رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 316 الى صــ 325 الحلقة (441) "صفحة رقم 316" فلا شفاه الله ) وأنكر بعض المتأولين أن تكون من للتبعيض لأنه يحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه بن عطية : وليس يلزمه هذا بل يصح أن تكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض فكأنه قال : وننزل من القرآن شيئا شفاء ما فيه كله شفاء الثانية اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين : احدهما أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى الثاني شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه وقد روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال : بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سرية ثلاثين راكبا قال : فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا قال : فلدغ سيد الحي فأتونا فقالوا : فيكم أحد يرقي من العقرب في رواية بن قتة : إن الملك يموت قال : قلت أنا نعم ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة قال : فقرأت عليه الحمد لله رب العالمين سبع مرات فبرأ في رواية سليمان بن قتة عن أبي سعيد : فأفاق وبرأ فبعث إلينا بالنزل وبعث إلينا بالشاء فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم حتى أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته الخبر فقال : ) وما يدريك أنها رقية ) قلت : يا رسول الله شيء ألقي في روعي قال : ) كلوا وأطعمونا من الغنم ) خرجه في كتاب السنن وخرج في [ كتاب المديح ] من حديث السري بن يحيى قال : حدثني المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن الحسن عن أبي أمامة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) ينفع باذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب بزعفران أو بمشق يعني المغرة أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر السامة والغامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبي فروة وما ولد ) كذا قال ولم يقل من شر أبي قترة العين اللامة : التي تصيب بسوء تقول : أعيذه من كل هامة لامة وأما قوله "صفحة رقم 317" أعيذه من حادثات اللمة فيقول : هو الدهر ويقال الشدة والسامة : الخاصة يقال : كيف السامة والعامة والسامة السم ومن أبي فروة وما ولد وقال : ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا : وصب بأرضنا فقال : خذوا تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم أو قال : نوصيكم رقية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا ) ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع آيات من أول البقرة والآية التي فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها وخواتيم سورة البقرة من موضع لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخرها وعشرا من أول آل عمران وعشرا من آخرها وأول آية من النساء وأول آية من المائدة وأول آية من الأنعام وأول آية من الأعراف والآية التي في الأعراف إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض حتى تختم الآية والآية التي في يونس من موضع قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين والآية التي في طه وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى طه وعشرا من أول الصافات وقل هو الله أحد الإخلاص والمعوذتين تكتب في إناء نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجي به ثم يصلي ركعتين ثم يستشفي الله عز وجل يفعل ذلك ثلاثة أيام قدر ما يكتب في كل يوم كتابا في رواية : ومن شر أبي قترة وما ولد وقال : ) فامسحوا نواصيكم ) ولم يشك وروى البخاري عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها فسألت الزهري كيف كان ينفث قال : كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه وروى مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا اشتكى قرأ على نفسه "صفحة رقم 318" المعوذتين وتفل أو نفث قال أبو بكر بن الأنباري : قال اللغويون تفسير نفث نفخ نفخا ليس معه ريق ومعنى تفل نفخ نفخا معه ريق قال الشاعر : فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود وقال ذو الرمة : ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه متى يحس منه مائح القوم يتفل أراد ينفخ بريق وسيأتي ما للعلماء في النفث في سورة الفلق إن شاء الله تعالى الثالثة روى بن مسعود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكره الرقى إلا بالمعوذات قال الطبري : وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين إذ في نقلته من لا يعرف ولو كان صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا لقوله عليه السلام في الفاتحة ) ما أدراك أنها رقية ) وإذا جاز الرقى بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن وروي عنه عليه السلام أنه قال : ) شفاء أمتي في ثلاث آية من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم ) وقال رجاء الغنوي : ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاء له الرابعة واختلف العلماء في النشرة وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه فأجازها سعيد بن المسيب قيل له : الرجل يؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر قال : لا بأس به وما ينفع لم ينه عنه ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القرآن ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض وقال المازري أبو عبد الله : النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تحل ومنعها الحسن وإبراهيم النخعي قال النخعي : أخاف أن يصيبه بلاء وكأنه ذهب إلى أنه ما يجيء به القرآن فهو "صفحة رقم 319" إلى أن يعقب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء وقال الحسن : سألت أنسا فقال : ذكروا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها من الشيطان وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن النشرة فقال : ) من عمل الشيطان ) قال بن عبد البر وهذه آثار لينة ولها وجوه محتمله وقد قيل : إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام وعن المداواة المعروفة والنشرة من جنس الطب فهي غسالة شيء له فضل فهي كوضوء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) قلت قد : ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه الخامسة قال مالك : لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين وعلى هذا القول جماعة أهل العلم لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى فهو كالرقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها وقد روى عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إذا فزع أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون ) وكان عبد الله يعلمها ولده من أدرك منهم ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه فإن قيل : فقد روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من علق شيئا وكل إليه ) ورأى بن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا شديدا فقطعها وقال : إن آل بن مسعود لأغنياء عن الشرك ثم قال : إن التمائم والرقى والتولة من الشرك قيل : ما التولة قال : ما تحببت به لزوجها وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ) من علق تميمة فلا أتم الله له "صفحة رقم 320" ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبا ) قال الخليل بن أحمد : التميمة قلادة فيها عوذ والودعة خرز وقال أبو عمر : التميمة في كلام العرب القلادة ومعناه عند أهل العلم ما علق في الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها أن تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل فلا أتم الله عليه صحته وعافيته ومن تعلق ودعة وهي مثلها في المعنى فلا ودع الله له أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية والله أعلم وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل وهو المعافي والمبتلي لا شريك له فنهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم وعن عائشة قالت : ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى وما روي عن بن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون شركا وقوله عليه السلام : ) من علق شيئا وكل إليه ) فمن علق القرآن ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن وسئل بن المسيب عن التعويذ أيعلق قال : إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به وهذا على أن المكتوب قرآن وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشيء من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط ورخص أبو جعفر محمد بن علي في التعويذ يعلق على الصبيان وكان بن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان السادسة قوله تعالى : ) ورحمة للمؤمنين ( تفريح الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته كما روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) قال هذا حديث حسن صحيح غريب وقد تقدم ) ولايزيد الظالمين إلا خسارا ( لتكذيبهم قال "صفحة رقم 321" قتادة : ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثم قرأ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الآية ونظير هذه الآية قوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وقيل : شفاء في الفرائض والأحكام لما فيه من البيان الإسراء : ) 83 ( وإذا أنعمنا على . . . . . ) الاسراء 83 ( قوله تعالى : ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ( أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ومعنى نأى بجانبه أي تكبر وتباعد وناء مقلوب منه والمعنى : بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل يقال : نأى الشيء أي بعد ونأيته ونأيت عنه بمعنى أي بعدت وأنأيته فانتأى أي أبعدته فبعد وتناءوا تباعدوا والمنتأى : الموضع البعيد قال النابغة : فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقرأ بن عامر في رواية بن ذكوان ناء مثل باع الهمزة مؤخرة وهو على طريقة القلب من نأى كما يقال : راء ورأى وقيل : هو من النوء وهو النهوض والقيام وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء وهو من الأضداد وقرىء ونئي بفتح النون وكسر الهمزة والعامة نأى في وزن رأى ) وإذا مسه الشر كان يؤسا ( أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط لأنه لا يثق بفضل الله تعالى الإسراء : ) 84 ( قل كل يعمل . . . . . ) الاسراء 84 ( "صفحة رقم 322" قوله تعالى : ) قل كل يعمل على شاكلته ( قال بن عباس : ناحيته وقاله الضحاك ومجاهد : طبيعته وعنه : حدته بن زيد : على دينه الحسن وقتادة : نيته مقاتل : جبلته الفراء : على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه وقيل : قل كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده وقيل : هو مأخوذ من الشكل يقال : لست على شكلي ولا شاكلتي قال الشاعر : كل امرئ يشبهه فعله ما يفعل المرء فهو أهله فالشكل هو المثل والنظير والضرب كقوله تعالى : وآخر من شكله أزواج والشكل [ بكسر الشين ] : الهيئة يقال : جارية حسنة الشكل وهذه الأقوال كلها متقاربة والمعنى : أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن والآية والتي قبلها نزلتا في الوليد بن المغيرة ذكره المهدوي ) فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم وقيل : أهدى سبيلا أي أسرع قبولا وقيل : أحسن دينا وحكي أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى : قل كل يعمل على شاكلته فإنه لايشاكل بالعبد إلا العصيان ولايشاكل بالرب إلا الغفران وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول قدم غفران الذنوب على قبول التوبة وفي هذا إشارة للمؤمنين وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى : نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "صفحة رقم 323" قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم قلت : وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون الإسراء : ) 85 ( ويسألونك عن الروح . . . . . ) الاسراء 85 ( روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله قال : بينا أنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حرث وهو متكىء على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح فقال : ما رابكم إليه وقال بعضهم : لا يستقبلكم بشيء تكرهونه فقالوا : سلوه فسألوه عن الروح فأمسك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يرد عليهم شيئا فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال : ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا لفظ البخاري وفي مسلم : فأسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه : وما أوتوا وقد اختلف الناس في الروح المسئول عنه أي الروح هو فقيل : هو جبريل قاله قتادة قال : وكان بن عباس يكتمه وقيل هو عيسى وقيل القرآن على ما يأتي بيانه في آخر الشورى وقال علي بن أبي طالب : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان في كل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة ذكره الطبري قال بن عطية : وما أظن القول يصح عن علي رضي الله عنه قلت : أسند البيهقي أخبرنا أبو زكريا عن أبي إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن "صفحة رقم 324" عباس في قوله : ويسألونك عن الروح يقول : الروح ملك وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثني أبو هران [ بكسر الهاء ] يزيد بن سمرة عمن حدثه عن علي بن أبي طالب أنه قال في قوله تعالى : ويسئلونك عن الروح قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه الحديث بلفظه ومعناه وروى عطاء عن بن عباس قال : الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله إلى يوم القيامة ذكره النحاس وعنه : جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره الغزنوي وقال الخطابي : وقال بعضهم هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي يكون به حياة الجسد وقال أهل النظر منهم : إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل وقال أبو صالح : الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا ببني آدم لهم أيد وأرجل والصحيح الإبهام لقوله : قل الروح من أمر ربي أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى مبهما له وتاركا تفصيله ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز قوله تعالى : ) وما أوتيتم من العلمإلا قليلا ( اختلف فيمن خوطب بذلك فقالت فرقة : السائلون فقط وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم وعلى هذا هي قراءة بن مسعود وما اوتوا ورواها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت فرقة : المراد العالم كله وهو الصحيح وعليه قراءة الجمهور وما أوتيتم وقد قالت اليهود للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فعارضهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعلم الله فغلبوا وقد نص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله في بعض الأحاديث : ) كلا ) يعني أن المراد بما أوتيتم جميع "صفحة رقم 325" العالم وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أم قومك فقال : ) كلا ) وفي هذا المعنى نزلت ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام حكى ذلك الطبري رحمه الله وقد قيل : إن السائلين عن الروح هم قريش قالت لهم اليهود : سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين على ما يأتي وقال في الروح : قل الروح من أمر ربي أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا الله ذكره المهدوي وغيره من المفسرين عن بن عباس الإسراء : ) 86 ( ولئن شئنا لنذهبن . . . . . ) الاسراء 86 : 87 ( قوله تعالى : ) ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ( يعني القرآن أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق ويتصل هذا بقوله : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه ) ثم لاتجد لك به علينا وكيلا ( أي ناصرا يرده عليك ) إلا رحمة من ربك ( يعني لكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك فهو استثناء ليس من الأول وقيل : إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به ) إن فضله كان عليك كبيرا ( إذ جعلك سيد ولد آدم وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز وقال عبد الله بن مسعود : أول ماتفقدون من دينكم الأمانة وآخر ماتفقدون الصلاة وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم تصبحون يوما وما معكم منه شيءفقال رجل : كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد ثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة قال : يسرى به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب فتصبح الناس كالبهائم ثم قرأ عبد الله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك الآية أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه قال : أخبرنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع عن https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 326 الى صــ 335 الحلقة (442) "صفحة رقم 326" شداد بن معقل قال قال عبد الله يعني بن مسعود : إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم قال : قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا قال : يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع مافي القلوب ويذهب مافي المصاحف ويصبح الناس منه فقراء ثم قرأ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك وهذا إسناد صحيح وعن بن عمر : لاتقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله مابالك فيقول : يا رب منك خرجت وإليك أعود أتلى فلا يعمل بي أتلى ولايعمل بي قلت : قد جاء معنى هذا مرفوعا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة قال حذيفة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى مايدري ماصيام ولا صلاة ولانسك ولاصدقة فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية ولاتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله وهم لايدرون ما صلاة ولاصيام ولا نسك ولا صدقة ) قال له صلة : ماتغني عنهم لا إله إلا الله وهم لايدرون ماصلاة ولاصيام ولانسك ولاصدقة فأعرض عنه حذيفة ثم رددها ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه حذيفة فقال : يا صلة تنجيهم من النار ثلاثا خرجه بن ماجة في السنن وقال عبد الله بن عمر : خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو معصوب الرأس من وجع فضحك فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ) أيها الناس ماهذه الكتب التي تكتبون أكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا ولا قلبا إلا أخذ منه ) قالوا : يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ قال : ) من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله ) ذكره الثعلبي والغزنوي وغيرهما في التفسير الإسراء : ) 88 ( قل لئن اجتمعت . . . . . ) الاسراء 88 ( "صفحة رقم 327" أي عوينا ونصيرا مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه نزلت حين قال الكفار : لو نشاء لقلنا مثل هذا فأكذبهم الله تعالى وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول الكتاب والحمد لله ولا يأتون ( جواب القسم في لئن وقد يجزم على إرادة الشرط قال الشاعر : لئن كان ما حدثته اليوم صادقا أقم في نهار القيظ للشمس باديا الإسراء : ) 89 ( ولقد صرفنا للناس . . . . . ) الاسراء 89 ( قوله تعالى : ) ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ( أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين والجنة والنار والقيامة ) فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( يريد أهل مكة بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق قال المهدوي : ولا حجة للقدري في قولهم : لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض عنه وطبعه على قلبه فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل الإسراء : ) 90 ( وقالوا لن نؤمن . . . . . ) الاسراء 90 : 93 ( "صفحة رقم 328" قوله تعالى : ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأبي جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وأبي البختري والوليد بن المغيرة وغيرهم وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة اجتمعوا فيما ذكر بن إسحاق وغيره بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فآتهم فجاءهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا له : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك أو كما قالوا له فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ) أو كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير "صفحة رقم 329" عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله تعالى وأنه بعثك رسولا كما تقول فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه : ) ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ) قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك واسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا أو كما قال فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ) قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل قال فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل ) قالوا : يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل من اليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو بن عمته وهو لعاتكة بنت عبد المطلب فقال له : يا محمد عرض عليك "صفحة رقم 330" قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل أو كما قال له فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ثم انصرف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه كله لفظ بن إسحاق وذكر الواحدي عن عكرمة عن بن عباس : فأنزل الله تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) ينبوعا ( يعني العيون عن مجاهد وهي يفعول من نبع ينبع وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر لنا مخففة واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد ولم يختلفوا في تفجر الأنهار أنه مشدد قال أبو عبيد : والأولى مثلها قال أبو حاتم ليست مثلها لأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد والثانية بعدها الأنهار وهي جمع والتشديد يدل على التكثير أجيب بأن ينبوعا وإن كان واحدا فالمراد به الجمع كما قال مجاهد الينبوع عين الماء والجمع الينابيع وقرأ قتادة أو يكون لك جنة ) خلالها ( أي وسطها ) أو تسقط السماء ( قراءة العامة وقرأ مجاهد أو يسقط السماء على إسناد الفعل إلى السماء ) كسفا ( قطعا عن بن عباس وغيره والكسف [ بفتح السين ] جمع كسفة وهي قراءة نافع وبن عامر وعاصم الباقون كسفا بإسكان السين قال الأخفش : من قرأ كسفا من السماء جعله واحدا ومن قرأ كسفا جعله جمعا قال المهدوي : ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا من كسفت الشيء إذا غطيته فكأنهم قالوا : أسقطها طبقا علينا وقال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء يقال : أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسف وكسف ويقال : الكسف والكسفة واحد "صفحة رقم 331" ) أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( أي معاينة عن قتادة وبن جريج وقال الضحاك وبن عباس : كفيلا قال مقاتل : شهيدا مجاهد : هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة وقيل : ضمناء يضمنون لنا إتيانك به ) أو يكون لك بيت من زخرف ( أي من ذهب عن بن عباس وغيره وأصله الزينة والمزخرف المزين وزخارف الماء طرائقه وقال مجاهد : كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة بن مسعود بيت من ذهب أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى ) أو ترقى في السماء ( أي تصعد يقال : رقيت في السلم أرقى رقيا ورقيا إذا صعدت وارتقيت مثله ) ولن نؤمن لرقيك ( أي من أجل رقيك وهو مصدر نحو مضى يمضي مضيا وهوى يهوي هويا كذلك رقى يرقى رقيا ) حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ( أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا كما قال تعالى : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) قل سبحان ربي ( وقرأ أهل مكة والشام قال سبحان ربي يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل وقيل : هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم الباقون قل على الأمر أي قل لهم يا محمد ) هل كنت ( أي ما أنا ) إلا بشرا رسولا ( أتبع ما يوحى إلي من ربي ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين : ليس هذا جوابا مقنعا وغلطوا لأنه أجابهم فقال : إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني وليس لي أن أتخير على ربي ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه وسبيلي سبيلهم وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل ولوجب لكل إنسان أن يقول : لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس وإنما التدبير إلى الله تعالى "صفحة رقم 332" الإسراء : ) 94 ( وما منع الناس . . . . . ) الاسراء 94 ( قوله تعالى : ) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ( يعني الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه ) إلا أن قالوا ( جهلا منهم ) أبعث الله بشرا رسولا ( أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر فبين الله تعالى فرط عنادهم لأنهم قالوا : أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد وغفلوا عن المعجزة ف أن الأولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض وأن الثانية في محل رفع ب منع أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشرا رسولا الإسراء : ) 95 ( قل لو كان . . . . . ) الاسراء 95 ( أعلم الله تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة لأنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها وإنما أقدر الأنبياء على ذلك وخلق فيهم ما يقدرون به ليكون ذلك آية لهم ومعجزة وقد تقدم في الأنعام نظير هذه الآية وهو قوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وقد تقدم الكلام فيه الإسراء : ) 96 ( قل كفى بالله . . . . . ) الاسراء 96 ( يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله هل كنت إلا بشرا رسولا : فمن يشهد لك أنك رسول الله فنزل قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا "صفحة رقم 333" الإسراء : ) 97 ( ومن يهد الله . . . . . ) الاسراء 97 ( قوله تعالى : ) ومن يهد الله فهو المهتدي ( أي لو هداهم الله لاهتدوا ) ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ( أي لا يهديهم أحد ) ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ( فيه وجهان : أحدهما أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم من قول العرب : قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا الثاني أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه وهذا هو الصحيح لحديث أنس أن رجلا قال : يا رسول الله الذين يحشرون على وجوههم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ) : قال قتادة حين بلغه : بلى وعزة ربنا أخرجه البخاري ومسلم وحسبك ) عميا وبكما وصما ( قال بن عباس والحسن : أي عمي عما يسرهم بكم عن التكلم بحجة صم عما ينفعهم وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه وقيل : إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها ليكون ذلك زيادة في عذابهم ثم يخلق ذلك لهم في النار فأبصروا لقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها وتكلموا لقوله تعالى : دعوا هنالك ثبورا وسمعوا لقوله تعالى : سمعوا لها تغيظا وزفيرا وقال مقاتل بن سليمان : إذا قيل لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون المؤمنون صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون وقيل : عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها وانقطع كلامهم حين قيل لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا ) مأواهم جهنم ( أي مستقرهم ومقامهم ) كلما خبت ( أي سكنت عن الضحاك "صفحة رقم 334" وغيره مجاهد طفئت يقال : خبت النار تخبو خبوا أي طفئت وأخبيتها أنا ) زدناهم سعيرا ( أي نارا تتلهب وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم وقيل : إذا أرادت أن تخبو كقوله : وإذا قرأت القرآن الإسراء : ) 98 ( ذلك جزاؤهم بأنهم . . . . . ) الاسراء 98 : 99 ( قوله تعالى : ) ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا ( أي ذلك العذاب جزاء كفرهم ) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا ( أي ترابا ) أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال : ) أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ( قيل : في الكلام تقديم وتأخير أي أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم والأجل : مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد وقيل : هو جواب قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا وقيل : هو يوم القيامة ) فأبى الظالمون إلا كفورا ( أي المشركون إلا جحودا بذلك الأجل وبآيات الله وقيل : ذلك الأجل هو وقت البعث ولا ينبغي أن يشك فيه الإسراء : ) 100 ( قل لو أنتم . . . . . ) الاسراء 100 ( "صفحة رقم 335" قوله تعالى : ) قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ( أي خزائن الأرزاق وقيل : خزائن النعم وهذا أعم ) إذا لأمستكم خشية الإنفاق ( من البخل وهو جواب قولهم : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا حتى نتوسع في المعيشة أي لو توسعتم لبخلتم أيضا وقيل : المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى لأمرين : أحدهما أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته الثاني أنه يخاف الفقر ويخشى العدم والله تعالى يتعالى في وجوده عن هاتين الحالتين والإنفاق في هذه الآية بمعنى الفقر قاله بن عباس وقتادة وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله ) وكان الإنسان قتورا ( أي بخيلا مضيقا يقال : قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة وكذلك التقتير والإقتار ثلاث لغات واختلف في هذه الآية على قولين : أحدهما أنها نزلت في المشركين خاصة قاله الحسن والثاني أنها عامة وهو قول الجمهور وذكره الماوردي الإسراء : ) 101 ( ولقد آتينا موسى . . . . . ) الاسراء 101 ( قوله تعالى : ) ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ( اختلف في هذه الآيات فقيل : هي بمعنى آيات الكتاب كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله فقال : لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين فأتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسألاه عن قول الله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف شك شعبة وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت ) فقبلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبي قال https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 336 الى صــ 345 الحلقة (443) "صفحة رقم 336" ) فما يمنعكما أن تسلما ) قالا : إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وقد مضى في البقرة وقيل : الآيات بمعنى المعجزات والدلالات قال بن عباس والضحاك : الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وقال الحسن والشعبي : الخمس المذكورة في الأعراف يعنيان الطوفان وما عطف عليه واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات وروي نحوه عن الحسن إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون وعن مالك كذلك إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات : البحر والجبل وقال محمد بن كعب : هي الخمس التي في الأعراف والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله ) فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ( أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات حسبما تقدم بيانه في يونس وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ( أي ساحرا بغرائب أفعالك قاله الفراء وأبو عبيدة فوضع المفعول موضع الفاعل كما تقول : هذا مشئوم وميمون أي شائم ويامن وقيل مخدوعا وقيل مغلوبا قاله مقاتل وقيل غير هذا وقد تقدم وعن بن عباس وأبي نهيك أنهما قرأا فسأل بني إسرائيل على الخبر أي سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه الإسراء : ) 102 ( قال لقد علمت . . . . . ) الاسراء 102 ( قوله تعالى : ) قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء ( يعني الآيات التسع وأنزل بمعنى أوجد ) إلا رب السماوات والأرض بصائر ( أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته "صفحة رقم 337" وقراءة العامة علمت بفتح التاء خطابا لفرعون وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي رضي الله عنه وقال : والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم فبلغت بن عباس فقال : إنها لقد علمت واحتج بقوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ونسب فرعون إلى العناد وقال أبو عبيد : والمأخوذ به عندنا فتح التاء وهو الأصح للمعنى الذي احتج به بن عباس ولأن موسى لا يحتج بقوله : علمت أنا وهو الرسول الداعي ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن علي لكانت حجة ولكن لا تثبت عنه إنما هي عن كلثوم المرادي وهو مجهول لا يعرف ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي وقيل : إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات لأن فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعل الأجسام ويملك السماوات والأرض وقال مجاهد : دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان فرأى فرعون جانبي البيت بين فقميها ففزع وأحدث في قطيفته ) وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ( الظن هنا بمعنى التحقيق والثبور : الهلاك والخسران أيضا قال الكميت : ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها إلى اليمن وقيل : ملعونا رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن بن عباس وقاله أبان بن تغلب وأنشد : يا قومنا لا تروموا حربنا سفها إن السفاه وإن البغي مثبور أي ملعون وقال ميمون بن مهران عن بن عباس : مثبورا ناقص العقل ونظر المأمون رجلا فقال له : يا مثبور فسأل عنه قال : قال الرشيد قال المنصور لرجل : مثبور فسألته فقال : حدثني ميمون بن مهران فذكره وقال قتادة هالكا وعنه أيضا والحسن ومجاهد : مهلكا والثبور : الهلاك يقال : ثبر الله العدو ثبورا أهلكه وقيل : ممنوعا "صفحة رقم 338" من الخير حكى أهل اللغة : ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه وثبره الله يثبره ثبرا قال بن الزبعري : إذ أجاري الشيطان في سنن الغ ي ومن مال ميله مثبور الضحاك : مثبورا مسحورا رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ وقال بن زيد : مثبورا مخبولا لا عقل له الإسراء : ) 103 ( فأراد أن يستفزهم . . . . . ) الاسراء 103 : 104 ( قوله تعالى : ) فأراد أن يستفزهم من الأرض ( أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر بالقتل أو الإبعاد فأهلكه الله عز وجل ) وقلنا من بعده ( أي من بعد إغراقه ) لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ( أي أرض الشام ومصر ) فإذا جاء وعد الآخرة ( أي القيامة ) جئنا بكم لفيفا ( أي من قبوركم مختلطين من كل موضع قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه وقال بن عباس وقتادة : جئنا بكم جميعا من جهات شتى والمعنى واحد قال الجوهري : واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى يقال : جاء القوم بلفهم ولفيفهم أي وأخلاطهم وقوله تعالى جئنا بكم لفيفا أي مجتمعين مختلطين وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا وفلان لفيف فلان أي صديقه قال الأصمعي : اللفيف جمع وليس له واحد وهو مثل الجميع والمعنى : أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر مختلطين لايتعارفون وقال الكلبي : فإذا جاء وعد الآخرة يعني مجيء عيسى عليه السلام من السماء "صفحة رقم 339" الإسراء : ) 105 ( وبالحق أنزلناه وبالحق . . . . . ) الاسراء 105 ( قوله تعالى : ) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ( هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن والكناية ترجع إلى القرآن ووجه التكرير في قوله وبالحق نزل يجوز أن يكون معنى الأول : أوجبنا إنزاله بالحق ومعنى الثاني : ونزل وفيه الحق كقوله خرج بثيابه أي وعليه ثيابه وقيل الباء في وبالحق الأول بمعنى مع أي مع الحق كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه وبالحق نزل أي بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي نزل عليه كما تقول نزلت بزيد وقيل : يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل الإسراء : ) 106 ( وقرآنا فرقناه لتقرأه . . . . . ) الاسراء 106 ( قوله تعالى : ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ( مذهب سيبويه أن قرآنا منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرأ جمهور الناس فرقناه بتخفيف الراء ومعناه بيناه وأوضحناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل قاله الحسن وقال بن عباس : فصلناه وقرأ بن عباس وعلي وبن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي فرقناه بالتشديد أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة إلا أن في قراءة بن مسعود وأبي فرقناه عليك واختلف في كم نزل القرآن من المدة فقيل : في خمس وعشرين سنة بن عباس : في ثلاث وعشرين أنس : في عشرين وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة وقد مضى هذا في البقرة ) على مكث ( أي تطاول في المدة شيئا بعد شيء ويتناسق هذا القرآن على قراءة بن مسعود أي أنزلناه آية آية وسورة سورة وأما على القول الأول فيكون على مكث أي على ترسل في التلاوة وترتيل قاله مجاهد وبن عباس وبن جريج فيعطى القارئ القراءة حقها من "صفحة رقم 340" ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول الكتاب وأجمع القراء على ضم الميم من مكث إلا بن محيصن فإنه قرأ مكث بفتح الميم ويقال مكث ومكث ومكث ثلاث لغات قال مالك : على مكث على تثبت وترسل قوله تعالى : ) ونزلناه تنزيلا ( مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم أي أنزلناه نجما بعد نجم ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا الإسراء : ) 107 ( قل آمنوا به . . . . . ) الاسراء 107 ( قوله تعالى : ) قل آمنوا به أو لاتؤمنوا ( يعني القرآن وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير ) إن الذين أوتوا العلم من قبله ( أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهم مؤمنو أهل الكتاب في قول بن جريج وغيره قال بن جريج : معنى إذا يتلى عليهم كتابهم وقيل القرآن ) يخرون للأذقان سجدا ( وقيل : هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين وقال الحسن : الذين أوتوا العلم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مجاهد : إنهم ناس من اليهود وهو أظهر لقوله من قبله ) إذا يتلى عليهم ( يعني القرآن في قول مجاهد كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وقيل : كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا وقالوا : هذا هو المذكور في التوراة وهذه صفته ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام فنزلت الآية فيهم وقالت فرقة : المراد بالذين أوتوا العلم من قبله "صفحة رقم 341" محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والضمير في قبله عائد على القرآن حسب الضمير في قوله قل آمنوا به وقيل : الضميران لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) واستأنف ذكر القرآن في قوله : إذا يتلى عليهم الإسراء : ) 108 ( ويقولون سبحان ربنا . . . . . ) الاسراء 108 ( دليل على جواز التسبيح في السجود وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول في سجوده وركوعه ) سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ) الإسراء : ) 109 ( ويخرون للأذقان يبكون . . . . . ) الاسراء 109 ( فيه أربع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ويخرون للأذقان يبكون ( هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال : من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما لأن الله تعالى نعت العلماء ثم تلا هذه الآية ذكره الطبري أيضا والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين وقال الحسن : الأذقان عبارة عن اللحي أي يضعونها على الأرض في حال السجود وهو غاية التواضع واللام بمعنى على تقول سقط لفيه أي على فيه وقال بن عباس : ويخرون للأذقان سجدا أي للوجوه وإنما خص الأذقان بالذكر لأن الذقن أقرب شيء من وجه الإنسان قال بن خويزمنداد : ولايجوز السجود على الذقن لأن الذق ها هنا عبارة عن الوجه وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه فيقال : خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولاعينه ألا ترى إلى قوله : فخ ر صريع ا لليدي ن والف م فإنما أراد : خر صريعا على وجهه ويديه "صفحة رقم 342" الثانية قوله تعالى : ) يبكون ( دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى أو على معصيته في دين الله وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها ذكر بن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء وفي كتاب أبي داود : وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء الثالثة واختلف الفقهاء في الأنين فقال مالك : الأنين لا يقطع الصلاة للمريض وأكرهه للصحيح وبه قال الثوري وروى بن الحكم عن مالك : التنحنح والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة وقال بن القاسم : يقطع وقال الشافعي : إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة وقال أبو حنيفة : إن كان من خوف الله لم يقطع وإن كان من وجع قطع وروي عن أبي يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين الرابعة قوله تعالى : ) ويزيدهم خشوعا ( تقدم القول في الخشوع في البقرة ويأتي الإسراء : ) 110 ( قل ادعوا الله . . . . . ) الاسراء 110 ( قوله تعالى : ) قل ادعوا أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ( سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو ) يا الله يا رحمن ) فقالوا : كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين قاله بن عباس وقال مكحول : تهجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة فقال في دعائه : ) يا رحمن يا رحيم ) فسمعه رجل "صفحة رقم 343" من المشركين وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن فقال ذلك السامع : ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد فإن دعوتموه بالله فهو ذاك وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وقيل : كانوا يكتبون في صدر الكتب : باسمك اللهم فنزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسم الله الرحمن الرحيم فقال المشركون : هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن فنزلت الآية وقيل : إن اليهود قالت : ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير يعنون الرحمن فنزلت الآية وقرأ طلحة بن مصرف أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وأشرف المعاني وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها والنص عليها وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة وهي بتوقيف لا يصح وضع اسم لله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الإجماع حسبما بيناه في [ الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ] قوله تعالى : ) ولاتجهر بصلاتك ولاتخافت بها ( فيه مسئلتان : الأولى اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال : الأول ما روى بن عباس في قوله تعالى : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال : نزلت ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوار بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى : ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون قراءتك ولا تخافت بها عن أصحابك أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر ) وابتغ بين ذلك سبيلا ( قال : يقول بين الجهر والمخافتة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم واللفظ لمسلم والمخافتة : خفض الصوت والسكون يقال للميت إذا برد : خفت قال الشاعر : لم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت رثى لها الشامت مما بها يا ويح من يرثي له الشامت "صفحة رقم 344" الثاني ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قالت : أنزل هذا في الدعاء الثالث قال بن سيرين : كانت الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك قلت : وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لإخفاء التشهد وقد قال بن مسعود : من السنة أن تخفي التشهد ذكره بن المنذر الرابع ما روي عن بن سيرين أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسر قراءته وكان عمر يجهر بها فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي إليه وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر : ارفع قليلا وقيل لعمر اخفض أنت قليلا ذكره الطبري وغيره الخامس ما روي عن بن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار ولا تخافت بصلاة الليل ذكره يحيى بن سلام والزهراوي فتضمنت أحكام الجهر والإسرار بالقراءة في النوافل والفرائض فأما النوافل فالمصلي مخير في الجهر والسر في الليل والنهار وكذلك روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يفعل الأمرين جميعا وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا وقول سادس قال الحسن : يقول الله لا ترائي بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر وقال بن عباس : لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس الثانية عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير ومنه الحديث الصحيح : ) قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ) أي قراءة الفاتحة على ماتقدم الإسراء : ) 111 ( وقل الحمد لله . . . . . ) الاسراء 111 ( "صفحة رقم 345" قوله تعالى : ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ( هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا : عزيز وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه تعالى الله عن أقوالهم ) ولم يكن له شريك في الملك ( لأنه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته ) ولم يكن له ولي من الذل ( قال مجاهد : المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا وقال الكلبي : لم يكن له ولي من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس ردا لقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه وقال الحسن بن الفضل : ولم يكن له ولي من الذل يعني لم يذل فيحتاج إلى ولي ولا ناصر لعزته وكبريائه ) وكبره تكبيرا ( أي عظمه عظمه تامة ويقال : أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال : الله أكبر أي صفه بأنه أكبر من كل شيء قال الشاعر : رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنودا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل في الصلاة قال : ) الله أكبر ) وقد تقدم أول الكتاب وقال عمر بن الخطاب قول العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها وهذه الآية هي خاتمة التوراة روى مطرف عن عبد الله بن كعب قال : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة وفي الخبر أنها آية العز رواه معاذ بن جبل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وقل الحمد لله الذي الآية وقال عبد الحميد بن واصل : سمعت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) وجاء في الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر رجلا شكا إليه بالدين بأن يقرأ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن إلى آخر السورة ثم يقول توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات تمت سورة الإسراء والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 346 الى صــ 355 الحلقة (444) بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكهف سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين. روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله "جرزا [الكهف : 8] ، والأول أصح. وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال : من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك ". قالوا : بلى يا رسول الله ؟ قال :" سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال "ذكره الثعلبي ، والمهدوي أيضا بمعناه. وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ". وفي رواية" من آخر الكهف ". وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان" فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ". وذكره الثعلبي. قال : سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال ". ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة." الآية : 1 {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} الآية : 2 {قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} الآية : 3 {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء ؛ فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ، ما هي ؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم. فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخبركم بما سألتم عنه غدا" ولم يستثن. فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : "لقد احتبست عني" يا جبريل حتى سؤت ظنا "فقال له جبريل : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم : 64] ." فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده ، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يعني محمدا ، إنك رسول مني ، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} أي معتدلا لا اختلاف فيه. {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أي عاجل عقوبته في الدنيا ، وعذابا أليما في الآخرة ، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي دار الخلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف : 4] بعني قريشا في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف : 5] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف : 5] أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً. فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف : 6] لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم ، أي لا تفعل. فال ابن هشام : {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} مهلك نفسك ؛ فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرمة : ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحته عن يديه المقادر وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة له. وقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف : 7] قال ابن إسحاق : أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي : {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف : 8] أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله ؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام : الصعيد وجه الأرض ، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا : كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضا : الطريق ، وقد جاء في الحديث : "إياكم والقعود على الصعدات" يريد الطرق. والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها أجراز. ويقال : سنة جرز وسنون أجراز ؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا : طوى النحز والأجراز ما في بطونها ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال : {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف : 9] أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام : والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم ، وجمعه رقم. قال العجاج : ومستقر المصحف المرقم وهذا البيت في أرجوزة له. قال ابن إسحاق : ثم قال : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً. فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف : 12] . ثم قال : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف : 13] أي بصدق الخبر {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف : 14] أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام : والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بن قيس بن ثعلبة : أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق : {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف : 15] . قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف : 17] . قال ابن هشام : تزاور تميل ؛ وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا : جدب المندي عن هوانا أزور ... ينضي المطايا خمسه العشنزر وهذان البيتان في أرجوزة له. و "تقرضهم ذات الشمال" تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة : إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة : السعة ، وجمعها الفجاء. قال الشاعر : ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف : ] قال ابن هشام : الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب : بأرض فلاة لا يسد وصيلاها ... علي ومعروفي بها غير منكر وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء ، وجمعه وصائد ووصد وصدان. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} - إلى قوله - {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف : ] أهل السلطان والملك منهم. {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ} [الكهف : 21] يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ} [أي لا تكابرهم. {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف : 22] فإنهم لا علم لهم بهم {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف : 24] أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا ، واستثن مشيئة الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف : ] أي سيقولون ذلك. {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف : 26] أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه. قلت : هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه. ويأتي خبر ذي القرنين ، ثم نعود إلى أول السورة فنقول : قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و {قَيِّماً} نصب على الحال. وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير ، ومعناه : ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن ، وأن المعنى : مستقيم ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل : "قيما" على الكتب السابقة يصدقها. وقيل : "قيما" بالحجج أبدا. "عوجا" مفعول به ؛ والعوج "بكسر العين" في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار ؛ وقد تقدم. وليس في القرآن عوج ، أي عيب ، أي ليس متناقضا مختلقا ؛ كما قال تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء : 82] وقيل : أي لم يجعله مخلوقا ؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر : 28] قال : غير مخلوق. وقال مقاتل : {عِوَجَا} اختلافا. قال الشاعر : أدوم بودي للصديق تكرما ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار ، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. {مِنْ لَدُنْهُ} أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم {مِنْ لَدُنْهُ} بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون ، والهاء موصولة بياء. والباقون {لَدُنْهُ} بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري : وفي "لدن" ثلاث لغات : لدن ، ولدي ، ولد. وقال : من لد لحييه إلى منحوره المنحور لغة المنحر. قوله تعالى : {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {أَجْراً حَسَناً} وهي الجنة. {مَاكِثِينَ} دائمين. {فِيهِ أَبَداً} لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في "بأن" . والأجر الحسن : الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة. الآية : 4 {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} الآية : 5 {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} قوله تعالى : - {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وهم اليهود ، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالإنذار في أول السورة عام ، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} "من" صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم ؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. {وَلا لِآبَائِهِمْ} أي أسلافهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً} "كلمة" نصب على البيان ؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق "كلمة" بالرفع ؛ أي عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال : كبر الشيء إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} في موضع الصفة. {إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} أي ما يقولون إلا كذبا. الآية : 6 {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} قوله تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} {بَاخِعٌ} أي مهلك وقاتل ؛ وقد تقدم. {آثَارِهِمْ} جمع أثر ، ويقال إثر. والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك. {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} أي القرآن. {أَسَفاً} أي حزنا وغضبا على كفرهم ؛ وانتصب على التفسير. الآية : 7 {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} فيه مسألتان : - الأولى : - قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} "ما" و "زينة" مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض ؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس : أراد بالزينة الرجال ؛ قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} قال : العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة : أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه ، ونحو هذا مما فيه زينة ؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى ، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية ؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها ؛ فمنهم من يتدبر ويؤمن ، ومنهم من يكفر ، ثم يوم القيامة بين أيديهم ؛ فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم. الثانية : - معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون" . وقوله صلى الله عليه وسلم : "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قال : وما زهرة الدنيا ؟ قال : "بركات الأرض" خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري. والمعنى : أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى ؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها ؛ ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينة الله إلا [أن] يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا ، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام : "فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع" . وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها ؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله ؛ فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة ، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية : كان أبي رضى الله عنه يقول في قوله {أَحْسَنُ عَمَلاً} : أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه. قلت : هذا قول حسن ، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه ، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبدالله الثقفي لما قال : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية : غيرك. قال : "قل آمنت بالله ثم استقم" خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري : "أحسن عملا" أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني : "أحسن عملا" أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد ؛ فقال قوم : قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء ؛ قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا : وصدق رضي الله عنه لأن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات ، وأخذ من الدنيا ما تيسر ، واجتزأ منها بما يبلغ. وقال قوم : بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه. وقال قوم : ترك الدنيا كلها هو الزهد ؛ أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال : حب الدنيا حب لقاء الناس ، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا : علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم : لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها ؛ قال إبراهيم بن أدهم. وقال قوم : الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك ؛ قاله ابن المبارك. وقالت فرقة : الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى. الآية : 8 {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} تقدم بيانه. وقال أبو سهل : ترابا لا نبات به ؛ كأنه قطع نباته. والجرز : القطع ؛ ومنه سنة جرز. قال الراجز : قد جرفتهن السنون الأجراز https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 356 الى صــ 365 الحلقة (445) والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها ؛ كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة ؛ فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس : والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي : يقال جرزت الأرض تجرز ، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز. الآية : 9 {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} مذهب سيبويه أن "أم" إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام ، وهي المنقطعة. وقيل : "أم" عطف على معنى الاستفهام في لعلك ، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري : وهو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا ، بمعنى إنكار ذلك عليه ؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع ؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا ، وعن ذي القرنين وعن الروح ، وأبطأ الوحي على ما تقدم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام : أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا ، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي : خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم. الضحاك : ما أطلعتك عله من الغيب أعجب. الجنيد : شأنك في الإسراء أعجب. الماوردي : معنى الكلام النفي ؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل : استفهام تقرير ؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف : النقب المتسع في الجبل ؛ وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال : الكهف الجبل ؛ وهذا غير شهير في اللغة. واختلف الناس في الرقيم ؛ فقال ابن عباس : كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين وحنان والأواه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال : زعم كعب أنها قرية خرجوا منها. وقال مجاهد : الرقيم واد. وقال السدي : الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد : الرقيم كتاب غم الله علينا أمره ، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة : الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس : في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم ، ذكروا وقت فقدهم ، وكم كانوا ، وبين من كانوا. وكذا قال القراء ، قال : الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. فال ابن عطية : ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث ، وذلك من نبل المملكة ، وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ؛ ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رقمة الوادي ؛ أي مكان جري الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض ؛ لأن القول الأول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده. وروى عنه سعيد بن جبير قال : ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال : إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال : ليكونن لهم نبأ ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته ؛ فذلك اللوح هو الرقيم. وقيل : إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان ؛ فالله اعلم. وعن ابن عباس أيضا : الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة : الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبي : الرقيم كلبهم. وقال عكرمة : الرقيم الدواة. وقيل : الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل : الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم ؛ فذكر كل واحد منهم أصلح عمله. قلت : وفي هذا خير معروف أخرجه الصحيحان ، وإليه نحا البخاري. وقال قوم : أخبر الله عن أصحاب الكهف ، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك : الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف ، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله اعلم. وقيل : الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف ؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء ؛ يقال : عليك بالرقمة ودع الضفة ؛ ذكره الغزنوي. قال ابن عطية : وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة ، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها. قلت : ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم ، لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف : 18] . وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك ؛ وسيأتي في آخر القصة. وقال مجاهد في قول {كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} قال : هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه ؛ يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عجب. وروى ابن نجيح عنه قال : يقول ليس بأعجب آياتنا. الآية : 10 {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} فيه ثلاث مسائل : الأولى : - قوله تعالى : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس. وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله اعلم. وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ؛ فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ؛ فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لي : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ؛ فقالوا له فيما روي : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} - إلى قوله - {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف : 16] وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل استأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ؛ فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ؛ فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ؛ ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا. وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ؛ قال ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير. وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم. الثانية : -هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة "النحل" . وقد نص الله تعالى على ذلك في "براءة" وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال : {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} . وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ؛ وقد جاء في الخبر : "إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك" . ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نعم صوامع المؤمنين بيوتهم" من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : "يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك" . وقال صلى الله عليه وسلم : "يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" . خرجه البخاري. وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال" . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبدالله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة" . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : "إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران" . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : "يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها" . قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف : 16] . ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا. وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ؛ مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله اعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة" . خرجه النسائي. قوله تعالى : {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجؤوا إلى الله تعالى فقالوا : {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي مغفرة ورزقا. {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. الآية : 11 {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله. قال الزجاج : أي منعناهم عن أن يسمعوا ؛ لأن النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباس : ضربنا على آذانهم بالنوم ؛ أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها. وقيل : المعنى "فضربنا على آذانهم" أي فاستجبنا دعاءهم ، وصرفنا عنهم شر قومهم ، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب : هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد ، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا : ومن الحوادث لا أبالك أنني ... ضربت علي الأرض بالأسداد وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم ، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه ، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم : "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم ، لا يقوم الليل. و "عددا" نعت للسنين ؛ أي معدودة ، والقصد به العبارة عن التكثير ؛ لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف. والعد المصدر ، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط. وقال أبو عبيدة : "عددا" نصب على المصدر. ثم قال قوم : بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال : {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف : 25] . الآية : 12 {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث ؛ لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف. قوله تعالى : {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} {لِنَعْلَمَ} عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته ؛ وهذا على نحو كلام العرب ، أي نعلم ذلك موجودا ، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد. وقرأ الزهري "ليعلم" بالياء. والحزبان الفريقان ، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم ، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة : هما حزبان من الكافرين ، اختلفا في مدة أصحاب الكهف. وقيل : هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و "أحصى" فعل ماض. و "أمدا" نصب على المفعول به ؛ قاله أبو علي. وقال الفراء : نصب على التمييز. وقال الزجاج : نصب على الظرف ، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد ، والأمد الغاية. وقال مجاهد : "أمدا" نصب معناه عددا ، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري : "أمدا" منصوب بـ "لبثوا" . ابن عطية : وهذا غير متجه ، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ ، و "أحصى" فعل رباعي. وقد يحتج له بأن يقال : إن أفعل في الرباعي قد كثر ؛ كقولك : ما أعطاه للمال وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه صلى الله عليه وسلم : "ماؤه أبيض من اللبن" . وقال عمر بن الخطاب : فهو لما سواها أضيع. الآية : 13 {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} قوله تعالى : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} لما اقتضى قوله تعالى {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} اختلافا وقع في أمد الفتية ، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة ؛ كذلك قال أهل اللسان : رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد : الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى. وقيل : الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا ؛ لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة. قوله تعالى : - {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} أي يسرناهم للعمل الصالح ؛ من الانقطاع إلى الله تعالى ، ومباعدة الناس ، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الإيمان. وقال السدي : زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم ؛ فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله ، فقال : يا قوم لم تطردونني ، لم ترجمونني لم تضربونني فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة ؛ فزادهم الله بذلك هدى. الآية : 14 {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} قوله تعالى : {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} عبارة عن شدة عزم وقوة صبر ، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} . ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ؛ ومنه يقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى : {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال : 11] وقد تقدم. قوله تعالى : {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} فيه مسالتان : - الاولى : -قوله تعالى : {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} يحتمل ثلاثة معان : أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة ، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد ؛ فقال أسنهم : إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض ؛ فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} . https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 366 الى صــ 375 الحلقة (446) أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام ، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس ؛ كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد. الثانية : - قال ابن عطية : تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . قلت : وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته ، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته ، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم ؛ وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان ؛ هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء ، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في "سبحان" عند قوله : {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء : 37] ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال : وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ؛ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ؛ فهو دين الكفار وعباد العجل ، على ما يأتي. الآية : 15 {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} قوله تعالى : {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي قال بعضهم لبعض : هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا ، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة. {لَوْلا} أي هلا. {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي بحجة على عبادتهم الصنم. وقيل : {عَلَيْهِمْ} راجع إلى الآلهة ؛ أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة ؛ فقولهم {لَوْلا} تحضيض بمعنى التعجيز ؛ وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم. الآية : 16 {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} قوله تعالى : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} قيل : هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاؤوا إلى الكهف. وقيل : هو من قول رئيسهم يمليخا ؛ فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوي : رئيسهم مكسلمينا ، قال لهم ذلك ؛ أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال {إِلاَّ اللَّهَ} أي إنكم لم تتركوا عبادته ؛ فهو استثناء منقطع. قال ابن عطية : وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ، ولا علم لهم به ؛ وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ؛ لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفي مصحف عبدالله بن مسعود {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال قتادة هذا تفسيرها. قلت : ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} قال : كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. ابن عطية : فعلى ما قال قتادة تكون "إلا" بمنزلة غير ، و "ما" من قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} في موضع نصب ، عطفا على الضمير في قول {اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} . ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض : إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله ؛ فإنه سيبسط لنا رحمته ، وينشرها علينا ، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه : كان أصحاب الكهف صياقلة ، واسم الكهف حيوم. {مِرْفَقاً} قرئ بكسر الميم وفتحها ، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه ؛ ومنهم من يجعل "المرفق" بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان. الآية : 17 {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} الآية : 18 {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} قوله تعالى : {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى : إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا ؛ لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. و "تزاور" تتنحى وتميل ؛ من الازورار. والزور الميل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية ، ويستعمل في غير العين ؛ كما قال ابن أبي ربيعة : وجنبي خيفة القوم أزور ومن اللفظة قول عنترة : فازور من وقع القنا بلبانه وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو "تزاور" بإدغام التاء في الزاي ، والأصل "تتزاور" . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "تزاور" مخففة الزاي. وقرأ ابن عامر "تزور" مثل تحمر. وحكى الفراء "تزوار" مثل تحمار ؛ كلها بمعنى واحد. { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم ؛ قاله مجاهد. وقال قتادة : تدعهم. النحاس : وهذا معروف في اللغة ، حكى البصريون أنه يقال : قرضه يقرضه إذا تركه ؛ والمعنى : أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم ؛ وهو قول ابن عباس. يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين ، أي يمين الكهف ، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال ، أي شمال الكهف ، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم ، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها ، وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم. وقد قيل : إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله ، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة "بقرضهم" بالياء من القرض وهو القطع ، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس. وقيل : {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} أي يصيبهم يسير منها ، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة ، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا : كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس علبهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم ، والتأذي بحر أو برد {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أي من الكهف والفجوة المتسع ، وجمعها فجوات وفجاء ؛ مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر : ونحن ملأنا كل واد وفجوة ... رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} لطف بهم وهذا يقوى قول الزجاج وقال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ؛ فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا. وقيل : .قوله تعالى : {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً} لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه. و "أيقاظا" جمع يقظ ويقظان ، وهو المنتبه. {وَهُمْ رُقُودٌ} كقولهم : وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} قال ابن عباس : لئلا تأكل الأرض لحومهم. قال أبو هريرة : كان لهم في كل عام تقليبتان. وقيل : في كل سنة مرة. وقال مجاهد : في كل سبع سنين مرة. وقالت فرقة : إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فيضاف إلى الله تعالى. قوله تعالى : {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} فيه أربع مسائل : الأولى : -قوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ} قال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا [قال] في ليله أو في نهاره : صلى الله على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [إذا قال] : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه ؛ على ما قال مقاتل. واختلف في لونه اختلافا كثيرا ، ذكره الثعلبي. تحصيله : أي لون ذكرت أصبت ؛ حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء. واختلف أيضا في اسمه ؛ فعن علي : ريان. ابن عباس : قطمير. الأوزاعي : مشير. عبدالله بن سلام : بسيط. كعب : صهيا. وهب : نقيا. وقيل قطمير ؛ ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم ، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا. وقال ابن عباس : هربوا ليلا ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم. وقال كعب : مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا ، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي ، فنطق فقال : لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم. الثانية : - ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان" . وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط" . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ، أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته ، على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ؛ والله اعلم. وقال في إحدى الروايتين "قيراطان" وفي الأخرى "قيراط" . وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر ؛ أخرجه الصحيح. وقال : "عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان" . ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص ؛ كالفرس والهرة. والله اعلم. الثالثة : - وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها ، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في "المائدة" من أحكام الكلاب ما فيه كفاية ، والحمد لله. الرابعة : - قال ابن عطية : وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم في ذكره الله في محكم تنزيله. قلت : إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال ، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل. روى الصحيح عن أنس بن مالك قال : بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أعددت لها" قال : ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله. قال : "فأنت مع من أحببت" . في رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "فأنت مع من أحببت" . قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم. قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ؛ كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام ، وحب النبي صلى الله عليه وسلم ، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء : 7] . وقالت فرقة : لم يكن كلبا حقيقة ، وإنما كان أحدهم ، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا ؛ لأنه منها كالكلب من الإنسان ؛ ويقال له : كلب الجبار. قال ابن عطية : فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" . وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ "وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد" . فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي ؛ إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرأ جعفر بن محمد الصادق "كالبهم" يعني صاحب الكلب. قوله تعالى : {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي ؛ لأنها حكاية حال ولم يفصد الإخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى. ثم قيل : بسط ذراعيه لطول المدة. وقيل : نام الكلب ، وكان ذلك من الآيات. وقيل : نام مفتوح العين. الوصيد : القناء ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير ، أي فناء الكهف ، والجمع وصائد ووصد. وقيل الباب. وقال ابن عباس أيضا. وأنشد : بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر وقد تقدم. وقال عطاء : عتبة الباب ، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد : النبات المتقارب الأصول ، فهو مشترك ، والله اعلم. قوله تعالى : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} قرأ الجمهور بكسر الواو. والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها. {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم. {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة. وقيل : لوحشة مكانهم ؛ وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينقر الناس عنهم. وقيل : كان الناس محجوبين عنهم بالرعب ، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم. وقيل : الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم ؛ وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد ؛ لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض : لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها ؛ إلا أن يقال : إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم. قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة "لمُلَّئت منهم" بتشديد اللام على تضعيف المبالغة ؛ أي ملئت ثم ملئت. وقرأ الباقون "لملئت" بالتخفيف ، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبَّل السعدي : وإذ فتك النعمان بالناس محرما ... فملِّىء من كعب بن عوف سلاسله وقرأ الجمهور "رعبا" بإسكان العين. وقرأ بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم : هما لغتان. و "فرارا" نصب على الحال و "رعبا" مفعول ثان أو تمييز. الآية : 19 {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} الآية : 20 {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} البعث : التحريك عن سكون. والمعنى : كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا ؛ أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر : وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين عاث ونشوان أي أيقظت واللام في قوله "ليتساءلوا" لام الصيرورة وهي لام العاقبة ؛ كقوله {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص : 8] فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم. قوله تعالى : {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار ؛ فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا : الله اعلم بالمدة. قوله تعالى : {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} فيه سبع مسائل : - الاولى : - قال ابن عباس : كانت ورقهم كأخفاف الربع ؛ ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم {بِوَرِقِكُمْ} بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم "بورقكم" بسكون الراء ، حذفوا الكسرة لثقلها ، وهما لغتان. وقرأ الزجاج "بورقكم" بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا ، وأن المبعوث هو يمليخا ، كان أصغرهم ؛ فيما ذكر الغزنوي. والمدينة : أفسوس ويقال هي طرسوس ، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس ؛ فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. وقال ابن عباس : كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم. الثانية : - قوله تعالى : {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} قال ابن عباس : أحل ذبيحة ؛ لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم ، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس : كان عامتهم مجوسا. وقيل {أَزْكَى طَعَاماً} أي أكثر بركة. قيل : إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم ، ثم إذا طبخ كفى جماعة ؛ ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز. وقيل : كان زبيبا. وقيل تمرا ؛ فالله اعلم. وقيل : "أزكى" أطيب. وقيل أرخص. قوله تعالى : {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} أي بقوت. {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في دخول المدينة وشراء الطعام. {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} أي لا يخبرن. وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} قال الزجاج : معناه بالحجارة ، وهو أخبث القتل. وقيل : يرموكم بالسب والشتم ؛ والأول أصح ، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم.والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله [عقوبة] مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها. https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 376 الى صــ 385 الحلقة (447) الثالثة : - في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنه ؛ ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام ؛ ألا ترى إلى عبدالرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة ؛ أي يحفظهم ، وأمية مشرك ، والتزم عبدالرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف قال : كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة ؛ فلما ذكرت الرحمن ؛ قال : لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الأصمعي : صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه ؛ وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال ، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى ؛ من كتاب الأفعال. الرابعة : - الوكالة عقد نيابة ، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك ، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه. وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب ، منها هذه الآية ، وقوله تعالى : {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة : 60] وقوله : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} . روى جابر بن عبدالله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني أردت الخروج إلى خيبر ؛ فقال : "إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته" خرجه أبو داود. والأحاديث كثيرة في هذه المعنى ، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية. الخامسة : - الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه ، فلو وكل الغاصب لم يجز ، وكان هو الوكيل ؛ لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه. السادسة : - في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم.وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه ؛ فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون : لا تجوز. قال ابن العربي : وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت ؛ إنصافا منهم وإذلالا لهم ، وهو الحق ؛ فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل. قلت : هذا حسن ؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال : "أعطوه" فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها ؛ فقال : "أعطوه" فقال : أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن خيركم أحسنكم قضاء" . لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه ؛ وذلك توكيد منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه ؛ وهذا الحديث خلاف قولهما. السابعة : - قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا ، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر ؛ ومثله قوله تعالى : {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة : 220] حسبما تقدم بيانه في "البقرة" . ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه : إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه : إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي : ليس في الآية دليل على ذلك ؛ لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين : أحدهما : أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. الثاني : حديث أبي عبيدة في جيش الخبط. وهذا دون الأول في الظهور ؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه. قلت : ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى : {وَإنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانْكُمْ} [البقرة : 220] وقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور : 61] على ما يأتي إن شاء الله تعالى. الآية : 21 {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. و "أعثر" تعدية عثر بالهمزة ، وأصل العثار في القدم. {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح ، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا : إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم : تبعث الروح والجسد جميعا ؛ فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ؛ فيقال : إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد ، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه ، فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك ، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى فأخبره ؛ فسر الملك بذلك وقال : لعل الله قد بعث لكن آية ، فلنسر إلى الكهف معه ، فركب مع أهل المدينة إليهم ، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا : أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق ، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين. فهذا معنى "أعثرنا عليهم" . {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} . وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم فقال الملك : ابنوا عليهم بنيانا ؛ فقال الذين. هم على دين الفتية : اتخذوا عليهم مسجدا. وروي أن طائفة كافرة قالت : نبني بيعة أو مضيفا ، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا. وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين. وروي عن عبدالله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم ، فذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم. وقيل : إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل ؛ فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود ، فدعنا. وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة ؛ فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها ، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز ؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. قال الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن. وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أولئك إذا كان فيهم" الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ". لفظ مسلم. قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها "لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى ، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك ، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال :" اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ". وروى الصحيحان عن عائشة وعبدالله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك :" لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "يحذر ما صنعوا. وروى مسلم عن جابر قال : نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وروى الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي." قال علماؤنا : ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة. وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم ، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما - على ما ذكر مالك في الموطأ - وقبر أبينا آدم صلى الله عليه وسلم ، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس. وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال ؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة ، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال : هو حرام. والتسنيم في القبر : ارتفاعه قدر شبر ؛ مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح. وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر. وقال أبو حنيفة : لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة ؛ لما رواه أبو بكر الأثرم قال : حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبدالمطلب كل جمعة وعلمته بصخرة ؛ ذكره أبو عمر. وأما الجائزة : فالدفن في التابوت ؛ وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة. روي أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر ، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد ، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين ؛ فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفي الصحيح عن سعد ابن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه : اتخذوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا ؛ كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. اللحد : هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق ؛ لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم. وبه قال أبو حنيفة قال : السنة اللحد. وقال الشافعي : الشق. ويكره الآجر في اللحد. وقال الشافعي : لا بأس به لأنه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه ؛ لأن الآجر لإحكام البناء ، والقبر وما فيه للبلى ، فلا يليق به الإحكام. وعلى هذا يسوي بين الحجر والآجر. وقيل : إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا ؛ فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا : ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حزمة من قصب. وحكي عن الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض. وقال : لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به ، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت ، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد. قلت : ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن المدينة سبخة ، قال شقران : أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر. قال أبو عيسى الترمذي : حديث شقران حديث حسن غريب. الآية : 22 {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} قوله تعالى : {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الضمير في {سَيَقُولُونَ} يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص. وقيل : المراد به النصارى ؛ فإن قوما منهم حضروا النبي صلى الله عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية : كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون : كانوا سبعة ثامنهم كلبهم. وقيل : هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف. والواو في قول {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم ؛ لتفصل أمرهم ، وتدل على أن هذا غاية ما قيل ، ولو سقطت لصح الكلام. وقالت فرقة منها ابن خالويه : هي واو الثمانية. وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية ؛ فتدخل الواو في الثمانية. وحكى نحوه القفال ، فقال : إن قوما قالوا العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة ، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو ، كقوله {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} - ثم قال - {النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ} [التوبة : 112] . يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر : 71] بلا واو ، ولما ذكر الجنة قال : {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر : 73] بالواو. وقال : {خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} [التحريم : 5] ثم قال : {وَأَبْكَاراً} [التحريم : 5] فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا. قال القشيري أبو نصر : ومثل هذا الكلام تحكم ، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر : 23] ولم يذكر الاسم الثامن بالواو. وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة : إنما ذكر الواو في قوله : {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} لينبه على أن هذا العدد هو الحق ، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب ؛ ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين {رَجْماً بِالْغَيْبِ} ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء ؛ فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم. والرجم : القول بالظن ؛ يقال لكل ما يخرص : رجم فيه ومرجوم ومرجم ؛ كما قال : وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم قلت : قد ذكر الماوردي والغزنوي : وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية ، وجعلا قوله تعالى {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} أي صاحب كلبهم. وهذا مما يقوي طريق النحويين في الواو ، وأنها كما قالوا. وقال القشري : لم يذكر الواو في قوله : رابعهم سادسهم ، ولو كان بالعكس لكان جائزا ، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد ، وهو كقوله في موضع آخر {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر : 4] . وفي موضع آخر : {إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى} [الشعراء : 208] . قوله تعالى : {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل. ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. والمراد به قوم من أهل الكتاب ؛ في قول عطاء. وكان ابن عباس يقول : أنا من ذلك القليل ، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، ثم ذكر السبعة بأسمائهم ، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر ، فوق القلطي ودون الكردي. وقال محمد بن سعيد بن المسيب : هو كلب صيني. والصحيح أنه زبيري. وقال : ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال : وكتبه أبو عمرو الحيري عني. قوله تعالى : {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً} أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك ؛ وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى. وقيل : معنى المراء الظاهر أن تقول : ليس كما تقولون ، ونحو هذا ، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك. وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم فلهذا قال "إلا مراء ظاهرا" أي ذاهبا ؛ كما قال : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ولم يبح له في هذه الآية أن يماري ؛ ولكن قوله "إلا مراء" استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر ؛ ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله "قيهم" عائد على أهل الكهف. وقوله : {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ} يعني في عدتهم ؛ وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها. {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال. والضمير في قوله : {مِنْهُمْ} عائد على أهل الكتاب المعارضين. وفي هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم. الآية : 23 {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} الآية : 24 {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} قوله تعالى : - {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فيه مسألتان : - الأولى : -قال العلماء عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين : غدا أخبركم بجواب أسئلتكم ؛ ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا ، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر ؛ فإنه إذا قال : لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا ، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه. واللام في قوله "لشيء" بمنزلة في ، أو كأنه قال لأجل شيء. الثانية : - قال ابن عطية : وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين. وقوله : {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز ؛ تقديره : إلا أن تقول إلا أن يشاء الله ؛ أو إلا أن تقول إن شاء الله. فالمعنى : إلا أن يذكر مشيئة الله ؛ فليس {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} من القول الذي نهي عنه. قلت : ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش. وقال البصريون : المعنى إلا بمشيئة الله. فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله. قال ابن عطية : وقالت فرقة {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء من قوله : {وَلا تَقُولَنَّ} . قال : وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه ، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى. وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في "المائدة" . قوله تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وفيه مسألة واحدة ، وهي الأمر بالذكر بعد النسيان - واختلف في الذكر المأمور به ؛ فقيل : هو قوله : {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} قال محمد الكوفي المفسر : إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 386 الى صــ 395 الحلقة (448) من لم يستثن ، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء. وقال الجمهور : هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص. وقيل : هو قوله : {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات : 102] الذي كان نسيه عند يمينه. حكي عن ابن عباس أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا. وهو قول مجاهد. وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال : يستثني إذا ذكره. الحسن : ما دام في مجلس الذكر. ابن عباس : سنتين ؛ ذكره الغزنوي قال : فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم. فأما الاستثناء المفيد حكما فلا يصح إلا متصلا. السدي : أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها. وقيل : استثن باسمه لئلا تنسى. وقيل : اذكره متى ما نسيته. وقيل : إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه. وقيل : اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك ؛ فذلك حقيقة الذكر. وهذه الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي استفتاح كلام على الأصح ، ولست من الاستثناء في المين بشيء ، وهي بعد تعم جميع أمته ؛ لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه. والله الموفق. الآية : 25 {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} هذا خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم. وفي قراءة ابن مسعود "وقالوا لبثوا" . قال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر. فأمر الله تعالى أن يرد علم ذلك إليه. قال ابن عطية : فقوله على هذا "لبثوا" الأول يريد في نوم الكهف ، و "لبثوا" الثاني يريد بعد الإعثار إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء. مجاهد : إلى وقت نزول القرآن. الضحاك : إلى أن ماتوا. وقال بعضهم : إنه لما قال { وَازْدَادُوا تِسْعاً} لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام. واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في التسع ، فهي على هذا مبهمة. وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية. وقيل غير هذا على ما يأتي. قال القشيري : لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين ؛ كما تقول : عندي مائة درهم وخمسة ؛ والمفهوم منه خمسة دراهم. وقال أبو علي {وَازْدَادُوا تِسْعاً} أي ازدادوا لبث تسع ؛ فحذف. وقال الضحاك : لما نزلت {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ} قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام ؛ فأنزل الله عز وجل "سنين" . وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام ؛ فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ؛ إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين. ونحوه ذكر الغزنوي. أي باختلاف سني الشمس والقمر ؛ لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. وقرأ الجمهور "ثلثمائة سنين" بتنوين مائة ونصب سنين ، على التقديم والتأخير ؛ أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف ، فتكون "سنين" على هذا بدلا أو عطف بيان. وقيل : على التفسير والتمييز. و "سنين" في موضع سنة. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين ، وترك التنوين ؛ كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعنى بهما واحد. قال أبو علي : هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع. وفي مصحف عبدالله "ثلثمائة سنة" . وقرأ الضحاك "ثلثمائة سنون" بالواو. وقرأ أبو عمرو بخلاف "تسعا" بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة : التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلثمائة. الآية : 26 {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} قوله تعالى : {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم ، على قول مجاهد. أو إلى أن ماتوا ؛ على قول الضحاك. أو إلى وقت تغيرهم بالبلى ؛ على ما تقدم. وقيل : بما لبثوا في الكهف ، وهي المدة التي ذكرها الله تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا. أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قوله تعالى : {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ولا اسمع. وهذه عبارات عن الإدراك. ويحتمل أن يكون المعنى "أبصر به" أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور ، واسمع به العالم ؛ فيكونان أمرين لا على وجه التعجب. وقيل. المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال الله فيهم. قوله تعالى : {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أي لم يكن لأصحاب الكهف ولي يتولى حفظهم دون الله. ويحتمل أن يعود الضمير في "لهم" على معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار. والمعنى : ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولي دون الله يتولى تدبير أمرهم ؛ فكيف يكونون اعلم منه ، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم. قوله تعالى : {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} قرئ بالياء ورفع الكاف ، على معنى الخبر عن الله تعالى. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري "ولا تشرك" بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون قوله "ولا يشرك" عطفا على قوله : "أبصر به واسمع" . وقرأ مجاهد "يشرك" بالياء من تحت والجزم. قال يعقوب : لا أعرف وجهه. مسألة : اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا ، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة ؛ فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله ، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا : هذه عظام أهل الكهف. فقال لهم ابن عباس : أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة ؛ فسمعه راهب فقال : ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا ؛ فقيل له : هذا ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم. وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليحجن عيسى بن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد" . ذكره ابن عطية. قلت : ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى بن مريم عبدالله ورسوله ، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم ، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا. وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب "التذكرة" . فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة ، بل يموتون قبيل الساعة. الآية : 27 {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} قوله تعالى : {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} قيل : هو من تمام قصة أصحاب الكهف ؛ أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف. وقال الطبري : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه. {وَلَنْ تَجِدَ} أنت {مِنْ دُونِهِ} إن لم تتبع القرآن وخالفته. {مُلْتَحَداً} أي ملجأ وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه. قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم : وهذا آخر قصة أصحاب الكهف. ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف ؛ فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم ؛ فقال ابن عباس : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك ، فقال : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} [الكهف : 18] فقال : لا انتهي حتى اعلم علمهم ، وبعث قوما لذلك ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم ؛ ذكره الثعلبي أيضا. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم ، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن أبعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام : كيف أبعثهم ؟ فقال : ابسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع علي بن أبي طالب ، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك ؛ ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف ، فقلعوا منه حجرا ، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ؛ فقالوا لهم : معشر الفتية ، إن النبي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام ؛ فقالوا : وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليكم بما أبلغتم ، وقبلوا دينه وأسلموا ، ثم قالوا : أقرئوا محمدا رسول الله منا السلام ، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي. فيقال : إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهم ، ثم ردتهم الريح فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كيف وجدتموهم" ؟ . فأخبروه الخبر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أجنبي وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي" . وقيل : إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح ؛ فأخبر الله تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة ؛ ولهذا سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : دخلوا الكهف بعد المسيح ؛ فالله اعلم أي ذلك كان. الآية : 28 {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} قوله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} هذا مثل قوله : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام : 52] في سورة "الأنعام" وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا : يا رسول الله ؛ إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله تعالى وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ - حتى بلغ - إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا . يتهددهم بالنار. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال : "الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات" . {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي طاعته. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبدالرحمن {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس : وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة. وروي عن الحسن أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها ؛ حكاه اليزيدي. وقيل : لا تحتقرهم عيناك ؛ كما يقال فلان تنبو عنه العين ؛ أي مستحقرا. قوله تعالى : {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك ؛ ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك ، ولكن الله نهاه عن أن يفعله ، وليس هذا بأكثر من قوله : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65] . وإن كان الله أعاذه من الشرك. و "تريد" فعل مضارع في موضع الحال ؛ أي لا تعد عيناك مريدا ؛ كقول امرئ القيس : فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وزعم بعضهم أن حق الكلام : لا تعد عينيك عنهم ؛ لأن "تعد" متعد بنفسه. قيل له : والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى النصب فيها ، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم ، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم ؛ فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال تعالى : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} فأسند الإعجاب إلى الأموال ، والمعنى : لا تعجبك يا محمد أموالهم. ويزيدك وضوحا قول الزجاج : إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة. قوله تعالى : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} قال : نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة ؛ فأنزل الله تعالى : {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} يعني الشرك. {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} قيل هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الإيمان. وقيل : من الإفراط ومجاوزة الحد ، وكان القوم قالوا : نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس ؛ وكان هذا من التكبر والإفراط ف في القول. وقيل : "فرطا" أي قدما في الشر ؛ من قولهم : فرط منه أمر أي سبق. وقيل : معنى {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} وجدناه غافلا ؛ كما تقول : لقيت فلانا فأحمدته ؛ أي وجدته محمودا. وقال عمرو بن معد يكرب لبني الحارث بن كعب : والله لقد سألناكم فما أبخلناكم ، وقاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ؛ أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين. وقيل : نزلت : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} في عيينة بن حصن الفزاري ؛ ذكره عبدالرزاق ، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري. والله اعلم. الآية : 29 {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} قوله تعالى : {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} "الحق" رفع على خبر الابتداء المضمر ؛ أي قل هو الحق. وقيل : هو رفع على الابتداء ، وخبره في قوله : {مِنْ رَبِّكُمْ} . ومعنى الآية : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، يهدي من يشاء فيؤمن ، ويضل من يشاء فيكفر ؛ ليس إلي من ذلك شيء ، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا ، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ؛ فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر ، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار ، وإن آمنتم فلكم الجنة. قوله تعالى : {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي أعددنا. {لِلظَّالِمِينَ} أي للكافرين الجاحدين. {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال الجوهري : السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. قال رؤبة : يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود يقال : بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة : هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق وقال ابن الأعرابي : "سرادقها" سورها. وعن ابن عباس : حائط من نار.الكلبي : عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبي : السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز. وقيل : هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة "والمرسلات" . حيث يقول : {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات : 30] وقوله : {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة : 43] قاله قتادة. وقيل : إنه البحر المحيط بالدنيا. وروي يعلي بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البحر هو جهنم - ثم تلا - {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} -" ثم قال - والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة "ذكره الماوردي. وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة ". وخرجه أبو عيسى الترمذي ، وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب." قلت : وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار ، وجدره ما وصف. قوله تعالى : {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} قال ابن عباس : المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت. مجاهد : القيح والدم. الضحاك : ماء أسود ، وإن جهنم لسوداء ، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة : هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير ، فتموج بالغليان ، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير : هو الذي قد انتهى حره. وقال : المهل ضرب من القطران ؛ يقال : مهلت البعير فهو ممهول. وقيل : هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "كالمهل" قال : "كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه" قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال : "يقرب إلى فيه فكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره . يقول الله تعالى {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد : 15] يقول {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} قال : حديث غريب." قلت : وهذا يدل على صحة تلك الأقوال ، وأنها مرادة ، والله اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح "المهل" النحاس المذاب. ابن الأعرابي : المهل المذاب من الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردي الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفي حديث أبي بكر : ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب. و {مُرْتَفَقاً} قال مجاهد : معناه مجتمعا ، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس : منزلا. عطاء : مقرا. وقيل مهادا. وقال القتبي : مجلسا ، والمعنى متقارب ؛ وأصله من المتكأ ، يقال منه : ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر : قالت له وارتفقت ألا فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضحى ويقال : ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلي : نام الخلي وبت الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مدبوح الصاب : عصارة شجر مر. الآية : 30 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} الآية : 31 {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفي الكلام إضمار ؛ أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا ، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط. و "عملا" نصب على التمييز ، وإن شئت بإيقاع "أحسن" عليه. وقيل : https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 396 الى صــ 405 الحلقة (449) {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} كلام معترض ، والخبر قوله : {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} . و {جَنَّاتُ عَدْنٍ} سرة الجنة ، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها ؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل : العدن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه ؛ ومنه "جنات عدن" أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن "بكسر الدال" ؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن : الناقة المقيمة في المرعى. وعدن بلد ؛ قاله الجوهري. "تجري من تحتهم الأنهار" تقدم. "يحلون فيها من أساور من ذهب" وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير : على كل واحد منهم ثلاثة أسورة : واحد من ذهب ، وواحد من ورق ، وواحد من لؤلؤ. قلت : هذا منصوص في القرآن ، قال هنا "من ذهب" وقال في الحج وفاطر {مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [الحج : 23] وفي الإنسان {مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان : 21] . وقال أبو هريرة : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" خرجه مسلم. وحكى الفراء : "يحلون" بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة ؛ يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي. وحلي الشيء بعيني يحلى ؛ ذكره النحاس. والسوار سوار المرأة ، والجمع أسورة ، وجمع الجمع أساورة. وقرئ {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف : 53] وقد يكون الجمع أساور. وقال الله تعالى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} قاله الجوهري. وقال ابن عزيز : أساور جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار وسوار ، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب ، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة ؛ فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك. قال النحاس : وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار ، وقطرب صاحب شذوذ ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره. قلت : قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء : وأحدها إسوار. وقال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور. والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة. قوله تعالى : {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} السندس : الرفيق النحيف ، واحده سندسة ؛ قال الكسائي. والإستبرق : ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير. قال الشاعر : تراهن يلبسن المشاعر مرة ... وإستبرق الديباج طورا لباسها فالإستبرق الديباج. ابن بحر : المنسوج بالذهب. القتبي : فارسي معرب. الجوهري : وتصغيره أبيرق. وقيل : هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين ؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب ، على ما تقدم ، والله اعلم. "وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر ؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم ، والسواد يذم ، والخضرة بين البياض والسواد ، وذلك يجمع الشعاع. والله اعلم. روى النسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص فال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله ، أخبرنا عن ثياب الجنة ، أخلق يخلق أم نسج ينسج ؟ فضحك بعض القوم. فقال لهم :" مم تضحكون من جاهل يسأل عالما "فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أين السائل عن ثياب الجنة "؟ فقال : ها هو ذا يا رسول الله ؛ قال" لا بل تشقق عنها ثمر الحنة "قالها ثلاثا. وقال أبو هريرة : دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه. وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون ، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه ، يقول أحد الوجهين للآخر : أنا أكرم على ولي الله منك ، أنا ألي جسده وأنت لا تلي. ويقول الآخر : أنا أكرم على ولي الله منك ، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر." قوله تعالى : {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} "الأرائك" جمع أريكة ، وهي السرر في الحجال. وقيل الفرش في الحجال ؛ قاله الزجاج. ابن عباس : هي الأسرة من ذهب ، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال ، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. وأصل متكئين موتكئين ، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ ، وأصل التكأة وكأة ؛ ومنه التوكأ للتحامل على الشيء ، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الاتكاء. {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} يعني الجنات ، عكس : {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} وقد تقدم. ولو كان "نعمت" لجاز لأنه اسم للجنة. وعلى هذا {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} . وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال : إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم" ذكره الماوردي ، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن ، قال : حدثنا أبو عبدالله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : قام أعرابي... ؛ فذكره. وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام. وقد روينا جميع ذلك بالإجازة ، والحمد لله. الآية : 32 { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} الآية : 33 {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} الآية : 34 {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين ، وهو متصل بقوله : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف : 28] . واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما ؛ فقال الكلبي : نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين ، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الأسود بن عبدالأسد ، وهما الأخوان المذكوران في سورة "الصافات" في قوله : {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات : 51] ، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار ، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال... ؛ ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة. وقيل : هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل : هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه ؛ شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا ؛ في قول ابن عباس. وقال مقاتل : اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال : اسم الخير منهما تمليخا ، والآخر قرطوش ، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم ، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة ، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع ، وبنى أيضا مساجد ، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار ، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا ، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى ؛ وأدركت الأول الحاجة ، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال : لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي ، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب ، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له : ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك ؟ . قال : اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أإنك لمن المصدقين ، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها ، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان ، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال ، وذلك أني كسبت وسفهت أنت ، اخرج عني. ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر ، والمعنى متقارب. قال عطاء : كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل : ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها ، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار ، فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار ، فتصدق بها ، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار ، فقال : اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار ، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار ، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار ، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال : ما فعل مالك ؟ فأخبره قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له : أنت تعبد إله السماء ، وأنا لا أعبد إلا صنما ؛ فقال صاحبه : والله لأعظنه ، فوعظه وذكره وخوفه. فقال : سر بنا نصطد السمك ، فمن صاد أكثر فهو على حق ؛ فقال له : يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال : فأكرهه على الخروج معه ، فابتلاهما الله ، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه ، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء ؛ فقال له : كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا ، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال : فضج الملك الموكل بهما ، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها ، فلما رأى ما أعد الله له قال : وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا ؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال : وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده ، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون ، فقال : {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات : 51] الآية ؛ فنادى مناد : يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم ؛ فنزلت {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} . بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة ، وبين حالهما في الآخرة في سورة "الصافات" في قول : {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} - إلى قوله - {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات : 51] . قال ابن عطية : وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين ، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة ، وإياها عني بهذه الآية. وقد قيل : إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة ، وليس بخبر عن حال متقدمة ، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة ، وجعله زجرا وإنذارا ؛ ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا ، والله اعلم. قوله تعالى : {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب ، وجمعه أحفة ؛ ويقال : حف القوم بفلان يحفون حفا ، أي طافوا به ؛ ومنه { حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر : 75] . {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} أي جعلنا حول الأعناب النخل ، ووسط الأعناب الزرع. قوله تعالى : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} أي كل واحدة من الجنتين ، واختلف في لفظ "كلتا وكلا" هل هو مفرد أو مثنى ؛ فقال أهل البصرة : هو مفرد ؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير "كل" في المجموع ، وهو اسم مفرد غير مثنى ؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة ، تقول : رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين ؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب ، تقول : رأيت كليهما ومررت بكليهما ، كما تقول عليهما. وقال الفراء : هو مثنى ، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث ، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد ، ولو تكلم به لقيل : كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر : في كلت رجليها سلامى واحده ... كلتاهما مقرونة بزائده أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة ؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر ، ولأن معنى "كلا" مخالف لمعنى "كل" لأن "كلا" للإحاطة و "كلا" يدل على شيء مخصوص ، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة ، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة ، فثبت أنه اسم مفرد كمعى ، إلا أنه وضع ليدل على التثنية ، كما أن قولهم "نحن" اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما ، يدل على ذلك قول جرير : كلا يومي أمامة يوم صد ... وإن لم نأتها إلا لماما فأخبر عن "كلا" بيوم مفرد ، كما أفرد الخبر بقوله "آتت" ولو كان مثنى لقال آتتا ، ويوما. واختلف أيضا في ألف "كلتا" ؛ فقال سيبويه : ألف "وكلتا" للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا ، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث ، والألف "في كلتا" قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث ، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل ، وتقديرها عنده : فعتل ، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل ، وتقديرها عنده : فعتل ، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي ، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي ؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس : وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى ، وأن تقول : كلتا الجنتين آتتا أكلهما ؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء : كلتا الجنتين آتى أكله ، قال : لأن المعنى كل الجنتين. قال : وفي قراءة عبدالله "كل الجنتين أتى أكله" . والمعنى على هذا عند الفراء : كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل "بضم الهمزة" ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل ؛ ومنه قوله تعالى : {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد : 35] وقد تقدم . {آتَتْ أُكُلَهَا} تاما ولذلك لم يقل آتتا. {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص. قوله تعالى : {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق "ثمر" بفتح الثاء والميم ، وكذلك قوله : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف : 42] جمع ثمرة. قال الجوهري : الثمرة واحدة الثمر والثمرات ، وجمع الثمر ثمار ؛ مثل جبل وجبال. قال الفراء : وجمع الثمار ثمر ؛ مثل كتاب وكتب ، وجمع الثمر أثمار ؛ مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر ؛ يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو "وكان له ثمر" بضم الثاء وإسكان الميم ، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس : ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في "الأنعام" نحو هذا مبينا. ذكر النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال : لو سمعت أحدا يقرأ "وكان له ثمر" لقطعت لسانه ؛ فقلت للأعمش : أتأخذ بذلك ؟ فقال : لا ؟ ولا نعمة عين. فكان يقرأ "ثمر" ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس : فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار ، ثم جمع ثمار على ثمر ؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم ؛ لأن قوله : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} يدل على أن له ثمرا. قوله تعالى : {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة ، والتحاور التجاوب. ويقال : كلمته فما أحار إلي جوابا ، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا ؛ أي ما رد جوابا. {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} النفر : الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد ، حسبما تقدم بيانه. الآية : 35 {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} الآية : 36 {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} قوله تعالى : {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} قيل : أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي بكفره ، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} أنكر فناء الدار. {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي لا أحسب البعث كائنا. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه ؛ وهو معنى قوله : {لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام "منهما" . وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة "منها" على التوحيد ، والتثنية أولى ؛ لأن الضمير أقرب إلى الجنتين. الآية : 37 {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} الآية : 38 {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} قوله تعالى : {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} يهوذا أو تمليخا ؛ على الخلاف في اسمه. {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. و {سَوَّاكَ رَجُلاً} أي جعلك معتدل القامة والخلق ، صحيح الأعضاء ذكرا. {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} كذا قرأه أبو عبدالرحمن السلمي وأبو العالية. وروي عن الكسائي "لكن هو الله" بمعنى لكن الأمر هو الله ربي ، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون "لكنا" بإثبات الألف. قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لكن الله هو ربي أنا ، فحذفت الهمزة من "أنا" طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف "أنا" في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس : مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة : الأصل لكن أنا ، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك ، وأنشدنا الكسائي : لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها أراد : لله إنك ، فأسقط إحدى اللامين من "لله" وحذف الألف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل : وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي أي لكن أنا. وقال أبو حاتم : ورووا عن عاصم "لكنا هو الله ربي" وزعم أن هذا لحن ، يعني إثبات الألف في الإدراج. قال الزجاج : إثبات الألف في "لكنا هو الله ربي" في الإدراج جيد ؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال : وفي قراءة أبي "لكن أنا هو الله ربي" . وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب "لكنا" في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف. وقال الشاعر : أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما وقال الأعشى : فكيف أنا وانتحال القوافي ... بعد المشيب كفى ذاك عارا ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} "هو" ضمير القصة والشأن والأمر ؛ كقوله : {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء : 97] وقوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص : 1] . وَلا أُشْرِكُ https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الكهف من صــ 406 الى صــ 415 الحلقة (450) بِرَبِّي أَحَداً دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه ، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه ؛ وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه ، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى ، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه ؛ فهو إشراك. الآية : 39 {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} الآية : 40 {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} الآية : 41 {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} فيه مسألتان : - الأولى : - قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي بالقلب ، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه ، إذ قال : {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} لكهف : 35] و "ما" في موضع رفع ، تقديره : هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء : الأمر ما شاء الله ، أو هو ما شاء الله ؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى. وقيل : الجواب مضمر ، أي ما شاء الله كان ، وما لا يشاء لا يكون. {لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك ، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع. الثانية : - قال أشهب قال مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة : رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة : "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت : بلى يا رسول الله ، قال "لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه : فقال "يا أبا موسى أو يا عبدالله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة -" قلت : ما هي يا رسول الله ، قال : "لا حول ولا قوة إلا بالله" . وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت : بلى ؛ فقال "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" . وروي أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال : باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة : إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت ، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت ، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له : "هديت وكفيت ووقيت" . وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي" . وقال الحاكم أبو عبدالله في علوم الحديث : سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء" من الضعيف ؟ قال : الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين" . وقد قال قوم : ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به. وروي أن من قال أربعا أمن من أربع : من قال هذه أمن من العين ، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان ، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس ، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم. قوله تعالى : {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} "إن" شرط "ترن" مجزوم به ، والجواب "فعسى ربي" و "أنا" فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر "إن ترن أنا أقل منك" بالرفع ؛ يجعل "أنا" مبتدأ و "أقل" خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمفعول الأول النون والياء ؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها ، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و {فَعَسَى} بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ} أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي على جنتك. {حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي مرامي من السماء ، وأحدها حسبانة ؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي : والحسبانة السحابة ، والحسبانة الوسادة ، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري : والحسبان "بالضم" : العذاب. وقال أبو زياد الكلابي : أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب ، قال الله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن : 5] . وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج : الحسبان من الحساب ؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب ، وهو حساب ما اكتسبت يداك ؛ فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا : سهام قصار يرمى بها في طلق واحد ، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب. {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم ، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض ؛ و "زلقا" تأكيد لوصف الصعيد ؛ أي وتزل عنها الأقدام لملاستها. يقال : مكان زلق "بالتحريك" أي دحض ، وهو في الأصل مصدر قولك : زلقت رجله تزلق زلقا ، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة : كأنها حقباء بلقاء الزلق والمزلقة والمزلقة : الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق ، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه ؛ قال الجوهري. والزلق المحلوق ، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة ، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر ؛ قاله القشيري. {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} أي غائرا ذاهبا ، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم ؛ كما يقال : رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح ؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم : تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا آخر : هريقي من دموعهما سجاما ... ضباع وجاوبي نوحا قياما أي نائحات. وقيل : أو يصبح ماؤها ذا غور ؛ فحذف المضاف ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] ذكره النحاس. وقال الكسائي : ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغوورا ، أي سفل في الأرض ، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغوورا ؛ دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال : أغارت عينه أم لم تغارا وغارت الشمس تغور غيارا ، أي غربت. قال أبو ذؤيب : هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي لن تستطيع رد الماء الغائر ، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل : فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره. الآية : 42 {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} قوله تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اسم ما لم يسم فاعله مضمر ، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى "أحيط بثمره" أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما ؛ لأن هذا يصدر من النادم. وقيل : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق ؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد ، من قولهم : في يده مال ، أي في ملكه مال. ودل قوله "فأصبح" على أن هذا الإهلاك جرى بالليل ؛ كقوله : {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم : 19] ويقال : أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خالية قد سقط بعضها على بعض ؛ مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت ، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت ، وكذلك إذا سقطت ؛ ومنه قوله تعالى : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل : 52] ويقال ساقطة ؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها ؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل ، وهذا من أعظم الجوانح ، مقابلة على بغية. {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي يا ليتني عرفت نعم الله علي ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم. الآية : 43 {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} قوله تعالى : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} "فئة" اسم "تكن" و "له" الخبر. "ينصرونه" في موضع الصفة ، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون "ينصرونه" الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم "له" . وأبو العباس يخالفه ، ويحتج بقول الله عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص : 4] . وقد أجاز سيبويه الآخر. و "ينصرونه" على معنى فئة ؛ لأن معناها أقوام ، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره ؛ أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم. قوله تعالى : {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي ممتنعا ؛ قاله قتادة. وقيل : مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في "آل عمران" . والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه ، أصله فيء مثل فيع ؛ لأنه من فاء ، ويجمع على فئون وفئات ، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله ، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد. الآية : 44 {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} قوله تعالى : {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اختلف في العامل في قوله "هنالك" وهو ظرف ؛ فقيل : العامل فيه : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} ولا كان هنالك ؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك ، أي لما أصابه من العذاب. وقيل : تم الكلام عند قوله : {مُنْتَصِراً} . والعامل في قوله : {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ} . وتقديره على التقديم والتأخير : الولاية لله الحق هنالك ، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي "الحق" بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة "الحق" بالخفض نعتا لله عز وجل ، والتقدير : لله ذي الحق. قال الزجاج : ويجوز "الحق" بالنصب على المصدر والتوكيد ؛ كما تقول : هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي "الولاية" بكسر الواو ، الباقون بفتحها ، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل : الولاية بالفتح من الموالاة ؛ كقوله : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة : 257] . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد : 11] . وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة ؛ كقوله : {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار : 19] أي له الملك والحكم يومئذ ، أي لا يرد أمره إلى أحد ؛ والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوي والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد : إنها بفتح الواو للخالق ، وبكسرها للمخلوق. {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به ، وليس ثم غير يرجى منه ، ولكنه أراد في ظن الجهال ؛ أي هو خير من يرجى. {وَخَيْرٌ عُقْباً} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى "عقبا" ساكنة القاف ، الباقون بضمها ، وهما بمعنى واحد ؛ أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به. يقال : هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه ، أي آخره. الآية : 45 {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا ، أي شبهها. {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي بالماء. {نَبَاتُ الْأَرْضِ} حتى استوى. وقيل : إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء ؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في "يونس" مبينا. وقالت الحكماء : إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع ، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا ، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى ، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا ، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل : يا رسول الله ، إني أريد أن أكون من الفائزين ؛ قال : "ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي" . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه" . {فَأَصْبَحَ} أي النبات {هَشِيماً} أي متكسرا من اليبس متفتتا ، يعني بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم : كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر ، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم : ما فلان إلا هشيمة كرم ؛ إذا كان سمحا. ورجل هشيم : ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف.واهتشم واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال : هشم الثريد ؛ ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو ، وفيه يقول عبدالله بن الزبعرى : عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له ، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة ، وهشم ذلك الخبز ، يعني كسره وثرده ، ونحر تلك الإبل ، ثم أمر الطهاة فطبخوا ، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة ؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم ؛ فسمي بذلك هاشما. {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه ؛ قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة : تنسفه. ابن كيسان : تذهب به وتجيء. ابن عباس : تديره ؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف "تذريه الريح" . قال الكسائي : وفي قراءة عبدالله "تذريه" . يقال : ذرته الريح تذروه ذروا و [تذريه] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء : أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء : فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيذرك من أخرى القطاة فتزلق قوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} من الإنشاء والإفناء والإحياء ، سبحانه. الآية : 46 {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} قوله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويجوز "زينتا" وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا ، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا ، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين ؛ لأن المعنى : المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف ، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح ؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفي قي هذا قول الله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن : 15] . وقال تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14] . قوله تعالى : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي أفضل {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح ، وليس في زينة الدنيا خير ، ولكنه خرج مخرج قوله : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان : 24] . وقيل : خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم. واختلف العلماء في {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} ؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل : هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا : أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله ؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي رضي الله عنه : الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون ؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام. وقال الجمهور : هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات : إنها قول العبد : الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "استكثروا من الباقيات الصالحات" قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : "التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله" . صححه أبو محمد عبدالحق رحمه الله. وروى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال : "إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات" . ذكره الثعلبي ، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها" . وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال : "إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة" . قال : هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس ، إلا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال : حديث حسن غريب ، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه - فقلت : ما غراس الجنة ؟ قال : "لا حول ولا قوة إلا بالله" . وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال : "يا أبا هريرة ما الذي تغرس" قلت غراسا. قال : "ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة" . وقد قيل : إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات ؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع ؛ قال الحسن. وقال عبيد بن عمير : هن البنات ؛ يدل عليه أوائل ، الآية ؛ قال الله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا ، https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
الساعة الآن : 09:49 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour