزء من العمل.
فقالوا: على القول بالجواز يصبح في هذه الحالة لو جذَّ النخل أو الحب وكان جذذه بثلاثمائة صاع، فمع أنها بلغت النصاب، لا تجب عليه الزكاة؛ لأن هذه الثلاثمائة وإن كانت قد بلغت النصاب قد جاء وقت وجوب الزكاة فيها وقد خوطب بها الغير، فلا تزكى مرتين، وإنما تزكى مرة واحدة، وذلك من المالك الحقيقي لها.
[ولا فيما يجتنيه من المباح كالبرطم والزعبل وبزر قطونا ولو نبت في أرضه].
أي: حبوب المزروعات التي تنبت بنفسها، والمباحات التي تنبت بنفسها ( الناس شركاء في الماء والكلأ والنار ) ما ينبت من المباحات كالأعشاب ونحوها، هذه الناس فيها سواء، لذلك يقال لها إنها من المباحات، فإذا نبتت بنفسها في مزرعة، مثلاً: لو أن إنساناً كانت له أرض ثم هذه الأرض أرسل الله عليها المطر، فأنبتت عشباً، ولهذا العشب منه ما هو حب مثلما ذكر الزعبل والبرطم؛ وهي الحبة الخضراء، أنبتت نوعاً من الزروع التي لها حبوب وبلغت النصاب ثلاثمائة صاع، فهل نوجب فيها الزكاة؟ قالوا: هذا من جنس المباحات، ليس مما للمكلف فيه سعي، وإنما هو من جنس المباحات التي يملكها سائر الناس، فلا تجب في مثلها الزكاة، والسبب في هذا أنهم قالوا: إنه يبدو صلاحها وهي ليست ملكاً لأحد، وإنما يملكها بالجذ، فإذا جذها ملكها؛ لأن العشب والماء والنار مباحات لا تملك إلا بالقبض؛ مثلاً: لو أن الله عز وجل أنبت العشب في مكان، فليس من حق أحد أن يقول: هذا العشب لي، إلا إذا نبت في أرضه، أما لو نبت في مكان فملكيته تكون بعد الجني، ولأنه بدا صلاحه وليس ملكاً لأحد، فلا زكاة فيه، كما ذكرنا عن الأصل الذي قررناه.
وقال بعض العلماء: إن نبتت في أرضه فهو ملكٌ له، ولذلك لا ينازعه أحد، فتجب فيه زكاة، وإن نبتت في غير أرضه فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن الله أنبتها ولا مالك لها.
الأسئلة
خرص الثمار والحبوب

السؤال
في زكاة الحبوب والثمار هل في تحديد الخمسة أوسق لا بد من كيلها صاعاً تلو صاع، أم يكفي خرص أهل الخبرة، أثابكم الله؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا كان عندك نخل أو كانت عندك حبوب مزروعة، فالسنة أن يرسل الإمام الخارص على أصحاب البساتين عند بدو الصلاح في النخل.
والخارص: هو الذي يخرص؛ من الخرص، والخرص: الظن والحدس والتخمين، والأصل في اعتبار الخرص ما ثبت في حديث عبد الله بن رواحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى نخل خيبر يخرصُه؛ لأن نخل خيبر كان مناصفة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، نصفه لليهود ونصفه للمسلمين، فيحتاج أن يُخرص قبل أن يُجذ حتى يعرف كم للمسلمين وكم للعاملين والأجراء وهم الذين كانوا بخيبر.
فالشاهد: أن هذا الخارص رجلٌ عنده خبرة، يذهب إلى النخيل وينظر في النخلة فيقول: هذه النخلة إذا جذت فسيكون بإذن الله فيها -مثلاً- ثلاثون صاعاً عشرون صاعاً عشرة آصع، بخبرته؛ لأنه مع الزمان والدربة والتجربة يستطيع أن ينظر في النخلة فيخرصها، وهذا شيءٌ أقرّه الشرع، فإذا نظر إلى النخلة حدد ما فيها، ثم ينطلق إلى الثانية والثالثة حتى يجمع ما للإنسان في نخله، وبعد أن يمر على البستان بكامله يقدِّر أن في هذا البستان تسعمائة صاع مثلاً، أو ألف صاع، فإذا قدّر ألف صاع يُسقِط منها الربع، والربع هذا سبب إسقاطه أن هناك ما يسقط بسبب الريح، وهناك ما يسقط بسبب الرقي على النخل، وهناك ما يأكله الطير، الذي هو نقر الطير، وهناك الهبة والعطية يهبها صاحب النخل، وهذه هي السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخرّاص أن يتجاوزوا في حدود الربع، فهذا الربع يُترك لصاحب المال، فيقدر بما دون ذلك، فيقول: هذا النخل فيه سبعمائة وخمسون صاعاً، لا يقول: ألف، مع أنها ألف صاع لكن يُسقط منها الربع إعمالاً لما ذكرناه من السنة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وصّى الخرّاص أن يُسقطوا هذا القدر؛ لأن في المال طعمة الطير، وفيه الساقط، وفيه الهبة والعطية ونحو ذلك، فهذا يعتبر في الخرص، أما أن ننتظر حتى يجذ ثم يكيل كل ما جذه فلا، وإنما يقدر قبل الجذاذ، وهكذا الحبوب تقدر وهي في سنابلها، ثم بعد ذلك إن جذ يطالب بإخراج القدر الواجب عشراً أو نصف عشر على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
كيفية إخراج زكاة عروض التجارة

السؤال
بالنسبة للموزونات كالبرتقال والتفاح إذا كانت من عروض التجارة، هل تجب فيها الزكاة رغم أنها لا يحول عليها الحول، أثابكم الله؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإذا أدخل الإنسان مالاً لكي يتاجر به في الفواكه أو غيرها، فالعبرة بهذا المال، وتعتبر الأعيان المنتقلة من عروض التجارة، ولا يؤثر فيها كونها لا تبقى، فالعبرة بدخوله للمتاجرة بهذا المال، ويعتد بحول رأس المال الذي دخل فيه للتجارة، فلو كان عنده مائة ألف وأراد أن يدخل في بيع الفواكه، فإننا نقول: متى دخلت في بيعها؟ فإن قال: في أول محرم، نقول: حينئذٍ كلما جاء محرمٌ من كل عام، فانظر إلى ما عندك من عروض التجارة من الفواكه وغيرها وقدرة يساويه من القيمة، وزكه على الأصل المنضبط في عروض التجارة.
وسيأتي إن شاء الله تفصيله وبيانه في موضعه، والله تعالى أعلم.
معنى التمول

السؤال
قلتم: من مر ببستان فله أن يأخذ ما تساقط من الثمر، إلا أن يتمول، فما معنى قولكم: يتمول؟


الجواب
يقول بعض العلماء: يتمول أي: يأخذ معه، واغتفر بعض أهل العلم التموُّل وقال: إنه يجوز له أن يأخذ ما تساقط متمولاً أو آكلاًُ، يعني: يستوي أن يكون للأكل أو للتمول، و عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما في الصحيح- كان له مالٌ في خيبر، فقال: يا رسول الله! إنها أحب مالي، فما تأمرني؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقفها وأن يحبس الأُصول وأن يتصدق بالثمرة، فتصدق بها على ابن السبيل غير متمول، يعني: أن لا يتمول منها، بمعنى: أن يأخذ بلغته وكفايته في طريقه ولا يأخذ ذلك على سبيل الارتفاق معه زائداً عن حاجته التي يأكلها أثناء الأخذ من تحت النخل، والله تعالى أعلم.
حكم الالتقاط من بساتين مكة

السؤال
هل يختلف الحكم في مسألة الالتقاط في مكة، أثابكم الله؟

الجواب
بالنسبة لمكة لا يختلف الحكم، من كان عنده بستان في داخل مكة ودخله إنسان يجوز له أن يأخذ؛ لأن هذا ليس باللقطة؛ لأنها في ملك الغير وصاحبها معروف، وهذا حكم شرعي أشبه بهبة شرعية في مال الإنسان، ليس لها علاقة باللقطة، اللقطة تكون مالاً ضائعاً لا يُعرف صاحبها، وأما هذا فهو مالٌ معروف وصاحبه معروف، وإنما هو حق واجب على الإنسان لأخيه المسلم عند وجود حاجته، والله تعالى أعلم.
حكم من مات وعليه زكاة ودين لا يكفي ماله لسدادهما معاً

السؤال
إذا توفي رجل وعليه زكاة ودين، فأيهما يقدم إذا كانت التركة لا تكفي لسدادهما معاً، أثابكم الله؟


الجواب
هذه المسألة تُعرف بمسألة ازدحام الحقوق، فإذا ازدحم حق لله وحق للعباد، قدم حق المخلوق على حق الله عز وجل، وهذا من جهة أن الله عز وجل حقوقه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة، وذلك أن الشريعة قدّمت حقوق الأنفس والآدميين على حق الله عز وجل، ولذلك إذا أصابت الإنسان المخمصة وهو في سفر أو في غربة أو في مكان ما، أصابته المخمصة فإن حق الله أن لا يأكل من الميتة، وقد حرم الله الميتة، فإذا خاف على نفسه جاز له أن يأكل منها إنقاذاً لنفسه، وأخذ العلماء من هذا وأمثاله من أحكام الشريعة أصلاً؛ وهو أنه إذا ازدحم حق الله وحق المخلوق قدِّم حق المخلوق؛ لأن المخلوق يطالب بحقه، والله عز وجل كريم يرحم عبده إذا ضاقت يده، أو فاته الوقت عن الأداء أو وُجد عنده العذر، ولذلك قالوا: إذا ازدحمت الزكاة والدين يقدَّم حق الدين على الزكاة، ويخرج من المال الديون، فإذا فضل فضل أخرج في زكاته، وهكذا إذا كانت عليه كفارات وحقوقٌ أخرى، فإنه يُخرج منها بعد أداء ديون العباد، والله تعالى أعلم.
حكم دفع المرأة زكاة حليها إلى زوجها

السؤال
أريد أن أخرج زكاة الذهب والحلي الذي يلبسه أهلي، وأنا رجل عليَّ ديون، هل يجوز لي أن أسدد ديوني من مبلغ الزكاة، أثابكم الله؟


الجواب
بالنسبة لدفع الزكاة إلى الزوج فيها وجهان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: يجوز دفع الزكاة من الزوجة لزوجها، لحديث زينب رضي الله عنها وأرضاها لما: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود ، ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتته أنها تريد أن تتصدق، وأن أبناء عبد الله بن مسعود في ضيعة وحاجة، فأمرها أن تتصدق عليه، وأن الصدقة عليه لها فيها أجران: صلة الرحم، والصدقة.
قالوا: إذا كان هذا أصلاً يدل على أنها إذا بذلت لزوجها أنها متصدقة، ولو كانت في النفل، فإنه يدل على أنه يجوز صرف الزكاة إلى الزوج، وبناءً على ذلك قالوا: يجوز أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهذا القول أقوى القولين.
وقال بعض العلماء: لا يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها؛ لأنها ستستفيد من الزكاة؛ لأنه سينفق عليها.
والذي يظهر كما ورد في السؤال أنه إذا كان الزوج مديوناً ومحتاجاً، ولم تحابه المرأة يجوز أن تدفع زكاة حليها إليه.
والله تعالى أعلم.
كيفية إخراج زكاة العقارات

السؤال
رجل لديه مال واستثمره في شراء العقارات من أراض وغيرها، وذلك بقصد المحافظة على رأس ماله من إنقاص الزكاة له، هل عليه شيءٌ في ذلك؟ وما الحكم إذا كان المال ليتامى، ويقصد بذلك المحافظة على مالهم كما هو، جزاكم الله خيراً؟


الجواب
هذا المال الذي يشتري به العقارات ويبيعها، إذا اشترى الأرض وعرضها للتجارة فالأرض تجب زكاتها إذا باعها، فلو اشترى أرضاً ومكثت عشرين سنة لم تبع ثم باعها بعد عشرين سنة فعليه أن يزكيها لسنة واحدة، وبهذا القول قال سعيد بن المسيب و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وكذلك قال به عروة بن الزبير و خارجة بن زيد بن ثابت ، واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس ، وقال به بعض فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
وبناءً على ذلك إذا اشترى الأرضين، فكل أرض يعتبر فيها الزكاة إذا باعها، إذا تمت لها سنة كاملة وهي معروضة للتجارة، فلو مكثت سنوات زكاها لسنة واحدة للأصل الذي ذكرناه، ولا تجب الزكاة في عين المال، وهناك فرق بين عرض التجارة بالعقارات، وعرض التجارة بالمنقولات، فعرض التجارة بالعقارات أشد لما فيه من الضيق والحرج الذي نفى الله عز وجل وجوده في الشريعة، فإن الرجل ربما عرض أرضه وهي تساوي الملايين ثم يبيعها بعد عشر سنوات بمائة ألف، وهو طيلة هذه العشر السنوات يزكيها على أن قيمتها الملايين، ثم بعد ذلك تنزل إلى هذا السعر وهذا موجود، ربما كانت الأرض في مكان وعليه الطلب والرغبة والإلحاح، فتبلغ الملايين والأسعار الخيالية، فيدفع زكاتها، ثم يشاء الله عز وجل أنها تنزل حتى تباع بالشيء الزهيد اليسير، وقد وقع هذا.
وأعرف رجلاً من القرابة كانت أرضه تساوي تسعة ملايين ثم وصلت إلى عشرة، وما زال على ذلك قرابة عشر سنوات أو أكثر، ثم باعها بما يقارب المليون وشيء يسير، فلو أنه طيلة العشر سنوات وهو يزكي ربما يخرج قيمتها قبل أن يملك القيمة التي سيبيعها به، فالحرج موجود والمشقة حاصلة، وأفتى هؤلاء الأئمة من السلف من التابعين كـ سعيد بن المسيب و خارجة بن زيد و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق و عروة بن الزبير ، كلهم يقولون: إنه يزكيها لسنة واحدة، وذلك بعد قبضها، ولا تجب عليه الزكاة طيلة هذه السنوات.
وأموال اليتامى تجب فيها الزكاة على الصحيح، وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) وهو مذهب جمهور العلماء.



ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:43 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (184)

صـــــ(1) إلى صــ(15)





شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [2]
ما سقي من الحبوب والثمار بالمئونة ففيه نصف العشر، وما سقي بلا مئونة ففيه العشر، وتجب زكاته إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر.
وما وجد مدفوناً من عهد الجاهلية ففيه الخمس، وهو ما يسمى بالركاز.
إيجاب العشر فيما سقي بلا مئونة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [فصلٌ: يجب عشرٌ فيما سقي بلا مئونة].
شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل ببيان المقدار الذي أوجب الله عز وجل في زكاة الحبوب والثمار، فبيّن أنه العشر، والعشر هو الواحد من العشرة، والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فيما سقت السماء العشر ) .
وهذا يدل على أن الحبوب والثمار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان سقيه بمئونة.
القسم الثاني: ما كان سقيه بغير مئونة.
والمئونة: مأخوذة من المئن وهو التعب والنصب، وقالوا: (ما سقي بمئونة) أي: بتعب ونصب، وذلك هو شأن المزارع في غالب أحوالها، أنها تفتقد إلى خروج الماء واستنباطه من الأرض، ثم بعد ذلك توزيعه وتقسيمه على الأماكن التي يراد سقيها، فهذه مئونة وتعب وكلفة ومشقة، ويشمل ذلك ما كان بالآلات القديمة كالسواني ونحوها، وما كان بالآلات الحديثة كالمكائن الزراعية ومضخات المياه، فإن الإنسان إذا سقى بها يعتبر في حكم من سقى بما فيه مئونة ومشقة، وإذا كان الزرع يسقى بالمئونة والمشقة ففيه نصف العشر، وأما إذا كان يسقى بغير مئونة وهو القسم الثاني الذي لا تعب فيه، والمراد به ما تسقيه العيون والسيول، وما تسقيه الأمطار من السماء، فهذا لا مئونة فيه ولا تعب بالنسبة للماء، ولا مشقة في استنباطه واستخراجه، فجعل الله الزكاة الواجبة فيه العشر، أي: يجب إخراج عشره صدقة للفقراء والمساكين الذين سمى الله عز وجل من المستحقين، ولا شك أن الذي فيه المشقة والتعب أعظم كلفة من الذي لا مشقة فيه ولا تعب.
والذي يُسقى بدون مئونة، وهو الذي تسقيه العيون والسيول والأنهار ففيه تفصيل، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يحتاج إلى معالجة ما، وذلك بتحويله إلى مكان الزرع، ووجود مشقة في رفعه إلى ذلك المكان، فمن أهل العلم من قال: كل ما سقي بالسيول ما دامت تصيب الأرض -وكذلك العيون والأنهار- فلا كلفة فيه ولا مشقة، والواجب على صاحبه العشر، سواءً حوّل الماء وجعله في سواقٍ وتكلّف السواقي، أو أن الماء بنفسه سرى على الأرض كالرياض المعروفة في البادية، يجعلونها على أماكن جريان السيل، أو في شرائع الجبال، فهذه لا مشقة فيها؛ لأن الماء سينزل وسيصيب هذه الأماكن التي بُذر فيها الحب، فعند هؤلاء العلماء يستوي أن يكون السيل قد أصاب الأرض مباشرة، أو أدخلته أنت إلى الأرض فتكلفت في إدخاله، بأن تكون قد جعلت له حاجزاً أو صخرة يصطدم بها ثم يدخل إلى مزرعتك، فبعض العلماء يفرِّق بين الذي سقي من السماء، والذي يحتاج إلى معالجة بالسيل والأنهار، فيقول: هذا مئونة ومشقة، فيكون فيه نصف العشر.
والصحيح: أنه لا فرق؛ لأنه سقته السماء، وداخل فيما سقته السماء.
وأما ما سُقي بالنضح -كما ورد في الحديث- فهذا فيه كلفة ومشقة، ومعناه: أنه يستنبط الماء ويتكلف إخراجه، هناك حالة تستثنى من السيول والأنهار، وهي حالة المضخات المائية الموجودة الآن، فإذا احتاج المزارع لوضع مضخة على السيل من أجل أن يجذب بها الماء خفِّف عنه في الزكاة؛ لأنه في حكم النضح، أما لو دخل السيل بنفسه أو دخل بمعالجة، فإنه لا يصدق عليه أنه مما فيه المشقة، وإنما يجب فيه العشر، وعلى هذا ففرِّق بين ما سقي بمئونة ومشقة وتعب وبين ما سقي بدون مئونة ومشقة وتعب؛ وهذا يدل على سماحة الشريعة، ورحمة الله عز وجل بعباده، وحكمته في تشريعه جل شأنه؛ لأن الذي فيه المشقة سيحتاج الإنسان إلى كلفة من المال والجهد والوقت، ولذلك يكون حظه من زرعه أقلّ لو قلنا: عليه العشر، ولكن الذي لا كلفة فيه ولا مشقة فإن الأوجه أن يكون حظ الفقراء فيه أكبر، وهو نصاب العشر كما سنّ النبي صلى الله عليه وسلم.
إيجاب نصف العشر فيما سقي بمئونة
قال رحمه الله: [ونصفه معها].
أي: مع المئونة والكلفة والمشقة، سواء كانت بالسواني القديمة، أو كانت بالدلو والرشاء القديم، أو كانت بالمضخات الموجودة الآن من المكائن الزراعية وآلات الضخ، كل ذلك يعتبر مما فيه مئونة ومشقة، فيجب عليه نصف العشر، أي: نصف عشر ما يخرجه.
فلو أن إنساناً ملك أرضاً يصبها المطر والسيل -وهي التي تسمى في العرف بالرياض التي تكون في البادية- فزرعها فأخرجت له -مثلاً- ألف صاع من الحب، فإذا كان قد زرعها وأصابها الماء من قطر السماء بدون كلفة ولا مشقة ولا مئونة، أوجبنا عليه عُشْر ألف صاع أي: مائة صاع، نقول: عليك مائة صاع كزكاة، وتسعمائة صاع لك، هذا بالنسبة للواجب.
وبعض العلماء: يعتبر التخفيف على الأصل الذي ذكرناه، يسقط عنه الثلث أو الربع، ثم بعد ذلك يحسب الزكاة من السبعمائة والخمسين التي تعادل ثلاثة أرباع ما أنتجته الأرض، ويوجب عليه عشرها، فإذا كان يخرج ألف صاع، يقول: نسقط عنه ثلث ما تخرجه أرضه أو الربع كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرصتم فدعوا الثلث وإلا فالربع )، أقلّ ما يترك هو الربع، فربع الألف مائتان وخمسون صاعاً، ثم بعد ذلك من السبعمائة والخمسين الباقية يُخرج عشرها وهو خمسة وسبعون صاعاً.
مقدار الزكاة إذا سقي الزرع بمئونة تارة وبدون مئونة تارة أخرى
قال رحمه الله: [وثلاثة أرباعه بهما].
وثلاثة أرباع العشر إذا كان يسقى بالمئونة وبدون مئونة، وهذا إذا كان نصف السنة، مثلاً: إذا كانت هناك الأمطار والسيول، فترك الأرض للأمطار والسيول فسقتها، فمضت ستة أشهر وهي تسقى بالأمطار والسيول والأنهار، أو تكون هناك عين تجري ستة أشهر وتنقطع، فهذه الأرض نصف السنة تسقى بدون مئونة، ثم النصف الثاني يكون سقيها بالآلات والمكائن الزراعية؛ إذا جئنا ننظر إلى وجود المئونة فهي نصف السنة، وإن جئنا ننظر إلى فقد المئونة وعدم وجودها فهو نصف السنة كذلك، وليس لأحدهما أغلبية على الآخر، فقالوا: نوجب عليه العشر في النصف الأول من العام، فيكون حينئذٍ ثابتاً في ذمته هذا العشر في الستة الأشهر الأولى، ثم الستة الأشهر الأخرى نوجب عليه نصف العشر، فيكون عليه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنك إذا حسبت في نصف العام الأول العشر ونصفه نصف العشر، وحسبت في نصف العام الثاني نصف العشر ونصفه الربع، أصبح المجموع ثلاثة أرباع.
مثال ذلك: لو كان عنده مثلاً ألف صاع، هذه الألف صاع سُقي منه نصف عام بدون مئونة، الستة الأشهر الأولى، وسقي الستة الأشهر الأخرى بمئونة، فالواجب حينئذٍ نقول: عليه العشر في نصف العام الأول، وعليه نصف العشر في نصف العام الثاني، وحينئذٍ يكون ثلاثة أرباع العشر واجباً عليه؛ لأن العشر لم يستتم في نصف العام الأول، فيكون عليه حينئذٍ نصف العشر؛ لأن نصف العام إذا كان العام كله فيه عشر، فنصف العام فيه نصف العشر، ثم النصف الثاني عليه نصف العشر، ولم يستتم عاماً كاملاً فعليه ربع العشر، فحينئذ نصف العشر وربع العشر يصبح حينئذٍ ثلاثة أرباع العشر، فإذا نحن كنا قلنا: عليه ألف صاع فيه مائة صاع منها، وإذا قلنا: عليه نصف العشر فعليه خمسون صاعاً، والواقع نصف العشر لأنها نصف عام، فعليه حينئذٍ الخمسون، ثم تنتقل إلى النصف الثاني الذي فيه المشقة والعناء، فعليه نصف العشر، ونصف العشر خمسون، ولما كان نصف عام توجب عليه نصفها وهو خمس وعشرون صاعاً ثم تضيف الخمسة والعشرين إلى الخمسين ليصبح المجموع خمساً وسبعين صاعاً.
[فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً].
إن كان أكثر انتفاع النخل بالمئونة فنحسب نصف العشر، وإن كان أكثر انتفاع النخل بالسقي بلا مئونة وهو سقي الأنهار والسيول والعيون، فحينئذٍ عليه العشر، فينظر إلى ما هو أكثر نفعاً، هذا إذا تفاوتت بحيث لا يمكن أن ينضبط، إذا ضبطنا الأول بنصف العام وضبطنا الثاني بنصف عام فلا إشكال، فتعطي لكلٍ نسبته، أما إذا لم ينضبط، فينظر إلى أكثرهما نفعاً فحينئذٍ يغلَّب، والحكم للأكثر، والنادر لا حكم له.
[ومع الجهل العشر].
إذن عندنا عدة أحوال: إما أنه يسقى بالنضح والمئونة والمشقة ففيه نصف العشر بلا إشكال، وإما أن يكون يسقى بلا مئونة ولا مشقة ففيه العشر بدون إشكال، وإما أن يكون مشتركاً بينهما معلومٌ نصاب كل واحد منهما كنصف ونصف، فحينئذٍ لهذا نصفه ولهذا نصفه، وإما أن يتفاوتا فالنظر إلى ما هو أكثر نفعاً، وإما أن يُجهل الحال -وهي الحالة الخامسة- بمعنى: لا نستطيع أن نعرف لا أكثرهما نفعاً ولا نعرف مقدار النضح، ولا نستطيع أن نميز ما هو بدون نضح، فحينئذٍ يرجع إلى العشر، وهذا مرده إلى الأحظ للفقراء؛ لأن الزكاة مبنية على حق لله عز وجل أوجبه للفقراء والضعفاء، فغلِّب حق الفقراء على حق الأغنياء، ولذلك قالوا حينئذٍ: إذا كان لا يدري ننتقل إلى العشر ونوجب عليه زكاة عشر ماله.
وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار
قال رحمه الله تعالى: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة].
قد بيّنا أن اشتداد الحبوب من علامة بدو الصلاح، فالحب أول ما يكون يكون ليناً في سنابله، ثم يبدأ يشتد، فإذا اشتد وابيضّ -كما في رواية الصحيح- بدا صلاحه وجاز بيعه حينئذٍ، أما قبل الاشتداد فلا يجوز البيع ولا يحكم ببدو صلاح، فإذا اشتد الحب يبعث الإمام الخُرَّاص، والخارص: هو الشخص الذي له خبرة في الحبوب والنخيل، بحيث ينظر إليها ويعلم مقدار ما فيها عن طريق التجربة على سبيل التقريب، فيقول: هذا النخل فيه مثلاً ألف صاع، ويبيِّن أو يقدر ما على كل نخلة، وهذا راجع إلى الخبرة وكثرة الابتلاء في هذا العمل، فذلك يجعل الإنسان من السهل عليه أن ينظر إلى النخلة، ويعلم ما بها.
والدليل على مشروعية الخرص: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر )، وخيبر لما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم كان بها اليهود، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإذا بها أرض زرع، فالصحابة سيرجعون معه إلى المدينة، ولا شك أن هذا الزرع سيتلف ويهلك، فلا هو استفاد منها، ولا استفادت يهود، فسألوه أن يتركهم في هذا النخل يعملون فيه ويصلحونه حتى يثمر، وإذا أثمر قسمت الثمرة بينه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقي أهل خيبر على الشطر -وهو النصف، فيكون لهم نصف الثمرة وللنبي صلى الله عليه وسلم نصف الثمرة- فكان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه لكي يخرص نخل خيبر ) يخرص بمعنى: أنه يحدد كم في هذا النخل من الآصع، ثم يخلى بين اليهود والنخل- فيدفعون النصف الذي تبين أن نصف النخل على قدر ما بيّن عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أصل في مشروعية الخرص، والعلماء مجمعون على مشروعية الخرص، وأنه إذا بدا الصلاح يبعث الإمام الولي من يخرص للناس نخيلهم وحبوبهم، ليقدر المقدار الذي أوجب الله وفرض في نخيلهم وحبوبهم.
قال: [وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح].
قوله: (اشتد الحب) علامة خاصة، وقوله: (بدا الصلاح) علامة عامة، ونحن بيّنا العلامات الخاصة والعلامات العامة في بدو الصلاح، فالحبوب والثمار إذا بدا صلاحها ينظر كم يحمل هذا النخل أو هذا الزرع من الحبوب والثمار ويحسب ويقدر، ثم يخلى بين الناس وبين الحبوب والثمار ينتفعون بها، فيترك لصاحب البستان بستانه، أن يأكله بلحاً ورطباً وتمراً، وأن يبيع وأن يتصدق وأن يهدي، يخلى بينه وبينه، حتى إذا انتهى وجذ جاء إلى الولي بالمقدار الذي حدد في زكاة المال، فيأتي الخارص ويخرص النخيل والحبوب والثمار والعنب وغيره، وقد ورد في الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه ليخرص العنب والنخيل ) فهذا كله يدل على مشروعية الخرص عند بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وحدد المقدار الواجب يترك الناس، يقال لهم: هذا نخلكم وهذا زرعكم افعلوا به ما شئتم، وإنما يجب عليكم أن تُخرجوا من الزكاة قدر كذا وكذا.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر].
(ولا يستقر الوجوب) بمعنى: لا ويطالب الفلاح (إلا بجعلها) أي: بجعل الثمار والحبوب (في البيدر) وهو المكان الذي تجلب إليه الثمرة.
والتمر إذا جُذَّ يكون فيه شيء من اللين، فيحتاج إلى أن يشمّس، فيبسط في مكان يسمى بالبيدر، فهذا المكان تضربه فيه الشمس حتى يقوى ويشتد؛ لكي يصلح لاختزانه، وكذلك أيضاً لكنزه في الآلات التي يكنز فيها، أما لو أُخذ قبل ذلك من النخلة مباشرة ووضع في الآلات فربما فسد فلم يصلح للأكل، ولذلك يحتاج إلى أن يشمس، فهذا البيدر هو المكان الذي يشمس فيه.
وأما الحبوب فإنها تحتاج بعد أن تُجَذ إلى أن توضع ثم تفرش وتصفى، وبعد ذلك ينتفع الناس بها، وتخرج لأجل أن تكون في مصالحهم فيطعمونها ويرتفقون بها.
فقبل جلبها إلى هذا المكان لا يستقر الوجوب على أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، منهم من قال: العبرة بالجذ، فإذا جذ، وجبت عليه الزكاة، واستقرت في ذمته؛ لقوله تعالى: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141] فأمر الله عز وجل بإيتاء الحق عند الحصاد وحين الحصاد، ولذلك يجب عليه ذلك.
[فإن تلفت قبله بغير تعدٍّ منه سقطت].
وهذا بناءً على القول الذي يَشْتَرِط أن تكون في البيدر، فهذا القول الذي يشترط هذا الشرط لا يطالب صاحب النخل بالزكاة ودفعها إذا تلفت قبل وضعها في البيدر، ولكن بشرط أن لا يفرط، فإن فرّط ضمن، فإذا أصابتها الآفة قبل جلبها إلى البيدر -ما بين الجذاذ وبين جلبها إلى البيدر- فأصابها إعصار وتلفت أو أصابها غرق -جاء السيل وأغرقها- فحينئذٍ لا يلزمه الضمان، فلا تجب عليه الزكاة، ولا يطالب بدفعها، هذا حسب القول الذي يشترط لاستقرار الوجوب أن تجلب للبيدر.
أما على القول الثاني فإنه بمجرد جذِّه يعتبر في حكم الآخذ لها، وحينئذٍ إذا تأخر في دفعها للمستحقين يتحمل المسئولية.
والأولون يقولون: كيف يدفعها للوالي وهي لم تستصلح بعد ولا يمكن أن يكيلها إلا بعد أن توضع في البيدر وتشمّس ثم بعد ذلك تُكال، ويمكن أن تخرج للناس؟! وهذا القول للجمهور رحمة الله عليهم، وهو من جهة النظر أقوى وظاهر التنزيل على القول الأول له وجهه، وبناءً على ذلك يقولون: إذا تلفت من غير تعدٍ لم يضمن، وإن تلفت بتعدٍ ضمن.
وتلفها بتعدٍ كأن يأتي ويجذ الثمرة ثم يضعها في بيدر مكشوف أمام الناس، ومزرعته مفتوحة لكل من أراد أن يدخل، فجاء السارق وأخذ الثمرة؛ فهذه السرقة وقعت بتعدٍّ وتفريط منه، فإذا فرّط وتعدى أُلزم بعاقبة تفريطه، فيجب عليه ضمان الزكاة، ولا تسقط عنه الزكاة على هذا الوجه لأنه فرّط.
(أو تعدى) أي: تعاطى أسباب الفساد، كأن يرسل الماء عليها، أو يضعها في الشمس على طريقة يفسد بها التمر، فحينئذٍ نقول: أنت الذي تعديت فتُلزم بما فعلت من التعدي، وتجب عليك الزكاة، فيشتري غيرها ويدفعها زكاة بالمقدار الذي وجب في ذمته.
حكم إيجار الأرض للزراعة
قال المصنف رحمه الله: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها].
إذا تبينت هذه الأحكام من وجوب العشر ووجوب نصف العشر، فالنخل والزرع لا يخلو من حالتين: إما أن تكون الأرض والزرع ملكاً للإنسان، فحينئذ لا إشكال، والكلام الذي مضى منصبٌّ على صاحب الأرض بما أنتجت أرضه من حبوب وثمار.
الحالة الثانية: أن تكون الأرض لشخص، والزروع والثمار لشخص آخر، ومن أمثلة هذه الحالة أن يقول لك رجل: أجرّني هذه الأرض عشر سنوات، وهذه هي مسألة إجارة الأرضين للزراعة، وهي مسألة اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها هل تجوز إجارة الأرضين للزراعة، أو لا تجوز إلى ثمانية أقوال مشهورة: القول الأول: التحريم مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يؤاجرها ) وهو حديث جابر في الصحيح.
وهذا القول الذي يقول به الظاهرية قول ضعيف، وإن كان الحديث صحيحاً لكنه منسوخ؛ لأنه كان في أول الأمر حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان بالمهاجرين ضيق في اليد وكانوا في فقر وشدة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من كانت له أرض فليزرعها -أي: بنفسه- أو ليُزرعها أخاه -أي: يمكِّن أخاه من زراعتها- ولا يؤاجرها ) ، يعني: لا يؤجرها على أخيه المسلم، وهذا تعظيم لأخوة الإسلام وتقديم لها على مصالح الدنيا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمه إلى المدينة عن المؤاجرة، ثم رخص فيها كما جاء في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في الصحيحين.
القول الثاني: تجوز إجارة الأرضين مطلقاً، وبه قال بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا القول يحتج بحديث رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع ) ثم بيّن رافع سبب هذا النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس) ما معنى هذا الحديث؟ أراد رافع أن يبيّن السبب في النهي عن زراعة الأرضين غير النهي الأول؛ لأن النهي وقع على صورتين: الصورة الأولى: النهي المطلق الذي اشتمل عليه حديث جابر في مقدمه عليه الصلاة والسلام على المدينة، وهو نهي متجه إلى الأنصار الذين كانوا يملكون أرض المدينة.
والنوع الثاني من النهي: جاء لصورة مخصوصة من الإجارات، كان الرجل يقول للرجل: خذ أرضي وازرعها، فما يخرج من زرع بجوار الماذيانات وأقبال الجداول -والماذيانات هي التي تسمى الآن القناطر والجداول التي يجري فيها الماء- فهو لي؛ فمن ذكاء صاحب الأرض يعلم أن الذي بجوار الماء يعيش، وأن الذي هو بعيد عن الماء قد يعيش وقد لا يعيش، لمكان العطش والظمأ؛ وحتى لو عاش يكون أقلّ نتاجاً وأضعف، فلذلك يشترط رب الأرض أن يكون له الزرع الذي يكون على الجداول، ويكون للذي يستأجر ما هو بعيد عن الجداول، وفي هذا ظلم وغرر، فهو يتضمن محظورين شرعيين: المحظور الأول: الظلم؛ لأن هذا المسكين يتعب باستصلاح الأرض ثم يَسْلَم الذي لغيره ويهلك الذي له، فهذا من الظلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( أرأيت لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله؟ ) فهذا المؤجر -صاحب الأرض- يستغل تعب المستأجر -العامل في الأرض- وكدّه ونصبه ويأخذ من حبّه دون أن يستفيد الآخر شيئاً إذا لم يسلم البعيد.
ثانيا: أنه من الغرر، كما قال رافع في نفس الحديث: (فيسلم هذا ويهلك هذا) والغرر هو المخاطرة؛ مأخوذ من: غرر فلان بفلان إذا خاطر به وعرّضه للخطر، فيقولون: (يسلم هذا ويهلك هذا) كأن رب الأرض يغرر بالمستأجر، فيجعله يستأجر على رجاء أن يجد مصلحة ولا يجد مصلحة، لكن رب الأرض يستفيد المصلحة.
فأصحاب القول الثاني الذين يجوزون مؤاجرة الأرضين يحتجون بحديث رافع ، ولكن الحديث لا يدل على قولهم؛ لأن القول أعم من الدليل، وإذا كان الدليل أخصّ من القول أو القول أعمّ من الدليل فحينئذٍ لا يصلح الدليل دليلاً لإثبات القول كله، وإنما يصلح في حدود ما ورد به الدليل، فحديث رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس).
(بشيء معلوم) أي: محدّد.
القول الثالث: تجوز إجارة الأرضين إلا بجزءٍ مما يخرج منها؛ بمعنى: يجوز أن يؤجر الأرض بالذهب والفضة، أما بالطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه إذا كان بجزءٍ مما يخرج منها، فإنه يعتبر من باب الغرر؛ لأنه لو قال له: هذا النصف لي والنصف الثاني لك، يحتمل أن يسلم هذا ويهلك هذا، وتقع الخصومة بينهما، فمنعوا من ذلك، وهذا القول يضعف على حديث المزارعة؛ لأن المزارعة تكون في الجزء المعلوم من الأرض.
والقول الرابع: أنه تجوز إجارتها إلا بالطعام، يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، سواء كان منها أو من غيرها؛ والسبب في ذلك يقولون: إنه ربا؛ لأنه إذا استأجر الأرض وقال: أعطيك مائة صاع أو أعطيك مائتي صاع، فإنه حينئذٍ قد باع الطعام بالطعام، لأن حقيقة الأمر أنه استفاد من الأرض ألف صاع، وأعطاك في مقابلها مائتي صاع، فباع الطعام بالطعام نسيئة ومتفاضلاً، فقالوا: لا يجوز.
القول الخامس: أنه تجوز إجارتها بالنقدين فقط، وهذا القول هو من أقوى الأقوال، وهو الذي عناه رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس به) وذلك لزوال العلة التي سبقت الإشارة إليها في الأقوال المتقدمة.
وهناك أقوال ضعيفة، لكن هذه هي أشهر الأقوال المعتمدة على النصوص.
إذا ثبت هذا فإن استأجر رجلٌ من رجلٍ أرضاً وقال: يا فلان! هذه الأرض لا يخلو الاستئجار لها من حالتين: إما أن يستأجرها للزراعة، أو يستأجرها لغير الزراعة، إن استأجرها لغير الزراعة فلا إشكال، وإن استأجرها للزراعة ففيه تفصيل عند العلماء: إن كانت الأرض فيها بئر ماء، ويغلب على الظن بقاؤه وبقاء مصالحه، وقصد منها الزرع فيجوز، وأما إذا استأجرها بقصد الزراعة ولم يكن بها بئر ماء، وقال: أحفر إن أخرج الله لي ماءً فالحمد لله، وإذا لم يخرج فأنا أتحمل المسئولية، فهذا من الغرر الذي لا يجوز.
الخلاصة أنه إذا كان في الأرض ما يعين على زراعتها -وهو وجود البئر أو وجود العين- جازت إجارتها للزرع، فلو استأجرها عشر سنوات، وفي كل سنة يزرع فيها الحبوب، فزرع فيها في النصف الأول من العام وزرع فيها في النصف الثاني من العام، فهل تجب الزكاة على رب الأرض ومالك الأرض أو على المستأجر؟

يتبع

ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:44 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (185)

صـــــ(1) إلى صــ(15)





الجواب
تجب الزكاة على المستأجر؛ لأن رب الأرض لم يملك هذا الزرع لا أصوله ولا فروعه، وحينئذٍ الواجب إخراج الزكاة على من ملك الحب أصله وفرعه، وبناءً على ذلك: يجب عليه أن يخرج الزكاة من حبه ونتاجه الذي يتحصّل عليه منه.
فنقول: المستأجر هو المطالب بإخراج الزكاة، وتجب عليه الزكاة بنفس التفصيل الذي ذكرنا، ومن هنا قال المصنف: (ولا تجب الزكاة على رب الأرض وإنما تجب على المستأجر دون المالك).
أما في النخل فيتأتى ذلك بأن يؤجره الأرض عشرين عاماً، على القول بجواز إجارتها العشرين عاماً والثلاثين عاماً، فلو استأجرت أرضاً عشرين عاماً وأحببت أن تزرع فيها النخل فيستقيم حينئذٍ الكلام على إجارتها إذا كانت في النخيل، وتقع مسألة إجارة النخيل وإجارة الأرض، وتكون النخيل ملكاً للمستأجر، وحينئذٍ يطالب المستأجر ولا يطالب ربّ المال، فلو زرع فيها نخيلاً عشرة أعوام أو عشرين عاماً وخمسة عشر عاماً، استأجرها وزرع فيها نخيلاً، فإنه حينئذٍ تتحقق مسألتنا، فنقول: إنه تجب الزكاة على المستأجر دون رب الأرض ومالكها.
[وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره].
العسل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته مع رجلٍ من أهل اليمن سأله عن عسله.
أما حديث عمرو بن شعيب فقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يملك عسل نحلٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أد العشور، قال: احمها لي يا رسول الله، فحماها عليه الصلاة والسلام له لما أدى عشورها ) ، هذا الحديث تكلم العلماء على سنده، فمن قائل بثبوته كالإمام أحمد رحمة الله عليه ومن وافقه، وقوى هذا بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما كتب له عامله عن العسل يسأله فيه، قال: (إن أدوا من كل عشر قرب قربة فاحمها لهم) وهذا يدل على أنه يرى الزكاة فيها بالعشر.
وجمهور العلماء على عدم وجوب الزكاة في العسل؛ لأنه لم تثبت عندهم أدلة صحيحة، وحديث عمرو بن شعيب عندهم متكلّم في سنده، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، ولأن الذين قالوا بوجوب الزكاة في العسل لم يستطيعوا أن يبينوا دليلاً صحيحاً على تحديد نصاب العسل، أي: القدر الذي إذا بلغه العسل وجبت فيه الزكاة، فبعضهم يقول: ستمائة رطل، وبعضهم يقول: مائة وستون رطلاً، واختلفت أقوالهم، وكلهم ليس عنده أصل صحيح من الكتاب والسنة يحدد نصاب العسل، ومنهم من يقول: فيه العشر بغض النظر عن كونه بلغ أو لم يبلغ، ولذلك يقولون: هذا مما يدل على ضعف القول بوجوب الزكاة فيه.
ولا شك أن من أدى عشر ما يخرجه النحل من عسله أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، خاصة لما فيه من الاهتداء بسنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
الركاز وأحكامه
قال المصنف رحمه الله: [والركاز ما وُجِد من دفن الجاهلية ففيه الخمس في قليله وكثيره].
أصل الركز الدفن، ولذلك يقال للرمح: إنه مركوز، إذا دُفِن في الأرض؛ ومعنى رُكِزَ: غُرِز في الأرض ودفن فيها، ويشمل وصف الثبوت، وقد يطلق الرِّكز للصوت الخفي، ومنه قوله تعالى: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [مريم:98] أي: هل تسمع لهم صوتاً ولو كان خفياً، فهذا أصل الركاز.
وأما بالنسبة للمراد بالركاز في الشرع فهو دفن الجاهلية، والمراد بذلك ما يعثر عليه من النقود والأموال والجواهر التي كانت لأهل الجاهلية، ويعرف كونها من دفن الجاهلية إذا كانت عليها كتابات جاهلية أو عليها تواريخ جاهلية، فحينئذٍ تعرف بأنها من دفن الجاهلية؛ فيكون فيها الخمس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح: ( وفي الركاز الخمس ) أُعطي حكم الفيء، ولذلك يجب فيه الخمس ويلحق بالزكاة، ومصارفه مصارف الفيء، وستأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد في مباحث الغنيمة.
وهذا الركاز يشترط فيه أن يكون من دفن الجاهلية، أما لو وجدنا نقوداً وذهباً وفضة من دفن الإسلام، يعني: في زمان من بعد عصر النبوة، فإنه حينئذٍ يأخذ حكم اللقطة ويسري عليه ما يسري على اللقطة من أحكام.
فإذا كان عليه أمارات الجاهلية ومن أموال الجاهلية، فإنه ركاز، وفيه الخمس؛ فبمجرد ما يأخذه يُخرج خمسه، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً.
فاختلف الركاز عن الزكاة بما يلي: أولاً: أنه لا يتحدد بنصاب، والزكاة تتحدد بنصاب.
ثانياً: مصارفه مصارف الفيء، أما الزكاة فمصارفها هم الذين سماهم الله عز وجل من الأصناف الثمانية، الذين حددهم من فوق سبع سماوات: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:60] وسيأتي إن شاء الله الكلام على هؤلاء الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل في كتابه.
فبالنسبة للركاز يؤدي الخمس عن قليله وكثيره، فلو حصل على ألف غرام منه، أو حصل على مائة غرام منه فالحكم واحد، بل حتى لو حصل على عشرة غرامات، وهي من دفن الجاهلية، فعليه أن يخرج خمسها ومصرفها مصرف الفيء.
وذهب بعض العلماء -وهم الحنفية- إلى أن المعادن تأخذ حكم الركاز، والجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية- على أن الركاز يختص بدفن الجاهلية.
الحنفية يقولون: المعادن حكمها حكم الركاز، ويجب عليه أن يخرج زكاتها، فيخرج منها الخمس، سواء كانت ذائبة أو كانت مما يحتاج إلى إذابة أو كانت جامدة، فالذائبة مثل أن يؤخذ الذهب والفضة ويذوّب فيلحق بالركاز وعليه الخمس، والجامدة مثل النورة (الجص) وغيرها مما يكون من المعادن التي تستخرج، فهذه فيها الخمس عندهم.
والصحيح: أن المعادن لا تأخذ حكم الركاز، وإنما لها حكم مستقل، ولا تدخل فيما سن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( وفي الركاز الخمس ) .
والركاز يشترط فيه وجود العلامة، أما إذا وجدت فيه علامة الإسلام، أو غلب على الظن أنه من دفن المسلمين، فإنه يأخذ حكم اللقطة، وسنبين هذه الأحكام بالتفصيل في باب اللقطة، وسيأتي إن شاء الله في باب المعاملات.
[ففيه الخمس في قليله وكثيره].
(ففيه الخمس في قليله وكثيره)، فلو كان الذي حصل عليه ألف غرام فإننا نوجب عليه خمُس الألف، وهو مائتان من الغرامات، فيجب عليه أن يؤديها، وشأنه في الأربعة الأخماس يفعل بها ما شاء، والركاز يملكه من وجده، فمن وجده في برِّية أو عمران ملكه، فإذا كان في عمران وهذا العمران ملكاً له فحينئذٍ لا إشكال، وإن كان ملكاً لغيره فهو لذلك الغير؛ لأن من ملك أرضاً ملك ما بباطنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين ) فجعل سافل الأرض تابعاً لأعلاها، وبناءً على ذلك قالوا: يكون لصاحب الأرض.
الأسئلة
إخراج الزكاة مما زرع للعلف

السؤال
نحن نزرع الأعلاف للماشية ويأتي فيه الحب ويبلغ النصاب، ولكن نحصد الأعلاف ونعلف بها الماشية وفيها الحب في السنابل، هل يلزمنا الزكاة مع أننا لم نزرع للحب إنما للتعليف، وجزاكم الله خيراً؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتجب الزكاة على من ملك الخمسة الأوسق سواء زرعها لنفسه أو زرعها لدوابه علفاً، وحينئذٍ يجب عليكم إخراج ما أوجب الله من الزكاة على ظاهر الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب الزكاة في الحبوب.
والله تعالى أعلم.
حكم زكاة السويق

السؤال
السويق الذي يحصد قبل أن يشتد حبه ثم يطبخ فيشتد حبه بالطبخ، هل فيه زكاة، ومتى تكون زكاته، أثابكم الله؟


الجواب
بالنسبة للسويق إذا جُذ قبل بدو صلاحه وهو قبل الاشتداد، فلا تجب فيه الزكاة، وبناءً على ذلك يكون حكمه حكم الثمرة إذا قطعت قبل بدو صلاحها، فالثمر إذا قطع قبل بدو صلاحه لم تجب فيه زكاة، كأن يقطع ثمرة نخيله علفاً للدواب، أو يقطعها لأجل أن يتقوى النخل، فكل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وعلى هذا فلو قصه قبل بدو صلاحه لم تجب فيه الزكاة، والفرق بين المسألة الأولى والمسألة الثانية واضح، وذلك أن الحاصد في المسألة الأولى قد استقر وجوب الزكاة عليه؛ لأنه حينما بدا صلاح الحب واشتد، فإنه وجب عليه أن يؤدي الزكاة، واستقر عليه الوجوب بالحصاد، وأما الحالة الثانية -وهي ما ذكر في السؤال الثاني- فحينما جُذ الثمر أو الحب قبل بدو صلاحه، فإنه لم يخاطب بالزكاة ولم تجب عليه الزكاة أصلاً؛ لأن شرط وجوبها أن يشتد الحب في سنابله، فإذا حصد قبل اشتداده في سنابله، فإنه لا تجب عليه الزكاة.
والله تعالى أعلم.

حكم الحب إذا وضع في البيدر فتلف


السؤال
إذا وضع الحب في البيدر وتلف بتعدٍ أو غير تعدٍ، فما الحكم، أثابكم الله؟


الجواب
إذا وضع في البيدر وتلف بتعدٍ وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لم يتعدّ ولم يفرِّط فلا ضمان عليه، وقد بينا هذا التعدي، كأن يرسل الماء عليه، أو يتساهل في وضعه على طريقة تؤدي إلى تلف الثمرة، أو يتركه للدواب والهوام، ويكون المكان الذي فيه البيدر فيه دواب وهوام تفسده، فحينئذٍ تعدى؛ لأنه عالم بوجود هذه المفاسد، ولم يتعاط أسباب الحفظ والصيانة، فيلزم بضمان ما تعدى فيه، وأما إذا كان فرّط فالتفريط أن يتساهل في تعاطي الأسباب للحفظ، كما ذكرنا أنه ترك الباب مفتوحاً فجاء السارق وأخذ، أو جعل مزرعته مفتوحة لكل من يدخل ويخرج بدون أن يحفظ الثمرة ويصونها، ويكون البيدر عليه ما يحفظه، فحينئذٍ يلزمه الضمان ولا يسقط ذلك وجوب الزكاة عليه.
والله تعالى أعلم.
حكم المزارعة بما يخرج من الثمر

السؤال
استأجر رجل أرضاً لزراعتها واتفق مع صاحب الأرض على ربع الخارج من ثمارها وحبوبها، فهل هذا جائز، أم لا؟ وما العمل فيما سبق، أثابكم الله؟


الجواب
استئجار الأرض بربع ما يخرج منها أو بنصف ما يخرج منها لا يجوز على أصح أقوال العلماء كما ذكرنا.
الحلّ في هذه الحالة: إذا استأجر وتمّ العقد، فإن القاعدة في الإجارات الفاسدة أنها تُفسخ إن أمكن الفسخ، بمعنى: أنه يقال لكل منهما أن يجدد العقد، وإذا أمكن ذلك فلا إشكال، أما لو زرع وخرج الزرع ومضت المدة، فالحكم حينئذٍ في القضاء والفتوى أن ذلك يردّ إلى أجرة المثل، فنقول: أنتم اتفقتم على وجه فاسد، فننظر كم أجرتها بالمعروف، فننظر في العرف في هذه القرية والمدينة أو المحلّ الذي فيه الأرض، لو أُجرت أرض مثل هذه الأرض بكم ستؤجر.
قالوا: كل شهر بألف -وقد مضت ستة أشهر مثلاً- فنقول للمستأجر: ادفع ستة آلاف وهي أجرة المثل، يجب عليك دفعها، وخذ الثمرة كاملة لك، فيكون حينئذٍ ليس لرب الأرض أن يشارك المستأجر في الثمرة، وتكون الثمرة بكاملها للمستأجر، وعليه أن يدفع لرب الأرض أجرة أرضه بالمعروف، ولذلك قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة:228] فالعرف يُرد إليه عند وجود ما يقتضي ذلك من الخلل في الإجارات أو فساد عقدها، فنقول: كم مضى من الأشهر؟ قالوا: شهران أو ثلاثة أو أربعة، فنقول: ادفع أجرة هذين الشهرين بالمعروف، فحينئذٍ لا ظلمنا رب الأرض ولا ظلمنا من استأجر الأرض، وأعطينا الأرض حقها، وكان في ذلك تحقيق للمصالح كلها، فالعامل في الأرض استفاد بالأجرة وأخذ حقه، والمستأجر استفاد بحبه الذي زرع في أرضه وما يكون منه من نتاج، وأعطيت الأرض حقها بدون ظلم، وهذا هو عين العدل الذي أمر الله به ورسوله.
والله تعالى أعلم.
الخراج بالضمان

السؤال
من اشترى بيتاً أو أرضاً ثم وجد فيها ركازاً، فهل هو للبائع، أم للمشتري، أثابكم الله؟


الجواب
من اشترى أرضاً أو اشترى بيتاً فوجد فيه ركازاً فالركاز لمن اشترى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أم المؤمنين عائشة عند أبي داود في السنن: ( الخراج بالضمان ) ومعنى الحديث: أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنه متحملٌ لخسارة أرضه؛ حيث إنه لو تلفت الأرض، أو جاءتها آفة، أو جاءها ضرر، لتحمّل المشتري المسئولية، فكما أنه يتحمل الغرم فله الغنم، والقاعدة في الشرع: أن الغنم بالغرم، تفريعاً على هذا الحديث الذي عمل به وأجمع العلماء على العمل به: ( الخراج بالضمان ) قال أئمة الحديث: أجمع العلماء على العمل بمتنه، أن الخراج بالضمان، وهي قاعدة الغنم بالغرم، فالذي يشتري أرضاً وبعد عقد البيع بلحظة واحدة افترقا ثم حفر ووجد الركاز، فإنه ملكٌ له، وهو الذي يأخذه ويستحقه.
والله تعالى أعلم.
زكاة العسل

السؤال
على القول بوجوب الزكاة في العسل، فهل يعتبر الشمع الموجود في العسل في الوزن أم لا، أثابكم الله؟


الجواب
يقولون: لا بد من تصفيته من شمعه، وإنما يجب منه بعد تصفيته؛ كالحب لا يجب فيه مع وجود قشره وما يصاحبه، كذلك إنما تجب الزكاة من صافي العسل.
عدم جواز الإجارة في تأبير النخل على جزء مما يخرج منه دون المساقاة

السؤال
استأجر رجلٌ عدداً من النخل يقوم بتلقيحها والمحافظة عليها في فترة الطلع فقط على عدد من الأقنية، قنوان لكل نخلة، فما الحكم فيها، أثابكم الله؟


الجواب
من يعمل في الأرض يسقيها ويؤبرها ويقوم على مصالحها بجزءٍ مما يخرج منها كربع الثمرة ونصف الثمرة، فهذه مساقاة شرعية، والأصل فيها حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها ) هذا أصل عند العلماء في مشروعية المساقاة.
الحالة الثانية: أن يقول له: أبِّر النخل وقم بتأبيره ولك ربع الثمرة، فهذا لا يجوز؛ لأنها ليست بمساقاة شرعية، والمساقاة الشرعية يقول العلماء: إجارة مستثناة من الإجارة بالمجهول، فأصل المساقاة الجائزة استثناها الشرع من الإجارة بالمجهول، وتوضيح ذلك: أن الأصل في الإجارة في الشرع -وهذه قاعدة ينبغي أن يضعها كل طالب علم نصب عينيه- أنه لا بد فيها من تحديد العمل والأجرة، فيحدد العمل وتحدد الأجرة، يحدد العمل بالزمان وبالقدر، فتأتي للعامل وتقول له: اعمل عندي يوماً بمائة في زرع أو بناء، هذه تحدد بالزمان، فاليوم يرجع إلى العرف إن كان العرف ثمان ساعات استحق الأجرة بثمان ساعات، وإن كان العرف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه سيعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، ويرتاح في وقت الراحة بالعرف، هذه إجارة محددة بالزمان، والعمل محدد بالزمان، كذلك تتحدد الإجارة بالمكان بالمسافات وبالأقدار، فتقول له: أستأجرك إلى مكة يعني: توصلني إلى مكة كالسيارات، فهذه إجارة بالمكان، وكما في الصحيحين من حديث عائشة : ( استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً ) فهذه إجارة للمكان، أنه استأجره لكي يأخذ به مكاناً بعيداً عن الأنظار حتى يبلغ به المدينة، وهذه إجارة محددة بالفعل.
كذلك أيضاً الأجرة لا بد أن تكون معلومة، فلو قال له: تعال واعمل عندي في العمارة يوماً مثلاً، قال: بكم؟ قال: ما نختلف سنتفق، سيكون الذي يرضيك سيكون الذي يسرُّك ما يهمك، لا يجوز، لماذا؟ لأنها مجهولة، فقد يكون الذي يرضي الرجل عند مالك العمل غير الذي يكون عند المستأجر، فيخدعه، ولذلك يحصل الضرر والفتنة، فيقول له: خذ مائة، يقول: لا، الذي يرضيني مائة وخمسون، أو يقول له: خذ خمسين، فيقول: الذي يرضيني مائة، فتقع الفتنة، والشريعة تريد من كل متعاقد أن يكون على بينة من أمره، فلا بد أن تحدد العمل والأجرة التي ترتبت على العمل، ولذلك جاء في حديث عبد الرزاق في المصنف: ( من استأجر أجيراً فليعلمه أجره ) فلا بد أن يكون الأجر معلوماً، وأجمع العلماء على حرمة الإجارة بالمجهولات.
نحن عرفنا أنك لا يجوز أن تستأجر إنساناً بشيء مجهول، لا على عمل مجهول ولا على أجرة مجهولة، مثلاً: لو قال له: ابن لي حائطاً، أو ابن لي بيتاً، لا يجوز حتى يحدد كم طول الحائط وكم عرضه، وكذلك أيضاً ما هي مواصفاته؛ لأنه لو بناه على طريقة فربما يقول صاحب البيت: كنت أريده على طريقة أخرى، وكنت أريده على وضع آخر، فتقع الفتنة، وكلّما تأملت منهج الشريعة في شروط الإجارات والمعاملات التي تقع بين الناس تجد تشديداً، لكن هذا التشديد حفظ لأموال الناس ولحقوقهم، فلا أحد يظلم أحداً، وكلما طُبقت هذه الشروط الشرعية وجدت الناس في مأمن، وكلٌ يعلم ما الذي له وما الذي عليه، لكن ابحث عن أي خصومة في الإجارات لا تجدها إلا إذا دخلتها الجهالة أو دخلها شيءٌ من الغرر والمخادعة، ولذلك تجد بعض العقود لا تصحح في الشريعة؛ لوجود الدَخَل والجهل.
لابد أن نفرِّق بين الإجارة والمساقاة، فالمساقاة حينما قال رب الأرض للعامل: خذ نخلي -عنده مائة نخلة- اسقها وقم عليها وأصلحها وأبِّرها، فإذا أخرجت الثمرة فبيني وبينك، نصفها لك ونصفها لي، هذا في الأصل الشرعي لا يجوز، لماذا؟ لأن العمل مجهول، فلا ندري كم مدة الأيام، وكم مدة الشهور، وكم المدة التي سيستغرقها عمل العامل.
أيضاً: نفس العمل لا ندري كم قدره، المائة النخلة كلها قد تُطلع، وقد يُطلع نصفها، وقد يطلع ثلاثة أرباعها، وقد يطلع الثلث، لا ندري كم القدر، ثم لو أطلعت قد تطلع الجيد وقد تطلع بعدد كثير، وقد تطلع بالعدد القليل، وإذا أطلعت العدد الكثير أو الجيد، لا ندري هل يبقى صالحاً إلى الجذاذ أو لا، فإذاً المسألة كلها مبنية على الغرر، ومن هنا قال العلماء: المساقاة نوع من الإجارات المستثناة من الأصول.
لأن الأصول تقتضي عدم الجواز، فاستثنيت بقدر الحاجة، إذا ثبت أنه إذا قال له: اسق لي زرعي أو اسق لي النخل ولك نصفه أو ربعه، أن هذا في الأصل لا يجوز ولكن جاز لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم رفقاً بالمزارعين وبالناس، وكأنه اغتفر وجود الجهالة في العمل لطيبة الأنفس، فهذا شيء ورد النص به.
هنا مسألةٍ لو قال له: قم على النخل أبِّر نخلي وخذ نصف الثمرة، فحينئذٍ ليست بمساقاة؛ لأن المساقاة قائمة على السقي، وقائمة على تطييب النخل، وإزالة الشوك عن الجريد حتى يتهيأ وضع الأقنية عليه، هو أجره فقط على التأبير، والتأبير شيء واستصلاح النخل بالسقي والقيام عليه شيءٌ آخر، فحينئذٍ رجعت إلى الأصل الذي يقتضي التحريم؛ لأنها إجارة بالمجهول، وحينئذٍ لا يصح هذا النوع من الإجارات، فنقول: إذا قال له: أبِّر النخل ولك نصف ما يخرج وارتفعا إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بفساد الإجارة، ويأتي بأناس من أهل الخبرة، ويقول: قدروا عمل هذا الرجل في التأبير، كم نخلة أبَّر؟ قالوا: مائة نخلة، يسأل أهل الخبرة: كم يكون قيمة تأبير النخلة الواحدة؟ قالوا: كل نخلة تؤبَّر بعشرة ريالات مثلاً، هذه مائة نخلة معناه أن له ألف ريال يقول لرب الثمرة: أعطه ألف ريال ولك الثمرة خالصة، فأخذ العامل حظه، وأخذ رب المال ثمرته، وألغى هذا النوع من الإجارة الفاسدة.
فإذاً يشترط في صحة الإجارة بجزء الثمرة أن تكون مساقاة شرعية على الصفة المعتبرة، المساقاة الشرعية يتحمل تنظيف البئر واستصلاحه، ويقوم على جلب الماء من البئر سواء عن طريق الدلو أو عن طريق القيام على السواني ومراقبتها، وتشغيل السواني في الأوقات المعتبرة للسقي، ويعطي وجبات النخل بنفس القدر المعتبر في السقي، فإذا قام بالسقي يقوم بعد ذلك بتطييب النخل وتهيئته للطلوع عليه، ثم النخل تكون أعراشه وعراجينه على الجريد، وتحتاج إلى تنظيف الجريد من الشوك حتى يتمكن من جنيه، ثم يقوم على تأبيره، إلى غير ذلك مما يحتاج إليه لاستصلاح ثمر النخل، أما بالنسبة للإجارة على التأبير وحده فالحكم فيه ما ذكرنا.
والله تعالى أعلم.

ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:55 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (186)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





شرح زاد المستقنع - باب زكاة النقدين
الذهب والفضة -وهما النقدان- من الأموال التي تجب فيها الزكاة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة فيهما، ومن الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذهب والفضة: حكم إعطاء الأوراق النقدية منزلة الذهب والفضة، وحكم زكاة حلي النساء، وحكم اتخاذ الذهب والفضة للرجال والنساء، وحكم ضم النقدين بعضهما إلى بعض لاستكمال نصاب الزكاة، وغير ذلك من الأحكام.
حكم الأوراق النقدية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: (باب زكاة النقدين) هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه الأحكام المتعلقة بزكاة الذهب والفضة، وهما المرادان بقوله: (النقدين)، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يفردون لكل نوع من أنواع الزكاة باباً مستقلاً، ولذلك ابتدأ رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام وبيّن أحكامها، ثم أتبعها بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها رحمه الله بزكاة النقدين؛ والسبب في ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لبهيمة الأنعام، وقد أخّر زكاة النقدين في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر زكاة الفضة بعد زكاة الإبل والبقر والغنم، ولذلك ناسب أن يرتب المصنف رحمه الله على ترتيب السنة، فابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام كما بيّنا، ثم أتبع ذلك بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها بزكاة النقدين.
والمراد بالنقدين: الذهب والفضة، وكان الناس في القديم يتعاملون بهما أصلاً، فكانت الدنانير من الذهب، وكانت الدراهم من الفضة، وما زال الناس يتعاملون بذلك إلى قبل قرنين من الزمان أو قرن ونصف، حيث نشأة فكرة قائمة على المستندات، فكان التجار يسافرون من أماكن بعيدة يخافون في أسفارهم من الغرق وضياع المال، فكانوا يأخذون أوراقاً بالحوالة إلى تجار في الأماكن التي يذهبون إليها، فيسافرون من المشرق إلى المغرب، فيدفعون أموالهم من الذهب إلى رجل في المشرق في البلد الذي هم فيه، يعطيهم حوالة إلى وكيل لهم في المغرب، فيسلمون من ضياع المال في الطريق، وحمل هم حفظه والقيام عليه، فإذا نزلوا بالمكان الذي هم مسافرون إليه وجدوا الوكيل فأعطوه الورقة والمستند، فأعطاهم ما يريدون، فاشتروا تجاراتهم وانتقلوا بها إلى المكان الذي يشاءون.
ثم توسعت الفكرة من التجار حتى أصبحت شائعة ذائعة بين الناس وفي الجماعات، ثم بعد ذلك أصدرت الأوراق المعروفة المعهودة الآن بالنقد، فأصبحت هذه الأوراق من ناحية شرعية بمثابة المستندات لرصيد صاحبها، وهذا أمر ينبغي لكل طالب علم أن يضعه في الاعتبار، أن الورق بذاته ليس مأموراً بزكاته، ولكن رصيده في الأصل إما ذهب إن كان من الجنيه والدولار والدينار ونحوه، أو فضة كالريال، فلما أعطي هذا المستند نُزِّل منزلة الأصل وسمي باسمه، ولذلك كانوا في القديم يتعاملون بريال الفضة المعروف، ثم أُعطوا بدله المستند المكتوب قائماً مقام هذا الأصل، وبناءً على ذلك فمن الناحية الشرعية هي أشبه بمستند الدين والقاعدة: أن المستندات تأخذ حكم أصولها، أي: أنها تُنزَّل منزلتها إذا تعذر الأصل، فأصبحت من الناحية الشرعية منزّلة منزلة رصيده.
ولما شاعت هذه الأوراق أصبح البعض يقول: لا زكاة فيها لأنها ورق، وأغفل الأصل -كون رصيدها من الذهب أو رصيدها من الفضة- ولا شك أن هذا يعتبر مرجوحاً وضعيفاً؛ لأنه يفوت حقوق الفقراء والضعفاء، ولذلك ضعِّف هذا القول -كونها ورقاً لا زكاة فيه- وبناءً على ذلك فالفقه يقتضي أن هذه الأوراق يُنظر إلى رصيدها، فإن كان رصيدها من الفضة وجبت عليها زكاة الفضة، وإذا كان رصيدها من الذهب وجبت فيها زكاة الذهب، بناءً على ذلك أصبح الناس يتعاملون بالفرع قائماً مقام الأصل، ويُنظر إلى رصيدها بحسب أصلها، ثم بعد ذلك ألغي الرصيد، وهذا الإلغاء بتعامل عام لا علاقة له بالأفراد، ومن الناحية الفقهية لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه في الأصل إذا أعطى إنسان إنساناً وثيقة عن دين، ثم قال له: ألغيت لك أصل دينك، فإن هذا الإلغاء من الناحية الشرعية واقع في غير موقعه، فلا يترتب عليه حكم، مثال ذلك: لو أن إنساناً أعطيته كيلو من الذهب، ثم كتب لك مستنداً عن هذا الكيلو، ثم قال لك: هذا المستند لا أعترف به، أو ليس لك فيه رصيد، فالأصل الشرعي يقتضي أن رصيده محكوم به شرعاً، وأنه منزلٌ منزلة رصيده، شاء المديون أو أبى، هذا من الناحية الفقهية، إذا ثبت هذا فالإلغاء لا يؤثر في حقيقة الورق، ولا يلغي قيمتها الشرعية، وبناءً عليه تنزل منزلة رصيده، إذا ثبت هذا، فإننا ننظر في كل عملة إلى أصلها، فما كان من الفضة كالريال فأصله فضة، ويحسب نصابه بالفضة بناءً على أن الورق القديم منزلٌ منزلته.
أما لو قيل بإلغاء الرصيد وأن هذا الورق يُنظر إليه مجرداً، ويجوز التعامل به ولو بالفضل وبالزيادة، فهذا القول فيه نظر من وجوه: الوجه الأول: أنه قائم على إلغاء الرصيد الواقع في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى الإلغاء إلا إذا كان له مستند شرعي، لأنه دين ثابت شرعاً بحكم الشرع، فلو ألغاه المدين لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه لا تأثير له في الأصل، وبناءً على ذلك يكون كالمعجوز عنه كما لو جحده الأصل، وهذا الفرع منزَّل منزلة أصله.
الوجه الثاني: أننا لو قلنا هذا لما وجبت زكاة في ريال، والسبب في ذلك: أن الله لم يأمرنا بزكاة الورق، وإنما أمرنا بزكاة ذهب وفضة، فإذا قلنا: إننا لا نلتفت إلى رصيدها، فلا زكاة فيها، وهذا لا شك أنه يضيِّع حق الله عز وجل، إضافة إلى أن هذا الريال سمي باسم أصله، ولذلك أصله من الفضة فسمي باسمه، فإذا ألغي الرصيد ونُظر إلى الريال مجرداً عن الورق، فإننا لا نلتفت إلى وجوب الزكاة فيه، فلو قال قائل: إن هذا الورق له قيمة في ذاته، فوجبت فيه الزكاة؛ لأن له رواجاً وله قيمة، أُجيب بأن قيمة الورق لا تستلزم وجوب الزكاة فيه، ألا ترى ورق العلم كتب العلم ونحوها، فإن لها قيمة وتباع بقيمة ولها ثمن، ومع ذلك لا تجب فيها الزكاة، وعلى هذا فإنه لا يُلتفت إلى القول بإلغاء الرصيد، وهذا الذي يقوى من جهة النظر، وأن هذه الأوراق منزلة منزلة رصيد، ولو قيل بإلغاء الرصيد وجواز التفاضل بين الريال الورق والريال المعدني لحل الربا نسيئة وفضلاً وزيادة، ووجه ذلك: إذا ساغ لرجل أن يعطي رجلاً مائة ألف من الورق ثم يقول: اقضها لي بالحديد مائتين أو مائة وعشرين، وهذا لا شك أنه فتح للقول بجواز ما حرّم الله عز وجل، وحينئذٍ يتمكن أهل الربا من المراباة دون أن يُحكم بحرمة تعامله؛ لأنه يقول له: خذها ريالاً وردها حديداً، وحينئذٍ يمكنه أن يفاضل ويقع الربا الذي حرم الله عز وجل، ونهى عباده عنه.
فالذي يظهر أن هذه الأوراق منزَّلة منزِلة رصيدها، وإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: نصابها نصاب الرصيد، وكل ريال منزّل منزلة الرصيد، والحديد المعدني ينزل منزلة الريال الورق؛ لأن كل ريال من الحديد أو الورق إنما هو مقابل لريال من الفضة، فإذا صرفت مثلاً ريالين من الحديد بريال من الورق، كأنك صرفت ريالين من الفضة التي هي في رصيده مقابل ريال من الفضة، وهذا عين ربا الفضل، وعلى هذا فإنه لا بد من تنزيل هذا الفرع منزلة أصله، والحكم بكونها أموالاً منزَّلة منزلة أصولها، فتعتبر الريالات من الفضة، وزكاتها زكاة الفضة.
أما على القول بعدم الالتفات إلى الرصيد، فهم نظروا إلى قيمتها أعني قيمة الفضة بالورق، فقالوا: إذا أراد أن يزكي فإنه ينظر إلى قيمة ريالات الفضة القديمة بريالات الورق، والواقع أن ريالات الفضة القديمة ينبغي صرفها بريالات الورق مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن ريال الفضة القديم كريال الورق سواءً بسواء؛ لأنه مستند عن أصل واحد، فلو اشترى إنسان ريال فضة قديم بعشرة ريالات من الورق فهو عين الربا الذي حرّم الله، لأنه كأنه صرف عشرة ريالات من الفضة في مقابل ريال من الفضة، وهذا عين الذي نهى الله عز وجل وحرّم، فلا يعقل أننا نقول في الزكاة: انظر إلى قيمة ريال الفضة القديم بالريال الورق؛ لأنه لو قيل بذلك لجازت أصل المعاملة وهي ربوية، وعلى هذا فالذي يظهر أن كل ريال من الورق منزل منزلة رصيده من الفضة، وكل ريال من الحديد والنيكل منزل منزلة رصيده من الفضة بناءً على ذلك فنصاب الفضة له حكم، ونصاب الذهب له حكم.
الأدلة على وجوب زكاة النقدين
وزكاة النقدين الأصل في وجوبها قوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103] ، فأمر الله بأخذ الزكاة من الأموال، والذهب والفضة مال، فدخل في هذا المأمور به، وعلى هذا فإنها فريضة من فرائض الله، ودلّت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( وفي الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر ) .
فدل على أن الزكاة واجبة في الرقة وهي الفضة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وأنهما من الأموال التي ينبغي تزكيتها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، أعني الشروط المعتبرة للحكم بفرضية الزكاة.
إذاً أوجب الله عز وجل زكاة النقدين، والعلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستوي في ذلك ما كان منها مغشوشاً، وما كان منها خالصاً، وتوضيح ذلك أنهم في القديم كانوا يضربون الذهب دنانير، ويضربون الفضة دراهم، ويحتاج الذهب إلى شيءٍ من المعدن -من النحاس أو الحديد- يتقوى به، ولذلك لا يصفو الدينار ذهباً خالصاً؛ لأن الذهب ضعيف، فإذا كان الدينار مشوباً وفيه غش فللعلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة خلاف، بعض العلماء يقول: الدنانير ينظر إليها بالرواج، فإذا راج المغشوش منها كرواج الذي لا غش فيه وهو الخالص وجبت زكاة المغشوش كزكاة الخالص، مثال ذلك: إذا قلنا: إن خمساً وثمانين غراماً هي مقدار النصاب في الذهب، فإن الذي عنده من دنانير الذهب ما يبلغ هذا الوزن، يجب عليه أن يؤدي منها سواءً كانت مغشوشة أو كانت خالصة، فلا يلتفت إلى وجود الغش؛ لأنها بالرواج، أعني كون الناس يتعاملون بها كتعاملهم بالخالص نزِّلت منزلة الخالص فكأنه لا شائبة فيها، وهذا القول يقول به بعض الفقهاء، كما هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم.
وقال الحنابلة رحمهم الله، ويوافقهم الشافعية: يُنظر إلى الصافي والخالص، فالدنانير إذا كانت مشوبة، لا بد وأن يُنظر إلى خالصها من الذهب، والدراهم إذا كانت مشوبة لا بد وأن ينظر إلى خالصها من الفضة، فلا تجب الزكاة إلا في الخالص منها، فإن نقصت في الخالص عن قدر الزكاة، كأن يكون عنده عشرين ديناراً وفيها مشوب فحينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ لأنها بالمشوب نقصت عن هذا القدر، وعلى هذا قالوا: إنه يلتفت إلى الأصل، فإذا كانت خالصة وبلغت النصاب وجبت الزكاة، وإن كانت مشوبة ولا يبلغ قدر الخالص منها نصاباً فلا تجب فيها الزكاة.
ولا شك أن هذا القول الثاني أقوى من جهة النظر والاعتبار؛ لأنه إذا قيل: إن الزكاة وجبت في ذهب وفضة، فينبغي الالتفات إلى الذهب والفضة بذاتها دون ما خلطها من الشوائب.
نصاب الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر منهما].
قوله: (يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً) هذا هو نصاب الذهب، والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي : ( إذا كان عندك دنانير أو ذهب فبلغ عشرين ديناراً، ففيها نصف دينار ) ، رواه الإمام الترمذي و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و أحمد ، وهذا الحديث حسّن إسناده غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وفيه كلام؛ لأنه من رواية عاصم بن أبي ضمرة عن علي رضي الله عنه، وفيه الكلام المعروف.
فيقولون: إن الإجماع انعقد على هذا الحديث، أن العشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، ولا شك أن العلماء سلفاً وخلفاً أجمعوا على أن عشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، فما نقص عن عشرين مثقالاً لا زكاة فيه، وبناءً على ذلك، قالوا: ينظر إلى وزنها وعِدلها، وعدل عشرين مثقالاً خمسة وثمانون من الغرامات الموجودة حالياً، فإذا بلغ الذهب خمسة وثمانين غراماً فإنه تجب فيه الزكاة، وإذا كان دون ذلك فإنه دون النصاب المعتبر، وهناك خلاف في المثقال، مما جعل الأنصبة عند العلماء تختلف، خاصة مع وجود الشوب في الدنانير القديمة، فبعض العلماء يقول: إنها تصل إلى ستة وتسعين غراماً، والخلاف ما بين خمسٍ وثمانين وست وتسعين غراماً، لكنه بالخالص المحرر هو خمسة وثمانون غراماً، وهو ما يعادل أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه السعودي، وهذا هو قدر النصاب من الذهب، والإجماع منعقد على وجوب الزكاة في هذا القدر، وأن ما دونه لا تجب فيه الزكاة.
قوله: (وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم)، أما بالنسبة للفضة، فربطها النبي صلى الله عليه وسلم بمائتي درهم، والإجماع قائم على ذلك أن مائتي درهم هي نصاب الفضة، ولا خلاف في هذا من جهة العدد.
أما من جهة الوزن فخمس أواق، وفيها حديث الصحيحين: ( ليس فيما دون خمس أواق من الفضة صدقة )، فهذا يدل على أن العبرة بخمس أواق وبمائتي درهم، إن كانت عدداً فبالدراهم، وإن كانت وزناً فبالأوقية، أما ضابطها بالغرامات، فهناك خلاف بين الجمهور والحنفية، والجمهور يقولون: إن مائتا درهم عربي تصل إلى خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، هذا بالنسبة لقدرها بالغرامات.
هذا القدر أجمع العلماء على اعتباره في الذهب والفضة، لورود السنة في الفضة في الصحيحين، وأما بالنسبة للذهب فالحديث الذي ذكرناه، وله شواهد منها ما ذكره الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الأموال، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهذه الأحاديث هي أصل في نصاب الذهب ونصاب الفضة على الصورة التي ذكرناها.
قوله: (ربع العشر منهما) أي: من الذهب ومن الفضة، فعشرون ديناراً عشرها ديناران، وربع الدينارين يعادل نصف دينار، ولذلك في كل عشرين ديناراً نصف دينار كما جاء في حديث علي رضي الله عنه.
وأما بالنسبة للفضة ففي كل مائتي درهم خمسة دراهم، هذا هو ربع العشر لورود النص فيه: ( في الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر ) ويسميه العلماء رحمهم الله القدر الواجب، وفي هذا العصر يقولون: يعادل اثنين ونصف في المائة، هذا القدر هو الذي أوجبه الله عز وجل في زكاة الذهب وزكاة الفضة.
حكم ضم النقدين إلى بعضهما
قال المصنف رحمه الله: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب].
قوله: (ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب) هذه مسألة خلافية، وصورتها: أن يكون عند الإنسان نصف النصاب من الذهب، وعنده فضة بحيث لو جمعت مع الذهب بلغت النصاب، سواء قلنا: عِدلها من نصاب الفضة أو عِدلها من نصاب الذهب، فحينئذٍ يرد

السؤال
هل كلٌ منهما ينظر إليه بانفراد، ويعتبر نوعاً مستقلاً، أم أنهما يضمان مع بعضهما؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: منهم من يرى الضم، وهم الجمهور، ومنهم من لا يرى الضم وهم الشافعية، واحتج الشافعية بالأصل، قالوا: إن الشرع جعل الفضة نوعاً من الأموال، وجعل الذهب نوعاً من الأموال، ولا يمكن أن نضم النوع إلى النوع، كما أننا لا نضم الإبل إلى البقر، ولا نضم الغنم إلى الإبل، فنظراً لاختلاف الأنواع ننظر إلى كل نوعٍ على حدة، وهذا المذهب يستند إلى الأصل كما ذكر أن الذهب نوع والفضة نوع، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، وبالإجماع أنه يجوز بيع الذهب بالفضة متفاضلين، فدل على أنهما نوعان مختلفان، وهذا بالإجماع في الصرف، فإذا كان في نظر الشرع في الصرف أنهما نوعان مختلفان، فكذلك في الزكاة، وهذا القول هو أسعد القولين بالدليل، وأولاهما بالصواب إن شاء الله تعالى؛ أن لكل منهما نصاباً معتبراً، ولا بد أن تبلغ الفضة نصابها وأن يبلغ الذهب نصابه خلافاً للجمهور رحمة الله عليهم الذين يقولون بضم كل منهما إلى الآخر.
حكم ضم قيمة العروض إلى النقدين
قال المصنف رحمه الله: [وتضم قيمة العروض إلى كل منهما].
(وتضم قيمة العروض إلى كل منهما)، صورة المسألة: فلان من الناس عنده متجر، يتاجر فيه بطعام أو كساء أو دواء، أو نحو ذلك، وهذا المتجر له رأس مال مائة ألف، دخل بها فتاجر، فمن المعلوم أن البائع والمتاجر، تارة تكون عنده الأعيان من الأكسية والأغذية، ونحوها، وتارة تكون عنده النقود، وتارة يكون عنده الاثنان، فيكون الدرج فيه المال والنقد من الذهب والفضة، ويكون المحل فيه العروض، فإذا دخل برأس مالٍ للمتاجرة فيه، جُعِل هذا الشيء بمثابة الشيء الواحد، لأنه لما فرغ المائة ألف والمائتين للتجارة أعطيت حكم المال الواحد، فحينئذٍ ينظر إلى قيمة ما في المتجر من العروض المعروضة سواءً كانت من الأطعمة أو الأكسية أو الأغذية أو غيرها من العروض المعروضة، ويضيفها إلى ما في درج التاجر، فإذا بلغت النصاب وجبت الزكاة، ويقع ذلك إذا كانت العروض نصف النصاب، وكان الذي في الدرج يعادل النصف، فإذا قيل بالضم وجبت الزكاة؛ لأنه بضم بعضهما إلى بعض بلغا النصاب الذي أوجب الله فيه الزكاة، وهذا هو المعتبر لأنهما بمثابة المال الواحد أما لو كان الذي في الدرج مال مُرصَد لغير التجارة، كإنسان قبل الحول بيوم عنده مال استفاده من دين مائة ألفٍ -مثلاً- فجاء ووضعه في درج متجره للحفظ أو نحو ذلك، فالمائة ألف هذه التي جاءته من الدين لا نضمها إلى ما في المتجر عند حولان الحول، وإنما نضم المال المدار الذي احتكره للتجارة، أو جاءه عن طريق التجارة، وأما ما جاءه عن طريق إرث أو دين، فهذا له حكم المستقل، إلا إذا ضمه لرأس المال للمتاجرة به.
حكم اتخاذ الذهب والفضة للرجل
قال المصنف رحمه الله: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم].
قوله: (ويباح للذكر من الفضة الخاتم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم من الفضة، وسبب ذلك: أنه لما أراد أن يكاتب ملوك الأرض للدعوة إلى الله عز وجل، قيل له: إن الملوك لا يقرءون الكتب إلا إذا خُتمت، فاتخذ خاتماً صلوات الله وسلامه عليه، وكتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فهذا الخاتم كان في يده صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك انتقل إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ، وكان عثمان رضي الله عنه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم يمر بقباء فيصلي فيه، ثم يجلس على قف بئر أريس، وكان أبو بكر و عمر يفعلان ذلك، فجاء عثمان وجلس على قف البئر وما زال يعبث بخاتمه حتى سقط الخاتم من يده في البئر، وطلبوه فلم يجدوه، وبئر أريس بئر بقباء من الجهة الغربية إلى الجهة الجنوبية من المسجد، ويعرف البئر ببئر الخاتم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس عليه، وكان من الفضة، كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من الفضة، وما عاش عثمان بعد سقوط الخاتم إلا يسيراً، قيل سنة، ثم قُتِل رضي الله عنه، فكان فقد الخاتم إشارة إلى ما يكون من الفتن التي افتتح بها البلاء على الأمة بعد ذلك، وهي من الأمور التي كانت من علامات الحوادث التي وقعت في زمانه رضي الله عنه وأرضاه.
أما بالنسبة للخاتم فهو ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان من الفضة.
وأما بالنسبة للذهب، فإنه لا يجوز أن يتختم به الرجل، فإن تختم به الرجل، فهو جمرة من نار والعياذ بالله، يعذَّب بها يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رأى رجلاً قد اتخذ خاتماً من ذهب، فقال: ( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في إصبعه )، وهذا يدل على أنه إذا تختم بالذهب عذبه الله يوم القيامة، قيل: يعذب في قبره، وقيل: يعذب في حشره، وظاهر النص الإطلاق؛ لأنه قال: (جمرة من نار)، وهذا لا تقييد له، لا بالبرزخ ولا بالآخرة.
وأما بالنسبة للنساء، فيجوز لهن التختم بالذهب والفضة، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف:18] ، فالمرأة تتحلى وتتزين، وشرع الله عز وجل لها الزينة، وذلك لمقاصد اعتبرتها الشريعة الإسلامية، لما فيها من حصول الألفة في الزواج ونحو ذلك، وأما بالنسبة للرجل فالإجماع قائم على تحريم الذهب على الرجال، لكن استثنى بعض العلماء اليسير، وسيذكر المصنف رحمه الله بعضاً من ذلك، فمن هذه الاستثناءات صور ذكرها أهل العلم، منها ما ورد فيه النص بأصله، ومنها ما استثناه العلماء من باب الاستحسان، وفيه بعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، ومنها ما استثناه العلماء اجتهاداً.
قال المصنف رحمه الله: [وقبيعة السيف].
قوله: (وقبيعة السيف) قالوا: إنها تستثنى، فيجوز أن تكون من الفضة؛ لأن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من الفضة، وهذا ورد به النص، وعلل العلماء رحمهم الله بأن قبيعة السيف، وهي التي تكون على رأس المقبض أشبه بالكرة أو الدائرة التي تكون في آخر اليد حتى يستطيع الإنسان إذا أمسك بالسيف أن يحكم إمساكه فيقوى ضربه لمن يقاتل، فهذه القبيعة استثنيت أن تكون من الفضة، فيجوز اتخاذها من الفضة، وفيها حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال العلماء: إن الحكمة في ذلك إرهاب العدو، فإن العدو إذا رأى المسلمين في أحسن هيئة وأحسن حال هابهم، ويكون ذلك أدعى لحصول مقصود الشرع من كسرة شوكة الكفار، وهذا كما ذكرنا من باب التعليل للنص، ومن هنا قاس بعض العلماء على القبيعة صوراً الأصل يقتضي تحريمها، ولكنهم استحسنوها، وقالوا بجوازها اجتهاداً، وفي هذا الاجتهاد نظرٌ لا يخفى.
قال المصنف رحمه الله: [وحلية المنطَقة ونحوه].
قوله: (وحلية المنطَقة) وهي التي يُشد بها وسط الإنسان، أشبه بالحزام وتكون لحاملة السيف تُحلّى ويوضع فيها شيءٌ من الفضة، استثنيت هذه وفيها بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يرى فعل الصحابي حجة يستثنيها، وليس فيها شيءٌ صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ونحوه)، أي: ونحو ذلك، وهذا يقتضي القياس، أنه ينزل منزلة هذه الأشياء، ما كان في حكمها مما فيه إغاظة للعدو وكسرٌ لشأفته، مما يتحلى به على قصد الإغاظة لهم، ولكن الذي يظهر أن هذه الأشياء الأصل فيها المنع؛ لأن الفضة في الأصل فيها وجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الفضة للذكر تجوز، فيجوز أن يتخذ ما شاء منها، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( وأما الفضة فالعبوا بها لعباً )، وللعلماء خلاف في قوله: ( العبوا بها لعباً )، منهم من حمله على الحقيقة، وهو اللعب الذي يكون بخاتم الإنسان، إشارة إلى ما أبيح منها وهو التختم، والإنسان من عادته إذا تختم لعب بخاتمه، قالوا: فالمقصود به حقيقة اللفظ، ومنهم من يقول: هو مجازٌ كناية عن الجواز، فاتخذوا منها ما شئتم، فيجوز أن يتخذ السيف من فضة، ويجوز أن يتخذ الخنجر من فضة، ويجوز أن يتخذ الحزام من فضة، ويجوز أن يتخذ القلم من الفضة، ويجوز أن يتخذ الإزار من الفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العبوا بها لعباً )، وهذا على سبيل التجوز، وإن كان الأصل حمل اللفظ على الحقيقة، وهو أقوى.
ومما يقوي حمله على الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) ، قال العلماء: لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الفضة، مع أن الأواني يُحتاج إليها للأكل، كأنه نبه بهذا الأعلى إلى ما دونه، وتوضيح ذلك: أن هناك أشياء ضرورية، وأشياء حاجية، وأشياء تحسينية، منها الكماليات والفضوليات، هذه ثلاث مراتب، فالضروريات هي التي تتوقف عليها حياة الناس، وهي التي يرخَّص فيها في مقام المحظورات والمحرمات، كالأمور التي تتعلق بحياة الإنسان وتتوقف عليها حياته كأكله وشربه ونحو ذلك، فهذه من مقام الضروريات، ومقام الحاجيات هي الأشياء التي لو منع الناس منها تضرروا، وحصل الضيق لكنهم لا يموتون، فيفضي إلى درجة الحرج والمشقة، فيقولون: إن وضع الطعام في أواني الذهب والفضة، نفس الأواني في مقام الحاجيات؛ لأنها تحفظ الطعام الذي يغتذي به الإنسان، ولو لم يحفظ الطعام، لا يستطيع الإنسان أن يغتذي، فهي بحكم الحاجيات، فإذا حرّم النبي صلى الله عليه وسلم وضع الذهب والفضة في الأواني، مع أنها في مقام الحاجيات، فمن باب أولى الفضول والتحسينات، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بها أن ينبه بما هو أدنى، وهذا ما يسمونه التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه، كقوله سبحانه وتعالى: { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء:23] ، فإنه نهى عن أف فمن باب أولى أن لا يضرب الوالدين.
ولذلك يقولون: إذا حرُم أن يأكل في آنية الذهب والفضة، مع أنه يحتاج إلى حفظ الطعام بالإناء، فمن باب أولى ما هو في مقام الفضول والزينة والتحسين، ولما في اللعب بالفضة من كسرٍ لقلوب الفقراء والضعفاء، وبذلك قالوا: إنها أقرب إلى الإسراف، فالإنسان إذا لبس ساعة من فضة أو اتخذ قلماً من فضة، مع أنه يمكنه أن يتخذ ما دون ذلك، لا شك أنه سيتكلف، وستكون قيمة الفضة غالية.
وأما الذهب فلا يرخص فيه على الأصل حتى يدل الدليل على استثنائه.
قال المصنف رحمه الله: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه].
قوله: (وما دعت إليه ضرورة كأنف) مثال ذلك: أن يُجدع أنف الإنسان -يقطع- ثم يحتاج إلى وضع الذهب ستراً لهذا الأنف، هذا من باب الضروريات، والأصل فيه حديث عرفجة بن أسعد أنه جُدِع أنفه يوم كلاب، وقيل: الكلاّب، وكان بين تميم وكندة، ثم اتخذ أنفاً من فضة فأنتن، فاتخذ أنفاً من ذهب، ولذلك قالوا: ما كان من الأعضاء مُحتاجاً إليه أن يوضع فيه ذهب أو فضة، يجوز أن يتخذ منه ما شاء من الذهب والفضة بقدر حاجته، ويبنونه على حديث عرفجة رضي الله عنه وأرضاه، ويقولون: إن هذا من باب الحاجيات، ويؤكد ذلك أن الأنف إذا جُدع فإن الإنسان يستضر بدخول الجراثيم ودخول الأشياء الكبيرة التي قد تضر به، ولذلك اتخذ الأنف دفعاً لهذا الضرر، بخلاف ما إذا كان وضع العضو تحسيناً، كتجميل سنِّ بذهب فإنه لا يجوز؛ لأنه ليس بحاجي ولا ضروري، ولا آخذٌ حكم الحاجة ولا الضرورة، ولذلك فهو حرام، فإن مات ميت وسنه من ذهب، ولبّس بالذهب، أو اتخذ سناً من ذهب، فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكن إزالة هذا الذهب دون إضرار بالميت، فتجب إزالته، كما نص العلماء رحمة الله عليهم على ذلك.
وإما أن لا يمكن إزالته إلا بضرر من جرحٍ أو قلع للسن، وهي من أصل الخلقة، فحينئذٍ تترك، ولا يؤمن عليه أن الله يعذبه بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خاتم الذهب: ( جمرة من نار )، حتى قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إنه إذا تحلى بالذهب في سن بدون حاجة لا يأمن أن يكون عليه جمرة من نار في فمه، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك اختص الحكم بقدر الضرورة، أما الأسنان التي يحتاج إلى سدها واحتيج إلى ذهب أو فضة، فإن كانت الفضة يمكن أن تؤدي المقصود، فلا يترخص بالذهب؛ لأن ما جاز للضرورة يقدَّر بقدرها، فلا يتجاوز إلى الذهب؛ لأن الفضة أهون من الذهب، والرخصة بالفضة أيسر من الرخصة بالذهب، والذهب أشد، ولأن الفضة قد أُذن للرجل بها، والذهب لم يؤذن للرجل به، فيبقى على الأصل المقتضي للتحريم، فيُيَسَّر في الفضة ولا يُيَسَّر بالذهب، فإذا أمكنه أن يدفع ضرورته بالفضة لا يعدل إلى الذهب، لكن لو كانت الأسنان من الفضة تنتن، وتكون لها رائحة، أو اتخذها من الفضة فأنتنت وآذت، فحينئذٍ يجوز له أن يعدل إلى الذهب ولا حرج عليه في ذلك، والشرط في جواز الذهب والفضة في السن أن لا يوجد البديل، فإن وجد بديل من مع

يتبع

ابوالوليد المسلم 02-07-2022 08:56 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (187)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


ما يباح للنساء اتخاذه من الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه ولو كثر].
قوله: (ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه) كالأسورة والقلائد والأوشحة والحزام من الذهب والفضة، وغير ذلك مما جرت العادة بلبسه، قوله: (ولو كثر) أي: ولو كان كثيراً، وذلك لأن الله عز وجل وصف النساء بكونهن يتحلين بالحلية، وذلك من شأنهن، كما قال سبحانه وتعالى: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف:18] ، فجعل لهن هذا الحظ من الدنيا، وبناءً على ذلك لا حرج أن تتحلى المرأة باليسير والكثير، خاصة إذا جرى العرف بهذا اللبس، ولا يعتبر محظوراً في حقها.
حكم زكاة الحلي
قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في حليهما المعد للاستعمال أو العارية].
قوله: (ولا زكاة في حليهما) المعد للاستعمال، الحلي الذي تتحلى به المرأة للعلماء فيه قولان: منهم من قال: يجب على المرأة أن تؤدي زكاة الحلي قلّ أو كثر، بشرط أن يبلغ النصاب المعتبر، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
القول الثاني: لا تجب الزكاة في الحلي، وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
واستدل الذين قالوا بوجوب الزكاة في حلي النساء بحديث الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تطوف، وعليها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا، قال: هما حسبك من النار )، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيّن وجوب الزكاة، إذ الوعيد فيه لا يترتب إلا على فعل محرم أو ترك واجب، ولا شك أن الواجب هنا هو الزكاة، فدل على أن الزكاة واجبة، فجعل قوله: ( هما حسبك من النار )، مرتباً على قولها: لا، فدل على أنها لو زكت لما كان حسباً لها من النار، قالوا: فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على وجوب الزكاة في الحلي، واستندوا أيضاًَ إلى الأصول، وذلك في قوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103]، ولا شك أن الحلي مال؛ لأن له قيمة، وقالوا: إنه تجب فيه الزكاة، سواء كان من الذهب أو كان من الفضة.
واستدل الجمهور على إسقاط الزكاة بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس في الحلي زكاة ) ، وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية ، وهو ضعيف، ولا يقوى على معارضة حديث الترمذي الذي صححه غير واحد.
وبناءً على ذلك: يترجح القول القائل بوجوب الزكاة في الحلي، وحينئذٍ يجب على المرأة إذا حال الحول على حليِّها أن تنظر في زكاته إذا كان قد بلغ النصاب، فتُخرج ربع عشره، إن شاءت أخرجته من الذهب، وإن شاءت أخرجته من الفضة، أخرجت ربع العشر من الذهب، أو أخرجته بعدله من الفضة، توضيح ذلك: لو أن حليها زكاته عشرة غرامات، فحينئذٍ نقول لها: إما أن تخرجي عشرة غرامات من الذهب، وتعطى للمسكين ينتفع بها، يبيعها ويأخذ مالها، أو تنظري عِدل العشرة غرامات في يوم الحول بقيمتها من الذهب، فإذا كانت قيمة كل غرام من الذهب في يوم الحول ثلاثين ريالاً فإننا نعتبر الواجب عليها في عشر غرامات ثلاثمائة ريال، ونقول: أنت بالخيار إن شئت أخرجت عدلها من الفضة، وإن شئت أخرجت أصلها، أعني العشرة غرامات، فتُخيّر بين الاثنين، إن شاءت هذا أو هذا، لكنها إذا أرادت أن تنظر إلى عِدل الذهب من الفضة، فينبغي أن تنظر إلى اليوم الذي هو حولها، فلو كان غرام الفضة في يوم حولها يساوي أربعين ريالاً، ثم أرادت أن تخرج بعد يوم أو يومين، وقيمته خمسون أو ستون فالعبرة بالأربعين، لا بالزيادة ولا بالنقص الطارئ بعد يوم الحول، وعلى هذا لا بد أن تعرف قيمة الغرامات في يوم الحول، وتؤدي زكاته على هذا الوجه المعتبر، والعبرة بقيمة البيع لا بقيمة الشراء.
وقوله: (المعدة للاستعمال أو العارية).
بناءً على القول بإسقاط الزكاة في الحلي، كما يقول الجمهور هناك مسائل، يقولون: أولاً: ينبغي أن يكون الحلي معداً للاستعمال، فإذا كان بعضه معداً للاستعمال وبعضه لا يعد للاستعمال إلا نادراً، فإننا نوجب عليها الزكاة في النادر، وأما الغالب فلا زكاة فيه، ومن أمثلة ذلك: لو كان عندها ذهب تلبسه أكثر الحول، أو كل الحول، وذهب خاص للمناسبات بحيث لا يعادل أكثر الحول، تجب عليها الزكاة في النادر الذي تلبسه في المناسبات، ولا تجب عليها في الذي تتحلى به دائماً.
ثانياً: وأيضاً يقولون: إن الحلي يشترط فيه أن يكون مباحاً للمرأة، فما زاد وكان محرماً فإنه تجب عليها الزكاة فيه، ولا يعتبر مستثنى؛ لأن التحريم يسقط الرخصة، وكأن الحلي الأصل وجوب الزكاة فيها، فرخص بإسقاط الزكاة فيها إذا كانت تتحلى بها، وبقي ما عداه على الأصل الموجب للزكاة.
قال المصنف رحمه الله: [فإن أُعد للكراء أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة].
قوله: (فإن أعد للكراء) إذا قلت: إن الحلي لا زكاة فيه، فإنه قد يُعد الحلي للكراء، ومن أمثلة ذلك: أن يكون عند المرأة أسورة من الذهب، أو قلائد من الذهب، وتؤجرها على النساء، إذا صارت المناسبات تأخذ المرأة هذا السوار الليلة بمائة مثلاً، وكل سوار بمائة، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: من أهل العلم من يرى جواز إجارة الذهب والفضة للتجمل والزينة، ومنهم من يمنع من ذلك.
والذين يجيزون يقولون: إن المنفعة وهي الزينة مقصودة، فصارت منفعة مقصودة، فحينئذٍ يجوز أن يُستأجر، وبناءً على هذا القول الذي يقول بالجواز، كما مشى عليه المصنف رحمه الله، حينئذٍ الذي يُعد للكراء تجب فيه الزكاة مع أنه حلي، ولا تسقط عنه الزكاة على أصل المذهب الذي اختاره رحمة الله عليه؛ لأنه لما أُعد للكراء خرج عن كونه حلياً مرخصاً بإسقاط الزكاة عن صاحبه.
وقوله: (أو للنفقة) كامرأة تعد أسورة من أجل أن تبيعها، ثم بعد ذلك تنفق على نفسها وعلى عيالها، فلا تلبسها، هذا ليس بحلي ولا آخذٌ حكم الحلي وإن كان في أصله حلياً، لكنه ليس في مقام الرخصة بالحلي؛ لأنها لا تلبسه ولا تتحلى به ولا تتجمل.
وقوله: (أو كان محرماً) اتخذته وكان حراماً عليها أن تتخذه كأواني الذهب وأواني الفضة، فهذا المعد للأواني يحرم عليها أن تستعمله، وحينئذٍ لا يرخّص ولا يقال بإسقاط الزكاة عنها، فلا يقول قائل: إن الذهب حلال للنساء، وهذه الآنية اتخذتها للزينة في بيتها لا تجب عليها الزكاة بل نقول: يجب عليها أن تزكي هذه الأواني من الذهب والفضة.
والحمد لله رب العالمين.
الأسئلة
حكم شراء طعام بمال الزكاة وتوزيعه على الفقراء

السؤال
إذا كان يجب على المسلم قدر مالٍ معين من الزكاة فهل يجوز له أن يشتري بالمال طعاماً ويوزعه على الفقراء؟


الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الزكاة حق من حقوق الله جعله للفقراء والضعفاء في أموال الأغنياء، لا يجوز للغني أن يقدم على التصرف في هذا المال إلا بإذن شرعي، ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة للغني أن يتصرف في المال الذي أوجب الله عليه أن يؤديه زكاة، فلو وجب عليه أن يخرج خمسة آلاف زكاة، لم يأمره الله عز وجل بإخراجها طعاماً، وقد وجبت عليه نقداً، من ذهب أو فضة أو ما قام مقامهما، فإذا تصرّف بالشراء فاشترى بها طعاماً للفقير، أو اشترى بها أغطية أو أكسية فإنه حينئذٍ لم يؤد الزكاة التي أوجب الله عليه وخرج بالتصرف عن كونه مزكياً إلى كونه متصدقاً، ويجب عليه ضمان هذا المال، وإخراج الزكاة لأصحابها على الوجه الذي أمر الله عز وجل، ولا وجه للاجتهاد بإخراج الأعيان بدل النقود؛ لأن الله سمّى هذا الحق للفقراء، ولا شك أن الإنسان إذا استأجر أجيراً بمائة ريال، فجاء في نهاية اليوم فقال للأجير: هذه المائة ريال اشتريت لك بها طعاماً، لا شك أن الأجير لا يرضى، ويرى أنه قد ظلمه، وقد خرج عن هذا الحق بالتصرف في المال، إلا في حالة واحدة تستثنى، وهي: أن يكون هناك أيتام وهؤلاء الأيتام لا ولي لهم، أو أيتام ومن يقوم عليهم سفيه لا يحسن التصرف، أو هناك فقير أو مسكين ولكنه لا يحسن التصرف في المال، فأنت تعلم أنك لو أعطيته الألف أو الألفين أو الثلاثة أتلفها من ساعته، ولربما صرفها في أمور لا طائل تحتها ولا نائل، والله نهانا عن إعطاء السفهاء الأموال، فإذا نويت أنك قائم عليه، بشرط أن لا يوجد ولي، فحينئذٍ تعطيه على قدر حاجته، فتمر عليه بالشهر تعطيه نفقة شهره، أو تقول لصاحب دكان: أعطه طعامه، وأجمل لي حسابه وأنا أحاسبك، فتقوم على نفقته بالشهر، أو تقوم على نفقته بالأسبوع حتى توفي مال الزكاة، فهذا لا حرج فيه، وإذا كان الإنسان يريد أن يستخدم هذه الطريقة في أناس يستطيعون الإنفاق على أنفسهم، ولكن لا يأمن منهم حسن التصرف، فيمكنه أن يعجل الزكاة قبل وقتها ثم ينفق عليهم مقسطة بالأشهر والأيام.
والله تعالى أعلم.

حكم ضم ذهب الزوجة والبنات ليبلغ النصاب


السؤال
عند زوجتي وبناتي ذهب، فهل أضم الذهب إلى بعضه لتكميل النصاب، أم ذهب الزوجة لا يضم إلى ذهب البنات أو زوجة أخرى؟


الجواب
هذا فيه تفصيل: لمن هذا الذهب الذي يلبسه البنات؟ فإن كان الذهب الذي تلبسه البنات لأمهن وهي زوجتك، فحينئذٍ ذهب الزوجة وذهب البنات بمثابة المال الواحد، وزكاته زكاة المال الواحد فيضم بعضه إلى بعض، إلا في حالةٍ وهي: أن تكون الأم قد نوت العطية، فأعطت ابنتها، فالبنت ذهبها مستقل، وكل بنت ينظر إلى ذهبها، ويعتبر النصاب فيها على حدة، وكذلك الحال بالنسبة للزوج، فإن كان الزوج قد أعطى زوجته ذهباً على سبيل أنها تلبس، ثم بعد ذلك يستبدله لها، لا أنها مالكة لهذا الذهب، فحينئذٍ تجب عليه زكاته، وينظر في زكاة ذهب بناته إذا كان قد أعطاهن من أجل أن يجدد لهن كل سنة، لا على سبيل العطية التي يُقصد منها التمليك.
والله تعالى أعلم.

كيفية إخراج الزكاة مع اختلاف عيارات الذهب


السؤال
من المعروف أن الذهب له عيارات مختلفة، فعند إخراج الزكاة هل يضم إلى بعض، أم يزكى كل عيار على حدة؟


الجواب
هذه المسألة، عيار واحد وعشرين وثمانية عشر وأربعة وعشرين، السبب فيه وجود الشوب من النحاس ونحوه، فخالص الذهب يكون أربعة وعشرين، وهو صافيه وأفضله وأجوده، وإذا خالطه المشوب نزل بحسب الدرجات التي تكون فيه، فيضم الذهب بعضه إلى بعض في الزكاة، والسبب في ذلك: أن الشرع جعل خالصه ومشوبه بمثابة المال الواحد في الربا، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة )، وقد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن خالصها ومشوبها في العيارات واحد، والسبب في ذلك صعوبة الانفكاك، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: أنه يُغتفر وجود النحاس في الذهب، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك، واغتُفر في الموازنة في الربويات، فإذا بادل ذهباً عيار واحد وعشرين بذهب عيار أربعة وعشرين، أو أربعة وعشرين بعيار ثمانية عشر، فيجب التماثل والتقابض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن التمر، وقال عامله على خيبر: ( إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، قال: أوه! عين الربا )، فقوله: (إنا نبيع الصاع من هذا) يعني الجيد، (بالصاعين من هذا) يعني الرديء، فاعتبر المشوب موجباً للتفاوت، فقال: ( أوه! عين الربا ) أي: لا بد وأن تبيعه مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً بسواء، ولذلك حكي الإجماع على أن خالص الذهب ومشوبه في الوزن واحد، إلا إذا كان المشوب مما يمكن سحبه ويمكن فصله بدون مشقة وعناء، خاصة إذا كان في غير الضرب، كأن يكون أُدخل عليه فحينئذٍ يفصل، وهكذا بالنسبة للقلادات إذا كان فيها فصوص، فلا بد من فصلها وبيع الذهب بالذهب متقابلاً، ولا يغتفر وجود هذه الفصوص مثلما يغتفر في المشوب.
الشاهد: أن الشرع حينما جعل الذهب خالصه ومشوبه بمثابة الشيء الواحد في الربويات نُزِّل هنا منزلة المال الواحد، على خلاف مسألة الخالص والمشوب في تقدير النصاب على الأصل الذي ذكرناه لوجود القدرة، وذلك أن المشوب أُدخل بخلاف المشوب الذي وجد في أصل الخلقة.
والله تعالى أعلم.
كيفية إخراج زكاة الحلي

السؤال
حسب علمي أن الكثير يخرجون زكاة الحلي بقسمة قيمة الذهب على اثنين ونصف في المائة، فهل فعلهم صحيح، أم لا بد من نصاب الفضة؟


الجواب
هذا مبني على الأصل الذي ذكرناه، أنه إذا اختار إخراجها من الفضة ينظر إلى قيمتها، سواءً قلت: يحسب الغرامات ثم ينظر إلى قيمة الغرامات الواجبة، أو يحسب غرامات الكل ويزكيها، فالنتيجة واحدة، فهي ابن أخت خالة التي قبلها، ما هناك فرق، وابن أخت الخالة هو الشيء نفسه، وهذا مثال عند العرب، يقولون: هو ابن أخت الخالة، أي الشيء نفسه، ما هناك فرق، سواء قلت: إنه ينظر إلى الغرامات وقيمتها من النقد، أو ينظر إلى مجموع الغرامات كلها ويضربها في الفضة، المعنى واحد.
حكم لبس الرجل خاتماً من الألماس أو من الأحجار الكريمة

السؤال
ما حكم لبس الخاتم للرجال، إذا كان هذا الخاتم من الألماس، أو ما يسمى بالأحجار الكريمة؟


الجواب
لا حرج في لبس المعادن الأخرى من الألماس، والأحجار الكريمة، والعقيق، والمرجان، واللؤلؤ، وغيرها؛ لأن الله تعالى سخرها لبني آدم، وكما قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [الجاثية:13] ، قال العلماء: هذه الآية أصل في جواز التحلي بالمجوهرات وغيرها ما لم يجر العرف باختصاص النساء بها دون الرجال، وأما بالنسبة للأصل، فالأصل يقتضي جواز الانتفاع بما في هذا الكون حتى يقوم الدليل على التحريم، فإذا قام الدليل على الاستثناء والتحريم فإنه محرم بحكم الشرع، ويعتبر خاصاً في التحريم على حسب مورد النص.
والله تعالى أعلم.
حكم لبس الرجال الأشياء المطلية بالذهب

السؤال
هناك بعض الساعات والأقلام يوضع عليها دهان من ماء الذهب بنسب مختلفة، فهل يجوز لبسها، أم لا؟


الجواب
الذهب خالصه ومشوبه، مطليّه وغير مطليّه واحد، وحكمه واحد، واستثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض الحنفية رحمة الله عليهم المطلي، فقالوا: إذا كان الطلاء يسيراً يجوز، وهذا مبني على دليل يعرف بالاستحسان، والاستحسان: الاستثناء من أصل عام بدليل ينقدح في نفس المجتهد، والذي يظهر أن هذا ضعيف، ولا يستثنى من ذلك مطلي ولا غير مطلي إلا إذا قام الدليل على الاستثناء، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم الذهب وحرّم استعماله، وبناء على ذلك لا يُرخص للرجل أن يتسامح في اليسير من الذهب في ساعة أو قلم أو غير ذلك إلا ما استثناه الشرع.
والله تعالى أعلم.
وصية قبل الاختبارات

السؤال
كما تعلمون فإن الاختبارات على الأبواب، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟


الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهون علينا وعليكم اختبار الدنيا والآخرة، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية سؤلنا ورغبتنا.
أما بالنسبة لهذه الأيام فأوصي إخواني من طلاب العلم بأمور: أولاً: أن يتوكلوا على الله عز وجل، وأن يفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فما من أمر من أمور الدنيا ينزل بعبد من عباد الله أو بأمة من إماء الله، فينزله العبد بباب الله عز وجل متوكلاً على الله، مفوضاً أمره إلى الله، آخذاً بالأسباب التي شرع الله، إلا جعل الله له العاقبة على أحسن ما يبدو ويأمل، ولذلك قال تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه:132] ، وقال سبحانه: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:128] ، فأول ما يوصى به طالب العلم أن يكون متوكلاً على الله، لا على ذكائه، ولا على حفظه، ولا على فهمه، ولا على نبوغه، ولا على ضبطه، ويحس أنه لا يملك من أمره شيئاً إلا أن يعينه الله، وكلما برئت من الحول والقوة في أي أمرٍ من أمورك الدينية والدنيوية، كمّل الله نقصك، وجبر كسرك، وكان لك معيناً وظهيراً، فما من إنسان يكون عنده هذا الشعور إلا وفِّق، ولا تعتمد على أي شيء غير الله سبحانه وتعالى، فمهما أوتيت من الحفظ والفهم، فلابد لك من عون الله، وقد ذكر الإمام الماوردي رحمة الله عليه -يحكي عن نفسه-: أنه دخل ذات يوم المسجد، وكان طلابه ينتظرونه، فكأنه دخله شيءٌ من نفث الشيطان حينما قال له: هل هنا مسألة في الفقه لا تعلمها؟ كان الإمام الماوردي عجيباً في الفقه، وهو صاحب كتاب الحاوي، وهو كتابٌ كاسمه، جمع فأوعى من المسائل أصلية وفرعية في الفقه، يعز وجود مثله، فضلاً عن أحسن منه، أجاد وأفاد رحمة الله عليه، فلما دخله هذا العجب يقول: دخلت على طلابي، فلما جلس بينهم جاءت إليه امرأة، وكانت معها صبية لأول مرة تحيض، فسألته عن مسألة من مسائل الحيض الواضحة، قال: فأظلمت الدنيا في وجهي.
وكأنه لا يعرف شيئاً، هذا الإمام العظيم الذي فرّع وقعّد ونظّر، والإمام النووي رحمة الله عليه في المجموع كثيراً ما يعتمد على تخريجاته وتصحيحاته ونقولاته، رحمة الله على الجميع، قال: فإذا به لا يعي شيئاً، وكأنه لم يعلم شيئاً، يقول: فمن شدة ما هو فيه جعل يتصبب من العرق، والطلاب من هيبة شيخهم وإجلالهم له -كانوا يعظِّمون العلماء ويجلونهم ويوقرونهم- سكتوا وما استطاع أحد أن يجيب عن هذه المسألة الواضحة إجلالاً له، وذهولاً من الموقف، فما زالت المرأة تنتظر الجواب، وتردد عليه السؤال: رحمك الله كان كذا، رحمك الله، ما حكم كذا، وهو لا يجيب، فلما وجدت أنه لا يجيب، انصرفت عنه، فإذا بطالب علم حديث العهد بطلب العلم يدخل المسجد فسألته عن المسألة، فأجابها بكل سهولة، فقالت له: والله أنت خيرٌ من هذا الذي جلس، فضّلته على شيخه، لأنه رأى نفسه في العلو، فوضعه الله في السفول.
هكذا الإنسان، الماء لعظم فضله، جعله الله في قرار الأرض: { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ } [المؤمنون:18] ، والدخان لحقارته يتعالى ويتعاظم.
فالإنسان الموفق الكامل يحتقر نفسه مهما أوتي، ولذلك تجد العالم الذي جعل الله علمه رحمة له وخيراً له يتواضع ولا يعد نفسه شيئاً.
فطالب العلم إذا أراد أن يمضي إلى اختباره أو إلى امتحانه لا يُحس أن عنده شيئاً، إنما يعلق أمله على توفيق الله ومعونة الله، وعندها يكون له من الله على قدر ما كان من توكله ويقينه بالله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: ألا يضيع الإنسان حق الله عز وجل، فيسهر حتى يضيع صلاة الفجر، أو يجلس لترداد المواد ومراجعة الكلمات حتى يفوت صلاة الجماعة، أو يأتي متأخراً، فلا ينصرف الإنسان عن الله عند اشتداد حاجته إليه، بل حتى في الأمور التي تتعلق به في معيشته، المنبغي إذا نزلت بإنسان أيام عصيبة كأيام الاختبارات والامتحانات أن يحافظ على حق الله، وأن يحس أن مخرجه أن يوفِّي لله حقه حتى يعطيه الله عز وجل من معونته وتوفيقه، كما وفّى لله يوفي الله له، ولذلك ينبغي عليه أن يحرص كل الحرص على إقامة الصلاة، والله تعالى يقول: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة:45]، فجعل الصلاة قرينة الصبر، وهذا يدل على أن لها في النوائب والشدائد والمصائب فضلاً عظيماً وأثراً كبيراً في صلاح حال العبد، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا بلال ! أرحنا بالصلاة ) ، فكانت قرة عينه صلوات الله وسلامه عليه وبهجته وسروره حينما يقف بين يدي الله.
فإذا كنت في أيام الاختبارات لا يختلف حق الله عندك عن الأيام العادية، عظم شأنك وجلّ بإذن الله عز وجل؛ لأنك تُمتحن أنت في امتحان أُخروي، فإذا كانت امتحاناتك واختباراتك تجعلها تبعاً لامتحان الله لك في هذه الدنيا، وفقك الله وأعانك.
الأمر الثالث: حق العباد، إخوانك وزملاؤك يحتاجون إلى ملخصات، يحتاجون إلى معونة، فأعنهم ولا تكن بخيلاً بالعلم، ولا تضن، وتمن لأخيك من الخير مثل ما تتمنى لنفسك أو أكثر، لا بد أن يربي الإنسان نفسه على المعاني الكريمة التي هذب الله بها المسلمين، نحن أمة مسلمة منقادة لله مستسلمة، فالإنسان ينبغي عليه أن يحب لإخوانه وزملائه من الخير مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، حتى قال الإمام الشافعي : (والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يُظهِر الله الحق على يديه)، وهذا شيء من النزاهة والنقاء والصفاء في قلوب الأخيار، وهو من رحمة الله عز وجل بالعبد، فالإنسان إذا كان خيراً صالحاً أحب للناس مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، ولا تكره أن أحداً يسبقك، فهذه أمور الدنيا، والمعوّل على الآخرة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: ( إنكم ستلقون بعدي أثرة، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: اصبروا فإني فرطكم على الحوض )، الفضل هناك إذا قرعت الرءوس ومدّت من يده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً، ففضلت على غيرك، هناك الفضل بإذن الله عز وجل.
فالإنسان لا ينظر إلى هذه الدنيا إلى درجة أن يكره لإخوانه الخير، فيحس أنهم إذا سبقوه غمطوه أو أهانوه، بل أحب لهم من الخير مثل ما تحب لنفسك أو أكثر.
فلا ينبغي أن تكون الامتحانات وسيلة لحسد الناس، وكراهية الخير لهم، وإذا أحد سبقك أو فضُل عليك فقل: الحمد لله، اللهم إن فضّلته علي في الدنيا فلا تفضِّله عليَّ في الآخرة.
تكون الآخرة هي مبلغ علمك وغاية رغبتك، وهي أكبر همك، وعندها تسعد وتفلح، وتحس أن أمور الدنيا تحت قدمك، ولا تبالِ بشيء أقبل أو أدبر، إن أقبل استعنت به على طاعة الله، وإن أدبر فلن تلو عليه، تستقم لك السعادة، وهذه من نعم الله عز وجل على العبد، وهي راحة النفس، لا تحسد أحداً على فضل الله عز وجل، وإن أوتيت الفضل بذلته وتمنيته للناس.
كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها: ذكر الله عز وجل من كثرة الاستغفار وسؤال الله المعونة ونحو ذلك { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] .
ومن الأمور التي ينبغي على الإنسان أن ينتبه لها: حقوق الأبناء والبنات، فينبغي على الآباء والأمهات أن يرفقوا بالأبناء والبنات في أيام الاختبارات، ويعينوهم على طلب العلم، ويساعدوهم على المذاكرة حتى لا تنكسر نفوسهم بالتأخر عن زملائهم وقرنائهم، يكون للوالد فضل، أما أن تأتي مثل هذه الأيام وهو مهمل حقوق أبنائه وبناته فلا، كذلك أيضاً ينبغي أن يشملهم بالعطف والحنان والرعاية، وأن يحفظ مشاعرهم النفسية، والقلق الذي هم فيه، فيسليهم بالكلمات الإيمانية، ويثبت قلوبهم بالمواعظ الربانية، فالصبي إذا عودته من صغره على ذكر الله في الشدائد، فجاءت العواقب سليمة يحس أن ذكر الله هو الطريق للسلامة في العواقب، فينشأ منذ نعومة أظفاره وقد تعلّق قلبه بالله جل جلاله، وعندها يصلح حاله ويكمل ويشرف، ويكون له خير الدنيا والآخرة.
وليرفق بهم فلا يحملهم ما لا يطيقون، وبعض الآباء والأمهات تزداد أذيته لابنه في أيام الاختبارات، فيكون الابن مشوش الذهن، ولا يحس أنه متقن لعدم تفرغه، فيأتي الأب ليشغله بمشاغل يمكنه بنفسه أن يقوم بها أو يقيم غيره مقامه، فيأتي ويضار به أو يضيق عليه أو يعنت عليه، وهذا لا ينبغي.
كذلك على الآباء أيضاً غفران زلاتهم، والتجاوز عنهم في مثل هذه الأوقات العصيبة؛ لأن نفوسهم مشغولة، فينبغي للإنسان أن يكون مع أبنائه حليماً رحيماً، وهذا من الرفق الذي قال عنه عليه الصلاة السلام أنه: ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه ) ، فالله جعلهم أمانة في عنقك، والله ما نظرت إليهم في أوقات الشدة والكرب من مرض أو سقم أو مشغلة من مشاغل الدنيا وعوارضها، فشملتهم بعطفك وإحسانك إلا لطف الله بك كما لطفت بهم، فالإنسان إذا عامل غيره بالإحسان عامله الله بالإحسان، فما { جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ } [الرحمن:60] ، ومن يسّر يسّر الله له، فإذا كان تيسيرك على أقرب الناس إليك، فإن الله ييسر عليك، وأفضل ما يكون الإحسان على أقرب الناس منك؛ لأنه أحوج ما يكون إلى عطفك وحنانك وبرك وإحسانك.
وإذا جئت قادماً على صالة الاختبار، فتذكر قدومك على الله جل جلاله، وتذكر قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة:18] ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله)، فالإنسان كما أنه يتهيأ لعرض الدنيا واختبار الدنيا، يجب أن يتهيأ لاختبار الآخرة، هذه ذكرى وعبرة، كما يقول بعض العلماء: المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة.
فالله جل جلاله ينبهك بمثل هذه



ابوالوليد المسلم 04-08-2022 05:10 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (188)

صـــــ(1) إلى صــ(14)





شرح زاد المستقنع - باب زكاة عروض التجارة
عروض التجارة من الأموال التي أمرنا بإخراج الزكاة فيها، والعروض هي ما يملكه الإنسان بنية التجارة، وأما ما ملكه بنية الاقتناء فلا يدخل في ذلك.
فمن ملك مالاً بنية التجارة وحال عليه الحول وبلغ النصاب وجب عليه إخراج زكاته، وينبغي عليه أن يقوِّمه عند إخراجه بالأحظ للفقراء والمساكين وألا يظلمهم حقهم.
زكاة عروض التجارة ومشروعيتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة العروض].
العروض: جمع عرض، والعرض: هو المتاع، ومراده رحمه الله أن يبين حكم زكاة التجارة، وهي الأموال التي يعرضها الإنسان بقصد المتاجرة فيها، وذلك أن ما عند الإنسان منه ما يكون للقنية كسيارته وأثاث بيته ونحو ذلك، ومنه ما يكون معروضاً للبيع والمتاجرة.
والأصل في وجوب الزكاة في عروض التجارة عموم قوله سبحانه وتعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة:103] ، ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرِّق بين مال وآخر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الزكاة من المال، وعروض التجارة مال، فالأصل وجوب الزكاة فيها، حتى يدل الدليل على الإسقاط.
أما الدليل الثاني: فقوله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [البقرة:267] ، قال مجاهد -وهو تلميذ عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن- في تفسيرها: إنها عروض التجارة، وأشار إلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، ففسر الآية: بأن المراد بها عروض التجارة، ولا شك أن مجاهداً رحمة الله عليه كان يأخذ التفسير من عبد الله بن عباس ، وكان يستوقفه عند كل آية، يسأله عن حلالها وحرامها وما فيها من أحكام، فمثل هذا الغالب أنه أخذه عن ابن عباس رضي الله عنه، و عبد الله بن عباس مكانته عالية في التفسير والتأويل؛ وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )، فهو معلَّم ملهم رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا قالوا بوجوب الزكاة في عروض التجارة، وبذلك قال جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وكان يقول به فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيَّب و خارجة بن زيد و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، ولا يشتهر هذا القول في المدينة غالباً إلا وله أصل عن الصحابة، ولذلك قال العلماء: القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة هو الأصل، حتى يدل الدليل على الإسقاط.
قال رحمه الله: (باب زكاة العروض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بزكاة عروض التجارة.
شروط وجوب زكاة عروض التجارة
قال المصنف رحمه الله: [إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً زكّى قيمتها].
(إذا ملكها بفعله) أي: بفعل المكلف، كأن يشتري عروضاً من أغذية أو أكسية أو دواب -كالسيارات الموجودة الآن فهي حكم الدواب- فيملكها بفعله، أي: يشتريها، فلا تأتيه عن طريق الإرث، وتدخل عليه بغير محض الفعل، فاشترط العلماء رحمهم الله: أن يكون مالكاً لها بالفعل، أي: أنه أدخلها إلى ملكه قاصداً التجارة بها.
الاعتبار في تقدير الزكاة عند الحول
[وتُقوَّم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورِق].
(وتقوّم) أي: عروض التجارة.
من المعلوم أن عروض التجارة في الغالب -سواء كانت من العقارات أو المنقولات- تحتاج إلى معرفة القيمة، فهناك قيمتان: القيمة الأولى: التي اشتريت بها، والقيمة الثانية: التي تعرضها أو تعرض بها الشيء المبيع، فلو أنك اشتريت عشر سيارات لعرضها للتجارة، وقيمتها -مثلاً- في الأصل حينما اشتريتها مائة ألف، ولكنك حينما عرضتها للبيع عرضتها بمائة وخمسين، فحينئذٍ يجب عليك اعتبار سعر البيع، وأما قيمة الأصل فإنها ليست بقيمة؛ والسبب في هذا أن الذي تعرضها به للبيع يعتبر مالاً في الحكم، أي: كأنك مالك لهذا القدر، وأما الذي اشتريت به فإنه لا يؤثر لكونه غير مستقر، وحينئذٍ يستوي أن يكون زائداً عما تعرض به، أو يكون ناقصاً عنه، فلو أنك اشتريت (بمائة ألف) وتريد أن تبيع (بخمسين ألفاً)، أو انخفض السعر حتى أصبحت تباع (بخمسين)، فالقيمة (خمسون)، ولو أنك اشتريت (بخمسين) ثم ارتفعت قيمتها، وعرضتها (بمائة)، فالقيمة مائة، وقس على هذا.
وتقوّم بالأحظ للفقراء، فيُنظر إذا كان الأحظ أن تقوم بالدراهم قُوِّمت بالدراهم، وإن كان الأحظ أن تقوم بالدنانير قوِّمت بالدنانير.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يُعتبر ما اشتريت به].
(ولا يعتبر) أي: في القيمة والتقدير والتقويم (ما اشتريت به)، وفي ذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أمر أن تقوَّم عروض التجارة بقيمتها، أي: في حالها، وهذا يدل على أن العبرة في عروض التجارة بقيمة البذل لا بقيمة الشراء، وقد بيّنا أن السبب في هذا أنك إذا عرضت الدار -مثلاً- أو الأرض للبيع، وكانت القيمة التي اشتريت بها مائة وتعرضها بمائة وخمسين، فأنت في الحقيقة بمثابة المالك للمائة والخمسين، ولكن يرد

السؤال

لو أن هذا الشيء المعروض للتجارة فيه اضطراب، أي: لا يثبت على قيمة معينة، فأنت تقدِّر أن أقل ما تبيع به هذه السيارة هو مائة وخمسون، ولكنك إذا جئت تعرض تقول: مائة وسبعون أو مائة وستون، فهل العبرة بأكثر ما تطلبه، أم العبرة بأقل ما تطلبه أو ترضى به؟ أولاً: قضية سوم الأشياء بأعلى من قيمتها حتى تنزل، فيه حديث أم أنمار رضي الله عنها، فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا أرادت أن تشتري الشيء سامته بأقل من قيمته، فلا تزال مع صاحبه حتى يبلغ قيمته فتشتريه، وإذا أرادت أن تبيع الشيء سامته بأكثر من قيمته حتى يبلغ القدر الذي ترضى به فتبيع، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، فكره بعض العلماء مثل هذا.
ولكن الصحيح أنه يجوز؛ لأن هذا الحديث متكلّم في سنده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الإصابة، وأشار إلى سنده، وله أصل في سنن ابن ماجة.
والصحيح: أنه يجوز للإنسان أن يسوم بالأكثر والأقل، والأفضل له أن يجتزئ بأقل الأرباح حتى يضع الله له البركة فيما يأخذ، وهذا مبني على عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله امرأً سمحاً إذا باع ) ، قالوا: السماحة في البيع أن يرضى بأقلّ الربح.
ثانياً: إذا قلنا: إنه يشرع أن تسوم بالأكثر حتى تبلغ الأقل، فحينئذٍ نحن بالخيار بين ثلاثة أمور: إما أن نقول: العبرة بالأكثر لأنها تسام به، وعُرضت متاجرةً بهذا الأكثر، وكونه يرضى بالأقل، هذا شيءٌ رضي خسارته على نفسه، فلا نرضى خسارته على الفقراء والمساكين.
وإما أن نقول: العبرة بالأقل؛ لأنه هو اليقين، والقاعدة في الشرع: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فالأصل أن الذي يبيع به وتُقدَّر به السلعة ويرضى به المشتري في الغالب هو الأقل، فحينئذٍ نقول على هذا الوجه: العبرة بالأقل.
وإما أن نقول: العبرة بما بينهما.
والذي يترجح من هذه الثلاثة الأمور القول: بأن العبرة بالأقل؛ لأنه اليقين، وهذا أصل طرده العلماء رحمة الله عليهم في كثير من المسائل.
وعليه: فإنه إذا كان يعرضه بمائة ويرضى بتسعين فالعبرة بالتسعين.
وقال بعض العلماء: الورع أنه ينظر إلى السوق، فإن كان السوق رائجاً حتى يصير بالأكثر، فإنه يقدره بالأكثر، وإن كان بالأقل فلا حرج أن يقدره بالرخصة بالأخذ بالأقل.
قال المصنف رحمه الله: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمانٍ أو عروض بنى على حوله].
أي: بنى على حول الشراء، ما دام أنه اشتراه بنية التجارة، وهذه المسألة الأصل فيها ما ذكرنا أن من دخل إلى التجارة برأس مال واشترى بها عروضاً ثم باعها قبل تمام الحول، فإن العبرة بالأصل، أي: بالثمن، ولا يلتفت إلى هذه العروض؛ لأننا لو قلنا بهذا لما استطعنا أن نزكي عرضاً للتجارة إلا في القليل النادر، وتوضيح ذلك: أن من دخل بمائة ألفٍ يريد أن يتاجر بها في شهر محرم، فاشترى بها عشر سيارات -مثلاً- فعرضها للبيع، فبيعت في منتصف العام، واشترى أخرى مكانها، فقد يقول قائل: الأول قد انقطع بالبيع، والثاني يستأنفه بالشراء من منتصف الحول، نقول: لا، العبرة بالأصل، فحينئذٍ هذه المائة ألف لما تمحّضت للمتاجرة فإننا نقول: العبرة بحولها، فإذا اشترى وأدخل وأخرج، فهذا كله تابع لأصله، يبني عليه، وتجب عليه زكاته كما ذكرنا.
[وإن اشتراه بسائمة لم يَبْنِ] وهذا بناءً على أن زكاة السائمة غير زكاة الأموال المعروضة للتجارة؛ لأنه انتقل من أصل إلى أصل، فالسائمة إذا قطعها بالبيع لا يبني وإنما يستأنف، مثال ذلك: لو كان عنده من الإبل ما يبلغ النصاب، وتجب عليه فيه الزكاة، وفي منتصف العام باعها، ثم اشترى به سيارات أو أكسية أو أغذية، وعرضها للتجارة، فإننا نقول: السائمة لها زكاة مستقلة، وعروض التجارة التي هي الأكسية والأغذية لها حول مستقل، فيستأنف الحول من جديد، ولا يبني على الحول الأول لاختلاف الأصلين، فأصل السائمة شيء، وأصل عروض التجارة شيءٌ آخر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الأسئلة
المعتبر في زكاة العملة الورقية

السؤال
ما هو نصاب المال المعتبر في العملة الورقية، هل المعتبر فيه نصاب الذهب، أم نصاب الفضة؟ ولماذا؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالعملة الورقية أصلها فضة كما ذكرنا، وبناءً على ذلك فزكاتها زكاة الفضة؛ لأنها عبارة عن أسناد توثيقية عن الفضة، فيقدر النصاب بهذا القدر الذي ذكرناه، وهو ثلاثة وخمسون ريالاً، وهي تعادل مائتي درهم، فما بلغه فإنه تجب فيه الزكاة، وما كان دونه فلا تجب فيه الزكاة، وأما تقديرها بالذهب فليس بسديد؛ لأنها إذا قدِّرت بالذهب خرجت عن أصلها، والأوراق لا يؤمر بزكاتها، وإنما أُمرنا بزكاة هذا الأوراق (العملة الورقية)؛ لأن رصيدها من الفضة، ولا يؤثر في ذلك كونه يحصل على الرصيد (الفضة) أو لا يحصل، أو يتمكن منه أو لا يتمكن؛ لأن هذا المستند ثابت من ناحية شرعية، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في قيمته الحقيقية واعتباره من الفضة.
والله تعالى أعلم.
زكاة المحلات التجارية

السؤال
كيف يُخرج أصحاب المحلات التجارية كالدكاكين والبقالات الزكاة، وذلك لاختلاف البضائع فيها واختلاف أسعارها؟

الجواب
إذا حال الحول يحتاط صاحب (البقالة) و(المتجر) باليوم واليومين الذي يتمكن فيها من جرد البضائع، وحينئذٍ يقفل هذا المحل أو يتصرف بطريقة يمكنه بها أن يجرد في هذا اليوم الذي هو رأس حول المال، فإذا جرد أصناف البضائع وصنّف كل صنفٍ على حدة، حينئذٍ ينظر إلى قيمة عرضه في ذلك اليوم، فلو كان عنده ألف صنف، فيُنظر العدد الموجود من كل صنف، وقيمة كل شيءٍ منه، ثم بعد أن يجرد هذا بقيمته يزكي المحل بقيمة واحدة، ولا يجوز له أن يخمِّن ولا أن يقدر؛ لأن القاعدة: (أن القدرة على اليقين تمنع من الشك) وبعض الناس قد يتلاعب في هذا الأمر، بل قد يتسامح البعض في الفتوى، والواقع أنه ينبغي عليه أن يجرد، وينبغي أن يشعر الناس بأهمية الزكاة، والفقه أننا نطالبهم بالجرد؛ لأن الجرد يُشعر بأهمية الزكاة ووجوب هذه الفريضة، ولو أنه احتاج إلى هذا الجرد لمحاسبة شركائه لوجدته يجرد كل صغيرة وكبيرة، ولا يجد العناء، ولكن في حق الله يتلاعب الناس إلا من رحم الله، ويتساهلون ويبحثون عن الرخصة في الفتوى، فالواجب حملهم على الأصل؛ إلا إذا تعذر القيام بهذا الأصل.
والله تعالى أعلم.

زكاة الدين في عروض التجارة، وإخراج الزكاة من العروض نفسها


السؤال
عندي محل تجاري حال عليه الحول، وبه بضاعة بمبلغ مائة ألف ريال، وعلى المحل دين من البضاعة الموجودة بمبلغ وقدره خمسة وثلاثون ألف ريال، فهل أزكي على قيمة البضاعة كاملة، أم أزكي بعد خصم الدين؟ وإذا حال الحول ولا توجد عندي سيولة نقدية، فهل يجوز لي أن أزكي من البضاعة التي توجد عندي، أم تبقى الزكاة ديناً عليَّ، جزاكم الله خيراً؟

الجواب
للعلماء في الدَّين وجهان: منهم من يقول: إن الدَّين يُسقط، وحينئذٍ تُسقط هذا المبلغ الذي هو دين عليك.
ومنهم من يقول: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تُسدد حقوق الناس قبل استتمام المدة وحولان الحول، وإما أن تُطالب بزكاة الجميع، وهذا أقوى والنفس إليه أميل؛ لأنه هو الأصل، ولا شك أن الإنسان إذا ملك هذا القدر وكان في ماله يمتنع من سداد حقوق الناس، ثم بعد ذلك يسقط الزكاة عنه، فهذا فيه ضعف، ولا يخلو من نظر، وعليه فإنه يقوى القول بأنك تُطالب بأحد الأمرين: إما أن تسدد للناس حقوقهم، أو يجب عليك زكاة المبلغ كاملاً.
على هذا يجب عليك زكاة المال كاملاً، ولا يسقط منه شيء إعمالاً للأصل.
والله تعالى أعلم.
أما إذا حال عليك الحول وليس عندك سيولة؛ فإنه حينئذٍ يجب عليك أن تخرج هذا المال، إما ديناً من الغير، أو تتصرف بما تستطيع الحصول على حق الفقراء وتعطيهم حقهم كاملاً، أما إخراج الزكاة من نفس العروض فقول جمهور العلماء: أن ذلك لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك المال بعينه، فتُخرج من الفضة فضة وتخرج من الذهب ذهباً، وإن كانت من العروض تُخرج بقيمتها من الذهب والفضة، ولو أن إنساناً قيل له: اعمل شهراً، فإذا عمل الشهر جيء له بطعام وكساء ودواء، وقيل له: راتبك خمسة آلاف ريال، وهذه كلها مئونتك بالخمسة آلاف ريال، فلن يرضى، وسيقول: ليس من حق أحد أن يتصرّف في مالي، وهذا حق لي، لا آذن لأحد أن يتصرف فيه، فكذلك الفقير؛ لأن الله يقول: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج:24-25] ، فليس من حق التاجر أن يتصرف في أموال الفقراء والضعفاء، بل إنه قد يحتال بهذه الطريقة، فيجد البضاعة لا تنفد، وسوقها كاسد، فحينئذٍ يدفع عن نفسه ضرر كساد السوق ويعطي الفقراء والضعفاء مما عنده من المعروضات للتجارة، وعلى هذا فإنه يجب عليه أن يؤدي حق الله في ماله، ويمكِّن الفقير من عين المال من الذهب والفضة، ولا يخرج الأطعمة وغيرها من عروض التجارة.
والله تعالى أعلم.
زكاة مهر المرأة غير المدخول بها

السؤال
هل في المهر زكاة إذا أعطي للزوجة ولم يتم الزواج إلا بعد سنة؟


الجواب
إذا أخذت المرأة المهر فإنها حينئذٍ تزكيه، وتعتبر حوله من القبض؛ لأنها تستحق هذا المال بالقبض، ويبقى النظر في خوف وجود الطلاق قبل الدخول، ولذلك بعض العلماء يقول: هي مستحقة لنصفه، ولا تجب عليها زكاة النصف الثاني إلا إذا دخل بها، فإن دخل بها قضت زكاة ما مضى، وهذا له وجه، ولكن الأول أورع وأحوط؛ لأن الطلاق نادر، فأُعمِل الأصل من بقاء العقد.
والله تعالى أعلم.
حكم من يشتري سلعة ليبيعها لغيره بالتقسيط

السؤال
إذا قال البائع للمشتري: اذهب واختر السلعة التي تريدها وأنا أشتريها لك وأقسطها عليك، فما الحكم في ذلك؟


الجواب
هذا عين الربا، فإذا قال له: اذهب واشتر ما شئت من متاع أو سيارات وائتني بفواتيره، ثم يشتريها ذلك الشخص ثم يقسِّطها عليه، فهذا عين الربا، بدل أن يقول له: خذ مائة ألف وردها مقسطة بمائة وعشرة احتال بإدخال السلعة، ثم يتفق هؤلاء مع التجار على أنه إذا رفض المشتري أنهم يردون البضاعة، وقد يقول البعض: بأن هذا جائز؛ لأن الطرف الذي ذهب إليه المحتاج اشترى السلعة ولم يلزم الطرف المدين أو الذي يريد هذه السلعة بالعقد، وبناءً على ذلك خيّره، وقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع، نقول: إن الشريعة ألغت صورة العقدين مع صحتهما ظاهراً لذريعة الربا.
مثال ذلك: بيع العينة، وصورتها: رجل جاء إلى تاجر فاشترى منه سيارة بمائة ألف مقسطة، فالسيارة قيمتها بالأقساط مائة ألف؛ لكن قيمتها بالنقد ثمانون ألفاً، فلما اشتراها بمائة ألف إلى أجل قال التاجر: أشتريها منك نقداً بثمانين، فإذا جئت تنظر إلى صورة العقدين فالأصل صحتهما، فالسيارة قيمتها الحقيقية بالأقساط مائة وقيمتها الحقيقية بالنقد ثمانون، فالأصل يقتضي أن العقد صحيح، لكن لما صُرفت السيارة للمشتري ثم عادت للبائع أُلغيت صورة العقدين، وصارت حقيقة الأمر كأنه أخذ النقد أي: الثمانين في مقابل المائة المؤجلة، فحرم الشرع هذا النوع من العقد، وألغى صورة العقد.
كذلك هنا لما كان البنك أو الشركة أو مَنْ يشتري ليس مراده أن يستفيد بالسلعة أصلاً، وإنما يشتريها بناءً على طلب وتحديد وتعيين، فلما وجدت الرغبة ووجدت الحاجة حينئذٍ توجه بالشراء، فلما اشتراها آل الأمر إلى أنه بدل أن يعطيه الثمانين المعجلة ويقول: ردها مائة مؤجلة أدخل السلعة حيلة وحينئذٍ يعتبر من بيوع الربا، وشبهة الربا فيه ظاهرة.
والله تعالى أعلم.
معرفة النصاب في المال

السؤال
عندما أريد أن أعرف ما عندي من المال هل بلغ نصاباً أم لا، فإنني أسأل الصاغة عن قيمة خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً من الفضة كم تساوي من الريالات، فهل فعلي صحيح؟


الجواب
هذا الفعل ليس بصحيح؛ لأن الريال مع الفضة لا بد فيه من التساوي والتماثل، فإذا قلت: خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً كم تساوي بالفضة، فهذا عين الربا؛ لأن أصل الورق ريال من الفضة، وله وزن محدد، فعندما تشتري بريال الورق الفضة لا بد أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد، فإذا أعطاك الصائغ قيمتها متفاضلاً فإنه قد بناها على الربا؛ لأن التفاضل محرم، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة من طالب العلم، لأنه في هذه الحالة كأنه يبادل الفضة بالفضة، ولا بد من التماثل والتقابض، وحينئذ لا تلتفت إلى قيمة زنة الغرامات، وإنما تلتفت إلى تحرير الريال الفضي القديم بالفضة، ثم تنظر إلى عدلها من مائتي درهم، وقد كُفيت المئونة؛ فإن هذا يعادل ثلاثة وخمسين ريالاً، وبناءً على ذلك ثلاثة وخمسون من الفضة القديمة تعادل بزنتها هذا القدر، وحينئذٍ يجب عليك زكاة هذا القدر.
اعتبار الحول في زكاة العروض

السؤال
رجل اشترى خمس سيارات في محرم، وعرضها للتجارة، ثم لم يلبث أن باعها في رمضان واشترى بقيمتها أغناماً وعرضها أيضاً للتجارة، فهل يبدأ الحول من جديد، أم يبقى على الحول الأول، أثابكم الله؟


الجواب
يقول بعض العلماء: إذا كانت تجارته من جنس وانتقل إلى جنس آخر فإنه يستأنف الحول، بشرط أن لا يقصد الفرار من الزكاة أو الاحتيال على الزكاة، وعليه فلو دخل في تجارة السيارات، ثم بعد ذلك تحوَّل إلى السائمة، قالوا: يستأنف الزكاة، بمعنى: يحسب حولاً جديداً من رمضان لهذا المال الجديد.
والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


ابوالوليد المسلم 04-08-2022 05:19 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (189)

صـــــ(1) إلى صــ(13)





شرح زاد المستقنع - باب زكاة الفطر
فُرضت زكاة الفطر على المسلمين طهرة للصائم من اللغو والرفث، فهي مكملة للصيام، وطعمة للفقراء والمساكين وإغناء لهم عن السؤال في يوم العيد.
وهي مفروضة على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، فمن كان عنده فضل عن قوته وقوت عياله فيجب عليه أن يخرج عن نفسه وعمن تلزمه نفقته صاعاً من طعام.
زكاة الفطر واشتقاقها ومشروعيتها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة الفطر].
تقدّم تعريف الزكاة، والفطر المراد به: الفطر من الصوم، وللعلماء رحمة الله عليهم في تسمية زكاة الفطر وجهان: الوجه الأول: أن الفطر هنا ضد الصوم، والمراد به الفطر من الصوم، أي: إكمال عدة رمضان، ودخول شهر شوال.
الوجه الثاني: أن المراد بالفطر من الفَطْر وهو الخلق، ومنه قوله تعالى: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم:30] أي: خلقهم وجبلهم عليها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( كل مولود يولد على الفطرة ) ، وقوله سبحانه وتعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [فاطر:1]، قال ابن عباس : (ما كنت أعلم معنى هذه الآية - { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ } [فاطر:1]- حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئرٍ، فقال أحدهما: هي بئري وأنا فطرتها، فعلمت أن معنى فطر: خلق وأوجد)، ففي المخلوق أوجد وفي الخالق خلق.
فقولهم: زكاة الفطر، أي من الخلقة، وبناءً على ذلك يعتبرونها من زكاة البدن.
والأقوى: أن المراد بالفطر: الفطر من رمضان؛ لرواية ابن عمر في الصحيح: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ) ، فأضاف الفطر إلى رمضان فصار مختصاً به، وخرج معنى الفَطْر وهو الخلق.
هذه الزكاة شرعها الله عز وجل، فمن العلماء من يقول: هي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، ومنهم من يقول: هي مشروعة بالسنة والإجماع.
فأما الذين يقولون: إنها مشروعة بالكتاب، فيحتجون بقوله سبحانه وتعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى:14-15] ، قالوا: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [الأعلى:14] أي: أدى زكاة الفطر، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بالتكبير ليلة العيد؛ لأنه يشرع ذلك، (فَصَلَّى) أي: صلى صلاة عيد الفطر، فجعل الثلاثة الأمور مرتبة بعضها إثر بعض.
وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالسنة، وفيها حديثان: أولهما: حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان )، وثانيهما: حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين أيضاً، قال: ( كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، وكذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره أنه قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر ).
فهذه الأحاديث دلّت على مشروعية صدقة الفطر، ولذلك أجمع العلماء على مشروعيتها، والخلاف بينهم هل هي واجبة، أم مستحبة؟ فمنهم من يقول إنها مستحبة وليست بواجبة.
ومنهم من يقول: إنها واجبة.
فالذين يقولون بالوجوب هم جمهور العلماء رحمة الله عليهم من السلف والخلف، وذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك وشهّره بعض أصحابه من المتأخرين - إلى أنها ليست بواجبة.
والصحيح: أنها واجبة؛ لقول عبد الله بن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر )، والقاعدة: أن هذا اللفظ (فرض) يدل على الوجوب واللزوم؛ لأن الفريضة تعتبر لازمة لا خيار للمكلف في إسقاطها، فلا تعتبر في مقام المندوبات والمستحبات، وإنما هي في مقام الواجبات، ولذلك قال تعالى: { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } [النساء:11] ، فالفرض يطلق بمعنى الواجب، ولا يطلق على المندوب والمستحب، فكان تعبير هذا الصحابي بقوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) دالاً على الوجوب.
لكن الظاهرية رحمة الله عليهم ينازعون في مثل هذا الحديث؛ ويقولون: يحتمل أن الصحابي فهم ما ليس بفرضٍ فرضاً، فلا يرونه دليلاً على الفرضية.
وجمهور الأصوليين ومنهم الأئمة الأربعة على أن الصحابي إذا قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة أعرف بالخطاب وأعرف بلسان العرب ومدلولاته، وهم قد شهدوا مشاهد التنزيل، فهم أعرف بأساليب الكتاب والسنة، مع ما لهم من العلم والدراية بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الأمر الذي يجعل ما ذكره الظاهرية -من احتمال فهم الصحابي ما ليس بفرض فرضاً- ضعيفاً، والقاعدة: (أن الاحتمالات الضعيفة لا ترد على النصوص، ولا تبطل أدلتها).
وعلى هذا فالصحيح أن قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعتبر دالاً على الوجوب، وأن زكاة الفطر فريضة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: (وأمر أن تُخرج قبل الصلاة) ، كما في الصحيح، فقوله: (وأمر أن تخرج قبل الصلاة) يدل كذلك على وجوبها، وبناءً على ذلك تأكد القول بوجوب زكاة الفطر .
على مَنْ تجب زكاة الفطر
قال المصنف رحمه الله: [تجب على كل مسلم، فضُل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته، وقوت عياله وحوائجه الأصلية].
قوله رحمه الله: [تجب على كل مسلم] (تجب) أي: زكاة الفطر (على كل) (كل) من ألفاظ العموم، والعموم هذا يشمل صغار المسلمين وكبارهم وذكورهم وإناثهم، فالرجل يُخرج عن أهل بيته سواءً كانوا بالغين أو غير بالغين، كانوا ذكوراً أو إناثاً، أحراراً أو عبيداً، فيجب عليه أن يُخرج عنهم صدقة الفطر لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين ) وقوله: (من المسلمين) حتى يخرج الكافر، فالكافر لا تجب عليه صدقة الفطر؛ لأنها شرعت للتطهير، والكافر لا يطهر، ويشمل هذا العموم في قوله: (كل) العاقل والمجنون، فلو كان في الأبناء أو البنات من هو مجنون وجبت عليه الزكاة وأُخرجت عنه، وفي الجنين وجهان: وقد أثر عن عثمان رضي الله عنه و سليمان بن يسار رحمه الله أنهم كانوا يخرجون عن الجنين، واستحب بعض السلف وبعض الأئمة كما نقل ابن الملقن وغيره في شرح العمدة: أنه يُخرج عن الجنين إذا تمت له أربعة أشهر؛ لأنه في حكم الحي حينئذ، ومنهم من اعتبر الأربعين يوماً، والأقوى الأول لما فيه من استتمام المدة لنفخ الروح لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيح.
وكذلك أن يكون المكلف الذي نخاطبه بزكاة الفطر، مالكاً قادراً على إخراجها، فلذلك اشترط المصنف رحمه الله أن يكون عنده فضل عن القوت، والفضل: هو الزائد، ومنه فضلة الطهور: أي الزائد بعد وضوئك وطهرك، وفي الحديث: ( أنه شرب فضلة وضوئه ) أي: ما زاد، ومنه فضلة الطعام.
وقوله: (فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله) فالرجل إذا كان وحيداً مسئولاً عن نفسه، نقول: لا تجب عليك زكاة الفطر إلا إذا ملكت ما تُخرج به زكاة الفطر زائداً عن قوتك، ولذلك يبدأ الإنسان بنفسه، فإذا كان المال الذي عنده لا يكفيه إلا لقوته، فليس من المعقول أن يطلب منه أنه يغني الفقير حتى يصير هو إلى الفقر، ولذلك يُبدأ به فيكف نفسه ويقوم بحوائج نفسه الأصلية، فإذا فضل بعد الحاجة شيء، حينئذٍ يُنظر في الزكاة ويُخاطب بها، وهكذا الحال إذا كان عنده أهل وعنده أسرة، فننظر في قوته وقوت زوجه وأولاده ومن تلزمه نفقته كالعبيد، فإذا كان هذا الرجل عنده -مثلاً- مائة ريال يحتاجها ليلة العيد لنفقته الأصلية، فحينئذٍ لا نطالبه بزكاة الفطر؛ لأنه لم يملك ما زاد عن قوته، بحيث يكلّف ويخاطب بالوجوب، أما لو كان يكفيه منها خمسون لحاجته الأصلية وقوته، فحينئذٍ نقول: أنت مخاطب بزكاة الفطر، فالشرط: أن يكون عنده فضلٌ عن القوت.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يمنعها الدين إلا بطلبه].
(ولا يمنعها الدين) قالوا: لأنها ليست متعلِّقة بالمال، وإنما هي متعلقة بالبدن، وبناءً على ذلك: إذا كان الإنسان مديوناً فإنه يجب عليه أن يُخرج زكاة الفطر إذا كان عنده فضلٌ عن قوته يمكنه أن يخرج به هذه الزكاة.
(ولا يمنعها الدين، إلا إذا طولب به) هذا استثناء، أي: في حالة واحدة يكون الدين مانعاً، وهي: إذا طالب صاحب الدين بدينه، فحينئذٍ تعارض حقان: حق الله وحق المخلوق، وحقوق الله مبنية على المسامحة بإجماع العلماء، وحقوق المخلوقين مبنية على المشاحة والمقاصة، وبناءً على ذلك قالوا: يبتدئ بسداد دينه وتسقط عنه الزكاة.
إخراج زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته
قال المصنف رحمه الله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلمٍ يمونه ولو شهر رمضان].
فقوله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه] (عن نفسه)؛ لأنه مخاطبٌ بها أصالة، (وعن مسلمٍ يمونه) أي: يقوم على نفقته، وسيأتي إن شاء الله في باب النفقات بيان الضوابط التي يُحكم بها على الإنسان بوجوب النفقة على القريب، ونحو ذلك، والأصل في إيجاب زكاة الفطر على الإنسان فيمن تلزمه نفقته ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر ) ، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (عبده) قال جمهور العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على السيد أن يُخرج الزكاة عن العبد، ولا نعرف في العبد شيئاً من جهة الإيجاب إلا كون السيد قائماً على نفقته، فلما كان قائماً على نفقته كان هذا معنىً مناسباً لشرعية الحكم بوجوب صدقة الفطر، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: تجب صدقة الفطر عن الإنسان إذا قام بنفقة غيره، فلا يُطالب ذلك الغير بزكاته وإنما يطالب من تلزمه نفقته، وعلى هذا يؤديها عن عبيده، ويؤديها عن زوجته بالتفصيل المعروف في الزوجة، وذلك إذا دخل بها أو مُكِّن من الدخول فلم يدخل، فحينئذٍ تلزمه النفقة؛ لأن النفقة تجب للزوجة بالدخول، لقوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء:24] ، فأمر بالإنفاق على الزوجات بعد الدخول والاستمتاع، وعلى هذا فالدخول على صفتين: إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون حكمياً، فإن كان حقيقياً فلا إشكال، وإن كان حكمياً كأن يقول أولياء المرأة: خذ زوجتك، أو يمكنوه من الدخول بها، ولكنه امتنع من ذلك، فحينئذٍ تنزَّل الزوجة منزلة المدخول بها في النفقات، وتلزمه حينئذٍ نفقتها، وعلى هذا: فلو خرجت عن هذا الوجوب بعلة -كما سيأتي إن شاء الله في النشوز- فحينئذٍ يجب عليها أن تخرج صدقة الفطر عن نفسها، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، فقال: بعدم وجوب زكاة الفطر على الزوج لزوجته، وقال: الزوجة تطالب بإخراج صدقة الفطر عن نفسها.
قال المصنف رحمه الله: [وعن مسلم يمونه ولو شهر رمضان].
(وعن مسلم) فخرج الكافر، (يمونه) أي: يقوم على نفقته ومئونته، (ولو شهر رمضان) فيدخل في هذا العامل، فلو أن عاملاً عند إنسان، فقال له: ألتزم بنفقتك، وحدد الطعام الذي يعطيه إياه مع الأجرة، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تصح هذه الأجرة، ومن أهل العلم من قال: لا يجوز أن يقول للعامل أستعملك شهراً وطعامك عليَّ؛ لأن الأصل في الإجارة أن تكون الأجرة معلومة، فإذا قال له: وطعامك عليَّ.
ولم يحدد ضوابط الطعام وقدره ونوعيته وقيمته، فحينئذٍ صارت الأجرة مجهولة؛ لأنه وإن أخذ -مثلاً- ألف ريال في الشهر؛ لكن هذا الطعام لا ندري كم يبلغ، فقد يظن العامل أنه من جيد الطعام فإذا به يعطيه من رديئه، أو من المتوسط، وبناءً على ذلك قالوا: قدر الطعام مجهول، فدخلت الجهالة في الأجرة؛ لأن الجهالة في الأجرة على ضربين: إما أن تكون في أصل الأجرة، كأن يقول له: ابن هذا الحائط وأُرضِيك، أو نتفق بعد ذلك، أو لا يكون إلا خيراً، فهذه جهالة متمحِّضة، لا يُدرى ما هو المال المدفوع، ولا تُدرى الأجرة ما هي؟ فهذه جهالة توجب فساد الإجارة بالإجماع.
النوع الثاني من الجهالة: أن تدخل على المعلوم، ومن أمثلتها: أن يقول له: اعمل في هذا المحل شهراً ولك ألف ريال وربع الخارج أو نصفه أو (5%) من الخارج، فحينئذٍ تكون (الألف) معلومة؛ لكن دخلت الجهالة بالنسبة المضافة إليها، وهذا ما يقال في الطعام، فإذا قال للأجير: اعمل عندي وطعامك عليَّ، فحينئذٍ إذا قال: طعامك عليَّ، وحدّد الطعام على وجه ترتفع به الجهالة فلا إشكال، فالأجرة صارت معلومة، فعلى هذا الوجه لو كان طعامه عليه بحدٍ معين واشتغل عنده في شهر رمضان، فحينئذٍ تتفرع على الأصل المستنبط من حديث أبي هريرة من وجوب الزكاة عليه عند من ذكرنا من العلماء رحمة الله عليهم.
الترتيب في إخراج الزكاة عند العجز عن إخراجها عن الجميع

قال المصنف رحمه الله: [فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه].
أي: فإن عجز هذا الرجل الذي خوطب بالزكاة، وعنده جماعة تلزمه مئونتهم ونفقتهم.
(إن عجز عن البعض) بمعنى: عنده زوجة وعنده أربعة أولاد ذكور وإناث، فحينئذٍ إذا جئنا ننظر إلى الزكاة وإذا بها تبلغ مائة ريال، والذي عنده خمسون ريالاً، فقد عجز عن البعض، وهذه هي صورة المسألة، فإذا عجز عن البعض، فكيف يرتب؟ وهذا من دقة المصنف رحمه الله، فبعد أن ذكر لك الأصل ذكر لك ما يطرأ على الأصل من وجود البعض دون الكل.
قال المصنف رحمه الله: [بدأ بنفسه فامرأته فرقيقه].
أي: يجب عليه أن يُخرج على هذا الترتيب، فيبدأ بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ابدأ بنفسك ) ، فيبدأ أول ما يبدأ بنفسه، ثم بعد ذلك بزوجته؛ لأن نفقتها متأصلة وليست بعارضة، بخلاف الأجير، أو المملوك، فإذا فضل بعد ذلك ينتقل إلى الرقيق.
قال المصنف رحمه الله: [فأمه فأبيه].
وهما الوالدان.
لكن هل يقدّم الأب، أم يقدّم الأم؟ الصحيح: أن الأم تقدّم، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سأله رجل فقال: ( يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك ) ، قال العلماء رحمة الله عليهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم الأم على الأب، وجعل لها ثلاثة حقوق من أربعة، وجعل للأب ربعها، وذلك لعظيم ما للأم من فضل وإحسان وبر للولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فعليه أن يبدأ بأمه قبل أبيه، وهذه مسألة مطردة، من أمثلتها: لو مات الوالدان ولم يحجا، فهل يبدأ بالحج عن أمه، أم عن أبيه؟ يبدأ بالحج عن أمه، ويقدمها على أبيه، وقس على هذا، ومنها: مسألة التعارض، فأمرته أمه وأمره أبوه، فأيهما يطيع؟ هذا يحتاج إلى تفصيل؛ لكن لو تساويا في المرتبة فالأم مقدمة على الأب، على تفصيل يذكره العلماء رحمة الله عليهم في باب البر.
قال المصنف رحمه الله: [فولده، فأقرب في ميراث].
(فولده) أي: بعد ذلك يقدم الولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فيخرج عن أولاده إذا فضل شيء بعد الوالدين.
قال المصنف رحمه الله: [فأقرب في ميراث].
أي: بعد ذلك ينظر إلى الأقرب في الميراث، فابن العم إذا كان مشلولاً عاجزاً عن الكسب، ولزمتك نفقته، وهناك ابن عم ثان؛ لكن الأول ابن عم شقيق والثاني ابن عم لأب، فإن ابن العم الشقيق يُقدم على ابن العم لأب، وقس على هذا، فإن الإخوة الأشقاء يقدمون على الأعمام، فإذا كان هناك أخٌ شقيق عاجز عن الكسب وتلزمك نفقته وهناك عم شقيق، فتقدِّم الأخ الشقيق على العم الشقيق؛ لأن جهة الأخوة أقوى من جهة العمومة؛ ولأنه شاركك في أحد أصليك أو فيهما معاً، ولكن العم شارك أباك ولم يشاركك، ولا شك أن الأخ أقرب من هذا الوجه، ولذلك يقدم على العم، وغيره من مسائل الترتيب المعروفة، والتي تقدمت الإشارة إليها في باب الجنائز.
قال المصنف رحمه الله: [والعبد بين شركاء عليهم صاع].
فلو كان هناك رجلان يملكان عبداً واحداً نصفه لزيدٍ ونصفه لعمرٍ، فحينئذٍ على هذا نصف صاع وعلى هذا نصف صاع.
إخراج الزكاة عن الجنين وعن المرأة الناشز
قال المصنف رحمه الله: [ويستحب عن الجنين].
لأنه فعل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد، وفعله بعض السلف أيضاً، وكان يفتي به سليمان بن يسار رحمة الله عليه، وقالوا: إنه يستحب إخراجه عن الجنين على التفصيل الذي ذكرناه، وذلك إذا استتمت له المدة أما إذا كان ناقصاً عنها فلا يستحب.
قال المصنف رحمه الله: [ولا تجب لناشز].
أي: ولا تجب صدقة الفطر عن ناشز وهي المرأة التي نشزت، والنشز: هو المرتفع من الأرض، كالهضبة ونحوها، والكدية ونحوها من الأشياء التي ليست على منبسط الأرض، ووصفت المرأة بكونها ناشزاً كأنها تعالت عن زوجها؛ لأن الله جل وعلا خصّ الرجال بفضائل وخصّ النساء بفضائل، فجعل للرجل فضل القيومية على المرأة، وذلك لما جعل فيه من الخصائص المعينة في ذلك، وجعل للمرأة ما جعل من اللين والرفق والدعة والسكون لكي يجبر الله نقص هذا بكمال هذا، ويكون في ذلك الخير للأولاد، بوجود الشدة إذا احتاج إلى شدة ووجود اللين والرفق إذا احتاج إلى اللين والرفق والحنان، فإذا كانت المرأة خرجت عن هذه الفطرة توصف بكونها ناشزاً، أي: تتعالى على زوجها، فإن أمرها لا تأتمر، وإن نهاها لا تنتهي، وإذا دعاها إلى فراشه امتنعت، والنشوز أبلغ ما يكون في الامتناع عن الاستمتاع، وهو الذي وردت فيه اللعنة -والعياذ بالله- فإذا نشزت عن زوجها أو ذهبت إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها، وبدون إضرار من الزوج أيضاً، ففي هذه الحالة تسقط نفقتها، وحينئذٍ لا يُطالب الزوج بإخراج زكاة الفطر عنها، وإنما يطالب إذا كانت في طاعته وقائمة بحقوقه وتلزمه نفقتها.
إخراج الزكاة بدون الإذن ممن أمر بالإنفاق عليه
[ومن لزمت غيره فطرته، فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت].
هذه المسألة صورتها: أن يكون الإنسان مطالباً بالزكاة عن شخص، ثم يُخرج هذا الشخص عن نفسه بدون إذن من أُمر بالإنفاق عليه، كأن تُخرج الزوجة بدون علم أو استئذان من الزوج، أو يخرج الولد إذا كان في نفقة أبيه بدون علم أبيه وبدون استئذانه -أما إذا استأذن فلا إشكال، فلو قالت الزوجة لزوجها: سأخرج صدقة الفطر، فلا إشكال- فللعلماء رحمة الله عليهم وجهان: بعض العلماء يقول: صدقة الفطر متوجه الخطاب فيها إلى هذه المرأة -التي هي الزوجة- ولكن أُسقطت عنها فوجِّه الخطاب إلى الزوج لوجوب النفقة عليه، فإن أخرجت الزوجة أجزأها لأنه الأصل، وعلى هذا درج المصنف.
ومنهم من يقول: الزكاة عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وحينئذٍ لا يجزيها أن تُخرِج حتى تستأذن المطالب بها وهو الزوج، وهذا أقوى إعمالاً للأصول، ولذلك لو أن امرأة تملك حلياً، ثم أراد الزوج أن يُخرج زكاة حليها بدون علمها، فهذا بالإجماع لا يجزئ؛ لأن الزكاة لابد فيها من النية، وهي لم تنو الإخراج، ولم توكله بذلك، فصارت صدقة محضة، وكذلك هنا، فإنه إذا أخرجها بدون إذن المخاطب بها أصلاً، صارت من محض الصدقات، والورع أنه لابد من الاستئذان، ولا تصح إلا بنية على الوجه الذي ذكرناه.
وقت وجوب زكاة الفطر
[وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر].
لقوله: (صدقة الفطر من رمضان) فأسند الصدقة إلى الفطر من رمضان، واختلف العلماء في وقت وجوبها: فقال بعضهم: تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لأنه إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإن الليل محسوب لشهر الفطر، وهو شهر شوال.
ومنهم من قال: تجب بطلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الفطر لا يتحقق إلا بطلوع الفجر، وبناءً على ذلك يبتدئ فطره بطلوع الفجر.
ومنهم من يقول: بطلوع الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر عند غدُوِّه إلى المصلى، وكان غُدُوُّه بحيث تكون الشمس قد ارتفعت على قدر رمحين، فكان يصلي بالناس صلاة العيد في ذلك الوقت، ومعنى ذلك: أن خروجه سيكون -كما هو معلوم لمن قدّر المسافة بين مصلاه عليه الصلاة والسلام وحجراته- بعد طلوع الشمس.
وفائدة هذا الخلاف: أنه لو أسلم الكافر قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان فحينئذٍ تجب عليه صدقة الفطر، لماذا؟ لأنه يكون في حكم من أدرك رمضان، ويلزمه كذلك قضاء آخر يوم من رمضان إذا أسلم قبل غروب شمسه، وإذا قلنا: إن العبرة بطلوع الفجر، فحينئذٍ تتأقت بطلوع الفجر، فعلى هذا لو أسلم الكافر بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر فلا تجب عليه الزكاة، وكذلك لو اشترى عبداً في هذا الوقت لا تجب عليه الزكاة أيضاً؛ لأنه دخل في ملكه ولم يوجد بعدُ سبب الوجوب أو سبب مخاطبته بالزكاة، وإنما تجب على سيده الأول، وقس على هذا بقية المسائل، فهذه فائدة الخلاف، هل تجب الزكاة بغروب شمس آخر يوم من رمضان، أم تجب بطلوع فجر يوم العيد، أم بطلوع الشمس فيه؟ والأقوى أنها تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لظاهر حديث ابن عمر : ( صدقة الفطر من رمضان ) ، فأسندها إلى الفطر، لقوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [البقرة:185] ، فإن إكمال العدة إنما يكون بمغيب شمس آخر يوم من رمضان، وعلى هذا فالعبرة بمغيب شمس آخر يوم من رمضان.
قال المصنف رحمه الله: [فمن أسلم بعده أو ملك عبداً أو تزوج أو وُلد له لم تلزمه فطرته].
لما ذكرناه في فائدة الخلاف في وقت الوجوب.
قال: [وقبله تلزم].
لأنه وجد السبب الموجب للوجوب.
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط].
هذا ثابت في الصحيح أنهم كانوا يخرجون صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين، ولا تجوز قبله بثلاثة أيام، وقال الإمام أبو حنيفة : يجوز إخراجها من أول رمضان؛ لأنه يرى أنها متعلقة بالشهر، وإذا وُجد السبب من أوله جاز الإخراج، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الأصل إخراجها ليلة العيد، ولأن مقصود الشرع إغناء الفقراء ليلة العيد ويومه، وبناءً على ذلك يكون إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين رخصة، والأصل إخراجها في ليلة العيد ويومه قبل الصلاة.
قال المصنف رحمه الله: [ ويوم العيد قبل الصلاة أفضل ].
لأنه يحقق مقصود الشرع من إغناء السائلين، وإعفافهم عن المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [وتكره في باقيه].
أي: وتكره في باقي اليوم، يعني بعد الصلاة، والكراهة هنا إما أن تكون تنزيهية أو تحريمية، والأقوى أنها تحريمية، فإذا أخرجها بعد الصلاة فإنها تعتبر صدقة من الصدقات ويأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ).
ولقول ابن عمر في الحديث: ( وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة )، فدل على أنه يجب على المكلف أن يخرجها قبل الصلاة، وأن إخراجها بعد الصلاة يوجب الإثم للمخرج.
قال المصنف رحمه الله: [ويقضيها بعد يومه آثماً].
القدر الواجب في زكاة الفطر
يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ ويجب صاع من بر أو شعير ].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان القدر الواجب من زكاة الفطر، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط ) وهذا يدل على القدر الواجب في زكاة الفطر، وهو الصاع، والصاع النبوي أربعة أمداد، والمد: هو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو الصاع الذي عنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: ( وكان يغتسل بالصاع )، وأما المد فإنه ربعه، فيقال: مدٌ ويقال: ربع صاع، كل ذلك بمعنى واحد، فيخرج صاعاً -أربعة أمداد- من بر أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط، وإذا كان هناك طعام تعارف الناس عليه كالأرز في زماننا، فإنه يخرجه ويجزيه؛ لأن مقصود الشرع إغناء السائلين بالطعام في هذا اليوم، ولا شك أن الأرز يقوم مقام المطعومات الموجودة على عهده صلى الله عليه وسلم، وهو يحقق مقصود الشرع من إغناء السائل في يوم العيد، ولذلك يخرج الإنسان منه ولا حرج عليه في ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [أو دقيقهما أو سويقهما].
إذا طُحن الشعير والبر فأخرج من دقيقهما أو سويقهما الذي طُحن ثم لُتَّ واستوى على النار ونضج، ثم بعد ذلك صار سويقاً، فيجوز أن يخرج منه صاعاً، سواءً هذا أو ذاك، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الصاع من الطعام نفسه.
قال المصنف رحمه الله: [أو تمرٍ أو زبيب أو أقط، فإن عدم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يُقتات].
فبيّن رحمه الله بهذا أن الحكم لا يختص بالإخراج من هذه الخمسة فقط، ولكن العبرة بالطعام، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد : ( كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام ) ، قالوا: وهذا يدل على العموم، وإن كان بعضهم يرى أن ما بعده مفسر له، والبعض يحمله على البر، وعلى العموم قال العلماء: العبرة بكونه يرتفق به مطعوماً، فإذا حصل ذلك فقد أجزأ.
قال المصنف رحمه الله: [لا معيب ولا خُبز].
أي: لا يجوز أن يخرج المعيب من الحبوب، فلو أخرج شعيراً فيه السوس، أو تغيّر أو تعفّن فلا يجوز له أن يخرجه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد نهى الله عز وجل المسلم أن يقصد إلى الخبيث، والمراد بالخبيث من الطعام الرديء منه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } [البقرة:267] ، فدلّ على أنه لا يجوز إخراج الرديء من الطعام، ويستوي في ذلك صدقة الفطر وغيرها من الصدقات الواجبة، فيخرجه من أوسط الطعام، لا يُطالب بالجيد الأعلى ولا يطالب بالرديء الأدنى، ولكن يخرج من المتوسط، والدليل على ذلك: أن الله نهى عن الرديء، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كرائم الأموال، فقال: ( وإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم )، فيخرج من المتوسط، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، فلا يجزئ أن يخرج صاعاً معيباً، كأن يكون تمراً فيه سوس، أو طالت مدته حتى تغيَّر.
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه].
فلو أنه أخذ الصاع فقسمه بين أربعة مساكين لكل مسكين ربع صاع أجزأه، وهكذا لو قسمه بين مسكينين فأعطى كل مسكين نصف صاع أجزأه، فيجوز أن يُخرج ما للواحد للجماعة، ويجوز أن يخرج ما للجماعة للواحد، فلو أنه هو وأهل بيته يجب عليه إخراج خمسة آصع، فوجد مسكيناً فأعطاه الخمسة الآصع أجزأه ذلك، ولكن بشرط ألا يتوسع في حق المسكين على حساب غيره.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الأسئلة
وجوب زكاة الفطر على من أفطر في رمضان

السؤال
هل تجب زكاة الفطر على من أفطر شهر رمضان كاملاً لعذرٍ شرعي كالحامل والمرضع وغيرهما؟ وهل إذا قضى صيام شهر رمضان تجب عليه الزكاة بعد ذلك، أي: هل زكاة الفطر تتعلق بالصائم دون المفطر، أثابكم الله؟


الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن من أفطر في شهر رمضان فإنه يجب عليه أن يؤدي زكاة الفطر، سواءً كان معذوراً أو غير معذور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، والمراد بذلك الزمان، وعلى هذا فإنه يخرجها وتجب عليه، ونصّ على هذا أهل العلم رحمة الله عليهم.
والقول بأنها تسقط عنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث ) ضعيف، والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمة للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان.
ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه)، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه)، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وبناءً على ذلك يجب عليه أن يؤدي الزكاة، سواءً كان مفطراً أو كان صائماً.
وأما ما ذكرته من كونه يؤخرها إلى القضاء، فهذا لم يقل به أحدٌ من العلماء.
والله تعالى أعلم.

إخراج القيمة في زكاة الفطر

السؤال
هل يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، لا سيما وأنها أحياناً قد تكون أحب للفقير، أثابكم الله؟


الجواب
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز أن يُخرج القيمة بدل الطعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من الطعام؛ ولأن النقد كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بإخراج النقد بدل الطعام؛ ولأن الطعام يأخذه المحتاج ولا يأخذه غير المحتاج، وأما النقد فيأخذه المحتاج وغير المحتاج؛ ولأن المقصود أن يغنيهم بالطعام، بخلاف ما إذا أعطاهم المال فبذَّروه في غير ما مصلحة، فلا شك أن أخراج الطعام أولى للأثر وللنظر، وقد كان الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُخرجون صدقة الفطر ويأمرون بها، وما حُفظ عن واحد منهم أنه اجتهد فأمر الناس بإخراج القيمة، وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز إخراج القيمة.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى جواز إخراج القيمة، واحتج بدليلين: أولهما: حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن قال لأهل اليمن: ( ائتوني بخميصٍ أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) قالوا: فطلب البدل في الزكاة، فدل على جواز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام، كما طلب الثياب بدلاً عن الورِق، إذاً: يجوز أن يأخذ الورق أو الذهب بدل الطعام، وهذا الدليل أُجيب عنه بأنه في الجزية، وقوله (ائتوني بخميص أو لبيس) إنما هو في الجزية وليس في الزكاة، وبناءً على ذلك لا يعتبر دليلاً على جواز إخراج البدل في الزكاة.
وأما الدليل الثاني فحديث ابن عباس : ( اغنوهم عن السؤال ليلة العيد ويومه ) ، وهذا حديث تكلّم العلماء في سنده، وقوله: (اغنوهم) لا يدل على التأقيت والتحديد بالنقد؛ لأنه لو أُخذ قوله: (اغنوهم) على ظاهره من النقد لعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا قال: (اغنوهم) وأمر بإخراج الطعام دل على أن المراد بذلك الاستغناء والكفاية عن السؤال بوجود الطعام؛ لأنه إذا وجد الطعام اندفعت الضرورة، وهذا هو الصحيح.
وعليه فلم يقم دليل قوي على إخراج النقد، وقد يقولون: إن النقد أرفق؛ لأن المسكين يأخذ الزكاة ويبيعها، فبدل أن يبيعها بقيمة قليلة فلنعطه القيمة الأصلية، فهذا أفضل.
ولا شك أن هذا مردود عليه؛ لأن الثواب بالطعام أبلغ وأعظم أجراً من الثواب بالمال؛ لأن الطعام إذا أكله تحققت من حصول النفع له، وإذا باعه كان التفريط داخلاً منه، ولذلك قالوا: إنه يرتفق بالطعام أكثر من ارتفاقه بالنقد، وهذا صحيح؛ لأنه قد يأخذ النقد ويكون سفيهاً لا يحسن التصرف فيه.
وبناءً عليه فإنه لا يجوز إخراج النقد بدل الطعام في صدقة الفطر.
والله تعالى أعلم.


ابوالوليد المسلم 04-08-2022 05:33 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (190)

صـــــ(1) إلى صــ(23)





شرح زاد المستقنع - باب إخراج الزكاة
الزكاة شأنها عظيم، ولذلك يجب على الإنسان أن يبادر بأدائها على الفور وألا يتأخر في ذلك، إلا إذا وجد الضرر، فيجوز له أن يتأخر إلى زواله.
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولذلك فإن من منعها جاحداً لوجوبها وهو عارف به فقد ارتد عن دين الإسلام، ويجب أخذها منه وقتله، وأما منع الزكاة بخلاً بها فهو من كبائر الذنوب، وكفران لنعمة الله عز وجل، وهو مؤذن بزوال الأموال ومحق بركتها، ويجب على الوالي أخذها منه وتعزيره.
وجوب إخراج الزكاة في وقتها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب إخراج الزكاة].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بصفة إخراج الزكاة الواجبة، وذلك أن إخراج الزكاة، فيه بعض المسائل التي تتعلق بالمُخرج، وكذلك بالنسبة لمن يُعطى الزكاة، فناسب أن يُفردها رحمه الله بهذا الباب.
[ويجب على الفور].
أي: ويجب إخراج الزكاة على الفور، والفور: ضد التراخي، ومعنى هذه العبارة: أن المسلم إذا أوجب الله عليه زكاة ماله؛ فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة في وقتها، كما قال تعالى: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141]، فلذلك يجب عليه أن يبادر، وأن يمتثل أمر الله عز وجل، فيُخرج الزكاة فوراً ولا يتأخر، قال العلماء: الأصل في الأمر أنه يقتضي الفور، إلا إذا دل الدليل على التراخي، فإنه إذا قال السيد لعبده: قم، فتأخر في القيام ساعة استحق أن يعاقبه، قالوا: فهذا يدل على أن صيغة (افعل) تقتضي الفورية، ولذلك نص الأصوليون على وجوب المبادرة بفعل الأوامر، وأنه لا يجوز التأخر إلا إذا أذن الشرع بالتأخير والتراخي.
فمثلاً: إذا زالت الشمس توجه الخطاب بصلاة الظهر، ووجب على المسلم أن يصلي أربع ركعات، ولكن الأمر فيه شيءٌ من التراخي؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما بين هذين وقت ) فجعله مخيراً، وهذا يدل على أنه يجوز له أن يتأخر، إلا إذا كانت هناك جماعة ونادى المنادي، فيجب عليه السعي إليها.
فالشاهد: أن الأوامر ينبغي أن يبادر المكلف بفعلها، والزكاة من جنس الواجبات والفروض التي أمر الله، فلا يجوز له أن يؤخرها؛ ولأنه إذا أخَّرها أضر بالفقراء والضعفاء والمساكين، ومن هنا تتفرع مسائل: منها: أن بعض الوكلاء يأخذون الزكاة بقصد إعطائها للفقراء والمساكين، فتمكث الزكاة عندهم بالأيام، بل بالأسابيع، بل بالشهور، وقد تتأخر إلى سنة كاملة، وهذا من الظلم وصاحبه آثم، والسبب في ذلك: أن من أخذ الزكاة يريد إنفاقها، فينبغي عليه أن يكون على بصيرة بالمستحقين، ويكون عنده ديوان أو كتاب يحدد فيه الأشخاص الذين يريد أن يصرف الزكاة إليهم، فإن كان الأشخاص المسجلون عنده يبلغون -مثلاً- خمسة أشخاص وتجزيهم الخمسة آلاف، فلا يجوز له أن يأخذ عشرة آلاف ويعطل ما تبقى منها حتى يبحث عن مستحق، بل يأخذ بقدر ما يعلم من الفقراء والضعفاء.
وهذه المسألة يخلط فيها الكثير، وتضيع بسببها حقوق، وقد يبقى الضعفاء والفقراء محرومون من أموال كثيرة مجمدة، وهذا لا يجوز، بل ينبغي على الإنسان إذا توكّل بالزكاة أن يأخذ بيد وأن يعطي بأخرى، مبادرة للامتثال بأمر الله عز وجل، ولا يجوز التأخير إلا في حدود ضيقة، وكان بعض العلماء والفضلاء من مشايخنا رحمة الله عليهم ممن أدركناهم لا يستطيع أن ينام أحدهم ليلته وعنده شيء من الزكاة، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في قصة الدينارين أنه تخطّى الرقاب بعد صلاة الفجر مهموماً مغموماً، وقال: ( ما ظني لو أني مت وعندي هذان الديناران؟! )، فهذا يدل على عظم أمر الزكاة، وكون الإنسان يأخذ العشرة آلاف والعشرين الألف ويجمدها في رصيده أو يضعها في بيته، والفقراء يكتوون بالجوع، والمديونون والمعسرون يُهانون ويُذلُّون بذل الدين وهوانه، فإن الله سيحاسبهم على ذلك كله، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، بل ينبغي أن يتشدد في هذا الأمر على نفسه، ولا يأخذ الزكاة إلا وقد علم بأهلها، وإن استطاع أن لا يبيت وعنده شيءٌ منها، فذلك هو الحسن والأكمل، أما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من كونه أعطى الصدقة لـ أبي هريرة ليحفظها فهذا أمر يرجع إلى قسمته عليه الصلاة والسلام للضعفاء الذين كانوا يأتونه من القرى، وهذه أحوال استثناها العلماء.
وكذلك بالنسبة لصاحب المال إذا أراد أن يُخرج زكاة ماله، فلو فرضنا أن زكاة ماله عشرة آلاف ريال، وهو يريد أن يُخرجها بنفسه، فعليه أن يتحرى قبل نهاية الحول، فيكتب الضعفاء والفقراء، حتى إذا انتهى الحول أوصل لكل ذي حق حقه، أما أن يبقيها مجمدة عنده، ويتحرى ويتأخر ويماطل، فهذا لا يبعد أن يكون كالذي قبله، ولذلك نبّه العلماء على أنه ينبغي على من توكّل بالزكاة أن يتقي الله في حقوق الضعفاء والفقراء، فإن الله جعل الزكاة حقاً، ولم يجعل لأحد فيها منّة على الضعيف والفقير، فقال سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [المعارج:24-25]، فجعله حقاً واجباً، حتى إن بعض العلماء يقول: لا ينبغي للغني إذا أعطى الفقير أن يرفع يده عليه، حتى لا يشعره بالذلة؛ لأن هذا حقٌ واجب، وليست بصدقة نفل.
فالزكاة أمرها عظيم، فينبغي أن يبادر الإنسان بأدائها على الفور، وأن يُنصح كل من يأخذ الزكاة، سواء كان يأخذها على سبيل الأفراد أو على سبيل الجماعة ألا يتأخر فيها، وأن يبادر بإخراجها لأهلها.
حكم من جحد وجوب الزكاة
قال رحمه الله: [فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم].
(فإن منعها) أي :الزكاة، (جاحداً لوجوبها) -نسأل الله السلامة والعافية- قيل له: أدِّ زكاة مالك، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: لا زكاة، أو طرد الذي بعثه الوالي لجلب الزكاة، وقال: لا أريد أن أخرجها، وليست هناك زكاة، فقال له: اتق الله، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: الزكاة غير مفروضة -نسأل الله السلامة والعافية-، فجحد أن الله أوجب على عباده زكاةً، فهذا يعتبر كافراً بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن الإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة يقتضي الكفر، فمن أنكر فرضية الصلاة أو فرضية الزكاة فإنه يعتبر كافراً بإجماع المسلمين، وهذا يسميه العلماء: إنكار المعلوم من الدين بالضرورة.
وخصّ المصنف التكفير بحالة ما إذا كان عالماً كأهل الردة، فإنهم لما ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه بعدما توفِّي النبي عليه الصلاة والسلام قالوا في سبب ردتهم حينما منعوا الزكاة: مات الذي أُمرنا بدفع الزكاة إليه، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الله يقول: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة:103]، وما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي علينا.
يستخفُّون بـ أبي بكر رضي الله عنه، يقولون: إن الزكاة إنما أوجبها الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول له: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [التوبة:103] فخصّ الخطاب به، وغفلوا أن هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر له أمرٌ لأمته بالتبع، فأنكروا فرضية الزكاة على هذا الوجه، ومن هنا كفروا، ولم يكفروا لمنع الزكاة؛ لأن مانع الزكاة لا يكفَّر إلا إذا جحد، وأهل الردة جحدوا، ومن هنا قال أبو بكر : (والله لو منعوني عناقاً -وفي رواية: عقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه)، فإذا منع وأنكر فقد كفر.
لكن اشترط العلماء في تكفير من جحد الزكاة، أن يكون عارفاً بوجوب الزكاة، عالماً به، فإذا كان جاهلاً أن الزكاة مفروضة، وقال: ليس هناك زكاة، وأنكر لجهله لم يكفَّر.
ومن أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فلو أن رجلاً أسلم وعنده تجارة، ثم حال عليها الحول، فجاء المصدِّق والمزكي، فقال له: أد الزكاة، فقال: أي زكاة.
ليست هناك زكاة، فأنكر الزكاة لجهله بالإسلام، وعدم علمه، فيعرَّف مثل هذا ويعلّم، ولا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة.
[وأخذت منه وقتل].
أي: وأُخذت من الذي منع وجحد وقُتل، فهناك حكمان يتعلقان بمن منع جحوداً -والعياذ بالله-: أولهما: أخذ الزكاة منه؛ لأن الزكاة متعلقة بالفقراء، وحقٌ للفقراء والمساكين، فكونه يرتد، لا يمنع أن نأخذ الحق الواجب في ماله، كما لو ارتد وعليه دين للمسلمين، فإننا نأخذ من ماله سداداً لدين المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فدين الله أحق أن يقضى ) ، فالزكاة حقٌ لله عز وجل في ماله، وهو دين واجب عليه أن يؤديه، وقد صرّح النبي صلى الله عليه وسلم بكون الحقوق ديناً على المكلف، فإذا امتنع من أدائها قوتِل وأُخذَت منه، وإذا جحدها قُتل وأخذت منه، أي: من ماله؛ لأنها دينٌ للفقراء والمساكين، فوجب أن يؤخذ هذا الدين ويعطى لأصحابه المستحقين.
الحكم الثاني: أنه يقتل، ويستتاب المرتد ثلاثاً -كما سيأتي إن شاء الله في أحكام المرتدين- فإن تاب وإلا قتل، وهل يشمل ذلك مانع الزكاة، أو لا يشمله؟ فيه كلام للعلماء رحمة الله عليهم، ووجّه بعض العلماء أنه يقتل مباشرة.
حكم من منع أداء الزكاة بخلاً
قال رحمه الله: [أو بخلاً أُخذت منه وعزر].
أي: (أو منعها بخلاً، فقال: الزكاة واجبة، فقيل له: أد الزكاة، قال: لا أؤديها، فهو مقرٌ بوجوبها، ولكنه بخل بها -نسأل الله السلامة والعافية- ، وهذا من أسوأ ما يكون من العبد أن يكفر نعمة الله عليه، وأن يجحد ويبخل بما آتاه الله من فضله، ولذلك آذن الله أموال البخلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله أن يمحق بركتها، وقد يسلبهم بها فيكويهم بنار سلبها في الدنيا: { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه:127]، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ).
فمنع الزكاة والبخل بها من كبائر الذنوب، ولذلك يؤذن الله أهل المنع بمحق البركة من أموالهم، ويعذبهم بها، فتزهق أنفسهم.
فما من إنسان يمتنع من أداء حق الزكاة إلا ضيق الله عليه كما ضيق على الفقراء، وتجده في ضيق ونكد من العيش، ولو كانت أموال الدنيا تصب في حجره؛ لأن الله أصابه بزهق النفس؛ بسبب بخله بما آتاه الله من فضله، وقد يعاقبه الله بعقوبة في دينه، فيفتنه أو يبتليه بنفاق، فيختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله-: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } [التوبة:77]، فهذا يدل على أن التمرد على الله وكفران نعمة الله عز وجل يؤذن بزوال الأموال، كما في قصة الأقرع والأبرص والأعمى؛ فإنه لما جحد الأقرع والأبرص وبخلا بفضل الله عز وجل عليهما وعندما: ( جاء الملك إلى الأعمى في صورته وقال له: ابن سبيل منقطع، فقال له: دونك الوادي، وفيه الغنم فخذ منه ما شئت، فقد كنت فقيراً فأغناني الله، والله لا أرزؤك من مالي اليوم شيئاً -وهذا حال أهل الوفاء- ، فقال: أمسك عليك مالك فقد هلك صاحباك ) ، فهذا يدل على أن من بخل -والعياذ بالله- فإن الله سبحانه وتعالى يؤذن ماله بالهلاك.
ومن البخل: البخل بنعم الله الأخرى، فلا يختص الحكم بالبخل بنعمة المال فقط، بل حتى البخل بنعمة العلم، في تعليم الجاهل إذا سأل وتوجيهه، فهذا أيضاً من أعظم البخل، وقد كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) ، قال: فكيف بمن حبس طعام الروح؟!! والمراد بذلك تعليم الناس وتوجيههم.
فالمقصود: أنه لا يجوز للإنسان أن يبخل بما آتاه الله من فضله، ومن ذلك البخل بالزكاة، نسأل الله السلامة والعافية! [أُخذت منه وعزِّر].
أخذت منه قهراً، أي: بالقوة والغصب، (وعزِّر)، للعلماء قولان: منهم من يقول: تؤخذ وشطر المال، عقوبة وعزمة من عزمات الله عز وجل.
ومنهم من يقول: تؤخذ الزكاة وحدها.
وجمهور العلماء يقولون: تؤخذ الزكاة وحدها؛ لأن الأصل في أموال المسلمين أنه لا يجوز أخذها إلا بحق، فهذا منع الزكاة وهي حق فنأخذ الحق وحده، ولم يروا ثبوت الحديث في التعزير بأخذ شطر المال.
وأما من قال: يؤخذ شطر المال فلقوله عليه الصلاة والسلام عمن منع الزكاة أي: الزكاة، لما منعها قال: ( إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ) ، قالوا: فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ الزكاة وشطر المال، وللعلماء في شطر المال قولان: منهم من يقول: شطر ماله كله، فلو كان عنده ذهب وفضة وإبل وغنم وبقر وعروض تجارة، فمنع إخراج الزكاة من عروض التجارة أو من الإبل، قالوا: نأخذ نصف ثروته كلها من عروض التجارة ومن غيرها، فلو كانت ثروته كلها عشرة ملايين فنأخذ نصفها وهو: خمسة ملايين، عزمة من عزمات الله عز وجل؛ لكفرانه لنعمة الله عز وجل عليه.
ومنهم من يقول: يؤخذ شطر المال الذي منع إخراج الزكاة منه، فإن كان عنده -كما ذكرنا- عروض تجارة، وإبل وبقر وغنم وذهب وفضة، ومنع إخراجها من الذهب أُخذ نصف الذهب الذي عنده، وإن منع من عروض التجارة أُخذ نصف عروض التجارة التي عنده.
والصحيح الأول: أنه يؤخذ من نصف المال كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا آخذوها وشطر ماله )، وهذا يدل على أنه شطر المال كله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الأخذ من المال الذي منع منه المانع، فدل على أنه يؤخذ نصف المال كله، وهذا هو الأقوى.
وبعض العلماء يقول: الأمر يرجع إلى الوالي، فإن رأى أن تعزير هذا لمنعه وجيه عزّره بشطر المال، وإن أراد أن يخفِّف عنه لمصلحة يراها فلا حرج عليه في ذلك.
زكاة مال الصبي والمجنون
قال رحمه الله: [وتجب في مال صبيٍ ومجنون].
أي: (وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون) الصبي: من الصبا، والصبا: هو الطور الذي يسبق البلوغ، والبلوغ يكون بوصول الإنسان، بلغ الشيء إذا وصله، وسمي البلوغ بلوغاً؛ لأن الإنسان يصل فيه إلى طور العقل.
فإذا كان الذي يملك المال صبياً، ومثال ذلك: لو مات رجلٌ وعنده ثروة، وخلّف ابنين، وقُسمت الثروة عليهما، ونصيب كل واحد منهما قد بلغ النصاب، وكان الصبيان دون البلوغ، فهما يتيمان، و

السؤال
هل نقول: إن اليتيم غير مكلّف، فكما أنه لا تجب عليه الصلاة لا يجب عليه أن يزكي، أم أننا نقول: إنه تجب عليه الزكاة في ماله؟ للعلماء قولان: الجمهور على وجوب الزكاة في أموال اليتامى، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تجب، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الزكاة حق متعلق بالمال، قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [التوبة:103]، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو المأمور باتباع سنته- أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة)، وهذا قد قاله بمسمعٍ ومرأى من فقهاء الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج من المدينة حتى إذا أرادوا أن يخرجوا للجهاد منعهم؛ خوفاً من نزول المسائل والنوازل، فإنه كان يستشيرهم، ومع ذلك قال هذه الكلمة ولم ينكر عليه أحد، فدلّ على أن الزكاة حق متعلق بالأموال، وليس متعلقاً بالمكلَّف نفسه، بمعنى: أنه يسقط على من كان غير مكلَّف كالصبي والمجنون.
وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي ومال المجنون؛ لأن الصبي إذا كان عليه دين للمخلوق وجب عليه أن يؤديه، فكذلك الزكاة هي دين وحق لله في أموال الناس، فيجب عليه أن يخرجه، ولا تتعلق الزكاة بالبلوغ.
من يتولى إخراجها
قال رحمه الله: [فيخرجها وليهما].
الصبي والمجنون كلٌ منهما كما هو معلوم لا يُحسن التصرف في أمواله، فالصبي لو مات أبوه وترك له عقاراً فأراد أن يبيعه لما أحسن بيعه، وربما يبيع الذي (بمائة) (بعشرة) فهو لا يُحسن الأخذ لنفسه، ولو أراد أن يشتري شيئاً يشتهيه، وقيل له: هذا الشيء الذي تشتهيه لا نعطيكه إلا (بمائة)، وقيمته (عشرة) لاشتراه (بالمائة)؛ لأنه ليس عنده عقل يمنعه، ولذلك قالوا: لا يؤمن على ماله، فحجر الله على اليتامى، وعلى السفهاء رحمة بهم؛ لأنهم لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ولا الإعطاء لغيرهم، وهذا النوع من الحجر يسميه العلماء: الحجر لمصلحة المحجور، وهناك نوع ثانٍ وهو: الحجر لمصلحة الغير كالمفلس.
فإذا حُجر على الصبي أو على اليتيم أو على المجنون، فمن الذي يُخرج الزكاة من أموالهم؟ يُخرجها الولي، والولي: شخصٌ يقيمه القاضي للنظر في مصلحة مال اليتيم والمجنون، فمثلاً: إذا توفي الأب نظر القاضي في ورثته وفي أقربائه، فإن وجد عم الصبي عاقلاً حكيماً رشيداً ديِّنا أميناً، وضع الأموال عنده، وهذا العم الذي يُنصَّب من القاضي ولياً عن اليتيم، هو الذي يبيع له ويشتري له، فلو رأى المصلحة أن يبيع بيوته باعها، ولو رأى المصلحة أن يشتري له عقاراً اشتراه، فيتصرف في ماله فيما فيه المصلحة، ولذلك قال عمر : (اتجروا في أموال اليتامى)، فجعل الأولياء مكلَّفين، وخوّل لهم أن يقوموا بالتجارة في أموال اليتامى طلباً لمصلحة الربح والنماء، فعلى هذا يُخاطب الولي بإخراج الزكاة، وكلما حان وقت وجوبها نظر إلى قدرها فأخرجه من المال وزكاه.
بعض أحكام إخراج الزكاة
قال رحمه الله: [ولا يجوز إخراجها إلا بنية].
أي: ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، ولما كان الباب معقوداً لأحكام الإخراج يرد

السؤال
هل يصح الإخراج بدون نية، أو لا بد من النية؟ و

الجواب
أنه لا بد من النية؛ لقوله تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [الزمر:2]، والزكاة عبادة، ولما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات ) ، والزكاة عمل، فدلّ على أن الزكاة لا تصح إلا بنية، وعلى ذلك اتفق العلماء رحمة الله عليهم، وبناءً عليه: فلو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة ألف ريال، فمرّ عليه مسكين وشكا له حاجته، فأعطاه الألف ريال شفقة عليه، ولم يتذكر أن عليه زكاة ألف ريال، وبعد أن ذهب المسكين تذكّر أن عليه زكاةً وهي ألف ريال، فنوى أن هذه الألف الماضية، قائمة مقام الزكاة فهذا لا يجزئ؛ لأن شرط النية أن تكون مصاحبة للعمل أو سابقة عنه باليسير الذي لا يضر، بمعنى: لا يوجد الفاصل الذي يضر، وبناءً على ذلك فلا بد من النية.
الأفضل للمزكي أداء الزكاة بنفسه
قال رحمه الله: [والأفضل أن يفرِّقها بنفسه].
أي: والأفضل والأكمل أن يفرق زكاته بنفسه؛ لما فيه من كمال الطاعة لله عز وجل، ولما فيه من المشقة والتعب الذي يأجره الله عليه، ولما فيه من الطمأنينة بوصول الحق إلى مستحقه، ولما فيه من خلو المسئولية بين يدي الله عز وجل، فإنك لو أعطيت زكاة مالك لرجل وقلت له: أخرج هذه الزكاة للفقراء.
وهذا الرجل ضيَّع هذه الزكاة، فأنت مسئول بين يدي الله عنه، حتى ولو كان أميناً، فإن الله يسألك عن أمانته، لم أعطيته؟ ولذلك لا يجوز أن يوكِّل الإنسان بالزكاة إلا إذا كان على غلبة ظن بأمانة من يؤدي إليه وحفظه وقيامه بأداء الزكاة على وجهها، فلو كان أميناً ولكنه متباطئاً كسولاً يتأخر في أداء الحقوق، فأدّى الزكاة إليه وهو يعلم أنه متكاسل، فتباطأ وتكاسل، فإنه يأثم كإثمه؛ لأنه أعانه على الظلم وتأخير الحق عن مستحقه.
إذاً الأفضل والأكمل خلواً من المسئولية وعظماً في الأجر أن يقوم بنفسه بأداء الزكاة، ولما فيه من تحصيل دعوة الفقراء والضعفاء، ولدعوات الفقراء والضعفاء لذة يعرفها من وجدها، فإنه لربما دعا له مسكين مستجاب الدعوة، أن يبارك الله له في ماله، ولما فيها من جمع القلوب، ولذلك يُحس الفقراء بعطف الأغنياء عليهم، ولكن إذا جاء وكيل الغني، وأعطاها إليه، لم يشعر بذلك العطف والحنان، ولكن أن يأتيه إلى داره، ويعطيه بنفس سمحة، ويُظهر له العطف والحنان، فذلك أبلغ في حصول الألفة والمحبة والترابط والتراحم بين المسلمين، وهذا مقصود شرعاً، ولذلك تجد الغني الذي يتولى زكاة ماله بنفسه مباركاً له، وكثيراً ما يجد من دعوات الخير، وكلّما فرجت الزكاة عن مكروب ومنكوب وتذكّر كربه قال: غفر الله لفلان؛ لأنه يذكر الساعة التي وقف عليه فأعطاه زكاته فيها، فلذلك الأفضل والأكمل أن يلي صاحب الزكاة إخراج زكاته لما فيه من تحصيل الأجور، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: ( ثوابك على قدر نصبك ) أي: على قدر ما تجدين من التعب في الطاعة يثيبك الله جل وعلا، ولذلك قال العلماء: الأفضل أن يلي الإنسان إخراج زكاته بنفسه؛ لأنه إذا ذهب إلى بيوت الفقراء والضعفاء نظر في حالهم، فلربما وجد عورة، فزاد على الزكاة بالصدقة، ولربما كشف حاجة لمحتاج، وفرَّج نكبة لمنكوب، وكربة لمكروب، وهذا لا شك أنه أفضل، فهو يحصِّل وجوه خير كثيرة، مع ما فيه من احتساب الخطوات بمشيه في طاعة الله عز وجل، واحتساب الوقت، وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها.

يتبع

ابوالوليد المسلم 04-08-2022 05:34 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (191)

صـــــ(1) إلى صــ(23)





الدعاء لمن أخرج الزكاة
قال رحمه الله: [ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد].
الذي ورد أن الله تعالى قال: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة:103]، (وصل) بمعنى: ادع، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلاً يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجعا فدعت لأبيها فقال: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا فقوله: (عليك مثل الذي صلّيت) أي: دعوتِ.
فالصلاة في اللغة هي: الدعاء، فلما قال الله جل وعلا: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة:103]، أي: ادع لهم، وهذه هي السنة أن الإمام ومن يقوم مقامه كالسعاة الذين يأخذون الزكاة من الناس، يُسن لهم إذا أخذوا الزكاة أن يدعوا للمتصدق: أن يبارك الله له في ماله، وأن يبارك له فيما آتاه، وأن يقولوا له القول الحسن الذي يحمله على محبة الخير والزيادة منه، وهذا مقصود شرعاً، وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في الصحيح: ( اللهم صلِّ على آل أبي أوفى ) ، قال بعض العلماء: أي: ارحمهم؛ لأن الصلاة تُطلق بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } [الأحزاب:56] ، فصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة، وقيل: (صلِّ) أي: بارك لهم فيما أعطيتهم من المال والخير، وهذه نعمة عظيمة؛ لأنه ليس المهم أن يكون عند الإنسان مال، ولكن الأهم أن يبارك الله له في هذا المال، ولذلك يدعو له بالبركة، ويقول: اللهم بارك لفلان، والأفضل أن يشمله وأهله بالدعاء، فيقول: اللهم بارك لآل فلان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم صلِّ على آل أبي أوفى ) .
وأما بالنسبة لمن يعطيها فقد جاء في حديث أبي هريرة أنه يقول: ( اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً )، وهذا حديث ضعيف تكلم العلماء في سنده، والصحيح: أنه ليس هناك تقيد أو إلزام بذكر معين، والأمر واسع؛ لأن القاعدة: (أن ما أطلقه الشرع من الأذكار يبقى مطلقاً حتى يرد التقييد) ولم يرد تقييد في هذا بدليل ثابت في الكتاب والسنة، فبقي المطلق على إطلاقه.
إخراج الزكاة لفقراء البلد
قال رحمه الله: [والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده].
هذه العبارة المراد بها أن أصحاب الأموال يُخرِجون زكاة أموالهم في البلد الذي هم فيه، وفيه تجاراتهم وأموالهم، وهذا من حكمة الله عز وجل أنه جعل فقراء البلد غناهم في أموال الأغنياء في نفس البلد، والأصل في الإلزام بهذا ما ثبت في حديث معاذ في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة -أي: زكاةً- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) فقال: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) ولم يقل: (فأتني بها)، فدل على أن الزكاة تتعلق بالبلد، وهذا هو الصحيح على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيّد الزكاة بالبلد، وعلى هذا فلا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر.
ومن تأمل ونظر وجد أن نقل الزكاة يفوِّت مصالح عظيمة، وإن كان في بعض الظروف الضيقة قد يحصِّل مصالح أو يدرأ مفاسد؛ لكنه في كثير من الأحوال يُضر بأهل البلد، ولذلك تجد في البلد الضعفاء والفقراء، ويكون فيه أغنياء، فإذا قيل لأحد من خارج البلد: تصدّق على فقراء هذا البلد، قال: إن فيه من الأغنياء ما يكفيه، ويسد عوزه، فيمتنع من الصدقة عليهم.
ومن هنا قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا كان له أقرباء مستحقون للزكاة أن يبدأ بهم، وليس هذا من المحاباة، والسبب في هذا: أن أقارب الغني لا يُعطون إذا كانوا فقراء أو ضعفاء من الأجانب؛ لأن كل إنسان يقول: هذا قريب لفلان الغني، فيمتنع من إعطائه شيئاً، ولذلك تصبح قرابته وبالاً عليه بحرمانه الخير من الأجنبي ومن قريبه.
ومن هنا قالوا: تعطى لفقراء البلد، حتى إذا سُدّت حاجتهم صُرفت إلى ما وراء ذلك البلد، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ إذ لا يُعقل أن يصل الإنسان مكاناً بعيداً وحوله الفقراء يكتوون بالجوع والأسى والألم، وفيهم الأيتام والضعفاء والأرامل، أما في الأحوال المخصوصة كالنكبات والفجائع التي تحصل في البلدان والأمصار، فرخّص بعض العلماء في نجدتها، وإن كان بعض العلماء قال: إن هذا له أصل من وجوب المبادرة في سد عوَز المسلم؛ لكن الكلام إذا لم تكن هناك مثل هذه الأحوال الطارئة، فإذا كان الناس في بلد، وجب على أغنيائهم أن يسدوا عوزهم، لما فيه من رعاية حق الجوار، فإن الناس في البلد الواحد بمثابة المتجاورين، فإذا اكتفى بلده فحينئذٍ ينصرف إلى ما وراء مدينته وقريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً فقال: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) وهذا خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم.
نقل الزكاة إلى مسافة القصر
قال رحمه الله: [ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة].
هذا هو الذي ذكرناه، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، والنقل المحرّم إلى مسافة تُقصر فيها الصلاة؛ لأن الذي دون مسافة قصر الصلاة يُعتبر من ضاحية المدينة، فلو كنت -مثلاً- في مكة وجاء ضعفاء من ضواحي مكة فإنك تعطيهم، أو خرجت إلى القرى المجاورة لمكة، ولم تكن على مسافة القصر فلا حرج؛ لأنها تعتبر ملتحقة بمكة وآخذة حكمها؛ لأن ما جاور الشيء أخذ حكمه.
[فإن فعل أجزأت].
فإن خالف هذا وفعله، فصرف زكاته عن بلده إلى بلد آخر أجزأت، والله سائله عن ضعفاء بلده، وسائله عن محتاجيهم، ولذلك يكون غير خالٍ من المسئولية والتبعية في إخراجه لهذا الحق عن بلده؛ لأن الأصل يقتضي أن يخرج زكاته في بلده.
[إلا أن يكون في بلدٍ لا فقراء فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه].
هذا بالنسبة للأحوال المستثناة، أن يكون في بلدٍ سدَّت حاجته، وليس فيه فقراء، وهذا أمر يرجع إلى الحقيقة، أما المبالغة وكلام الناس، فلا يُعتد بكلامهم، بل عليه هو أن يتحرى ويتأكد من هذا الشيء، أنه لا يوجد فقير، ولا مسكين، ولا يوجد مديون، أو غيرهم من بقية الأصناف الذين سماهم الله عز وجل، فبعد ذلك ينقل الزكاة إلى غير هذا البلد، وللعلماء تفصيل: بعضهم يقول: ينقلها إلى أقرب البلدان إليه، ولا يجوز له أن ينقلها إلى ما هو أبعد منها؛ لأنه لمّا أمر الشرع بإخراجها في نفس البلد دلّ على أن العبرة بالبلد وما في حكمه، أي: ما هو أقرب إليه، حتى ينزَّل منزلته في الحكم.
وبعضهم يقول: هو مخيّر.
وفائدة هذا الخلاف: أنه لو كان الإنسان -مثلاً- في بلدٍ وهناك مدينتان، إحداهما: تبعد خمسمائة كيلو مترات، والثانية تبعد مائة كيلو، فاكتفى بلده، فعلى القول الأول: لا يجوز أن ينقلها إلى البلد الأبعد مع وجود البلد الأقرب، وعلى القول الثاني: هو مخيَّر، فإن شاء نقلها للأبعد وإن شاء نقلها للأقرب.
إخراج الزكاة في بلد المال
قال رحمه الله: [فإن كان في بلد ومالُه في آخر أخرج زكاة المال في بلده].
للعلماء قولان في هذا: بعضهم يقول: العبرة ببلد المال.
وبعضهم يقول: العبرة ببلد صاحب المال.
والأقوى: إذا نظرنا إلى جهة المعنى ومقصود الشرع.
مسألة: لو فرضنا أن عنده عشرة آلاف في المدينة، وعشرة آلاف في جدة، وعشرة آلاف في مكة، وهو في مكة، فعلى القول الثاني: يُخرج زكاة الثلاثين الألف في مكة، وعلى القول الأول: يجزئ زكاته أثلاثاً، فيجعل لمكة الثلث، وللمدينة الثلث، ولجدة الثلث الآخر، وهذا هو الأقوى والأوجه.
[وفطرته في بلدٍ هو فيه].
أي: وأما زكاة الفطر فإنها تتبع الشخص، فلو كان -مثلاً- ماله في المدينة، وأفطر في جدة أو في مكة، فيخرج زكاته في البلد الذي أفطر فيه؛ لأنها وجبت عليه في البلد الذي هو فيه، إلا أهله وولده، فلو كان في المدينة، وأهله في مكة، ووجبت عليه زكاة الفطر، فهو مخيَّر بين أمرين بالنسبة لأهله: إما أن يوكلهم فيخرجونها في البلد الذي هم فيه، أو يخرجها عنهم في البلد الذي هو فيه، فالأمر واسعٌ في زكاة الفطر.
حكم تعجيل الزكاة
قال رحمه الله: [ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل ولا يستحب].
التعجيل: المبادرة بالزكاة قبل أن يتم الحول، وشرط ذلك: أن يملك النصاب، فلو عجّل الزكاة قبل ملك النصاب فهي صدقة من الصدقات، وليست بزكاة واجبة، فلو بلغ النصاب فعجل لسنة أو سنتين فلا حرج عليه.
والأصل في ذلك حديث العباس كما في السنن: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل منه الزكاة لعامين ) وهو حديث حسَّنه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وعليه: فإنه يجوز تعجيل الزكاة لسنة أو سنتين، ولا يجوز لأكثر؛ لأن ما شُرع على سبيل التخصيص يختص الحكم بالصورة الواردة، فهنا الأصل أنه يخرج كل زكاة بعد تمام الحول، وكونه يؤذن له بالإخراج قبل تمام الحول يُعتبر خارجاً عن الأصل، فجاز بالصورة الواردة، فقالوا: يعجِّل سنة، ويعجِّل سنتين.
وهذا قد تترتب عليه مصالح، منها: لو حصلت نكبة لفقراء وضعفاء، واحتيج أن يكون هناك مالٌ كبير، فقال: لو أني عجّلت زكاتي لسنتين لعظُم المال ففُرِّجت عليهم هذه النكبة العظيمة، فعجَّلها وفرج عليهم هذه النكبة العظيمة، فهذا حسن، وهكذا لو حصلت أحوال نادرة فعجَّل فيها الزكاة.
أما إذا لم تحصل الموجبات، فقالوا: لا يستحب تعجيلها.
والسبب في عدم الاستحباب: خوف أن يأتي زمان الزكاة، ويوجد من هو أحوج ومن هو أضعف، ولذلك قالوا: فلو يؤقت لوقتها، فهذا أفضل وأكمل، وفصّل بعض العلماء وتفصيله جيِّد: فقال: إن وُجِد موجب للتعجيل، واحتاج محتاجون للتعجيل عجَّل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تعجّل العباس ، فدل على وجود الموجب، فيُستحب التعجيل تفريجاً لهذه الكربة والنكبة، وإن لم يوجد موجب، إلا أن يتخلص من الزكاة، وأن يخفف عن نفسه التبعية، فقالوا: إنه خلاف الأولى والأفضل والأفضل له إذا وُجد الموجب أن يبادر، لما فيه من المبادرة بالخير، وتحصيل الأجر.
الأسئلة
كيفية تعزير مانع الزكاة

السؤال
هل يقتصر التعزير بأخذ شطر المال فقط، أم للقاضي أن يعزر بالجلد أو السجن، أثابكم الله؟


الجواب
مسألة التعزير تأتي على وجهين: إما أن تكون مقيّدة.
وإما أن تكون مطلقة.
فالتعزير من حيث هو في القضاء راجعٌ إلى الوالي يعزر بما رأى، وقال بعض العلماء: يعزر ولو بالقتل في مسائل مختلفة، أي: من حقه أن يعزِّر ولو بالقتل، ومن هنا قال العلماء: -كما يختاره المالكية- واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقول عند الحنابلة، ويميل إليه الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، وأشار إليه في كتابه النفيس الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وكذلك أشار إليه ابن فرحون في تبصرة الحكام ومناهج الأحكام -إن التعزير لا يتقيد بشيء، وإنما يرجع إلى نظر الإمام بما فيه المصلحة.
يبقى النظر في تعزير النبي صلى الله عليه وسلم للذي منع الزكاة، وهو يحتمل أمرين: - إما أن يقصد به التأقيت، وهذا يُفهم من قوله: ( عزمة من عزمات ربنا ).
- وإما أن يُفهم منه مطلق التعزير، فحينئذٍ لا يتأقّت.
والأول أقوى؛ لقوله: ( عزمة من عزمات ربنا )، فدل على أن هذا التعزير مؤقت، لا يُزاد فيه على هذا الحد، وأنه يؤخذ ويُعاقب في المال الذي منعه.
والله تعالى أعلم.
حكم إظهار الزكاة عند إعطائها

السؤال
هل يجب إظهار الزكاة، أي: هل يجب إخبار الفقير والمسكين بأن هذه زكاة؟


الجواب
يستحب العلماء رحمة الله عليهم ذكره لذلك؛ لأمور: أولها: لأنه إذا كان من غير أهل الزكاة أخبرك أنه ليس من أهل الزكاة، ولذلك قالوا: فيها احتياط لحقوق الضعفاء والفقراء، فلربما ترى الرجل تظنه فقيراً وهو ليس بفقير، ولذلك إذا أخبرته أنها زكاة احتطت للمستحقين، فكان أبلغ في الاحتياط.
ثانيها: لدفع المنة، وذلك أن بعض الناس قد يستغل الزكاة لأغراض شخصية، يقصد منها أن يظهر أنه -نسأل الله السلامة والعافية- كريم وجواد، أو كونه صديقاً صادقاً في ودّه لمن يحبه، فيعطي الزكاة ولا يُظهرها، فيظن الذي أخذها أنها عطيّة منه، ولذلك قالوا: لا يجوز له أن ينتحل على هذا الوجه حق الله عز وجل وحق الفقير، وبناءً على ذلك لا بد وأن يُخبر، ولا شك أن هذه الأمور التي ذكروها لها وجاهة، إلا إذا كان الإنسان متأكداً من أنه فقير ضعيف، ولم يقصد الاستعلاء، واستثنى كذلك بعض العلماء: أن ترى أنك لو أخبرته أنها زكاة لامتنع وهو محتاجٌ، ولكن عنده عزة نفس، فحينئذٍ يجوز لك أن تخفي عنه فتعطيه دون أن يعلم أنها زكاة.
والله تعالى أعلم.

مَنْ تعجل في إخراج الزكاة ثم زاد ماله وقت وجوبها


السؤال
إذا عجَّل رجل إخراج زكاة ماله، فقد يأتي وقت وجوبها وقد زاد ماله، فماذا عليه عندها، أثابكم الله؟


الجواب
يخرج بقدر الزيادة، أي: يحتسب الزيادة ويخرج قدرها.
والله تعالى أعلم.
حكم إعطاء الزكاة للأقرباء البعيدين

السؤال
إذا كان للإنسان أقرباء يستحقون الزكاة؛ ولكنهم ليسوا في نفس المدينة التي هو فيها، فهل يعطيهم إياها، أم لا، أثابكم الله؟


الجواب
يجوز أن يعطيهم في حالة ما إذا قدموا عليه أو وكّلوا شخصاً يأتيه فيأخذ منه الزكاة في المدينة التي هو فيها، فحينئذٍ يكون ذلك مجزياً ولا حرج فيه.
والله تعالى أعلم.
حكم إعطاء الزكاة للمديون

السؤال
لو كان على والدي دين يستطيع أداءه؛ ولكن بعد مدة من الزمن، فهل يجوز أن أعطيه الزكاة ليعجِّل قضاء دينه، أثابكم الله؟


الجواب
إذا لم يكن عنده مال يسدد منه دينه، ويفي لسداد دينه فتعطيه، والعبرة بالحال لا بالمآل؛ لأنك لا تضمن بقاءه إلى السداد؛ ولأن مقصود الشرع دفع هم الدين الذي هو ذل في النهار وهم في الليل، فالله رحم هؤلاء الذين ابتلوا بالدين، فجعل تفريج كربهم في الزكاة، فليس وجيهاً أن تتركه إلى أن يسدد دينه؛ لأنك لا تضمن بقاءه؛ ولأنه تضيق عليه مصالحه بسبب وجود الدين، ويهان ويذل بسؤال صاحب الدين، إلى غير ذلك من التبعات والآثار المترتبة على وجود الدين، فشُرعت الزكاة دفعاً لهذا الضرر، فعليك أن تبادر بتسديد دينه من الزكاة، ولكن يشترط: ألا يكون عنده مال يمكن بيعه سداداً لدينه.
والله تعالى أعلم.

حكم إخراج الزكاة إلى السعاة وتأخيرها


السؤال
قال صاحب الروض رحمه الله: (ويجب على الفور إخراجها مع إمكانه، إلا لضرورة كخوف رجوع الساعي).
فهل نفهم من ذلك أنه لا يمكن للمزكّي أن يخرجها إلا بإذن الساعي، أثابكم الله؟


الجواب
إذا خصّص الوالي سعاة وجباةً يأخذونها، فإنها لا تُجزي إلا بدفعها للساعي، وقدوم الساعي معتبرٌ شرعاً، ففي الليلة التي قدم فيها الساعي لولد الغنم أو ولدت الإبل أو البقر، حُسِب من العدد، ولا يُشترط حولان الحول على هذا المولود الجديد، وبناءً على ذلك قدوم الساعي له آثار وله أحكام، فالزكاة لا بد من دفعها للساعي والجابي، ولا يجزيه أن يخرجها بنفسه، قالوا: لو عيّن الوالي من يأخذ الزكاة من الناس فجاء إنسان واجتهد وأخرج زكاته بنفسه وجب عليه قضاؤها؛ لأن الزكاة على هذا الوجه مؤقتة ومحددة، ولا يجوز له أن يُقْدِم بإعطائها إلا على الوجه الذي أمره الله من دفعها إلى الوالي أو من يقوم مقامه، وعلى هذا فلا بد من وجود الساعي لأخذ الزكاة.
وينبغي على أصحاب الأموال أن يؤدوها إليه، سواء كانت من السائمة أو كانت من غير السائمة، كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، وخوف رجوع الساعي: أن يخاف أن يعطي الساعي الآن، ثم يرجع بعد ذلك ويطالبه مرة ثانية، فيؤخرها إلى ذهابه ورجوعه مرة ثانية حتى يستبرئ، فحينئذٍ لا حرج عليه، دفعاً للضرر الذي يأتيه من رجوعه مرة ثانية.
والله تعالى أعلم.
حكم احتساب الدين من الزكاة

السؤال
إذا كان لي دين على رجل، وعندي زكاة مال فأردت إخراجها، فقمت بإسقاط بعض الدين الذي لي عند الرجل، ويكون ذلك مقابل زكاة مالي، فهل هذا صحيح، أثابكم الله؟


الجواب
لا يصح هذا في مذهب جمهور العلماء، فلو كان لك على إنسان دين، وكان الدين -مثلاً- خمسة آلاف ريال وزكاتك خمسة آلاف ريال فلا يجوز أن تحسب هذا الدين من الزكاة، وبناءً على ذلك: يجب عليك إخراج زكاة مالك؛ لأن المراد من ذلك أن تدفع عن نفسك ضرر المطالبة، وعليه فإنه لا بد وأن يكون إعطاء الزكاة على وجه تنتفي فيه التهمة، وهذه يمثل العلماء بها بزكاة التهم، أي: يؤدي الزكاة على وجهٍ فيه تهمة، وبناءً عليه: فإنه لا يصح ولا يجزيه أن يؤدي الزكاة على مديون له عليه دين، ويحتسب ذلك من دينه، والله تعالى أعلم.
ويقول بعض العلماء: هذا لا يصح؛ لأنه لم يخرج زكاةً أصلاً؛ فإن الإخراج لم يحصل، والإعطاء لم يحصل، وإنما حصل الإعطاء ديناً، ولا يمكن قلب الدين إعطاءً للزكاة؛ لأنه سابق لأوان الزكاة وغير معتد به، وهذا مستقيم أيضاً من جهة النظر، فاعتضد ذلك بوجود التهمة مع وجود السبق للإعطاء، وعليه فلا يجزيه أن يحتسب دينه من الزكاة.
والله تعالى أعلم.
مقدار أخذ الولي من مال اليتيم إذا تاجر به

السؤال
إذا تاجر الولي بمال اليتيم، فهل يأخذ شيئاً على عمله؟


الجواب
إذا تاجر الولي بمال اليتيم فإنه يأكل منه بالمعروف، قال العلماء: يقدَّر له قدر التعب، فمثلاً: فتح متجراً لبيع طعامٍ أو كساءٍ أو غذاءٍ أو غير ذلك، وقام عليه وصار يتولى شئونه وأعماله، يقولون: ننظر إلى أجرة مثله، فلو أننا استأجرنا إنساناً يعمل مثل العمل الذي قام به هذا الولي، وكان يستحق كل شهر -مثلاً- ألف ريال، فيأخذ الولي من مال اليتيم بقدره، وقس على ذلك.
إذاً: يُحسب له تعبه، ويعطى أجرة المثل، ومرد ذلك إلى العرف وأهل الخبرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوالوليد المسلم 04-08-2022 05:57 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (192)

صـــــ(1) إلى صــ(23)





شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [1]
أهل الزكاة هم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فيجب صرف الزكاة إليهم، ولكن هل يجب استيعابهم كلهم؟ وما حكم صرفها لصنف واحد؟ وما حكم صرفها للأقارب؟ هذه مسائل خلافية مذكورة بالتفصيل في هذه المادة.
أهل الزكاة الثمانية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنِّف رحمه الله: [باب: أهل الزكاة ثمانية].
الأهل للشيء: هو المستحق له، تقول: فلان أهلٌ لكذا إذا كان مستحقاً له.
وقوله رحمه الله: (أهل الزكاة) أي: المستحقون لها وهي فريضته في أموال المسلمين، وقد قسم الله عز وجل الزكاة من فوق سبع سماوات، ولم يكلْ قسمتها إلى نبيٍ مرسل ولا إلى ملكٍ مقرب، الأمر الذي يدل على عظيم أمرها، وما ينبغي من العناية بشأنها.
وقد عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في كتاب الزكاة لأهميته؛ لأنه بعد بيان الحق الواجب في الأموال، وبيان الأحكام المتعلقة بذلك الحق، شرع في بيان مصارفها، والعلماء يقولون: أهل الزكاة، ويقولون: مصارف الزكاة، والمراد بذلك بيان من المستحق لأخذ الزكاة.
فقال رحمه الله: (أهل الزكاة ثمانية)، وهذا إجمالٌ قبل البيان، وهو أسلوب من أساليب القرآن والسنة، وفائدته تهيئة السامع والقارئ لما يُذكر، إضافة إلى إحداث الشوق بترتب الجمل بعضها على بعض.
وعد أهل الزكاة ثمانية هو الذي ورد به النص في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:60] أي: عليمٌ سبحانه وتعالى بأمر عباده، وعليم بما يشرِّعه لهم، وحكيم في حكمه سبحانه وتعالى وما يكون من تقديره، فختم الآية بما يناسبها، وهو العلم والحكمة؛ وكلتاهما من صفات الله عز وجل.
وهذه الأصناف الثمانية، حصر الله مصارف الزكاة فيها، والدليل على الحصر أنه قال سبحانه: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } [التوبة:60]، (وإنما) أسلوب حصر وقصر، يفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، كأنه يقول: لا صدقة لغير هؤلاء، ولما قال: (إنما) فهمنا بهذا الأسلوب أنه سيخصِّص، وذلك يقتضي أن مصارف الزكاة خاصة، وهو يدل على ضعف تعميم الزكاة في وجوه الخير، وعدم رجحان القول الذي يقول: إن الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً، إذ لو كانت الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً؛ لما كان لقوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فائدة، ولقال: إنما الصدقات في وجوه الخير، لكن كونه يخص ذلك ويقصره ويحصره في وجوه خاصة من البر، يدل على أنه ليس كل البر، بل أصناف معينة يخص الشرع إعطاء الزكاة بها، فوجب التقيد بها.
ولأن الذي يقول بجواز صرفها في وجوه الخير عموماً يستدل بقوله سبحانه: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة:60]، وهذا اللفظ إذا أُطلق في كتاب الله عز وجل فالمراد به في الأصل الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، ويعرف ذلك بالاستقراء والتتبع، ولذلك كان جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وأتباعهم على أن الزكاة تختص بهذه الأصناف الثمانية، ولا تُصرف في مطلق وجوه الخير.
وذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وبعض المتأخرين إلى ترجيح القول الذي يقول بصرفها في وجوه الخير عموماً، وهذا القول مرجوح؛ وذلك أنه يستند إلى قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ التوبة:60 ]، وقد بيّنا أن قوله: (في سبيل الله) إذا أُطلق في الكتاب والسنة فالمراد به الجهاد، ومما يدل على ضعف حمل: (في سبيل الله) على العموم أن قوله: (وفي سبيل الله) يحتمل معنيين: إما خاص بمن ذكرنا وهم المجاهدون، وإما عام.
فإذا قيل بعمومه، فإن العرب لا تعرف إدخال العام بين خاصَّين، وإنما تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص لشرفه وتعطف العام عليه، فتقول: دخل محمدٌ والناس، فتقدم الخاص وهو محمد لشرفه وفضله، ثم تقول: والناس وهو العام، أو تقول: دخل الناس ومحمدٌ، للدلالة على شرفه وفضله، كقوله تعالى: { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } [القدر:4] فخصَّص بعد تعميم، وهذا هو أسلوب القرآن وأسلوب العرب.
أما أن تقول: دخل الناس ومحمد والناس، أو تقول: دخل محمد والناس ومحمد، تؤكد ذلك، فهذا لا تعرفه العرب.
وكذلك تقول: دخل الناس ومحمدٌ وعلي، أو تقول: دخل محمد وعلي والناس، أما أن تقول: دخل محمد والناس وعلي، فلا يستقيم؛ لأنك تدخل العام بين خاصين، فهذا لا يعرف في أساليب العرب، وإنما يعطف العام على الخاص، أو الخاص على العام كما هو معروف بالاستقراء.
وعلى هذا فإن القول بالتخصيص بالأصناف الثمانية وهو مذهب الجمهور هو الظاهر؛ لما ذكرناه من استقراء نصوص الكتاب والسنة، ولأننا لو قلنا بالتعميم فإن هذا يفوِّت المقصود من التنصيص على الأفراد الخاصة.
ويختص هؤلاء الثمانية بالمسلمين، فأما الكفار فلا تدفع لهم الزكاة، ولا يجوز صرفها إليهم ولو كانوا فقراء أو مساكين أو غارمين ولو كانت فيهم أي صفة من صفات أهل الزكاة، فإنما تدفع للمسلمين خاصة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
وقد جاءت الآية مطلقة شاملة في قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [التوبة:60]، وهذا يدل على أن القرآن قد يُطلق ويريد الخصوص، وأنه ليس كل نص مطلقٍ في القرآن نحمله على إطلاقه حتى نتتبع ونعرف هل هناك إجماعٌ يخصص عمومه أو يقيد مطلقه، أم لا، فهذه الآية لو أخذ أحدٌ بإطلاقها لقال: تُدفع الزكاة للكفار، ولا أحد يقول بذلك، فدل على أن المطلق في الكتاب والسنة ينبغي الرجوع إلى ضوابطه، هل يوجد ما يخصصه إذا كان عاماً، وهل يوجد ما يقيده إذا كان مطلقاً.
حكم إعطاء من يستحق الزكاة ما يكفيه هو ومن يعول
قال المصنف رحمه الله: [ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم].
قوله: (ومن كان ذا عيال) بعد أن بيّن لنا الأصناف الثمانية، وأراد أن يبين لك أنك إن أعطيت الفقير لفقره، أو المسكين لمسكنته، فينبغي عليك أن تنظر إلى عياله، ومن تلزمه نفقتهم، فقال: (من كان ذا عيال) يعطى قدر نفقتهم.
فلو أن رجلاً عنده خمسة أطفال وزوجة، وعندك زكاة، وتعلم أن نفقته وحده هي ثلاثة آلاف، ونفقته مع عياله تصل إلى اثني عشر ألفاً، فتعطيه اثني عشر ألفاً؛ لأن من تلزمه نفقته منزَّلٌ منزلته، ومن كان ذا عيال يعطى نفقته ونفقة عياله.
حكم إعطاء الزكاة لصنف واحد
قال المصنف رحمه الله: [ويجوز صرفها إلى صنف واحد].
أي: ويجوز صرف الزكاة لصنف واحد من هذه الأصناف الثمانية، وهذه مسألة خلافية، قال بعض العلماء: تعمِّم الزكاة على الأصناف الثمانية، فتقسم الزكاة ثمانية أسهم، فلو كان عندك ثمانية آلاف زكاة، تجعل ألفاً للفقراء وألفاً للمساكين وألفاً للغارمين إلى آخره.
وقال بعض العلماء: يجوز أن تصرف الزكاة لصنف واحد، واحتجوا بحديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) ، فخصّ الفقراء وهم صنف واحد من أصناف الزكاة، ولم يذكر أصناف الزكاة الثمانية، فدل على مشروعية الصرف لوجهٍ واحد من الوجوه الثمانية، وهذا هو الصحيح.
حكم إعطاء الزكاة للأقارب
قال المصنف رحمه الله: [ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مئونتهم].
أي: كأخيه وأخته، فإن الفقير المحتاج من الأقرباء قد يمتنع الناس من الإحسان إليه لوجود قرابتك منه، فإنهم يقولون: هذا قريب لفلان الغني، ولا يتصوّرون أنك لا تعطيه، فلو حُرم من زكاتك، وحُرم من زكاة الناس فلن يعطى شيئاً، ولذلك يعطى القريب، وهو أحق من غيره وأولى.
وقال بعض العلماء: إن صرف الزكاة للأقرباء فيه أجرٌ زائدٌ على أجر الزكاة وهو أجر الصلة والإحسان، ولذلك يبتدئ بالقرابة فيبدأ بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحق للأقرباء مقدماً على حق الأبعدين، فيبدأ بالأقارب ويعطيهم، وهذا أفضل وأكمل.
الأسئلة
حكم صرف زكاة الفطر إلى المساكين فقط

السؤال
هل أهل الزكاة الثمانية يشملهم زكاة الفطر، أم هي مختصة بالمساكين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( زكاة الفطر طعمة للمساكين )؟

الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد رجّح غير واحد من العلماء تخصيصها بالمساكين، وإذا كانت للمساكين فمن باب أولى أن تكون للفقراء، وذلك أنها شُرعت لإغنائهم عن السؤال يوم العيد وليلته، ومن هنا قالوا بتخصيصها بهذا الصنف من أصناف الزكاة.
والله تعالى أعلم.
الفرق بين الزكاة والصدقة

السؤال
ما الفرق بين الزكاة والصدقة؟


الجواب
الزكاة فريضة، والصدقة نافلة، وقد تُطلق الصدقة بمعنى الزكاة.
وإنما سمِّيت الصدقة صدقة؛ لأن الإنسان يصدق فيها رغبته في طاعة الله عز وجل، والسبب في ذلك: أن الإنسان بالصدقات يتجاوز حدود الواجب إلى غير الواجب، فكأنه صدق في محبة الله عز وجل، وصدق في التماس ما عند الله من الأجر والمثوبة بإنفاق ماله أو نحو ذلك من وجوه الخير التي يفعلها.
وعلى ذلك قالوا: إن الصدقة تكون نافلة، والزكاة تكون واجبة، ثم الصدقة تكون في وجوه الخير عموماً، والزكاة لا تصرف إلا لأصنافها الخاصة، والصدقة تكون من جميع الأموال، ولكن الزكاة لا تكون إلا من أموال مخصوصة.
والصدقة لا تتقيد بوقت، والزكاة تتقيد بوقت، وبناءً على ذلك تفترق الصدقة عن الزكاة.
وأمر الصدقة أعمّ من أمر الزكاة، ولذلك لا يشترط فيها ما يشترط في الزكاة، ولا تعتبر آخذة حكم الزكاة، حتى قال بعض العلماء: إنه قد يجوز الشيء في الصدقة ولا يجوز في الزكاة، كقول من يقول بجواز أخذ الهاشمي ومن كان من آل البيت من الصدقات العامة، ولا يجوز أن يأخذ من الزكاة، وإن كان الأقوى والأرجح أنهم لا يأخذون من عموم الصدقات.
والله تعالى أعلم.

حكم إعطاء الفقير من الزكاة مع العلم باستخدامه بعضها فيما لا يجوز


السؤال
إذا علمت أني إذا أعطيت الفقير من الزكاة أنه سيشتري ببعضها ما ينفعه، وببعضها ما لا يجوز شراؤه، فما الحكم في ذلك؟


الجواب
إذا أعطيت الفقير لفقره، وقدّرت المال لحاجته الأصلية التي هي مباحة مشروعة، فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل في إنفاقه على غير ذلك، وقال بعض العلماء وكان بعض مشايخنا يميل إلى هذا القول: إنه يُجتهد في هذا الذي يُخشى أن يصرف المال في الحرام، فإن كان له قريب صالح ديِّن أمين بحيث يكون بمثابة الولي عليه، يستطيع أن يحجره عن هذا الحرام، فيُعطى المال لهذا القريب، ثم يُنفق عليه في حاجته الأصلية، ولا يعطيه عيناً، وإنما يقوم بشراء حوائجه الأصلية بمثابة الحجر عليه.
والله تعالى أعلم.
حكم أخذ الوكيل الفقير من الزكاة

السؤال
هل إذا كان الوكيل فقيراً وفي حاجة للمال، فهل يجوز له أن يأخذ منه؟


الجواب
هذا فيه تفصيل، إذا قال صاحب المال للوكيل: خذ زكاتي وأعطها فقراء بني فلان أو أعطها إلى فلان، فعليه أن يؤديها إلى هؤلاء الفقراء، ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه وكيل بالإعطاء، وليس له حظ النظر في الزكاة، ولا يجوز أن يخلِّف منها شيئاً.
الحالة الثانية: أن يقول له: اصرفها للمحتاجين، أو لك النظر فيها، أو يفوضه في أمر الزكاة، فحينئذٍ يجوز له أن يأخذ منها إذا كان محتاجاً.
والله تعالى أعلم.

المخاطب بالزكاة بعد بيع الحب بعد حصاده وبدو صلاحه


السؤال
لو باع رجلٌ حبوب المزرعة وقد بلغت النصاب، وذلك عند الحصاد، فمن يدفع الزكاة البائع أو المشتري، أثابكم الله؟


الجواب
إذا باع المالك الحقيقي للمزرعة الحب فإن البيع لا يصح إلا بعد بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وهو في ملكه، فإنه المخاطب بالزكاة، وحينئذ يجب عليه أن يؤدي زكاته، فالزكاة واجبة على رب البستان وصاحبه، وليس على المشتري؛ لأن رب البستان قد وجبت في ذمته الزكاة ببدو الصلاح في حبه.
والله تعالى أعلم.

حكم زكاة من كان لديه أرض يريد بيعها ولم يبعها إلا بعد عشر سنوات


السؤال
رجلٌ لديه أرضٌ اشتراها منذ عشر سنوات بنية بيعها بعد فترة، ولم يعرضها للبيع مدة العشر سنوات، ثم عرضها بعد ذلك، فماذا يكون عليه من الزكاة؟


الجواب
إذا باعها وتحقق بيعها زكّاها لسنة واحدة على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول طائفة من السلف كـ سعيد بن المسيب و القاسم بن محمد بن أبي بكر و خارجة بن زيد وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، واختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، واختاره بعض أصحاب الشافعي ، وهو أقوى الأقوال، أنها تُزكى لسنة واحدة بعد البيع والقبض.
والله تعالى أعلم.
حكم زكاة من معه تجارة وعليه دين ينقص النصاب

السؤال
رجل عنده محل تجاري، ويقوَّم ما فيه بعشرين ألف ريال، وعليه دينٌ يقدّر بخمسين ألف ريال، فهل عليه زكاة في هذا المحل، مع أنه وقت الزكاة لا يملك مالاً ليزكي به؟


الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، بعض العلماء يرى أن من كان عليه دين يسقطه مما يملك من الأموال، وبعضهم يرى أنه إذا حال الحول والمال عنده، فإنه مالكٌ لهذا المال، وبناءً على ذلك لا يُعقل أن يمتنع من سداد الناس لحقوقهم ويمتنع من أداء حق الله في ماله، فيخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الديون قبل حولان الحول حتى يبرأ من الزكاة، وإما أن تلزمه الزكاة بحلول الوقت، وهذا القول هو أحوط القولين وأولاهما في النظر.
والله تعالى أعلم.
حكم البيع في فناء المسجد وأروقته

السؤال
ما حكم البيع في فناء المسجد وأروقته؟ وهل هي في حكم المسجد؟


الجواب
فناء المسجد ورحبته لا تأخذ حكم المسجد، ولذلك لا تجب فيه تحية المسجد بالإجماع، ومن خرج إليه وهو معتكف بطل اعتكافه، ويجوز للمرأة الحائض أن تجلس فيه، فدل على أنه غير آخذ حكم المسجد، لكن إذا أراد أحدٌ أن يبيع فيه نظر: فإن أدى إلى الضرر، كأن يرفع صوته بعرض السلع وينادي ويصيح فيشوش على المصلين ويكون المسجد صغيراً بحيث يسمعه من بداخله فيمنع، أما لو كان بعيداً والمصلون بعيدون عنه، وهو ينادي بصوتٍ معقول، ولا يتضرر من بداخل المسجد، فيترك الرجل لينال رزقه، خاصة وأنه لا يقف في هذا الموقف إلا وهو محتاج، فمثل هذا لا يُمنع إذا كان لا يشوش على الناس ولا يؤذيهم، أما إذا ضيق عليهم وآذاهم، وأضر بهم، واجتمع الناس به فتضرر الناس في خروجهم من المساجد، ولربما تعثروا أو آذى بعضهم بعضاً، فحينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً.
والله تعالى أعلم.
حكم الدم الذي ينزل بعد الأربعين للمرأة النفساء

السؤال
امرأة قضت الأربعين بعد النفاس ولم تطهر، وإذا طهرت نصف يوم عاد إليها الدم، وهكذا حتى وصلت اليوم السادس والأربعين، علماً بأن هناك علاجاً تستخدمه، فهل يكون هذا العلاج سبباً في استمرار الدم حيث إنه منظِّف لبقايا الدم؟


الجواب
هذا السؤال فيه جانبان: جانب شرعي، وجانب طبِّي: أما الجانب الشرعي: فالمرأة إذا أتمت أربعين يوماً في نفاسها فإنه يُحكم بطهرها، وبعد الأربعين إذا رأت الدم فهو دم استحاضة وليس بدم نفاس، إلا في حالة واحدة، وهي: أن ترى دم الحيض بصفاته، فيكون دخل الحيض على النفاس، فتنتقل من النفاس إلى الحيض بعادتها، أما إذا لم تر علامة الحيض والدم مستمرٌ معها فمُضي أربعين يوماً يعتبر دليلاً على انتهاء مدة النفاس، لحديث أم عطية رضي الله عنها أنه: ( كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ) ، فإذا خلّفت الأربعين فقد طهُرت.
وأما بالنسبة للجانب الطبي؛ وهو: هل يكون هذا الدواء سبباً أو لا، فهذا مرده إلى الأطباء ولا يُسأل عنه العلماء، فهم أعرف بدوائهم وما صرفوا من علاجهم.
أما من الناحية الشرعية فما زاد عن الأربعين فإنه يُعتبر استحاضة، إلا في حالة واحدة هي دخول الحيض على النفاس، فإذا دخل الحيض على النفاس حكمنا بانتقالها من النفاس إلى الحيض، وحينئذٍ تمكث أيام عادتها التي اعتادتها قبل نفاسها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


ابوالوليد المسلم 04-08-2022 06:09 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (193)

صـــــ(1) إلى صــ(17)





شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [2]
هناك أصناف لا يجوز دفع الزكاة إليهم، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب ومواليهم، وأصول المزكي وفروعه، ومن تجب عليه نفقته، والزوج والعبد ونحوهم.
ولا يجوز دفع الزكاة إلا لمن يستحقها بصدق، ومعرفة المستحق تتحقق بأمور ذكرها الشيخ في هذه المادة، وذكر فضل صدقة التطوع وبعض ما يتعلق بها من أحكام.
حكم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب ومواليهم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [فصل: ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي ومواليهما].
فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله الأصناف الثمانية الذين سمّى الله في كتابه، وأمرنا بدفع الزكاة إليهم، شرع في بيان هذا الفصل المهم، والذي يتعلّق بالصفات التي تمنع استحقاف أخذ الزكاة، فهذه الأوصاف التي سيذكرها المصنف رحمه الله تعتبر مانعة من أخذ الإنسان للزكاة ولو كانت فيه صفة من صفات أهل الزكاة، كأن يكون فقيراً أو مسكيناً، فإذا وُجد فيه مانع من هذه الموانع فإنه لا تُصرف الزكاة إليه.
ولما قال المصنف رحمه الله: (ولا تدفع) لا نافية، أي: لا يجوز دفعها لهاشمي، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز الدفع إلى هؤلاء الذين سيذكرهم رحمة الله عليه، ويكون هذا دالاً على تحريم الدفع، فمن كان يعلم أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي فدفعها للهاشمي، فإنه يأثم.
المسألة الثانية: أنه لما قال: أنها إذا دُفعت وعلم الإنسان أنه تحرُم الصدقة والزكاة على هذا النوع، فدفع إلى هذا الممنوع من دفعها إليه، فإنه لا تجزيه الزكاة، ويجب عليه أن يقضي، وتعتبر صدقة من الصدقات النافلة، أما بالنسبة للفريضة فلا تزال في ذمته، ولو كان جاهلاً ثم علم بالحكم؛ فإنه يلزمه القضاء، ويسقط عنه الإثم لمكان الجهل، ولكنه يُطالب بضمان حق الله عز وجل على الأصل المقرر في الجاهل، أن الجهل يوجب سقوط الإثم، ولكنه لا يُسقط الضمان في الحقوق.
وبناءً على ذلك فإن المصنف رحمه الله حينما نص على حرمة الدفع لمن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دفع الزكاة إليه فكأنه يقرر هذين الأمرين: حرمة الدفع، وأن من دفع لا يجزيه ذلك عن زكاة الفرض وأن عليه القضاء.
حكم دفع الزكاة إلى فقيرة تحت غني
قال رحمه الله: [ولا إلى فقيرة تحت غني منفق].
الأصل في ذلك أن المرأة إذا كانت تحت زوج أن الزوج مطالبٌ بالإنفاق عليها، فإذا كان زوجها فقيراً وهي فقيرة جاز دفع الزكاة بالإجماع إليها وإليه؛ وذلك لوجود السبب الموجب لصرفها إليهما، لكن لو كانت هي فقيرة وهو غني فإنه لا يجوز دفعها إليها، أي: إلى هذه الفقيرة؛ لأن زوجها سيقوم بحقها.
فلو أن هذا الزوج كان غنياً بخيلاً، لا ينفق على زوجته ويقتِّر عليها، فهل يجوز الدفع، أو لا يجوز؟ الجمهور على عدم جواز الدفع؛ لأنها إذا أرادت حقها فإنها تطالبه وتقاضيه.
وقال بعض العلماء: إنه إذا كان بخيلاً جاز دفع الزكاة إليها؛ لأن وجود هذا الغني وعدمه على حدٍ سواء، فغناه لا يفيدها شيئاً، بل إنها تتضرر أكثر؛ لأن الناس يمتنعون من الإعطاء إليها لمكان غنى زوجها، وهم لا يعرفون أنه في الحقيقة مقتِّر ومقصر عليها.
وقوله: (ولا إلى فقيرة تحت غني) يفهم منه أنها إذا كانت تحت فقير أنه يجوز الدفع إليه وإليها، والعكس يجوز، فلو كانت المرأة غنية والزوج فقيراً جاز دفع الزكاة إلى الزوج؛ لأن الزوجة لا تنفق على زوجها، ولذلك خصّ الزوجة ولم ينص على الزوج؛ لأن الزوج إذا كان فقيراً وكانت زوجته من أثرى خلق الله فلا يجب على الزوجة أن تعطيه من مالها ولا أن تغنيه وحاله حال فقر، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنها ليست مطالبة بالإنفاق على زوجها.
حكم دفع الزكاة إلى فرع أو أصل
قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى فرعه وأصله].
أي: ولا يجوز دفع الزكاة إلى الفرع ولا إلى الأصل.
والفرع: هو الذي ينبني على غيره، تقول: فروع الشجرة؛ لأنها منبنية على أصلها، وتقول: الجريد فرع النخلة؛ لأنه منبن على جذعها، فالفرع هو الذي انبنى على غيره، والأصل هو الذي ينبني عليه غيره، فالفرع مبني على غيره.
والأصل مبنيٌ عليه الغير، وعلى هذا يقولون في الإنسان: أصوله آباؤه وأمهاته، الأقربون والأبعدون، فأبوه وجدُّه وإن علا يعتبر أصلاً له، وأمه وجدته وإن علت أصلٌ له، ويشمل ذلك المباشر وغير المباشر.
الفرع: وهم الذين يلدهم الإنسان، فله عليهم ولادة كابنه وبنته، وإن نزل الابن وإن نزلت البنت كبنت بنت البنت، وابن ابن الابن، كل هؤلاء يعتبرون من الفروع.
فلا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول ولا إلى الفروع، والدليل على ذلك السنة الصحيحة التي دلت على أن الفرع مع الأصل كالشيء الواحد، وهذه المسألة نص عليها جماهير العلماء، حتى حُكي الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة لا إلى الفروع ولا إلى الأصول، والدليل على ذلك من السنة الصحيحة حديث فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما فاطمة بضعة مني )، وبضعة الشيء كالشيء؛ لأنها قطعة منه، فدل على أنها وإياه كالشيء الواحد.
وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه لا يجوز أن يصرف الزكاة لأبنائه ولا لبناته؛ لأنه إذا فعل فكأنما يصرف لنفسه، لأنه قال: ( إنما فاطمة بضعة مني )، وتأكد هذا أيضاً بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم ) ، وقال للرجل: ( أنت ومالك لأبيك ).
فهذه نصوص صحيحة من السنة جعلت جماهير العلماء رحمة الله عليهم يحكمون بعدم جواز صرف الزكاة للأصول وكذلك للفروع؛ لأن السنة دلت على أن الأصل والفرع كالشيء الواحد، وعلى هذا فلو أعطى أباه أو أمه من الزكاة فكأنه يعطي نفسه، وإنما يجب عليه أن يقوم بحق والديه من الإحسان إليهما.
ولا شك أنه من أعظم العقوق أن يكون الابن غنياً أو تكون البنت غنية -والمراد بالغني من عنده الفضل عن حاجته- ومع ذلك يرى والديه في الفقر والشدة ولا ينفق على والديه، فهذا من أشد العقوق الذي يؤذن بمحق البركة من المال، بل وبمحق التوفيق للإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.
فلن تجد إنساناً يحرم والديه من فضلٍ أعطاه الله إياه إلا محق الله له البركة فيما أعطاه، وقد يجعل ما أعطاه وبالاً عليه في دنياه أو قد يجمع له بين وبال الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك ينبغي على الإنسان أن لا يبخل بماله على والديه، وإذا استطاع أن يبادرهما بالإنفاق قبل أن يسألاه فذلك من أكمل البر، ولذلك قال الله تعالى: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [البقرة:83] ، فأصل التقدير: أحسنوا بالوالدين إحساناً، وقال تعالى: { إِحْسَانًا } [البقرة:83] وهذا مطلقٌ في الإحسان، أي: قدر ما تستطيعون من بذل الإحسان، وما يحسُن به حال الإنسان، أي: ما يُحسِن به إلى والديه في حالهما، سواءً بالقول أو الفعل، ولذلك لا يجوز أن يكون عنده المال ويؤدي الزكاة ووالديه في فقر ومسكنة، فهذا يعتبر من العقوق، ونص العلماء رحمهم الله على وجوب قيام الابن بالإنفاق على والديه إذا احتاجا.
حكم دفع الزكاة إلى العبد
قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى عبدٍ].
أي: ولا تدفع الزكاة إلى عبد؛ لأن العبد لا يملك، ولو دفع له انصرفت إلى سيده، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع )، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يملك، وعلى هذا فقد أخلى يد العبد من الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.
وعلى هذا فلا يتأتى أن يصرف الزكاة إليه؛ لأنه لا يملك، وإذا صرفها إليه فكأنه يعطيها لسيده، فإذا كان السيد محتاجاً جاز دفع الزكاة إليه بوجود الحاجة التي يؤذن بصرف الزكاة بسببها.
في حالة واحدة يستثنى فيها العبد، وهي إذا كان مكاتباً، وقد بيّنا هذا في قوله: { وَفِي الرِّقَابِ } [التوبة:60] ، فإن الله عز وجل نص على دفع الزكاة للمكَاتَب كما في قوله تعالى: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور:33] ، فتصرف الزكاة إلى العبد إذا كان مكاتباً لسيده، وأما غير ذلك فإنه لا تصرف الزكاة إليه.
حكم دفع الزكاة من الزوجة للزوج
قال المصنف رحمه الله: [وزوج].
أي: ولا إلى زوج أي: ولا يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها، وهذا إذا وجد في الزوج ما يدل على حاجته وفقره ومسكنته، وهذه المسألة للعلماء رحمة الله عليهم فيها وجهان: بعض العلماء يقول: يجوز دفع زكاة الزوجة لزوجها، و أنه لا حرج عليها في ذلك، واستدلوا: أولاً: بعموم الآية الكريمة التي وردت في أصناف الزكاة.
وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ زينب امرأة عبد الله بن مسعود حينما استأذنته أن تنفق صدقتها على عبد الله وأولاده، فأخبرها أنها إذا تصدّقت على زوجها وأولاده أنها تكون حائزة لأجرين: الصدقة، وصلة الرحم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز لها أن تدفع زكاتها إلى زوجها.
والذين منعوا استدلوا: بأن الزوج ينفق على زوجته، وإذا كان الزوج ينفق على زوجته، فكأنها إذا أعطته الزكاة فهي مستفيدة من المال لا شك؛ لأن الزوج إنما يفتقر من أجل الإنفاق على نفسه وعلى من يعول، وزوجته ممن يعول، فكأنها إذا أعطته الزكاة أعطته لنفسها، فقال بعض العلماء: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لأجل هذه العلّة؛ لأن الزوج ينفق على زوجته من هذا الوجه.
والذي يظهر والله أعلم أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها: أولاً: لعموم آية الزكاة.
وثانياً: أن هناك ما يدل على جواز الصرف عند اختلاف اليد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما غلا القدر بلحمٍ أُعطي لـ بريرة صدقة، وأراد أن يأكل منه قالت عائشة : إنه صدقة، فقال: ( هو لها صدقة ولنا هدية ) ، فأخبر باختلاف اليد.
فعلى هذا فلها أن تعطيه الزكاة، ثم إذا أنفق عليها ينفق كان ذلك بسبب شرعي وهو الاستمتاع، قال تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء:24] ، فاختلفت اليد، والقاعدة: أنه إذا اختلفت اليد اختلف الحكم باختلاف اليد، وعلى هذا فإنه إنما يستقيم أن لو كان ينفق عليها بدون موجب، وعليه فإنه يجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها.
وأجابوا عن الوالد مع ولده بأن الاستحقاق وإن كان مختلفاً فورود السنة بالنصية على أنه مالٌ للأب ومالٌ للفرع، يدل على أنهما كالشيء الواحد، ولو أخذه باستحقاق، ففُرِّق بين الوالدين وبين الزوجين من هذا الوجه، فيجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها ومن الزوج لزوجته، قالوا: ولا حرج في ذلك، وحينئذٍ إذا صرفت زكاتها لزوجها يشترط أن لا تحابيه في قدر الزكاة الذي تعطيه له، فإذا كان يستحق ثلاثة آلاف لم يجز أن تزيد عليها، فإن زادت رجعت الزيادة نافلة، فلو كانت زكاتها أربعة آلاف ريال وزوجها يستحق الألفين فأعطته أربعة آلاف، فألفان زكاة وألفان صدقة، ويجب عليها أن تقضي الألفين؛ لأنه لا يستحق أن تُصرف إليه.
حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها
قال المصنف رحمه الله: [وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه].
وذلك كأن يعطيها لإنسان يظنه فقيراً أو مسكيناً وهو غني، ثم بان بأنه ليس بأهل؛ فإنه يجب عليه أن يقضي.
وهنا ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي أن الواجب على الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة في ماله أن ينظر في حاله، فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يعلم بوجود ضعفاء أو فقراء مستحقين للزكاة، أو أن يكون عالماً بأناس مستحقين للزكاة، علماً شخصياً بنفسه، كأن يعرف جيراناً له فقراء، أو يعرف أقارب له فقراء، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يصرف لأي شخص غيرهم؛ لأنه إذا صرفها للغير الذي يشك في حاله كأنه ينتقل من اليقين إلى الشك على وجه يشك في براءة ذمته.
ولذلك يقول العلماء: إذا علم الإنسان فقراء محتاجين، وجاءه سائل يشك في أمره لم يجُز له أن ينصرف عن اليقين إلى شك، والقاعدة في الشرع: أن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فما دمت قادراً على صرفها على وجه تستيقن منه أنها تصل إلى مستحقها فلا يجوز لك أن تعدل إلى وجهٍ تشك فيه.
وتفرّع على هذه القاعدة مسائل كثيرة، ومنها هذه المسألة، أنه ما دمت تعلم أن البيت الفلاني فيه فقراء وضعفاء محتاجون، وتعلم حاجتهم وأنهم مستحقون للزكاة، وجاءك من تشك في أمره يسألك لدين أو حادث أو فقر، لم يجز لك أن تنصرف من الأمر الذي تستيقن به صرف الزكاة على وجهها إلى أمر تشك فيه.
الحالة الثانية: أن لا يعرف الناس بنفسه، ولكن يعرفهم عن طريق الثقات، أو أناس فيهم أمانة وعدالة، ويغلب على ظنه أنهم يوصلون المال إلى مستحقه، فهؤلاء الأشخاص جاءوك وأخبروك أن هناك بيتاً من الفقراء أو المساكين، أو أن هناك شخصاً مديوناً، ويعلمون صدقه وحاجته وفقره، فحينئذٍ تنزّل هذه الحالة منزلة الحالة الأولى، ولا يجوز لك أن تعدل عن هذا الأمر الذي غلب على ظنك فيه وصول الزكاة إلى مستحقها إلى أمر تشك فيه، وتعتبر هذه الحالة لاحقة بالحالة الأولى.
الحالة الثالثة: أن لا تعلم أناساً، وليس هناك أشخاص تستطيع أن تعتمد عليهم في الكشف والتحري، وجاءك من يسأل، فلا تخلو أيضاً من حالتين: إما أن يمكنك أن تتحرى وتتثبت في أمره؛ فلا يجوز أن تدفع له مباشرة قبل أن تتحرى وتتثبت.
مثال ذلك أن يقول لك: إنه يسكن في حي ما، فتقول له: اذهب وأحضر لي شهادة من إمام المسجد أو أحضر لي من جيرانك من أعرفه يزكيك أو يشهد بأنك محتاج أو أنك فقير، ففي هذه الحالة إذا أمكنك بالتحري والسؤال أن تعرف جليّة أمره، كان من التساهل والتفريط في حق الله عز وجل أن يُدفع المال إليه مباشرة؛ والأمانة والصدق في القول من العدالة، والله عز وجل يقول: { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب:72] فأخبر بكونه ظالماً وجاهلاً، فكان الأصل أنه ينبغي أن يزكَّى، حتى يغلب على الظن صِدْقُه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان على ظهر غنى وأصاب ماله جائحة أن يقوم اثنان من ذوي الحجى يشهدان بأن مال فلان قد أصابته جائحة.
فعلى هذا يكون من التفريط والتساهل أن يأتي الإنسان إلى صدقة واجبة عليه فيعطيها لكل من سأل، ومن جاءه أعطاه، ومن أخبر له صدّقه، فهذا من التساهل والتضييع.
بل قد تجد أجرأ الناس على السؤال من أكذب خلق الله وأكثرهم حيلة، بل قد تجده يملك من الأموال ما لا يملكه الذي يتصدق عليه، وقد رأينا ذلك بأعيننا، ولا نبالغ فيه، بل وجدنا من يملك العمارة والعمارتين وهو يسأل ويكذب ويدعي أنه محتاج، وقد بنى ثروته وأمواله على السؤال، خاصة في هذا الزمان، عندما تساهل كثير من الأغنياء.
ولذلك لما تساهل الأغنياء في صرف الزكاة إلى المستحقين عظُمت حاجة الناس، ووجد الضعفاء والفقراء الذين هم في فقر وضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وضاعت حقوقهم بسبب هؤلاء السؤَّال، والغني يحضر ماله وكل الذي يريده أن يخلص من هذه الزكاة، ويحس أنه من الورع أن يتخلص منها مباشرة، ويعطيها لكل من هب ودب، وهذا لا تبرأ به الذمة، وأنت تعلم أن هذا الزمان فيه الكذب وفيه الغش وفيه التدليس، فتأتي إلى حق الضعفاء والفقراء والمساكين والمديونين والمعسرين، فتتساهل فيه فتعطيه لكل سائل، وتعطيه لكل من يقف عليك، فهذا من التساهل.
فإن كنت عاجزاً بحثت عمن تثق بدينه وأمانته، بأن تذهب إلى إمام مسجد أو تذهب إلى عالم تثق بدينه وأمانته، فتعتمد عليه بعد الله عز وجل في صرف زكاتك، أما أن تُعطى الزكاة لكل من سأل، ثم إذا بان غنياً عفي منها فلا، هذا من الصعوبة بمكان، ولا شك أنه يضيِّع حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين، وعلى هذا فإنه ينبغي التفصيل.
أولاً: إن كان الشخص بنفسه يعلم الضعفاء والفقراء لم يَجُز له أن يصرف المال للسؤَّال الذين يشك في أمرهم.
ثانياً: إذا كان لا يعرف ولكنه يستطيع أن يعتمد على من يثق بدينه وأمانته من أهل العقل والحجى ويسلمهم زكاته وجب عليه ذلك، ولم يجز له أن يعطي الزكاة لكل سائل وهو لا يعرف أهو صادق أو كاذب.
ثالثاً: إذا لم يمكنه الأمران، وأمكنه أن يعتمد على تزكية إمام مسجد أو تزكية جيران يثق بهم طولب بذلك.
فإن تعذر عليه في هذه الحالة، ولم يستطع أن يستجلي الأمر بنفسه، ولم يستطع أن يطالبه كأن تكون حاجة نازلة، أو يكون غريباً منقطعاً، كابن السبيل، فحينئذٍ إن دفع له الزكاة على هذا الوجه فإنه يتحرى فيما في وسعه، كأن يسأله: متى قدمت، أو يسأله عن أمورٍ يظهر بها صدقه وكذبه.
فإذا فعل ذلك وتحرّى وبان خطؤه، فمذهب طائفة من العلماء: أنها تجزيه؛ لأنه اجتهد وتحرّى ولم يكلّفه الله إلا ما في وسعه.
ومذهب طائفة من العلماء: أنه يلزمه الضمان لأنه قصّر، ولو تحرى لتبيّن له الأمر، ومن قصّر يلزم بعاقبة تقصيره، والتفصيل في هذه المسألة قوي: فإن كان هناك ضعفاء غير هذا الفقير وتساهل في صرفها إلى هذا السائل المشكوك في أمره ضمن، وإلا قوي القول الذي يقول بالإسقاط وببراءة الذمة.
وقوله: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه).
أي: إن أعطاها لمن ظنه أهلاً فبان أنه غير أهل، أو أعطاها لغير المستأهل كأن يعطيها لغني، فلو أعطاها لإنسان يظنه غنياً ثم بان فقيراً فهل تجزي؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: تجزيه؛ لأنها وصلت للمستحق، وقال بعضهم: لا تجزيه، وهو الصحيح.
والسبب في هذا: أنه إذا أعطاها لغني فهو مستهتر خارجٌ عن قصد القربة والعبادة بالزكاة، فتخلّفت نية الزكاة المعتبرة، وحينئذٍ تكون هبة لمحض الفضل منه، ولا تكون زكاة شرعية، ويلزمه قضاؤها.
قال المصنف رحمه الله: [إلا لغني ظنه فقيراً].
والأصل في ذلك حديث الصحيح في قصة الرجل الذي تصدّق على الزانية وتصدق على الغني، فقيل له: (أما الزانية فلعلها أن تستعف، وأما الغني فلعله أن يتّعظ ويدَّكر)، قالوا: إن هذا يدل على أنه إذا تصدَّق على غني يظنه فقيراً أنه يجزيه.
وقال بعض العلماء: لا يجزيه؛ لأنه قصَّر، والحديث شرع من قبلنا وهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، والأصل في الشرع أنه يجب عليه أن يتحرى ويسأل، وعلى هذا فلا يجزيه، والحديث وارد في صدقة النافلة، ولا يعتبر دليلاً على جواز الاعتداد بها في صدقة الفريضة.

يتبع

ابوالوليد المسلم 04-08-2022 06:10 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (194)

صـــــ(1) إلى صــ(17)



فضل صدقة التطوع
قال المصنف رحمه الله: [وصدقة التطوُّع مستحبة].
التطوُّع: تفعُّلٌ من الطاعة، ووُصِف التطوع بكونه تطوعاً؛ لأن الإنسان يزداد تقرباً وتحبباً إلى الله عز وجل بفعله.
وكأنه بفعله لهذه الطاعة غير الواجبة ازداد امتثالاً للشرع؛ لأن الشرع أوجب عليه الفرائض ولم يوجب عليه النوافل، فكونه يفعل النوافل فيه دلالة على قربه من الله عز وجل وحبِّه لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صدقة؛ لأن صاحبها يصدق في حبه لله عز وجل، ويصدق في قصد التقرُّب إليه سبحانه وتعالى.
وقوله: (مستحبة) أي: مندوب إليها شرعاً، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والأصل في أنها مستحبة نصوص الكتاب والسنة.
أما نصوص الكتاب: فإن الله شرّف الصدقات النافلة وفضّلها وعظّم شأنها، حتى وصفها بوصف قلّ أن يصف به غيرها، فقال سبحانه: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة:245] ، فجاء بأمرين: أحدهما: أنه وصف الصدقة النافلة بأنها قرض، والله أغنى الأغنياء، ولا غنى فوق غنى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وصف كون المتصدق بأنه يُقرض الله عز وجل، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!).
وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يتأملون ألفاظ القرآن، وكلّما تأمّلت ألفاظه وتدبرتها وجدت فيها معاني عجيبة، تزيد من خير الإنسان وتزيد من طاعته لله عز وجل.
فكم من مرة يقرأ الإنسان قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة:245] ولا يتأمل، لكنك لو تأملت أن الله ملك الملوك وأغنى الأغنياء سبحانه وتعالى يقول: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة:245]، { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ } [التغابن:17] ، هذا كله يدل على فضل الإنفاق، فقال: ( يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيئاتكم ) أي: يستقرضكم وهو غنيٌ عنكم، فلا تنفعه طاعتكم ولا تضره معصيتكم، ولكنه يستقرضكم لأمرين: يرفع من درجاتكم بالحسنات، ويكفر من خطيئاتكم والسيئات، فقال رضي الله عنه: ( يا رسول الله! إن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، أشهدك أنها لله ورسوله ) .
كان الجيش بكامله والسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي بجرابٍ من تمر، فستمائة نخلة ليست بالهينة وليست باليسيرة، وقد تكون عناء حياته، وقد تكون رأس ماله.
فانطلق رضي الله عنه إلى حائطه، فوجد امرأته وهي تجمع التمر من تحت النخل هي وصبيانها، فقال رضي الله عنه يخاطبها: بيني، أي: اخرجي.
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتماد إلا رجاء الضعف في المعاد والبر لا شك فخير زاد قدّمه المرء إلى التنادي لكن من المرأة الصالحة المؤمنة، ما قالت له: ضيّعتنا، ولا قالت: أفقرتنا، ولا قالت: ما هذا الذي تفعله، ولا قالت: أمجنون أنت، بل قالت له: بشّرك الله بخير وفرح مثلُك أدى ما لديه ومنح قد متّع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها وخرجت من الحائط بلا تمرة واحدة.
كان الصحابة رضوان الله عليهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، يشترون مرضاة الله عز وجل، ولذلك فضّل الله الصدقة.
فخرج إلى الحائط، وقطّع عراجينه، وجاء إلى المسجد وعلّق فيه تلك العراجين، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما خرج نزل عليه جبريل من السماء بالوحي، فقال كلماته المشهورة عليه الصلاة والسلام: ( كم لـ أبي الدحداح من دار فياح وعذق رداح في الجنة ) أي: أن الله تقبل صدقته؛ لأنها خرجت بصدقٍ مع الله عز وجل.
فمن أفضل ما يتقرب الإنسان به إلى الله عز وجل الصدقات، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ غضب الرب، ونصّ العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا نزلت النكبة بالعبد شرع له أن يتصدّق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: ( فصلوا وادعوا وتصدقوا ) ؛ لأن الصدقة تطفئ غضب الله على العبد، والبلاء ينزل بسبب الغضب.
بل جعل الله عز وجل الصدقة سبباً في دفع بلاء الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عدي : ( فاتقوا النار ولو بشق تمرة ) ، فإن الله قد يحجب العبد عن النار بسبب نصف تمرة، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه دخل على عائشة فقصت له قصة المسكينة مع بنتيها: (دخلت امرأة مسكينة على عائشة فاستطعمتها فأعطتها ثلاث تمرات، فأخذت تمرة، وأعطت بنتها تمرة، وأعطت الثانية تمرة، فلما أرادت أن تطعم التمرة التي عندها، وقد أخرجت نواها وأرادت أن تأكلها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة ولم تمتنع منها، فلما أعطتها عجبت عائشة رضي الله عنها من كرمها وجودها وإيثارها ورحمتها ببنتها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: أوتعجبين من أمرها، إن الله حرّمها على النار بتمرتها تلك).
فالصدقة فيها فضلٌ عظيم وثواب كريم، ولذلك ندب الله عز وجل إليها ونص العلماء على استحبابها وتفضيلها، وأفضل ما تكون الصدقة إذا كانت للمحتاج المضطر إليها كالمديون والمعسر، والذي يشتد به الأمر في مخمصة ومجاعة.
وكذلك إذا كان بائس الحال في نفسه كاليتيم والأرملة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر )، وهذا يدل على فضل الإنفاق والصدقة.
وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الإنسان إذا تصدق أخلف الله عليه، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ) قال العلماء: هذه دعوة ملكٍ لا تُرد؛ لأن الله ما أنزله لكي يدعو هذه الدعوة إلا لتستجاب، قالوا: والخلف له يأتي على وجهين: إما خلف يعجله الله عز وجل له في الدنيا، وإما خلف يدّخره له في الآخرة، والخلف الذي في الدنيا يعجِّله لا ينقص مما عند الله في الآخرة.
فإذا كان كامل الإنفاق لوجه الله عز وجل ربما ادخر الله له الخلف في الآخرة، فيجده أوفر ما يكون، كما في صحيح مسلم قوله: ( إن الإنسان إذا تصدّق بالصدقة تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فيربيها له وينميها له كما يربي أحدكم فلوه )، ولذلك قالوا: إذا نويت الصدقة فلا تتأخر، لا تقل: إلى الصبح، لا تقل: إن شاء الله غداً يكون خيراً ؛ لأن كل لحظة ودقيقة تعتبر زائدة في ميزان حسناتك، وبمجرد أن تضعها في يد الفقير، فإنك في هذه الحالة تعتبر معاملاً لله عز وجل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا قمت بين يدي الله كان خلفك عند الله عز وجل، وعِوضك من الله سبحانه وتعالى، فهي مستحبة، وقد أجمع العلماء على استحبابها، وأنها من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
حكم تصدق الإنسان بماله كله
ولكن


السؤال
هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله، أم أن هذا الاستحباب مقصور على بعض المال دون بعض؟ قال بعض العلماء: لا يجوز أن يتصدّق بكل ماله؛ لأنه إذا تصدق بجميع المال ضيّع أهله وضيّع نفسه، واضطر إلى الدين، واضطر إلى ذل سؤال الناس، والحاجة إليهم، ولا ينبغي للمسلم أن يورد نفسه هذه الموارد.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يتصدّق بجميع ماله، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر أن يتصدق بجميع ماله.
والصحيح: أن الناس يختلفون في اليقين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه نصوص قبل فيها من بعض الصحابة كل المال، وجاءت نصوص لم يقبل فيها وردّهم إلى الأقل، فقبل من أبي بكر كل ماله كما في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الصدقة، قال عمر : وكان عندي في ذلك اليوم فضل مال، فقلت: كنت سابقاً أبا بكر فسأسبقه اليوم، فمضى إلى ماله وقسمه قسمين، فجاء بنصفه يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ قال: مثله -يعني: أن هذا نصف ما أملك- قال فلم يشعر إلا و أبو بكر قد جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله -يعني: ما تركت لهم من شيء- ، فعتِب عمر على نفسه وأنه لن ينافس أبا بكر بعدها في خير؛ لأنه يعلم أنه سيسبقه، بمعنى: أنه لا يعتقد أنه سيصل إلى منزلة أبي بكر فضلاً عن أن يفوقه.
فأوتي أبو بكر رضي الله عنه من اليقين ما لم يؤته أحد من هذه الأمة بعد نبيه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فضِّل رضي الله عنه وأرضاه على الأمة كلها، بعد نبيها، فهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ليقينه بالله عز وجل.
فإذا كان عند الإنسان يقين، وصبر وإيمان وتوكل على الله عز وجل، أن الله لن يخيِّبه، وأن الله سبحانه وتعالى سيربط على قلبه، وأن هذا المال حقيرٌ في عينه، وأنه يريد ما عند الله، ورأى نكبة أو فاجعة تستحق أن يضحي بكل ماله فضحّى؛ فهو على خير، وهذا يجوز، بل هذا من أفضل الطاعات.
ولذلك أُثر عن بعض الصحابة والتابعين منهم الحسن أنه خرج من ماله مرتين، أي: أنه تصدّق بجميع ماله صدقةً لله عز وجل، خاصة إذا كان عند الإنسان اليقين وقوة الإيمان بحيث لا يندم ولا يضجر.
أما إذا كان ضعيف الإيمان، أو يُخشى منه أن يندم، أو يُخشى منه سوء العاقبة بأن ينتكس والعياذ بالله فلا، ولذلك لما أراد سعد أن يوصي بماله كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، قال: ( يا رسول الله! إن لي مالاً وليس لي وارث إلا ابنة، أفأوصي بكل مالي؟ قال: لا، قال فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ).
فإذا كان الإنسان عنده ذرية ضعيفة ويخشى عليها المسألة والدين، فحينئذٍ يبقي لهم حقهم الذي فرضه الله عليه أن ينفقه عليهم، ثم بعد ذلك يتصدّق بما زاد عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بنفسك وبمن تعول ) ، ولما أخبره الرجل أن عنده ديناراً، قال: ( أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك فلما انتهى من الحقوق قال: عندي غيره، قال: شأنك به ) أي: أنفق به حيث شئت، وعلى هذا فلا يجوز أن يعرِّض نفسه لأمرٍ يضعف به يقينه إذا كان ضعيف اليقين.
ومن هنا خرّج العلماء قبول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصدقات دون بعضها؛ لأن الناس يتفاوتون في كمال الإيمان، وكمال اليقين في الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أنه إذا كمُل يقين الإنسان وعظُم إيمانه بالله جل وعلا فوالله لن يخيب، ولو أطبقت عليه السماوات والأرض وما فيها بالضيق والفقر والشدة لجعل الله له من بينها فرجاً ومخرجاً، والأمر كله مردّه إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، بمعنى: أن يكون عندك قوة إيمان أن الله لن يضيِّعك، وأن الله لن يخيِّبك، وقد رأينا هذا في مشايخنا وعلمائنا، أنه ربما ضاقت على الإنسان منهم الضائقة، ويأتيه المحتاج وليس عنده إلا قوته أو قوت أولاده، فيؤثر على نفسه وعلى ولده، ومع ذلك لا يلبث أن يأتيه الفرج من حيث لا يحتسب.
ولذلك لما بات أبو طلحة رضي الله عنه مع الضيف كما في الحديث الصحيح، قال لزوجته أم طلحة : (عللي الصبية حتى يناموا، وأطفئي السراج حتى يظن الضيف أننا نأكل، فأكل الضيف حتى شبع، وهو يظن أنهما يأكلان معه ولم يأكلا، فلمّا أصبحا أصبحا طاويين فقيرين، جائعين، ولكنهما قد غفر لهما ذنوبهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مضى أبو طلحة إليه، قال له: ( عجب الله من صنيعكما البارحة )، عجب الله من فوق سبع سماوات لهذا الإيثار، ولهذا الإيمان أكرمتما ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجب صفة من صفات الله جل جلاله.
وهنيئاً لمن عجب الله له، ولذلك عجب لشاب ليست له صبوة الحرام لعظيم ما قدم من العفة عن الحرام، وعجب لهذين الزوجين لأنهما آثرا على أنفسهما، ونزل قوله سبحانه وتعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر:9] ، فأثنى عليهما من فوق سبع سماوات، فدل على أن من يقدم ماله ويؤثر على أهله وولده من غير مضيعة أنه على خير وأنه على طاعة وبر، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
استحباب التصدق في رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وفي رمضان وأوقات الحاجات أفضل].
في رمضان لفضل الزمان، فأفضل الشهور طاعة شهر رمضان، وأفضل الأيام والليالي طاعة عشرٌ من ذي الحجة، وأفضل الليالي طاعة العشر الأواخر من رمضان، وهذا هو أعدل الأقوال في مسائل التفضيل الزمانية.
فأفضل الشهور شهر رمضان، والله اختاره من بين الشهور، وأفضل الليالي ليالي العشر، وأفضلها ليلة القدر، وأفضل الأيام العشر الأُول من ذي الحجة، وعلى هذا تستقيم النصوص، ويبقى لكل ذي فضلٍ فضله.
وأما داخل الأسبوع فأفضل أيامه يوم الجمعة، وحينئذٍ لا يكون هناك تعارض بين النصوص، فيكون التفضيل نسبياً، ففي الأيام نقول: عشرٌ من ذي الحجة أفضل الأيام، وفيها يتقرّب الإنسان بعموم الطاعات والقربات، وأفضل الليالي ليالي العشر، والفضيلة فيها بالإحياء، يعني بالقيام والصلاة، ففضلت عشرٌ من ذي الحجة على العشر الأواخر؛ لأن الطاعات فيها مطلقة، وأما بالنسبة للعشر الأواخر فاختُصّت بالقيام، ولذلك قال: ( من قام ليلة القدر ) فاختُصَّت بنوع من الفضائل، ولم يبق لها المزية المفضلة المطلقة كعشرٍ من ذي الحجة.
وأما بالنسبة لرمضان فهو أفضل الشهور، وأما أيام الأسبوع فأفضلها يوم الجمعة، وأفضل أيام السنة على الإطلاق يوم عرفة، وعلى هذا يكون التفضيل نسبياً كما ذكره المحققون من العلماء.
فأفضل ما يُتصدق فيه شهر رمضان، وقد نص العلماء على فضيلة التصدق فيه لما فيه من فضيلة الزمان، والدليل على تفضيل الصدقات في رمضان ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) يعني أنه لا يتوانى، ولا يتأخر في الصدقات والخير، وإذا أرسل الخير كان أكثر من الريح إذا أرسلت، وهذا يدل على سرعة مبادرته عليه الصلاة والسلام للخير، وعلى هذا قال رضي الله عنه: ( وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ).
وهذا يدل على أن مدارسة القرآن تزيد من الطاعة والبر والخير، ومن اشتكى ضعفاً في هدايته والتزامه فلينظر ما بينه وبين القرآن في ختمه وتعاهده، فإنه ما نقصت هداية الإنسان إلا وبينه وبين القرآن فجوة، حتى ولو كان يختم كل ثلاث ليال، فتجده قد تغيّر في خشوعه وتدبره للقرآن.
فـ ابن عباس ينبه على هذا المعنى، يقول: ( وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ) ، فدل هذا على فضيلة تخصيص رمضان بالصدقات، والصدقات هنا هي النافلة.
أما الفريضة وهي الزكاة ففيها تفصيل: إن كان الحول يتم قبل رمضان فيحرم التأخير إلى رمضان؛ لأن بعض الناس عن جهل منهم تكون الزكاة واجبة عليه في رجب فيؤخر إلى رمضان، وهذا لا يجوز، بل يأثم بكل ليلة وبكل ساعة؛ لأنه يجب عليه أن يبادر بدفع الزكاة إلى مستحقها، أما لو كانت صدقته واجبة عليه في ذي القعدة، فيعجل في رمضان خاصة لوجود المحتاجين والفقراء، فهذا أفضل، ويكون له فضل التعجيل، وفضل الزمان، أما أن يؤخر الصدقة المفروضة إلى رمضان، وقد وجبت عليه قبل رمضان فإنه لا يجوز.
حكم الصدقة بما يضر النفس ومن يعول
قال المصنف رحمه الله: [وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه، ويأثم بما ينقصها].
قوله رحمه الله: (تسن بالفاضل عن قوته) أي: بالشيء الزائد عن قوته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ابدأ بنفسك وبمن تعول ) ، فيبدأ الإنسان بنفسه وبقوته وقوت عياله، ثم بالنسبة لما وراء ذلك شأنه به.
وقوله: (ويأثم) أي: يأثم في حال تفضيل الفقير على أهله؛ لأن الله أوجب عليه نفقة أهله وولده، فلا يجوز أن يصرف ما هم بحاجة إليه إلى غيره، ولأنه قد وجب عليه أن ينفق على أهله وذوي قرابته الذين تلزمه نفقتهم، وأما بالنسبة للفقير، فلا يجب عليه أن يتصدق عليه أو ينفق عليه، فحينئذٍ لا يسعه أن يبدأ بالنافلة ويترك الفريضة.
ولكن استثني من ذلك من كان عنده يقين بالله عز وجل في حدودٍ لا تصل إلى حد الضرر بأهله وولده، كأن يصلوا إلى درجة المخمصة أو الضرورة، فهذا يُعتبر ممنوعاً، أما لو كان في الحدود المعقولة مع أنه يمكن أهله الصبر، أو نزلت فاقة وحاجة شديدة وأراد أن يفضلهم فلا حرج.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث ليال، ثم قال: ( كنت نهيتكم عن الادخار فادخروا ) ، وقال: ( إنما نهيتكم من أجل الدافة )، فجعل الدافة؛ وهم أقوام كانوا يأتون ضعافاً من خارج المدينة ويرتفقون في المدينة، فنهى الصحابة عن أن يدخروا فوق ثلاث ليال، وذلك حتى يواسوا إخوانهم الضعفاء، مع أن ادخار الثلاث فيه مزية بإنفاقه على الأولاد وعلى الأهل والتوسعة عليهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






ابوالوليد المسلم 04-08-2022 07:35 PM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (195)

صـــــ(1) إلى صــ(20)





شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [1]
صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وقد فرض لحكم جليلة، من أعظمها تقوى الله تعالى، وقد أوجب الله تعالى الصيام عند رؤية هلال رمضان، ومن المسائل المتعلقة بالرؤية: أنها تثبت بشهادة رجل مسلم عدل، ومنها: هل رؤية كل بلد خاصة به أم أنه يلزم الجميع أن يصوموا الرؤية أي بلد للهلال؟ اختلف فيها العلماء، كما هو مفصل في هذه المادة.
تعريف الصيام لغةً وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ كتاب الصيام ]: تقدم تعريف الكتاب وبيان اصطلاح العلماء رحمة الله عليهم فيه، ومعنى قوله: [ كتاب الصيام ] أنه سيذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعبادة الصيام؛ فإنه بعد أن فرغ من بيان أحكام الصلاة وأحكام الزكاة شرع في بيان أحكام الصيام.
وهذا الترتيب مستند إلى الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة قرينة الصلاة ثم أتبعها الصيام، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح .
تعريف الصيام لغة
الصيام في اللغة: أصله الإمساك، تقول: صام عن الكلام إذا أمسك عنه، وصام عن السير إذا وقف، وصام عن الأكل والشرب إذا أمسك عنهما.
فأصل الصيام في لغة العرب الإمساك، ومنه قوله تعالى: { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام، ويقولون: صامت الخيل.
إذا أمسكت عن الصهيل، ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُجم فقوله: (خيل صيام): أي: ممسكة عن الصهيل.
تعريف الصيام شرعاً
أما في الشريعة: فالمراد بالصيام: إمساك مخصوص من شخص مخصوص بنية مخصوصة.
فقولهم رحمة الله عليهم: الصيام إمساك مخصوص: وذلك لأن الإمساك يطلق ويقيد، فتقول: أمسك.
بالمعنى المطلق، فيشمل كل إمساك، سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير، فلما قلت: إمساك مخصوص، فهمنا أنه يتقيد بشيء معين، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل وعن الشرب وما في حكمهما، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج، والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) .
فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء، ولذلك قالوا: إمساك مخصوص.
ولم يقولوا: إمساك عن المفطرات لأنه قد يكون فيه إجمال، ومن هنا قالوا: إمساك مخصوص حتى يفهم من دلالة الخصوصية ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين.
من شخص مخصوص: وهو المكلف، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس رضي الله عنه حينما كانوا يلهونهم باللعب إلى منتصف النهار.
ولا يجب الصوم على الصغير؛ لأنه غير مكلف، وإنما يجب على المكلف، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك.
وقولهم: بنية مخصوصة، النية ترد بمعنيين: المعنى الأول: نية التعبد والتقرب لله عز وجل بإخلاص العمل، وهذا هو الذي يسميه العلماء: الإخلاص، والمقصود بذلك خلوص النية، بمعنى: ألا يقصد غير الله عز وجل.
والعلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: بنية مخصوصة.
لم يريدوا قضية الإخلاص؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة، فإنه لما قيل: تعريف الصيام في الشرع فهمنا شرعاً أن المراد بذلك التعبد، ولذلك لا يقصدون هذا المعنى الخاص.
وإنما يقصدون بقولهم: بنية مخصوصة.
أن تبين هل تنوي الفريضة، أو تنوي النافلة، وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة، فما هي هذه الفريضة؟ أهي صيام رمضان أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو كفارة جماع أو صيام نذر واجب.
ثم إذا كانت النية نافلة، فما هي هذه النافلة؟ أهي عاشوراء أو عرفة أو الإثنين والخميس وهكذا.
فمرادهم بقولهم: بنية مخصوصة.
أي: تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع؛ لأنك لما قلت: تعريف الصيام شرعاً، فالمراد بذلك: في حدود الشريعة؛ فإن الشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً، فالمطلق كالتقرب إلى الله عز وجل بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم، والنافلة المقيدة كعاشوراء والإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر.
والفريضة إما أن تكون فريضة محددة كصيام رمضان، وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها.
يقول العلماء: الصيام: إمساك مخصوص.
فلما قالوا: إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة، فخرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة، كأن يصوم الإنسان ويمتنع عن الأكل والشرب لتقوية بدنه، أو تخفيف وزنه، أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية، فإن هذا ليس بصيام شرعي، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله عز وجل.
لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده تبعاً فإن هذا لا يضر؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر، كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم، وقصد منها أن يطلب العلم ثم بعد طلبه للعلم قصد أن تكون هناك حوافز مادية أو تكون هناك رواتب، فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال:7] فقال العلماء: إذا دخلت النية تبعاً فإنها لا تؤثر.
فالمقصود: أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه.
الأدلة على وجوب صيام رمضان
فرض الله عز وجل الصيام بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن صيام رمضان فريضة من فرائض الله عز وجل.
أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة:183] و(كُتِبَ) بمعنى: فرض، وقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة:183] أي: أوجبناه وفرضناه.
وكذلك ثبتت السنة بفرضيته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ) فنص عليه الصلاة والسلام على اعتبار صيام رمضان ركناً من أركان الإسلام.
وفي مسند أحمد : ( أن رجلاً ثائر الرأس دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع لصوته دوي، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان ) فدلت هذه النصوص على أن صيام رمضان فريضة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وأنه من الفرائض التي أوجب الله عز وجل على عباده .
من حكم الصيام
قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق: ما جعل الله في الصيام من معاني الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً، فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر.
فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها: أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: ( كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به ) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي: أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل.
وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس.
فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه، وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر، فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه.
كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها، ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج.
فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنزجر.
ولذلك الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره، وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات:40-41] .
القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الفرقان:43] فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام هذا لا يجوز.
يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه.
ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له، فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته.
فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب والجماع الحلال -فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته- كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام.
فإذا مكث ثلاثين يوماً وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله.
وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء.
فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق:6-7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم.
إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة.
فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183] أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة:197] .
فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما: الأول: تحصيل فرائض الله.
الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى .
من أحكام الصيام المنسوخة
كان الإنسان يصوم -في بداية فرضية الصيام- من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غابت الشمس أفطر، فإذا نام ولو بعد مغيب الشمس بلحظة واحدة حرم عليه الأكل والشرب إلى اليوم الثاني، فكانت هذه هي فرضية الصيام في أول الأمر، ثم إن الله خفف ذلك، فقال: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة:187] إلى قوله سبحانه وتعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187].
والسبب في ذلك: قصة الصحابي الذي أغمي عليه حينما جاء من عمله وكان في فلاحته وزراعته، فلما جاء آخر النهار سأل امرأته الطعام، فذهبت لتحضر الطعام له فأصابه غشي من التعب والعناء فنام، فجاءت فقالت له: ويلك! أنمت؟ فلما أصبح في اليوم الثاني أصبح مجهداً منهكاً فغشي عليه في منتصف النهار، فخفف الله عز وجل عن عباده، وهذا من نسخ الأثقل بالأخف.
فخفف الله عز وجل الفرضية وجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس، وهذا هو الذي استقر عليه حكم الله عز وجل لهذه الأمة إلى قيام الساعة.
كان الصيام في الأمم الماضية بالإمساك عن الكلام، كما قالت مريم عليها السلام: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26] واختلف العلماء في قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [البقرة:183]، فقال بعض العلماء: الشبه في قوله تعالى: { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [البقرة:183] من حيث الفرضية، أي: ألزمناكم بالصيام كما ألزمنا من قبلكم، وإن كان هناك فرق بينكم وبينهم في الصفة، وقال بعض العلماء: بل إن الفرضية في أولها كانت كفرضية أهل الكتاب، ثم نسخت بعد ذلك.
وجوب صوم رمضان برؤية هلاله
قوله: [ يجب صوم رمضان برؤية هلاله ]: هذا الوجوب الذي نبه عليه المصنف على سبيل الفرضية هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإذا ترك شخص صيام رمضان عامداً متعمداً فأفطر -ولو يوماً واحداً- لم يقضه ولو صام الدهر.
بمعنى: أن الله لا يعطيه ثواب ذلك اليوم ولو صام الدهر كاملاً، لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل فرض علينا صيام الشهر كاملاً، ولا يسقط هذا الشهر إلا بدليل، وأما حديث: ( من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ) فقد خرج مخرج الوعيد، وهو المخرج الذي يسمى بالمبالغة، وله نظائر، كقوله عليه الصلاة والسلام: ( الحج عرفة ) فليس المراد به التحديد والقصر.
بمعنى أن الحج فقط في عرفة وحدها، إنما هو على سبيل المبالغة وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لم يقضه صيام الدهر ) معناه: أن من أفطر عامداً متعمداً لا ينال فضل صيام ذلك اليوم مهما صام، بخلاف من أفطر لعذر؛ فإنه إذا صام يوماً بدلاً عن هذا اليوم الذي أفطر فيه فكأنه صام رمضان نفسه؛ وهذا لوجود العذر، فإذا كان بدون عذر فإن الله لا يبلغه مرتبة من كان معذوراً.
أما إسقاط الفرض عنه فإنه قول ضعيف ومخالف للأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أن الحقوق واجبة، وأن حقوق الله دين على المكلف، كما في الحديث الصحيح أنه قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) فهذا نص صحيح صريح على أن العبد إذا أخل بواجب فإن عليه ديناً يجب أن يقضيه، وأن يقوم به على وجهه، ولما كان الحديث محتملاً بقينا على الأصل من وجوب مطالبته بصيام رمضان.
وقوله: (رمضان) اختلف العلماء فيه، فقال بعض العلماء: هو مأخوذ من الرمضاء، والمراد بذلك شدة الحر، والسبب في هذا: أن العرب كانت تسمي هذا الشهر في الجاهلية نائقاً يقولون: شهر نائق، وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية، ثم لما فرض الله صيام رمضان وافقت السنة الثانية سنة حر وشدة، فسموه رمضان من هذا.
القول الثاني: أنه سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، وفي ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ) بمعنى: يحرقها ويذهبها، ولكنه حديث ضعيف، بل فيه راوٍ كذاب، ولذلك لا يعول عليه.
القول الثالث: إن اسم رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، وفيه حديث ضعيف.
وأصح هذه الأقوال القول الأول: أنه سمي رمضان من الرمضاء وهي شدة الحر؛ حيث إنه حينما فرضه الله على عباده وافق زماناً شديد الحر.
وفي قوله رحمه الله: [ يجب صوم رمضان ]: للعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يجوز أن تقول: دخل رمضان وخرج رمضان وانتصف رمضان، واستدلوا بالحديث الذي تقدمت الإشارة إليه: ( لا تقولوا: جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله ) وهذا حديث ضعيف.
والصحيح أنه يجوز أن يقول: جاء رمضان ومضى رمضان وانتصف رمضان؛ لأن السُّنة دلت على جواز ذلك، وقد ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والدليل على جواز ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ) .
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، وفي الصحيح قوله أيضاً: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) فلأجل هذا دلت النصوص على جواز قولك: جاء رمضان، وخرج رمضان، وانتصف رمضان، ولا حرج عليك في ذلك، ولكن بعض العلماء يقول: الأفضل أن يقول: شهر رمضان.
فيضيف لفظ الشهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك فقال: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [البقرة:185] فقالوا: الأفضل أن يضيف كلمة الشهر، وهذا على سبيل الكمال والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.
أحكام رؤية هلال رمضان
قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله].
(الباء) سببية، أي: بسبب رؤية هلاله.
والشهور تنقسم إلى شهور شمسية، وشهور قمرية، الشهور القمرية اثنا عشر شهراً، وهي السنة القمرية، وهذه الشهور هي التي رتب الشرع عليها الأحكام، ولم يرتبها على الشهور الشمسية، فالشريعة ترتب أحكامها على الشهور القمرية.
فمثلاً: في عدة المرأة الآيسة من الحيض؛ إذا كانت ثلاثة أشهر فإنها تعتد بالشهور القمرية، ولا تعتد بالإجماع بالشهور الشمسية، وهكذا بالنسبة للمرأة المحتدة في الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ فإنها تحد بالشهور القمرية ولا تحد بالشهور الشمسية، وهكذا صيام شهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان، تكون بالشهور القمرية، ولا تكون بالشهور الشمسية.
والشهور القمرية تنقسم إلى شهور كاملة، وهي التي استتمت العدد ثلاثين يوماً.
وشهور ناقصة وهي التي تكون رئي الهلال دالة على نقصانها، فتكون تسعة وعشرين يوماً، فالفرق بينهما يوم واحد، وهو الذي يسمى بيوم الشك.
والسبب في ذلك: أن القمر له منازل ودرجات، فإذا غابت الشمس وسقطت قبل القمر، فمعنى ذلك: أن الهلال في هذه الليلة قد دخل الشهر التالي، وبناءً على ذلك تكون منزلته من منزلة الشهر التالي، أما لو سقط قبل الشمس، فمعنى ذلك: أنه قد بقيت له درجة، وحينئذٍ يكون الشهر كاملاً، وبناءً على ذلك: لا يمكن أن يحكم بدخول الشهر إلا بأحد أمرين في الشهور القمرية: الأمر الأول: كمال العدد للشهر السابق، فتتم له ثلاثون يوماً.
الأمر الثاني: أن يرى الهلال ليلة الثلاثين، فتكون رؤيته دليلاً على أن الشهر الماضي ناقص، وأن عدة أيامه تسع وعشرون يوماً.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس:39] فهو على منازل ودرجات، فإذا سقطت الشمس قبله وبقي فمعنى ذلك: أن الشهر كامل وأن هذه الليلة للشهر التالي.
لكن لو سقط قبل الشمس فمعنى ذلك: أنه قد بقي له درجة فحينئذٍ لابد من الليلة الثلاثين التي تكون فيها درجة القمر كاملة.
فإذا وجدت هاتان العلامتان حُكم بما يترتب عليهما، من القول بكمال الشهر، وحينئذٍ يحكم بوجوب صيام رمضان، فإذا رُئي الهلال ليلة الثلاثين فحينئذٍ يثبت عندنا أن شهر رمضان قد دخل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) فاللام: في قوله صلى الله عليه وسلم (لرؤيته) تعليلية أي: بسبب رؤيته، فجعل الرؤية سبباً في وجوب الصوم، فمن رأى الهلال ليلة الثلاثين فإنه حينئذٍ يثبت دخول رمضان برؤيته على تفصيل عند العلماء؛ هل يشترط العدل أو لا يشترط.

يتبع


الساعة الآن : 08:41 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 978.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 976.30 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.18%)]