رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عقاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر (31) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيُواصِلُ الأستاذ محمود شاكر حكايةَ رحلتِه مع "التَّذَوُّقِ" بلفظِه المُونِق، وأسلوبِه المُشْرِق؛ فيقول: (فارَقتُ الجامعةَ سنة 1928، وانطوى الماضي كُلُّه بما فيه، وبمَن فيه أيضًا، ذهبتُ بعيدًا وحيدًا لا رفيقَ لي غير "قضيَّة الشِّعر الجاهليّ"، كما شرحتُها لك آنفًا، والتي لَم تلبث أن أنشأتْ لنفسها صاحبةً لا تفارقها، هي إعادة النَّظر في شأن "إعجاز القرآن". كان لفظُ "التَّذَوُّقِ" فاشيًا في الألسنةِ والأقلامِ، لا يكاد أحدُنا يَشُكُّ في أنَّه معنًى مفهومٌ واضحٌ مفروغٌ منه، ومع الأيَّامِ الطُّوَالِ المُوحِشَةِ، وشيئًا فشيئًا، بدأ ما كنتُ أجدُه في نفسي عند قراءةِ الشِّعرِ الجاهليِّ وغيرِ الشِّعرِ الجاهليِّ، والذي سمَّيتُه لك آنفًا "ما وراءَ التَّذَوُّقِ"، والذي كان ما أقولُه عنه غيرَ مُبِينٍ ولا واضحٍ، والذي أنكَرَه عليَّ أساتذتي مِن قَبْلُ، ورفَضَه الدُّكتور طه رفضًا كاملًا، أخذ هذا يَدفَعُني إلى سُلُوكِ طريقٍ آخَر، يعتمد على جَسِّ الكلماتِ والألفاظِ والتَّراكيبِ جَسًّا مُتَتابِعًا بالتَّأمُّل، ثُمَّ عليَّ الرُّجُوعُ إلى أُصُولِهَا في المَعاجمِ مع التَّدقيقِ في مَكْنُونِ معانيها المُختلِفة، ثُمَّ في دلالاتِها وظِلالِ دلالاتِها عند كُلِّ شاعرٍ أو كاتبٍ، ثُمَّ دخلتُ في مُقارَناتٍ كثيرةٍ بين المُتشابِهاتِ والمُتبايِناتِ، وشيءٍ كثيرٍ بعد ذلك كان يَفرضُ نَفْسَهُ على طريقي فرضًا. يومئذٍ بدأ لفظُ "التَّذَوُّقِ"، بمفهومِه الذي عهدتُه، بدأ يتزعزعُ مِن حيثُ نشب مِن نفسي ومِن لساني، ورأيتُه لفظًا مُبهَمًا مُجْمَلَ الدَّلالةِ، لفظٌ غامضٌ مُظلِمٌ، مُضَلِّلٌ بِتَعَدُّدِ صُوَرِهِ واختلافِها وتَنَوُّعِهَا، ولكنِّي لَم أستطع أن أطرقَ بعيدًا، لأنَّ الذي أجدُه في نَفْسِي ممَّا سمَّيتُه "ما وراءَ التَّذَوُّقِ"، كان لا يَزالُ صاحبَ سُلْطانٍ عليَّ مُطَاعٍ، فكان يَقْبِضُنِي عن الطَّيْشِ والمُجازَفةِ بطرحِه، فبينهما صِلَةٌ خَفِيَّةٌ أُحِسُّهَا، وإن كنتُ غيرَ قادرٍ على تَبَيُّنِهَا. وهذا الذي استولى عليَّ وخامَرَني في شأنِ "التَّذَوُّقِ"، رَمَاني بغتةً في حَوْمَةِ الارتيابِ وفُوجِئتُ بلفظٍ آخَرَ هو لفظُ "البلاغةِ" الذي يدور عليه القَولُ في "إعجازِ القُرآنِ"، والذي يُوصَفُ به الكلامُ فيُقالُ: "كلامٌ بليغٌ"، فإذا هو أيضًا عندي الآن لفظٌ مُبهَمٌ شديدُ الإبهامِ، ونَفَرَتْ جَهَنَّمُ بين شِدْقَيْهَا تريد أن تَبْتلِعَني. ضاقَت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، بَيْدَ أنِّي كُلَّمَا أعدتُ النَّظَرَ وجدتُ "الذَّوْقَ" حقيقةً كامنةً في نَفْسِي، ووجدتُ "البلاغةَ" أيضًا حقيقةً ظاهرةً تفرضُ سُلْطانَها على نَفْسِي، ولكنِّي كُلَّمَا حاولتُ أن أعرفَ لهما بيانًا أو حدًّا بلغ فيَّ الإعياءُ كُلَّ مَبْلَغٍ) (انتهى). وتستمر الحكايةُ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. واللهُ -سبحانه- المُوَفِّقُ. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (32) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيُواصل العُقابُ حكايتَه مع التَّذوق بكلماتٍ تُبيِّن مدى أهمية الجُرجاني في صناعةِ خيال العُقاب، وبناءِ فكره في منهج "التَّذوق". قال -رحمه الله-: "وبدا لي يومئذٍ أن أُعِيدَ قراءةَ عبد القاهر الجُرجاني في كتابَيه: "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز"، أكببتُ على قراءةِ الكتابَين، وبَغتةً رأيتُ أو تبيَّنتُ أنّ عبد القاهر قد وقع في نَفْسِ ما وقعتُ فيه، رأيتُه قد وقع في الحَيْرَةِ من لفظ "البلاغة"، ورآه لفظًا مُبهَمًا شكلًا ليس له بيانٌ، ولا حَدٌّ يُعِينُ على تصور "البلاغة" ما هي؟ فيومئذٍ انبعث انبعاثًا لِيكشفَ عن إبهام "البلاغة"، فألَّف كتابَه "أسرار البلاغة"، عَمَدَ فيه إلى تحليل الألفاظ المُتصرِّفة بأمر المعاني، مُبينًا عن وجوه حُسنها وقُبحها، وخطئها وصوابها، وسُموِّها وسُقوطها غير مقطوعةٍ عن أصلها في الكلام المُؤلَّف المُركَّب، ثُمَّ ألَّف أيضًا كتابَه "دلائل الإعجاز"، عمد فيه إلى تحليل الجُمل، أي الكلام المُركَّب الذي يحتمل تركيبُه آلافًا من الوجوه، فكان كِتَاباهُ هذَانِ أوَّلُ كتابَينِ في "تحليل اللُّغة" بلغ فيهما غاية قصر عنها كُلُّ مَن جاء بعده، وهذان الكتابان هما أصلُ "علم البلاغة"، كما سمَّيْناه؛ وسترى ذلك مُبينًا في كتابي: "مداخل إعجاز القرآن" (تنبيه: نُشر هذا الكتابُ بعد وفاةِ العُقابِ -رحمه الله-، مطبعة المدني، القاهرة، سنة 2002 م). كان فضلُ عبد القاهر يومئذٍ عليَّ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّني حين فهمتُ حقيقةَ الدَّواعي التي حملتْه على وضع كتابَيه الجليلَين، أدركتُ مِن فوري أنّ مسألةَ "التَّذَوُّقِ" مُرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بمسألةِ "البلاغةِ" في الأمرَينِ جميعًا، في إبهامِهما، وفي أنّهما حقيقتانِ مُتعلِّقتانِ بمَداركِ الفِطْرةِ في الإنسان. ولمّا رأيتُه قد استطاع بتحليلِ الألفاظِ والجُملِ والتَّراكيبِ أن يجعلَها تكشفُ اللِّثامَ عن أسرار المعاني القائمة في ضمير مُنشِئِها، فأزال إبهام "البلاغة"، ظننتُ أنّه مِن المُستطاعِ أيضًا بضُروبٍ أخرى مِن تحليلِ الألفاظِ والجُملِ والتَّراكيبِ أن أصلَ إلى شيءٍ يَهديني إلى كشفِ اللِّثامِ عن أسرار العواطف الكامنة التي كانت في ضمير مُنشِئِها، فأزيل إبهام "التَّذوق". وإذا كان تحليلُه قد أفضى به أن يجعلَ نظم "الكلام" دالًّا على صُوَرٍ قائمةٍ في نفس صاحبها، فعسى أن أجدَ أيضًا في ضَربٍ أو ضُروبٍ مِن التَّحليل ما يُفضي بي إلى أن أجعلَ "الكلام" ونظمه جميعًا دالًّا على صُورةِ صاحبِها نَفْسِه. والتبست عليَّ الطُّرقُ مرَّةً، واستبانت مرَّةً، ثُمَّ بدأتْ بعد زمنٍ تتضح لي بعضُ المَعالِم، وكان ممّا أعانني على وضوح هذه المعالم، ما كنتُ دخلتُ فيه مِن قَبْلُ، مِن جَسِّ الكلماتِ والألفاظِ والتَّراكيبِ جَسًّا مُتَتابِعًا، إلى آخِر ما وصفتُه آنفًا. وعلى الأيّامِ بزغ لي بعضُ الضِّياءِ، وأنارت بعضُ الشُّعَلِ، ووضعتُ لِنفسي منهجًا، انتهيتُ إلى أن سمَّيتُه "التَّذوق"، كما حدَّثْتُك آنفًا، وجعلتُ أُمَارِسُه في جميع ما أقرأُ مِن الكلامِ لا في الشِّعرِ وَحْدَه؛ والأمرُ يَطُولُ، ولكن هذه خُلاصتُه أكتبُها على مَشَقَّةٍ" (انتهى). وإلى اللقاء في المقال القادم -إن شاء الله-. فاللهمَّ يسِّر وأعِن. |
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (33) كتبه/ ساري مراجع الصنقري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيُواصِلُ العُقابُ حكايتَه مع الشِّعْرِ الجاهليِّ في مقالتِه التي نشرتْها مَجَلَّةُ "الثَّقافةِ"؛ فيَقولُ: "ولَم أُجَاوِزْ حَدَّ تطبيقِ منهجي هذا في القليلِ الذي كتبتُه، مِمّا نشرتُه وعمّا سوف أنشرُه بعد قليلٍ -إن شاء الله-، ولكنّه تطبيقٌ لا أكثر ولا أقلّ. وما دُمْنَا في حَيِّزِ التَّاريخِ فسأقِفُك على كلامَين: أحدهما: يصفُ الشِّعْرَ الجاهليَّ في أوَّلِ أمري حين قرأتُ كما حدَّثْتُك. والآخَر: يصفُ الشِّعْرَ الجاهليَّ بعد ذلك بزمانٍ طويلٍ، لمّا كتبتُ مُقدِّمةَ كتابيَ المُتَنبِّي (1/ 14) في سنة 1977م، وصفتُ قديمَ إحساسي بالشِّعْرِ الجاهليِّ في سنة 1927م وما قبلها، فقلتُ: 1- "وجدتُ يومئذٍ في الشِّعْرِ الجاهليِّ ترجيعًا خفيًّا غامضًا كأنّه حفيفُ نَسِيمٍ تسمعُ حِسَّهُ وهو يتخلَّلُ أعوادَ نَبْتٍ غَمِيمٍ مُتكاثِفٍ، أو رنينُ صوتٍ شجيٍّ ينتهي إليك مِن بعيدٍ في سُكونِ ليلٍ داجٍ وأنت محفوفٌ بفضاءٍ مُتباعِدِ الأطرافِ، وكان هذا التَّرجيحُ الذي آنَستُه مشتركًا بين شُعراءِ الجاهليَّةِ الذين قرأتُ شِعْرَهُم، ثُمَّ يمتازُ شاعرٌ مِن شاعرٍ بجرسٍ ونغمةٍ وشمائلَ تتهادى فيها ألفاظُه، ثُمَّ يختلفُ شِعْرُ كُلِّ شاعرٍ منهم في قصيدةٍ مِن شِعْرِه، وبدَندَنةٍ تعلو وتخف تبعًا لِحركةِ وِجدانِه مع كُلِّ غرضٍ مِن أغراضِه في هذا الشِّعْر". هكذا كنتُ أجدُ الشِّعْرَ الجاهليَّ قبل أن أنتهيَ إلى المرحلةِ التي وجدتُ عندها منهجًا أستطيعُ أن أُعِيدَ عليه قراءةَ هذا الشِّعْرِ، وإن كنتُ قد كتبتُه بعد انقضاءِ خمسينَ سنةً، ولكنِّي في سنة 1961م وصفتُ هذا الشِّعْرَ نَفْسَهُ في مُقدِّمةِ كتابِ صديقٍ لي -رحمه الله- (كتب الأستاذ شاكر هذه المُقدِّمةَ لِكتابِ "الظّاهرةِ القُرآنيّةِ" لِمالك بن نبي سنة 1958)، فقلتُ: 2- ولقد شغلني "إعجازُ القُرآنِ" كما شغل العصرَ الحديثَ، ولكن شغلني أيضًا هذا "الشِّعْرُ الجاهليُّ" وشغلني أصحابُه، فأدّاني طولُ الاختبارِ والامتحانِ والمُدارَسةِ إلى هذا المذهبِ الذي ذهبتُ إليه، حتى صار عندي دليلًا كافيًا على صِحَّتِه وثُبوتِه؛ فأصحابُه الذين ذهبوا ودرجوا وتبدَّدَت في الثَّرى أعيانُهم، رأيتُهم في هذا الشِّعْرِ أحياءً يَغدُونَ ويَروحُونَ، رأيتُ شابَّهُم ينزو به جهلُه وشيخَهُم تَدلِفُ به حكمتُه، ورأيتُ راضِيَهم يستنيرُ وجهُه حتى يُشرقَ وغاضِبَهم تَرْبَدُّ سَحْنَتُهُ حتى تُظلِمَ، ورأيتُ الرَّجُلَ وصديقَه، والرَّجُلَ وصاحِبَتَه، والرَّجُلَ الطَّرِيدَ ليس معه أحدٌ، ورأيتُ الفارسَ على جَوادِه، والعاديَ على رِجلَيه، ورأيتُ الجماعاتِ في مبداهم ومحضرِهم، فسمعتُ غزلَ عُشّاقِهم، ودلالَ فتياتِهم، ولاحت لي نيرانُهم وهم يَصطَلُونَ، وسمعتُ أنينَ باكيهم وهم لِلْفِرَاقِ مُزمِعُونَ؛ كُلُّ ذلك رأيتُه وسمعتُه مِن خلالِ ألفاظِ هذا الشِّعْرِ، حتى سمعتُ في لفظِ الشِّعْرِ همسَ الهامِس، وبُحَّةَ المُستكِين، وزَفْرةَ الواجِد، وصرخةَ الفَزِع، وحتى مثلوا بشِعرِهم نُصْبَ عيني، كأنِّي لَم أفقدهم طرفةَ عين، ولَم أفقد منازلَهم ومعاهدَهم، ولَم تغب عنِّي مذاهبُهم في الأرضِ، ولا شيءٌ ممّا أحسُّوا ووجدوا، ولا ممّا سمعوا وأدركوا، ولا ممّا قاسوا وعانوا، ولا خفي عنِّي شيءٌ ممّا يكون به الحيُّ حيًّا على هذه الأرضِ التي بقيت في التّاريخِ معروفةً باسم: جزيرة العرب" (انتهى). وتَستمِرُّ الحكايةُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-. واللهُ المستعان. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (34) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيَتجدَّدُ اللِّقاءُ مع سيرةٍ حافلةٍ بصفحاتٍ ناصعةٍ، صاحبُها لنا -فِي محرابِ العِلْمِ- إشعاعٌ وإشراق، نَتحلَّقُ حول مُصنَّفاتِه، ونَختلِفُ إلى مجلسِ آثارِه، فنستمتعُ بعُمقِ فِكرِه، وأصالةِ عِلمِه، ورجاحةِ عقلِه. فيُكْمِلُ العُقابُ حكايتَه مع "تَذَوُّقِ الشِّعْرِ"، فيقول: "وأَظُنُّ -أيُّها العزيزُ- أنَّك مستطيعٌ أن تجدَ الفَرقَ بين هذَين النَّعتَين لِلشِّعْرِ الجاهليِّ ظاهرًا علانيةً، وأنّ أولهما عليه وسمٌ بادٍ يَلُوحُ، يَدُلُّ على أنّه نعتٌ مِن أثرِ "التَّذَوُّقِ المَحضِ والإحساسِ المُجرَّدِ" -كما قلتُ آنفًا-، وأنّ هذا "التَّذَوُّقَ" يومئذٍ كان تَذَوُّقًا ساذَجًا بلا منهجٍ، كالذي هو ناشبٌ في الألسنةِ وأقلامِ الكُتّابِ المُحدثين، وأنّ ثانيهما عليه سمةٌ واضحةٌ تَدُلُّ على أنّه نعتٌ مِن أثرِ "التَّذَوُّقِ" أيضًا، ولكنّه تَذَوُّقٌ له معنًى آخَرُ غير المعنى المألوف، وأنّه "تَذَوُّقٌ" قائمٌ على منهجٍ مَرسُومٍ، له أسلوبٌ آخَرُ في استبطانِ الأحرفِ والكلماتِ والجُملِ والتَّراكيبِ والمعاني، ثُمَّ في استِدراجِها ومُمازحتِها ومُلاطفتِها ومُداورتِها حتَّى تَبُوحَ لنا بدخائلِ مُنشِئِيها ومُخبَّآتِ صُدورِهم، بل حتَّى تَكشِفَ اللِّثامَ عن صُوَرِهم ومَلامحِهم ومَعارفِ وجوهِهم سافِرةً بلا نقابٍ؛ أَظُنُّهُ فَرقًا ظاهرًا بين نعتَين، في زمنَين مُتَباعِدَين، لِكُلِّ زمنٍ منهما طبيعةٌ تُمَيِّزُهُ عن الزَّمَنِ الآخَرِ؛ أليس كذلك؟! ولِمُجَرَّدِ الحذرِ ممّا يخاف على الحديث إذا هو اختلف سياقُه وتباعدت أطرافُه، فيصبح عندئذٍ مُهدّدًا بأن تخفي أسباب التَّشابك بين معانيه، أو مُتوعّدًا بأن تتهتّك أو تسقط بعض الرَّوابط الجامعة بين أوصالِه فيتفكّك أو ينتشر، أُحِبُّ أن أختصرَ لك مُجملَ حديثي في نظامٍ واحدٍ، مُتداني الأطرافِ محذوف الفُضُول. فهذه القُوَّةُ المُركَّبةُ الكامنةُ في بناءِ الإنسانِ -والتي سمَّيتُها "القُدرة على البيان"- مُندمجةٌ اندماجًا لا انفصامَ له في حلقةٍ مُفرغةٍ مُكوَّنة منها ومِن العقلِ والنَّفْسِ والقلبِ، ولها في هذه الحلقةِ عَملانِ مُتداخِلانِ لا ينفصلانِ، هما: "الإبانةُ" و"الاستبانةُ"؛ و"الإبانةُ" هي قُدرتُها على إنشاءِ "الكلامِ" وتركيبِه -بليغًا كان أو غيرَ بليغٍ-، و"الاستبانةُ" هي قُدرتُها على تفليةِ "الكلامِ" وجَسِّهِ والتَّدَسُّسِ في طواياه وحين تتلقّاه من خارج -بليغًا كان "الكلامُ" أو غيرَ بليغٍ-، وهذه "الاستبانةُ" بجُملتِها هي التي سمَّيتُها: (التَّذَوُّق)" (انتهى). ونُواصِلُ الحكايةَ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-. وباللهِ التَّوفِيق. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (35) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيَتجدَّدُ اللِّقاءُ بالقُرّاءِ الأعِزّاءِ، ويواصلُ العُقابُ حكايتَه مع التَّذوقِ قائلًا: "وكلامي -خفتُ- يوشكُ أن يوهمَ أنّ "التَّذوقَ" عملٌ آخَرُ مستقلٌّ مِن أعمال هذه القدوة، مقصورٌ على استبانة دفائن الكلام الدالّة على آثار العواطف والنَّوازع والطَّبائع النّاشبة فيه، وعلى التقاط الملامح العالقة التي يمكن بالملاطفة أن تحسرَ اللثامَ عن بعض معارف ضمير مُنشئِها وصورتِه وهيئتِه. وخفتُ أيضًا أن يظنَّ ظانٌّ أنّ هذا عملٌ آخَرُ هو غير عملها في استبانة صور المعاني القائمة التي كانت في نفس مُنشئِها، والتي هي في الحقيقة ما نُسمِّيه "البلاغة". وخفتُ أيضًا أن يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنّ أحدَ العملَين ممكن أن يتم بمعزل عن العمل الآخَر. ليس كُلُّ ذلك صحيحًا أو ممكنًا؛ لأنَّ صاحبَ "الإبانةِ" و"الاستبانةِ" واحدٌ غير قابل للتجزئة، وهو "القدرة على البيان"، ولأنّ طلبَ "الاستبانةِ" لجميع ما تطلبه في "الكلامِ" المُتلقَّى مِن خارجٍ مُتداخلٍ مُمتزجٍ في حيِّزٍ واحدٍ هو نفسُ "الكلامِ" المُتلقَّى مِن خارج، ولأنّ جميعَ ذلك حدثٌ واحدٌ متلازمٌ أيضًا في زمنٍ واحدٍ مُختطفٍ مُتلاحقٍ لا يمكن تثبيتُه أو تقسيمُه. وإذًا فهو على التَّحقيقِ عملٌ واحدٌ خاطفٌ لا يتجزَّأ، وإنَّما نحن الذين نتولّى الفصلَ بين شيءٍ منه وشيءٍ بعد تمام العمل الواحد جميعه، على قدر ما عندنا مِن الرَّغبة وتوجيه العناية إلى إبراز شيءٍ منه دون شيء. وأظنُّه صار قريبًا ممكنًا أن نتخطَّى كلامًا كثيرًا ونُفضي إلى نتيجةٍ مُوجزةٍ، هي أنَّ "التَّذوقَ" يقعُ وقوعًا واحدًا، في زمنٍ واحدٍ، على كُلِّ "كلامٍ"، بليغًا كان أو غيرَ بليغٍ، ثُمَّ يفصل عن "الكلامِ" ومعه خليطٌ "واحدٌ" ممزوجٌ متشابكٌ غيرُ مُتَميِّزٍ بعضُه مِن بعضٍ، وفي هذا الخليطِ أهمُّ عُنصرَين" (انتهى). وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-. واللهُ المستعان. |
رد: الصالون الأدبي
الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (36) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيُواصلُ محمود شاكر حكايتَه مع التَّذوق في مقالتِه التي نشرتها مَجَلَّةُ "الثَّقافةِ"؛ فيَقولُ: "العنصر الأول: ما استخرجه "التَّذوق" مِن العلائق الباطنة الخفيَّة الناشبة في أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلصَ منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة منشئ الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل، أو ما شئتَ مِن هذا الباب. والعنصر الثاني: ما استخرجه "التَّذوق" مِن العلائق الظاهرة بين أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلصَ منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة الكلام نفسه، أي: على ما يتميز به من "السذاجة" و"البلاغة"، أو ما شئتَ مِن هذا الباب. والإحساسُ بهذين العُنصرَين الخليطَين إحساسٌ سريعٌ، خاطفٌ، ناقدٌ، لطيفٌ، دقيقٌ، دفينٌ، قائمٌ في النَّفْس لأول وهلةٍ عند سماع كل كلامٍ أو قراءته، مِن العسير عليَّ أن أتقصَّاه هنا أو أُعبِّرَ عنه تعبيرًا واضحًا في كلماتٍ قلائل، ولكن كل أحدٍ قادرٌ على تبينه بالأناةِ والتَّوقف، وبالتَّأمل والدُّرْبة، فيما أظن، ولكنَّه على كُلِّ حالٍ إحساسٌ خفيٌّ مكنونٌ مُقنَّعٌ بقناعٍ مِن الكتمان، يحتاج إلى ما يهتك عنه هذا القناعَ حتى يسفرَ ويستبينَ وينجلي، ثم يبوح بما عنده. ولكن ليس أمرُ "التَّذوق" في الحقيقة محفوفًا بمثل هذه القسوة والصَّرامة التي ألجأتني إليها طبيعةُ حديثي عنه، وطبيعةُ اللُّغةِ التي تجعلنا "اضطرارًا" أن نجسد ما لا يتجسد؛ فما مِن إنسانٍ حيٍّ عاقلٍ مُدركٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ، جاهلٍ أو عالمٍ، قَلَّ عِلمُه أو كثر، إلا و"التَّذوق" حاضرٌ في دخيلته حضورًا ما؛ لأنَّه "إنسانٌ" قد أودع اللهُ في بنائِه هذه الأعجوبةَ النَّفيسةَ الغاليةَ التي صار بها إنسانًا، وهي "القدرة على البيان"، فهو إِذَنْ على هذا "التَّذوق"؛ لأنَّه ما مِن شيءٍ يسمعه أو يبصره أو يحسه أو يذوقه، أو يتوهمه أيضًا، إلَّا وهو محتاجٌ فيه إلى "القدرة على البيان" بعملَيها في "الإبانة" و"الاستبانة"، أي "التَّذوق"، لأنّه غيرُ قادرٍ على إدراكِ أيِّ معنًى أو تَصَوُّرِه إلا عن طريق هذه القدرة وأدائها لعملَيها أداءً ما، فالتَّذوق إِذَنْ ضرورةٌ لكل حيٍّ مِنَّا منذ يُولَدُ إلى أن ينقطعَ أجلُه على هذه الأرض" (انتهى). ونلتقي في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-. فَاللَّهُمَّ يَسِّرْ وأَعِنْ. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (37) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيقول العُقابُ في ختامِ حكايتِه مع التَّذوق في مقالتِه التي نشرتْها مَجَلَّةُ "الثَّقافةِ": "وهذا الإلفُ الطَّويلُ لِقيامِ "التَّذوقِ" فيه وأدائِه لِعملَيه، منذ يُولَدُ إلى أن يكبرَ ويعقلَ يُؤهِّلُه، بلا وعي منه حاضر فريد واضح الإرادة، أن يكتسبَ قدرةً على سرعة استخلاص قدرٍ لا بأس به مِن هذا الخليط الذي امتزج فيه العنصران جميعًا، وعندئذٍ، ولأول وهلةٍ، ينفصل شيءٌ بعد شيءٍ مِن هذا الخليط وكأنَّه انفصل من تلقاء نفسه، ويبرز للمرء واضحًا جليًّا، ولا يُحِسُّ البتَّة أنَّه بذل في تَبيُّنِه جهدًا أو تعمَّد بذله، وهذا هو "التَّذوق" السَّاذج الذي لَم يتم عن منهجٍ مرسومٍ أو قصدٍ أو عنايةٍ. ولكن يبقى في الخليط الممزوج مِن العُنصرَين بعد ذلك شيءٌ "كثيرٌ"، يحتاج إلى منهجٍ وقصدٍ وعنايةٍ، أي يحتاج إلى إرادةٍ واضحةٍ، وإلى تَنَبُّهٍ وبصرٍ، وإلى حرصٍ على تمييز شيءٍ مِن شيءٍ، وإلى عنايةٍ متوجهةٍ إلى غرضٍ واحدٍ أو أغراضٍ متنوعةٍ، وهذا غير ممكن أن يتم من تلقاء نفسه على وجهٍ صحيحٍ، ولا أن يتم كُلُّهُ دفعةً واحدةً، ويحتاج أيضًا إلى ترديد الكلام وترجيعه، وإلى إعادة النظر فيه مرَّةً بعد مرَّةٍ بعد مرَّةٍ، وإلى التقاط شيءٍ من هذا الخليط، وإلى فصلِ بعضٍ مِن بعضٍ، وإلى ضَمِّ شكلٍ إلى شكلٍ، وإلى ملاحظةِ الفُروقِ بين المُتشابهَين أحيانًا، أو تحديدِ ضربٍ مِن التشابه بين غير المُتشابهَين ظاهر أحيانًا أخرى، وأشياءَ أخرى كثيرةٍ لا يضبطها إلا المنهجُ والقصدُ والعناية. وهذا الذي وصفتُ هو "التَّذوق" بعُنصرَيه: التَّذوق الواقع على طبيعة الكلام نفسه، أي: على ما يتميز به من "السَّذاجة" أو "البلاغة" أو ما شئتَ مِن هذا الباب، والذي كان مُبهَمًا كل الإبهام؛ فجاء عبدُ القاهرِ الجُرجانيُّ فألَّف كتابَين: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، لِيُزيلَ الإبهامَ عن لفظ "البلاغة"، أي عن أحد عُنصرَي "التَّذوق"، وهو نفسه "التَّذوق" الواقع على طبيعة منشئ الكلام، أي: على بعض ما يتميز به مِن الطَّبائع والشَّمائل أو ما شئتَ مِن هذا الباب؛ وهذا العنصر الثَّاني هو الذي حاولتُ جاهدًا أن ألتمسَ لنفسي طريقًا إلى إزالة إبهامه، فإنْ أنا قد وفقتُ فيه إلى بعضِ الصَّوابِ فبفضلِ اللهِ وتسديدِه، وإنْ أكُ قد أخطأتُ الطَّريقَ وأسأتُ فأسأل المغفرةَ واسعَ المغفرةِ سبحانه" (انتهى). وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-. واللهُ المُستَعان. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (38) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فنواصلُ سيرةَ حِصْنٍ مِن حُصونِ العُروبةِ والإسلامِ، الذي بأمثالِه يمكن لِبلادِنا أن تعيشَ نهضةً علميَّةً كبيرةً، ويكونَ لها مستقبلٌ مُشرِقٌ يعيدُ تاريخَها، ويُحقِّقُ آمالَها. قال محمود شاكر في مقالِه "المُتَنبِّي ليتني ما عرَفتُه (1)" -الذي نُشر في "مَجلَّةِ الثَّقافة" (السَّنة الخامسة، العدد 60، سبتمبر، 1978م، ص: 4-19)-: "أخي الدكتور عبد العزيز الدسوقي (1925-2015م) -وكان رئيس تحرير مجلة الثقافة-: ... وبعدُ، فكاذبٌ أنا إن قلتُ لك أنّ ثناءك عليَّ لَم يهزني، فأنا كأنت وكهو وكهي، كُلُّنا ممّا يَغُرُّهُ الثَّناءُ، أو تأخذه عنده أريحيَّةٌ وابتهاجٌ أو تَغمُرُه فيه نشوةٌ ولذَّةٌ. ولكن غروري وأريحيَّتي وابتهاجي ونشوتي ولذَّتي، سرعان ما تنقلب عليَّ غمًّا لا أجد مُتنفَّسًا يُفرِّج عنِّي؛ لأنِّي أعلم مِن حقيقة نفسي ما يجعلني دون كُلِّ ثناء وإن قلّ، أعلمه عيانًا حيث لا يملك المُثنِي عليَّ أن يراه عيانًا كما أراه، ولَيْتَ شِعْرِي، أكان شيخُ المَعرَّةِ صادقًا حيث يقول عن نفسه: إذا أَثْنَى عليَّ الـمَرءُ يـومًا بـخـيرٍ ليس فـيَّ فذاك هاجِ وحقِّي أن أُساءَ بما افتراه فلُؤمٌ في غريزتيَ ابتهاجِي فمعنى هذا إِذًا: أنَّ الشيخ كان إذا جاءه ثناءٌ عليه بما هو فيه، فإنَّه يبتهج له، ولا يعد ابتهاجه هذا لؤمًا في غريزته، أمَّا أنا فأعد ابتهاجي بالثناء عليَّ بما هو فيَّ وبما ليس فيَّ، لؤمًا في الغريزة، لأنِّي أعلم أنَّ الذي فيَّ من الخير مغمورٌ في بحرٍ طامٍ من النَّقيصة والعيب. ومع ذلك، فأنا أشكر لك ثناءك، لأنَّ الشكر واجب لا مصرف عنه، وترك الشكر لُؤمٌ آخَرُ في الغريزة. أشكره لك لأنَّك بثنائك عليَّ، ذكَّرْتَني عيبي وتقصيري ونقيصتي لِأستغفر اللهَ وأتوب إليه. هذه هي الْأُولَى" (انتهى). أمَّا الثَّانيةُ فسنذكرُها في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. واللهُ المُوفِّق. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (39) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فيواصلُ العُقابُ كلامَه قائلًا: "أمّا الثّانية: فإنِّي وجدتُك في مواضعَ مُتفرِّقةٍ من كلامك في شأن كتابي وكتاب الدكتور طه عن المُتنبِّي تكثر من أن تتنصَّلَ من إرادة إغضابي أو إرادة إساءتي. فمَن الذي أنبأك -أيُّها العزيز الكريم- أنِّي أعد الذي يظهرني على أخطائي، أو الذي لا يعجبه ما أكتب، مُريدًا لإساءتي، مُثيرًا لغضبي، طالبًا لِلغضِّ منِّي أو من كتابي؟ مَن أنبأك هذا، حتى تُبالغَ في التنصل مِن اعتماده، وفي البراءة من إرادته؟ لقد قدَّمتُ بين يدي كتابي عن المُتنبِّي قِصَّةَ هذا الكتاب، وبيَّنتُ أنَّها "لمحةٌ مِن فساد حياتنا الأدبيَّة". فكان ممّا أشرتُ إليه أنَّه كان مِن عادة "الأساتذة الكبار"، وهي عادةٌ بثَّت في حياتنا الأدبيَّة إلى هذا اليوم فسادًا ساحقًا: أنَّهم كانوا يُخطِئون في العلن، ويَتبرَّأون من أخطائهم في السِّرّ، وأشرتُ أيضًا إلى أنَّهم كانوا لا يصبرون على مَن يَدلُّهم على الخطأ، ويستنكفون كِبرًا أن يؤوبوا إلى الصَّواب، ثم أزيدك الآن أيضًا: أنَّهم كانوا لا يَتورَّعون عن الإيقاع بمَن يَدلُّهم على الخطأ، ويَتعقَّبونه بالأذى مِن وراء حجاب، ومَن طلب الأمثلةَ على هذا وجدها على مَدِّ يده! بَيْدَ أنِّي، مِن يوم عقلتُ أمرَ نفسي، قد أنكرتُ جميع السنن التي سنَّها "الأساتذة الكبار"، أنكرتُها كفاحًا ومواجهةً وبلا مواربةٍ؛ فبئس المرء أنا إِذَنْ إذا أنا أنكرتُ سُنَّةً كريهةً ثم ركبتُها! كانوا -رحمهم الله جميعًا- لا يُحِبُّونَ إلا الثَّناءَ المَحضَ المُصفَّى الخالِصَ مِن كُلِّ شائبةٍ، فإذا جاءهم غيرُ ما يُحِبُّونَ تَنمَّروا لِمَن أتاهم به تَنمُّرَ من لا بيت على دِمْنَة (والدِّمْنَة: الحقد الدَّفين المُضمَر المُلتهِب بالغيظ" (انتهى). وإلى اللقاءِ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-. ونَسألُ اللهَ التَّوفيق. |
رد: الصالون الأدبي
الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (40) كتبه/ ساري مراجع الصنقري فقد انتهينا من مرحلة النشأة لمحمود شاكر، الذي لَم يكن عَلَمًا على شخص، وإنَّما كان علمًا على ثروةٍ ضخمةٍ من فنون اللسان العربي، تجمعت بالحفظ والدرس والتحصيل والتمحيص والدأب والصبر والإيمان في ثمانٍ وثمانين سنةً من يوم مولده إلى يوم وفاته. فنشأته في هذا البيت وهذه البيئة: غرست في ذهنِه البكرِ أصولَ العلوم، ومِن هذا الجذر الغليظ العميق مِن فنون العلم تفرَّعت شجرة المعرفة في ذهنه، وبهذه الحصيلة الأولية القوية من المحفوظ، مع الملكات الموهوبة، والمُعلِّمين المُتميِّزين، نمت في ذهنه تلك البذور، وانشعبت من أصلها هذه الفروع، فأصبح بين أقرانه ورفاقه الغصنَ الذي يطول والزهرةَ التي تعد. وبينَّا كيف شغلته قضية "المنهج"، والتي كانت من أهم أسباب خلافه الأول مع الدكتور طه، فقال في كتابه "أباطيل وأسمار" (ص: 19): (زادتني معالجة نقده -أي: طه حسين- يقينًا في أنَّ الغموض إذا أحاط بلفظ "المنهج"، أدَّى إلى خلطٍ كثيرٍ في فهم الآداب، وفي تفسيرها، وفي شرحها، ثم في تصوير أحداث العصر وأفكاره ورجالاته وأحواله، بوجهٍ عام). وقال أيضًا في "أباطيل وأسمار" (ص: 18)، في بيان حال الغموض الذي أحاط بقضية "المنهج" عند لويس عوض، وسيأتي هذا بالتفصيل -إن شاء الله-: (حتى عجبتُ وتخوَّفتُ إذا كانت كلمة "المنهج" لَم تزل محفوفةً بكل هذا القدر العجيب من الغموض والظلمة في عينَي الدكتور لويس عوض أستاذ الأدب الإنجليزي). وبينَّا النَّهْجَ الذي سلكه في قراءةِ الشِّعْرِ وغيره، وأنَّه كان قائمًا على مسألة "التَّذوق"، وأنَّه قد صرَّح بهذا كثيرًا في مقالاته وكتبه، وذكرنا نصوصًا من كلامه، مثل قوله في مُقدِّمته الجديدة على كتابه "المُتنبِّي" (ص: 11، 12): (وبهذا التَّذوق المُتَتابع الذي أَلِفْتُه، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورائحةٌ، وصار مَذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه وشذَاهُ ورائحتُه بيِّنًا عندي، بل صار تَمَيُّزُ بعضٍ مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه). وبينَّا مدى أهمية كتاب "دلائل الإعجاز" في صناعة خيال محمود شاكر، وبناء فكره في منهج التَّذوق، الذي قرأ به منظومَ الكلامِ ومنثورَه، وبذلك اكتَشفْنا مَاهِيَّةَ الأدواتِ التي استعملها العُقابُ في قراءةِ الشِّعْرِ في سنواتِ العُزْلَة. ومِن ذلك قولُه في مُقدِّمة عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرجانيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى). ومع مرحلةٍ أخرى مِن حياةِ أبي فهر في المقالات القادمة -إن شاء الله-. واللهُ المُوَفِّقُ؛ لا إلهَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سِوَاه. |
الساعة الآن : 10:34 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour