رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (121) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (25) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم)، فيه فوائد: الأولى: قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا): استعمال اسم الإشارة للبعيد لعلوِّ شأن الحجة الربانية التي يؤتيها الله -عز وجل- أنبياءه ورسله، وأولياءه مِن أهل العِلْم لنصرة التوحيد وإثبات الرسالة، وبطلان عبادة غير الله والبراءة من الشرك وأهله ومعرفة عاقبة التوحيد وعاقبة الشرك، وهي أعلى الحجج شأنًا، وهي الحجة المبنية على الوحي الذي يرشد العقل الإنساني إلى أحسن الطرق للفهم والإدراك، والمعرفة الحقيقية للحق والباطل، لا الحجج السخيفة الفلسفية والكلامية التي سَمَّاها أصحابها حججًا عقلية، وهي تؤدي دائمًا إلى أشدِّ النتائج تناقضًا، ولا يعرف بها حقٌّ مِن باطل في حقيقة الأمر، وهي مجرد كلام لا طائل منه، ولا يرشد القلب إلى صلاحه في الدنيا والآخرة، ولا يحييه بنور الإيمان. ومَن أراد أن يعرفَ الفَرْق بين حجج الله المنيرة، وبين الطرق الفلسفية والكلامية؛ فليأخذ قضية واحدة أيما ما كانت، ولتكن مثلًا: قضية القضاء والقَدَر، والعلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان وقدرته وفعله، وليقارن بين الطريقتين، وسيعلم قطعًا أن الحجج القرآنية والنبوية المتمثِّلة في الأحاديث الصحيحة هي التي تتضمَّن تَوَافق العقل والنقل، والفطرة الصحيحة، وتتضمَّن العدل الوسط بين فِرَق الجبرية والقدرية، والتي يجزم العقل السليم ببطلان هذه المذاهب كلها، وسيجزم أن ما جاء به الوحي هو الذي يتطابق تمامًا مع العقل ولا يخالفه، فاللهم لك الحمد على نعمة الوحي. وإن أردتَ المزيدَ مِن مراجعة هذه القضية؛ فارجع إلى كتاب: "كيف نؤمن بالقدر؟"، وكتاب: "شرح شفاء العليل للإمام ابن القيم"، وستجد -إن شاء الله- ما يريح القلب في هذه القضية التي حَيَّرت البشرية التائهة بعيدًا عن نور الوحي. وتأمل أثر الطرق الفلسفية والكلامية في عقيدة النصارى -بعيدًا عن الكتب المُنَزَّلة فإنها حتى بعد التحريف والتبديل ما زالت تتضمَّن مِن أدلة التوحيد، وانفراد الله بالإلهية والربوبية-؛ إذ يجزم كلُّ عاقلٍ أن ما تضمَّنه قانون الإيمان المسيحي المأخوذ من الفلسفة اليونانية يتناقض تمامًا مع ما جاءت به الرُّسُل؛ فضلًا عن أن تقارن هذا مع القرآن العظيم وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه القضية الخطيرة؛ قضية عبودية المسيح لله -عز وجل-، وعدم مشاركته لله -عز وجل- في شيء مِن الربوبية والألوهية. وستجد أيضًا: الفَرْق الهائل في الأثر في القلب بين نصوص الوحي، وبين علم الكلام والفلسفة الذي يوصل إلى النتائج المتناقضة التي لا يقبلها عقل سليم. ولتتأمل أيضًا: في قضية انفراد الرب -سبحانه- بالضر والنفع، والإحياء والإماتة، والملك وتدبير الكون، كما دَلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة، وبين خرافات الطرق الصوفية، وزبالة أفكار المبتدعين الذين وصلوا ببدعتهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وأن لا فرق بين العبد والرب! فـالـرب عـبـد والــعـبـد رب فيا ليت شعري مَن المُكَـلَّـف إن قــلـت عــبـد فــذاك رب وإن قــلـت رب أنَّى يُكــَلَّـف! قارن بين هذه النصوص وبين خرافات أهل الضلال، كقصة ذاك الشيخ الذي يبيع المخدرات على باب الجامع الأزهر ويترك الصلاة، فوقع في نَفْس الإمام ابن حجر أمير المؤمنين في الحديث، شارح البخاري: كيف يكون مدعيًا للولاية، وفي نفس الوقت يبيع المخدرات؟! فاطلع الشيخ على ما في قلبه، فنزع منه الفاتحة، فوقف ليصلي فما استطاع أن يصلي! فأتاه، فقال: رُدَّ عليَّ ما أخذت مني. فقال: هل علمتَ ما فعلت؟ قال: نعم. قال: هل تريد أن ترجع إليك الفاتحة؟ قال: نعم. قال: فاجلس بجواري لكي تقطِّع الحشيش وتبيعه معي! اللهم إنا نبرأ إليك مِن الضلالة. وأفظع من ذلك: ذلك الشيخ الذي عَلَّم أحد المريدين الأوراد والطريقة التي يلتزمون بها ثم بعثه إلى أحد القرى ليرشد، فغاظ ذلك أحد مشايخ الطرق الأخرى فقبض روحه، فجاء المريدون إلى الشيخ وقالوا: أدركنا يا شيخ، لقد قبض الشيخ الميرغني روح صاحبنا، فقال: فغضبتُ غضبًا شديدًا وطرتُ أنا وأحد مساعدي، فوجدت الرجل قد كُفِّن ويستعدون للدفن، ووجدت الشيخ الميرغني ممسكًا بروحه وقد قبضها، فقلت له: كيف تقبض روح المرشد؟ فقال: أنا أفعل ما أشاء، الملك ملكي! قال: فقلت له: وأنا شريك لك في الملك. قال: أفعل ما أريد. قال: لا تفعل ما تريد، قال: فلجأت إلى الشيخ إبراهيم الدسوقي، ورفعت يدي لأضربه، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حَضَر فارتجفنا جميعًا، فرد روح المرشد إليه، فقام يمشي يمينًا وشمالًا، ولكن كان الشيخ الميرغني قد شطب رزقه، فسار الرجل فقيرًا لا رزق له، فهو يعيش على أرزاق الناس. فقلت له: اصبر، فإنك لا رزق لك؛ لأن الشيخ الميرغني قد شطب رزقك! اللهم إنا نبرأ إليك من الضلالة. قارن بين هذا وبين نصوص الوحي: لتعلم مَدَى خطر الخرافة، التي جعلت مشايخ الضلالة أربابًا يملكون الموت والحياة، ويملكون الأرزاق، وهم في ذلك يزعمون اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بالقرآن، فاللهم لك الحمد. هذا اليقين بأن الحجة القرآنية والنبوية هي أعلى الحجج، أمر يدركه كلُّ مَن عَلِم الحجة المبنية على الوحي، وحجج المقلِّدين الخرافيين، والفلاسفة المتكلِّمين. فاللهم لك الحمد. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (122) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (26) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83). قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، فيه فوائد: الثانية: قوله -تعالى-: (آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، دليل على الإيمان بالقدر وقدرة الله على قلوب عباده وعقولهم، وتقليب أفكارهم؛ فإن الله هو الذي آتى إبراهيم حجته على قومه، وليس مجرد تحصيل العبد لأدواتها فقط هو الذي يصل به إلى الحجة، بل الله هو الذي يفهم عبده الحجة ويريه دلالتها، كما قال -تعالى-: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)، فالله خص سليمان بالفهم، وأثنى عليه وعلى داود -صلى الله عليهما وسلم- بالعلم، فالله يقلب قلوب العباد حتى تفهم الحجج، ويمكن الألسنة حتى تنطق بها فتقوم الحجة على القوم الكافرين والظالمين، سواء أفهموها أم لا؛ فقد يطبع الله على عقول قوم وقلوبهم فتسمع الحجج، ولا تفهمها وتتلى عليه الآيات ولا تعيها، والبعض قد يفهمها ثم يتولى وهو معرض، كما قال -تعالى-: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)؛ رغم سلامة حاسة السمع إلا أن الله لم يسمع القلوب فلم تعقل الحجة، قال -تعالى-: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). وفائدة هذه المسألة العظيمة: أن العبد لا يجوز له أبدًا أن يغتر بعلمه وحفظه، فالله هو الذي آتاه إياهما، وليس هو الذي ثبت العلم في قلبه، وفتح له أبواب الفهم، فإياك أن تفخر بعلمك وحفظك، أو بقدرتك على الإفحام والمناظرة، والاستعراض للحجج، فإن مرض العجب من أعظم الأمراض المهلكة وهو علامة على الكبر الذي مثقال ذرة منه في القلب تمنع دخول الجنة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) (رواه مسلم)، ولو تفكر الإنسان في حقيقة عقله؛ لعلم أنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، كما قال -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)؛ فكيف يدعي لنفسه أنه مصدر الذكاء والفكر، وهو موهوب له من العدم؛ وهبه الله له من فضله، وآتاه العقل والفهم، وحواس الإدراك التي بها يحصل أدوات العلم، وحرم غيره من ذلك حين لم يكن له ولا لغيره قدرة على شيء من ذلك، ولا علم بشيء من ذلك؟! وأعظم النعم التي ينعم الله بها على عباده هي نعمة الفهم في الدين، ثم العمل والاستجابة لأمر الله -عز وجل-، وحب الإيمان والطاعة، وكراهية الكفر والفسوق والعصيان، (لَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ . فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ): فيه إثبات أن الله هو الخافض الرافع. وفيه؛ إثبات مشيئته -عز وجل- في خفض من يشاء ورفع من يشاء. وفيه: إثبات أن الرفع الحقيقي هو أن يؤتي الله عز وجل عبده حجته بآياته؛ روى مسلم وابن ماجه بإسناد صحيح: أن نافع بن عبد الحارث، لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة (أي: أميرًا عليها)، فقال: من استعملت على أهل الوادي (أي: في فترة غيابك)؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله -عز وجل-، عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين". فبالقرآن وبالعلم وبما فيه من الفرائض يرفع الله أقوامًا كانوا قبله موضوعين ناقصين، فجبر الله كسرهم ونقصهم بالقرآن والعلم، ودرجات الآخرة في الرفعة أعظم من درجات الدنيا، (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فيه: إثبات صفة العلم وصفة الحكمة لله -سبحانه وتعالى-، وهما صفتان متلازمتان، خلافًا لمن أنكر الحكمة من الأشاعرة، وغيرهم، وزعم أنها -بجهله-: صفة نقص! ونفى أن يكون الله يفعل شيئًا لشيء، أو يقدر شيئًا لشيء، أو يشرع شيئًا لشيء، مع أن القرآن مليء بإثبات ذلك في عشرات أو مئات الآيات. ومعنى اسم الله الحكيم يشمل معنيين: معنى الإحكام: فهو المحكم -سبحانه- لكل شيء خلقه، وقد أتقنه غاية الإتقان: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88). ومن هذا أيضًا: إحكامه آياته -سبحانه وتعالى-، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1). والمعنى الثاني: معنى الحكمة فيما خلق، وفيما شرع، فالله -عز وجل- وضع كل شيء في موضعه؛ وضع الحجة العالية والهداية والمنزلة الرفيعة، والدرجات والطاعة والشكر لمن تناسبه، كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53). وهو -سبحانه وتعالى- وضع الظلم والكفر والنفاق في مواضعها، وهو أعلم بالظالمين، فحكمته بعلمه؛ وعلمه بحكمته؛ فهما صفتان متلازمتان من صفات الكمال، وكذلك شرع الشرائع للحكم، وقدر مصالح العباد فيما شرعه لهم من شرائع، وله الحكمة فيما قسم من الأرزاق المادية الدنيوية والدينية الشرعية، وهو -عز وجل- خلق أرضًا طيبة وأرضًا خبيثة، ووضع البذر الطيب الذي أنبت الشجر الطيب في الأرض الطيبة، والبذر الخبيث الذي أنبت الشجر الخبيث في الأرض الخبيثة؛ بعلمه وحكمته. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (123) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (27) كتبه/ ياسر برهامي فقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 84-90). فيها فوائد: الأولى: لما فارق إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قومه هو وسارة؛ أبدله الله ذرية طيبة على الكبر، عاشوا مع إبراهيم وسارة على الإيمان والتوحيد؛ فهي خير الصحبة. وأبدله الله أرضًا طيبة مباركة هي مِن خير الأرض؛ أرض بيت المقدس بدلًا من وطنه الأول الذي أبى قومه الإيمان رغم رؤيتهم الآيات والحجج، وأعطاه الله رزقًا واسعًا؛ حتى ذبح عجلًا سمينًا لعددٍ محدودٍ من الأضياف الذين لم يأكلوا منه شيئًا إذ كانوا من الملائكة وهو لا يدري؛ فدل ذلك على أن العبد إذا ترك شيئًا لله فإن الله يخلفه خيرًا منه وأفضل منه، وأكثر بركة، وأحسن صحبة، وأعظم أجرًا عنده في الآخرة، وقد جعل الله إسحاق ويعقوب ذرية مهتدية، قرة عين أبيهم وجدهم. الثانية: ذكر الله نوح -عليه الصلاة والسلام- في مقام الثناء على إبراهيم -صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم-، وإبراهيم ومَن بعده هم مِن ذرية نوح؛ تشريفًا لنوح -عليه السلام- وقد اختلف العلماء في الضمير في قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)؛ هل يعود على نوح أم يعود على إبراهيم؟ والصحيح: أن الضمير في قوله -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يعود على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن سياق الآيات كلها في ذكر فضائله، وإن كان لوط -عليه السلام- ليس من ذريته، ولكنه ابن أخيه، وعم الرجل صنو أبيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) (رواه مسلم)، كما أن إيمان لوط -عليه السلام- كان بإبراهيم كما قال -تعالى-: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (العنكبوت: 26)، فكانت أبوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للوط -عليه السلام- مع كونه عمه؛ أبوة الإيمان وولادة الروح به، كما قال -تعالى-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَي: "وهو أب لهم"، والله أعلم. وبعض أهل العلم رَجَّح أن الضمير يعود إلى نوح، فقالوا: إن جميع المذكورين من ذرية نوح، وهو معنى صحيح، لكن السياق يرجِّح أنه مدح لإبراهيم، وبيان ثوابه في الدنيا والآخرة، والله أعلم. الفائدة الثالثة: ذَكَر الله هدايته واجتبائه لجميع هؤلاء الأنبياء، ومَن اجتباه واختاره لهُدَاه مِن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم اجتباء نبوة لبعض هؤلاء الذرية والآباء، والأبناء والإخوة، أو اجتباء الصلاح والهداية، وكله اجتباء كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: 77-78). وهذا الوصف الذي ذَكَره الله للأنبياء: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وقوله: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ هو الوصف المشترك الذي يجمع بين الأنبياء وأتباعهم، ووصف الهداية والصلاح والإحسان هو الذي حَفَّز أهلَ الإيمان مِن عباد الله الصالحين على الاقتداء والاتباع للأنبياء؛ لأن بينهم وبينهم قَدْر مشترك، هو: الإحسان والصلاح، والاجتباء والهداية؛ فهي زمرة مباركة صالحة، وهي نعم الرفيق في الدنيا والآخرة. الفائدة الرابعة: وفي الآيات إثبات هداية الله لمَن يُشَار مِن عباده، وهي هداية التوفيق والإسعاد والمَنِّ والفضل، وخلق الهدى في قلوب المؤمنين من عباده، وفي هذا: إثبات القدر، وإثبات قدرة الله ومشيئته لأفعال العباد الاختيارية: الظاهرة والباطنة؛ خلافًا للمعتزلة النافين لذلك، المثبتين قدرة الله ومشيئته على الذوات دون الأفعال، مع نفي خلق أفعال العباد! وكل ذلك باطل يردُّه صريح القرآن. الفائدة الخامسة: دين الأنبياء واحد، هو الصراط المستقيم الذي هو العِلْم بالحق والعمل به، بالقلب واللسان والجوارح؛ الذي بُنِي على توحيد الله واتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فهو طريق توحيد المعبود -سبحانه-، وطريق المتبوع -صلوات الله وسلامه على الرسل أجمعين-. الفائدة السادسة: قوله -تعالى- (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 88)، دليل على أن الشرك محبط للعمل، كما دَلَّت عليه آيات القرآن؛ قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65-66)، وقال -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَ?ئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود: 15-16)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) (متفق عليه). وهذا يدل على أنه مهما تحمَّل الإنسان من جهد في العبادة أو الزهد، أو حرمان نفسه من ملاذ الحياة، أو عذَّب نفسه بالرهبانية؛ لا يقبل الله ذلك منه إذا أشرك بالله، أو ادَّعى له صاحبة أو ولدًا، أو كَذَّب ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، كما قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ، مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ". المسألة السابعة: قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) دليل على أن شرع الأنبياء قبلنا الذي ثبت بشرعنا كتاب وسنة، شرع لنا ما لم يَرِد شرعنا بخلافه؛ فالأصل عدم النسخ في هذه الشرائع الثابتة بما قَصَّ الله علينا في كتابه، أو أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، ولكن يجب الانتباه إلى أن حكايات أهل الكتاب من كتبهم وعن أنبيائهم لا يعتد بها؛ لما علمنا بنصِّ القرآن من تحريفهم الكلم عن مواضعه، ونسيان ما ذُكِّروا به؛ فقد زادوا وأنقصوا، وحرَّفوا وبدَّلوا في الوحي المنزَّل إليهم؛ فلا يعتد لذلك بكلامهم، فالعبرة في هذه المسألة على ما ثَبَت بشرعنا أنه كان شريعة لأنبياء الله ورسله، ولم يأتِ شرعنا بخلافه، فإن أَتَى شرعنا بخلافه؛ فهو منسوخ. المسألة الثامنة: الرسل لا يأخذون أجرًا على دعوتهم وتعليمهم للناس، وكذلك أتباعهم الصادقون من أئمة الأمة، لم يأخذوا أجرًا، ولا يأخذون أجرًا على الدعوة وتعليم العِلْم، ونشر السُّنن؛ فهؤلاء أئمة الأمة: كالأئمة الأربعة، وشيوخهم، وتلامذتهم، ما أخذوا درهمًا واحدًا على ما عَلَّموا الأمة، وهؤلاء علماء الحديث الذين رَحَلوا في البلاد كلها: كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم؛ ممَّن بَذَلوا أعمارهم في جمع السنة: هل أخذوا درهمًا واحدًا على تعليم العِلْم؟! نسال الله أن يجعلنا من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادقين. المسألة التاسعة: قوله -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ): فيه إثبات عالمية الإسلام منذ العهد الأول، ومنذ كان الإسلام محاصرًا في مكة، ومع ذلك فقد استقر في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به أن هذا الدِّين ليس خاصًّا بالعرب، ولا بأهل مكة، ولا بقوم دون قوم، بل القرآن ذِكْر للعالم كله، يجب على الإنس والجن الإيمان به واتباعه، والعمل به، ويجب على المؤمنين نَشْر هذا القرآن والدعوة إليه، والدعوة به في أرجاء العالم كله؛ لا يختص بذلك بلد دون بلد، ولا جنس دون جنس، ولا لسان دون لسان، بل يُترجَم إلى الألسنة إلى أن يتعلَّم أهل الألسنة الأخرى لغة العرب؛ ليحسنوا تلاوة القرآن، فيحسنوا التذكر به. نسال الله أن يَمُنَّ علينا بالذكرى، والحمد لله رب العالمين. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (124) دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هو الحنيفية المسلمة، وهو دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (28) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لما ذَمَّ الله -عز وجل- الذين فَرَّقوا دينهم -وقُرئ: "فارقوا دينهم"- وكانوا شيعًا؛ بَيَّن -سبحانه وتعالى- الدِّين الحق الذي بَعَث الله به أنبياءه ورسله، وبَعَث به إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأرسل به رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ليجدد دين الأنبياء ويتم تفصيل ما بدأوه، ويخالف الذين فارقوا دين التوحيد والحنيفية والإسلام من أهل الكتاب، ومن أهل الأوثان، وهم الذين فارقوا دينهم وفرَّقوه كذلك، فإنهم تمسكوا ببعض ما كان منه وتركوا أعظم ما أُمِروا به، وهو الحنيفية، وهي التوحيد والميل إلى الله والإعراض عمَّن سواه؛ فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس: إن الله هداه إلى هذا الدِّين، وهو الحنيفية المسلمة. قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يقول الله -تعالى- آمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- سيدَ المرسلين أن يخبر بما أنعم الله به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، دينًا قِيَمًا، أي: قائمًا ثابتًا، (مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة: 130)، وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)، وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). وليس يلزم مِن كونه -عليه السلام- أُمِر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه -عليه السلام- قام بها قيامًا عظيمًا، وأُكملِت له إكمالًا تامًّا لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال؛ ولهذا كان خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرهب إليه الخلق حتى الخليل -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال ابن مردويه سنده عن ابن أبزى، عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح قال: (أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّة الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الشيخ الألباني). وقال أحمد أيضًا بسنده: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذقني على منكبه؛ لأنظر إلى زفن الحبشة (قلتُ: لعبهم ورقصهم بالحراب)، حتى كنت التي مللتُ، فانصرفتُ عنه. قال عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ: (لِتَعْلَمَ يَهودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنيفيَّة سَمْحَة)؛ أصل الحديث مخرج في الصحيحين، والزيادة لها شواهد من طرق عِدَّة (وحسنه الشيخ الألباني)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرف). وفي قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي)، فوائد: الفائدة الأولى: أن هداية الله -عز وجل- هي سبب الخير الذي هُدِي إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وجاء به، وهدينا نحن بذلك؛ فلا بد من شهود فضل الله -سبحانه وتعالى- بالهداية كما بَيَّن الله -عز وجل- في مواطن مِن كتابه، وأن هذه حال أهل الجنة جميعًا؛ إذا دخلوا الجنة فهم يشهدون نعمة الله عليهم بالهداية، وقالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وفي هذا إثبات الإيمان بالقَدَر كما تضمنته سورة الأنعام مبينًا في مواضع كثيرة، وباقي سور القرآن. الفائدة الثانية: في قوله: (هَدَانِي رَبِّي) ذِكْرُ اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد؛ فيه شهود إصلاح الله -عز وجل- الخاص للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ عبدٍ يجب عليه أن يشهد مِنَّة الله -عز وجل- عليه، وكل مؤمن يرى أن إصلاح الله -عز وجل- له في أمر الدِّين هو أعظم إصلاح وأعظم نعمة، وإرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدِّين، هو أعظم نعمة. قال الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)؛ ولذلك كان الإسلام الذي بُعِث به النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الدين؛ قد جَمَع الله -عز وجل- فيه ما يصلح البشرية؛ أفرادًا وجماعات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حين أُمِر أن يخاطب قومه بذلك، كان هو -عليه الصلاة والسلام- في أعظم نعمة من الله في وسط الجاهلية الظلماء الظالمة، التي لا نور فيها؛ فناسب ذلك أن يذكر اسم الربوبية "الرب"، وهو بمعنى المصلح لشأن عباده، مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد: "رَبِّي"، ليكون ذلك شاهدًا على نعمة الله -عز وجل- العظيمة التي هي أعظم نعمة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحن تبع لها؛ قال الله -عز وجل-: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). الفائدة الثالثة: الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام، وهو الدِّين القّيِّم -وقرأ: "قَيِّمًا وقِيَمًا"، وهما بمعنى واحد، وهما قراءتان متواترتان، بأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب- مبنيٌّ على العلم النافع والعمل الصالح؛ على صحة الاعتقاد والتصور والفهم، وعلى صحة الإرادة والقصد والعمل؛ خلافًا لصراط المغضوب عليهم، الذين فَقَدوا الإرادة الصحيحة والعمل الصالح رغم معرفتهم بالحق، وغير صراط المغضوب عليهم الذين جَهِلوا الحق بإعراضهم عنه، فلم يعلموه ولم يعملوا به؛ أما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد بُعِث بالصراط المستقيم وهدي إليه، كما قال -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (النجم: 1-2)؛ فكمَّل الله له كمال الهداية والفهم والعقيدة بنفي الضلال عنه، وكمَّل الله له كمال الإرادة والقصد والعمل بنفي الغواية عنه. الفائدة الرابعة: الدِّين القَيِّم والدِّين القِيَم، هو المستقيم القائم بالحق، الثابت الذي لا اعوجاج فيه، فالله -عز وجل- أنزل على عبدة الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا قَيِّمًا، وهي نعمة الله على عباده المؤمنين؛ أن دينهم لا اعوجاج فيه كسائر الملل المنحرفة عن دين الله -سبحانه وتعالى-، وهو ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الحنيف المائل إلى الله، المُعْرِض عن غير الله. الفائدة الخامسة: بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن دِين إبراهيم ودين محمد -صلى الله عليهما وسلم- هو الحنيفية، وكذلك بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه بُعِث بذلك، وذكر أنه بعثت بالحنيفية السمحة، وذلك هو الفطرة التي فَطَر اللهُ الناسَ عليها، كما قال -عز وجل-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، والحنيفية قائمة على توحيد الله -عز وجل- وإفراده بالربوبية والربوبية، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، وحقوقه على العباد، وحبه -عز وجل- والميل إليه وإرادته، وأما ذِكْر السماحة في الحديث الحسن؛ فهو إشارة إلى الأخلاق السهلة، والسهولة التي في التشريعات، فالله -عز وجل- لم يجعل علينا في الدِّين من حَرَج، وشرع لنا أنواعَ التيسير؛ بما في ذلك الإذن باللهو واللعب المباح في أيام العيد، وأيام التشريق، ونحو ذلك. الفائدة السادسة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 79)، فيه تأكيد البراءة من الشرك، فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مشركًا، ولا يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين، والبراءة من الشرك أساس ثبوت لا إله إلا الله؛ وإلا فمَن لم يتبرأ من المشركين، بل عَدَّ الشرك كالإسلام، وسَوَّى بين الملل الكافرة وبين ملة الإسلام؛ فهو لم يعرف ملة الإسلام، وقد قَدَح ذلك فيها، ففي هذا هدم لما يسمونه: "الدين الإبراهيمي الجديد"؛ القائم على مساواة الملل؛ خاصة اليهودية والنصرانية، ثم يتوسَّعون بعد ذلك في البوذية والهندوسية، وغير ذلك، وهي بدعة شركية ضلالة في النار، لا يقول بها مسلمٌ. والحمد لله على هدايته لعباده المؤمنين، نسأل الله أن يجعلنا منهم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (125) عقوبة الله -عز وجل- لقوم إبراهيم لما كَذَّبوه كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة: 70). لم يذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه عقوبة قوم إبراهيم لما كَذَّبوه؛ إلا في هذا الموضع، والله أعلم. والله -عز وجل- قد ذكر عقوبة المكذبين إجمالًا في مواضع متعددة من كتابه، وأما إهلاك قوم إبراهيم فلم يذكره تفصيلًا، وذكره هنا في هذا الموضع إجمالًا، وأكثر المفسرين يذكرون إهلاك الملك النمروذ -الذي حَاجَّ إبراهيم في ربِّه-؛ بعضهم ذكر ذلك بالبعوضة التي دخلت في أنفه حتى دخلت في دماغه، فظل يُضرب بالمطارق حتى هلك مِن شدة الألم، وبعضهم يذكر هلاكه دون تفصيل، وليس في الكتاب ولا في السنة الصحيحة خبر ينبئنا عن كيفية هلاك النمرود. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- واعظًا لهؤلاء المنافقين المكذِّبين للرسل: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: ألم تخبروا خبر مَن كان قبلكم مِن الأمم المكذبة للرسل؛ قوم نوح وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض؛ إلا مَن آمن بعبده ورسوله نوح -عليه السلام-. وعاد كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذَّبوا هودًا -عليه السلام-، وثمود كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحًا -عليه السلام- وعقروا الناقة، وقوم إبراهيم كيف نصره الله عليهم وأيَّده بالمعجزات الظاهرة عليهم، وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني -لعنه الله-، وأصحاب مدين -وهم قوم شعيب عليه السلام- وكيف أصابتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة. (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ): قوم لوط، وقد كانوا يسكنون في مدائن -(قلتُ: أي: كانوا ثلاث قريات، وبذلك جمعت)-، وقال في الآية الأخرى: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) (النجم: 53) أي: الأمة المؤتفكة. وقيل: أم قراهم، وهي "سدوم". والغرض: أن الله -تعالى- أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطًا -عليه السلام-، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين. وقوله: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالحجج والدلائل القاطعات، فما كان الله ليظلمهم، أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أي: بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار" (انتهى من تفسير ابن كثير). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: قد جعل الله -عز وجل- عاقبة تكذيب الرسل، العذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ قال الله -عز وجل-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . ?قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123-125)، وقال -عز وجل-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55)، وقال -عز وجل-: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة: 101). وكل هذه الأدلة تدل على عذاب أهل الكفر والنفاق، والتكذيب للرسل، ومهما رأى الناس مِن نعيمهم الدنيوي، وكثرة أموالهم وسلطانهم ولذاتهم؛ فهم لا يدرون حقيقة تعاستهم؛ ولذا قال -سبحانه وتعالى- في جواب أهل العلم والإيمان للمغرورين مِن قومهم في قصة قارون؛ قال -تعالى-: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) (القصص: 79-81). وما يراه الناس في واقع الحياة اليوم مِن كثرة مُتَع أهل الكفر في الغرب وفي الشرق؛ مما يطلب الناس لأجله الفرار والهجرة إليهم، مع أن ذلك يغلب عليه ضياع الدِّين؛ إما لهؤلاء لمهاجرين، وإما لذرياتهم مِن بعدهم، وما ذلك إلا للغرور الذي يحصل لهم بسبب اللذات الوهمية التي يرونها، مع أن هذه اللذات فيها مِن النكد والغم، وما يعقبها مِن أنواع الآلام؛ بسبب الأمراض، أو بسبب المصائب أو بسبب الاكتئاب الفظيع الذي أدَّى بكثيرٍ منهم إلى الانتحار؛ ما لا يراه الراغبون في مخالطة هؤلاء والهجرة إليهم؛ فليحذر المؤمن على نفسه من مخالطة هؤلاء المعذبين في دنياهم قبل أخراهم. الفائدة الثانية: الله -عز وجل- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة، قال -سبحانه-: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، فالله -عز وجل- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وهذا من مقتضى عدله وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا بَيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا يظلم الناس، وهي: الفائدة الثالثة: قوله -سبحانه-: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فالله -عز وجل- مُنَزَّه في كمال عدله عن الظلم، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 40)، وقال -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) (رواه مسلم). والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس كما يقول البعض من المتكلمين: أنه التَّصَرُّف في غير ملكه؛ ولذا جعلوا الظلم مستحيلًا بذاته في حق الله -سبحانه وتعالى-، وظاهر الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) أنه مُنَزَّه -سبحانه وتعالى- عن فعله مع قدرته عليه، ولكنه لا يفعله؛ لأن كمال عدله ينافي أن يظلم؛ ولذا فإنه -سبحانه وتعالى- لا يعذِّب الناس إلا على أعمالهم، كما في هذا الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)، فلا يُعَذَّب أحدٌ إلا بذنبٍ عمله بإرادته وقدرته التي خلقها الله له، ولا يجوز في حقه -سبحانه وتعالى- أن يعذب الأنبياء والملائكة والطائعين، وينعِّم الكفار والزنادقة والملحدين، والفاسقين والظالمين؛ بحجة أنه يتصرف في ملكه كما يقول الأشاعرة! بل هو -سبحانه وتعالى- لا يفعل ذلك؛ لكمال حكمته -سبحانه-. والحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، لا يعني أن الله يمكن أن يعذِّبَ المطيعين على طاعتهم؛ خاصة الأنبياء والملائكة الذين عصمهم الله مِن معصيته، وهم لو عصوا على مذهب مَن يُجَوِّز الصغائر عليهم؛ فإنهم يتوبون إلى الله، ولا يصرون عليها على قول جميع العلماء، وهذا لا يعذِّب الله -عز وجل- به، وإنما معنى الحديث: أن الله لو أراد أن يعذبهم لجعلهم يفعلون ما يستحقون به العذاب، فيعذبهم وهو غير ظالم لهم، كما قال -سبحانه-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16)، وقال -عز وجل-: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: 73-75). فالله لا يعذِّب أحدًا إلا بعمل، أو قول، أو اعتقاد عمله بقدرته وإرادته التي خلقها الله له؛ ولذا قال الله -عز وجل-: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)؛ فهم لا يعذَّبون إلا على ظلمهم لأنفسهم، وليس على مجرد إرادة الله أن يعذبهم دون عملٍ منهم، فإن هذا لا يكون، ولا يقع؛ لأن الله -تعالى- لا يريد ذلك؛ لكمال علمه وكمال عدله، وكمال حكمته. والله أعلم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (126) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). إن قضيةَ الاستغفار والتَّرَحُّم على الكفار بعد موتهم؛ خاصة إذا كانوا أقارب، أو ممَّن قدَّم شيئًا لخدمة الإسلام أو الأوطان، أو حتى لمجرد المجاملة؛ مِن أهم قضايا الولاء والبراء التي شغلتِ الصحابة قديمًا، ولا تزال تشغل المجتمعات، والجماعات الإسلامية، ومراكز الفتوى حديثًا؛ خصوصًا مع اختلاط المفاهيم، وتداخل مسائل المعاملة بالبرِّ والقسط مع مسائل الولاء والبراء والاعتقاد، بل قد صارتْ مسألة مساواة الأديان، بل وحدتها مما يعتقده كثيرٌ مِن الناس، وكثير منهم ينتسِب إلى الإسلام اسمًا، وكثر الجهل وعظمت البدع الكفرية؛ فضلًا عما دونها في هذا الباب حتى اختلط الأمر على كثيرٍ مِن الناس، فلم يدروا ما الحق مِن الباطل في هذه القضية! والقرآن دائمًا فيه الحياة للقلوب من موتها بالجهل والكفر، وشفاؤها من أمراضها، ونورها من ظلمات الكفر والظلم والجهل. وفيه: بيان الأسوة الحسنة للمؤمنين في أنبياء الله -سبحانه وصلواته عليه وسلامه أجمعين-، وخاصة إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ أبو الأنبياء مِن بعده، وأكثرهم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا لقضية البراءة من الشرك، فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي الواجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين مِن حرمة الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربًا، ثم بيان شبهة البعض لاستغفار إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- لأبيه. قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "روى الإمام أحمد: عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: (أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ بِهَا لَكَ عِنْدَ اللهِ)، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! قَالَ: فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص: 56). أخرجاه -أي: البخاري ومسلم في الصحيحين-. وروى الإمام أحمد بسنده عن علي -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: أَيَسْتَغْفِرُ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) إِلَى قَوْلِهِ: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) (التوبة: 113 - 114)، قَالَ: (لَمَّا مَاتَ). فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل، أو هو في الحديث: (لَمَّا مَاتَ). قلتُ: هذا ثابت عن مجاهد أنه قال: لمَّا مَات. وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَكَ؟ قَالَ: (إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي -عز وجل- فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ لِتُذَكِّرَكُمْ زيارتُها خَيْرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فِي الْأَوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا فِي أَيِّ وِعَاءٍ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا). وروى ابن جرير، من حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا. فقلنا: يا رسول الله، إنا رابنا ما صنعت. قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ (قلتُ: الظاهر أنه يقصد لما كان في طريق قدومه لمكة؛ لأن آمنة بنت وهب ماتت بين مكة والمدينة). وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلًا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ فقلنا: بكينا لبكائك. قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي. ثم أورده من وجه آخر، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبًا منه، وفيه: "وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنزل عليَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى)، فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة". حديث آخر في معناه: رواه الطبراني بسنده، عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثَنِيَّةِ عُسْفان أمر أصحابه: أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنزل على قبر أمه، فناجى ربه طويلًا، ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه، وقالوا: ما بكى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا المكان إلا وقد أحدث في أمته شيء لا تطيقه. فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: يا نبي الله، بكينا لبكائك، فقلنا: لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه. قال: لا وقد كان بعضه، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمي، فبكيت، ثم جاءني جبريل فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي أمي، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا؛ فرفع عنهم اثنتين، وأَبَى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وألا يلبسهم شيعًا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج. وإنما عدل إلى قبر أمه؛ لأنها كانت مدفونة تحت كَدَاء وكانت عُسْفان لهم. قال: وهذا حديث غريب وسياق عجيب (قلتُ: حديث ضعيف منكر، لا يصح). وأغرب منه وأشد نكارة: ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب: "السابق واللاحق" بسند مجهول، عن عائشة في حديث فيه قصة: أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت. وكذلك ما رواه السهيلي في "الروض" بسندٍ فيه جماعة مجهولون: أن الله أحيا له أباه وأمه؛ فآمنا به! وقد قال الحافظ ابن دحية: "هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع؛ قال الله -تعالى-: (وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (النساء: 18)". وقال أبو عبد الله القرطبي: إن مقتضى هذا الحديث... ورد على ابن دحية في هذا الاستدلال بما حاصله: أن هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عليٌّ العصر، قال الطحاوي: وهو حديث ثابت، يعني: حديث الشمس. قال القرطبي: فليس إحياؤهما يمتنع عقلًا ولا شرعًا، قال: وقد سمعتُ أن الله أحيا عمه أبا طالب، فآمن به. قلتُ: وهذا كله متوقف على صحة الحديث، فإذا صح؛ فلا مانع منه. والله أعلم" (انتهى من تفسير ابن كثير). ولا شك في بطلان الأحاديث الواردة في إحياء والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبطل منها عمه؛ فهذا لا يصح ولا يثبت، بل ثبت النهي عن الاستغفار ولم يثبت خلافه، وثبت قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي سأله: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: (فِي النَّارِ)، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم). ووجه ذلك: أنهم قد بلغتهم رسالة من رسالات الأنبياء، ودعوة التوحيد والحنيفية؛ فقد بلغتهم دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ودعوة موسى، ودعوة عيسى على التوحيد؛ فلم يكونوا معذورين. والله أعلى وأعلم. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (127) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال: إن إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه، فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) الآية. (قلتُ: إسناده ضعيف عن ابن عباس، وفيه غرابة؛ إذ فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي استدل باستغفار إبراهيم لأبيه ليستغفر لأمه، بل نكارة). وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية، فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية. (قلتُ: وهذا هو الصحيح في المسألة؛ جواز الاستغفار للأحياء من الكفار إذا كان لهم إحسان إلى مسلم، أو هناك مصلحة في هدايتهم للإسلام؛ لأن معنى الاستغفار للكافر وهو حي؛ أن يتوب الله -عز وجل- عليه فيسلم، وهذا الذي فعله إبراهيم حتى مات أبوه على الكفر، فهنا تبرأ منه). وقال قتادة في هذه الآية: ذُكِر لنا أن رجالًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا نبي الله، إن مِن آبائنا مَن كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم؛ أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه. فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) حتى بلغ قوله: (الْجَحِيمِ)، ثم عذر الله تعالى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية. قال: وذُكِر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قد أوحى الله إليَّ كلمات، فدخلن في أذني ووقرن في قلبي؛ أمرتُ ألا أستغفر لمن مات مشركًا، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له، ومَن أمسك فهو شر له، ولا يلوم الله على كفافٍ. (قلتُ: إسناده ضعيف، والحديث مرسل). وقال الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذُكِر ذلك لابن عباس فقال: فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًّا، فإذا مات وَكَلَه إلى شأنه ثم قال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) لم يَدْعُ. ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب قال: لما مات أبو طالب، قلت: يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره ولا تحدثن شيئًا حتى تأتيني، فذكر تمام الحديث. (قلتُ: حديث حسن، وهذا يدل على الإحسان إليه حال حياته، والدعاء له بالصلاح، فإذا مات ولم يوجد غيره يدفنه في غير مقابر المسلمين وجب عليه دفنه؛ لأن دفن الآدمي واجب أيًّا مَن كان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى قتلى المشركين في بدر في قليب، وطمره عليهم، فمواراة الأدمي من شريعة آدم -عليه الصلاة والسلام- كما دَلَّت عليه قصة الغراب، فالميت سوأة ولا بد أن يُوارَى ولو كان مشركًا، وأما إن كان على أهل ملته مَن يقوم بمواراته ودفنه، فلا يشهد المسلم الجنازة، ويتركه وشأنه كما قال ابن عباس). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّت به جنازة عمه أبي طالب قال: وصلتك رحم يا عمِّ. وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحدٍ من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حُبْلَى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين، يقول الله -عز وجل-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). وروى ابن جرير، عن ابن وكيع، عن أبيه، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلًا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قلت: ولأبيه؟ قال: لا. قال: إن أبي مات مشركًا. وقوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ): قال ابن عباس: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي رواية: لما مات تبين له أنه عدو لله. وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله. وقال عبيد بن عمير، وسعيد بن جبير: إنه يتبرأ منه يوم القيامة حين يلقى أباه، وعلى وجه أبيه القترة والغبرة (قلتُ: أي: تغير في الوجه، وغبار أسود)، فيقول: يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك. فيقول: أي ربي، ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون؟ فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي: قد مسخ ضَبْعًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار. (قلتُ: والحديث في الصحيح، ومعنى متلطخ أي: بعذرته وفضلاته؛ لكي لا يتألم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من منظر أبيه الذي يعرفه معذبًا). وقوله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ): قال سفيان الثوري وغير واحد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الأواه: الدَّعَّاء. وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود. (قلتُ: الدَّعَّاء: كثير الدعاء، الخاشع المتضرع لله -عز وجل-، وهذا ثابت عن ابن مسعود -رضي الله عنه-). وروى ابن جرير بسنده عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس، قال رجل: يا رسول الله، ما الأواه؟ قال: المتضرع، قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (قلتُ: مرسل، وشهر بن حوشب ضعيف). ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك، عن عبد الحميد بن بهرام، به، قال: الأواه: المتضرع: الدَّعَّاء. (قلتُ: معناه ثابت موقوفًا؛ لأن الدعاء هو بالتضرع، كما قال الله -عز وجل-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) (الأعراف: 55)، فالثابت موقوفًا يغني عن هذا الضعيف المرفوع، وربما يُقَال: يقويه بعض التقوية). وقال الثوري عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين عن أبي الغدير أنه سأل ابن مسعود عن الأواه، فقال: هو الرحيم. وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، والحسن البصري، وقتادة: أنه الرحيم، أي: بعباد الله. وقال ابن المبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الأواه: المُوقِن بلسان الحبشة (قلتُ: أي: مما اشترك فيه اللسان العربي واللسان الحبشي)، وكذا قال العوفي، عن ابن عباس: أنه الموقن. وكذا قال مجاهد، والضحاك. وقال علي بن أبي طلحة، ومجاهد، عن ابن عباس: الأواه: المؤمن. زاد علي بن أبي طلحة عنه: والمؤمن التَّوَّاب. وقال العوفي عنه: هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جريج: هو المؤمن بلسان الحبشة) (انتهى من تفسير ابن كثير). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (128) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ. وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقال أحمد عن عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل يُقَال له: "ذو البِجادين": إنه أواه"، وذلك أنه رجل كثير الذِّكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء. رواه ابن جرير. (قلتُ: إسناده ضعيف). وقال سعيد بن جبير، والشعبي: الأواه: المسبِّح. وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: لا يحافظ على سُبْحة الضحى إلا أواه. وقال شفي بن ماتع، عن أيوب: الأواه: الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وعن مجاهد: الأواه: الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سرًّا، ثم يتوب منه سرًّا. ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم -رحمه الله-. وروى ابن جرير: عن الحسن بن مسلم بن يَنَاق: أن رجلًا كان يكثر ذكر الله ويسبح، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنه أواه". (قلتُ: إسناده ضعيف). وروى أيضًا بسنده عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفن ميتًا، فقال: "رحمك الله إن كنت لأواهًا" يعني: تلاءً للقرآن (قلتُ: وفيه حجاج بن أرطأة مدلس وقد عنعنه، فالإسناد ضعيف). وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلًا بمكة -وكان أصله روميًّا، وكان قاصًّا- يحدث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه: "أوه أوه"، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه أواه"، قال: فخرجتُ ذات ليلة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدفن ذلك الرجل ليلًا ومعه المصباح. هذا حديث غريب رواه ابن جرير. (قلتُ: هذا حديث ضعيف لجهالة هذا الرجل، ولا يشرع أن يقول الإنسان أوه أوه من غير ذكر آخر. والله أعلى وأعلم). وروي عن كعب الأحبار أنه قال: سمعتُ إن إبراهيم لأواه، قال: كان إذا ذكر النار قال: "أوه من النار". وقال ابن جريج عن ابن عباس: إن إبراهيم لأواه، قال: فقيه. قال الإمام أبو جعفر بن جرير: وأولى الأقوال قول مَن قال: إنه الدَّعَّاء، وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله -تعالى- لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليمًا عمن ظلمه وأناله مكروهًا؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46، 47)، فحلم عنه مع أذاه له، ودعا واستغفر؛ ولهذا قال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)". (قلتُ: مع أن ابن جرير -رحمه الله- رجَّح أنه الدَّعَّاء كثير الدعاء؛ إلا أنه ذكر في لوازم ترجيحه ما يجمع الأقوال المختلفة، فالظاهر جمع هذه الأقوال؛ قال ابن جرير -رحمه الله-: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القول الذي قاله عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه زِرٌ أنه الدعاء، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن الله ذَكَر ذلك ووصف به إبراهيم خليله -صلوات الله عليه- بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) وَتَرَكَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِبْرَاهِيمَ لَدَعَّاءٌ رَبَّهُ، شَاكٍ لَهُ، حَلِيمٌ عَمَّنْ سَبَّهُ وَنَالَهُ بِالْمَكْرُوهٍ، وذلك أنه -صلوات الله عليه- وَعَد أباه بالاستغفار له ودعاء الله له بالمغفرة عند وعيد أبيه إياه، وتهدده له بالشتم -يقصد الرجم؛ لأنه رجَّح أنَّ (لَأَرْجُمَنَّكَ) هي لأشتمنك- بعد ما رَدَّ عليه نصيحته في الله، وقوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم: 46)، فقال له -صلوات الله عليه-: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (مريم: 48)، فوفَّى لأبيه بالاستغفار له حتى تبيَّن له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دعاء لربه حليم عمن سفه عليه. وأصله من التأوه وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق. وذكر حديث عقبة بن عامر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل يقال له ذو البجادين: "إنه أواه!"، وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء ويرفع صوته؛ ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: لِمَ تتأوه؟ كما قال الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ: إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ ضَرُوحٌ مَرُوحٌ تَتْبَعُ الْوُرْقَ بَعْدَ مَا يُعَرِّسْنَ تَشْكُو آهَةً وَتَذَمُّرَا فَأَوَّهْ مِنَ الذِّكْرَى إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ ولو جاء فعل منه على الأصل لكان: آهَ يَئُوهُ أَوَّهَا؛ ولأن معنى ذلك: توجع وتحزن وتضرع؛ اختلف أهل التأويل فيه الاختلاف الذي ذكرت، فقال مَن قال معناه الرحمة: أن ذلك كان مِن إبراهيم على وجه الرقة على أبيه والرحمة له ولغيره من الناس. وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه وحسن معرفته بعظمة الله وتواضعه له. وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل أحد الذي أُنزِل عليه. وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر ربه. وكل ذلك عائد إلى ما قلتُ، وتقارب معنى بعض ذلك من بعض؛ لأن الحزين المتضرع إلى ربه الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربه ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وَجَّه المفسِّرون إليها تأويل قول الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)" (انتهى كلام ابن جرير). قلتُ: وهذا يدل على أنه رَجَّح التلازم بين المعاني المذكورة، وأن الدَّعَّاء في الحقيقة لا بد أن يكون مؤمنًا موقنًا رحيمًا ذاكرًا متضرعًا لله -سبحانه وتعالى-، وكثير الذكر، وكذا كثير التسبيح، فكل هذه المعاني ثابتة متلازمة؛ فهذا ترجيح ابن جرير، والله أعلى أعلم. وفي الآيات فوائد نذكرها في المقال القادم -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (129) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (4) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). في الآيات فوائد: الأولى: إن من أعظم معاني البراء من الكفار تكفيرهم، واعتقاد هلاكهم وخلودهم في النار أبد الآبدين، طالما ماتوا على الشرك بعد بلوغ الحجة الرسالية، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، وقال -عز وجل-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72). والآيات في هذا أكثر مِن أن نحصيها في هذا الموضع، وهذا الاعتقاد يستلزم قطعًا عدم الاستغفار لهم والترحم عليهم، وهذه المسألة قطعية مجمع عليها، لا نزاع فيها بين أهل العلم، وإنما خالف في ذلك مبتدعة زماننا، وبعضهم بدعته مكفِّرة؛ إذ يعتقدون الإيمان لأهل الكتاب ودخولهم الجنة، ووصفهم بالشهادة، وبعضهم يزعم أنهم ممَّن أحيا الله -عز وجل- بهم الدِّين! وبعضهم يعتقد ذلك في غيرهم مِن: الهندوس، والبوذيين، حتى الملاحدة؛ رغم معرفتهم بتكذيبهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-! وهذا قادح في أصل الشهادتين؛ إذ إن تجويز عبادة غير الله: كالمسيح وأمه، أو عزير؛ فضلًا عن بوذا، أو براهما، أو البقرة، أو الأوثان، أو الإلحاد، أو عبادة الشيطان؛ فذلك كله قدح في شهادة: "أن لا إله إلا الله"، وتجويز وتصحيح ملة مَن كَذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قادح في شهادة: "أن محمدًا رسول الله"، وهما أعظم انتشارًا والعلم بهما حاصل للمسلمين والكفار، فلا حاجة لإقامة الحجة على الشهادتين إذ هما أصل الدِّين، وانتشارهما أعظم من انتشار الآيات، وبفقدهما يُفقَد أصل الإيمان بلا نزاع بين المسلمين، بل حتى لو كان معذورًا في كونه لم تبلغة الحجة الرسالية فلم يشهد: "أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"؛ فليس معه أصل الدِّين، بل يكون ممتحنًا يوم القيامة، أما أن تبلغه الحجة الرسالية ويبلغه لا إله إلا الله، وتبلغه بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيكذِّب أو يشك أو يأبى؛ فإن ذلك متفقٌّ على كفره بين المسلمين، لا نزاع بينهم في ذلك، بل المُنَازِع في ذلك ليس بمسلم. وأما مَن يجوِّز الترحم أو الاستغفار دون أن يحكم بإيمانهم، ولكن إما مجاملة ومداهنة في الدِّين، وقد قال -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (لقلم: 9)، وإما بدعوى شمول الرحمة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- للعالمين، كما قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وهذا والله العجب! فالله أرسله رحمة للعالمين بلا شك، فمَن قَبِل هذه الرحمة رُحِم، وأما مَن رَدَّها وكَذَّب بها وأبى أن يقبلها؛ فكيف يكون مرحومًا؟! أما قوله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 156-157) وقد بَيَّن الله -سبحانه وتعالى- لمَن يكتب رحمته في الآخرة؛ فكيف يُكتَم نصف الآية ويُستدَل بنصفها الأول دون استكمالها؟! فهذا أشبه بمَن يقول: إن المصلين معذبون محتجًا بقوله -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون: 4)، ولا يقرأ: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 5-7). وقد قرأتُ عجبًا لبعضهم؛ يجوز الترحم، ويمنع من الاستغفار، وهو مِن أعظم الجهل؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، وهي ستر الذنب وعدم المعاقبة عليه، فإذا مُنِع من الاستغفار فالمنع من الرحمة أشد؛ لأنها تُثبِت حصول الخير والنعيم، وليس فقط عدم العقوبة. قال النووي -رحمه الله- في كتاب "الأذكار": "يحرمُ أن يُدعى بالمغفرة ونحوها لمَن مات كافرًا، قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، وقد جاء الحديث بمعناهُ، والمسلمون مجموعون عليه". وقال أيضًا في كتاب المجموع شرح المهذب (5 /144): "وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة، فحرام بنصِّ القرآن والإجماع". وقال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله-: "وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع؛ فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم، مع موتهم على الكفر لا تنفعهم، ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهًا، فلا شفيع أعظم من محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ثم الخليل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له، كما قال -تعالى- عنه: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 41)، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه؛ فأنزل الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، ثم ذَكَر الله عذر إبراهيم -عليه السلام- فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ . وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التوبة: 114-115) (قلتُ: الظاهر من الأدلة: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- استغفر لعمه أبي طالب؛ لأنه قال: (أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) (متفق عليه)، ونزول آية النهي متأخر عن وفاة أبي طالب بسنوات، فإن آية النهي عن الاستغفار مدنية في سورة التوبة، وهي من آخر ما نزل بالمدينة، وأبو طالب مات بمكة). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، بعد أن ذكر حديث أبي هريرة في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ... ) الحديث، وقد مضى ذكره-، قال: فهذا لما مات مشركًا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عِظَم جاهه وقَدْرِه، وقد قال -تعالى- للمؤمنين: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة: 4-5)؛ فقد أمر الله -تعالى- المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومَن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وكذلك سيد الشفعاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأَذِنَ لِي)" (مجموع الفتاوى). وقال أيضًا شيخ الإسلام: "فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع" (مجموع الفتاوى). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (130) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (5) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الثانية: قال القرافي في حكم مَن يطلب المغفرة للكافر: "اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله -تعالى- له حكم باعتبار ذاته، من حيث هو طلب من الله -تعالى-، وهو الندب؛ لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه، وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه؛ فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له من متعلقاته ما يوجبه أو يحرِّمه، والتحريم قد ينتهي للكفر، وقد لا ينتهي: فالذي ينتهي للكفر أربعة أقسام: القسم الأول: أن يطلب الداعي نفي ما دَلَّ السمع القاطع من الكتاب والسنة على ثبوته، وله أمثلة: الأول: أن يقول: اللهم لا تعذب مَن كفر بك، أو اغفر له! وقد دلت القواطع السمعية على تعذيب كل واحد ممَّن مات كافرًا بالله -تعالى-؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (النساء: 48)، وغير ذلك من النصوص، فيكون ذلك كفرًا؛ لأنه طلب لتكذيب الله -تعالى- فيما أخبر به، وطلب ذلك كفر، فهذا الدعاء كفر" (انتهى من الفروق). وقال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107): "وأصح القولين أنه على عمومه، وفيه على هذا التقدير وجهان: أحدهما: أن عمومَ العالمينَ حصل لهم النفعُ برسالتِه؛ أما أتباعُه فنالوا بها كرامةَ الدنيا والآخرة. وأما أعداؤُه المحاربون له، عُجِّل قتْلُهم، وموتُهم خيرٌ لهم من حياتهم؛ لأن حياتَهم زيادةٌ لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كُتِب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خيرٌ لهم من طُولِ أعمارهم في الكفر. وأما المعاهِدُون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرًّا بذلك العهْد من المحاربين له. وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقنُ دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث، وغيره. وأما الأمم النائية عنه؛ فإن الله -سبحانه- رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته. الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها؛ فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمةً لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض" (انتهى من جلاء الأفهام). وقال عقيل بن عطية القضاعي في بيان تحريم الدعاء للكافر بالرحمة والمغفرة: "وأما إذا مات الكافر على كفره فلا يجوز الاستغفار له، فإنه لا يغفر له أصلًا؛ لأنه قد سَدَّ على نفسه بالكفر باب الرحمة الموجبة للمغفرة؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ? وقال -تعالى- في مَن يُسِر الكفر: (سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (المنافقون: 6)، وقال -تعالى-: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38)، فعلَّق المغفرة للكفار بالانتهاء عن الكفر، ولا يكون الانتهاء عن الكفر إلا بالإيمان ولا بد، فرجعت المغفرة إلى أصلها الذي قررناه في أهل الإيمان" (انتهى من كتابه: تحرير المقال في موازنة الأعمال وحكم غير المكلَّفين في العقبى والمآل). وأما تقييدنا في عذاب الكفار ببلوغ الحجة الرسالية؛ فقد بيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مواضع من كتابه؛ لقول الله -عز وجل-: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165)، وقوله -تعالى-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19). وقد نقل ابن حزم عقيدةَ أهل السنة في عُذْر مَن لم تبلغة الحجة الرسالية. وقد بيَّن الغزالي في الاقتصاد مثل هذا المعنى، في الباب الرابع في بيان مَن يجب تكفيرة مِن الفِرَق، فقال: "والأصل المقطوع به: أن كلَّ مَن كذَّب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر، أي: مُخلَّدٌ في النار بعد الموت، ومستباحُ الدم والمال في الحياة، إلى جملة الأحكام. إلا أن التكذيب على مراتب: الرتبة الأولى: تكذيب اليهود والنصارى وأهل الملل كلهم من المجوس وعبدة الأوثان، وغيرهم، فتكفيرهم منصوص عليه في الكتاب، ومجمع عليه بين الأمة، وهو الأصل، وما عداه كالملحق به... وقال: بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان -أي في زمانه- تشملُهم الرحمة -إن شاء الله -تعالى-؛ أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول: لم يبلغهم اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، فهم معذورون. الصنف الثاني: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار المُخلَّدُون. وصِنْفٌ ثالث بين الدرجتين: بلغهم اسم مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبلُغهُم مبعثُه، ولا صفته، بل سَمِعوا منذ الصبا أن كذابًا ملبِّسًا اسمه محمد ادَّعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذابًا يقال له: المقنع تحدَّى بالنبوة كاذبًا؛ فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا صفته سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرِّك داعية النظر والطلب" (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة). قال ابن حجر الهيتمي: "فانظر كلامَهُ تجده إنما عَذَرَهم لعدم بلوغ دعوته -صلى الله عليه وسلم- لهم. (الإعلام بقواطع الإسلام). قلتُ: (هذا الكلام إنما هو فيمَن لم تبلغه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى لا إله إلا الله، وأنه رسول الله؛ فأما مَن بلغته: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فإنه بنصِّ الحديث معذَّب؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). ثم إن كلام الغزالي -غفر الله له- في أنهم مرحومون مطلقًا ليس بصحيح، فإن الأحاديث ثبتت بوجوب اختبارهم يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ؛ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونَنِي بِالْبَعَرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا) (رواه أحمد، وابن حبان، وصححه الألباني)، وهذا الحديث يدل على أن بعضهم يُرحَم إذا استجاب يوم القيامة وبعضهم يعذَّب؛ لأنه أَبَى أن يمتثل أمر الرسول الذي أرسل إليه في عرصات القيامة فيسحب إلى النار -والعياذ بالله-. وهذه المسألة حدثت بسببها أنواع من الاضطراب عند المعاصرين لجعلهم أهل أوروبا وأمريكا، والشرق والغرب، ممَّن لم تبلغهم الدعوة، وظنوا أن التفصيل في بلوغ رسالة الإسلام ومحاسنه ومعجزات النبوة كاملة، لا بد أن تصل إليهم حتى يكونوا معذَّبين، وليس الأمر كذلك؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قاتلوا الأمم بمجرد أن يدعوهم إلى شهادة: "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، ومَن سأل عن الحجة بُيِّنت له، وأما من أبى وأعرض وقلَّد سادته وكبراءه في الكفر والتكذيب بعد أن بلغته المسألتان العظيمتان: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"؛ فهو معذَّب بلا شك مات كافرًا، وهؤلاء هم "الطبقة السابعة عشرة" من مقلدي الكفار الذين ذكرهم ابن القيم في طبقات المكلفين في "طريق الهجرتين"، وفي "حادي الأرواح". وقد قال -سبحانه وتعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105). فالمُقَلِّدون في الكفر، المُعرِضون عن البحث عن الحجج بعد بلوغ "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" كفار معذبون مخلدون في النار، ولا تلتفت إلى سقطات بعض المعاصرين في ذلك مهما كانت منزلتهم وفضلهم؛ فإن المسألة لا نزاع فيها). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (131) استغفار إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (6) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله --تعالى--: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) يشمل والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمه أبا طالب، وجده عبد المطلب؛ أما عمه فسبب نزول الآية كما في الصحيحين فنهي عن الاستغفار له، وفي الصحيح أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم- للعباس، بعد أن سأله: هل نفعت عمك أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويدفع عنك، قال: (نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ)، وفي رواية: (هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه). وقال: (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ) (رواه مسلم). وكذا أمه -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم، وقد سبق الحديث أنه لم يؤذن له في الاستغفار لها، وأما أبوه فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي سأله: أين أبي؟ فقال: في النار، ثم لما وَلَّى دعاه، وقال: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ). وأما جده عبد المطلب، فقد قال أبو طالب عن نفسه عند الوفاة: إنه على ملة عبد المطلب -متفق عليه-، فعُلِم أن عبد المطلب كان عابدًا للأوثان. ومع صحة هذه الأدلة ووضوحها؛ فقد وقع اجتهاد مخالف لها مِن المتقدمين لها والمتأخرين، وقد قال المناوي: إنهما من أهل الامتحان؛ لأنهما من أهل الفترة. وكذا قال الشنقيطي -رحمه الله-؛ إذ قال عند تفسير قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15): "الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنارٍ يأمرهم باقتحامها، فمَن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدِّق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومَن امتنع دخل النار وعُذِّب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل. وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين: الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك. (قلتُ: يعني بذلك حديث الأسود بن سريع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أربعة يحتجون عند الله يوم القيامة، وذكر منهم: ورجل مات في الفترة). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عُذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادًّا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن - ما نصه: والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثيرٌ من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوَّى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط؛ أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء؛ فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال (قلتُ: لم يثبت حديث صحيح في امتحان الأطفال، وأهل السنة مختلفون في ذلك، والصحيح أنهم في الجنة مع إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- كما رواه البخاري). وقد قال -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ) (القلم: 42)، وقد ثبت في الصحاح وغيرها: أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقًا واحدًا، كلما أراد السجود خَرَّ لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها، أن الله -تعالى- يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرَّر ذلك منه، ويقول الله -تعالى-: يا ابن آدم، ما أعذرك! ثم يأذن له في دخول الجنة. وأما قوله: فكيف يكلِّفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث؛ فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على متن جهنم أحدُّ مِن السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب. ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوس على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظم! وأيضًا: فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا؛ فهذا نظير ذلك. وأيضًا: فإن الله -تعالى- أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداةٍ واحدةٍ سبعين ألفًا؛ يقتل الرجل أباه وأخاه، وهو في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل. وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًّا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير بلفظه. وقال ابن كثير رحمه الله -تعالى- أيضًا قبل هذا الكلام بقليل ما نصه: ومنهم مَن ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة. ومَن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرَّحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله -تعالى-، وهو واضح جدًّا فيما ذكرنا. الأمر الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى أمكن بلا خلاف؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان، فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله -تعالى-". وقد استدل -رحمه الله- في مواطن أخرى على مذهبه في والدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهما مِن أهل الفترة، فقال: " قلتُ ما قلتُ اعتمادًا على نصٍّ من كتاب الله قطعيِّ المتن وقطعيِّ الدلالة، وما كنت لأرد نصًّا قطعي المتن قطعي الدلالة بنص ظني النص وظني الدلالة عند الترجيح بينهما، فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: "استأذنت ربي أنْ أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي"، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن، فلا يردُّ بها نصٌّ قرآنيُّ قطعيُّ المتن، وهو قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أي: ولا مُثيبين. (قلتُ: وهذا بلا شك منهج غير سديد، فالجمع بين الأدلة واجب وهي أدلة صحيحة متلقاة بالقبول، ولا يصح قوله: إن الآية قطعية الدلالة في أبوي النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهما مِن المشركين؛ وذلك لأن القول بأنه قد بلغتهم دعوة الرسل قول ثبت بالأدلة كما كان فيهم ورقة بن نوفل على النصرانية على التوحيد، وكان فيهم زيد بن عمرو بن نفيل؛ وَصَل إلى الحنيفية ومات عليها، ورآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هيئة حسنة. وقد عَلِم المشركون من قريش قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- في عهد أبيه وأمه وجده بدعوة موسى وعيسى -صلى الله عليهما وسلم-؛ فقد وصلتهم دعوة التوحيد، والآية عامة، فتخصيص أناسٍ بأعيانهم أنهم لم تبلغهم دعوة الرسل ليس دليلًا قطعيًّا كما زعم). قال: وهذا النصُّ قطعيُّ الدلالة لا يحتمل غير ما يدلُّ عليه لفظهُ بالمطابقة، بخلاف حديث: "إنَّ أبي وأباك في النَّار"؛ فإنه ظنيُّ الدلالة؛ يحتمل أنَّه يعني بقوله: "إنَّ أبي" عمَّهُ أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمي العمَّ: أبًا، وجاء بذلك الاستعمالِ كتابُ اللهِ العزيز في موضعين: أحدهما: قطعيُّ المتن قطعيُّ قطعيُّ الدلالة، وهو قوله -تعالى- في البقرة: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، وإسماعيل عمُّهُ قطعًا؛ فهو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم. والموضع الثَّاني: قطعيُّ المتن، لكنَّه ظنيّ الدلالة، وهو قوله -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) إلى أن قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا) فهو نصٌّ قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أنَّه أبٌ لِلُوط، وهو عمُّه على ما وردت به الأخبار؛ إلا أنَّ هذا النص ظني الدلالة؛ لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم. (قلتُ: وهذا تأويل على خلاف ظاهر السنة لا دليل عليه؛ لأن الأب إذا أُطْلِق ولا قرينة على أنه أراد العم؛ فلا بد أن يحمل على الأب الوالد، وليس العم). وإذًا فإنَّه يحتمل أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إنَّ أباكَ في النَّار، وولَّى والحزن بادٍ عليه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ردُّوه"، فلما رجع قال له: "إن أبي وأباك في النَّار"؛ يحتمل أنَّه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمِّي العَمَّ أبًا لا سيما إذا انضمَّ إلى العُمومةِ التربيةُ، والعطفُ، والدفاعُ عنه. ثم قال: والتَّحقيق في أبوي رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يُدركوا النذارة قبلهم، ولم تدركهم الرّسالة التي من بعدهم، فإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ والد النبي -صلى الله عليه وسلم- التحقيقُ أنَّه مات والنبي -بأبي وأمي هو- حَملٌ في بطن أمه، وأمُّه -صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف، وإذًا فإنهما مِن أهل الفترة. (قلتُ: وهذا النفي في أنهما لم تبلغهما النذارة قبلهم نفي بلا دليل، بل قد دَلَّت الأدلة التي ذكرنا على علم المشركين بالحنيفية؛ فلذلك لا يصح هذا الادِّعاء، فالصحيح ما ذكرنا من أنهما في النار، مع أن المسألة فيها اجتهاد لنوع تأويلٍ في الأدلة التي ظاهرها التعارض، وغفر الله للجميع). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (132) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (7) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) دليل على أن كل من مات على الكفر فهو مخلد في النار، هذا الحكم بالنسبة للعموم؛ أما آحاد الكفار فالواجب علينا أن نقول كما ذكر الله في القرآن: "قد تَبيَّن لنا أنهم من أصحاب الجحيم"، وإذا مررنا على قبور المشركين فإننا نبشرهم بالنار؛ لأن هذا من أحكام الدنيا بالنسبة لنا التي هي نوع من الدعوة إلى الله لترهيب الكفار الأحياء من موتهم على الكفر، وترغيبهم في الدخول في الإسلام قبل الموت، فهذا ثابت في عِدَّة أحاديث، منها: حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَكَانَ وَكَانَ، فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: (فِي النَّارِ) قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ) قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ. (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وفي حديث وفد بني المنتفق -وإن كان في إسناده ضعف؛ إلا أن ابن القيم -وجماعة من أهل العلم- قال عنه: إنه حديث عظيم، عليه نور النبوة، تلقته جماعة العلماء بالقبول، وفيه قال: "وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى مِنْ خَيْرٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ؟ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ قُرَيْشٍ: وَاللهِ إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النَّارِ. قَالَ: فَلَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِي وَوَجْهِي وَلَحْمِي مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ثُمَّ إِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَهْلُكَ؟ قَالَ: وَأَهْلِي، لَعَمْرُ اللهِ مَا أَتَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْرِ عَامِرِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ مِنْ مُشْرِكٍ، فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فَأُبَشِّرُكَ بِمَا يَسُوؤُكَ، تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا يُحْسِنُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ قَالَ: ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيًّا، فَمَنْ عَصَى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ". قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة" (انتهى). وأما الجزم لكافر معين فلان بن فلان أنه في النار، فهذا إذا ورد فيه نص من كتاب أو سنة: كفرعون، وهامان، وجنودهما، وقارون، والأقوام الذين هلكوا على الكفر: كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب؛ فكل هؤلاء قامت عليهم الحجة الرسالية، ووردت النصوص بموتهم على الكفر بأعيانهم؛ لأن الله نَجَّى الأنبياء وجميع المؤمنين معهم، وأهلك الكفار؛ فلا شك في كفر هؤلاء بأعيانهم بالعموم، وكذلك في أبي لهب كما قال -تعالى-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (المسد: 1-5). وقد نازع بعض الجهال في زماننا في خلود أبي لهب في النار، وقالوا: إنه يفعل الله ما يشاء، فيمكن أن يغفر له! وهذا تكذيب للقرآن العظيم، وجهل مُبيِن، واحتجاج بمذهب باطل في غير موضعه؛ فإنهم احتجوا بمذهب الأشاعرة في تجويز أن يُنَعِّم الله -عز وجل- الكفار ويدخلهم أعلى عليين، وأن يعذِّبَ المؤمنين ويدخلهم النار أسفل سافلين، وغفلوا عن الإضافة التي قالوها لتخفيف مذهبهم الباطل؛ قالوا: لكن الله أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، فحذف هؤلاء المتأخرون هذه العبارة التي أوضحها هؤلاء الأشاعرة، وإن كنا نجزم ببطلان مذهبهم في تجويز ذلك، فإن ذلك منافي للحكمة، لكنهم نفاة للحكمة والتعليل، والذي لا شك فيه: أن الله قد أخبر بأنه يدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكفار النار، ولم يخبرنا بما قالوه! وأما أن يعمم إنسان هذه المسألة دون القول بأن الله أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، حتى ينص في المعين الذي نُصَّ على كفره وخلوده في النار -كأبي لهب-، بأنه يمكن أن يدخله الله الجنة، وأن الله يفعل ما يشاء؛ فهذا تكذيب لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فقد أخبرنا الله بمشيئته في خلود هؤلاء الكفار في النار وأخبرنا بتعيين مَن عَيَّن منهم: كأبي لهب؛ أولأجل قرابته من الرسول -صلى الله عليه وسلم- نكذب على الله، ونكذب بآيات القرآن؟! نعوذ بالله من ذلك. وكذا ممَّن ورد فيهم النص: أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبب نزول الآية، وقد تقرَّر في الأصول: أن العام إذا ورد على سبب، كان هذا السبب قطعي الدخول في هذا العموم؛ فلا يجوز أن يُخرَج منه. وأما الكفار في الأزمنة المختلفة، ومنهم في زماننا هذا مِن اليهود والنصارى والملاحدة والمشركين بالأنواع المختلفة، فنحن لا نعيِّن أحدًا منهم بعينه في النار؛ لاحتمال أن يكون ساعة احتضاره قد أسلم ونطق الشهادتين، وقد غِبنا عن ذلك، وربما كتم عنا ذلك أهلُه؛ فقد دَلَّ حديث وفاة أبي طالب أنه لو نطق الشهادة حال احتضاره قبل الغرغرة لشفع له النبي -صلى الله عليه وسلم- ونجا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وإن كنا نجزم بأنه إن مات هذا الميت على الكفر -كما هو الظاهر-؛ فهو بعينه مخلد في النار. قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "ظاهر الأدلة الشرعية أنه لا تجوز -(أي: عبارة المغفور له فلان)-؛ لأنه لا يجزم، لأن الله هو الذي يعلم الحقائق -سبحانه وتعالى-، فأهل السنة والجماعة يقولون: لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، ولا بالمغفرة؛ إلا مَن شهد له الله أو رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ، والمؤمنون في الجنة والكفار في النار. أما أن يقال: فلان بن فلان مغفور له، أو في الجنة، لا، إلا مَن شَهِد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- كالعشرة: الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، عشرة شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة -رضي الله عنهم- وجماعة آخرين. فالمقصود: مَن شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنة؛ نشهد له، وهكذا مَن شهد له الله أو رسوله بالنار، نشهد له بالنار كـأبي لهب. أما نحن فلا نشهد لواحدٍ معينٍ، نقول: فلان بن فلان في الجنة، وفلان بن فلان في النار، لكن نقول: إن كان مؤمنًا، ومات على هذا، فهو من أهل الجنة، وإن كان كافرًا ومات على كفره، فهو من أهل النار، نشهد بالعموم". وسُئِل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك: "ما حكم الشهادة على الكافر بعينه، أنه من أهل النار؟ وهل هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؟ الإجابة: القاعدة: أنه لا يشهد لمعين بأنه في الجنة أو في النار إلا مَن قام الدليل على حكمه في الآخرة، وقد نص أهل العلم في كتب العقائد: أنه لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار؛ إلا مَن شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فمَن قام الدليل على أنه في الجنة وَجَب الإيمان بأنه في الجنة، ومن قام الدليل على أنه بعينه في النار وجب الإيمان بأنه في النار؛ وإلا فالواجب إطلاق الحكم العام بأن المؤمنين في الجنة والكفار في النار؛ لأن الكافر المعين لا يُدرى على ماذا يموت، أو لا يدرى ما مات عليه، فالله أعلم بأحوال عباده، وكذا لا يعلم عن حالة بينه وبين ربه: هل هو ممَّن يعذره الله أو لا يعذره. فلهذا أقول: إن الواجب هو الجزم بالحكم العام بأن الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، وسائر أمم الكفر في النار كما نطق بذلك القرآن: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل: 88)، وقال -تعالى-: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المجادلة: 17). نعوذ بالله من الكفر بالله، ونسأله -سبحانه وتعالى- الثبات على الإسلام بمَنِّه وكرمه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه" (انتهى). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (133) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الخامسة: قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) دليل على أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- استغفر لأبيه ولم يغفر الله له، والذين تأوَّلوا أن آزر كان عمه يرد عليهم: بأن كلَّ المواضع التي ذَكَر الله فيها أبا ابراهيم لم يذكر مرة واحدة أنه عمه، بل في كلِّ المواضع ذَكَر الله أنه أبوه، وليس على سبيل الاحترام، بل على سبيل الخبر؛ فلا دليل على هذا التأويل فهو باطل. فالقرابة من الصالحين ولو كانوا أنبياء، والاستغفار من الأولياء الأقارب ولو كانوا أنبياءً أو رسلًا ولو كان حتى خليلًا لله، لا ينفع المشرك الذي مات على الشرك وقد بلغته الدعوة، فالواجب على كلِّ مؤمن أن يجتهد في دعوة أقربائه إن وُجِد فيهم مشرك، وكذا إذا وُجِد فيهم عاصٍ؛ لأن فرصتهم الوحيدة أن يتوبوا إلى الله -عز وجل- ويدخلوا في الإسلام قبل الموت، وإن كان العصاة يجوز الاستغفار لهم والترحم طالما لم يكونوا كفارًا. الفائدة السادسة: دَلَّت الآية على أن الله قد لا يستجيب بعض دعاء أنبيائه ورسله؛ ليكون ذلك دليلًا على التوحيد، فقد استغفر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وهو حي حتى يهديه الله فلم يستجب له، ولم يهده الله ومات على الكفر، واستغفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب وكان يحب أن يهتدي إلى الإسلام فلم يهتدِ، ولم يُغفر له، ونُهي عن ذلك -صلى الله عليه وسلم- رغم شدة حبه لإسلامه وهدايته؛ لأن الله -عز وجل- أعلم حيث يجعل هدايته، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56). وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوام ولعنهم؛ فأنزل الله -عز وجل- عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)، فتاب الله -عز وجل- عليهم، ولم يستجب له -صلى الله عليه وسلم- في عذابهم، بل هداهم وأتى بهم؛ فالملك لله وحده هو الفعَّال لما يريد، لا شريك له في ملكه وأمره. وإن كان دعاء الأنبياء والصالحين وهم أحياء مِن أعظم الوسائل والأسباب في إجابة الدعاء، لكن لا بد من تعلُّق القلب بالله وحده لا شريك له، ولا يجوز لأحدٍ أن يجزم أن أحدًا لو دعا لأحدٍ أو على أحدٍ، فلا بد أن يستجاب له، بل الامر كله لله وإليه يرجع -سبحانه وبحمده-. الفائدة السابعة: في قوله -تعالى-: (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ): دليل على فضل الوفاء بالوعد، ولو كان لكافرٍ، وكذا العهود؛ فإن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- لا تغدر، ولا تخلف الوعد، كما قال -تعالى- عن إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم: 54)، وكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينقض العهد، ولا يخلف الوعد ولو مع الكفار، وهذا من أدلة نبوته، وقد استدل هرقل بذلك على نبوته -صلى الله عليه وسلم- كما في قصة كلامه مع أبي سفيان، وسؤاله: هل يغدر؟ فقال: لا. قال: وكذلك الرسل لا تغدر. فالواجب على المؤمن أن يفي بوعده دائمًا في وقته، وبالصفة التي وَعَد بها، ويفي بالعهد أيضًا ولا يغدر، ولو كان مع كفار وظلمة ومعتدين؛ فإن أبا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان معتديًا عليه مهدِّدًا له، متوعدًا له على نصيحته؛ قال -تعالى-: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46-47). المسألة الثامنة: مدح الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بأنه أواه حليم في موضعين من القرآن، هذا واحد منهما، والثاني في سورة هود في شأن قوم لوط، قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 74-76)، مع أنه -سبحانه وتعالى- لم يستجب له في الموضعين؛ لا لعدم استحقاق إبراهيم لإجابة دعائه، بل هو مسبِّح دَعَّاء عابد، خاشع متضرع، ولكن كان المانع في المدعو لهم؛ فهم الذين لا يستحقون الهداية، ولا تصلح لهم، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم حيث يجعل هدايته، هو أعلم بالمهتدين. وهذا يدل على أنه رغم عدم استجابة دعائه -عليه الصلاة والسلام-؛ إلا أن الله -تعالى- يحب فيه الصفات التي جعلته يدعو لمَن دعا لهم بهذه الأدعية؛ فإن كثرة الدعاء وكثرة التسبيح، وكثرة العبادة، والتضرع والخشوع، واليقين، والرحمة بعباد الله والحلم عنهم، وحب هدايتهم؛ كل هذه الصفات يحبها الله، حتى ولو كان المدعو لهم والذين تُرجى لهم الرحمة ليسوا أهلًا لذلك، لكن الله يحب مِن عباده المؤمنين هذه الصفات، وهو -سبحانه- يفعل ما يشاء، فلا تكونوا أيها الدُّعَاة إلا رحماء حلماء، ولتكن دعوتكم إلى الله مصحوبة بحب هداية الخلق ورحمتهم، وكونوا حلماء عنهم وليس أن تحبوا عقابهم، وإنما طلب موسى -صلى الله عليه وسلم- عقاب فرعون وموته على الكفر حين قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 88)؛ إنما كان ذلك بعد كفر وعناد، وجبروت شديد، وإعراض عن الحق من فرعون رغم تيقنه به هو وقومه، وكان في بقائه إضلال عن سبيل الله، وقد ضَمَّن موسى -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر، فقال: (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)، والله لا يحب ذلك؛ فلذا دعا عليهم بالهلاك، وذلك لأن في بقائهم إضلالًا لعباد الله -عز وجل-. وكذا نوح -صلى الله عليه وآله وسلم- في دعوته على قومه بعد أن أوحى الله -عز وجل- إليه: (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (هود: 36)، فلما عَلِم أنهم لن يهتدوا وسيظلون على الكفر، دعا عليهم بالهلاك بعد إعراض تسعمائة وخمسين عامًا؛ قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26-27)، فكان الدعاء بهلاكهم؛ لأجل أن لا يضلوا أحدًا، وأما هم فلا يهتدون. فهل وجدتم أيها الدُّعَاة مِن الناس الذين تدعونهم إعراضًا وكفرًا كهذه المدة، وبهذا العتو والجبروت؟! ثم الله أعلم بالظالمين، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالمهتدين، يفعل ما يشاء، هو يحب منكم أن ترحموا الخلق وأن تحلموا عنهم، وهو -عز وجل- أعلم بهم، فقولوا كما قال مؤمن آل فرعون بعد نصحه وحرصه على هداية قومه وخوفه عليهم من عذاب الدنيا والآخرة، فأعرضوا ولم يقبلوا نصيحته: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر: 44). الفائدة التاسعة: قوله -تعالى-: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) دَلَّ وصفه -تعالى- لأبي بأنه (عَدُوٌّ لِلَّهِ): أنه مهما كان القريب محبوبًا لله -عز وجل-، لكن كان قريبه مخالفًا في الدين؛ فإنه يوصف بعداوة الله -عز وجل-، وكذا عداوة المؤمن؛ ولو كان أبًا أو ابنًا، كما قال -عز وجل- لنوح -عليه الصلاة والسلام-: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: 46). ودَلَّ قوله -عز وجل-: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) على وجوب البراءة من المشركين، وذلك يتضمن البغض والعداوة، وعدم الطاعة، والمخالفة في الهدي الظاهر والباطن، وعدم التشبه بهم، وعدم النصرة، وعدم الصداقة؛ فكل هذه المعاني داخلة في قوله -سبحانه وتعالى-: (تَبَرَّأَ مِنْهُ). وهذا أعظم مسائل الدين؛ البراءة من الشرك وأهله، والبعض في زماننا يخطئون خطأً بيِّنًا حين يقولون: نحب حميع الناس ولو كانوا كفارًا ونتبرأ من كفرهم، أو نبغض كفرهم؛ كأن الكفر شيء في الهواء لا يحصل في واقع الناس وفي حياتهم! وقد ذكر الله -عز وجل- براءة إبراهيم من أبيه وقومه، وهم أشخاص معينون كما قال -سبحانه-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف: 26-27)، وظن هؤلاء أن هذا يخرجهم من حرج الاتهام بالكراهية عند القوم المجرمين؛ لأنهم يحرِّمون الكراهية، ولو كانوا يطبقون ذلك ضد المسلمين بأبشع الصور ويكرهون الإسلام وأهله، ومع ذلك يجرِّمون أن تصرِّح بكراهية أهل دين، أو بكراهية الدِّين نفسه، وظن هؤلاء أن ذلك مخرج لهم وليس بمخرج! وهو مخالف لنصوص الكتاب والسُّنة في البراءة من أعيان الكفار، ومِن عموم أشخاصهم؛ طالما بقوا على الكفر. نسأل الله العافية. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (134) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). هذه القصة العظيمة المليئة بالعِبَر النافعة لأهل الإيمان بمعرفة فضل الله على عباده المؤمنين وإمائه المؤمنات، بإجابة دعوتهم ولو بعد عشرات السنين، وإكرامه -سبحانه- للمرأة المؤمنة كما أكرم الرجل المؤمن بعد تضحيتهما في سبيل الله بالولد الصالح بعد الكِبَر مع العقم، والتأمل في أمره النافذ -سبحانه-، وقدرته الشاملة، ورحمته بعباده المؤمنين، وبركاته عليهم، وذلك من دلائل حمده ومجده -سبحانه وبحمده-، ومحبته -سبحانه- للعُبَّاد الدَّعَّائين الحُلَمَاء من عباده، حتى ولو لم يستجب لهم في بعض أدعيتهم. وإلى هذه القصة من ابن كثير، ثم ذِكْر فوائدها بعد ذلك: قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) وهم الملائكة (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) قيل: تبشره بإسحاق. وقيل: بهلاك قوم لوط. ويشهد للأول قوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ). وقوله: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ) أي: عليكم؛ قال علماء البيان: هذا أحسن مما حيوه به؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام. (قلتُ: أي: الجملة الاسمية التي مبتدؤها قوله: سلام، وخبرها محذوف دَلَّ عليه السياق، وهو الجار والمجرور من عليكم). (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ) أي: ذهب سريعًا فأتاهم بالضيافة، وهو: عجل فتى البقر. (حَنِيذٍ): وهو مشوي شيًّا ناضجًا على الرضف، وهي الحجارة المحماة. هذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وغير واحدٍ، كما قال في الآية الأخرى: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) (الذاريات: 26-27). وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوهٍ كثيرةٍ. وقوله: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) تنكرهم. (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وذلك لأن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام، ولا يشتهونه ولا يأكلونه؛ فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم، وأوجس منهم خيفة. قال السدي: لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أَجَلَّهم، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فذبحه ثم شواه في الرضف، فهو الحنيد حين شواه، وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم؛ فذلك حين يقول: وامرأته قائمة وهو جالس في قراءة ابن مسعود، فلما قربه إليهم قال: ألا تأكلون، قالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن. قال فإن لهذا ثمنًا. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلًا. (قلت: مرسل ضعيف). (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) يقول: فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم، وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال: كانوا أربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورُفائيل. (قلتُ: لم يَرِد في الكتاب والسنة أيُّ دليل على أن مِن الملائكة مَن اسمه روفائيل). قال نوح بن قيس: فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، فقرَّب إليهم العجل، مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمِّه، وأم العجل في الدار. وقوله -تعالى- إخبارًا عن الملائكة: (لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي: قالوا: لا تخف منا، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم، فضحكت سارة استبشارًا منها بهلاكهم، لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس. وقال قتادة: ضحكت امرأته وعجبت مِن أن قومًا يأتيهم العذاب وهم في غفلة، فضحكت مِن ذلك وعجبت، فبشرناها بإسحاق. (قلتُ: القول بأن البشارة كانت من أجل استبشارها بهلاكهم فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد، تضييق لعمل سارة -رضي الله عنها- وقد ضَحَّت عَبْر الزمان بأهلها ووطنها، وصحبت إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- منذ قديم). وقوله: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) قال العوفي عن ابن عباس: فضحكت، أي: حاضت. وقول محمد بن قيس: إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم، ضعيفان جدًّا، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما، فلا يُلتفَت إلى ذلك، والله أعلم. وقال وهب بن منبه: إنما ضحكت لَمَّا بُشِّرت بإسحاق، وهذا مخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها. (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) أي: بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، كما في آية البقرة: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 133). ومِن هاهنا استدل مَن استدل بهذه الآية، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق؛ لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خُلْف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعيَّن أن يكون هو إسماعيل، وهذا مِن أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه -ولله الحمد-" (انتهى من تفسير ابن كثير). ونكمل في المقال القادم -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (135) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ): "حكى قولها في هذه الآية، كما حكى فعلها في الآية الأخرى، فإنها: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وَفِي الذارايات: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (الذاريات: 29)، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب، (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ: قالت الملائكة لها، لا تعجبي من أمر الله، فإنه أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: "كن" فيكون، فلا تعجبي من هذا، وإن كنتِ عجوزًا عقيمًا، وبعلُك شيخًا كبيرًا، فإن الله على ما يشاء قدير. (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي: هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجد في صفاته وذاته؛ ولهذا ثَبَت في الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وقوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ): يخبر -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، أنه لما ذهب عنه الروع، وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط؛ أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الآية قال: لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له إنا مهلكو أهل هذه القرية. قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا. قال: ثلاثون؟ قالوا: لا. حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم -عليه السلام- عند ذلك: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) (العنكبوت: 32)، فسكت عنهم واطمأنت نفسه. وقال قتادة وغيره قريبًا من هذا. زاد ابن إسحاق: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب، قالوا: نحن أعلم بمن فيها. الآية. وقوله -سبحانه-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) مَدَح إبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدَّم تفسيرها في سورة براءة (قلتُ: وقد سبق بيان ذلك في معنى الحليم الأواه، إن إبراهيم لأواه حليم، وزاد فيها هنا: المنيب، وهو الرجاع إلى الله -عز وجل-). وقوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي: إنه قد نفذ فيهم القضاء، وحقت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يُرد عن القوم المجرمين" (انتهى من تفسير ابن كثير). قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير الآيات: "المسألة الثانية في هذه الآية: مِن أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جِدَة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من كرم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خُلُق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في "البقرة"، وليست بواجبة عند أهل العلم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة. والجائزة: العطية. والصلة التي أصلها على الندب. وقال -صلى الله عليه وسلم-: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وإكرام الجار ليس بواجب إجماعًا، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ليلة الضيف حق، إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية. (قلتُ: الظاهر وجوب الضيافة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَذِن لمَن لم يعطيهم مَن نزل بهم قراهم، أن يأخذوا منهم قراهم بالمعروف). قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد (قلتُ: بل قد سبق الوجوب). وذِكْر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا؛ فلدغ سيد ذلك الحي، الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقًّا للام النبي -صلى الله عليه وسلم- القوم الذين أبوا، ولبيَّن لهم ذلك (قلتُ: لا يُدرَى: هل كان هؤلاء القوم مسلمون، وكانوا حاضرين عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فهذا الجزء من المسألة واقعة عين). الثالثة: اختلف العلماء فيمَن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر، فالفندق ينزل فيه المسافر. واحتجوا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر. وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قاله أبو عمر بن عبد البر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومِن الناس مَن قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات، ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان غريبًا فهي فريضة. الرابعة: قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ مِن أين علم أنه قليل؟! بل قد نَقَل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل -صلى الله عليهم وسلم-، وعِجْل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي؟! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم، فاجتنبوه فقد علمتموه. الخامسة: السُّنة إذا قُدِّم للضيف الطعام، أن يبادر المقدَّم إليه بالأكل فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون من ورائهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم نكرهم، وأوجس منهم خيفة، أي: أضمر. وقيل: أحس. والوجوس الدخول. قال الشاعر: جَـاءَ الْـبَـرِيدُ بِـقـِرْطَاسٍ يَـخُـبُّ بِهِ فَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ قِرْطَاسِهِ جَزَعًا وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرًّا، فقالت الملائكة: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط. السادسة: من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه: هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر؛ روي أن أعرابيًّا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إليَّ نظر مَن يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلتُ معك! قلتُ: وقد ذُكِر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبد الملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده، وهو يقول: وللمـوت خيـر من زيارة باخـل يُلَاحِظ أطراف الأكيل على عمد قال الشاعر: وَأَنْـكـَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكـِرَتْ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا الثامنة: قوله -تعالى-: (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) ابتداء وخبر، أي: قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "وامرأته قائمة وهو قاعد" (قلتُ: وهذه قراءة تفسيرية). التاسعة: قوله -تعالى-: (فَضَحِكَتْ) قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة تحقيقًا للبشارة. وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه، وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة، وإنما هو كناية. ويقال: قائمة لروع إبراهيم فضحكت لقولهم: (لَا تَخَفْ) سرورًا بالأمن. (قلتُ: وهذا من أقرب الأقوال). وقال النحاس: فيه أقوال: أحسنها أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم، فلما قالوا: (لَا تَخَفْ)، وأخبروه أنهم رسل الله؛ فرح بذلك، فضحكت امرأتُه سرورًا بفرحه" (انتهى من تفسير القرطبي). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (136) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). قال القرطبي -رحمه الله- في قوله -سبحانه-: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ): "قال النحاس فيه أقوال: أحسنها: أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا: لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فَرِح بذلك، فضحكت امرأته سرورًا بفرحه. وقيل: إنها كانت قالت له: أحسبُ أن هؤلاء القوم سينزِل بهم عذاب فضم لوطًا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سُرِّت به فضحكت؛ قال النحاس: وهذا إن صح إسناده؛ فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول: رأيتُ فلانًا ضاحكًا؛ أي: مشرقاً. وأتيت على روضة تضحك؛ أي: مشرقة. وفي الحديث: إن الله -سبحانه- يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك. جعل انجلاءه عن البرق ضحكاً؛ وهذا كلام مستعار. قال: المسألة العاشرة: روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرسه، فكانت امرأته يومئذٍ خادمهم وهي العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور (إناء) فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له: "باب: قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس". قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفيه: أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. والله أعلم. (قلتُ: معنى أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه؛ أي: أن تكون موجودة في وجودهم، لا أنه يعرضها عليهم بفعل محرم، وإنما الكلام على أن تكون قائمة بينهم تخدمهم، وأنه لا يلزم حجاب الجدران في حق النساء غير نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاحتمال الذي ذكره أن هذا قبل نزول الحجاب ظاهر، لكنه لا ينسخ جواز قيام المرأة على الرجال بالخدمة، ولكن تكون في حجابها، فالإشارة إلى النسخ ليس ظاهرًا، ولهذا رأيتَ البخاري بوَّب: باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس، ولم يعتد بالنسخ، وكذا علماء المالكية الذين ذكرهم في جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها؛ وذلك لأنه إذا كان قبل الحجاب فنزول الحجاب لم يغير إلا وجوب الستر، لا المنع من خدمة الضيوف والقيام عليهم بذلك. والله أعلى وأعلم). المسألة الثالثة عشرة: قوله -تعالى-: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ): لما وُلِد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنَّت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبُشِّرت بولد يكون نبيًّا ويلد نبيًّا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى وَلَد ولدها. المسألة الرابعة عشرة: قوله -تعالى-: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) قرأ حمزة وعبد الله بن عامر "يعقوبَ" بالنصب. ورفع الباقون (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في "من"، كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) فيه مسألتان: الأولى: (يَا وَيْلَتَا) قال الزجاج: أصلها: "يا ويلتي"؛ فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف من الياء والكسرة، ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخرج على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يَعْجَبِن منه، وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخًا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و(أَأَلِدُ) استفهام معناه التعجب. (وَأَنَا عَجُوزٌ) أي: شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزًا، وعجزت تعجيزًا؛ أي: طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضًا. وعجزت المرأة؛ عظمت عجيزتها، عُجْزًا وعَجزًا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير ذلك. الثانية: قوله -تعالى-: (وَهَذَا بَعْلِي) أي: زوجي. (شَيْخًا) نصب على الحال، قيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة، فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عَرَّضت بقولها: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) أي: عن ترك غشيانه لها. (قلتُ: هذا قول لا دليل عليه، ولا يجوز قوله بالمرة). وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أي: الذي بشرتموني به لشيء عجيب. قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فيه أربع مسائل: الأولى: قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) لما قالت: (وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي: مِن قضائه وقدره، أي: لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثيرٌ من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بُشِّرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. (قلتُ: وهذا استدلال صحيح كما ذكره ابن كثير -كما مضى-). الثانية: قوله -تعالى-: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) مبتدأ، والخبر (عَلَيْكُمْ)، وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارًا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، والمعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاءً إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. الثالثة: هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل البيت؛ فدل هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة -رضي الله عنها- وغيرها من جملة أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ممَّن قال الله فيهم: (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33). الرابعة: ودلت الآية أيضًا على أن منتهى السلام: وبركاته (قلتُ: المقصود في التحية أنه لا يزاد على بركاته، كنحو مَن زاد: ومغفرته)، كما أخبر الله عن صالحي عباده: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) والبركة: النمو والزيادة، ومن تلك البركات: أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: كنتُ جالسًا عند عبد الله بن عباس، فدخل عليه رجل من أهل اليمن، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئًا مع ذلك؛ فقال: ابن عباس -وهو يومئذٍ قد ذهب بصره- مَن هذا؟ فقالوا: اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: إن السلام انتهى إلى البركة. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم؛ فقال: وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك. قال: ودخلت الثانية فقلت: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك. فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك، أنا وأنت في السلام سواء" (انتهى من القرطبي بتصرف). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (137) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: البُشرى التي جاءت بها الملائكة -كما سبق بيانه-، تشمل البشرى بالولد الصالح إسحاق، وبابنه يعقوب من بعده، نبيين كريمين استجاب الله لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعوته: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100)، وفي أن يجعل مِن ذريته أئمة، قال: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). كما تشمل البشرى بهلاك قوم لوط البشرى بهلاك الظالمين يفرح بها المؤمنون؛ لأن فيها إنهاء الشرك والكفر والظلم الذي يضل به الناس، كما قال نوح -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26-27). وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (يونس: 88- 89). وسجد أبو بكر -رضي الله عنه- شكرًا لله حين جاءه خبر قتل مسيلمة الكذاب وفتح اليمامة، وسجد علي -رضي الله عنه- حين وجدوا ذو الثدية مقتولًا في الخوارج؛ وذلك لأن حب المؤمن للخير للناس يجعله يحب هدايتهم، ورؤوس الكفر والطواغيت يمنعون الناس من الهداية ويمكرون بالليل والنهار ليصدوا الناس عن التوحيد، كما قال -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ: 31-33). فلهذا أحب المؤمنون زوال الكفر بهلاك مَن لا تُرجَى هدايتهم؛ لعظيم إجرامهم، ونسأل الله أن يهلك اليهود ومَن والاهم مِن دول الغرب على بغيهم وعدوانهم على المسلمين، وسفكهم الدماء بغير حق، وأعظم من ذلك الكفر بآيات الله وأنبيائه ورسله. الفائدة الثانية: مجيء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعجل سمين حنيذ لأضيافٍ عددهم أقل من العشرة، دليل على الغنى والسعة التي جعله الله فيها بعد أن ترك قومة وهاجر، وكل مَن ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه، وكل مَن صبر على طاعة الله جعل الله له في الدنيا مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب، وجعل له الحياة الطيبة إلى ما ادخر الله له يوم القيامة من الأجر العظيم. الفائدة الثالثة: الكرم والجود صفة أنبياء الله وأوليائه، وإكرام الضيف مِن ذلك، وعلامة على هذا الخلق الرفيع النابع من الغنى بالله -عز وجل-، والاستغناء عن كثرة العرض، والاستعداد لبذل الكثير في طاعة الله -سبحانه وتعالى-. الفائدة الرابعة: إنكار إبراهيم عدم أكل أضيافه دليل على أن المؤمن يفرح بأكل الناس من طعامه؛ خاصة أهل الصلاح كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو لمَن أكل عنده: (أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، والأمر بإطعام الطعام مما عُرِف به عبد الله بن سلام صِدْق وجهِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلائل نبوته، فإنه لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما سمعه يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ)، فقال عبد الله بن سلام: "فَعَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (138) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (5) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة الخامسة: قوله -تعالى-: (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً): دليل على جواز وقوع الخوف الفطري الطبيعي من الأنبياء، وبالأولى الصالحين، لكنه لا يستقر في القلوب، ولا يترتب عليه ترك واجب ولا فعل محرم، ويندفع بالتوكل، وباستحضار الخوف من الله وحده، وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى -رضي الله عنه-: أَنَّ -النَّبِيَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا، قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). فاللهم إنا نعيذ بك أهل غزة وأهل فلسطين من شرور اليهود المجرمين، ومَن والاهم، ونجعلك في نحورهم. الفائدة السادسة: في قوله -تعالى- عن الملائكة: (قَالُوا لَا تَخَفْ) فيه المبادرة إلى طمأنة المسلم وإزالة روعته، وإذا كان لا يجوز أخذ متاعه ولو لاعبًا، ولا أن يشير إليه بسلاح ولو مازحًا من أجل روعة المسلم، فكذلك لا بد من سرعة إزالة الخوف والروع وبث الطمأنينة في نفوس المسلمين، عكس ما يفعله المنافقون الذين قالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) (الأنفال: 49)، وقالوا: يوشك هؤلاء أن يُقرَنوا بالحِبَال! وكذا يَفْعَل إخوانهم من المنافقين في كل زمان ممَّن ينشر شائعات الفزع والرعب بين المسلمين، من امتلاك الأعداء للقوى الخارقة التي لا تُقهر؛ مما يحبط الناس، ويثير الهلع عندهم. فاللهم ثبِّت قلوب المسلمين في فلسطين وغزة وفي كل مكان، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم وانصرهم على عدوك وعدوهم. الفائدة السابعة: في قوله -تعالى- عن الملائكة: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ): البشارة بهلاك القوم المجرمين قوم لوط الذين أتوا بالفاحشة التي لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين، ولا شك أن هذا مما يسعد المؤمنين ويفرحهم؛ ولذلك فرحت سارة -رضي الله عنها- بذلك، فضحكت، كما ضحكت سرورًا بأمن زوجها -عليه الصلاة والسلام- بعد خوفه. ولا شك أن المؤمن يفرح بهلاك الظالمين الذين لم تظهر بوادر توبتهم، وازدادوا عتوًّا وعلوًّا في الأرض وإفسادًا فيها، فالغرب المفسد في قضية اللواط والسحاق زاد على قوم لوط؛ فقد كان قوم لوط يأتون الفاحشة وهم يبصرون. وأما هؤلاء: فإنهم يأتون الفاحشة والعَالَم يبصر، وقوم لوط إنما كانوا يريدون أن يفعلوا الفاحشة في بلادهم، فزاد هؤلاء المجرمون بالرغبة في نشر الفاحشة في العالم كلِّه، وتقنينها بما يسمونه: زواج المثليين! وإرغام الدول على قبول فكرهم الخبيث بالسياسة والاقتصاد، والترغيب والترهيب؛ فقد قَرُب -بإذن الله- هلاكهم وتدميرهم؛ لإفسادهم في الأرض بهذا، وما هو أعظم منه مِن الكفر والإلحاد، ومحاربة الإسلام وأهله، والرضا بإبادة المسلمين؛ رغم طنطنتهم على حقوق الإنسان، التي نسوها تمامًا أيامنا هذه، وليس لنا إلا الله ناصرًا ومعينًا، وكفى بالله وليًّا، وكفى بالله نصيرًا، ولتعلمن نبأه بعد حين. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (139) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فيه: استجابة الدعاء ولو بعد سنين طويلة، وقد دعا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لهبة الصالحين عند هجرته إلى ربِّه، ومفارقته قومَه بعد أن حاولوا قتله حرقًا، قال الله -تعالى-: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ . فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ . وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 97-100)، وقد كان شابًا حين أُلقِي في النار، وحين هجر قومه وهاجر إلى القوم التي بارك الله فيها للعالمين، قال الله -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60). وقد ذَكَر غيرُ واحد من السَّلف من أهل السِّير: أن إبراهيم -عليه السلام- وُهِب إسماعيل وهو ابن ثمانين سنة، ووُهِب إسحاق بعده بثلاث عشرة سنة. وقيل: كان أكبر من ذلك كما مَرَّ علينا في التفسير، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- عنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم: 39)؛ فهو على أي حالٍ كان كبيرًا في السن، وكذا امرأته سارة -رضي الله تعالى عنها-، وقد كان يحب أن يكون له منها الولد؛ لأنها كانت رفيقته في الهجرة وفي الصبر على مفارقة وطنها ودين أهلها لله -سبحانه وتعالى-، فإذا كان دعاء أنبياء الله، بل دعاء خليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- اُستُجِيب بعد عشرات السنين امتحانًا من الله لعبادة بالثقة به -سبحانه-، وبصدق وعده والتعلُّق برحمته وعدم القنوت منها، وعدم الاستعجال في الدعاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) (متفق عليه). فكيف بمَن دون الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين-، وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الأحقاف: 35)؟! وقال الله -عز وجل- له لما دعا عليهم بأسمائهم أن يهلكهم الله -عز وجل- لما شَجُّوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وقتلوا المستضعفين من أصحابه غدرًا وظلمًا، وعذَّبوا الباقين، فدعا عليهم وقنت شهرًا يدعو عليهم، فأنزل الله عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128). وفي تأخر إجابة الدعاء -ولو بهلاك الكافرين- مِن أنواع العبودية ما ينتفع به أهل الإيمان من الصبر والإلحاح في الدعاء والتضرع والانكسار لله، والافتقار له وحده، وقد تخلَّى عنهم كل العالم، وتنكَّروا لشعاراتهم ومواثيقهم الدولية -كما يسمونها!-. وكذلك في تأخر إجابة الدعاء مِن كمال التوكل على الله وحده، والاستعانة به وحده، وعدم اليأس من رحمته، وشهود نعمته وفضله ورحمته وبركاته، وحمده ومجده، ونفوذ أمره؛ فإذا كان ليس للأنبياء من الأمر شيء؛ فكيف بمَن دونهم؟! فإنما نحن عبيد يفعل الله بنا ما يشاء، وليس لنا إلا التسليم والرضا فيما نحب ونكره، ومزيد الطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكرَه، وفي الحزن والفرح، وفي الكرب والفرج، وفي الاستضعاف والتمكين فنحن عبيد لله -سبحانه وتعالى- على أيِّ حال؛ يفعل -عز وجل- ما يشاء، وعندنا يقين بظهور الدين وعلو الإسلام، وانتصار الحق وعودته إلى أهله، وإن مات منا شهداء، وجرح منا مجروحون، وهدمت بيوت على أصحابها؛ فكل ذلك لرفع الدرجات، ونيل الحسنات وتكفير السيئات، وتمهيد الأمة لمستقبل عظيم بإذن الله -تبارك وتعالى-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (140) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة التاسعة: الولد الصالح والحفيد الصالح مِن نِعَم الله التي يبشِّر بها المؤمنين، فهي مما يسعد الله بها عبدَه المؤمن وأَمَتَه المؤمنة؛ أن يخلق مِن نسله مَن يعبده -سبحانه- ويقيم الصلاة، ويدعو إلى الله ويهدي بأمره، قال الله -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 72-73). الفائدة العاشرة: قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) يدل على أن المؤمن رغم فرحه بالبُشرى التي جاءته مِن عند الله له بالخير -وإذا جاءت عن طريق الملائكة فهي أعظم البشرى؛ لأن الملائكة لا تبشِّر من قِبَل أنفسها، بل ببشرى الله سبحانه عبده-؛ فإنه يتعجب مِن حصول النعمة بعد استبعاد وقوعها، وهو تعجب مشوب بفرح وسرور بنعمة الله، وهو يذكر في هذا المقام حاله من النقص المصحوب باستبعاد حصول النعمة؛ وذلك ليعظم الشكر ويزداد السرور. فإن الانتقال من النقص والحرمان إلى الكمال البشري والعطاء، ومن الضيق إلى السعة مما تعظم معه النعمة في قلب المؤمن، فيكون شكره بالقلب مع اللسان، كما قال الله -تعالى- عن زكريا -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ . قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (آل عمران: 40-41)، وقال -تعالى- عنه: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا . قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) (مريم: 8-9). وقال -تعالى- مُذَكِّرًا عبادَه المؤمنين حالهم الأول بمكة، بعد أن نصرهم ببدر، قال: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26). وقال -تعالى- عن سارة أيضًا: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ . قَالُوا كَذَ?لِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الذاريات: 29-30). والصَّرَّة: الصيحة. وصكت وجهها أي: ضربت وجهها وجبينها؛ ليس على سبيل التسخط من قَدَر الله، وهو الذي لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعلته، بل على سبيل التعجب، ومثل هذا يُجمَع فيه الفرح مع التعجب، والانكسار والشهود لنعمةِ وفضلِ الله -سبحانه وتعالى- بعد أن استبعد العبد حصولَ النعمة، فتأتي على قلب محتاج إليها يزداد فرحه بها، فيزداد شكره على نعمة الله -عز وجل-. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (141) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (8) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة الحادية عشرة: قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فيه: رد جميع الأمور إلى أمر الله، ومع وجود أمره -سبحانه- لا يكون هناك عجب؛ لأن أمره نافذ وقدرته شاملة، وهو على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82). الفائدة الثانية عشرة: تضمنت الآية ذكر خمس صفات لله -سبحانه وتعالى-؛ استحضار معانيها ومشاهدة آثارها مِن أعظم ما يسعد القلب، ويفرحه به -سبحانه وتعالى-، وهي: وهي 1- أمر الله. 2- رحمته. 3- بركاته. 4- حمده. 5- مجده. وكل منها من أدلة وحدانية الله -سبحانه- وآثارها ظاهرة في الكون، فأمره النافذ بخلق ما يشاء ممَّن يشاء بعد أن انقطعت الأسباب، كما في ولادة إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب بعد الكبر وعقم الزوجة وكبرها، تفيد للمؤمن عبودية التفويض والتوكل، وعدم الاعتماد على الأسباب، واليقين في إجابة وعد الله -سبحانه- ولو طال المدى، وإجابة الدعاء واستعمال الدعاء؛ لأن الأمر أمره -سبحانه وتعالى-، وأما رحمته -سبحانه- بعبده المؤمن التي هي مقتضى اسمه الرحمن برزقه للمؤمن ما يحب من الولد، والأهل والمال، والأمن، والرزق، والعافية، والسرور في الدنيا بأنواع العطايا المختلفة. وأيضًا التي هي مقتضى اسمه الرحيم؛ بأن يجعل ذلك الولد صالحًا، ومِن ورائه ابنه نافلة أيضًا من الصالحين، وكلاهما من الأنبياء؛ هذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين بالتوفيق لحسن عبادته -سبحانه- التي تقرِّب العبد من ربه، وهذا القرب هو أعظم نعيم الدنيا الذي يؤدي به إلى نعيم الآخرة بالله -عز وجل- بالنظر إلى وجهه، وسماع سلامه: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس: 58)، وسماع كلامه وسماع أمانه -سبحانه-: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الزخرف: 68). وهذا النعيم هو أعظم نعيم أهل الجنة، مع الفوز برضوانه -سبحانه وتعالى- والقرب منه، وأعظم القرب هي درجة الوسيلة؛ التي هي للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، يرجو أن تكون له، وهي له -إن شاء الله-. وأما البركات فهي: عطاؤه -سبحانه- الخير الكثير لعبده المؤمن، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ) (رواه البخاري)، وأنواع الخيرات على أهل بيت النبوة هي أعظم أنواع الخير الدنيوي والأخروي والديني، التي بها يكون العطاء الأخروي، والبركة في عطاء الله الديني والدنيوي أعظم من عمل العبد، وأعظم من رزقه وما عنده، ويكفي أنها من عند الله كما قالت مريم -عليها السلام- في الرزق الذي سألها عنه زكريا -عليه السلام-: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37). وقالت آسية -رضي الله عنها-: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (التحريم: 11)، فبدأت بالجار قبل الدار، وكل ما كان من عند الله فهو مبارك عظيم؛ لأن الله -عز وجل- تبارك، كما قال -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: 1)، وقال: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14). وأما الحمد الذي دَلَّ عليه اسمه الحميد، فهو: الثناء على الله -عز وجل- بالحُسْن والإحسان؛ بالحُسْن بجمال وجلال الأسماء والصفات التي لا يشبهه فيها أحدٌ، وكلها تدل على الكمال المطلق. وأما الإحسان فهو: العطاء للعباد بالنعم كلها، كما قال -تعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: 53)، وقال -عز وجل-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (النحل: 18). وأما المجيد فهو: العظمة التي لا تُنَال، وهي صفة تجمع صفات الكمال، مثل اسمه: الصمد، واسمه: القدوس، واسمه: السلام، وان كان اسمُه السلام، واسمه القدوس، هي في نفي صفات النقص. وأما المجيد والصمد، ففي إثبات كل صفات الكمال والعظمة. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (142) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). في قوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) فوائد: الأولى: جواز وقوع الروع والخوف على الأنبياء؛ وذلك للطبيعة البشرية، ثم إنهم يفوِّضون أمرهم إلى الله، ويحتسبون الأمر عنده ويتوكلون عليه فيذهب عنهم ذلك، أن يكونوا قدوة للمؤمنين عبر الزمان في ماذا يصنعون إذا أصابهم الروع. الثانية: قوله -تعالى-: (وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى) فيه: استحباب الاستبشار بفضل الله -تبارك وتعالى-، ونعمه الدينية والدنيوية، فالدنيوية: في وجود الولد بعد حصول السؤال، والدينية: أنه غلام عليم، ونبي من الصالحين، وأنه يكون من أئمة الهدى هو وابنه يعقوب، وذلك في حياة إبراهيم، ولا شك أن القلب المؤمن يسعد بنعم الدِّين والدنيا والآخرة. الثالثة: مجادلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في قوم لوط، قد ذكر المفسرون فيها: أنه سأل الملائكة: هل تعذبون قرية بها مائة من المؤمنين؟ وظل يتنزل معهم إلى أن قال: هل تهلكون قرية فيها واحد من المؤمنين، قالوا: لا، قال: إن فيها لوطًا؛ كل ذلك أنه يريد أن لا ينزل العذاب بهؤلاء القوم المجرمين الطغاة المفسدين، ومع أن هذا لم يكن مستجابًا عند الله -سبحانه وتعالى-؛ إلا أن الله مدح إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفات أنه: "حليم، أواه، منيب". وهذه الصفات الثلاثة يحبها الله، حتى ولو وقع الحلم فيمَن سبق من الله -عز وجل- عذابه وهلاكه، ولكن الله يحب مَن يحلم على عباده، وهو -عز وجل- الذي يفعل ما يشاء، وهو -سبحانه وتعالى- يحب المتضرع الدَّعَّاء، والله -عز وجل- يستجيب لمن شاء فيمن شاء، قد يقبل الله -عز وجل- دعاء نبي أو صالح في كافر فيهديه وقد لا يقبل، لعلمه بالمهتدين، وقد يقبل الله دعاء نبي أو صالح في هلاك قوم وقد لا يقبل؛ فإنه -سبحانه وتعالى- أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين. فلذلك وجود الصفات القلبية هو الأمر المقصود الذي ننتفع به في هذه المواقف، وأعمال القلوب دائمًا مقدمة على أعمال البدن، والصفات الخُلُقية التي اتصف بها الأنبياء ليكونوا قدوة للعالمين. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (143) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (10) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76). فيه فوائد: الفائدة الأولى: في الآية دلالة أن الله لم يستجب لمجادلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في قوم لوط في صرف العذاب عنهم أو تأخيره؛ إذ إنهم ليسوا أهلًا لإجابة الدعاء فيهم لإجرامهم، وهذا دليل على أن صاحب المنزلة العظيمة عند الله ولو كانت النبوة والرسالة، بل الخُلَّة لا يملك من الأمر شيئًا؛ فإن الأمر كله لله، كما قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128). وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. فَأَنْزَلَ اللهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). وفي رواية له: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)". وقد تاب الله -عز وجل- على هؤلاء فأسلموا. وروى مسلم: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ)، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). وفي رواية الترمذي: (فَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِلإِسْلَامِ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح"). وعن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟!) فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (متفق عليه). فالأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ليسوا شركاء لله في أمره، بل الأمر كله له يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، فهو يعذب من يستحق العذاب ويرحم من يريد أن يمن عليه بفضله ورحمته، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دعا لعمه أن يغفر الله له، كما وعد فقال: (أَمَا وَاللهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) (متفق عليه)، وأنزل الله عليه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) (التوبة: 113-114). وقد سبق بيان ذلك. هذا كله من أعظم أدلة التوحيد، وهذا من الحِكَم البالغة في تقدير الله -تعالى- مثل هذا على أنبيائه ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (144) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (11) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76). الفائدة الثانية: قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) دليل على أن من استمر في العناد للشرع، والمخالفة لما جاءت به الرسل، وزادته الموعظة طغيانًا وجبروتًا؛ فالمشروع الإعراض عنه، والإعراض عن الدعاء له؛ لعدم أهليته لذلك. والمشروع هو الانشغال بغيره، وبغير ذلك من أنواع الطاعات، وقد قال الله -تعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) (النجم: 29-30)، وقال -تعالى- له أيضًا: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر: 94)، وقال -تعالى-: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ . وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 54-55). فينشغل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثله العلماء والدعاة مِن بعده، بتذكير مَن تنفعه الذكرى مِن المؤمنين، وتربيتهم على الدِّين، ولا يضيعوا عمرهم مع المعرضين المجرمين ممَّن ظهر إجرامُه وكفره، وعناده وتوليه. وأنواع العبودية كثيرة، ومن أعظمها: إعداد الطائفة المؤمنة والأفراد المؤمنين، ولو لم يكونوا وقت التربية والتعليم مِن ذوي الجاه والمنزلة؛ قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) (عبس: 1-12). الفائدة الثالثة: قال -تعالى-: (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) مع أن العذاب لم ينزل بعد بقوم لوط؛ ففي هذا دليل على أن ما وَعَد الله به من هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين، يقينٌ لا يجوز أن يشك فيه أحدٌ، فهو كأنه قد كان، وهذا هو السر في استعمال الفعل الماضي في أمر المستقبل؛ لأنه يقينٌ فكأنه قد وقع، فلا يستبطئه المؤمنون، كقوله -تعالى-: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل: 1)، ولو كان قد نزل لما كان هناك معنى لاستعجاله، ولكن (أَتَى) بمعنى سيأتيه، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 97-99). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)؛ دَلَّ على نفوذ أمر الله في قوم لوط، ومع ذلك فكان آخر يومٍ في دعوة لوط -عليه الصلاة والسلام- لهم قبل هلاكهم، هو اليوم العصيب على لوط -عليه السلام- في كمال المحنة والابتلاء؛ لتحصيل كمال الثواب والأجر العظيم عند الله، فأمر الله أتى، ووعد الله بنصر المؤمنين حق عليه -سبحانه- أحقه على نفسه، والابتلاء بشدة أذى الكفار وإجرامهم وإفسادهم، مع ذلك لا بد أن يكون، ولابد أن يقع؛ فاصبروا عباد الله، (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (145) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (1) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). إن مِن أعظم نعم الله على عبده المؤمن اجتباءه واصطفاءه، واختياره للمنازل العالية والمراتب السامية، وأعظم الاجتباء: الاصطفاء للنبوة والرسالة، وأعظم من ذلك: اجتباؤه بالخلة، وقد خص الله بها رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأباه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله عنه: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فدل ذلك على أن الخلة أعظم المنازل، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن إبراهيم في حديث الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)؛ للدلالة على علوِّ منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخلة فوق جميع الخلق. وشهود الاجتباء والاصطفاء نعمة فوق النعمة، ومِنَّة فوق المنة، وبها يؤخذ قلب العبد إلى الله حبًّا وشوقًا، ورجاءً ورغبة، وخوفًا أن ينزع منه الاجتباء والاختيار والاصطفاء، فيتعلق القلب بالله وحده دون من سواه، وقد قص الله علينا في سورة يوسف هذا الحوار بين يعقوب ويوسف -صلى الله عليهما وسلم-، وهذا الحوار في القرآن من نعم الله علينا؛ لنتعلم كيف تكون التربية المهيِّئة للصلاح والنبوة، ولنا فيها نصيب الصلاح لمن أراد سلوك الأنبياء، وربك يخلق ما يشاء ويختار. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات: "يقول -تعالى- مخبرًا عن قول يعقوب لولده يوسف -صلى الله عليهما وسلم-: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، كذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لنبوته، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ) وهو الخليل، (وَإِسْحَاقَ) ولده، وهو الذبيح في قولٍ، وليس بالرجيح -(قلتُ: دَلَّ القرآنُ على أن الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق؛ لأن الله -عز وجل- قال بعد ذكر قصة الذبح والفداء: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 112)، فكان التبشير بإسحاق بعد أن بذل إبراهيم ولده بكره إسماعيل لله -عز وجل-، وكذا قال -سبحانه- في البشارة بإسحاق: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71)، فيكون لإسحاق ولد هو يعقوب في حياة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ فدل ذلك على أنه لم يكن ليذبح صغيرًا؛ لأن البشارة كانت بولدٍ له، وهذا لا يحصل عند بلوغ السعي، فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-)-، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: هو أعلم حيث يجعل رسالاته" (انتهى من تفسير ابن كثير). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: هذه الجلسة التربوية الإيمانية الرائعة التي أثرت في يوسف -صلى الله عليه وسلم- عمره كله، وظل أثرها عبر السنين رغم الفراق الطويل، قصها الله علينا ليعلمنا كيف يغرس الإيمان والحب لله في القلب لتكون القدوة والأسوة للآباء والمربين في توجيه الأبناء والتلاميذ، فيخبر الله عن قول يعقوب ليوسف -عليهم الصلاة والسلام-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: كما اختارك وأراك سجود هذه الكواكب والشمس والقمر لك، فكذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لفضله. وشهود نعمة الله وفضله أصل سعادة العبد؛ إذ هذا هو أصل الشكر، وإنما يعمل الشيطان ليجعل الخلق غير شاكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين، فإذا شكر العبد ربه قطع الطريق على الشيطان فلم يجد إلى قلبه سبيلًا، وشهود الاختصاص بالرحمة والتفضيل من أعظم ما يأخذ بقلب العبد إلى ربه -سبحانه- حبًّا وشوقًا، ورجاءً وعبودية، فالحب ينبت على حافة شهود المنن، ومعرفة الأسماء الحسنة والصفات العلا وهذا قد تحقق في كلمات يعقوب لابنه يوسف -صلى الله عليهما وسلم- وأعظم نعمة واجتباء يمنُّ الله بها على عبده هي نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، ثم الاجتباء بالقرب الخاص والتفضيل على كثير من عبادة المؤمنين، وأعلى ذلك: الاجتباء بالنبوة والرسالة. وتأمل ما ذكر الله -سبحانه- لموسى -عليه السلام-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) (طه: 13)، وقوله: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) (طه: 36-37) إلى قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: 39)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41)؛ فلولا تثبيت الله لهذه القلوب الضعيفة لضعفت من شدة الفرح، والحب والشوق إلى الله حتى تذوب حبًّا وشوقًا. وتأمل قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، ماذا ينالنا نحن مِن إدراك قبس من النور الذي حلَّ في قلوب الأنبياء؟! وتأمل قول الله -تعالى- لعبادة المؤمنين: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164). وتأمل قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران: 73-74). وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) (الحج: 78)، فحين تستشعر أن الله هو الذي سماك مسلمًا من قبل ولادتك، ومَنَّ عليك من قبل وجودك، وسماك مسلمًا في القرآن "أشرف الكتب المنزلة على أشرف الرسل -صلى الله عليه وسلم-"، يكاد القلب يذوب حبًّا وشوقًا، ورجاءً لمزيد الفضل والرحمة منه -سبحانه-. والكون مليء بأدلة التفضيل بين الخلائق: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (الإسراء: 21)، وتأمل هذا في الدنيا يقود إلى وجود تفضيل أعظم في الآخرة: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21)، وشهود التفضيل بالدين أعظم سبب للحب، مع معرفة صفات الجمال والجلال لله -سبحانه وتعالى-. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (146) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الثانية: التأمل في ذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد في قوله: (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) نجد فيه التوجيه ولفت نظر القلب إلى هذه الخصوص في العلاقة؛ ربك أنت الذي يفعل بك كل جميل، ويمَنُّ عليك بكل نعمة، ويختصك أنت ويريدك أنت؛ فلتشهد أفعاله الجميلة بك، ولتحرص على أن تكون له وحده، وتشهد فضله وحده، لا تحقق هذا الشعور غير هذه الكلمة: (رَبُّكَ) في مثل هذا الموضع، وتأمل قول يوسف -صلى الله عليه وسلم- في نهاية القصة: (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (يوسف: 100)، وقوله: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) (يوسف: 100)، وقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) (يوسف: 101). تجد هذا التعلق الخاص بالربوبية الذي يشهد به العبد الصالح المِنَّة الخاصة، والنعمة الخاصة، مثل ما تجده في قول صالح -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود: 61)، وقول شعيب -عليه السلام-: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود: 90). فحين أمرهم بالاستغفار ذكر اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المخاطبين، وهم هنا لم يُخصوا بعد بالفضل والتقريب، وحين ذكر تعلقه هو، بما وَجَد أثره من صفات ربه الرحيم الودود؛ ذَكَر اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)؛ ولأنه وجد من رحمته الخاصة، وأثر حبه ووده -عز وجل- ما لم يجدوه هم. وتأمل قول السحرة: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف: 122)؛ لتعرف قَدْر هذه الخصوصية بهذا الفضل؛ هذا الذي يأخذ القلب إلى الله -عز وجل-، ويكاد يذوب شوقًا وحبًّا لله، وتأمل قول داود وسليمان: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 15)؛ هذا الذي يجب أن يُرَبَّى عليه الانسان، ويُنشَّأ عليه مِن شهود نعمته -سبحانه-، واختصاصه عبده بفضله ورحمته، فيحب ربَّه أعظم الحب، ويكون تعلقه به وحرصه على مرضاته مقدَّمًا على كلِّ ما سواه؛ اللهم ارزقنا حبك ومرضاتك، وحب مَن أحبك، والعمل الذي يبلغنا حبك. وقد أكَّد يعقوب -عليه الصلاة والسلام- على شهود أثر الربوبية بذكر جميع الأمور منسوبة إلى فعله -عز وجل-؛ فلم يقل: ستكون يا يوسف عالمًا بتأويل الرؤى، وستنال المنازل العالية التي نالها آباؤك، وإنما كانت كل الأمور منسوبة إلى الله -عز وجل-، ومن أفعاله: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)، (وَيُعَلِّمُكَ)، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ). وقد أثَّرت هذه الكلمات في يوسف -عليه الصلاة والسلام- أعظم الأثر، فظل مشاهدًا لفضل ربِّه -سبحانه- وفعله الجميل به في كلِّ مراحل حياته، فقال لصاحبيه في السجن: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، ويقول لهما: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) (يوسف: 38)، ويقول لأبيه في خاتمة القصة: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (يوسف: 100)؛ لم يقل: قد تحققت، وكذلك يقول: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) فنسب الإحسان إلى ربِّه، ولم يقل: خرجتُ من السجن، بل الله أخرجه. وقال: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) (يوسف: 100)، ولم يقل: جئتم. وقال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فنسب الشر إلى الشيطان وفعله؛ فهذا هو الأدب، فالخير كله في يدي الرب -سبحانه-، والشر ليس إليه، وقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) فذكر لطفه ومشيئته؛ كل هذا أثر التربية الإيمانية في الصغر، فالله الذي يفعل ويتفضَّل، ويمَنُّ ويحسن، ويلطف ويشاء، له الحمد -عز وجل-. وقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) (يوسف: 101)؛ كل هذا فضل الله ومنته. وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ)، نجد أن شهود النعمة منه -سبحانه- يأخذ قلب العبد؛ فكيف بإتمامها؟! إن ابتداء النعمة فضل عظيم، وأعظم منه إتمامها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (الفتح: 1-2). وإذا شهد مع ذلك أنه إتمام النعمة على آله كلهم، وأنه سبق إتمامها على أبويه من قبل: إبراهيم وإسحاق، فهو إذًا مغمور بنعم الله التامة عليه وعلى آبائه؛ فكان هذا أعظم في شهود الرحمة والفضل، واستدعاء المحبة والشكر. فاللهم أتمم نعمتك علينا، واجعلنا شاكرين لها مثنين بها عليك. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (147) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (3) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الثالثة: في قول يعقوب -عليه السلام-: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)؛ ذَكَر يعقوب نفسه باسمه وليس بضمير المتكلم المعتاد في مثل هذا المقام، وتجد في ذلك التواضع لله، والاعتراف بفضله، وشهود الفضل عليه؛ لاجتباء أحدٍ من ذريته للنبوة والرسالة، وهذا فضل ونعمة على الأسرة كلها. وذكر اسم يعقوب الذي سُمِّي به في صغره دون ذكر إسرائيل الذي سُمِّي به في كبره بعد جهاده في الله، وتضحيته، وصبره وغلبته لنفسه (اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة يعتقدون أن اسم إسرائيل أنعم الله به على يعقوب بعد أن أمسك بالرب من حقويه وصرعه! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فهو عندهم إسراعئيل أي: الذي صرع الرب، وإنما معناه: عبد الله الذي صَرَع نفسه لله، أو مِن إسرا أي: الذي يسري بالليل، فهو الذي سار الى الله بعبادته، والله أعلى وأعلم. وقصة صرع الرب صرع يعقوب للرب موجودة في التوراة المحرَّفة)، وهذا والله أعلم تواضعًا لله -سبحانه وتعالى-. وقوله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): إن الإيمان بالأسماء والصفات أساس التوحيد والمعرفة، ونجد هنا التربية الإيمانية على التعلُّق بالأسماء والصفات، واستحضار أثرها، وذكر هنا ثلاثة أسماء لله -سبحانه وتعالى-: (الرب والعليم والحكيم). وذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد؛ ليرى في نفسه خصوصية التعلُّق، وشهود الإصلاح الخاص، فالرب هو الذي يرب مربوبه؛ أي: يصلحه ويقوم على شأنه، والله -سبحانه- يخص أنبياؤه ورسله، ثم أولياءه بأنواع من العناية والإصلاح، ويصبغ عليهم من النعم والفضل ما لا يسبغه على غيرهم، فإذا استشعر العبد ذلك؛ عظمت عنده النعمة، وتعلق قلبه بربه تعلقًا خاصًّا؛ حبًّا وشوقًا ورجاءً، يختلف عن تعلق سائر الخلق، فإن النعمة الدينية أعظم من النعمة الدنيوية: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). فامتن على رسوله -سبحانه وتعالى- بإنزال الكتاب والحكمة، وهي السنة، وما في الكتاب من الحكم، وامتن عليه بتعليمه ما لم يكن يعلم؛ فهذا فضل الله الأعظم. والرب أيضًا المالك لمربوبه، وإذا استشعر العبد أنه مملوك مختص بمزيد فضل مالكه مهيأ معدٌّ لأمر لم يهيأ له غيره من المماليك؛ ربأ بنفسه أن يضيعها، أو يرضى لها بأن يملكها غير مالكها بأن يملكها غير مالكها الحق، ولم يرضَ بعبودية غير ربِّه ومولاه. والرب أيضًا السيد الآمر الناهي المطاع، وفي هذا يشهد المؤمن أن أوامر ربه ونواهيه له هو، وهو المقصود بها قبل غيره ممَّن حوله، وأن طاعته هي المقصودة، وهذا يجعله أشد حرصًا على التزام الأمر واجتناب النهي، والمداومة على الطاعة. واسم العليم في هذا الموطن يقتضي شهود علمه بمن يصلح للاجتباء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بالشاكرين، وأعلم بكيفية تدبير أمر عبده المؤمن حتى يوصله إلى غايته المحمودة، وأعلم بما في قلوب عباده، فيقدر أمره الغالب بعلمه الأول الموصوف به أزلًا -سبحانه-. وإذا استحضر العبد أن الله -عز وجل- عليم بشأنه كله، وشأن مَن حوله؛ أحسن التفويض لله -سبحانه وتعالى-، وكفاه اطلاع الرب -عز وجل- عليه؛ ليستغني بذلك عن علم الناس بحاله، أو نظرهم إليه، وهذا أكمل في الإخلاص، وأكمل في تحقيق كمال الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه يكتفي بعلم الله عن علم البشر بحاله، أو ما هو عليه من خير، أو ما يفعله من الطاعات بينه وبين الله. واسمه الحكيم: بمعنى الذي لا يفعل، ولا يشرع شيئًا؛ إلا لحكمة وغاية محمودة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، وإذا اجتبى عبدًا وعلَّمه ومَنَّ عليه بما لا يمنُّ عليه غيره؛ فلأنه أهل لذلك، فهو أعلم بخلقه، ويفعل فيهم مقتضى الحكمة التي يستحق الحمد عليها، كما أن شرعه -عز وجل- كله حكمة، وأوامره الشرعية لعباده المؤمنين فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، وهذا كله يقتضي التسليم لشرعه، والرضا به سبحانه- وعنه ربًّا مدبِّرًا قادرًا، لا يتهمه في قضائه، ولا يعقب عليه في حكمه، وإن غابت عنه الحكمة في مبادئ الأمور، فليوقن بها، فما يخلو قضاؤه عنها أبدًا، وليصبر لأمره فسيرى العجب، وليواظب على الحمد والتفويض، والتوكل. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (148) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (4) كتبه/ ياسر برهامي فقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الرابعة: بيَّنا في المقال السابق: أن اسم الله الحكيم، هو بمعنى الذي لا يفعل ولا يَشْرع شيئًا إلا لحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، وكذلك له معنى آخر، وهو معنى المُحْكِم للأشياء؛ الذي أتقن صنع كل شيء، وتدبير كل شيء، وكلا المعنيين في قصة يوسف -عليه السلام- يظهر في تفاصيلها من آثارهما العجب! فتأمل حكمة الله في إلقاء يوسف في الجب، ثم بيعه رقيقًا، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كيف كان هذا في الحقيقة سببًا لعلوه وارتفاعه على إخوته الذين أرادوا إنزاله، فارتفع -بفضل الله-، وأرادوا إذلاله فعَزَّ بتقدير الله وحكمته! وانظر كيف كان السجن سببًا للمُلك، ولو لم يُبتلَ يوسف -صلى الله عليه وسلم- به لظلَّ في رقِّ العبودية، فكان الضيق سببًا للسعة؛ لحكمة الحكيم -سبحانه وتعالى-، وغير هذا كثير مما ورد في أثناء تفاصيل القصة. وتأمل كذلك إتقان التدبير والكيد منه -سبحانه-، وكيف كان الأمر في غاية الإحكام لينفذ أمره، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21). ولقد ظل يوسف -صلى الله عليه وسلم- متعلقًا بأسماء الله الحسنى التي عَلَّمها له أبوه عبر السنين، وظهر هذا جليًّا في نهاية القصة بعد السنين الطوال والفراق البعيد، فيقول لأبيه: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)، نفس الأسماء التي ألقاها على سمعه وقلبه أبوه الكريم في صغره، يكررها هو في كبره، بعد أن شهد آثارها العظيمة في التمكين له بعد أنواع الابتلاء؛ هذا يؤكد لنا أهمية التربية الإيمانية على فهم معاني الأسماء والصفات والتعلُّق بها؛ حتى لو كانت البيئة بعد ذلك غير مُعِينة على نفس التربية، بل حتى لو كانت البيئة فاسدة كالتي عاش فيها يوسف -صلى الله عليه وسلم- في مصر في قصر العزيز، كانت بيئة كافرة ماجنة لاهية، ومع ذلك بقي أثر التربية العظيمة. ولهذا لا يصح أن يُقَال: إن ما نبنيه في سنين يُهدَم بكيد الأعداء في يوم! هذا ليس صحيحًا، فإن البناء الراسخ لا تهدمه مكائد الأعداء، وتأمل في قصة أصحاب الأخدود، كيف كانت تربية غلام واحد سببًا لتغيير أمة بكاملها من الكفر إلى الإيمان، إلى الشهادة في سبيل الله! وتأمل في وصية لقمان لابنه كيف كان يعلِّمه أسماء الله الحسنى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). وتأمل كذلك الكلمات التي علَّمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). فبقيت -هذه الكلمات- في نفس ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن علَّمها لتلامذته في كبره؛ فهذا يُظهِر لك ضرورة هذه التربية، ومدى التقصير الذي يقع فيه الآباء والمربون إذا أهملوا هذا الجانب من جوانب التربية. فبالقطع واليقين إن طريقة علم الكلام بالتعريفات الرياضية والحدود الكلامية، هي أبعد الطرق وأظلمها؛ فهي تساعد على انحراف القلب وابتعاده عن فهم حقائق الإيمان، فليبتعد عنها الأب والمربي، وعليه بطريقة الكتاب والسنة والسَّلف الصالح -رضوان الله عليهم-؛ فإنها التي بها حياة القلوب، وبها صلاح العقيدة، وبها ثبات الإنسان في صغره وكبره، عند تعرضه للمحن، وهكذا كان يوسف -صلى الله عليه وسلم- كالجبل الشامخ، لا تثنيه الفتن؛ سواءً كانت الترغيب أو الترهيب، سواء كانت الشهوات أو الشبهات؛ ظل راسخًا على الإيمان الذي علَّمه له أبوه. ولله الحمد والمِنَّة. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (149) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (1) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). إن قضية تحقيق العبودية هي الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والمؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان وعرف قدر نعمة الإسلام وترك الشرك، يود أن لو حصل هذا الحق لجميع الناس؛ لأنه ناصح أمين للبشرية، محب للخير للناس، والمؤمنون خير الناس للناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولا شك أن حبَّ ذلك للأهل والأولاد والذرية، وذرياتهم، يكون مقدمًا في الاهتمام؛ لأنه أولًا مسئولية الآباء والأمهات في تربية وتنشئة أولادهم وذرياتهم على الإسلام؛ ولأنه ثانيًا يجمع الحب الشرعي في الله ولله، والحب الفطري الذي فَطَر الله الناس عليه للآباء والأمهات، والأزواج والزوجات، والأولاد والذريات، وهو عند عامة الناس يدفع الواحد منهم إلى ما يسميه: "تأمين الحياة الكريمة" لذريته، ويعنون به رَغَد العيش، وسعة المال، ووجود الجاه والوظيفة العالية في الناس؛ حتى ولو كان على غير الدِّين! أما عند المؤمن فإن ذلك يدفعه إلى توريثهم الدين والإيمان، وحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ورسله جميعًا، والبقاء على الإسلام إلى الممات؛ تحقيقًا للنجاة في الدنيا وفي الآخرة، قال -تعالى-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 131-133). وقال -تعالى- عن عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). قال غير واحد من السلف: "يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم إلى الإسلام"، وقال الحسن: "المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله". وعن جبير بن نفير قال: "جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أشدِّ حالة بُعث عليها نبيٌّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرَّق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرًا، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرَّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية" (تفسير الطبري). فتوريث الدين مهمة عظيمة لا بد أن نحافظ عليها قدر إمكاننا، والذرية كذلك الذين حصلت لهم وراثة الدين يعلمون قدر نعمة الله سبحانه بذلك؛ خاصة عند مقارنة ما هم عليه من فضل الله ونعمته، وبين ملل الشرك والكفر التي عليها أكثر الناس، فتعظم نعمة الله عند ذلك، ولقد كان إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على هذه المسألة، فدعا ربَّه ضمن ما دعاه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 39-41). وسأل الله -تعالى- أن يجعل من ذريته الأئمة، قال -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). وقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 127-128). ولقد كانت بشارة الله -عز وجل- لإبراهيم وإسحاق بعد أن بَذَل ولده للذبح، وفداه الله بذبح عظيم بعد أن بذل ولده بكره ووحيده إسماعيل -عليه السلام-، للذبح لله -عز وجل-، فقال -تعالى-: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (الصافات: 112-113). وقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 84-87). وقال -سبحانه-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 72-73). وكان يوسف -صلى الله عليه وسلم- مشاهدًا لعظم نعمة الله عليه بذلك، فذكرها في مقام الشكر لله، والامتنان له بذلك، ودعوة الناس إلى الحق وإلى الخير، فقال لصاحبيه في السجن كما قال الله -تعالى-: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ . يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 37-40). فلنقرأ تفسيرها ثم لنتدبر ما فيها من الفوائد في المقال القادم -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (150) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا) الآيات: "يخبرهما يوسف -صلى الله عليه وسلم- أنهما مهما رأيا في نومهما من حلم، فإنه عارف بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال مجاهد: يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما. وكذا قال السدي. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما أدري لعل يوسف -عليه السلام- كان يعتاف وهو كذلك؛ لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال: إذا جاء الطعام حلوًا أو مرًّا اعتاف عند ذلك. ثم قال ابن عباس: إنما عُلِّم فَعَلَّم . وهذا أثر غريب. (قلتُ: العيافة: زجر الطير لمعرفة الأمور الغيبية، وهي من أفعال الكهنة ونحوهم، ولا يجوز أن يُنسَب ذلك إلى الأنبياء، والإسناد ضعيف جدًّا إلى ابن عباس، فلا يصح)، ثم قال: وهذا إنما هو من تعليم الله إياي؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابًا ولا عقابًا في المَعَاد. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) يقول: هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهكذا يكون حال مَن سلك طريق الهدى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين؛ فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلمه، ويجعله إمامًا يقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد. (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) هذا التوحيد، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) أي: أوحاه إلينا، وأمرنا به. (وَعَلَى النَّاسِ) إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار . وروى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبًا، ويقول: والله فمَن شاء لاعنَّاه عند الحجر، ما ذكر الله جدًّا ولا جدة، قال الله تعالى -يعني إخبارًا عن يوسف-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) (قلتُ: المقصود في ذلك في المواريث، وأن الجد يحجب الأخوة؛ لأنه أب، فكما يحجب الأب الإخوة فكذلك الجد، وهو الصحيح من أقوال العلماء). في الآيات فوائد: الأولى: في قول يوسف -صلى الله علي وسلم-: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، أي: هذا بتعليم الله إياي، لم اكتسبه من قِبَل نفسي؛ ففيه نسبة النعمة إلى مسبغها على العبد، فهذا أثر من آثار التربية الإيمانية التي تلقاها يوسف في صغره؛ حيث علَّمه أبوه أن النعمة من الله -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) (يوسف: 6)، وتأمل كيف ذكر ربه باسم الربوبية مضاف إلى ضمير المتكلم (رَبِّي)؛ لأنها نعمة خاصة، وتعليم خاص، وإصلاح خاص بمنِّه وكرمه -سبحانه-، ثم علَّل هذه النعمة الخاصة والتعليم بأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. وهذا التعليل: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ) يدل السامع على أن هذه النعمة والفضل لها سبب من اكتساب العدل والعلم، وهو أيضًا مِن فضل الله -عز وجل-، وهي دعوة واضحة مع تلطف؛ لكي يتركوا الملة الباطلة التي هم عليها وقومهم مِن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر. وهذا التلطف في البداية يمنع نفرة النفوس في أول وهله؛ فهو يريد هدم الباطل في قلوبهم، ولو قال لهم: أنتم على ملة باطلة لا تؤمنون بالله وباليوم الآخر، فربما كان سببًا لنفرتهم، فأخبرهم عن نفسه فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وسوف يصرِّح لهم بعد لحظة بأنهم يعبدون الآلهة الباطلة، ولكن بدأ بهذا الأسلوب الرائع اللطيف الذي لا تنفر منه النفوس، وفي نفس الوقت يكون مبيِّنًا واضحًا في إبطال الباطل دون مجاملة ولا مداهنة. ومثل هذا الأسلوب تلحظه في قصة مؤمن آل ياسين حيث قال لقومه: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يس: 22-24). فهذا بلا شك أهون عليهم، وأخف مِن أن يقول: أنتم في ضلال مبين؛ فالداعي إلى الله حين يذكر مسائل الإيمان بما في ذلك الكفر بالطاغوت على لسان نفسه، وفي وصف حاله، وما يجد من النعم بسبب ذلك؛ فإنه بذلك يدخل إلى النفوس من أقصر طريق وألين أسلوب مع نصاعة الحق، ووضوح البيان. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (151) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (3) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). الفائدة الثانية: لا بد أن نهتم في دعوتنا بأسس الإيمان، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، فهما أعظم القضايا التي رُكِز في فطرة البشر البحث عنها، وقبول الحق فيها، وفيها الإجابة عن الأسئلة التي تواجه كل إنسان مِن نفسه: مَن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين المصير؟ الإيمان بالله يجيب على السؤالين الأولين، فالله الخالق وهو المعبود، وهو خلقنا لنعبده، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والإيمان باليوم الآخر يجيب عن السؤال الثالث؛ المصير إلى الله والموت آتٍ لا محالة، وبعده البعث والنشور، والجزاء والثواب والعقاب، فالدنيا بأسرها يوم والآخرة اليوم الآخر، وهذه المسائل يشترك في البحث عنها الملوك والمماليك، والأغنياء والفقراء، والكبراء والفقراء؛ فلا بد أن تبدأ الدعوة بها. والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- يستلزم الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والقدر خيره وشره، وكذا الإيمان باليوم الآخر يستلزم الإيمان بالكتب والرسل؛ لأن الجزاء في اليوم الآخر يكون على الشرع التي أتت به الرسل، وتضمنته الكتب المنزلة عليهم، والإيمان بالقدر؛ لأنه في الحقيقة إيمان بقدرة الله وعلمه وكتابته -سبحانه وتعالى- المقادير، وخلقه لأفعال العباد ومشيئته النافذة في ذلك، وفي غيره من أمور الكون؛ فلذلك أصول الإيمان متضمنة في الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك كثر في كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليفعل كذا... أو يترك كذا... ثم لا بد أن تتضمن الدعوة من البداية، التحذير من كل ملة ليس فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، أو فيها اعتقاد فاسد بالله أو باليوم الآخر، كمَن يعتقدون الشرك وعبادة غير الله، أو ربوبية غيره -سبحانه وتعالى- خلقًا، أو رزقًا، أو تدبيرًا، أو ضرًّا أو نفعًا، أو مِلْكًا أو مُلْكًا، أو تشريعًا، وكذا من يعتقدون في اليوم الآخر بعدم بعث الأجساد أو بأن الجنة ليس فيها طعام ولا شراب، كما قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في قول الله -عز وجل-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105)، قال: "هم اليهود والنصارى؛ أما اليهود فكفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب!". وتأمل في قوله: (مِلَّةَ قَوْمٍ) (يوسف: 37)، منكَّرَة، ولم يقل: ملة قومكم في أول الأمر، من جنس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال أقوام"، مع وضوح المقصد، ولكنها مراعاة للنفوس الجاهلة التي تعاند دفاعًا عن قومها، وتقليدًا لأشياخها مثل ما دلَّ عليه قول الله -عز وجل- عن بلقيس في أول شأنها من عدم الإيمان، أنها أول ما رأت ملك سليمان وقد بلغتها دعوة الحق، كانت كما قال -تعالى-: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل: 43). الفائدة الثالثة: ثم بعد بيان الإيمان بالله واليوم الآخر شرع يوسف صلى الله عليه وسلم في بيان النبوة ومتابعته لملة الأنبياء من آبائه، فهو ترك الباطل وتبع الحق؛ هزم الجاهلية وسلك سبيل المرسلين، فقال: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) كما سبق نقل كلام ابن كثير -رحمه الله-، يقول: "هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم، ويجعله إمامًا يقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد" (تفسير ابن كثير). وفي هذا بيان أنه لا تتحقق ملة الحق إلا بترك ملة الباطل، ففيه معنى النفي والإثبات الذي تضمنته لا إله إلا الله وقضية ترك ملة الباطل والتبرؤ منها، والتصريح ببطلانها وعدم إيمان أصحابها ضرورة لتحقيق الإيمان بالله، كما قال -تعالى-: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)، فالذين يريدون في زماننا ترك قضية البراء من الشرك وأهله، وأن يتمسك الإنسان بما هو عليه دون أن يتعرض لملل الباطل لا يبين بطلانها ولا دخل له بها، فهم من أعظم الناس هدمًا لحقيقة لا إله إلا الله، فإنهم يرومون تصويب الملل كلها، وعلى الأقل تصويب اليهودية والنصرانية كما ادِّعاه المخترعون المبطلون للدين الإبراهيمي الجديد الذي يزعمون فيه مساواة الملل، وهم إنما يريدون هدم الإسلام؛ فليحذر كل مسلم من ذلك، فإن اتباع الحق لا يثبت إلا بترك ملل الباطل كلها، والإيمان بالله لا يحصل إلا بالكفر بالطاغوت. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (152) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (4) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). الفائدة الرابعة: في قوله -تعالى-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي): اعتزاز بالآباء الكرماء الأشراف، الذين أنعم الله بهم عليه وعلى الناس، وهذا بلا فخر، بل مع نسبة الفضل إلى الله وشكره على نعمته، كما قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ). فالتوحيد والنبوات أعظم نعمة وفضل ينعم الله به على الخلق؛ فالله -عز وجل- حين فَرَض علينا عبادته وحرَّم علينا الشرك به، أنعم علينا أعظم نعمة؛ حرَّرنا من العبادة للعبيد، وأعتقنا من التزام الرق لمن له شكل ونديد، وحين وفقنا للعمل بهذا الذي افترض علينا من توحيده وعدم الشرك به؛ فقد أتم علينا النعمة التي كان ابتداؤها منه بلا سببٍ منا، وعصمنا من السجود لغيره، وقد خذل أمثالنا في الأبدان والأسماع والأبصار والأفئدة؛ الذين ما أغنت عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء؛ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعبدوا الشياطين من دون الله، وسوَّلت لهم نفوسهم وعقولهم وشياطينهم عبادة الأشجار والأحجار المنحوتة -التي هم نحتوها-، أو الأشخاص من البشر والجن والملائكة، بل ما هو أدنى وأدنى من عبادة العجول والأبقار، والجعارين، والحيات، والفئران، والحشرات، والصلبان، وكل ما يخطر بالبال، وما لا يخطر! وهم في ذلك تامة عقولهم في معاشهم ودنياهم، وتدبير مصالح أولادهم وأموالهم؛ ربما صنعوا الصواريخ والقنابل الذرية وهم يركعون للبقرة، ولها يسجدون! وربما جيَّشوا الجيوش، وجنَّدوا الجنود، وملكوا الأرضين، وصعدوا في الفضاء وهم يعبدون صليبًا يعتقدون موت الإله عليه، وبصق الناس عليه، ودق المسامير في يديه، وهو يصرخ بصوت عظيم: "إلهي إلهي لما تركتني!"، فلا يجد مَن يجيبه، كما ذكروا ذلك في أناجيلهم! عجبًا والله لهذه العقول، وتبًّا لهذه الأفكار! إذا تأمل الإنسان عقائد العالَم عَلِم فضل الله عليه بالتوحيد ونبذ الشرك، وكان أحرص شيء على شكر هذه النعمة بالثبات عليها والدعوة إليها، ومحاولة إخراج الناس من ظلمات الجاهلية، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)؛ فاللهم أتمم نعمك علينا بتثبيتنا على الإسلام حتى تتوفانا مسلمين. وأكثر الناس لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل ودعوتهم إلى التوحيد، بل (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ . وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم: 28-30). وفي قول يوسف -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) بيان أن المشرك لا يؤمن بالله حتى لو أقرَّ بوجوده -سبحانه-، ولو أقر ببعض صفاته -عز وجل-؛ ذلك أنه قال عن القوم الكافرين في أول كلامه: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (يوسف: 37)، ثم قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، فالشرك ينافي أصل الإيمان؛ سواء كان الشرك في الربوبية بأن يعتقد مع الله أو من دون الله خالقًا أو رازقًا، أو مدبِّرًا، أو مالكًا، أو سيدًا آمرًا ناهيًا مشرعًا للناس. ويا للأسف! قد صار يوجد في المسلمين مَن يعتقد أن الله جعل بعض صفات الربوبية في بعض أنبيائه وأوليائه، وأن ذلك هو من المعجزات والكرامات، وليس كذلك؛ فإن الله -سبحانه- لا شريك له في ربوبيته، وأما ما يحتج به أهل الضلال من أن عيسى -عليه السلام- يخلق الطير؛ فهذا ليس بصحيح، وإنما معنى قوله -تعالى-: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (آل عمران: 49): أنه يشكِّلها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه -عز وجل- في وعيد المصورين: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً) (متفق عليه)، فعيسى -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يجعل الطين طيرًا، وإنما نفخ فيه بأمر الله، فجعلها الله -عز وجل- كذلك. وكيف يستقيم ذلك مع قول الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (الزخرف: 87)، وقوله -تعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)؟! أفتكون عقيدة المشركين في الربوبية أسلم من عقيدة هؤلاء المبتدعين؟! والله، لقد كفروا بنعمة الله بالتوحيد حين اعتقدوا أن الله يجعل صفات الربوبية لأوليائهم، وكذلك اعتقادهم في الأولياء أنهم قادرون على قبض الأرواح وعلى ردِّها، وعلى شطب الأرزاق ومحوها؛ فإن ذلك من أنواع الشرك في الربوبية التي يكفر مَن قال بها بنعمة الله بالتوحيد. وكذا مَن يقولون بوجود مَن يشرِّع مِن دون الله -سبحانه وتعالى-، ويضعون القوانين الوضعية، ويلتزمون بها معتقدين أنها أنسب للناس في هذه الأزمان من شريعة الله -سبحانه وتعالى-؛ فهذا من أقبح الشرك في الربوبية. وكذلك الشرك في الألوهية بصرف العبادة مِن: ركوع، أو سجود، أو دعاء، أو استعاذة، أو استغاثة، أو ذبح أو نذر، أو حب عبادة وهو خوف مع ذلٍّ وانقياد، أو خوف عبادة وهو خوف سري يدعو إلى طاعة باطنة، ويتقرَّب بهذا الخوف إلى مَن يخاف، أو حَلِف، أو غير ذلك؛ فهذا أيضًا من الشرك الذي يكفر به مَن كفر بنعمة الله -سبحانه وتعالى-. وكذلك الشرك في الأسماء والصفات: بأن يعتقد للمخلوقين صفة الخالق -عز وجل-: كالسمع المحيط، والعلم بالغيب، والقدرة التامة، والبصر المحيط، أو ينفي صفات الرب -سبحانه وتعالى-، ويشبهه بالجمادات أو المعدومات؛ فكل أنواع الشرك تنافي الإيمان بالله -عز وجل-. وكذلك مَن وصف الرب بصفات النقص: كمَن زعم أن بعض عباده غلبه وصرعه -كما زعموا أن يعقوب عليه السلام سُمِّي إسرائيل من أجل ذلك؛ أي: لأنه الذي صرع الرب كما يعتقد اليهود-، وكذلك مَن ينسبون له التعب، ومَن ينسبون له الصاحبة والولد، ومن ينسبون له الجهل، وعدم القدرة؛ كل ذلك من الشرك في الأسماء والصفات، وكل ذلك ينافي الإيمان بالله؛ إذ إن كثيرًا مِن الناس يظن أن الإيمان هو اعتقاد وجود الله حتى لو عبد غيره وأشرك به! وهذا في الحقيقة قول غلاة الجهمية والمرجئة، وهو مِن أفسد الاعتقاد. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (153) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (5) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). الفائدة الخامسة: في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) تأكيد لنفي الشرك في قوله: (مِنْ شَيْءٍ)، فشيء نكرة في سياق النفي، فتعم كل الأشياء التي تعبد من دون الله مِن حجر أو شجر، أو قبر أو وثن، أو إنس، أو جن وشياطين، أو مَلَك، أو شمس أو قمر أو كوكب، أو غير ذلك، وأكَّد هذا بـ(مِنْ)؛ حتى لا يتطرق إلى الجملة احتمال التخصيص بأي نوع من أنواع التخصيص لأي شيء في الوجود سوى الله -سبحانه-. وفي قول يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) دليل على أن الجد أب في الميراث، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يجعل الجد أبًا في الميراث فيحجب به الإخوة، ويقول: "مَن شاء لاعنتُه عند الحجر؛ ما ذكر الله جَدًّا ولا جدة، قال الله -تعالى- يعني إخبارًا عن يوسف: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)" (رواه ابن أبي حاتم). وفي رواية عنه: "ألا يتقي الله زيد -يعني زيد بن ثابت- يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا"، فما جعل الله -عز وجل- الأجداد إلا آباءً. وفي ذكر يوسف لأجداده -عليهم السلام- بلفظ الآباء لطيفة جميلة، وهي: الشعور بالقرب منهم، فشعور الإنسان بأبيه حبًّا وتعلقًا أكبر من شعوره بأجداده، خصوصًا إذا تباعد الزمن، فلربما لا يكون لأجداده الأبعدين تعلقًا على الإطلاق في القلب إلا مجرد حمل الاسم، ودعوة صالحة؛ إذ ندر في الناس مَن يرعى حق القرابة البعيدة إلا إذا كان في الجد من الصفات الحسنة والمنازل العالية من العلم والتقوى، والعبادة والجهاد، ما يظل الحفيد ذاكرًا لجده، كما يذكر آل البيت في زماننا جدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ للشرف العظيم، والفضيلة التي لا تضاهيها فضيلة. أما إذا ذكره بلفظ الأبِ؛ فكأن الفارق الزمني قد طوي، وشعر بالقرب الشديد، والحب والمتابعة عن قرب، ومثل هذا المعنى تجده في قول الله -تعالى- للمؤمنين: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)؛ فهو حث على متابعة الإسلام؛ لأنه دين إبراهيم، وهو أبو المؤمنين الذي يحبونه أعظم الحب؛ فكيف يخالفون ملته؟! وتأمل كيف كان تعلُّق أبي طالب بأبيه عبد المطلب، وتركه للإسلام وإبائه أن يقول: "لا إله إلا الله"؛ لقول أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟!"، مع علمه بصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أحسن الدين، ولكن قال: "يا ابن أخي ملة الأشياخ". وإذا استشعر الإنسان الأبوة كان أحرص شيء على اتباع ملة الحق التي كانوا عليها، وكان ذلك أعظم وأعظم في الاتباع. وتجد قريبًا من هذا المعنى في قول الناس يوم القيامة في أمر الشفاعة: "اذهبوا إلى أبيكم آدم"، ولم يقولوا: جدكم أو جد جدكم، وكذا قول آدم: "اذهبوا إلى أبيكم بعد أبيكم، اذهبوا إلى نوح"؛ ففرق كبير بين أن نقول: جدنا الأعلى البعيد آدم أو نوح، وبين أن نقول: أبونا آدم وأبونا نوح -عليهما السلام-. فشرف لنا كبير أن يكونوا آباءنا، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) (رواه البخاري)، وقوله: (وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبيِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه مسلم)، تلمس فيه حبًّا وتقديرًا، يختلف كثيرًا عما لو قيل: إن حفيدي هذا، أو سميتُه باسم: جدي. وقول أبي هريرة عن هاجر: "تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ" (متفق عليه)، في خطابه للعرب من نسل إسماعيل -عليه السلام- بدل جدتكم، فيه نفس المعنى. والله أعلم. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (154) دعوة غيَّرت وجه الأرض كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). هناك نقاط فاصلة في تاريخ البشرية تمثِّل سرجًا منيرة، تبيِّن لهم طريقهم إلى الله، وتعرفهم بدايتهم وبداية العالم، ونهايتهم ونهاية العالم، وعواقب فئاتهم وطوائفهم، ومن هذه النقاط المضيئة: تكوين مكة المكرمة التي صارت بعد آلاف السنين مِن تأسيسها وتعميرها مصدرًا لأعظم نورٍ وَصَل إلى أهل الأرض عبر الزمان ببعثة السراج المنير -عليه الصلاة والسلام-، ونزول الوحي بالكتاب المنير الذي أضاء للبشرية حقائق الوجود، وأحيا قلوب مَن آمن به مِن الموت الذي كانوا فيه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام: 122). فكان أعظم تغيير في حياة البشر إلى أفضل نظام للحياة في الدنيا والآخرة بعد الجاهلية والظلم الذي كانت فيه، وإذا تأملنا بداية نشأة هذه البلدة؛ لوجدنا معجزة باهرة، ودعوة مستجابة غيَّر الله بها وجه الأرض والزمان؛ فهي أرض جَبَليَّة لا تصلح للزراعة، ولا ماء فيها، ولا مقومات للحياة نهائيًّا؛ فإذا بها تصبح أشد بقعة في الكرة الأرضية ازدحامًا بالحياة؛ حياة الأبدان وحياة القلوب، فلا توجد بقعة في العالم تزدحم بهذه الأعداد الهائلة من البشر طوال أيام السنة؛ إضافة إلى أيام المواسم: كالحج وشهر رمضان المبارك، التي تشهد بالفعل أعظم ازدحام في العالم، يشارك فيه بشر مؤمنون من كل قارات الأرض، وحياة القلوب بالإيمان والقرب من الله، وكثرة التعبد له بأنواع الطواف والقيام، والركوع والسجود والاعتكاف، في بيته الحرام، وغير ذلك من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، وأنواع الأذكار التي علمناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- النصيب الأكبر في تأسيس مكة وتعميرها بعد أن كانت لا أنيس بها ولا أحد؛ فأتى بولده إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- وأمه هاجر -رضي الله عنها- وتركهما إلى الله -سبحانه- الكافي مَن توكل عليه -سبحانه وتعالى-؛ لتأتي مقومات الحياة إليهما بقدرة الله -عز وجل-، سبحانه وحده لا شريك له، ثم بهذه الدعوات التي مَنَّ الله علينا بتعليمنا إياها بذكرها في القرآن كان بداية تعمير مكة، ثم استمرار ذلك بهذه الدعوات. ولنذكر تفسير هذه الآيات وفوائدها؛ عسى الله أن ينوِّر بها قلوبنا. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يَذْكُرُ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ، آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67)، وَقَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97)، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضًا فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولًا. (قلتُ: وقد مضى ذلك بيِّنًا في أول المقالات). وقوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ)، ينبغي لكل داعٍ أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتُتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه بَرِيءٌ ممَّن عبدها، ورد أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كما قال عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك. قال عبد الله بن وهب -وذكر سنده عن عبد الله بن عمر-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قول إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) الآية، وقول عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم رفع يديه، ثم قال: "اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي"، وبكى فقال الله: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل، -عليه السلام-، فسأله، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. (رواه الطبري في تفسيره)". وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (155) دعوة غيَّرت وجه الأرض (2) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ): "وهذا يدل على أن هذا دعاءٌ ثانٍ بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولَّى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه؛ تأكيدًا ورغبة إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)". (قلتُ: المقصود بالدعاء الثاني: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، والدعاء الأول: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126)؛ لأن الدعاء الأول قبل أن تتكون البلدة، والدعاء الثاني بعد أن تكونت بلدة، والترتيب الزمني بين هذه الدعوات ليس مرادًا، فالدعوة الأولى قوله: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، والظاهر أن معها قوله -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا)، وبعد أن تكوَّنت البلدة، قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا). وقوله -تعالى- عن إبراهيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، هو بعد ميلاد إسحاق بسنوات عديدة؛ قيل: ثلاثة عشر عامًا، فالترتيب في الآيات لا يلزم منه الترتيب الزمني). قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: (الْمُحَرَّمِ) أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبيره، وغيره، لو قال: أفئدة الناس؛ لازدحم عليه فارس والروم، واليهود والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال: (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون. وقوله: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع؛ فاجعل لهم ثمارًا يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك، كما قال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص: 57)، وهذا من لطفه -تعالى- وكرمه ورحمته وبركته؛ أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-. وقوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) قال ابن جرير: يقول -تعالى- مخبرًا عن إبراهيم خليله أنه قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) أي: أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء. ثم حمد ربه -عز وجل- على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي: إنه يستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد، ثم قال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي: محافظًا عليها مقيمًا لحدودها، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي: واجعلهم كذلك مقيمين الصلاة، (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) أي: فيما سألتك فيه كله. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) وقرأ بعضهم: "ولوالدي" بالإفراد، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبيَّن له عداوته لله -عز وجل-، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي: كلهم، (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) أي: يوم تحاسب عبادك فتجزيهم بأعمالهم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر". (انتهى من تفسير ابن كثير رحمه الله). (قلتُ: ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن ابن جرير من أن قوله -تعالى-: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متعلق بقوله: (الْمُحَرَّمِ) أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فيه نظر؛ فإن ابن جرير -رحمه الله- قال: إنما فعلتُ ذلك ليقيموا الصلاة، فالظاهر أن كلامه مثل كلام القرطبي الذي ذكره في تفسيره، من أن المعنى: إني أسكنت من ذريتي عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة. والله أعلم). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (156) دعوة غيَّرت وجه الأرض (3) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). فيه فوائد: الأولى: الدعاء من أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -تعالى- قدَّر مقادير وقدَّر لها أسبابًا، ومما قدره الله -عز وجل-: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام؛ للقيام في الصلاة والركوع والسجود، والطواف والاعتكاف، وسائر أنواع العبادات؛ قال الله -عز وجل-: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: 26). وجعل الله -عز وجل- البيت الحرام قيامًا للناس، به يقوم أمر الناس: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) (المائدة: 97)، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أَذِن الله قَدَرًا في هدمه، ولا بقاء للناس من غير الكعبة المشرفة، فمن أشراط الساعة: هدم الكعبة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبل ذلك؛ فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتوجه المؤمنين إلى هذه القبلة المشرفة. كيف عمرت هذه البقعة؟ وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين، وتتجه وجوههم إليها في الصلاة؟ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 144)، وتريد قلوبهم أن تذهب إلى هذا المكان، فيذهب الملايين من كل عام إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة لأداء فرض الحج الذي أمر الله بأدائه وافترضه على الناس، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97)، وبيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه ركن من أركان الإسلام، فقال: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه). وعمرت هذه البقعة بدعوة مباركة من إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وقد كرَّم الله -عز وجل- سارة بأن كانت من المؤمنين دون قومها، وهاجرت مع إبراهيم ولوط -عليهما السلام-، ثم سافرا إلى مصر ورد الله عنها كيد الملك الكافر عندما ذهب إبراهيم بها إلى أرض مصر، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ -عز وجل-؛ قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَقَالَ: (بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ قَالَ: أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَُكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ اللهَ فَأُطْلِقَ. ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) (متفق عليه). وضربت سارة -رضي الله عنها- مثلاً في التضحية والحب الصادق الحقيقي لزوجها؛ إذ وهبت هاجر وهي خادمتها التي وُهِبت لها وملك يمينها؛ وهبتها لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عسى الله -عز وجل- أن يرزقه منها الولد؛ إذ كانت هي عقيمًا لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي والطاعة لله -عز وجل-، فاتخذ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هاجر سُريَّة وولدت له إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ولكن وقع في قلب سارة ما وقع من الغيرة الفطرية؛ رغم أنها هي التي أرادت ذلك. وكان الله قد قدَّر تعمير بيته الحرام بإسماعيل -عليه الصلاة والسلام- وذريته، فأمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يأخذ هاجر وأن يهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة؛ في هذا المكان الجدب الذي لا أحد فيه ولا أنيس، ولا جليس، ولا شيء؛ ترك إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هاجر وابنها الرضيع إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ومعها جراب تمر، وشملة، وقربة ماء، تركهم عند دوحة قريبة من موضع زمزم، ولم يكن بني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة -أي: مثل التل المرتفع-، وتركهما وحدهما في هذا المكان الذي ليس فيه أحد. فترى هذه البقعة التي لا نبت فيها ولا زرع، ولا ماء، ولا شيء على الإطلاق من مقومات الحياة؛ اختارها الله يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان، إلى أن لا يوجد على وجه الأرض مَن يقول: "الله الله"، ولله الحمد والمنة أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس من عند أنفسهم فيكون ذلك قابلًا للتغيير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا -أي: لا يجتث حشيشها-، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ -أي: معرِّف لها أبدًا-) (متفق عليه). اجتبى الله هذه البقعة وجرَّدها من مقومات الحياة الطبيعية، وقدَّر أن تكون أكثر بقعة في الأرض ازدحامًا على وجه الأرض ممَّن يعبد الله؛ آية عظيمة من آيات الله، وبيان لأهمية الدعاء إذ كانت هذه الدعوة من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وفي الآية الأخرى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (157) دعوة غيَّرت وجه الأرض (4) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الثانية: هذه الدعوة المباركة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126)، كانت قبل أن تكون البلدة، ثم كانت الدعوة المباركة الأخرى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم: 35)، بعد تكونها. كان الدعاء الذي غيَّر وجه الحياة على سطح الأرض؛ الذي نَشَر الله -عز وجل به- التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها؛ إذ من ذرية إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إسماعيل ومحمد -صلى الله عليهم وسلم- الذي أراد الله بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد؛ دعوة الأنبياء جميعًا في أرجاء الأرض كلها -بفضل الله-، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء؛ تنشر توحيد الله، وتعلن الكلمة الخالدة: "لا إله إلا الله"؛ شعارًا للحياة، وشعارًا للأمة الإسلامية. ولا توجد أمة من الأمم؛ سواء ممَّن ينتسب إلى الأنبياء أو مَن لا ينتسب لهم يرفع هذا الشعار أو يطبِّقه في الحياة، أو يسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض "سوى أهل الإسلام"، وإنما تجد الأمم حتى مَن ينتسب إلى الأنبياء، جعلوا شعائر خاصة بهم خلاف ما أوصى بهم الأنبياء، وإن كانت الوصية مسجَّلة عندهم أنها أول الوصايا جميعًا: "أن نعبد الله وحده لا شريك له"؛ هكذا في وصايا موسى العشر في التوراة، كما هي وصية المسيح في الإنجيل. وبفضل الله -عز وجل- إنما يرفع هذه الكلمة ويطبِّقها في الحياة "أهل الإسلام"؛ الذين يتجهون من كل مكان لهذه البقاع الطاهرة، ويخرجون قاصدين مِنى ثم عرفات، ثم يردون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية؛ قاصدين بذلك مرضاة ربهم، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا. وهكذا قَدَّر الله -عز وجل- أن يأتي إسماعيل -عليه السلام- مع أمه، ويتركهما إبراهيم -عليه السلام-، وتقول له هاجر: إلى مَن تتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء! وكأن السؤال ما كان ينبغي أن يكون، مع علمها برحمة إبراهيم وشفقته على جميع الناس؛ فكيف بولده؟! ولذا لم يجبها إبراهيم -عليه السلام-، ولم يلتفت إليها؛ إذ كيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم الشفيق بالخلق- أن يكون قاسيًا على ولده وفلذة كبده، وعلى أَمَتِه أمِّ ولده التي عاشرها وعاش معها، ووحدت الله -عز وجل- على يديه؟! كيف يمكن أن يُظن به ذلك وهو يدعو لمَن عصاه بالمغفرة والرحمة: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؟! والأصنام أضلت من دعا إليها، وعبادتها تضل كثير من الناس؛ فهو يعتبر بحال الأكثر، ويخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، فمَن قال: "إنه يأمن الشرك على نفسه!"؛ فهو جاهل، كما قال إبراهيم التيمي: "مَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!" (رواه ابن جرير وابن أبي حاتم). ومن يأمن أن يقع فيما حذر الله منه من الشرك بعد أن يدعو إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالنجاة منه ولبنيه، ولقد استجاب الله دعوته، فلم يكن أحدٌ من بنيه أو ذريته المباشرة مشركًا، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد ذلك، كما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ما بعد إسماعيل عشرة أجيال كلهم على التوحيد حتى سَنَّ الشرك ونشره في العرب عمرو بن لحي الذي رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- يجر قصبه في النار. ولننظر.. كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالًا متتابعة؟! دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أثَّرت في حياة البشر في هذه البقعة إلى يومنا هذا، ومنها خرجت إلى جميع أرجاء الأرض، حتى يُنَادى بـ"لا إله إلا الله" في دائرة القطب الشمالي يؤذن فيها بالصلاة، وفي كل قارات العالم. دعوة التوحيد التي جددها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام بها في الأرض كلها، بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض كلها، وبُعِث إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، يدعون إلى دين الله -عز وجل-، وتوحيده واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان. الفائدة الثالثة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)؛ هذا هو النَّسب الحقيقي اتباع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -عز وجل- لأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)، فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه فهو أبوهم بالروح والقلب؛ ذلك أن ولادة قلوبهم وهي أعظم من ولادة البدن كانت بدعوته التي جددها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أبو المؤمنين كما قال -تعالى-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَي وابن عباس: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك بأنه هو -عليه الصلاة والسلام- الذي وُلِدت به هذه القلوب من ظلمات الجهل والظلم، إلى فضاء العلم والإيمان والتوحيد، والعدل، برحمة الله -سبحانه وتعالى-. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (158) دعوة غيَّرت وجه الأرض (5) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الرابعة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة أبيه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ دعا ربَّه أن يبعث في ذريته رسولًا منهم؛ يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129). وتوسل إلى الله -عز وجل- بعزته وحكمته في قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نورًا خرج منها فأضاء قصور الشام كما ورد في الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: يَا نَبِيَّ اللهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). إن الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة في القرب من الله -عز وجل-، وبحسب قرب الداعي من ربه واستعانته بحول الله وقوته، يؤثِّر الدعاء تأثيرًا عجيبًا يمتد آلاف السنين بقدرة الله؛ يقول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فإبراهيم -عليه السلام- يدعو لمَن عصاه بأن يغفر الله له، وإنما يغفر الله الشرك بأن يتوب العبد منه، فإن مات على الشرك وقد بلغته الحجة لا يغفر الله له الشرك؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48). وقوله: (وَمَنْ عَصَانِي) تشمل مَن عصى الله -عز وجل- بما دون الشرك، فإبراهيم يستغفر له، فالمغفرة لهذا النوع ممكنة، والاستغفار مؤثر -بإذن الله-، وأما مَن أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه؛ هذا لمَن لم يمت على الشرك، أما مَن مات على الشرك؛ فإن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يتبرأ منه كما تبرأ من أبيه آزر، كما قال -تعالى-: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114). فإبراهيم الأواه الحليم المنيب، الذي يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط؛ القوم المجرمين الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، واستهزأوا بنبيهم لوط -عليه السلام- وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يدعو لهم بشفقته ورحمته للخلق، والله يحب منه ذلك حتى وإن دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يُغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخَّر عنه العذاب ممن أمر الله فيه نافذ، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه كثير الدعاء، وإبراهيم -عليه السلام- كان كذلك، فهو -عز وجل- يحب هذه الصفات التي ترتَّب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه؛ فكيف يمكن أن يظن به أن لا يكون شفيقًا رحيمًا بولده وأم ولده؟! ذلك مما لا يتصور؛ فكيف تسأل هاجر وتقول: "إلى مَن تتركنا؟!"، كيف يمكنها أن تتصور ذلك؟! فذلك مما لا يتصور! كيف يمكنها أن تظن أنه يتركهم إلى غير أحدٍ؟! فتُكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بالسكوت الذي هو أنفع أحيانًا من الكلام؛ يعلمها بأن لا يلتفت إليها، وفي الثالثة تُكرر السؤال ولا يجيب إبراهيم، ولا يلتفت، فتنتبه عند ذلك، فتقول: "آلله أمرك بهذا؟"، فهنا يجب إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "نعم"؛ يلتفت إليها ويجيب، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية. الفائدة الخامسة: في هذه القصة أنه ينبغي أن نؤكد في النفوس أن نمتثل أمر الله -عز وجل-، فإبراهيم -عليه السلام- لبَّى أمر ربِّه، والمؤمنون حين يلبون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، إنما يتبعون أنبياء الله -عز وجل-، ويجيبون الدعوة التي بلغَّها إبراهيم بأمر الله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27). ينادي إبراهيم: "إن لله بيتًا فحجوه"؛ نادى بغير مكبر صوت وبغير إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كانت هذه الكلمة مؤثرة تأثيرًا عجيبًا في البشر عبر العصور والأزمنة والأمكنة ما لا تؤثر كل الوسائل الأخرى؛ الناس اليوم عندهم وسائل إيصال الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة، ووسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك كم مِن الملايين مِن الكلمات تذهب هدرًا، ولم تذهب كلمة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هدرًا؛ وذلك للصدق، وللوعد الذي جعله الله -عز وجل- وعد صدق؛ أنه هو الذي يوصِّل هذه الدعوة، فأجابه مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء: "لبيك اللهم لبيك". فكل مَن لبَّى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقعة ملبيًا مجيبًا دعوة إبراهيم، نحن نمتثل أمر الله مهما كان في الظاهر شاقًّا، ومهما كان في الظاهر صعبًا، لكنه اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة. تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، يترك إبراهيم ولده وأم ولده فيها ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، مثل: أن يترك معهم قربة ماء وجراب تمر، يتركهم ويذهب إلى الشام، إلى بيت المقدس، مسافة في ذلك التاريخ تُقضى في أكثر من شهر ونصف، يرحل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ويتركهم لله -عز وجل-، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا أمر الله: "إذًا لا يضيعنا"؛ ثقة بالله وتوكلًا عليه. قارن بين هذه اللحظات وبين ما نراه اليوم حيث لا يوجد موضع قَدَم في تلك البقعة المباركة إلا ما شاء الله. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (159) دعوة غيَّرت وجه الأرض (6) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة السادسة: رحل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إلى الشام، وحين سار خلف الأكمة حيث لا يرونه توجَّه إلى الله بهذا الدعاء: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)، فإنما كانت هذه الرحلة وهذه الهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، ويتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، ويدعو الله بدعوة عجيبة الأثر عجيبة الشأن: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، فهذه قلوب الملايين من المسلمين تهوي إلى هذه البقعة، وإلى مَن بقي بها من ذرية إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-. دعوة غيرت وجه الحياة... ! لذا نقول: كيف تكوَّنت هذه البلدة؟! وكيف صارت بلدًا آمنًا حرامًا؟! صارت كذلك بدعوة! فتأمل هذه المسألة جيدًا؛ لتعرف أثر الدعاء. ودعوة نوح -عليه الصلاة والسلام-: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح: 26)، غيَّرت وجه الحياة على ظهر الأرض؛ فكم من الدعوات تغير وجه الحياة، وكم من الدعوات تذهب بلا أثر، وربما كان أثرها في صاحبها فقط؛ على حسب قوة الإيمان، والقرب من الله القوي العزيز الحكيم القدير الذي يملك كل شيء، له ملك السماوات والأرض ومَن فيهن، مالك الملك. وهنا يبرز سؤال: لماذا ندعو كثيرًا ولا نرى أثرًا، وربما نجد الأثر بعد حين، قد يطول أحيانًا وقد يجد البعض أثرًا وقد لا يجد؛ كل هذا حسب قوة الدعاء، هناك دعوات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وهناك دعوات تُجَاب من ساعتها، وهناك دعوات يؤجل الله إجابتها، والبعض قد يؤجل إلى يوم القيامة بما شاء -سبحانه-، والله أمر المؤمنين بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60). فإذا أردنا أن تتغير الحياة في عالمنا؛ فلا بد أن يعود الناس إلى التوحيد، وإذا كنا نريد أن يقوي الله أهل الإسلام على أعدائهم، وأن ينصر الله المسلمين في المشارق والمغارب، وأن يكف أيدي الظالمين عنهم، وأن يرفع تسلط العدو عن أرضهم وبلادهم وأبدانهم وأولادهم، وحرماتهم ومقدساتهم؛ فلا بد أن نعمر القلوب أولًا بالقرب من الله، وكثرة ذكره، فالأذكار التي تذكر المؤمن في مواطن الذكر لها أثرها العجيب إذا استحضر الإنسان معانيها، واقترب من الله بها؛ فهذه بالتأكيد تغير من الإنسان، وتغير من المجتمع، وتغير من وجه العالم بأسره! دعا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فصارت أفئدة الخلق تهوي في كل زمان؛ ليس فقط إلى ذريته المباشرة؛ إسماعيل -عليه السلام-، بل إلى كل مَن كان مِن نسله؛ هوت القلوب وأحبت هذه البقعة مستعدة أن تنفق الغالي والثمين حتى تصل إلى هذه البقعة لتقضي فيها لحظات تظل حية في القلوب لتشتاق إلى العودة مرة أخرى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة: 125)، لا يرى أحد أنه قد قضى من البيت وطرًا؛ لأنه بيت مبارك أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96)، نعم والله! إن وجود هذه البقعة الصخرية في مكة التي لا يمكن أن ينبت فيها نبات؛ تراها جبالًا، صخورًا صماء من كلِّ جانب، ومع ذلك تعج بالحياة بهذه الطريقة العجيبة، وتأتي القلوب إليها والأبدان من كل مكان بقدرة الله، (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) (آل عمران: 97)، ومن الآيات البينات زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عليه الصلاة والسلام رضيت هاجر بالله -عز وجل- مدبِّرًا معينًا، حافظًا وكيلًا، وقالت: "إذًا لا يضيعنا"، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء ونفد التمر، وجاع ابنها، والله يقدِّر البلاء ثم يأتي بالفرج؛ لا يأتي الفرج إلا بعد المحنة، وفي كل محنة منحة. هكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها، يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبيًّا رسولًا، صادق الوعد، بانيًا مع أبيه بيت الله الحرام، ناشرًا للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده، أجيالاً متتابعة؛ يقدر الله عليه أن يجوع ويعطش طفلًا صغيرًا حتى يكاد يهلك، والأم تتألم وهي ترى ابنها يكاد يموت من العطش، ولا تدري سبيلاً لإنقاذه، وتنظر إلى أقرب جبل فتجد جبل الصفا، فتأخذ بالأسباب وتصعد عليه، تبحث لعلها أن تجد مَن يغيث، وتتجه يمينًا وشمالًا لا ترى أحدًا، فتنظر إلى أقرب جبل إلى جبل الصفا فتجد جبل المروة، فتتجه نحوه باحثة عمَّن يغيث، وفي بطن الوادي في مسافة هي الآن ممهدة ميسرة بين العلمين الأخضرين تسعى سعي الإنسان المجهود، وهي المسافة التي استطاعت أن تسعى فيها وإلا فالأرض الصخرية الجبلية تمنعها من السعي، حتى إذا صعدت مشت فلم تكن تستطيع أكثر من ذلك حتى أتت المروة فصعدت عليها. وفي هذه الشمس التي لا يحتملها أكثر الناس الآن، مع كثرة الشرب وكثرة المهيآت من أطعمة وأشربة، وتكييف؛ تحملت هاجر -عليها السلام- محنة لتكون منحة لنا جميعًا؛ في الوقوف في هذه الأماكن متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما سعت بينهما هاجر تبحث عن مخرج، لا تريد أن ترى ابنها وهو يموت، إلى أن كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام وبعد الجهد الكامل، وبعد أخذ الأسباب المتاحة أمامها التي ليس منها النجاة، وإنما النجدة من فضل الله، وإنما المنحة من عند الله، فتسمع صوتًا فتقول لنفسها: صه! تسكِّت نفسها، ثم قالت تخاطب مَن لا تدري أين هو؟ لكن تسمع صوته: قد أسمعت إن كان عندك غواث! فإذا هي بالمَلَك جبريل -عليه السلام- عند ابنها الذي يتلمظ جوعًا وعطشًا، ويكاد يهلك، فيضرب الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحًا شديدًا، وحرصها؛ حرص الإنسان يدركها، فتقول لها: زمي زمي! كانت لا تجد قطرة ماء ثم وجدت عين نابعة! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا) (رواه البخاري). لو لم تجمع الماء، لو لم تجعل له حوضًا؛ لكانت زمزم عينًا ظاهرة تجري نهرًا جاريًا، لا يحتاج إلى آلة رفع، ولكن حرص الإنسان دائمًا يُنقص عطاءه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ)، يمكن أن يستغني بها الإنسان عن الطعام فقد لبث أبو ذر -رضي الله عنه- أربعين يومًا وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، ولما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: (إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ) (رواه مسلم). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (160) دعوة غيَّرت وجه الأرض (7) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة السابعة: شربت أم إسماعيل -عليهما السلام- من الماء وأرضعت ابنها، ثم أتت قبيلة جرهم وسكنت بجوارهم لأجل الماء الذي ما تعودوا على وجوده في هذا المكان، وكانت أم إسماعيل تحب الأنس فألفت بهم واستجاب الله دعوة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ثم شب إسماعيل وتزوج منهم امرأة لم تكن تشكر نعمة الله ولا تعرف قدرها؛ فأمره أبوه أن يطلقها، وأن يستبدل بها غيرها خيرًا منها، ورزقه الله -عز وجل- بامرأة راضية، فدعا لهما إبراهيم -عليه السلام- بالبركة في اللحم والماء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولم يكن لهم يومئذ إذ حب ولو كان لهم لدعى لهم فيه)، ثم أتى إبراهيم -عليه السلام- ابنه إسماعيل وقال له: "إن الله أمرني بأمر، قال: فافعل ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم. قال: إن الله أمرني أن ابني هاهنا بيتًا"، فبنيا بيت الله الحرام وجعل إسماعيل يحمل الحجارة وإبراهيم يرفع البناء: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127). يبنيان لله بيتًا لعبادته وتوحيده ويخافان ألا يتقبل الله منهما؛ ولذلك دعوا بالقبول، وردا علم نياتهما إلى الله، ودعاؤهما: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فمن الذي يجزم بالإخلاص لنفسه بعد ذلك، فينبغي للعبد أن يعمل الصالحات ويرجو القبول على البضاعة والأعمال المزجاة التي يراها لا تصلح لله؛ إلا أن يتقبلها الغفور الشكور بفضله وعطائه ومنته، نسأل الله أن يتقبلنا وأن يجعلنا من المقبولين. وبنيا بيت الله الحرام ونادى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بالحج في الناس وكانت هذه هي السنة الماضية كل عام من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، وحج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين مر بوادي الأزرق، فقال: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ) ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: (أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟) قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي) خلبة أي: من الليف. حج موسى وحج يونس -عليهم السلام-، وحج الأنبياء والمرسلون، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وقال الألباني: حسن لغيره) (المسجد الذي يصلى فيه الحجاج الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في منى يوم الثامن من ذي الحجة، فهذا المسجد صلى فيه سبعون نبيًّا). ويحج عيسى -صلى الله عليه وسلم- كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا) (رواه مسلم)؛ فإما أن يهل بالعمرة فيكون متمتعًا، أو يهل بالحج فيكون مفردًا، أو ليهلن بهما جميعًا فيكون قارنًا، فالله أعلم أي ذلك يفعله عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. وعيسى لم يحج في حياته، وبقي عليه الحج، فسوف يحج حين ينزل إمامًا مقسطًا، وحكمًا عدلًا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) (متفق عليه). يحكم عيسى -صلى الله عليه وسلم- الأرض سبع سنين بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وخلالها يهلك الله على يديه الدجال، ويهلك الله على يديه اليهود وسائر الملل حتى تبقى السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، وفي هذه الأثناء يحج بيت الله الحرام. هذه سنة الأنبياء جميعًا، وفريضة من فرائض الله على كل مسلم أن ينوي الحج ما يسر الله له ذلك، ولا يحرم نفسه هذا الفضل العظيم، وخلال هذه المشاعر التي يؤديها الحجاج، وخلال تلك الأيام المباركة أيام الحج يتذكر المسلمون بعض هذه المعاني فيلجؤون إلى الله داعين أن يقبلهم الله في المقبولين، وأن يشفع فيهم حجاج بيته الداعين لهم، وأن يقبل دعاءهم، وأن يتقبل منهم، وأن ينصر المسلمين في كل مكان. آمين. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
الساعة الآن : 11:52 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour