ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=265085)

ابوالوليد المسلم 12-03-2022 06:38 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (81)

من صــ 321 الى صـ
ـ 328

وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِهَا فَإِنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ:أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْهُنُودِ.
وَالْعِلْمُ يُنَالُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَا يُحَصَّلُ بِهِمَا وَبِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَلِهَذَا قِيلَ: الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ الْبَصَرُ، وَالنَّظَرُ، وَالْخَبَرُ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ وَالْوَحْيُ: الْحِسُّ وَالْقِيَاسُ، وَالنُّبُوَّةُ.

فَأَهْلُ الْكِتَابِ امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ.
وَالْمُسْلِمُونَ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ.
فَكَيْفَ يُظَنُّ مَعَ هَذَا بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ:وَيُقَالُ: ثَانِيًا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ حُرِّفَتْ بَعْدَ انْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا، وَلَكِنَّ جَمِيعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا.
وَهَذَا مِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى جَمِيعُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.
وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى فِي فِرَقِهِمْ، أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِيمَا تُفَسِّرُ بِهِ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى تُفَسِّرُ التَّوْرَاةَ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْإِنْجِيلِ بِمَا يُخَالِفُ مَعَانِيهَا وَأَنَّهَا بَدَّلَتْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فَصَارَ تَبْدِيلُ كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى.
وَأَمَّا تَغْيِيرُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بُدِّلَ بَعْضُ أَلْفَاظِهَا، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَهُمْ كُتُبَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَمَا لا تسمع دعوى التبديل فيه، فكذلك في كتبهم - قياس باطل في معناه ولفظه.
أما معناه: فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا، بل معلوما بالاضطرار من دينه، فإن الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ووجوب العدل والصدق، وتحريم الشرك والفواحش والظلم، بل وتحريم الخمر والميسر والربا، وغير ذلك منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك.
ومن هذا الباب عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -) وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم.
فالمسلمون - عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا - ثلاثة أمور: لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن.
كما قال - تعالى -:{كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة} [البقرة: 151].
وقال - تعالى -:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113].
وقال - تعالى -:
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} [البقرة: 231].
وقال - تعالى -:
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى - هو وإسماعيل - الكعبة بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال - تعالى -:
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127] (127) {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: («ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»).
فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل: كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، وكون المغرب ثلاث ركعات، وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر، ومثل كون الركعة فيها سجدتين، وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك.
وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا».
يقول: ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة، فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور.
والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف، وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف، لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف، وأنكروا ذلك.
وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل، ويغير بعضها، ويعرضها على كثير من علمائهم، ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم.
ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير.
(وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله، وليس هذا لأهل الكتاب).
وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة; فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره.
وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية، بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك.
وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد، حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى، بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها.
ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن، مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر، مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق، بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن، ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر.
وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها، ولكن لما كان الأنبياء - عليهم السلام - فيهم موجودين، كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب، فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير.

فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح - عليه السلام - بعد رفعه بقليل من الزمان، وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء، وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم -.
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif





ابوالوليد المسلم 12-03-2022 06:45 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (82)

من صــ 329 الى صـ
ـ 336

وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه».
وقد أدرك سلمان الفارسي - وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا - طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح - عليه السلام - واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية.
وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح - عليه السلام - إلا قليل إلى أن قال له آخرهم: لم يبق عليه أحد، وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به.
فالدين الذي اجتمع عليه - صلى الله عليه وسلم - المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته، وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال - تعالى - له:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44].
فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن - ولله الحمد - فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني.
فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما بدلت اليهود ما في الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار.

وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح، فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه.

وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال لحم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق (وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان) واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية، فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح، ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي.
الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة - للموافق والمخالف - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا.
فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب والحكمة كما قال - تعالى -:
{لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164].
وقال - تعالى -:
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].
وقال - تعالى -:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
وقال - تعالى -:
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وقال - تعالى -: عن الخليل وابنه إسماعيل.

{ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه:
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه.
منها: أن القرآن معجز.
ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.
ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العرب.
وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها، فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.
والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه.
وفي القرآن - ما يبين أنه كلام الله - نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به.
وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.
وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا.
فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا.
وما قاله - عليه السلام - فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قاله الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله.
يقول الله - تعالى -: «من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب» ونحو ذلك ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.
وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به.
وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين المسلمين (فلا يمكن أحدا - بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها - أن يبدلها كلها.

لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر، فإن المحدث - وإن كان عدلا - فقد يغلط) لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 12-03-2022 06:52 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (83)

من صــ 337 الى صـ
ـ 344

هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم، لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب، وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه أما إذا عرف صدقه وضبطه، إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره، أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره، وذكره من غير نكير، أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر، فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط، وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا، وقد يعلم أحدهما بدليل.

فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه، وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل: أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب.

وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر، ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رءوس الجمهور، علم أنهم كذبوا فيه.
ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور، فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه.
بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه.
ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين، ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ، بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح.
ثم كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.
فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا.
وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح - عليه السلام -، بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا، بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود.
(فبعض الناس يقولون: إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله: {ولكن شبه لهم} [النساء: 157] عن أولئك، ومن قال بالأول جعل الضمير في (شبه لهم) عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا، ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح، ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه، سواء صلب أو لم يصلب، وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به، سواء صلب أو لم يصلب.
والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر.

وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح - عليه السلام - فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق،

ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح،، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر.
واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب " القانون " بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي.
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)

[مسألة السعي بين الصفا والمروة]
مسألة: (والسعي).

يعني به بين الصفا والمروة.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه ; فروي عنه: أنه ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به ; قال - في رواية الأثرم - فيمن انصرف، ولم يسع: يرجع فيسعى وإلا فلا حج له.
وقال - في رواية ابن منصور - إذا بدأ بالصفا والمروة يرجع قبل البيت لا يجزئه.
وقال - في رواية أبي طالب - في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى: فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق أو يقصر فعليه دم، إنما العمرة الطواف والسعي، والحلاق.
وروي عنه: أنه سنة، قال - في رواية أبي طالب -: فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة، أو تركه عامدا، فلا ينبغي له أن يتركه، وأرجو أن لا يكون عليه شيء.
وقال - في رواية الميموني -: السعي بين الصفا والمروة تطوع، والحاج والقارن والمتمتع عند عطاء واحد إذا طافوا ولم يسعوا.
وقال - في رواية حرب - فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله لا شيء عليه.
وقال القاضي في المجرد ... وغيره، هذا واجب يجبره دم، هذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه.
فمن قال: إنه تطوع احتج بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]
{فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] فأخبر أنهما من شعائر الله، وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون، دون زيادة على ذلك، إذ لو أراد زيادة لأمر بالطواف بهما كما قال: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198] ثم قال: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]، ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما - كما سيأتي إن شاء الله -: فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما. وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك. فعلم أن الكلام خرج مخرج الندب إلى الطواف بهما، وإماطة الشبهة العارضة. فأما زيادة على ذلك: فلا. ثم قال تعالى: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158] وإذا ندب الله إلى أمر وحسنه، ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع، كان دليلا على أنه تطوع، وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة.
وعن عطاء عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (أن لا يطوف بهما).
وعن عطاء في قراءة ابن مسعود، أو في مصحف ابن مسعود، (أن لا يطوف بهما) رواهما أحمد في الناسخ والمنسوخ.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif




ابوالوليد المسلم 12-03-2022 06:59 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (84)

من صــ 345 الى صـ
ـ 352

وعن أنس قال: «كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، لفظ مسلم، ولفظ البخاري: عن عاصم بن سليمان قال: " سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158]، فذكر إلى " بهما ".
فهذا أنس بن مالك: قد علم سبب نزول الآية، وقد كان يقول: " إنه تطوع " فعلم أنه فهم من الآية أنها خرجت مخرج الندب والترغيب في التطوع.
وأما من قال: إنها واجبة - في الجملة - وهو الذي عليه جمهور أصحابنا، فإن الله قال: هما {من شعائر الله} [البقرة: 158] وكل ما كان من شعائر الله فلا بد من نسك واجب بهما كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت، فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه، ويتعبد فيها له، وينسك حتى صارت أعلاما، وفرض على الخلق قصدها، وإتيانها. فلا يجوز أن يجعل المكان شعيرة لله وعلما له، ويكون الخلق مخيرين بين قصده، والإعراض عنه ; لأن الإعراض عنه مخالف لتعظيمه، وتعظيم الشعائر واجب لقول الله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] والتقوى واجبة على الخلق، وقد أمر الله بها، ووصى بها في غير موضع، وذم من لا يتقي الله، ومن استغنى عن تقواه توعده، وإذا كان الطواف بهما تعظيما لهما، وتعظيمهما من تقوى القلوب، والتقوى واجبة، كان الطواف بهما واجبا، وفي ترك الوقوف بهما ترك لتعظيمهما، كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن التي شرفها الله، وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية.
وأما قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فنفس تدل على أنه لم يقصد بذلك مجرد إباحة الوقوف، بحيث يستوي وجوده وعدمه، لأنهما جعلهما من شعائر الله، ثم قال: {فلا جناح عليه} [البقرة: 158] والحكم إذا تعقب الوصف بحرف الفاء، علم أنه علة، فيكون كونهما من شعائر الله موجبا لرفع الحرج، ثم أتبع ذلك بما يدل على الترغيب،
وهو قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] الآية. نعم هذه الصفة لا تستعمل إلا فيما يتوهم حظره كقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] وقوله: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة: 173] وقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93] الآية، فإن المحرم للميتة موجود حال الاضطرار، والموجب للصلاة موجود حال السفر، كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان، قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية، خيف أن يحرم التطوف بهما لذلك، وقد تقدم عن أنس أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية.
وعن الزهري «عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت: " أرأيت قول الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158])، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أخي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله:
{إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة - رضي الله عنها -: وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر طواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله كنا نطوف بالصفا، وإن الله أنزل الطواف بالبيت، فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] الآية.

قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلاهما ; في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت» " متفق عليه.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: «قلت لعائشة - وأنا حديث السن - أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول: كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158]» متفق عليه، وفي لفظ لمسلم: «إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا، أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة ".»
وفي لفظ له: «إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة».
وقد روى الأزرقي عن ابن إسحاق أن عمرو بن لحي، نصب بين الصفا صنما يقال له: نهيك مجاود الريح، ونصب على المروة صنما يقال له: مطعم الطير، ونصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا، وهي التي كانت الأزد وغسان يحجونهما، ويعظمونهما فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون لها، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة، لمكان الصنمين الذين عليهما: نهيك مجاود الريح، ومطعم الطير، فكان هذا الحي من الأنصار يهلون لمناة، قال: وكانت مناة للأوس والخزرج، وغسان من الأزد ومن كان بدينها من أهل يثرب، وأهل الشام، وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، وذكره بإسناده عن ابن السائب، قال: كانت صخرة لهذيل، وكانت بقديد.
فقد تبين: أن الآية قصد بها رفع ما توهم الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها.
أما الأنصار في الجاهلية: فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يهلون له، ويحلون عنده مضاهاة بالصنمين الذين كانا على الصفا والمروة.
وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية - غير الأنصار - كانوا يعظمونهما، ولم يجر لهما ذكر في القرآن. وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفة للمشركين، وتعظيما لشعائر الله. فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]، وأوجب حجها على البيت، فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله، كان الأظهر إيجاب العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت، ولذلك سن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة المشركين حيث كانوا يفيضون من المزدلفة، فأفاض من عرفات، وصارت الإفاضة من عرفات واجبة، ووقف إلى غروب الشمس فصار الوقوف بها واجبا. فقد رأينا كل مكان من الشعائر أعرض المشركون عن النسك فيه، أوجب الله النسك فيه.
وأما قوله: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة وهو الاستجابة والانقياد، يقال: طوعت الشيء فتطوع أي سهلته فتسهل كما قال: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} [المائدة: 30]، وتطوعت الخير إذا فعلته بغير تكلف وكراهية.
ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة، وانقيادا صرفا، وذلا للنفوس، وخروجا عن العز، والأمور المعتادة، وليس فيها حظ للنفوس، فربما قبحها الشيطان في عين الإنسان، ونهاه عنها، ولهذا قال: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] قال رجل من أهل العلم: هو طريق الحج، وقال بعد أن فرض: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] لعلمه أن من الناس من قد يكفر بهذه العبادة وإن لم يكفر بالصلاة والزكاة والصيام، فلا يرى حجه برا،
ولا تركه إثما ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصا فإنه مطاف بعيد وفيه عدو شديد وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة، فربما كان الشيطان أشد تنفيرا عنهما، فقال سبحانه: {ومن تطوع خيرا} [البقرة: 158] فاستجاب لله وانقاد له، وفعل هذه العبادة طوعا، لا كرها، عبادة لله، وطاعة له ولرسوله. وهذا مبالغة في الترغيب فيهما ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر، وتطوع الخير خلاف تكرهه.

فكل فاعل خير طاعة لله طوعا لا كرها، فهو متطوع خيرا، سواء كان واجبا، أو مستحبا، نعم ميز الواجب بأخص اسميه، فقيل: فرض، أو واجب وبقي الاسم العام في العرف غالبا على أدنى القسمين، كلغة الدابة والحيوان وغيرهما.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 12-03-2022 07:07 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (85)

من صــ 353 الى صـ
ـ 360


وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: طاف في عمرته، وفي حجته، والمسلمون معه بين الصفا والمروة، وقال:
" «لتأخذوا عني مناسككم» "، والطواف بينهما من أكبر المناسك، وأكثرها عملا، وخرج ذلك منه مخرج الامتثال لأمر الله بالحج في قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وفي قوله: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة: 196]، ومخرج التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر، فكان فعله هذا على الوجوب، ولا يخرج عن ذلك إلا هيئات في المناسك وتتمات، وأما جنس تام من المناسك، ومشعر من المشاعر يقتطع عن هذه القاعدة، فلا يجوز أصلا، وبهذا احتج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال عمرو بن دينار: " «سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة، فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة» " متفق عليه، وزاد البخاري: " «وسألنا جابر بن عبد الله، فقال: لا يقربنها حتى يطوف بالصفا والمروة» ".
وأيضا: فما روى ابن عمر وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: " «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، وذكر الحديث» " متفق عليه. وهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو للإيجاب لا سيما في العبادات المحضة، وفي ضمنه أشياء كلها واجب.
وعن عائشة قالت: " «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل» " متفق عليه، فأمره بالحل بعد الطوافين، فعلم أنه لا يجوز التحلل قبل ذلك.
وعن أبي موسى قال: " «أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأهللت» "، وفي لفظ: " «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل» " متفق عليه. . .
ثم من قال: هو واجب يجب بتركهما هدي، قال: قد دلت الأدلة على وجوبهما لكن لا يبلغ مبلغ الركن، لأن المناسك ; إما وقوف، أو طواف، والركن من جنس الوقوف نوع واحد، فكذلك الركن من جنس الطواف يجب أن يكون طوافا واحدا ; لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرر من جنس واحد كما لا يتكرر وجوبه بالشرع.
ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودا بإحرام، فإنه إذا وقف بعرفة، ثم مات فعل عنه سائر الحج، وتم حجه، وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرما للطواف فقط. والسعي لا يقصد بإحرام، فهو كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار، ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت، كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة، لأنه وقوف بعد وقوف، وطواف بعد طواف، ولأن الثاني لا يصح إلا تبعا للأول ; فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت، ولا يصح الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات، وقد دل على ذلك قوله {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] وقوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] الآية، فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن، فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنا ; لأن الأمر بذلك في القرآن أظهر ; وذلك لأن ما لا يفعل إلا تبعا لغيره، يكون ناقصا عن درجة ذلك المتبوع، والناقص عن الركن هو الواجب ; ولهذا كل ما يفعل بعد الوقوف بعرفة تبعا له فهو واجب، وطرد ذلك أركان الصلاة، فإن بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض ;
فإن القيام يشرع وحده في صلاة الجنازة، والركوع ابتداء في صلاة المسبوق، والسجود عند التلاوة والسهو، ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده، فعلم أنه ليس بعضها تبعا لبعض، وهنا إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجز فعل ما بعده.
ولأنه لو كان ركنا لشرع من جنسه ما ليس بركن كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة.
ولأنه لو كان لتوقت أوله وآخره كالإحرام والطواف والوقوف، والسعي لا يتوقت.

ومن قال: إنه ركن احتج على ذلك بما روت صفية بنت شيبة أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: " «نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن ميزره ليدور من شدة السعي، حتى أقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» "، وفي رواية: " «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» " رواه أحمد،ورواه أيضا عن صفية امرأة أخبرتها «أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة - يقول: كتب عليكم السعي فاسعوا» ".
وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قرن واحد، وأمره على الوجوب كما تقدم، وما ثبت وجوبه: تعين فعله، ولم يجز أن يقام غيره مقامه إلا بدليل.
وأيضا: فإنه نسك يختص بمكان، يفعل في الحج والعمرة، فكان ركنا كالطواف بالبيت، وذلك لأن تكرره في النسكين دليل على قوته.
واختصاصه بمكان دليل على وجوب قصد ذلك الموضع، وقد قيل: نسك يتكرر في النسكين، فلم ينب عنه الدم كالطواف والإحرام.
وأيضا: فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنا، لكن ما يفعل بعد الوقوف لم يكن ركنا ; لأنه لو كان ركنا لفات الحج بفواته، والحاج إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج، والسعي لا يختص بوقت.
وأيضا: فإن أفعال الحج على قسمين ; مؤقت وغير مؤقت، فالمؤقت إما أن يفوت بفوات وقته، أو يجبر بدم، لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله. وأما غير المؤقت: إذا كان واجبا فلا معنى لنيابة الدم عنه، لأنه يمكن فعله في جميع الأوقات، والطواف والسعي: ليسا بمؤقتين في الانتهاء فإلحاق أحدهما بالآخر أولى من إلحاقه بالمزدلفة ورمي الجمار ; لأن ذلك يفوت بخروج وقته، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها فلعنهم اللاعنون حتى البهائم. كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء.
وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم. وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم. وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم فيها؛ هي من أعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم - وإن كان فيه نوع ضرر - فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو؛ ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة؛ لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين.
فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم كلاهما ذنب عظيم؛ وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم؛ فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه. وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أشد ضررا للأمة وضررا عليهم من إظهار غيرهم لذلك.
ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو: أكثر مما تستعظمه من غيره. وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع: أكثر مما تستعظم ذلك من غيره؛ بخلاف فسوق الجندي وظلمه وفاحشته؛ وبخلاف قعود العالم عن الجهاد بالبدن. ومثل ذلك ولاة الأمور كل بحسبه من الوالي والقاضي؛ فإن تفريط أحدهم فيما عليه رعايته من مصالح الأمة أو فعل ضد ذلك من العدوان عليهم: يستعظم أعظم مما يستعظم ذنب يخص أحدهم.

(والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب (166)

وصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبا لله من المشركين لأندادهم.
وفي الآية " قولان ": قيل: يحبونهم كحب المؤمنين الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأوثانهم.
وقيل: يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم وهذا هو الصواب؛ والأول قول متناقض وهو باطل فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله وتستلزم الإرادة والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله؛ مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

من أحب غير الله ووالى غيره كره محب الله ووليه ومن أحب أحدا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ويحبون بقاء ذلك المحبوب ليستعملوه في أغراضهم وفيما يحبونه وكلاهما ضرر عليه. قال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}. قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}.

فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم مع بعض في الدنيا كانت لغير الله، ومنها الموالاة والصحبة والمحبة لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif




ابوالوليد المسلم 12-03-2022 07:15 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (86)

من صــ 361 الى صـ
ـ 368


فصل:
ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب والمحبوب يجذب. فمن أحب شيئا جذبه إليه بحسب قوته ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته فإن المحب علته فاعلية والمحبوب علته غائية وكل منهما له تأثير في وجود المعلول والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها؛ فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل؛ فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضي انجذاب المحب إليه كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله وإلى امرأة ليباشرها وإلى صديقه ليعاشره وكما تنجذب قلوب المحبين لله ورسوله إلى الله ورسوله والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق لأجلها أن يحب ويعبد. بل لا يجوز أن يحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته والرب تعالى هو الذي يجب أن يحب لنفسه وهذا من معاني إلهيته و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة. والله تعالى خلق في النفوس حب الغذاء وحب النساء لما في ذلك من حفظ الأبدان،

وبقاء الإنسان؛ فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل. والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.

وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته فإن من تمام حبه حب ما يحبه وهو يحب الأنبياء والصالحين ويحب الأعمال الصالحة، فحبها لله هو من تمام حبه وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله، فالمخلوق إذا أحب لله كان حبه جاذبا إلى حب الله وإذا تحاب الرجلان في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه؛ كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب الله كما قال تعالى: {حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتجالسين في وحقت محبتي للمتباذلين في وإن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله وهم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال يتباذلونها ولا أرحام يتواصلون بها إن لوجوههم لنورا وإنهم لعلى كراس من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس} فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته فازداد حبك لله.

كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله والمرسلين وأصحابهم الصالحين وتصورتهم في قلبك فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم وبهم إذا كنت تحبهم لله فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله والمحب لله إذا أحب شخصا لله فإن الله هو محبوبه فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله.

وهكذا إذا كان الحب لغير الله كما إذا أحب كل من الشخصين الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل فإن المحب يطلب المحبوب والمحبوب يطلب المحب بانجذاب المحبوب فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبا مجذوبا من الوجهين فيجب الاتصال ولو كان الحب من أحد الجانبين لكان المحب يجذب المحبوب والمحبوب يجذبه لكن المحبوب لا يقصد جذبه والمحب يقصد جذبه وينجذب وهذا " سبب التأثير في المحبوب " إما تمثل يحصل في قلبه فينجذب وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام ويلبس الثوب ويسكن الدار ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها.
(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
وسئل:
عن الاجتهاد؛ والاستدلال: والتقليد؛ والاتباع؟

فأجاب: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} في البقرة وفي المائدة وفي لقمان {أولو كان الشيطان يدعوهم} وفي الزخرف: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} وفي الصافات: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} وقال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} الآيات.
وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} وقال: {فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار} وفي الآية الأخرى: {من عذاب الله من شيء} وقال: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}.
فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع الهوى إما للعادة والنسب كاتباع الآباء وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين فهذا مثل تقليد الرجل لأبيه أو سيده أو ذي سلطانه وهذا يكون لمن لم يستقل بنفسه وهو الصغير: فإن دينه دين أمه فإن فقدت فدين ملكه وأبيه: فإن فقد كاللقيط فدين المتولي عليه وهو أهل البلد الذي هو فيه فأما إذا بلغ وأعرب لسانه فإما شاكرا وإما كفورا. وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزل الله على رسله؛ فإنهم حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه.
والكلام في التقليد في شيئين: في كونه حقا؛ أو باطلا من جهة الدلالة. وفي كونه مشروعا؛ أو غير مشروع من جهة الحكم.
أما الأول فإن التقليد المذكور لا يفيد علما؟ فإن المقلد يجوز أن يكون مقلده مصيبا: ويجوز أن يكون مخطئا وهو لا يعلم أمصيب هو أم مخطئ؟ فلا تحصل له ثقة ولا طمأنينة فإن علم أن مقلده مصيب كتقليد الرسول أو أهل الإجماع فقد قلده بحجة وهو العلم بأنه عالم وليس هو التقليد المذكور وهذا التقليد واجب؛ للعلم بأن الرسول معصوم؛ وأهل الإجماع معصومون.
وأما تقليد العالم حيث يجوز فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن. كخبر الواحد والقياس؛ لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد كما يغلب على ظنه صدق المخبر لكن بين اتباع الراوي والرأي فرق يذكر إن شاء الله في موضع آخر. فإن اتباع الراوي واجب لأنه انفرد بعلم ما أخبر به: بخلاف الرأي فإنه يمكن أن يعلم من حيث علم ولأن غلط الرواية بعيد؛ فإن ضبطها سهل؛ ولهذا نقل عن النساء والعامة بخلاف غلط الرأي فإنه كثير؛ لدقة طرقه وكثرتها وهذا هو العرف لمن يجوز قبول الخبر مع إمكان مراجعة المخبر عنه ولا يجوز قبول المعنى مع إمكان معرفة الدليل.
وأما العرف الأول فمتفق عليه بين أهل العلم؛ ولهذا يوجبون اتباع الخبر ولا يوجب أحد تقليد العالم على من أمكنه الاستدلال وإنما يختلفون في جوازه؛ لأنه يمكنه أن يعلم من حيث علم فهذه جملة.
وأما تفصيلها فنقول: الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة: أصولها وفروعها على كل أحد. ومنهم من يحرم الاستدلال في الدقيق على كل أحد وهذا في الأصول والفروع وخيار الأمور أوساطها.
(ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

بين الله السمع عن الكفار في غير موضع كقوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} وقوله: {ولا يسمع الصم الدعاء} وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس الحركة وإيجاب علم القلب حركة القلب فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه فحيث انتفى موجب ذلك دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعالى:
{إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله}. ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة أي يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان لا يسمعون ما فيها - من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني - السمع الذي لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم؛ فقال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}.
(ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها}.

وفي " سنن ابن ماجه " وغيره: {الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر}. وكذلك قال للرسل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم}

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif




ابوالوليد المسلم 12-03-2022 07:23 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (87)

من صــ 369 الى صـ
ـ 376

وقال الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} قال الله تعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير}. فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة والله إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه الله من الصيد وهو محرم والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه. ولهذا ميز سبحانه وتعالى بين خطاب الناس مطلقا وخطاب المؤمنين فقال:
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}. فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين: أن يكون طيبا وأن يكون حلالا.
ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}. فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره؛ فما سواه لم يكن محرما على المؤمنين ومع هذا فلم يكن أحله بخطابه؛ بل كان عفوا كما في الحديث عن سلمان موقوفا ومرفوعا: {الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفي عنه}.
وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها}. وكذلك قوله تعالى {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة}. نفى التحريم عن غير المذكور فيكون الباقي مسكوتا عن تحريمه عفوا والتحليل إنما يكون بخطاب؛ ولهذا قال في سورة المائدة التي أنزلت بعد هذا: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين}. إلى قوله: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}.
ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات وقبل هذا لم يكن محرما عليهم إلا ما استثناه. وقد {حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير} ولم يكن هذا نسخا للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك ولكن سكت عن تحريمه فكان تحريمه ابتداء شرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وأبي هريرة وغيرهم: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن؛ فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه}.
وفي لفظ: {ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر. ألا وإني حرمت كل ذي ناب من السباع}. فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب. وأن الله حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط. إنما أحل الطيبات وهذه ليست من الطيبات وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها؛ لا مأذونا في أكلها. وأما " الكفار " فلم يأذن الله لهم في أكل شيء ولا أحل لهم شيئا ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه؛ بل قال: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}. فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالا؛ وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا.
ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكا شرعيا؛ لأن الملك الشرعي هو القدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم والشارع لم يبح لهم تصرفا في الأموال إلا بشرط الإيمان؛ فكانت أموالهم على الإباحة. فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهرا يستحلونه في دينهم وأخذوها منهم؛ صار هؤلاء فيها كما كان أولئك.

والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها ملكوها شرعا لأن الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم. ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات. ولهذا سمى الله ما عاد من أموالهم إلى المسلمين " فيئا "؛ لأن الله أفاءه إلى مستحقه أي: رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته.

وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصدا للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه؛ فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر}. وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته} رواه أحمد وابن خزيمة في " صحيحه " وغيرهما. فأخبر أن الله يحب إتيان رخصه كما يكره فعل معصيته.
وبعض الفقهاء يرويه: {كما يحب أن تؤتى عزائمه}. وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها الله لحاجة العباد إليها والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث: {القصر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته}. ولأنه بها تتم عبادته وطاعته.

(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

والذين قالوا لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن " الباغي " هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله و " العادي " هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق. قالوا فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه. وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد.
وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر. قالوا: ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية. وهذه حجج ضعيفة. أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية:
الأنعام والنحل وفي المدنية: ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين؛ بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه.
وأيضا فقوله {غير باغ} حال من {اضطر} فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال: {فلا إثم عليه} ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى. والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان. فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم قال تعالى:
{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد؛ لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} والإسراف مجاوزة الحد المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.
(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ " نوعان ": نوع جاء به الكتاب والسنة فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل والألفاظ الشرعية لها حرمة. ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر ونطيعه في كل ما أوجب وأمر ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان وقد قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون في قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث.
وكثير من الكتب المصنفة في " أصول علوم الدين " وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في " المسألة العظيمة " كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب؛ بل ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو مما نهيت الأمة عنه كما في قوله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} وقال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}.

وقد {خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه}. ومما أمر الناس به أن يعملوا بمحكم القرآن ويؤمنوا بمتشابهه.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 12-03-2022 07:31 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (88)

من صــ 377 الى صـ
ـ 384

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ... (177)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وكذلك لفظ " البر " يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق وكذلك لفظ " التقوى " وكذلك " الدين أو دين الإسلام " وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية {ليس البر أن تولوا وجوهكم} الآية وقد فسر البر بالإيمان وفسر بالتقوى وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله والجميع حق وقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: {جاء رجل إلى أبي ذر فسأله عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية؛ فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فقرأ عليه الذي قرأت عليك فقال له الذي قلت لي.

فلما أبى أن يرضى قال له: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها}. وقال: حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد {أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه: {ليس البر أن تولوا وجوهكم} إلى آخر الآية} وروي بإسناده عن عكرمة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}

وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه ورجل عصى الله فلم يطعه فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة وصار العاصي إلى الله فأدخله النار هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا. قال فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن الله قال: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فسألتهم فلم يجيبوني فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل فذكرت ذلك لعطاء فقال:
سبحان الله أما يقرءون الآية التي في البقرة: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}؟. قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} - إلى قوله - {وأولئك هم المتقون} فقال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم.
(فصل في حديث جبريل: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث» لماذا قال: الإسلام هذه الخمس؟)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس؛ فلماذا قال: الإسلام هذه الخمس وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيام العبد بها يتم إسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.
و " التحقيق " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان. فيجب على كل من كان قادرا عليه ليعبد الله بها مخلصا له الدين. وهذه هي الخمس وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح فلا يعم وجوبها جميع الناس؛ بل إما أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا؛ وإقراء وتحديث وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه وقد يسقط بإسقاطه. وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة فحقوق العباد مثل قضاء الديون ورد الغصوب والعواري والودائع والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض؛ إنما هي حقوق الآدميين وإذا أبرئوا منها سقطت.
وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر؛ ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين. وكذلك ما يجب من صلة الأرحام وحقوق الزوجة والأولاد والجيران والشركاء والفقراء.
وما يجب من أداء الشهادة والفتيا والقضاء والإمارة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد؛ كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب؛ فما كان مشتركا فهو واجب على الكفاية وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس؛ فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله؛ والأصناف الثمانية مصارفها؛ ولهذا وجبت فيها النية ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه ولم تطلب من الكفار.
وحقوق العباد لا يشترط لها النية ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ويطالب بها الكفار وما يجب حقا لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد وفيها شوب العقوبات فإن الواجب لله " ثلاثة أنواع ": عبادة محضة كالصلوات وعقوبات محضة كالحدود وما يشبهها كالكفارات. وكذلك كفارات الحج وما يجب بالنذر فإن ذلك يجب بسبب فعل من العبد وهو واجب في ذمته.
وأما " الزكاة " فإنها تجب حقا لله في ماله. ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم ويجب حمل العاقلة ويجب قضاء الديون ويجب الإعطاء في النائبة ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضا على الكفاية؛ إلى غير ذلك من الواجبات المالية. لكن بسبب عارض والمال شرط وجوبها كالاستطاعة في الحج فإن البدن سبب الوجوب والاستطاعة شرط والمال في الزكاة هو السبب والوجوب معه؛ حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلدة أخرى وهي حق وجب لله تعالى. ولهذا قال: من قال من الفقهاء: إن التكليف شرط فيها فلا تجب على الصغير والمجنون.
وأما عامة الصحابة والجمهور كمالك والشافعي وأحمد فأوجبوها في مال الصغير والمجنون لأن مالهما من جنس مال غيرهما ووليهما يقوم مقامهما بخلاف بدنهما.
فإنه إنما يتصرف بعقلهما؛ وعقلهما ناقص. وصار هذا كما يجب العشر في أرضهما مع أنه إنما يستحقه الثمانية. وكذلك إيجاب الكفارة في مالهما. والصلاة والصيام إنما تسقط لعجز العقل عن الإيجاب لا سيما إذا انضم إلى عجز البدن كالصغير. وهذا المعنى منتف في المال فإن الولي قام مقامهما في الفهم كما يقوم مقامهما في جميع ما يجب في المال وأما بدنهما فلا يجب عليهما فيه شيء.
(فصل جامع في الآية الكريمة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

وهذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس {عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية} "
وقد دلت على أمور:
أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون وعامة هذه الأمور فعل مأمور به.

والثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهلها هم الصادقون يعني في قوله: (آمنا) وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها فعلم أن المأمور به أدخل في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه.

وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم} {وإن الفجار لفي جحيم} وقال: {أم نجعل المتقين كالفجار} {إن المتقين في جنات ونهر} وقال: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر أن أهلها هم الذين صدقوا في قولهم: وهم المتقون والصدق واجب والإيمان واجب إيجاب حقوق سوى الزكاة وقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} وقوله لبني إسرائيل: {لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا}. وقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} في " سبحان " " والروم " فإتيان ذي القربى حقه صلة الرحم والمسكين إطعام الجائع وابن السبيل قرى الضيف وفي الرقاب فكاك العاني واليتيم نوع من إطعام الفقير. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم " {عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني} "
وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: " {لو صدق السائل ما أفلح من رده} ".
وأيضا فالرسول مثل نوح وهود وصالح وشعيب فاتحة دعواهم في هود: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي الشعراء:{ألا تتقون} {فاتقوا الله وأطيعون} وقال تعالى: {ولكن البر من اتقى} وقال تعالى: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} وقال تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} وقال: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين}.
فقد بين أن الوفاء بالعهود من التقوى التي يحبها الله والوفاء بالعهود هو جملة المأمور به فإن الواجب إما بالشرع أو بالشرط وكل ذلك فعل مأمور به. وذلك وفاء بعهد الله وعهد العبيد؛ وذلك أن التقوى إما تقوى الله:

وإما تقوى عذابه كما قال: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} فالتقوى اتقاء المحذور بفعل المأمور به وبترك المنهي عنه وهو بالأول أكثر وإنما سمي ذلك تقوى لأن ترك المأمور به وفعل المنهي عنه سبب الأمن من ذم الله وسخط الله وعذاب الله فالباعث عليه خوف الإثم بخلاف ما فيه منفعة وليس في تركه مضرة فإن هذا هو المستحب الذي له أن يفعله وله أن لا يفعله فذكر ذلك باسم التقوى ليبين وجوب ذلك وأن صاحبه متعرض للعذاب بترك التقوى. ونقول ثانيا: إنه حيث عبر بالتقوى عن ترك المنهي أن قيل ذلك كما في قوله: {وتعاونوا على البر والتقوى}
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif





ابوالوليد المسلم 12-03-2022 07:39 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (89)

من صــ 385 الى صـ
ـ 392

بفعل المأمور به كما ذكر معها البر وكما في قول نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وذلك لأن هذه التقوى مستلزمة لفعل المأمور به. ونقول
ثالثا: إن أكثر بني آدم قد يفعل بعض المأمور به ولا يترك المنهي عنه إلا الصديقون كما قال سهل؛ لأن المأمور به له مقتضى في النفس وأما ترك المنهي عنه إلى خلاف الهوى ومجاهدة النفس فهو أصعب وأشق فقل أهله ولا يمكن أحدا أن يفعله إلا مع فعل المأمور به لا تتصور تقوى وهي فعل ترك وقط؛ فإن من ترك الشرك واتباع الهوى المضل واتباع الشهوات المحرمات فلا بد أن يفعل من المأمور به أمورا كثيرة تصده عن ذلك فتقواهم تحفظ لهم حسناتهم التي أمروا بها وتمنعهم من السيئات التي تضرهم بخلاف من فعل ما أمر به وما نهي عنه مثلا؛ فإن وجود المنهي عنه يفسد عليه من المأمور به ما يفسد فلا يسلم له؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى كما قال تعالى: {والعاقبة للتقوى} {والعاقبة للمتقين} {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}.
وذلك لأن المتقين بمنزلة من أكل الطعام النافع واتقى الأطعمة المؤذية فصح جسمه وكانت عاقبته سليمة. وغير المتقي بمنزلة من خلط من الأطعمة؛ فإنه وإن اغتذى بها لكن تلك التخاليط قد تورثه أمراضا إما مؤذية؛ وإما مهلكة. ومع هذا فلا يقول عاقل إن حاجته وانتفاعه بترك المضر من الأغذية أكثر من حاجته وانتفاعه بالأغذية النافعة بل حاجته وانتفاعه بالأغذية التي تناولها أعظم من انتفاعه بما تركه منها بحيث لو لم يتناول غذاء قط لهلك قطعا وأما إذا تناول النافع والضار فقد يرجى له السلامة؛ وقد يخاف عليه العطب وإذا تناول النافع دون الضار حصلت له الصحة والسلامة. فالأول نظير من ترك المأمور به
والثاني نظير من فعل المأمور به والمنهي عنه وهو المخلط الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. والثالث نظير المتقي الذي فعل ما أمر به واجتنب ما نهي عنه فعظم أمر التقوى لتضمنها السلامة مع الكرامة لا لأجل السلامة فقط؛ فإنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار فمن سلم من النار دخل الجنة ومن لم ينعم عذب فليس في الآدميين من يسلم من العذاب والنعيم جميعا. فتدبر هذا فكل خصلة قد أمر الله بها أو أثنى عليها ففيها فعل المأمور به ولا بد: تضمنا أو استلزاما وحمدها لنيل الخير عن الشر والثواب عن العقاب.
(فصل: في اليتيم وتعظيم أمره)
وقال - قدس الله روحه -:
فصل:

" اليتيم " في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه هو الذي يهذبه؛ ويرزقه؛ وينصره: بموجب الطبع المخلوق؛ ولهذا كان تابعا في الدين لوالده؛ وكان نفقته عليه وحضانته عليه والإنفاق هو الرزق. و " الحضانة " هي النصر لأنها الإيواء ودفع الأذى. فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول والمظلوم عاجز ضعيف فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضى ومن جهة ضعف المانع ويتولد عنه فسادان: ضرر اليتيم؛ الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه وفجور الآدمي الذي لا وازع له. فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} - إلى قوله - {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين}

وقوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} وقوله: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} - إلى قوله - {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} وقوله:

{وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} - إلى قوله - {وبذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن} - إلى قوله - {وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} وقوله: في الأنعام: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وقوله:
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} وقوله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} وقوله: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة} وقوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} وقوله: {فذلك الذي يدع اليتيم} {ولا يحض على طعام المسكين}.

(ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)
قال أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى -:

في قوله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية وفيها قولان:
أحدهما: أن القصاص هو القود وهو أخذ الدية بدل القتل كما جاء عن ابن عباس أنه كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فجعل الله في هذه الأمة الدية فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء} والعفو هو أن يقبل الدية في العمد {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كان على بني إسرائيل والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. قال قتادة: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وكان الحي إذا كان فيهم عدد وعدة فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا: لن يقتل به إلا حر تعززا على غيرهم وإن قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا لن يقتل بها إلا رجلا فنزلت هذه الآية وهذا قول أكثر الفقهاء وقد ذكر ذلك الشافعي وغيره.
ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد لقوله: {والعبد بالعبد} فينقض ذلك عليه بالمرأة فإنه قال: {والأنثى بالأنثى} وطائفة من المفسرين لم يذكروا إلا هذا القول.
" القول الثاني " أن القصاص في القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عصبية وجاهلية فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء فأمر الله تعالى بالعدل بين الطائفتين بأن يقاص دية حر بدية حر ودية امرأة بدية امرأة وعبد بعبد فإن فضل لإحدى الطائفتين شيء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف ولتؤد الأخرى إليها بإحسان وهذا قول الشعبي وغيره وقد ذكره محمد بن جرير الطبري وغيره وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات؛ لكن المعنى الثاني هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه؛ بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى وما ذكرناه يظهر من وجوه.
أحدها أنه قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى} و " القصاص " مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصا ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر والقصاص في القتلى إنما يكون إذا كان الجميع قتلى كما ذكر الشعبي فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى أما إذا قتل رجل رجلا فالمقتول ميت فهنا المقتول لا مقاصة فيه ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره وفي اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء قيل: تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمي ولا حر بعبد وهو قول الأكثرين مالك والشافعي وأحمد وقيل لا تعتبر المكافآت كقول أبي حنيفة والمكافآت لا تسمى قصاصا.
وأيضا فإنه قال: {كتب عليكم القصاص} وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب وإن أريد به استيفاء القود فذلك مباح للولي إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال: هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه فيقال له: هو تعالى قال:
{كتب عليكم القصاص في القتلى} وليس هذا خطابا للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول بدليل قوله تعالى {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} ثم لا يقال للقاتل: كتب عليك القصاص في المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه.
و " أيضا " فنفس انقياد القاتل للولي ليس هو قصاصا؛ بل الولي له أن يقتص وله أن لا يقتص وإنما سمي هذا قودا لأن الولي يقوده وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشتري ثم قال تعالى: {الحر بالحر} فكيف يقال مثل هذا قصده القاتل؛ بل هذا خطاب للأمة بالمقاصة والمعادلة في القتل.
{والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: كتاب الله القصاص لما كسرت الربيع سن جارية وامتنعوا من أخذ الأرش فقال أنس بن النضر: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم بالأرش فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} كقوله تعالى:

{والجروح قصاص} يعني " كتاب الله " أن يؤخذ العضو بنظيره فهذا قصاص لأنه مساواة ولهذا كانت المكافآت في الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء وإن قيل القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء قيل: نعم وهذا قصاص في الأحياء لا في القتلى.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 12-03-2022 07:49 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (90)

من صــ 393 الى صـ
ـ 400



(الثاني أنه قال: {في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر والحر يقتل بالحر وبالأنثى أيضا عند عامة العلماء وقيل:
يشترط أن تؤدى تمام ديته وإذا كان كذلك فقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر وينظر أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل أما في القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين.
(الثالث أنه قال: {فمن عفي له من أخيه شيء} لفظ (عفي)هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال: (عفي) (شيء) ولم يقل: (عفا) (شيئا) وهذا إنما يستعمل في الفعل كما قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه عفوت عن القاتل فولي المقتول بين خيرتين: بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شيء؛ بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين. وقد قال بعضهم: {من أخيه} أي من دم أخيه أي ترك له القتل ورضي بالدية؛ والمراد القاتل يعني أن القاتل عفي له من دم أخيه المقتول أي ترك له القتل فيكون التقدير أن الولي عفا للقاتل من دم المقتول شيئا وهذا كلام لا يعرف لا يقال: عفوت لك شيئا ولا يقال: عفوت من دم القاتل وإنما الذي يقال: إنه عفا عن القاتل فأين هذا من هذا؟.
وأما على القول الأول فالمتقاصان إذا تعادا القتلى فمن عفي له أي فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى أي هذا الذي فضل له فضل كما يقال: أبقي له من جهة أخيه بقية {فاتباع بالمعروف} فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف وذلك يؤدي إلى هذا بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} أي من أن كل طائفة تؤدي قتلى الأخرى فإن في هذا تثقيلا عظيما له {ولكم في القصاص حياة} فإنهم إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشيء فحيي هؤلاء وحيي هؤلاء بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون وتقوم بينهم الفتن التي يموت فيها خلائق كما هو معروف في فتن الجاهلية والإسلام إنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين وإلا فمع التعادل والتناصف الذي يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة. وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو آذاهم بسبب ما بينهم من الدم {فله عذاب أليم} وهذا كقوله:

{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} و " الأخوة " هنا كالأخوة هناك وهذا في قتلى الفتن.

وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل أو من هو أكثر من القاتل أو اثنين بواحد وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه كما قيل: إنه كان بين قريظة والنضير لكن هذا لم تثر به الفتن بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة ولم يكن في الأمم من يقول إن القاتل الظالم المتعدي مطلقا لا يقتل فهذا لم يكن عليه أحد من بني آدم؛ بل كل بني آدم مطبقون على أن القاتل في الجملة يقتل لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل.

وقول من قال: إن قوله: {ولكم في القصاص حياة} معناه أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان في ذلك حياة له وللمقتول يقال له: هذا معنى صحيح؛ ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس وهو مغروز في جبلتهم وليس في الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله؛ بل كلهم مع التساوي يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس. . . (1)

إذا كان كل من قدر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية؛ بل هذا مما يدخل في معناه وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص في المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى فجعل دية هذا كدية هذا ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم في الدماء والديات وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التي توجب هلاكهم كما هو معروف وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به وإذا علم أن التقاص يقع للتساوي في الديات علم أن للمقتول دية.

ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة فيدل على أن الله أوجب العدل والإنصاف في أمر القتلى فمن قتل غير قاتله فهو ظالم والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل. وقد ذكر سبحانه هذا المعنى في قوله: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} وإذا دلت على العدل في القود بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال ولم يقل: فلم لا قال: والعبد بالعبد والحر؟ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به في القتلى ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة والمرأة بالمرأة لا بالحر والعبد بالعبد. فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة في الآية.
ودلت الآية حينئذ على أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين في الدم وبدله هو الدية ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر ولا لها مفهوم ينفي ذلك؛ بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى كذلك تدل على هذا أيضا؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى.
وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفي ولا إثبات ولا لها مفهوم يدل عليه لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان في المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوي الديات دل ذلك على قتل النظير بالنظير والأدنى بالأعلى. يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية ليس في الآية تعرض له فإنه لم يقصد بها ابتداء القود وإنما قصد المقاصة في القتلى لتساوي دياتهم.
فإن قيل: دية الحر كدية الحر ودية الأنثى كدية الأنثى ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة؟.
قيل: عبيدهم كانوا متقاربين القيمة وقوله: {والعبد بالعبد} قد يراد به بالعبد المماثل به كما يقال: ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة فذاك مما عفي له وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب فإن المقتولين في الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم فهذا يكون مع العلم بتساوي القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين قيل ثوب بثوب وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين:
يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك في أحدهما فكيف إذا كان من الطرفين؟. فظهر حكمة قوله: {والعبد بالعبد} وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به ويحقن به دماؤهم ويحيون به ودخل في ذلك ما ذكره الآخرون من العدل في القود.

ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات فدل على ثبوت الدية على القاتل وأنها مختلفة باختلاف المقتولين وهذا مما من الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أثبت القصاص والدية. وأما كون العفو هو قبول الدية في العمد وأنه يستحقها العافي بمجرد عفوه فالآية لم تتعرض لهذا.

ودلت هذه الآية على أن الطوائف الممتنعة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى من دم ومال بطريق الظلم لقوله: {من أخيه} بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار والكفار للمسلمين. وأما القتال بتأويل " كقتال أهل الجمل وصفين " فلا ضمان فيه أيضا بطريق الأولى عند الجمهور فإنه إذا كان الكفار المتأولون لا يضمنون فالمسلمون المتأولون أولى أن لا يضمنوا. ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوي فيه الردء والمباشر لا يقال: انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال: ديته عليكم كلكم فإنكم جميعا قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له وعلى هذا دل قوله:
{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التي ذهبت إليهم فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التي يقدر المسلمون عليها مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها فيعطي المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التي يستحقه الكفار لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بضعها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذي تزوج بالمرتدة لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا صارت كالشخص الواحد.
ولهذا لما قتل خالد من قتل من بني جذيمة وداهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنده؛ لأن خالدا نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول وكذلك عمرو بن أمية وعاقلته خالد بن الوليد لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه وقد تنازع الفقهاء في خطأ ولي الأمر هل هو في بيت المال أو على ذمته؟ على قولين.
ولهذا كان ما غنمته السرية يشاركها فيه الجيش وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض فإذا اشتركوا في المغرم اشتركوا في المغنم وكذلك في العقوبة يقتل الردء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء كما قتل عمر رضي الله عنه ربيئة المحاربين وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد وهو مذهب مالك في القتل قودا وفي السراق أيضا.
وبيان دلالة الآية على ذلك أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولي الحر من هؤلاء؛ بل قد يكون غيره وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء؛ بل قد يكون غيره؛ لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى.

فإن قيل: إذا كان مستقرا في فطر بني آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل وليس في الآدميين من يقول إنه لا يقتل فما الفائدة في قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها} - أي في التوراة - {أن النفس بالنفس والعين بالعين} الآية. إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم؟. قيل لهم: فائدته بيان تساوي دماء بني إسرائيل وأن دماءهم
__________
Q (1) بياض بالأصل

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-03-2022 07:33 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (91)

من صــ 401 الى صـ
ـ 408

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي فِطْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ لِنَظِيرِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْتَلُ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} - أَيْ فِي التَّوْرَاةِ - {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ.
إذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْعِ يَعْرِفُهُ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ؟. قِيلَ لَهُمْ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَسَاوِي دِمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَ لِشَرِيفِهِمْ مَزِيَّةٌ عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا الطَّوَائِفُ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ لَا يَقْتُلُونَ الشَّرِيفَ وَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ عَادِلًا فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَحَكَمَ أَيْضًا فِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِتَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ فَالْمُسْلِمُ الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ الْحُرِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ لِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} و " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا " فَإِنَّهُ يُقَالُ: الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّفْسَ مِنْهُمْ بِالنَّفْسِ مِنْهُمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِرٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَتِهِمْ إبْقَاءُ كَافِرٍ بَيْنَهُمْ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَهَذَا مِثْلُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَتَيْنِ أَنَّ دَمَ الْكَافِرِ يُكَافِئُ دَمَ الْمُسْلِمِ؛ بَلْ جَعْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْوَاجِبُ لِلْمُكَافَآتِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ - سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا - لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِلْمُكَافَأَةِ فِيهِ؛ نَعَمْ يُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ؛ بَلْ مَا رُوِيَ {مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ بِهِ} وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظَالِمًا كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتول إذا كان حرا فكذلك لا يكون ولي دمه إذا كان عبدا؛ بل هذا أولى كيف يكون ولي دمه وهو القاتل؟ بل لا يكون ولي دمه؛ بل ورثة القاتل السيد؛ لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام. وحينئذ فللإمام قتله فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله. و " أيضا " فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقتله أشد أنواع المثل فلا يموت إلا حرا؛ لكن حريته لم تثبت في حال الحياة حتى يرثه عصبته؛ بل حريته ثبتت حكما وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين فيكون الإمام هو وليه فله قتل قاتل عبده.
وقد يحتج بهذا من يقول: إن قاتل عبد غيره لسيده قتله وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: من قتل ولا ولي له كان الإمام ولي دمه فله أن يقتل وله أن يعفو على الدية؛ لا مجانا. يؤيد هذا أن من قال: لا يقتل حر بعبد يقول: إنه لا يقتل الذمي الحر بالعبد المسلم. قال الله تعالى في كتابه: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} فالعبد المؤمن خير من الذمي المشرك فكيف لا يقتل به والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات كما دلت عليه هذه الآية وهو قول جماهير السلف والخلف وهذا قوي على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر؛ بخلاف الذمي فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم}.
(ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون (179)
فصل:
والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة؛ فإذا قطع يده اليمنى من مفصل فله أن يقطع يده كذلك. وإذا قلع سنه فله أن يقلع سنه. وإذا شجه في رأسه أو وجهه فأوضح العظم فله أن يشجه كذلك. وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا أو يشجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص؛ بل تجب الدية المحدودة أو الأرش.

وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه مثل أن يلطمه أو يلكمه أو يضربه بعصا ونحو ذلك: فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لا قصاص فيه؛ بل فيه التعزير لأنه لا تمكن المساواة فيه. والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. قال أبو فراس: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر حديثا قال فيه: ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم؛ ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم.
فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه فوثب عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين: إن كان رجل من المسلمين أمر على رعية فأدب رعيته أإنك لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده إذا لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم. رواه الإمام أحمد وغيره. ومعنى هذا إذا ضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز. فأما الضرب المشروع فلا قصاص فيه بالإجماع إذ هو واجب أو مستحب أو جائز.
(ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)
(فصل في الحكمة من تحريم بعض المفطرات)

(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

جماع معنى الصيام في أصل اللغة: الكف والإمساك والامتناع, وذلك هو السكون, وضده الحركة, ولهذا قرن الله تعالى بين الصوم والصلاة؛ لأن الصلاة حركة إلى الحق, والصوم سكون عن الشهوات, فيعم الإمساك عن القول والعمل من الناس والدواب وغيرها.
قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.
وقال الخليل: الصيام قيام بلا عمل, والصيام الإمساك عن الطعام, وقد قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} [مريم: 26]؛ أي: صمتا, ويقال: صام الفرس: إذا قام على غير اعتلاف, ويقال: هو الذي أمسك عن الصهيل, قال النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
ومصام الفرس ومصامته موقوفه, وصامت الريح إذا ركدت فلم تتحرك, وصامت البكرة إذا لم تدر, وصام النهار صوما إذا قام قائم الظهيرة واعتدل كأن الشمس سكنت عن الحركة في رأي العين.
ثم خص في لسان الشرع والعرف الغالب ببعض أنواعه, وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع, ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث والجهل وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه؛ فإن الإمساك عن هذه الأشياء في زمن الصوم أوكد منه في غير زمن الصوم, وإذا كان هذا الوقت قد حظر فيه المباح في غيره؛ فالمحظور في غيره أولى؛ كالحرم والإحرام والشهر الحرام, وقد يتبعه الاعتكاف؛ لأنه حبس النفس في مكان مخصوص؛ فهو من جنس الصوم, يقال منه: صام يصوم صوما وصياما.
وسمي الصيام الصبر.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر».
وقد قيل: إنه عني بقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن شهواتها.
وسمي أيضا السياحة.
(فصل: تحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وتحريم الجماع والفطر به لحكمة والفطر بالحيض لحكمة فإن الحيض لا يقال فيه إنه يحرم وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض كذلك تنقسم عللها. فنقول: أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام - كما سنبينه إن شاء الله تعالى - فإنه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {عن الله تعالى: قال: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي} فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها هو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات فهذا المعنى في الجماع أبلغ فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم؛ بل الجماع هو غاية الشهوات وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع لأن هذا أغلظ وداعيه أقوى والمفسدة به أشد. فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع.
وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى فصار فيهما كالأكل والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض. فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس فنقول: إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء.
والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور ونهى عن الوصال وقال: " {أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى} فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية.

فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل وقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث. وإذا كان كذلك فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى وإلا فإذا مكن من هذا ضره وكان متعديا في عبادته لا عادلا.


http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 24-03-2022 07:42 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (92)

من صــ 409 الى صـ
ـ 416


والخارجات نوعان: نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه أو على وجه لا يضره فهذا لا يمنع منه كالأخبثين فإن خروجهما لا يضره ولا يمكنه الاحتراز منه أيضا. ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره بل ينفعه.

وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه وأما إذا استقاء فالقيء يخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم فهو يخرج الدم الذي يتغذى به ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر.
والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن الاعتدال فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض. بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه: كذرع القيء وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه. فلم يجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض.
وسئل:
عن رجل باشر زوجته وهو يسمع المتسحر يتكلم فلا يدري: أهو يتسحر؟ أم يؤذن؟ ثم غلب على ظنه أنه يتسحر فوطئها وبعد يسير أضاء الصبح فما الذي يجب عليه؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: عليه القضاء والكفارة. هذا إحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك: عليه القضاء لا غير وهذه الرواية الأخرى عنه وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما.
والثالث: لا قضاء ولا كفارة عليه. وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو أظهر الأقوال؛ ولأن الله تعالى عفا عن الخطأ والنسيان وأباح سبحانه وتعالى الأكل والشرب. والجماع حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. والشاك في طلوع الفجر يجوز له الأكل والشرب والجماع بالاتفاق ولا قضاء عليه إذا استمر الشك.
وقال شيخ الإسلام - في موضع آخر -:
هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:

أحدها: أن عليه القضاء والكفارة وهو المشهور من مذهب أحمد.
والثاني: أن عليه القضاء وهو قول ثان في مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك.
والثالث: لا قضاء عليه ولا كفارة. وهذا قول طوائف من السلف: كسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وإسحاق وداود وأصحابه والخلف. وهؤلاء يقولون: من أكل معتقدا طلوع الفجر ثم تبين له أنه لم يطلع. فلا قضاء عليه.
وهذا القول أصح الأقوال وأشبهها بأصول الشريعة ودلالة الكتاب والسنة وهو قياس أصول أحمد وغيره فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ. وهذا مخطئ وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر واستحب تأخير السحور ومن فعل ما ندب إليه وأبيح له لم يفرط فهذا أولى بالعذر من الناسي والله أعلم.
وسئل - رحمه الله -:
عن رجل أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالنهار فأفطر بالأكل قبل أن يجامع ثم جامع فهل عليه كفارة أم لا؟ وما على الذي يفطر من غير عذر؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه المسألة فيها قولان للعلماء مشهوران: أحدهما: تجب وهو قول جمهورهم: كمالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
والثاني: لا تجب وهو مذهب الشافعي وهذان القولان مبناهما: على أن الكفارة سببها الفطر من الصوم أو من الصوم الصحيح بجماع أو بجماع وغيره على اختلاف المذاهب. فإن أبا حنيفة يعتبر الفطر بأعلى جنسه ومالك يعتبر الفطر مطلقا فالنزاع بينهما إذا أفطر بابتلاع حصاة أو نواة ونحو ذلك. وعن أحمد رواية أنه إذا أفطر بالحجامة كفر كغيرها من المفطرات. بجنس الوطء فأما الأكل والشرب ونحوهما فلا كفارة في ذلك. ثم تنازعوا هل يشترط الفطر من الصوم الصحيح؟
فالشافعي وغيره يشترط ذلك فلو أكل ثم جامع أو أصبح غير ناو للصوم ثم جامع أو جامع وكفر ثم جامع: لم يكن عليه كفارة؛ لأنه لم يطأ في صوم صحيح. وأحمد في ظاهر مذهبه وغيره يقول: بل عليه كفارة في هذه الصور ونحوها؛ لأنه وجب عليه الإمساك في شهر رمضان فهو صوم فاسد فأشبه الإحرام الفاسد. وكما أن المحرم بالحج إذا أفسد إحرامه لزمه المضي فيه بالإمساك عن محظوراته فإذا أتى شيئا منها كان عليه ما عليه من الإحرام الصحيح وكذلك من وجب عليه صوم شهر رمضان إذا وجب عليه الإمساك فيه وصومه فاسد لأكل أو جماع أو عدم نية فقد لزمه الإمساك عن محظورات الصيام. فإذا تناول شيئا منها كان عليه ما عليه في الصوم الصحيح.
وفي كلام الموضعين عليه القضاء. وذلك لأن هتك حرمة الشهر حاصلة في الموضعين؛ بل هي في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص بفطره أولا فصار عاصيا مرتين فكانت الكفارة عليه أوكد ولأنه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا لصار ذريعة إلى ألا يكفر أحد فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل ثم يجامع بل ذلك أعون له على مقصوده فيكون قبل الغدا عليه كفارة وإذا تغدى هو وامرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه وهذا شنيع في الشريعة لا ترد بمثله.
فإنه قد استقر في العقول والأديان أنه كلما عظم الذنب كانت العقوبة أبلغ وكلما قوي الشبه قويت والكفارة فيها شوب العبادة وشوب العقوبة وشرعت زاجرة وماحية فبكل حال قوة السبب يقتضي قوة المسبب. ثم الفطر بالأكل لم يكن سببا مستقلا موجبا للكفارة. كما يقوله أبو حنيفة ومالك فلا أقل أن يكون معينا للسبب المستقل بل يكون مانعا من حكمه وهذا بعيد عن أصول الشريعة. ثم المجامع كثيرا ما يفطر قبل الإيلاج فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول وهذا ظاهر البطلان والله أعلم.
وسئل:
عما إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى. هل يفسد ذلك صومه؟ أم لا؟
فأجاب:
يفسد الصوم بذلك عند أكثر العلماء.
وسئل:
عن الميت في أيام مرضه أدركه شهر رمضان ولم يكن يقدر على الصيام وتوفي وعليه صيام شهر رمضان وكذلك الصلاة مدة مرضه ووالديه بالحياة. فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا؟ إذا وصى أو لم يوص؟
فأجاب:
إذا اتصل به المرض ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته إلا الإطعام عنه.

وأما الصلاة المكتوبة فلا يصلي أحد عن أحد ولكن إذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعا وأهداه له أو صام عنه تطوعا وأهداه له نفعه ذلك والله أعلم.

(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)

وقد أجمعت الأمة إجماعا ظاهرا على وجوب صيام شهر رمضان, وأنه الشهر التاسع من شهور العام بين شعبان وشوال, والأفضل أن يقال: جاء شهر رمضان, وصمنا شهر رمضان؛ موافقة للفظ القرآن وأكثر الأحاديث.
فأما إطلاق رمضان عليه:
فقال القاضي وغيره: يكره إطلاق هذا الاسم عليه من غير قرينة تدل على أن المراد به الشهر؛ لأن الله سبحانه قال: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185].

8 - ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif




ابوالوليد المسلم 24-03-2022 07:49 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (93)

من صــ 417 الى صـ
ـ 424


رواه أحمد بن عدي.
وفي رواية: «لا تقولوا جاء رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله, ولكن قولوا: جاء شهر رمضان».
9 - وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شهر رمضان؟ فقال: «أرمض الله فيه ذنوب المؤمنين فغفرها لهم».
10 - وقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسموا رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل؛ فانسبوه إليه كما نسبه لكم في القرآن». رواه ابن شاهين.

وظاهر الأثر المذكور يقتضي كراهة إطلاق رمضان عليه بكل حال؛ لأنه نهى أن يقال: جاء رمضان, ومعلوم أن هذه قرينة, ونهى عن تسمية رمضان.

11 - وقد روى أبو سعيد الأشج وغيره عن مجاهد: أنه كره أن يقول: رمضان, ويقول: شهر رمضان؛ كما سمى الله شهر رمضان.
ولعل وجه هذا أن كان له أصل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما كان يرمض الذنوب في هذا الشهر على الشهر فيحرقها ويفنيها؛ كان هذا من أسمائه, لكن على هذا التقدير لا يسمى الشهر رمضان, لا مطلقا ولا مقيدا؛ لأن الاسم لله سبحانه, اللهم إلا أن يقال: الاسم مشترك يسمى به الله سبحانه ويسمى به الشهر, فيجوز مع القرينة أن يعنى به الشهر؛ كما قد قيل مثل هذا في الرب والملك والسيد ونحو هذا.
وقال غيره من أصحابنا كابن الجوزي: لا يكره تسميته رمضان بحال.
12 - وهذا هو المعروف من كلام أحمد؛ فإنه دائما يطلق رمضان ولا يحترز عن ذلك؛ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان؛ فتحت أبواب الجنة». متفق عليه.
13 - وعنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجلا كان يصوم صوما؛ فليصمه». رواه الجماعة.
14 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه.
15 - وعمن سمع في فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من صام رمضان. متفق عليهما.
16 - 18 - وعن أبي أيوب وجابر وثوبان, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان, ثم أتبعه بست من شوال ... » وذكر الحديث. رواه مسلم وغيره.
19 - وعن سلمة بن المحبق؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع؛ فليصم رمضان حيث أدركه». وفي لفظ: «من أدركه رمضان في السفر». رواهما أبو داوود.
20 - 21 - وعن أبي هريرة وعن عائشة: أن رجلا قال: يا رسول الله! أصبت أهلي في رمضان. متفق عليهما.
وهذا كثير في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما عن أصحابه؛ فأكثر من أن يحصى.
قالوا: ولأنه لم يذكر أحد في أسماء الله رمضان, ولا يجوز أن يسمى به إجماعا.
والحديثان المتقدمان لا أصل لهما: أما الأول؛ فإن مداره على أبي معشر, والثاني مداره على إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن هشام بن عروة.
وأما قوله سبحانه: {شهر رمضان}؛ فكقولهم: شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر, وهو من باب إضافة الاسم العام إلى الخاص؛ كما يقال: يوم الأحد ويوم الخميس.

قال بعض أهله. . .: ما كان في أوله رأس الشهور؛ فإن الغالب أن يذكر بإضافة الشهر إليه دون ما لم يكن كذلك, فيقولون: المحرم, وصفر, وشهر ربيع الأول, شهر ربيع الآخر, رجب, شعبان, شهر رمضان.

وأما اشتقاقه:
فقال القاضي: قيل: سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب؛ أي: يحرقها ويهلكها. وقد تقدم الرواية بذلك.
22 - وعن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون لأي شيء سمي شعبان؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «لأنه يتشعب فيه خير كثير, وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب (يعني: يحرق الذنوب)». رواه ابن شاهين وغيره.
وهذا المعنى لا يخالف ما يذكره أهل اللغة؛ فإنهم يزعمون أن أسماء الشهور لما نقلوها عن اللغة القديمة؛ سموها بالأزمنة التي وقعت فيها, فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر, فسمي بذلك؛ كما سموا شوالا؛ لأن الإبل تشول بأذنابها, وسموا شعبان؛ لانشعاب القبائل فيه, وغير ذلك.
وهذا لأن الرمض شدة وقع الشمس على الرمل وغيره, والأرض رمضا, ورمض يومنا يرمض رمضا: اشتد حره, ورمضت قدمي, ورمض الفصيل: أصابه حر الرمضا.
فاجتمع في رمضان أن وقت التسمية كان زمن حر, ثم إن الله فرض صومه, والصوم فيه العطش والحرارة, ثم إنه يوجب التقوى فتحرق الذنوب وتهلكها, وقد يلهم الله خلقه أن يسموا الشيء باسم لمعنى يعلمه هو ويبينه فيما بعد وإن لم يعلموا ذلك حين الوضع والتسمية؛ كما سموا النبي صلى الله عليه وسلم محمدا.
وغير مستنكر أن يكون ما اشتق منه الاسم قد تضمن معاني كثيرة, يفطن بعض لبعضها.
وأيضا؛ فإن هذه التسمية لغوية شرعية, فجاز أن يكون له باعتبار كل واحد من التسميتين معنى غير الآخر, وقد قيل: هو اسم موضوع لغير معنى؛ كسائر الشهور.
وقيل: شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه, وقد سمي بذلك لأن الله حين فرضه كان وقت الحر. وهذا ضعيف؛ لأن تسميته رمضان متقدمة على فرضه, ولأنه لما فرض؛ كان في أوائل الربيع الذي تسميه العرب الصيف؛ فإن أول رمضان فرض كانت فيه وقعة بدر, وقد أنزل الله عليهم فيها ماء من البسماء, والقيظ العظيم لا ينزل فيه مطر.
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)
وقال شيخ الإسلام:
فصل:

قال الله تعالى {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} و " اللام " إما متعلقة بمذكور: أي {يريد الله بكم اليسر}. . . ولتكملوا العدة}. كما قال: {يريد الله ليبين لكم}. أو بمحذوف: أي ولتكملوا العدة شرع ذلك. وهذا أشهر لأنه قال: {ولعلكم تشكرون} فيجب على الأول أن يقال ويريد لعلكم تشكرون وفيه وهن.
لكن يحتج للأول بقوله تعالى في آية الوضوء: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فإن آية الصيام وآية الطهارة متناسبتان في اللفظ والمعنى فقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} بمنزلة قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} وقوله: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} كقوله: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}.
والمقصود هنا: أن الله سبحانه أراد شرعا: التكبير على ما هدانا ولهذا قال من قال من السلف: كزيد بن أسلم هو التكبير تكبير العيد واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير زائد ولعله يدخل في التكبير صلاة العيد كما سميت الصلاة تسبيحا وقياما وسجودا وقرآنا وكما أدخلت صلاتا الجمع في ذكر الله في قوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وأريد الخطبة والصلاة بقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} ويكون لأجل أن الصلاة لما سميت تكبيرا خصت بتكبير زائد كما أن صلاة الفجر لما سميت قرآنا خصت بقرآن زائد وجعل طول القراءة فيها عوضا عن الركعتين في الصلاة الرباعية.

وكذلك " صلاة الليل " لما سميت قياما بقوله: {قم الليل} خصت بطول القيام فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام والركوع والسجود بالليل ما لا يطيله بالنهار. ولهذا قال بعض السلف: إن التطويل بالليل أفضل وإن تكثير الركوع والسجود بالنهار أفضل.
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif





ابوالوليد المسلم 24-03-2022 08:06 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (94)

من صــ 425 الى صـ
ـ 432

وكان التكبير أيضا مشروعا في خطبة العيد زيادة على الخطب الجمعية وكان التكبير أيضا مشروعا عندنا وعند أكثر العلماء من حين إهلال العيد إلى انقضاء العيد إلى آخر الصلاة والخطبة؛ لكن هل يقطعه المؤتم إذا شهد المصلى لكونه مشغولا بعد ذلك بانتظار الصلاة؟ أو يقطعه بالشروع في الصلاة للاشتغال عنه بعد ذلك بالصلاة والخطبة أو لا يقطعه إلى انقضاء الخطبة؟ فيه خلاف عن أحمد وغيره.
والصحيح أنه إلى آخر العيد. وقد قال تعالى في الحج {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فقيل: الأيام المعلومات. هي أيام الذبح وذكر اسم الله التسمية على الأضحية والهدي وهو قول مالك في رواية.
وقيل: هي أيام العشر وهو المشهور عن أحمد وقول الشافعي وغيره. ثم ذكر اسم الله فيها هو ذكره في العشر بالتكبير عندنا وقيل هو ذكره عند رؤية الهدي وأظنه مأثورا عن الشافعي. وفي صحيح البخاري أن ابن عمر وابن عباس كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وفي الصحيح عن أنس أنهم كانوا غداة عرفة وهم ذاهبون من منى إلى عرفة يكبر منهم المكبر فلا ينكر عليه ويلبي الملبي فلا ينكر عليه وفي أمثلة الأحاديث المرفوعة مثل قوله: {فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد}.
وعلى قول أصحابنا يكون ذكر اسم الله على ما رزقهم كقوله {على ما هداكم} وكقوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} وكقوله: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم} - إلى قوله - {فاذكروني أذكركم}. وعلى القول الآخر يكون مثل قوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقوله: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} ويدل عليه قوله: {من بهيمة الأنعام} فيدل على أن (ما موصولة لا مصدرية بمعنى على الذي رزقهم من بهيمة الأنعام وكذلك قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وعلى قولنا يكون ذكر اسم الله عليها وقت الذبح ووقت السوق بالتلبية عندها وبالتكبير. يدل عليه أنه لو أراد مجرد التسمية لم يكن للأضحية بذلك اختصاص فإن اسمه مذكور عند كل ذبح لا فرق في ذلك بين الأضحية وغيرها فما وجب فيها وجب في غيرها وما لم يجب لم يجب.
(فصل في أن التحميد قرين التسبيح وأن التهليل قرين التكبير)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ولما قال سبحانه: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ذكر التكبير والشكر كما في قوله: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} والشكر يكون بالقول وهو الحمد ويكون بالعمل كما قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرا} فقرن بتكبير الأعياد الحمد. فقيل: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد؛ لأنه قد طلب فيه التكبير والشكر.
ولهذا روي في الأثر أنه يقال فيه: {الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا} ليجمع بين التكبير والحمد حمد الشكر كما جمع بين التحميد تحميد الثناء والتكبير في قوله: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} فأمر بتحميده وتكبيره. ومعلوم أن الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن أربع " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " وهي شطران: فالتسبيح قرين التحميد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم} أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي ذر {أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده}. وفي القرآن {ونحن نسبح بحمدك} {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. {فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} هكذا في الصحاح عن عائشة فجعل قوله: " سبحانك اللهم وبحمدك " تأويل {فسبح بحمد ربك} وقد قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار}وقال: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} {وله الحمد في السماوات والأرض} والآثار في اقترانهما كثيرة.
وأما التهليل فهو قرين التكبير كما في كلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فهو مشتمل على التكبير والتشهد أوله وآخره. وهو ذكر لله تعالى وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة والفلاح. فالصلاة هي العمل. والفلاح هو ثواب العمل لكن جعل التكبير شفعا والتشهد وترا فمع كل تكبيرتين شهادة؛ وجعل أوله مضاعفا على آخره ففي أول الأذان يكبر أربعا ويتشهد مرتين والشهادتان جميعا باسم الشهادة وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة ولا الشهادة الأخرى.
وهذا والله أعلم بمنزلة الركعتين الأوليين من الصلاة مع الركعتين الأخريين فإن الأوليين فضلتا بقراءة السورة وبالجهر في القراءة فحصل الفضل في قدر القراءة ووصفها كما أن الشطر الأول من الأذان فضل في قدر الذكر وفي وصفه لكن الوصف هنا كون التوحيد قرن به لفظ أشهد ولهذا حذف في الإقامة عند من يختار إيتارها وهي إقامة بلال - ما فضل به من القدر كما يخفض من صوت الإقامة لأن هذا المزيد من جنس الأصل فأشبه حذف الركعتين الأخريين في صلاة المسافر.
وأما الكلمات الأصول فلم يحذف منها شيء. وهكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وصلاة الكسوف وغيرهما تطويل أول العبادة على آخرها؛ لأسباب تقتضي ذلك. وكما جمع بين التكبير والتهليل في الأذان جمع بينهما في تكبير الأشراف فكان على الصفا والمروة وإذا علا شرفا في غزوة أو حجة أو عمرة يكبر ثلاثا. ويقول: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده} يفعل ذلك ثلاثا.
وهذا في الصحاح وكذلك على الدابة كبر ثلاثا وهلل ثلاثا فجمع بين التكبير والتهليل. وكذلك حديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد والترمذي فيه {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل تعلم من لا إله إلا الله؟ يا عدي ما يفرك أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله} فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين التهليل والتكبير.
وفي صحيح مسلم حديث أبي مالك الأشعري {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو قال تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} فأخبر أنه يملأ ما بين السماء والأرض وهذا أعظم من ملئه للميزان. وفي الحديث الذي في الموطأ حديث طلحة بن عبد الله بن كريز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}.
فجمع في هذا الحديث بين " أفضل الدعاء وأفضل الثناء فإن الذكر نوعان: دعاء وثناء فقال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. وأفضل ما قلت هذا الكلام ". ولم يقل أفضل ما قلت يوم عرفة هذا الكلام. وإنما هو أفضل ما قلت مطلقا. وكذلك في حديث رواه ابن أبي الدنيا {أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله}.

وأيضا ففي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} فقد صرح بأن أعلى شعب الإيمان هي هذه الكلمة.

وأيضا ففي صحيح مسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أبي: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهنك العلم أبا المنذر} فأخبر في هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية في القرآن وفي ذاك أنها أعلى شعب الإيمان وهذا غاية الفضل فإن الأمر كله مجتمع في القرآن والإيمان فإذا كانت أعظم القرآن وأعلى الإيمان ثبت لها غاية الرجحان.
وأيضا فإن التوحيد أصل الإيمان وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار وهو ثمن الجنة ولا يصح إسلام أحد إلا به ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء فمنزلته منزلة الأصل ومنزلة التحميد والتسبيح منزلة الفرع.
وأيضا فإنه مشروع على وجه التعظيم والجهر وعند الأمور العظيمة مثل الأذان الذي ترفع به الأصوات وعند الصعود على الأماكن العالية لما في ذلك من العلو والرفعة ويجهر بالتكبير في الصلوات وهو المشروع في الأعياد.
{وقال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك} رواه أبو داود وغيره. فبين أن التكبير مشروع عند العلو من الأمكنة والأفعال كما في الصلاة والأذان والتسبيح مشروع عند الانخفاض في الأمكنة والأفعال كما في السجود والركوع.

ولهذا كانت السنة في التسبيح الإخفاء حين شرع فلم يشرع من الجهر به والإعلان ما شرع من ذلك في التكبير والتهليل ومعلوم أن الزيادة في وصف الذكر إنما هو للزيادة في أمره.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif




ابوالوليد المسلم 24-03-2022 08:16 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (95)

من صــ 433 الى صـ
ـ 440


وأما حديث أبي ذر: {أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده} فيشبه والله أعلم أن يكون هذا في الكلام الذي لا يسن فيه الجهر كما في الركوع والسجود ونحوه ولا يلزم أن يكون أفضل مطلقا بدليل أن قراءة القرآن أفضل من الذكر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها في الركوع والسجود. وقال: {إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم}.

وهنا أصل ينبغي أن نعرفه. وهو أن الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل في كل حال ولا لكل أحد بل المفضول في موضعه الذي شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق كما أن التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن ومن التهليل والتكبير والتشهد في آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا أو إسلاما} ثم أتبع ذلك بقوله: {ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه} فذكر الأفضل فالأفضل في الإمامة ثم بين أن صاحب المرتبة ذا السلطان مثل الإمام الراتب كأمير الحرب في العهد القديم وكأئمة المساجد ونحوهم مقدمون على غيرهم وإن كان غيرهم أفضل منهم وهذا كما أن الذهب أفضل من الحديد والنورة وقد تكون هذه المعادن مقدمة على الذهب عند الحاجة إليها دونه وهذا ظاهر.
وكذلك أيضا: أكثر الناس يعجزون عن أفضل الأعمال فلو أمروا بها لفعلوها على وجه لا ينتفعون به أو ينتفعون انتفاعا مرجوحا فيكون في حق أحد هؤلاء العمل الذي يناسبه وينتفع به أفضل له مما ليس كذلك. ولهذا يكون الذكر لكثير من الناس أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الذكر يورثه الإيمان والقرآن يورثه العلم والعلم بعد الإيمان.

قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} والقرآن يحتاج إلى فهم وتدبر وقد يكون عاجزا عن ذلك لكن هؤلاء يغلطون فيعتقد أحدهم أن الذكر أفضل مطلقا؛ وليس كذلك بل قراءة القرآن في نفس الأمر أفضل من الذكر بإجماع المسلمين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم {أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر} رواه مسلم. {وقال له رجل: إني لا أستطيع أن أحمل من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني في صلاتي.

فقال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إلا إلا الله والله أكبر} ولهذا كان العلماء على أن الذكر في الصلاة بدل عن القراءة لا يجوز الانتقال إليه إلا عند العجز عن القراءة بمنزلة التيمم مع الوضوء وبمنزلة صيام الشهرين مع العتق والصيام مع الهدي. وفي الحديث الذي في الترمذي {ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه} يعني القرآن وفي حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله أهلين من الناس قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته} وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم أهل القرآن في المواطن كما قدمهم يوم أحد في القبور فأذن لهم أن يدفنوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد وقال: قدموا إلى القبلة أكثرهم قرآنا.
{فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما سئل: أي الكلام أفضل: فقال: سبحان الله وبحمده} هذا خرج على سؤال سائل. فربما علم من حال السائل حالا مخصوصة كما أنه لما قال: {أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله} إلى آخره. أراد بذلك من الذكر لا من القراءة فإن قراءة القرآن أفضل من جنس الذكر من حيث الجملة وإن كان هذا الكلام قد يكون أفضل من القراءة كما أن الشهادتين في وقت الدخول في الإسلام أو تجديده أو عندما يقتضي ذكرهما مثل عقب الوضوء ودبر الصلاة والأذان وغير ذلك: أفضل من القراءة.
وكذلك في موافقة المؤذن فإنه إذا كان يقرأ وسمع المؤذن فإن موافقته في ذكر الأذان أفضل له حينئذ من القراءة حتى يستحب له قطع القراءة لأجل ذلك؛ لأن هذا وقت هذه العبادة يفوت بفوتها والقراءة لا تفوت. فنقول: الأحوال ثلاثة: حال يستحب فيها الإسرار ويكره فيها الجهر؛ لأنها حال انخفاض كالركوع والسجود. فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير وكذلك في بطون الأودية وأما ما السنة فيه الجهر والإعلان كالإشراف والأذان فالسنة فيه التهليل والتكبير وأما ما يشرع فيه الأمران فقد يكون هذا.
فصل:
وإذا عرف أن التحميد قرين التسبيح وأن التهليل قرين التكبير ففي تكبير الأعياد جمع بين القرينين فجمع بين التكبير والتهليل وبين التكبير والتحميد لقوله: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فإن الهداية اقتضت التكبير عليها. فضم إليه قرينه وهو التهليل. والنعمة اقتضت الشكر عليها فضم إليه أيضا التحميد وهذا كما أن ركوب الدابة لما اجتمع فيه أنه شرف من الأشراف وأنه موضع نعمة كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع عليها بين الأمرين فإنه قال سبحانه: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} فأمر بذكر نعمة الله عليه وذكرها بحمدها وأمر بالتسبيح الذي هو قرين الحمد {فكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالدابة فوضع رجله في الغرز قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال:
الحمد لله ثم قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} ثم حمد ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال: لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك وقال: ضحكت من ضحك الرب إذا قال العبد ذلك يقول الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري}.
فذكر بعد ذلك ذكر الأشراف وهو التكبير مع التهليل وختمه بالاستغفار لأنه مقرون بالتوحيد كما قد رتب اقتران الاستغفار بالتوحيد في غير موضع كقوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} وقوله: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم} وقوله: {فاستقيموا إليه واستغفروه} فكان ذكره على الدابة مشتملا على الكلمات الأربع الباقيات الصالحات مع الاستغفار. فهكذا ذكر الأعياد اجتمع فيه التعظيم والنعمة فجمع بين التكبير والحمد. فالله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا. وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فيشبهه بذكر الأشراف في تثليثه وضم التهليل إليه وهذا اختيار الشافعي.
وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة من الصحابة ورواه الدارقطني من حديث جابر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الله أكبر الله أكبر لا إلا إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد} فيشفعونه مرتين ويقرنون به في إحداهما التهليل وفي الأخرى الحمد تشبيها له بذكر الأذان. فإن هذا به أشبه لأنه متعلق بالصلاة ولأنه في الأعياد التي يجتمع فيها اجتماعا عاما كما أن الأذان لاجتماع الناس فشابه الأذان في أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان وأنه متعلق بالصلاة لا بالشرف فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو في كل مرة مشفوع وكل المأثور حسن. ومن الناس من يثلثه أول مرة ويشفعه ثاني مرة وطائفة من الناس تعمل بهذا.
وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها وكما قلنا في أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الاستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد بإثبات الواو وحذفها وغير ذلك لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر. ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معا ولا بقراءتين معا ولا بصلاتي خوف معا وإن فعل ذلك مرتين كان ذلك منهيا عنه فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه أخرى.
وسئل:
هل أراد الله - تعالى - المعصية من خلقه أم لا؟
فأجاب:
لفظ " الإرادة " مجمل له معنيان: فيقصد به المشيئة لما خلقه ويقصد به المحبة والرضا لما أمر به. فإن كان مقصود السائل: أنه أحب المعاصي ورضيها وأمر بها فلم يردها بهذا المعنى فإن الله لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء بل قال لما نهى عنه: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}. وإن أراد أنها من جملة ما شاءه وخلقه فالله خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يكون في الوجود إلا ما شاء.
وقد ذكر الله في موضع أنه يريدها وفي موضع أنه لا يريدها والمراد بالأول أنه شاءها خلقا وبالثاني أنه لا يحبها ولا يرضاها أمرا كما قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وقال نوح: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم} وقال في الثاني: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} وقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)
سئل شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:

عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى: وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل؛ الذين أرسلهم الله إلى عباده.
فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل: فإنهم ملعونون وهم عن ربهم ضالون محجوبون.

قال تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} {ونحشره يوم القيامة أعمى}.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif




ابوالوليد المسلم 24-03-2022 08:23 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (96)

من صــ 441 الى صـ
ـ 448


{قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى عن أهل النار: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} وقال تعالى:

{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} وقال تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون} وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا} {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
ومثل هذا في القرآن كثير. وهذا مما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين؛ واليهود؛ والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله
أمره وخبره. قال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. والسور التي أنزلها الله بمكة مثل: الأنعام؛ والأعراف؛ وذوات: (الر) و (حم) و (طس) ونحو ذلك؛ هي متضمنة لأصول الدين كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر. وقد قص الله قصص الكفار الذين كذبوا الرسل وكيف أهلكهم؛ ونصر رسله والذين آمنوا.
قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} {إنهم لهم المنصورون} {وإن جندنا لهم الغالبون}. وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}. فهذه الوسائط: تطاع وتتبع ويقتدى بها. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.

وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم؛ يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه: فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء؛ يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار.

لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها حتى قال: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} وقال تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
وقالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة: فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء: لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا وأنهم يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} فبين سبحانه:أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات: فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون}
{لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} وقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} {لقد جئتم شيئا إدا} {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} {أن دعوا للرحمن ولدا} {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} {لقد أحصاهم وعدهم عدا} {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} وقال تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.

وقال {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله}. وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} وقال تعالى: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}. ومثل هذا كثير في القرآن.

ومن سوى الأنبياء - من مشايخ العلم والدين - فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم؛ ويعلمونهم؛ ويؤدبونهم؛ ويقتدون بهم؛ فقد أصاب في ذلك. وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول؛ إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك: إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {العلماء ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر}.
وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه - كالحجاب الذين بين الملك ورعيته - بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه؛ فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم؛ فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله؛ كما أن الوسائط عند الملوك: يسألون الملوك الحوائج للناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم؛ أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج. فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه: فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق
وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء: ما لم تتسع له هذه الفتوى. فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس: يكونون على أحد وجوه ثلاثة: - إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه.
ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بتلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم: فهو كافر بل هو - سبحانه - يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وهو السميع البصير}. يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل. ولا يتبرم بإلحاح الملحين. الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه - إلا بأعوان يعينونه - فلا بد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه.
والله - سبحانه - ليس له ظهير ولا ولي من الذل. قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} وقال تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}. وكل ما في الوجود من الأسباب: فهو خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه؛ بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم - في الحقيقة - شركاؤهم في الملك. والله تعالى: ليس له شريك في الملك بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
والوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم: إلا بمحرك يحركه من خارج. فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه أو من يدل عليه؛ بحيث يكون يرجوه ويخافه: تحركت إرادة الملك
وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه.
والله تعالى: هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض: فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلم أو من يرجوه الرب ويخافه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت؛ ولكن ليعزم المسألة؛ فإنه لا مكره له}. والشفعاء الذين يشفعون عنده: لا يشفعون إلا بإذنه كما قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}. فبين أن كل من دعي من دونه ليس له ملك ولا شرك في الملك ولا هو ظهير.

وأن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له. وهذا بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك وقد يكون شريكا لهم في الملك وقد يكون مظاهرا لهم معاونا لهم على ملكهم وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك هم وغيرهم والملك يقبل شفاعتهم: تارة بحاجته إليهم وتارة لخوفه منهم وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم ولإنعامهم عليه؛ حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد؛ حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه؛ فإذا لم يقبل شفاعته؛ يخاف أن لا يطيعه أو أن يسعى في ضرره.
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 24-03-2022 08:32 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (97)

من صــ 449 الى صـ
ـ 456

وشفاعة العباد بعضهم عند بعض: كلها من هذا الجنس. فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة. والله تعالى: لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني قال تعالى: {ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} إلى قوله: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض}.

والمشركون: يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة. قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} وقال تعالى: {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون}.

وأخبر عن المشركين أنهم قالوا ": {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}.
فأخبر أن ما يدعي من دونه لا يملك كشف ضر ولا تحويله وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه. فهو - سبحانه - قد نفى ما من الملائكة والأنبياء؛ إلا من الشفاعة بإذنه والشفاعة هي الدعاء.

ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع والله قد أمر بذلك لكن الداعي الشافع: ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له في ذلك فلا يشفع شفاعة نهي عنها؛ كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة. قال تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}. وقال تعالى في حق المنافقين: {سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}.

وقد ثبت في الصحيح: أن الله نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين والمنافقين وأخبر أنه لا يغفر لهم. كما في قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وقد قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} - في الدعاء - ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله. مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك. أو يسأله ما فيه معصية الله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان.
فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة: شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان. ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه؛ فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك. كما قال نوح: {إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} قال تعالى: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}. وكل داع شافع دعا الله - سبحانه وتعالى - وشفع: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة فهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله - سبحانه وتعالى -.
وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله - سبحانه وتعالى - والله يقدر له من الأسباب - من دعاء الخلق وغيرهم - ما شاء. والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى: فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء؛ بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الأنبياء

ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء وله شفاعات يختص بها - ومع هذا - فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقد {قال لعمر لما أراد أن يعتمر وودعه: يا أخي لا تنسني من دعائك}.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن يدعوا له؛ ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها مع أنه صلى الله عليه وسلم له مثل أجورهم في كل ما يعملونه فإنه قد صح عنه أنه قال: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا} وهو داعي الأمة إلى كل هدى فله مثل أجورهم في كل ما اتبعوه فيه.
وكذلك إذا صلوا عليه فإن الله يصلي على أحدهم عشرا وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: {ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثل ذلك} وفي حديث آخر: {أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب}.
فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له وإن كان الداعي دون المدعو له فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له. فمن قال لغيره ادع لي وقصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسئول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى؛ فيثاب المأمور على فعله والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه؛ لكونه دعا إليه لا سيما ومن الأدعية ما يؤمر بها العبد كما قال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فأمره بالاستغفار ثم قال: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}.
فذكر - سبحانه - استغفارهم واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولم يأمر الله مخلوقا أن يسأل مخلوقا شيئا لم يأمر الله المخلوق به بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب؛ ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة إلى الله وصلاح لفاعله وحسنة فيه وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه وإنعامه عليه.

بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان. والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة والحسنات وكلما ازداد العبد عملا للخير. ازداد إيمانه. هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} وفي قوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم}. بل نعم الدنيا بدون الدين هل هي من نعمه أم لا؟ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم.
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 24-03-2022 08:46 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (98)

من صــ 457 الى صـ
ـ 464


والتحقيق: أنها نعمة من وجه وإن لم تكن نعمة تامة من وجه وأما الإنعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة إذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير. والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط.

والمقصود هنا: أن الله لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق إما واجب أو مستحب. فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك؟ بل قد حرم على العبد أن يسأل العبد ماله إلا عند الضرورة. وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور فهذا يثاب على ذلك وإن كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور فهذا من نفسه أتى ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط بل قد نهى عنه إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه، ويأمرنا أن نحسن إلى عباده وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه وهو الصلاة.
ولا قصد الإحسان إلى المخلوق الذي هو الزكاة وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال؛ لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: أنهم لا يسترقون. وإن كان الاسترقاء جائزا. وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا: أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك؛ بل هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله؛ وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} أي فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي وليؤمنوا بي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع. وقال تعالى: {فإذا فرغت فانصب}. {وإلى ربك فارغب} وقال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض}. وقال تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن}. وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به حتى لا يخاف أحد غير الله ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه.

وقال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} أي يخوفكم أولياءه {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله} وقال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.

فبين أن الطاعة لله ورسوله وأما الخشية فلله وحده. وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله} ونظيره قوله تعالى {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي تألهه القلوب؛ لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف حتى قال لهم: {لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد؛ ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد} {وقال له رجل: ما شاء الله وشئت.
فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده} وقال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وقال: {من حلف بغير الله فقد أشرك} وقال لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما أنت لاق؛ فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشيء كتبه الله لك ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشيء كتبه الله عليك} وقال أيضا: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} وقال: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد} وقال: {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم} وقال في مرضه: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد} يحذر ما صنعوا قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره؛ ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع.
ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه: فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب كما جعل المطر سببا لإنبات النبات. قال الله تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة} وكما جعل الشمس والقمر سببا لما يخلقه بهما وكما جعل الشفاعة والدعاء سببا لما يقضيه بذلك مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت؛ فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها ويثيب عليها المصلين عليه؛ لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب بل لا بد معه من أسباب أخر ومع هذا فلها موانع. فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود وهو - سبحانه - ما شاء كان - وإن لم يشأ الناس - وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله. الثاني: أن لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم فمن أثبت شيئا سببا بلا علم أو يخالف الشرع: كان مبطلا مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {: أنه نهى عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل}.
الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سببا إلا أن تكون مشروعة؛ فإن العبادات مبناها على التوقيف؛ فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره - وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه -
وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة - وإن ظن ذلك - فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان فلا يحل له ذلك إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فما أمر الله به: فمصلحته راجحة وما نهى عنه: فمفسدته راجحة وهذه الجمل: لها بسط لا تحتمله هذه الورقة. والله أعلم.

وسئل أحمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:
عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره: يطلب إزالة المرض الذي بهم ويقول: يا سيدي أنا في جيرتك أنا في حسبك فلان ظلمني فلان قصد أذيتي ويقول: إن المقبور يكون واسطة بينه وبين الله تعالى وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشايخ - حيهم وميتهم - الدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول: إن سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا وأمثال ذلك.

وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع؟ وفيمن يجيء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك؟ وفيمن يقصده بحاجته ويقول: يا فلان ببركتك أو يقول: قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ؟ وفيمن يعمل السماع ويجيء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخه على الأرض ساجدا.

وفيمن قال: إن ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود؟ أفتونا مأجورين وابسطوا القول في ذلك.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-03-2022 08:54 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (99)

من صــ 465 الى صـ
ـ 472

فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له واستعانته والتوكل عليه ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار كما قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} وقال تعالى:

{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة قال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي كما أنتم عبادي ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي.
فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟. وقال تعالى: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
فبين سبحانه أن من دعي من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه وأنه ليس له شريك في ملكه بل هو سبحانه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى فنفى بذلك وجوه الشرك. وذلك أن من يدعون من دونه إما أن يكون مالكا وإما أن لا يكون مالكا وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا وإما أن لا يكون شريكا وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاونا وإما أن يكون سائلا طالبا فالأقسام الأول الثلاثة وهي: الملك والشركة والمعاونة منتفية وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وكما قال تعالى:

{وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض} وقال تعالى: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} وقال تعالى {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} وقال تعالى:

{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} فإذا جعل من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافرا فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى: مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم أو وفاء دينه من غير جهة معينة أو عافية أهله وما به من بلاء الدنيا والآخرة وانتصاره على عدوه وهداية قلبه وغفران ذنبه أو دخوله الجنة أو نجاته من النار أو أن يتعلم العلم والقرآن أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكي نفسه وأمثال ذلك: فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ - سواء كان حيا أو ميتا - اغفر ذنبي ولا انصرني على عدوي ولا اشف مريضي ولا عافني أو عاف أهلي أو دابتي وما أشبه ذلك.
ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} الآية وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن " مسألة المخلوق " قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس: " {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله} " وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه:

أن لا يسألوا الناس شيئا فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " {يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون} " والاسترقاء طلب الرقية وهو من أنواع الدعاء ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك: ولك مثل ذلك}.

ومن المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليه وطلبنا الوسيلة له وأخبر بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك فقال في الحديث: " {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة}.
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه فقد روي طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودع عمر إلى العمرة وقال: " {لا تنسنا من دعائك يا أخي} لكن صلى الله عليه وآله وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشرا وأن من سأل له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أويسا القرني وقال لعمر:
" {إن استطعت أن يستغفر لك فافعل}وفي الصحيحين أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر لعمر استغفر لي لكن في الحديث أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر وثبت أن أقواما كانوا يسترقون وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقيهم. وثبت في الصحيحين {أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم فدعا الله لهم فسقوا} وفي الصحيحين أيضا:
أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استسقى بالعباس فدعا فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وفي السنن {أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. فسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك}. فأقره على قوله إنا نستشفع بك على الله وأنكر عليه نستشفع بالله عليك؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به.
وأما " زيارة القبور المشروعة " فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه إذا زارو القبور أن يقولوا: " {سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم} وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام}.
والله تعالى يثيب الحي إذا دعا للميت المؤمن كما يثيبه إذا صلى على جنازته: ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين. فقال عز من قائل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحي إلى الميت ولا مسألته ولا توسله به؛ بل فيها منفعة الحي للميت كالصلاة عليه والله تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه ويثيب هذا على عمله فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له}.
فصل:
وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
إحداها: أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل: فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 24-03-2022 09:02 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (100)

من صــ 473 الى صـ
ـ 480

وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا:

{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال سبحانه وتعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون} وقال تعالى:
{ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} وقال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فبين الفرق بينه وبين خلقه. فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته: إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما مودة وإما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه " {لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له}.
فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما اختاره كما قد يكره الشافع المشفوع إليه وكما يكره السائل المسئول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة. فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} والرهبة تكون من الله كما قال تعالى: {وإياي فارهبون} وقال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.
وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين فإن الله تعالى يقول: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقد روي: أن الصحابة قالوا يا رسول الله: ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية.
وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " {يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا بل تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول:
{إياك نعبد وإياك نستعين} وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: " {كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم: إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم:
إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به - قال - ويسمي حاجته} أمر العبد أن يقول: أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم. وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى درجة عند الله منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله تعالى: فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء - مثلا لما فيه من العدوان - فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله ولا يسعى فيما يبغضه الله وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول.
وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته. فهذا هو " القسم الثاني " وهو ألا تطلب منه الفعل ولا تدعوه ولكن تطلب أن يدعو لك. كما تقول للحي: ادع لي وكما كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي كما تقدم وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا ولا اسأل لنا ربك ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة ولا ورد فيه حديث بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال:
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله لنا واستسق لنا ونحن نشكو إليك مما أصابنا ونحو ذلك. لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون عليه فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع. وذلك أن في " الموطأ " وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

" {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وفي السنن عنه أنه قال " {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني} وفي الصحيح عنه أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: " {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبويها:

ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: " {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك} وفي سنن أبي داود عنه قال: " {لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج}. ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور وقالوا:
إنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} واختلف العلماء: هل على الناذر كفارة يمين؟ على قولين ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة أو فيها فضيلة ولا إن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور - قبور الأنبياء والصالحين - سواء سميت " مشاهد " أو لم تسم وقد شرع الله ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء. فقال تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} ولم يقل: المشاهد.
وقال تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} ولم يقل في المشاهد وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وقال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم {صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم {من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة}.
وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذها مساجد ولعن من يفعل ذلك وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين كما ذكره البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم وذكره وثيمة وغيره في " قصص الأنبياء " في قوله تعالى {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما؟ وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد}.
واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنه لا يتمسح به ولا يقبله؛ بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك.
ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت - اللذين يليان الحجر - ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين. حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان موجودا فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما فعله.
وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين. وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرجل الصالح في حياته وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره فإذا كان الأنبياء - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - والصالحون أحياء لا يتركون أحدا يشرك بهم بحضورهم؛
بل ينهونهم عن ذلك ويعاقبونهم عليه ولهذا قال المسيح عليه السلام {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} {وقال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده} وقال: " {لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد} ولما قالت الجويرية: {وفينا رسول الله يعلم ما في غد.

قال: دعي هذا قولي بالذي كنت تقولين}. وقال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " {ولما صفوا خلفه قياما قال: لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا}


http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 12:23 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (101)

من صــ 481 الى صـ
ـ 488



وَقَالَ أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه وقال: " {إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها - من عظم حقه عليها} ولما أتي علي بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.
فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا في الأرض وفسادا كفرعون ونحوه ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير. فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالح في حياته وحضوره وبين سؤاله في مماته ومغيبه ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم؛ لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف.
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه: ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك؛ لا في مغيبه ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب؛ فإن الكذب مقرون بالشرك وقد قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله. مرتين أو ثلاثا} وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} وقال الخليل عليه السلام {أئفكا آلهة دون الله تريدون} {فما ظنكم برب العالمين}. فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا. وقد تغويهم الشياطين كما تغوي عباد الأصنام كما كان يجري في العرب في أصنامهم ولعباد الكواكب وطلاسمها: من الشرك والسحر كما يجري للتتار والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين: من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك
فكثير من هؤلاء قد يجري له نوع من ذلك لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك: افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس؛ لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: " {اللهم: إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة.
يا محمد: يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفعه في} فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: " {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة.
خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. قالوا ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا قال الله تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} ونحو قوله: {كان على ربك وعدا مسئولا} وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " {يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم قال. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم} وقد جاء في غير حديث: " {كان حقا على الله كذا وكذا} كقوله: " {من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال - قيل: وما طينة الخبال؟ قال:{عصارة أهل النار}.
وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه؛ بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما في الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - {أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل. فادع الله لنا أن يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم: حوالينا ولا علينا. اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال: وأقلعت فخرجنا نمشي في الشمس} ففي هذا الحديث أنه قال: ادع الله لنا أن يمسكها عنا.
وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر قال: إني لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون. وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا.
فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية. والدعاء مخ العبادة. والعبادة مبناها على السنة والاتباع لا على الأهواء والابتداع وإنما يعبد الله بما شرع لا يعبد بالأهواء والبدع قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور.
(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)

جماع معنى الاعتكاف والاحتباس والوقوف والمقام.
يقال: عكف على الشيء يعكف ويعكف عكوفا, وربما قيل: عكفا: إذا أقبل عليه مواظبا. ومنه قوله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: آية 138]. وقوله سبحانه حكاية عن إبراهيم عليه السلام {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52] وقوله أيضا: {قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 71].
فعداه باللام؛ لأن المعنى: أنتم لها عابدون ولها قانتون.

777 - ومر علي رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟!
ويقال: فلان عاكف على فرج حرام
وعكف حول الشيء: استداروا.
وقال الطرماح:
فبات بنات اليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 12:30 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (102)

من صــ 489 الى صـ
ـ 496





ثم صار هذا في لسان الشرع عند الإطلاق مختصا بالعكوف لله وعليه في بيته:
كما قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187].
وقال تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: آية 125].
وقال في موضع آخر: {للطائفين والقائمين} [الحج: آية 26].
ولم يذكر العكوف لمن, وعلى من؛ لأن عكوف المؤمن لا يكون إلا لله.
ويستعمل متعديا أيضا, فيقال: عكفه يعكفه ويعكفه عكفا: إذا حبسه ووقفه؛ كما قال تعالى: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: آية 25] , ويقال: ما عكفك عن كذا؟ أي: ما حبسك عنه, وعكف الجوهر في النظم.
والتاء في الاعتكاف تفيد ضربا من المعالجة والمزاولة؛ لأن فيه كلفة؛ كما يقال: لست وألست, وعمل واعتمل, وقطع واقتطع.
وربما حسب بعضهم أنه مطاوع عكفه فاعتكف, كما يقال: انعكف عليه, وهو ضعيف.
ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبه ويعظمه؛ كما كان المشركون يعكفون على أصناهم وتماثيلهم, ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم؛ شرع الله سبحانه لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى.
وأخص البقاع بذكر اسمه سبحانه والعبادة له بيوته المبنية لذلك؛ فلذلك كان الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله فيه.
ولو قيل: لعبادة الله فيه؛ كان أحسن؛ فإن الطاعة موافقة الأمر, وهذا يكون بما هو في الأصل عبادة؛ كالصلاة, وبما هو في الأصل غير عبادة, وإنما يصير عبادة بالنية؛ كالمباحات كلها؛ بخلاف العبادة؛ فإنها التذلل للإله سبحانه وتعالى.
وأيضا؛ فإن ما لم يؤمر به من العبادات, بل رغب فيه: هو عبادة, وإن لم يكن طاعة؛ لعدم الأمر.
ويسمى أيضا الجوار والمجاورة.
778 - قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد, فأرجله وأنا حائض». رواه البخاري.
لأنه قد جاور الله سبحانه بلزوم بيته ومكانا واحدا لعبادته:
779 - كما في الحديث: يقول الله تعالى: أنا جليس من ذكرني».
ويسمى المقام بمكة مجاورة؛ لأنه مجاور بيت الله؛ كما يجاور الرجل بيت الرجل.
مسألة:
وهو سنة لا يجب إلا بالنذر.
في هذا فصلان:

أحدهما: أن الاعتكاف سنة وقربة بالكتاب والسنة والاجماع: أما الكتاب:
فقوله تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: آية 125].
وقوله في الآية الأخرى: {والقائمين} [الحج: آية 26].
وقوله سبحانه: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: آية 178].
وأما السنة:
780 - فروى ابن عمر؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان».
781 - وعن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى, ثم اعتكف أزواجه من بعده». متفق عليهما.

782 - وقد تقدم حديث أبي سعيد: «أنه اعتكف هو وأصحابه العشر الأوسط والآخر».
وفي رواية: «اعتكف العشر الأول أيضا».

783 - وكان يعتكف أزواجه معه.
وفاته الاعتكاف عاما فاعتكف في العام القابل عشرين.
وتركه مرة في رمضان فاعكتف العشر الأول من شوال.
وهذا كله يدل على محافظته صلى الله عليه وسلم.
وأجمع المسلمون على أنه قربة وعمل صالح.
وأيضا؛ ففيه من القرب والمكث في بيت الله, وحبس النفس على عبادة الله, وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله, والتخلي لأنواع العبادات المحضة من التفكر وذكر الله وقراءة القرآن والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار إلى غير ذلك من أنواع القرب.
784 - وقد روي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: «هو يعكف الذنوب, ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها». رواه ابن ماجه.
وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المعتكف قد حبس الذنوب ووقفها, وامتنع منها؛ فلا تخلص إليه.
785 - كما قال: «الصوم جنة».
وقد تهيأ لجميع العبادات.
فإن قيل: هذا الحديث فيه فرقد السبخي, وقد تكلم فيه, ولهذا قال أبو داوود: قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال: لا؛ إلا شيئا ضعيفا. وكذلك تقل أبو طالب.
قيل: فرقد السبخي رجل صالح, قد كتب الناس أحاديثه, وأحاديث الترغيب والترهيب يتسامح في أسانيدها؛ كما قال أحمد: إذا جاء الترغيب والترهيب؛ سهلنا, إذا جاء الحلال والحرام؛ شددنا.
وقول أحمد: «إلا شيئا ضعيفا»: إشارة إلى أن إسناده ليس قويا, وهذا القدر قدر لا يمنع الاحتجاج به في الأحكام؛ فكيف في الفضائل.
786 - وقد روى إسحاق بن راهوية, عن أبي الدرداء؛ قال: «من اعتكف ليلة؛ كان له كأجر عمرة, ومن اعتكف ليلتين؛ كان له كأجر عمرتين. . .» ثم ذكر على قدر ذلك.

الفصل الثاني: أنه ليس بواجب في الشرع, بل يجب بالنذر, وهذا إجماع.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا؛ إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا, فيجب عليه.
وهذا لأن الله لم يوجبه ولا رسوله, وكان أكثر الناس لا يعتكفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرهم به.
787 - بل قال لهم لما اعتكف العشر الأوسط: «إني أتيت, فقيل لي: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف؛ فليعتكف».
وترك الاعتكاف مرة, وهو مقيم, ثم قضاه في شوال.
وأما وجوبه بالنذر:
788 - فلما روت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع
الله؛ فليطعمه, ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصيه».
789 - وعن عمر: أنه قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: - «أوف بنذرك». متفق عليهما.
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

قال الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فأخبر أنها مواقيت للناس وهذا عام في جميع أمورهم وخص الحج بالذكر تمييزا له؛ ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم ولأنه يكون في آخر شهور الحول. فيكون علما على الحول كما أن الهلال علم على الشهر ولهذا يسمون الحول حجة فيقولون: له سبعون حجة وأقمنا خمس حجج. فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع ابتداء. أو سببا من العبادة. وللأحكام التي تثبت بشروط العبد. فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة. وهذه الخمسة في القرآن.
قال الله تعالى: {شهر رمضان} وقال تعالى: {الحج أشهر معلومات} وقال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} وقال تعالى: {فصيام شهرين متتابعين} وكذلك قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}. وكذلك صوم النذر وغيره.
وكذلك الشروط من الأعمال المتعلقة بالثمن ودين السلم والزكاة والجزية والعقل والخيار والأيمان وأجل الصداق ونجوم الكتابة والصلح عن القصاص وسائر ما يؤجل من دين وعقد وغيرهما. وقال تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وقال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} فقوله: {لتعلموا} متعلق والله أعلم بقوله: {وقدره} لا بجعل. لأن كون هذا ضياء.
وهذا نورا لا تأثير له في معرفة عدد السنين والحساب؛ وإنما يؤثر في ذلك انتقالها من برج إلى برج. ولأن الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر ولا سنة وإنما علق ذلك بالهلال. كما دلت عليه تلك الآية ولأنه قد قال: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} فأخبر أن الشهور معدودة اثنا عشر والشهر هلالي بالاضطرار.
فعلم أن كل واحد منها معروف بالهلال. وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضا إنما علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدل من بدل من أتباعهم كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية وكما تفعله النصارى في صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من أول السنة الشمسية وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين في اصطلاحات لهم فإن منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط ولهم اصطلاحات في عدد شهورها؛

لأنها وإن كانت طبيعية فشهرها عددي وضعي. ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 12:39 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (103)

من صــ 497 الى صـ
ـ 4





وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار. ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار ولهذا سموه هلالا؛ لأن هذه المادة تدل على الظهور والبيان: إما سمعا وإما بصرا كما يقال: أهل بالعمرة وأهل بالذبيحة لغير الله إذا رفع صوته ويقال لوقع المطر الهلل. ويقال: استهل الجنين إذا خرج صارخا. ويقال: تهلل وجهه إذا استنار وأضاء.
وقيل: إن أصله رفع الصوت.
ثم لما كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته سموه هلالا ومنه قوله: يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر وتهلل الوجه مأخوذ من استنارة الهلال. فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس ولا يشرك الهلال في ذلك شيء فإن اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال: أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس مع تعب وتضييع زمان كثير واشتغال عما يعني الناس وما لا بد له منه وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وأما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء فكان لا بد فيه من الحساب والعدد فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس وتكون السنة مطابقة للشهور؛ ولأن السنين إذا اجتمعت فلا بد من عددها في عادة جميع الأمم؛ إذ ليس للسنين إذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها فكان عدد الشهور موافقا لعدد البروج جعلت السنة اثني عشر شهرا بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية. وبهذا كله يتبين معنى قوله: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل.
وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال وكذلك قوله تعالى {قل هي مواقيت للناس والحج}. فظهر بما ذكرناه أنه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال ألبتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه وتيسر ذلك وعمومه وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد. ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد:
ازداد شكره على نعمة الإسلام مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئا من ذلك وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. فلهذا ذكرنا ما ذكرناه حفظا لهذا الدين عن إدخال المفسدين فإن هذا مما يخاف تغييره فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته فزادت به في السنة شهرا جعلتها كبيسا؛ لأغراض لهم.
وغيروا به ميقات الحج والأشهر الحرم حتى كانوا يحجون تارة في المحرم وتارة في صفر. حتى يعود الحج إلى ذي الحجة حتى بعث الله المقيم لملة إبراهيم فوافى حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وقد استدار الزمان كما كان ووقعت حجته في ذي الحجة فقال في خطبته المشهورة في الصحيحين وغيرهما:

{إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان} وكان قبل ذلك الحج لا يقع في ذي الحجة حتى حجة أبي بكر سنة تسع كان في ذي القعدة. وهذا من أسباب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج. وأنزل الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}.

فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيما؛ لما يدخله من الانحراف والاضطراب. ونظير الشهر والسنة اليوم والأسبوع. فإن اليوم طبيعي من طلوع الشمس إلى غروبها.
وأما الأسبوع فهو عددي من أجل الأيام الستة: التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم استوى على العرش. فوقع التعديل بين الشمس والقمر: باليوم والأسبوع بسير الشمس.
والشهر والسنة: بسير القمر وبهما يتم الحساب. وبهذا قد يتوجه قوله: {لتعلموا} إلى {جعل} فيكون جعل الشمس والقمر لهذا كله. فأما قوله تعالى {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} وقوله: {الشمس والقمر بحسبان} فقد قيل: هو من الحساب. وقيل: بحسبان كحسبان الرحا. وهو دوران الفلك. فإن هذا مما لا خلاف فيه بل قد دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على مثل ما عليه أهل المعرفة من أهل الحساب من أن الأفلاك مستديرة لا مسطحة.
فصل:
لما ظهر بما ذكرناه عود المواقيت إلى الأهلة. وجب أن يكون المواقيت كلها معلقة بها. فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية: مثل أن يصوم للكفارة في هلال المحرم أو يتوفى زوج المرأة في هلال المحرم أو يولي من امرأته في هلال المحرم أو يبيعه في هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة. فإن جميع الشهور تحسب بالأهلة. وإن كان بعضها أو جميعها ناقصا.
فأما إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر. فقد قيل: تحسب الشهور كلها بالعدد بحيث لو باعه إلى سنة في أثناء المحرم عد ثلاثمائة وستين يوما وإن كان إلى ستة أشهر عد مائة وثمانين يوما فإذا كان المبتدأ منتصف المحرم كان المنتهى العشرين من المحرم. وقيل: بل يكمل الشهر بالعدد والباقي بالأهلة. وهذان القولان روايتان عن أحمد وغيره. وبعض الفقهاء يفرق في بعض الأحكام.

(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال: وقوله: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} قال: والقصاص ليس بعدوان؟ فيقال: العدوان مجاوزة الحد لكن إن كان بطريق الظلم كان محرما وإن كان بطريق القصاص كان عدلا مباحا فلفظ العدوان في مثل هذا هو تعدي الحد الفاصل لكن لما اعتدى صاحبه جاز الاعتداء عليه والاعتداء الأول ظلم والثاني مباح ولفظ عدل مباح. ولفظ الاعتداء هنا مقيد بما يبين أنه اعتداء على وجه القصاص بخلاف العدوان ابتداء فإنه ظلم فإذا لم يقيد بالجزاء فهم منه الابتداء: إذ الأصل عدم ما يقابله.
(فصل)
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

" وجماع الأمر " أن الذنوب كلها ظلم: فإما ظلم العبد لنفسه فقط أو ظلمه مع ذلك لغيره؛ فما كان من ظلم الغير فلا بد أن يشرع من عقوبته ما يدفع به ظلم الظالم عن الدين والدنيا كما قال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} فجعل السبب المبيح لعقوبة الغير التي هي قتاله: {بأنهم ظلموا}.

وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فبين أن الظالم يعتدى عليه: أي بتجاوز. الحد المطلق في حقه؛ وهو العقوبة وهذا عدوان جائز كما قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

وقول بعضهم: إن هذا ليس بعدوان في الحقيقة وإنما سماه عدوانا على سبيل المقابلة كما قالوا مثل ذلك في قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. لا يحتاج إليه؛ فإن العدوان المطلق هو مجاوزة الحد المطلق وهذا لا يجوز في حقه إلا إذا اعتدى فيتجاوز الحد في حقه بقدر تجاوزه.
(وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ... (196)
جماع معنى الحج في أصل اللغة: قصد الشيء وإتيانه، ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجيء ويسمى ما يقصد الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه، ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة، وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به سواء قصده القاصد لمصلحته أو لمصلحة غيره، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ".
وقول في حاجة الله، وحاجة رسوله.
ومعلوم أنه إنما يقصد ويؤتى: ما يعظم ويعتقد الانتفاع به وإذا كان كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة: الحج القصد، ويقول بعضهم: هو القصد إلى من يعظم، ويقول بعضهم: كثرة القصد إلى من يعظمه. ورجل محجوج، ومكان محجوج، أي مقصود مأتي. ومنه قوله:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت: يقول يكثرون الاختلاف إليه.
وقوله:
قالت تغيرتم بعدي فقلت لها ... لا والذي بيته يا سلم محجوج
ثم غلب في الاستعمال الشرعي، والعرفي على حج بيت الله - سبحانه وتعالى - وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] وقال سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] وقد بين المحجوج في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وقوله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فإن اللام في قوله {البيت} [البقرة: 158] لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الآخر.

وفيه لغتان قد قرئ بهما. الحج، والحج، والحجة بفتح الحاء وكسرها. ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت، فإذا أطلق الاسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة ; إما في الحج الأكبر، أو الأصغر.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 12:47 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (104)

من صــ 5 الى صـ
ـ 12





سئل شيخ الإسلام - رحمه الله ورضي عنه -:
عن العمرة هل هي واجبة؟ وإن كان فما الدليل عليه؟
فأجاب:
فصل:
والعمرة في وجوبها قولان للعلماء هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عنهما وجوبها. والقول الآخر لا تجب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله: {ولله على الناس حج البيت} لم يوجب العمرة وإنما أوجب إتمامهما. فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما وفي الابتداء إنما أوجب الحج. وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وهذا كله داخل في الحج.

وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين فلم يفرض وقتين ولا طوافين ولا سعيين ولا فرض الحج مرتين. وطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع.

ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض لا كون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج. ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة. لا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لسبب عارض. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
وقال - رحمه الله تعالى -:
والأظهر أن العمرة ليست واجبة وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه سواء ترك العمرة عامدا أو ناسيا؛ لأن الله إنما فرض في كتابه حج البيت بقوله: {ولله على الناس حج البيت}. ولفظ الحج في القرآن لا يتناول العمرة بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج كقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} وقوله: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس.
وآية آل عمران نزلت بعد ذلك سنة تسع أو عشر، وفيها فرض الحج. ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرا. ومن قال: إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام وهو غلط فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيها بابتداء الحج والعمرة. والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه الآية ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه الآية. فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام. ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالمشروع فيجب إتمامهما. وتنازعوا في الصيام والصلاة والاعتكاف.
وأيضا فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال وهذا كله موجود في الحج.
والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين ولا فرض شيئا من فرائضه مرتين لم يفرض فيه وقوفين ولا طوافين؛ بل الفرض طواف الإفاضة وأما طواف الوداع فليس من الحج وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة ولهذا لا يطوف من أقام بمكة وليس فرضا على كل أحد بل يسقط عن الحائض ولو لم يفعله لأجزأه دم ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض والوقوف. وكذلك السعي لا يجب إلا مرة واحدة والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة ورمي كل جمرة في كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة. فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة لا مرتين علم أن الله لم يفرض العمرة.
والحديث المأثور في {أن العمرة هي الحج الأصغر} قد احتج به بعض من أوجب العمرة وهو إنما يدل على أنها لا تجب؛ لأن هذا الحديث دال على حجين: أكبر وأصغر. كما دل على ذلك القرآن في قوله: {يوم الحج الأكبر} وإذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين: أكبر وأصغر.
والله تعالى لم يفرض حجين وإنما أوجب حجا واحدا والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر وهو الذي فرضه الله على عباده وجعل له وقتا معلوما لا يكون في غيره كما قال {يوم الحج الأكبر} بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه بل تفعل في سائر شهور العام. ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء.

فكذلك الحج؛ فإنهما عبادتان من جنس واحد: صغرى وكبرى. فإذا فعل الكبرى لم يجب عليه فعل الصغرى ولكن فعل الصغرى أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل. وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال: {دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة} كما قد بسط في موضع آخر. والله أعلم.

وسئل رحمه الله:
ماذا يقول أهل العلم في رجل ... آتاه ذو العرش مالا حج واعتمرا
فهزه الشوق نحو المصطفى طربا ... أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا
أم حجة عن أبيه ذاك أفضل أم ... ماذا الذي يا سادتي ظهرا
فأفتوا محبا لكم فديتكمو ... وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا
فأجاب رضي الله عنه:
نقول فيه بأن الحج أفضل من ... فعل التصدق والإعطاء للفقرا
والحج عن والديه فيه برهما ... والأم أسبق في البر الذي ذكرا
لكن إذا الفرض خص الأب كان إذا ... هو المقدم فيما يمنع الضررا
كما إذا كان محتاجا إلى صلة ... وأمه قد كفاها من برا البشرا
هذا جوابك يا هذا موازنة ... وليس مفتيك معدودا من الشعرا.
[مسألة الإحصار]
مسألة: (والمحصر يلزمه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام).

وجملة ذلك: أن المحرم بالحج إذا صده عدو عن البيت، ولم يكن له طريق آخر يذهب فيه، أو صد عن دخول الحرم: فإنه يجوز له التحلل ويرجع لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] والتحلل لا يكون إلا بنية الإحلال والخروج من الإحرام. فلو حلق، أو ذبح، أو فعل شيئا من المحظورات غير ناو للتحلل: لم يصر حلالا، بخلاف ما لو فعل ذلك بعد إتمام النسك؛ لأنه إذا تم نسكه صار حلالا بالشرع حتى لو نوى دوام الإحرام لم يصح، كالصيام إذا غربت الشمس؛ والمصلي إذا سلم.
وإذا لم يتم: فهو مخير بين الإتمام والإحلال كالمريض الصائم والمصلي الذي يجوز له قطع الصلاة. لا يخرج من العبادة إلا بما ينافيها من النية ونحوها، لكن المحرم لا يفسد إحرامه إلا بالوطء ولا بد من .. . .
وليس له أن يتحلل حتى ينحر هديا إن أمكنه؛ لأن الله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] فأمر بإتمام الحج والعمرة وجعل ما استيسر من الهدي في حق المحصر قائما مقام الإتمام.
وهذا يدل على وجوب الهدي من وجوه؛ أحدها: أن التقدير: فإن أحصرتم فعليكم ما استيسر من الهدي، أو ففرضكم ما استيسر فهو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، ترك ذكر المحذوف لدلالة سياق الكلام عليه، كما قال:

{ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]، وكما قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185].

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif


ابوالوليد المسلم 07-04-2022 04:05 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (105)

من صــ 13 الى صـ
ـ 20



الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ وَجَعَلَ الْهَدْيَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ قَائِمًا مَقَامَ الْإِتْمَامِ. وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ فَمَا قَامَ مَقَامَهُ يَكُونُ وَاجِبًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَنْحَرَ الهدي؛ لأنه بدل عن تمام النسك. ولا يجوز له التحلل حتى يتم النسك.
الثالث: أن قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] كقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، وذلك أن الإحصار المطلق هو الذي يتعذر معه الوصول إلى البيت، وهذا يوجب الهدي لا محالة.
الرابع: أنه قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] وهذا عام .. . فإن أراد التحلل قبل النحر: لم يكن له ذلك. حتى لو رفض إحرامه وفعل شيئا من المحظورات فهو باق على إحرامه.
قال أصحابنا: فإن تحلل قبل الهدي فعليه دم لأجل إحلاله.
وقال أبو الخطاب: وإن نوى التحلل قبل الهدي والصيام ورفض الإحرام: لزمه دم وهو على إحرامه. ومعناه: إذا كان الرفض بالحلق ونحوه. فأما إن تعددت المحظورات .. . .
وإذا نحر الهدي: صار حلالا بمجرد ذلك مع نية الإحلال في إحدى الروايتين اختارها القاضي. وهذا ينبني على أن الحلاق ليس بواجب على المحرم المتم. فعلى المحصر أولى، وينبني أيضا على أن الحلق .. . .
قال القاضي: فعلى هذا يحل من إحرامه بأدنى ما يحظره الإحرام من طيب، أو غيره، والأشبه: أنه لا يحتاج إلى ذلك بل بنفس الذبح.
والرواية الثانية: عليه أن يحلق رأسه؛ لأن الحلاق واجب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حلقوا رءوسهم في عمرة الحديبية.
فصل
وينحر الهدي في موضع حصره حيث كان من حل، أو حرم، هذا هو المنصوص عن - في مواضع - وعليه أكثر أصحابه.
وقال أبو بكر: إن أمكنه أن يبعث بالهدي حتى ينحر بمكة في الموضع بعث به، وإلا حل يوم النحر.
قال ابن أبي موسى: قال بعض أصحابنا: لا ينحر هدي الإحصار إلا بالحرم.
لقوله {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، وقوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33]؛ لأن الله قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، ثم قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] والهدي المطلق: إنما هو ما أهدي إلى الحرم بخلاف النسك، ثم إنه قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196]. وهدي المحصر داخل في هذا، لا سيما وقد تقدم ذكره.
ومحل الهدي: الحرم لقوله سبحانه: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
ولأنه لو كان محله موضع الحصر لكان قد بلغ محله، ومن قال هذا زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر بالحرم، وأن طرف الحديبية من الحرم.

ووجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما صدهم المشركون عن العمرة زمن الحديبية: نحروا وحلقوا بالحديبية عند الشجرة وهي من الحل.

ولأن الحل: موضع للتحلل في حق المحصر، فيكون موضعا للنحر كالحرم، وهذا لأن محل شعائر الله إلى البيت العتيق من الأعمال والهدي، فمتى طاف المحرم بالبيت: فقد شرع في التحلل، ومتى وصلت الهدايا إلى الحرم: فقد بلغت محلها. وهذا عند القدرة والاختيار.
فأما في موضع العجز: فقد جوز الله للمحصر أن يحل من إحرامه بالحل، وصار محلا له فكذلك يصير محلا لهديه، ولا يقال: الهدي قد يمكن إرسالها .. . .
وأما قوله: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] فإن محله المكان الذي يحل فيه؛ وهذا في حال الاختيار هو الحرم، كما قال: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: 25]. فأما حال الاضطرار فإنه قد حل ذبحه للمحصر حيث لا يحل لغيره.
[مسألة هدي التمتع]
مسألة: (الضرب الثاني: على الترتيب وهو هدي التمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد فيصام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع).
هذا الهدي واجب بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196].
وبالسنة كما تقدم عن ابن عمر، وبالإجماع.
وفيه فصول: -
الأول: في الهدي ويجزئ فيه ما يجزئ في الأضحية وهو بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم؛ لأن الله قال: {فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] والغنم: الهدي بدليل قوله في جزاء الصيد: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، ولا يقال: فقد يدخل في الجزاء ما لا يدخل في مطلق الهدي من الصغير والمعيب ويسمى هديا؛ لأن ذلك إنما وجب باعتبار المماثلة المذكورة في قوله: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] وفي آية التمتع أطلق الهدي، ولم يعتبر فيه مماثلة شيء؛ ولأن ذلك يدل على أن المعيب والصغير من الأزواج الثمانية يكون هديا، وهذا صحيح، كما أن الرقبة المعيبة تكون رقبة في العتق، لكن الواجب في مطلق الهدي والرقبة: إنما يكون صحيحا على الوجه المشروع.
وعلم ذلك بالسنة؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم («أهدى مرة غنما») متفق عليه.
وعن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: («قسم بين أصحابه في متعتهم غنما، فأصاب سعدا يومئذ تيس») رواه سعيد.
ولا يجب عليه الهدي حتى يكون واجدا له؛ إما بأن يكون مالكه، أو يجد ثمنه. فإن كان عادما بمكة واجدا ببلده بحيث يمكنه أن يقترض: لم يجب ذلك عليه نص عليه في رواية الأثرم إذا وجب عليه هدي متعة وليس معه نفقة وهو ممن لو استقرض أقرض فلا يستقرض ويهدي، قال الله: {فمن لم يجد فصيام} [البقرة: 196] وهذا ليس بواجد؛ وذلك لأنه قد وجب عليه الهدي، أو بدله في مكة فلم يجب عليه الاقتراض، كما لو عدم الماء، وهذا بخلاف عادم الرقبة في الظهار على أحد .. . .
ولأنها عبادة مؤقتة ذات بدل، فإذا عدم المبدل حين الوجوب: جاز له الانتقال إلى بدله كالطهارة.
فصل
وأما صيام السبعة فيجوز تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله، فإذا رجع إليهم فإن صامها في طريقه، أو في مكة بعد أيام منى وبعد التحلل الثاني جاز، وإن صامها قبل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول لم يجز سواء رجع إلى وطنه، أو لم يرجع ذكره القاضي .. . .
قال - في رواية أبي طالب -: إن قدر على الهدي وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة أم في الطريق؟ قال: كيف شاء.
وقال - في رواية الأثرم - وقد سأله عن صيام السبعة، يصومهن في الطريق أم في أهله؟ فقال: كل قد تأوله الناس ووسع في ذلك كله.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196].
فذهب القاضي وأصحابه وغيرهم إلى أن معنى ذلك: إذا رجعتم من الحج؛ لأنه قد قال تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] ثم قال: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] فتقدير الرجوع من الحج - الذي تقدم ذكره - أولى من تقدير الرجوع من السفر؛ لأنه لم يذكر، ولأنه لو رجع إلى أهله قبل الإحلال الثاني، لم يجز الصوم. فعلم أن الحكم مقيد بالرجوع من الحج فقط، ويصح تسميته راجعا من الحج بمعنيين:
أحدهما: أنه قد عاد إلى حاله قبل الإحرام من الإحلال.
والثاني: أنه يفعل في أماكن مخصوصة، فإذا قضاه ورجع عن تلك الأماكن وانتقل عنها سمي راجعا بهذا الاعتبار.
وفيها طريقة أخرى أحسن من هذه، وهي طريقة أكثر السلف أن معنى الآية: إذا رجعتم إلى أهلكم وهي طريقة أحمد؛ لأنه قال: إذا فرط في الصوم وهو متمتع صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم.
وقال - في رواية جماعة -: عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم؛ وإن شاء صام في الطريق؛ وذلك لما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(«لما قدم مكة، قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله»). وذكر الحديث. وهذا تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم -.


http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 04:12 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (106)

من صــ 21 الى صـ
ـ 28


فصل
ويجوز أن يصوم كل واحد من الثلاثة والسبعة متفرقا، كما يجوز أن يصومه متتابعا نص عليه؛ لأن الله - سبحانه - أطلقه ولم يقيده بالتتابع، فيبقى على ما أطلقه الله - سبحانه -.
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله ... (197)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال: وقوله: {أشهر معلومات} والأشهر ليست هي الحج؟ فيقال: معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات ليس المراد أن نفس الأفعال هي الزمان ولا يفهم هذا أحد من اللفظ ولكن قد يقال: في الكلام محذوف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارا كما أنهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة في تحقيق المعنى.
فالأول كقوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} فمعلوم أن المراد فضرب فانفلق لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك في اللفظ إذ كان قوله: قلنا: (أن اضرب)؛ فانفلق: دليلا على أنه ضرب فانفلق. وكذلك قوله: {من آمن} تقديره بر من آمن أو صاحب من آمن. وكذلك قوله: {الحج أشهر} أي: أوقات الحج أشهر فالمعنى متفق عليه لكن الكلام في تسمية هذا مجازا وقول القائل: نفس الحج ليس بأشهر؛ إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام؛ وليس كذلك بل مدلوله عند من تكلم به أو سمعه: أن أوقات الحج أشهر معلومات.
[مسألة أشهر الحج]
مسألة: (وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة).
هذا نصه ومذهبه قال في رواية عبد الله: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وقال في رواية ... .
ويوم النحر من أشهر الحج وهو يوم الحج الأكبر، نص عليه في رواية حرب وأبي طالب، وذلك لما روى أبو الأحوص عن عبد الله قال: " أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم.

[وعن ابن الزبير في قوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] قال: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، رواه سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم]، وعن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة جعله الله للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر " رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عنه.

وعن الضحاك عن ابن عباس قال: " أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه الدارقطني.
وعن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: " أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والدارقطني، وفي لفظ: وعشر ذي الحجة، وذكره البخاري في صحيحه وهذا قول الشعبي والنخعي ومجاهد والضحاك وعطاء والحسن، ومرادهم بعشر من ذي الحجة عشر ذي الحجة بكماله، كما قد جاء في روايات أخرى.
وعشر ذي الحجة:
اسم لمجموع الليالي وأيامها، فإن يوم النحر من عشر ذي الحجة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: («ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر») وقال تعالى: {وليال عشر} [الفجر: 2] ويوم النحر داخل فيها، وقال تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142]ويوم النحر هو آخر الأربعين، ولفظ العشر - وإن كان في الأصل اسما للمؤنث لأنه بغير هاء -: فإنما دخل فيه اليوم لسببين:
أحدهما: أنهم في التاريخ إنما يؤرخون بالليالي؛ لأنها أول الشهر الهلالي وتدخل الأيام تبعا، ولهذا لو نذر اعتكاف عشر ذي الحجة لزمه اعتكاف يوم النحر.
الثاني: أنه قد يجيء هذا في صفة المذكر بغير هاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - («من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال») وقوله: (من هذه الأيام العشر).
وأيضا فإن يوم النحر يوم الحج الأكبر.
وأيضا فإن أشهر الحج هي الأشهر التي سن الله فيها الحج وشرعه، والحج له إحرام وإحلال، فأشهره هي: الوقت الذي يسن فيه الإحرام به والإحلال منه.
وأول وقت شرع الإحرام فيه بالحج شوال والوقت الذي يشرع فيه الإحلال: يوم النحر، وما بعد يوم النحر لا يشرع التأخير إليه، وليلة النحر لا يسن التعجيل فيها كما لا يسن الإحرام بالحج قبل أشهره.
وأيضا: فإن هذه المدة أولها عيد الفطر وآخرها عيد النحر، والحج هو موسم المسلمين وعيدهم فكأنه جعل طرفي وقته عيدين.
فإن قيل: فقد روى عروة بن الزبير قال: قال عمر بن الخطاب: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة: 197] قال عمر بن الخطاب: لا عمرة في أشهر الحج فكلم في ذلك فقال: إني أحب أن يزار البيت، إذا جعلت العمرة في أشهر الحج لم يفد الرجل إذا حج البيت أبدا ".
وعن التميمي عن ابن عباس قال: " شوال وذو القعدة وذو الحجة " [ذكره البخاري، وعن مجاهد عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة] رواهن سعيد.

قيل: ليس بين الروايتين اختلاف في المعنى، كما يقال: قد مضى ثلاثة أشهر وإن كان قبل ذلك في أثناء الشهر الثالث، ويقال: له خمسون سنة وإن كان لم يكملها، فكثير ما يعبر بالسنين والشهور والأيام عن التام منها والناقص، فمن قال: وذو الحجة أنه من شهور الحج في الجملة، ومن قال: وعشر ذي الحجة فقد بين ما يدخل منه في شهور الحج على سبيل التحديد والتفصيل.

فإن قيل: فقد قال {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197].
قلنا: الشهران وبعض الثالث تسمى شهورا، لا سيما إذا كانت بالأهلة.
وذكر القاضي: أن فائدة هذه المسألة اليمين. وليس كذلك، وهذا التحديد له فائدة في أول الأشهر، وهو أنه لا يشرع الإحرام بالحج قبلها، وأن الأفضل أن يعتمر قبلها، وهي عمرة رمضان وأنه إن اعتمر فيها كان متمتعا، وقبل ذلك هو وقت الصيام، فإذا انسلخ دخل وقت الإحرام بالحج.
ومن فوائده: أنه لا يأتي بالأركان قبل أشهره، فلو أحرم بالحج قبل أشهره وطاف للقدوم لم يجزه سعي الحج عقيب ذلك؛ لأن أركان العبادة لا تفعل إلا في وقتها، وفائدته في آخر الأشهر أن السنة أن يتحلل من يوم النحر فلا يتقدم قبل ذلك ولا يتأخر عن ذلك فإنه أكمل وأفضل.
وذكر ابن عقيل: أن طواف الزيارة في غير أشهر الحج مكروه.

(وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب (197)

عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون يقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا سألوا الناس؛ فقال الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجا كان مطيعا لله في هذين الأمرين بخلاف من ترك ذلك ملتفتا إلى أزواد الحجيج كلا على الناس؛ وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين فهو ملتفت إلى الجملة لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 04:19 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (107)

من صــ 29 الى صـ
ـ 36





(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198)
سئل شيخ الإسلام:
أيما أفضل: يوم عرفة أو الجمعة أو الفطر أو النحر؟
فأجاب:
الحمد لله، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء. وأفضل أيام العام هو يوم النحر. وقد قال بعضهم يوم عرفة والأول هو الصحيح؛ لأن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر} لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {يوم النحر هو يوم الحج الأكبر}. وفيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة وحدها والنحر والحلق وطواف الإفاضة فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة واتفاق العلماء والله أعلم.
وسئل: (*)
عن يوم الجمعة ويوم النحر أيهما أفضل؟

فأجاب:
يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم النحر أفضل أيام العام. قال ابن القيم: وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه.
وسئل:
عن أفضل الأيام؟
فأجاب:
الحمد لله، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها. وأفضل أيام العام: يوم النحر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر}.

(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)

قالت عائشة: " «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله: " {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199]»
" وفي لفظ: " «قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: {أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] رجعوا إلى عرفات» " متفق عليه.
وعن جبير بن مطعم قال: " «أضللت بعيرا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحمس، فما شأنه هاهنا، وكانت قريش تعد من الحمس» " متفق عليه.
وعن جابر قال: «كانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثم، فأجاز ولم يعرض حتى أتى عرفات فنزل» رواه مسلم.
فإن قيل: كيف قيل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] والإفاضة من عرفات بعد قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198].
قيل: قد قيل: إنه لترتيب الإخبار، ومعناه أن الله يأمركم إذا أفضتم من عرفات أن تذكروه عند المشعر الحرام، ثم يأمركم أن تفيضوا من حيث أفاض الناس، وترتيب الأمر لا يقتضي ترتيب الفعل المأمور به، وإنما أمر بهذا بعد هذا لأن الأول أمر لجميع الحجيج، والثاني: أمر للحمس خاصة، ويقال: إنه معطوف على قوله: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال} [البقرة: 197] إلى قوله: فاتقوا. . . {ثم أفيضوا} [البقرة: 199] ويكون معناه: فمن فرض الحج فلا يرفث ولا يفسق، ثم بعد فرض الحج يفيض من حيث أفاض الناس، ويكون الكلام في بيان المحظورات والمفروضات.
فإن قيل: لم ذكر لفظ الإفاضة دون الوقوف؟
قيل: لأنه لو قال: ثم قفوا حيث وقف الناس لظن أن الوقوف بعرفة يجزئ في كل وقت بحيث يجوز تقديمه، وأما الإفاضة فإنها الدفع بعد تمام الوقوف، وقد علموا أن وقت الدفع هو آخر يوم عرفة، فإذا أمروا بالإفاضة منها علم أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الإفاضة، وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج، فلا تتجاوز ولا يقصر عنها ; لأن المقصر والمجاوز لا يفيضان منها.
وأما السنة فما روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء الليثي، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي: " «أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلا خلفه ينادي بهن» " رواه الخمسة، قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري.
وفي رواية لسعيد: «من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه».

وفي رواية له: «فمن أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه».
(واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)


[مسألة الرمي]
مسألة: (والرمي).
لا يختلف المذهب أن الرمي واجب ; لأن الله سبحانه قال: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] إلى قوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] إلى قوله: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول} [البقرة: 200] الآية. إلى قوله: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} [البقرة: 203].

فأمر سبحانه - بعد قضاء المناسك - بذكر الله سبحانه، وأمر بذكره في أيام معدودات أمرا يختص الحاج ; لأنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم} [البقرة: 203]
{عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة: 203] وإنما يمكن ذلك للحاج. فعلم أنهم مأمورون بهذا الذكر بمنى، وليس بمنى ذكر ينفرد به الحج إلا ذكر الجمار، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «إنما جعل الطواف بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» "، فعلم أن رمي الجمار شرع لإقامة ذكر الله المأمور به في قوله: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203].
وأيضا: فإنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203] فعلم أنه من تعجل قبل اليومين لا يزول عنه الإثم، وإنما ذاك لأن بمنى فعلا واجبا، ولا فعل بها إلا رمي الجمار، لأن المبيت أخف منه، وإنما وجب تبعا له.
وأيضا: فإنه أمر بالذكر في الأيام، وجعل التعجيل فيها: فلا بد من فعل واجب في الأيام.
وأيضا: فما روى.
ومن رمى بحجر قد رمى به: لم يجزه ومن رمى بذهب، أو فضة: لم يجزه قولا واحدا.
وفي غير الحصى روايتان؛ إحداهما لا يجزئه إلا الحجر، فليعد الرمي.
والثانية: يجزئه مع الكراهة.

(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
إذا فعل العبد ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملا فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن. وفي مثله أنزل الله قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب: " أن رجلا حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا ولكنه ممن قال الله فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد}.

__________
Qقال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 204):
وهذا السؤال، والجواب، والتعليق، ذكره ابن القيم في (البدائع) أيضا: 3/ 162.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 04:28 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (108)

من صــ 37 الى صـ
ـ 44



[فصل البرهان الثامن " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " والجواب عليه]
فصل قال الرافضي: " البرهان الثامن: قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [سورة البقرة: 7 - 2].
قال الثعلبي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، فقال له: «يا علي، اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه - إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله.

إليها: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد - عليه الصلاة والسلام - فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فنزلا، فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة؟ فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}» [سورة البقرة: 207].

وقال ابن عباس: إنما نزلت في علي لما هرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين إلى الغار، وهذه فضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية علي على جميع الصحابة، فيكون هو الإمام ".
الجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل. ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك، بل روايتهم، ليس بحجة باتفاق طوائف [أهل] السنة والشيعة. لأن هذا مرسل متأخر، ولم يذكر إسناده، وفي نقله من هذا الجنس للإسرائيليات والإسلاميات أمور يعلم أنها باطلة، وإن كان هو لم يتعمد الكذب.
ثانيها: أن هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسيرة، والمرجع إليهم في هذا الباب. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي، وإنما كان مطلوبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر، وجعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به، كما ثبت ذلك في الصحيح الذي لا يستريب أهل العلم في صحته، وترك عليا في فراشه ليظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت فلا يطلبوه، فلما أصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم، ولم يؤذوا عليا، بل سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرهم أنه لا علم له به، ولم يكن هناك خوف على علي من أحد، وإنما كان الخوف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه، ولو كان لهم في علي غرض لتعرضوا له لما وجدوه، فلما لم يتعرضوا له دل على أنهم لا غرض لهم فيه، فأي فداء هنا بالنفس؟.

والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه، ويكون الضرر به دونه ; هو أبو بكر. كان يذكر الطلبة فيكون خلفه، ويذكر الرصد فيكون أمامه، وكان يذهب فيكشف له الخبر. وإذا [كان] هناك ما يخاف أحب أن يكون به لا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

وغير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب، فمنهم من قتل بين يديه، ومنهم من شلت يده، كطلحة بن عبد الله. وهذا واجب على المؤمنين كلهم. فلو قدر أنه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، فكيف إذا لم يكن هناك خوف على علي؟.

قال: ابن إسحاق في " السيرة " - مع أنه من المتولين لعلي المائلين إليه - وذكر خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من منزله، واستخلاف علي على فراشه ليلة مكر الكفار به، قال: " «فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.

قال: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى، ينام، فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامهم قال لعلي: نم على فراشي واتشح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
وعن محمد بن كعب القرظي قال: «لما اجتمعوا له، وفيهم: أبو جهل، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم [من] بعد موتكم، فجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه، فلا يرونه. . . ولم يبق منهم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا.
قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش مسجى ببرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه بردة.
فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا وكان مما أنزل الله [من القرآن] ذلك اليوم: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [سورة الأنفال: 30]وقوله: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} الآية [سورة الطور: 30] وأذن الله لنبيه في الهجرة عند ذلك». فهذا يبين أن القوم لم يكن لهم غرض في علي أصلا.
وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " اتشح ببردي هذا الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه ". فوعده - وهو الصادق - أنه لا يخلص إليه مكروه، وكان طمأنينته بوعد الرسول [- صلى الله عليه وسلم -].
الرابع: أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى، فإن الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم، وليس أحدهما جائعا فيؤثره الآخر بالطعام، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالأمن، فكيف يقول الله لهما: أيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل، وأن الرزق والمطر لميكائيل.
ثم إن كان الله قضى بأن عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه، وإن قضاه لواحد وأراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول، أو يؤثر به أحدهما الآخر، وهما راضيان بذلك، فلا كلام. وأما إن كانا يكرهان ذلك، فكيف يليق بحكمة الله ورحمته أن يحرش بينهما، ويلقي بينهما العداوة؟ ولو كان ذلك حقا - تعالى الله عن ذلك - ثم هذا القدر لو وقع مع أنه باطل، فكيف تأخر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة؟ وإنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما.
الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليا ولا غيره، بل كل ما روي في هذا فهو كذب.
وحديث المؤاخاة الذي يروى في ذلك - مع ضعفه وبطلانه - إنما فيه مؤاخاته له في المدينة، هكذا رواه الترمذي، فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين.
وأيضا فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.
السادس: أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من أعظم المنكرات ; فإن الله يحفظ من شاء من خلقه بدون هذا. وإنما روي هبوطهما يوم بدر للقتال، وفي مثل تلك الأمور العظام، ولو نزلا لحفظ واحد من الناس لنزلا لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد.
السابع: أن هذه الآية في سورة البقرة، وهي مدنية بلا خلاف، وإنما نزلت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته.

وقد قيل: إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون، فأعطاهم ماله، وأتى المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ربح البيع أبا يحيى ". وهذه القصة مشهورة في التفسير، نقلها غير واحد. وهذا ممكن ; فإن صهيبا هاجر من مكة إلى المدينة.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 04:35 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (109)

من صــ 45 الى صـ
ـ 52



قال ابن جرير: " اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه، ومن عني بها فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعني بها المجاهدون في سبيل الله ".
وذكر بإسناده هذا القول " وعن قتادة قال: وقال بعضهم: نزلت في قوم بأعيانهم " وروى عن " القاسم قال: حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريج، عن عكرمة قال: «نزلت في صهيب وأبي ذر جندب، أخذ أهل أبي ذر أبا ذر فانفلت منهم، فقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجع مهاجرا عرضوا له، وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضا حتى قدم عليه، وأما صهيب فأخذ أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان،فخرج له مما بقي من ماله فخلى سبيله».
وقال آخرون: عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيل الله، وأمر بمعروف ".
ونسب هذا القول إلى عمر بل وابن عباس، وأن صهيبا كان سبب النزول.
الثامن: أن لفظ الآية مطلق، ليس فيه تخصيص. فكل من باع نفسه ابتغاء مرضات الله فقد دخل فيها.
وأحق من دخل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه فإنهما شريا نفسهما ابتغاء مرضات الله، وهاجرا في سبيل الله، والعدو يطلبهما من كل وجه.

التاسع: أن قوله: " هذه فضيلة لم تحصل لغيره [فدل على أفضليته] فيكون هو الإمام ".
فيقال: لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنة والإجماع، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام.
فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه. يقول الله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعا، بخلاف الوقاية بالنفس، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه. وهذا واجب على كل مؤمن، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة.
والأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات. يبين ذلك أنه لم ينقل أحد أن عليا أوذي في مبيته على فراش النبي، وقد أوذي غيره في وقايتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: تارة بالضرب، وتارة بالجرح، وتارة بالقتل. فمن فداه وأوذي أعظم ممن فداه ولم يؤذ. وقد قال العلماء: ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة، شاركه فيها غيره، بخلاف الصديق، فإن كثيرا من فضائله - وأكثرها - خصائص له، لا يشركه فيها غيره. وهذا مبسوط في موضعه.
(ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208)
قال مجاهد: وقتادة: نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضا بذلك والجمهور يقولون: {في السلم} أي في الإسلام وقالت طائفة:
هو الطاعة وكلاهما مأثور عن ابن عباس وكلاهما حق فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال. وأما قوله: {كافة} فقد قيل: المراد ادخلوا كلكم. وقيل: المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه وهذا هو الصحيح فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره وإنما يؤمر بما يقدر عليه.
(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213)
[فصل: بيان فساد قولهم في تفسير آية سورة البقرة (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)]
وقد تبين بما ذكرناه فساد قولهم: في تفسير آية البقرة، فإنهم قالوا: وقال: في سورة البقرة {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] قالوا: فأعني بقوله: أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك عن الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الذي هو الإنجيل الطاهر ; لأنه لو كان أعني عن إبراهيم وموسى وداود ومحمد لكان قال: ومعهم الكتب ; لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد ; لأنه ما أتي جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر.
فيقال: لهم: قد تقدم بعض ما يدل على فساد هذا التفسير.
وأيضا، فإنه قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213] أي فاختلفوا. {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213].
والحواريون ليسوا من النبيين وإن كان المسيح أرسلهم ولا يلزم من إرساله لهم أن يكونوا أنبياء كمن أرسلهم موسى ومحمد وغيرهما ولهذا تسميهم عامة النصارى رسلا ولا يسمونهم أنبياء.
وأيضا فإنه قال: وأنزل معهم الكتاب.
والحواريون لم ينزل معهم الكتاب إنما أنزل الكتاب مع المسيح، ولكن الأنبياء أنزل معهم جنس الكتاب، فإن الكتاب اسم جنس فيدخل فيه الكتب المنزلة كلها ; كما في قوله: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] وفي قوله: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] وفي القراءة الأخرى (وكتابه ورسله) وكذلك قوله عن مريم: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} [التحريم: 12] وفي القراءة الأخرى (وكتابه) وأيضا قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213].
وقال - تعالى -: في سورة يونس {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [يونس: 19] وهذا يدل أنه لما اختلفت بنو آدم بعث الله النبيين، واختلافهم كان قبل المسيح بل قبل موسى بل قبل الخليل بل قبل نوح ; كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم حدث فيهم الشرك والاختلاف على وجهين تارة يختلفون فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم ; كما قال - تعالى -:
{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253] وقال - تعالى -: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] يعني أهل الإيمان والكفر وقد يكون المختلفون كلهم على باطل كقوله:{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] وقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 118] وأيضا: فالإنجيل ليس فيه حكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بل عامته مواعظ ووصايا وأخبار المسيح بخلاف التوراة والقرآن، فإن فيهما من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ما ليس في الإنجيل.
وأيضا فإنه قال: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [البقرة: 213].
وذلك يقتضي أن الله هدى الذين آمنوا بعد اختلاف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم لما اختلفوا فيه من الحق وهذا ذم لمن أوتوا الكتاب فاختلفوا.

والنصارى داخلون في هذا الذم ولو كان المراد الإنجيل لكانوا هم المذمومين دون غيرهم وليس كذلك بل اليهود وغيرهم من المختلفين مذمومون أيضا، وإنما الممدوح هم المؤمنون الذين هداهم الله لما اختلف أولئك فيه من الحق بإذنه.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 07-04-2022 04:44 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (110)

من صــ 53 الى صـ
ـ 60


وهذا يتناول أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قطعا وقد يتناول كل من آمن من الأمم المتقدمة كالذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم الخليل ; كما قال - تعالى -: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]
وأما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله هداهم لما اختلف فيه الأمم قبلهم من الحق بإذنه وهذا بين، فإنهم على الحق والعدل الوسط بين طرفي الباطل وهذا ظاهر في اتباعهم الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى في التوحيد والأنبياء والأخبار والتشريع والنسخ والحلال والحرام والتصديق والتكذيب وغير ذلك.

أما التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الرب سبحانه بصفات النقص الذي يختص بها المخلوق فقالوا إن الله فقير وبخيل وأنه يتعب وغير ذلك.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق صفات الكمال الذي يختص بها الخالق فقالوا: عن المسيح أنه خالق السماوات والأرض القديم الأزلي علام الغيوب القادر على كل شيء و:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31] الآية.
والمسلمون هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق فلم يشبهوا الخالق بالمخلوق ولا المخلوق بالخالق بل أثبتوا لله ما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقائص وأقروا بأنه أحد ليس كمثله شيء وليس له كفوا أحد في شيء من صفات الكمال فنزهوه عن النقائص خلافا لليهود وعن مماثلة المخلوق له خلافا للنصارى.
وأما الأنبياء - عليهم السلام - فإن اليهود قتلوا بعضا وكذبوا بعضا ; كما قال - تعالى -: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87].
والنصارى أشركوا بهم وبمن هو دونهم فعبدوا المسيح بل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وجعلوا الحواريين رسلا لله وزعموا أن الإنسان يصير بطاعته بمنزلة الأنبياء وصوروا تماثيل الأنبياء والصالحين وصاروا يدعونهم ويستشفعون بهم بعد موتهم وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تماثيلهم.
وفي الصحيحين «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
وأما المسلمون فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه فآمنوا بأنبياء الله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود وكذلك قتل اليهود الذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى يطيعون من يأمر بالشرك وإن الشرك لظلم عظيم ويطيعون من يحرم الحلال ويحلل الحرام والمسلمون يطيعون من يأمر بطاعة الله ولا يطيعون من يأمر بمعصية الله. والنصارى فيهم الشرك بالله واليهود فيهم الاستكبار عن عبادة الله ; كما قال - تعالى -: في النصارى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وقال:

في اليهود {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] والإسلام هو أن يستسلم العبد لله وحده فيعبده وحده بما أمره به فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به.

ومن لم يستسلم له بل استكبر عن عبادته كان ممن قيل فيه {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] فلهذا كان جميع الأنبياء وأممهم مسلمين لله يعبدونه وحده بما أمرهم به وإن تنوعت شرائعهم فالمسيح لم يزل مسلما لما كان متبعا لشرع التوراة ولما نسخ الله له نسخة منها.
ومحمد لم يزل مسلما لما كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم لما صلى إلى الكعبة ولما بعثه الله إلى الخلق كانوا كلهم مأمورين بطاعته وكانت عبادة الله طاعته، فمن لم يطعه لم يكن عابدا لله فلم يكن مسلما.
وأما التشريع فإن اليهود زعموا أن ما أمر الله به يمتنع منه أن ينسخه.
والنصارى زعموا أن ما أمر الله به يسوغ لأكابرهم أن ينسخوه فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق فقالوا إن الله سبحانه له أن ينسخ ما شرعه خلافا لليهود وليس للمخلوق أن يغير شيئا من شرع الخالق خلافا للنصارى.

وأما الحلال والحرام والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وشددت عليهم من أمر النجاسات، حتى منعوا من مؤاكلة الحائض والجلوس معها في بيت ومن إزالة النجاسة وحرم عليهم شحم الثرب والكليتين وكل ذي ظفر وغير ذلك.

والمسيح - عليه السلام - أحل لهم بعض الذي حرم عليهم فقابلهم النصارى فقالوا: ليس شيء محرم لا الخنزير ولا غيره بل ولا شيء نجس، لا البول ولا غيره وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك، فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق فأحل لهم الله الطيبات وحرم عليهم الخبائث وأزال عنهم الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل خلافا لليهود وأمرهم بالطهارة طهارة الحدث والخبث خلافا للنصارى. والمسيح - عليه السلام - جعلته اليهود ولد زنا كذابا ساحرا، وجعلته النصارى هو الله خالق السماوات والأرض فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فشهدوا أنه عبد الله مخلوق خلافا للنصارى وأنه رسول وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين خلافا لليهود وأما التصديق والتكذيب، فإن اليهود من شأنهم التكذيب بالحق والنصارى من شأنهم التصديق بالباطل، فإن اليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء وقد جاءوا بالحق ;
كما قال - تعالى -: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] والنصارى يصدقون بمحالات العقول والشرائع ; كما صدقوا بالتثليث والاتحاد ونحوهما من الممتنعات.

(كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)

وسئل شيخ الإسلام:
عن {قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته} " ما معنى تردد الله؟
فأجاب: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد.
والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة؛ والاعتقادات الفاسدة ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:

الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب وفي الصحيح {حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره} وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال: {لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه}.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 04:23 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (111)

من صــ 60 الى صـ
ـ 68

فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هَذَا حَالُهُ صَارَ مَحْبُوبًا لِلْحَقِّ مُحِبًّا لَهُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ أَوَّلًا بِالْفَرَائِضِ وَهُوَ يحبها ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق؛ فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده؛ وهي المساءة التي تحصل له بالموت فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت؛ لكن مع وجود كراهة مساءة عبده وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته.

ثم قال بعد كلام سبق ذكره: ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان؛ فإن الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه ويكرهه وينهى عنه وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية وإن لم يرده بإرادة دينية هذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس: من أنه سبحانه هل يأمر بما لا يريده.

فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم: إنه لا يأمر إلا بما يريده. والتحقيق: أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية: فالأول كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله تعالى {ولكن يريد ليطهركم} وقوله تعالى {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} إلى قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضى وهي الإرادة الدينية. وإليه الإشارة بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} ومثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والمشيئة لا يخرج عنها خير ولا شر ولا عرف ولا نكر وهذه الإرادة والمشيئة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لا يختلفان وهذا التقسيم الوارد في اسم الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات؛ والحكم والقضاء والكتاب والبعث والإرسال ونحوه؛ فإن هذا كله ينقسم إلى كوني قدري وإلى ديني شرعي. والكلمات الكونية هي: التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر وهي التي استعان بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر} قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.

وأما الدينية فهي: الكتب المنزلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وقال تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه}. وكذلك الأمر الديني كقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والكونية: {إنما أمره إذا أراد شيئا}. والبعث الديني كقوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} والبعث الكوني: {بعثنا عليكم عبادا لنا} والإرسال الديني كقوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}. والكوني: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}.
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وهو سبحانه مع ذلك لم يردها إرادة دينية ولا هي موافقة لكلماته الدينية ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء فصارت له من وجه مكروهة. ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن فإن ذلك يكرهه؛ والكراهة مساءة المؤمن وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به؛ فإنه قد ثبت في الصحيح: {أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له}.
وأما المنكرات فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحموا بالتوبة وإن كانت التوبة لا بد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين: أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب.
والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح وأما المعاصي التي لا يتابا منها فهي شر. على صاحبها والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة كما قال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة. ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع والمقصود هنا: التنبيه على أن الشيء. المعين يكون محبوبا من وجه مكروها من وجه وأن هذا حقيقة التردد وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص. والله أعلم.

(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ... (217)

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} من باب بدل الاشتمال والسؤال إنما وقع عن القتال فيه فلم قدم الشهر وقد قلتم: إنهم يقدمون ما بيانه أهم وهم به أعنى؟. قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم انتهاكه وانتهاك حرمته وكان اهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر فلذلك قدم في الذكر وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة.
فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر وهلا اكتفى بضميره فقال: هو كبير؟ وأنت إذا قلت: سألته عن زيد هو في الدار كان أوجز من أن تقول أزيد في الدار؟. قيل: في إعادته بلفظ الظاهر بلاغة بديعة وهو تعليق الحكم الخبري باسم القتال فيه عموما ولو أتى بالمضمر فقال: هو كبير لتوهم اختصاص الحكم بذلك القتال المسئول عنه وليس الأمر كذلك؛وإنما هو عام في كل قتال وقع في شهر حرام.
ونظير هذه الفائدة {قوله صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال -: هو الطهور ماؤه} فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله: " نعم توضئوا به " لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله: " نعم توضئوا " إلى جواب عام يقتضي تعليق الحكم والطهورية بنفس مائه من حيث هو فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الأمة وبطل توهم قصره على السبب فتأمله فإنه بديع.
فكذلك في الآية لما قال: {قتال فيه كبير} فجعل الخبر بـ (كبير واقعا عن {قتال فيه} فيتعلق الحكم به على العموم؛ ولفظ " المضمر " لا يقتضي ذلك. وقريب من هذا قوله تعالى {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} ولم يقل أجرهم تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين وليس في الضمير ما يدل على الوصف المذكور.
وقريب منه وهو ألطف معنى قوله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ولم يقل فيه تعليقا بحكم الاعتزال بنفس الحيض وإنه هو سبب الاعتزال وقال:

{قل هو أذى} ولم يقل: (المحيض أذى لأنه جاء به على الأصل؛ ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات وكان ذكره بلفظ الظاهر في الأمر بالاعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا بخلاف قوله: {قل هو أذى} فإنه إخبار بالواقع والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضا بخلاف تعليق الحكم به فإنه إنما يعلم بالشرع فتأمله.
http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



ابوالوليد المسلم 24-04-2022 04:32 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (112)

من صــ 69 الى صـ
ـ 76



(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

وتمام " الورع " أن يعم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات. ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
وكذلك " الزهد والرغبة " من لم يراع ما يحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد وما يكرهه من ذلك؛ وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم حتى يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك.

وقد قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل}. يقول سبحانه وتعالى: وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر، وظهور أهله أعظم من ذلك فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.

وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلما له هو جاهل فإن هذا الحيوان لا بد أن يموت فإذا قتل لمنفعة الآدميين وحاجتهم كان خيرا من أن يموت موتا لا ينتفع به أحد والآدمي أكمل منه ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك؛ لكن ما لا يحتاج إليه من تعذيبه نهى الله عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك وأوجب الله الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح. كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن الله كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} ".

(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)

و " المنافع " التي كانت قيل هي المال. وقيل: هي اللذة. ومعلوم أن الخمر كان فيها كلا هذين؛ فإنهم كانوا ينتفعون بثمنها والتجارة فيها كما كانوا ينتفعون باللذة التي في شربها؛ ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما حرم الخمر {لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها وآكل ثمنها}. وكذلك " الميسر " كانت النفوس تنتفع بما تحصله به من المال وما يحصل به من لذة اللعب. ثم قال تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} لأن الخسارة في المقامرة أكثر والألم والمضرة في الملاعبة أكثر.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن " الخمر والميسر " هل فيهما إثم كبير ومنافع للناس؟ وما هي المنافع؟
فأجاب:

هذه الآية أول ما نزلت في الخمر؛ فإنهم سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية؛ ولم يحرمها فأخبرهم أن فيها " إثما " وهو ما يحصل بها من ترك المأمور وفعل المحظور وفيها " منفعة " وهو ما يحصل من اللذة ومنفعة البدن والتجارة فيها فكان من الناس من لم يشربها ومنهم من شرب؛ ثم بعد هذا شرب قوم الخمر فقاموا يصلون وهم سكارى؛ فخلطوا في القراءة؛ فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فنهاهم عن شربها قرب الصلاة؛ فكان منهم من تركها. ثم بعد ذلك أنزل الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}. " فحرمها الله في هذه الآية من وجوه متعددة؛ فقالوا: انتهينا. انتهينا. ومضى حينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها؛ فكسرت الدنان والظروف؛ ولعن عاصرها؛ ومعتصرها؛ وشاربها؛ وآكل ثمنها.
(فصل: رفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

ومعلوم أن الصلاة " أفضل العبادات " كما في الصحيحين عن {ابن مسعود أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد. قال حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني}. وثبت أيضا في الصحيحين {عنه أنه جعل أفضل الأعمال إيمان بالله وجهاد في سبيله ثم الحج المبرور}.
ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله كما دخلت في قوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس. ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال فلا يصلي أحد عن أحد الفرض لا لعذر ولا لغير عذر كما لا يؤمن أحد عنه ولا تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان؛ بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرا وهو متمكن من فعل بعض أفعالها فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه؟ فيه قولان للعلماء وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع. فإذا كان كذلك تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل و " الولاية " هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال.
ثم إن كان مؤمنا قبل حدوث الجنون به وله أعمال صالحة وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى كما لا يسقط ذلك بالموت؛ بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة. كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم}.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال في غزوة تبوك إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلا بخلاف أولئك فإن لهم قصدا صحيحا يكتب لهم به الثواب.
وأما إن كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا أو مذنبا لم يكن حدوث الجنون به مزيلا لما ثبت من كفره وفسقه ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورا معهم وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمي صاحبه مولها أو متولها لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى ولا يكون زوال عقله سببا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل فيبقى على ما كان عليه من خير وشر لا أنه يزيده ولا ينقصه لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير كما أنه يمنع عقوبته على الشر.
وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم: كشرب الخمر وأكل الحشيشة أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله أو الذي يتعبد بعبادات بدعية حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله أو يأكل بنجا يزيل عقله فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول. وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصا عظيما حتى يغيب عقله أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولها. فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم. واختلف العلماء هل هم " مكلفون " في حال زوال عقلهم؟ والأصل " مسألة السكران " والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله. وقال كثير من العلماء ليس مكلفا وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن أحمد أن طلاق السكران لا يقع وهذا أظهر القولين. ولم يقل أحد من العلماء أن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين. ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم.

ومن " علامة هؤلاء " أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان لا بالكفر والبهتان بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقة بالكفر والشرك ويهذي في زوال عقله بالكفر فهذا إنما يكون كافرا لا مسلما، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل - أو بغير العربية - فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع.

ومن قال: إن هؤلاء أعطاهم الله عقولا وأحوالا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب. قيل: قولك وهب الله لهم أحوالا كلام مجمل؛ فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني وحال شيطاني وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب " فتارة " يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان و " تارة " يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية وكانوا من المؤمنين المتقين فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية - كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون - فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 04:40 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (113)

من صــ 77 الى صـ
ـ 84




ورفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله ولا كرامة من كرامات الصالحين بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم بل النائم أحسن حالا من هؤلاء؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله والنبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه النوم والإغماء ولا يجوز عليه الجنون وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه وقد أغمي عليه في مرضه.
وأما " الجنون " فقد نزه الله أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببا أو شرطا أو مقربا إلى ولاية الله كما يظنه كثير من أهل الضلال حتى قال قائلهم في هؤلاء:
هم معشر حلوا النظام وخرقوا ... السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أبوابه يسجد العقل

فهذا كلام ضال؛ بل كافر يظن أن للمجنون سرا يسجد العقل على بابه؛ وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة. ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله. ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرا من الكفار والمشركين فضلا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لا بد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان.

ولا بد في أعمالهم من فجور وطغيان كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان قال الله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} فكل من تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يكون فيه كذب وفجور من أي قسم كان.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وعباده الصالحون. فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله كان من الكاذبين الذين قيل فيهم: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه} فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر فكيف بمن لا يصلي ظهرا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى فهذا لو كان قبل مؤمنا وكان قد طبع على قلبه كان كافرا مرتدا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرا مرتدا فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين. وقد قال تعالى في صفة المنافقين: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله} أي: استولى يقال: حاذ الإبل حوذا إذا استاقها فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله قال تعالى: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} أي تزعجهم إزعاجا فهؤلاء {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
وفي السنن عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان}.
فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم؛ فإن كانوا عبادا زهادا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات كأهل جبل لبنان وأهل جبل الفتح الذي باسون وجبل ليسون ومغارة الدم بجبل قاسيون وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن وتقام فيهم الصلوات الخمس بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة ولا قصد المتابعة لرسول الله الذي قال الله فيه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} الآية فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن فمن شهد لهم بولاية الله فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب. ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول وإما شاك فيما جاء به مرتاب وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودا أو عنادا أو اتباعا لهواه، وكل من هؤلاء كافر.
وأما إن كان جاهلا بما جاء به الرسول وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته؛ لا لقصد مخالفته ولا يرجو الهدى في غير متابعته فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرا مرتدا ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية ومكاشفات شيطانية قال تعالى:

{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات. وقال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال: {لنسفعن بالناصية} {ناصية كاذبة خاطئة}.

ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبا وإن كان لا يتعمد الكذب كما ثبت في الصحيحين {عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي} وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع إنهم يقولون: إن عامرا قتل نفسه وحبط عمله فقال: " كذب من قالها؛ إنه لجاهد مجاهد " وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب فإنه كان رجلا صالحا وقد روي أنه كان أسيد بن الحضير؛ لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال أبو بكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة فيما يفتون فيه باجتهادهم: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطؤه أيضا من الشيطان مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له؛ كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك فهذا كاذب آثم في ذلك وإن كانت له حسنات في غير ذلك فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان؛ لا من عباد الرحمن. قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} {ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون}.
(ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)
(فصل: نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها. ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تصدقوا. فقال رجل يا رسول الله عندي دينار. فقال تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على زوجتك. قال: عندي آخر. قال تصدق به على ولدك. قال: عندي آخر. قال تصدق به على خادمك. قال عندي آخر.
قال: أنت أبصر به}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم {دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك. أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك}. وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف؛ وابدأ بمن تعول. واليد العليا خير من اليد السفلى}.

وهذا تأويل قوله تعالى {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} أي الفضل. وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين؛ بخلاف النفقة في الغزو والمساكين؛ فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية وإما مستحب؛ وإن كان قد يصير متعينا إذا لم يقم غيره به؛ فإن إطعام الجائع واجب؛ ولهذا جاء في الحديث: {لو صدق السائل لما أفلح من رده} ذكره الإمام أحمد وذكر أنه إذا علم صدقه وجب إطعامه.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 04:48 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (114)

من صــ 85 الى صـ
ـ 92




وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل " عن النبي صلى الله عليه وسلم - الذي فيه من أنواع العلم والحكمة - وفيه أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام {حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات}. فبين أنه لا بد من اللذات المباحة الجميلة فإنها تعين على تلك الأمور.
ولهذا ذكر الفقهاء: أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة؛ باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه.

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق. والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم كما خلق الغضب ليدفعوا به ما يضرهم وحرم من الشهوات ما يضر تناوله وذم من اقتصر عليها.

فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {في بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى. قال: فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال} وفي الصحيحين {عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في في امرأتك}.
والآثار في هذا كثيرة. فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته والمنافق - لفساد قلبه ونيته - يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء فإن في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب}.

(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ... (221)

سئل شيخ الإسلام:
عن قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات} وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية واليهودية؛ فهل هما من المشركين أم لا؟.
فأجاب:

الحمد لله، نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}. وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم وقد روي عن ابن عمر: أنه كره نكاح النصرانية وقال: لا أعلم شركا أعظم ممن تقول: إن ربها عيسى ابن مريم. وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة وبقوله {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه. (أحدها أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين فجعل أهل الكتاب غير المشركين بدليل قوله:{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا}. فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قيل أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك؛ فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك؛ ولكن النصارى ابتدعوا الشرك كما قال: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به وحيث ميزهم عن المشركين فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك.
فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه لا شرك فيه كما إذا قيل: المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا اتحاد ولا رفض ولا تكذيب بالقدر ولا غير ذلك من البدع وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع؛ لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد؛ بخلاف أهل الكتاب ولم يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم؛ بل قال: عما يشركون بالفعل وآية البقرة قال فيها:المشركين والمشركات بالاسم والاسم أوكد من الفعل.
الوجه الثاني أن يقال: إن شملهم لفظ (المشركين) في سورة البقرة كما وصفهم بالشرك فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفردا ومقرونا فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب وإذا قرنوا بأهل الكتاب لم يدخلوا فيهم كما قيل: مثل هذا في اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة وتلك خاصة والخاص يقدم على العام. (الوجه الثالث أن يقال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء وقد جاء في الحديث المائدة من. . . (1)

(ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)

وسئل:
عن المرأة تطهر من الحيض ولم تجد ماء تغتسل به هل لزوجها أن يطأها قبل غسلها من غير شرط؟.
فأجاب:

أما المرأة الحائض إذا انقطع دمها فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إذا كانت قادرة على الاغتسال وإلا تيممت. كما هو مذهب جمهور العلماء كمالك وأحمد والشافعي. وهذا معنى ما يروى عن الصحابة حيث روي عن بضعة عشر من الصحابة - منهم الخلفاء - أنهم قالوا: في المعتدة هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. والقرآن يدل على ذلك قال الله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} قال مجاهد: حتى يطهرن يعني ينقطع الدم فإذا تطهرن اغتسلن بالماء وهو كما قال مجاهد. وإنما ذكر الله غايتين على قراءة الجمهور لأن قوله: {حتى يطهرن} غاية التحريم الحاصل بالحيض وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره فهذا التحريم يزول بانقطاع الدم ثم يبقى الوطء بعد ذلك جائزا بشرط الاغتسال لا يبقى محرما على الإطلاق فلهذا قال: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}. وهذا كقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فنكاح الزوج الثاني غاية التحريم الحاصل بالثلاث فإذا نكحت الزوج الثاني زال ذلك التحريم؛ لكن صارت في عصمة الثاني فحرمت لأجل حقه؛ لا لأجل الطلاق الثلاث. فإذا طلقها جاز للأول أن يتزوجها.
وقد قال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله: {فإذا تطهرن} أي غسلن فروجهن وليس بشيء؛ لأن الله قد قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالتطهر في كتاب الله هو الاغتسال وأما قوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} فهذا يدخل فيه المغتسل والمتوضئ والمستنجي لكن التطهر المقرون بالحيض كالتطهر المقرون بالجنابة.
والمراد به الاغتسال. وأبو حنيفة - رحمه الله - يقول: إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة أو انقطع الدم لعشرة أيام حلت؛ بناء على أنه محكوم بطهارتها في هذه الأحوال. وقول الجمهور هو الصواب. كما تقدم والله أعلم.

(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)
وقال - رحمه الله تعالى -:
فصل:

وأما " إتيان النساء في أدبارهن " فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة وهو المشهور في مذهب مالك.
وأما القول الآخر بالرخصة فيه: فمن الناس من يحكيه رواية عن مالك ومنهم من ينكر ذلك ونافع نقل عن ابن عمر أنه لما قرأ عليه: {نساؤكم حرث لكم} قال له ابن عمر: إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

فمن الناس من يقول غلط نافع على ابن عمر أو لم يفهم مراده؛ وكان مراده: أنها نزلت في إتيان النساء من جهة الدبر في القبل؛ فإن الآية نزلت في ذلك باتفاق العلماء وكانت اليهود تنهى عن ذلك وتقول: إذا أتى الرجل المرأة في قبلها من دبرها جاء الولد أحول. فأنزل الله هذه الآية. " والحرث " موضع الولد؛ وهو القبل.
__________
Q (1) آخر ما وجد من الأصل


http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 04:58 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (115)

من صــ 93 الى صـ
ـ 100



فرخص الله للرجل أن يطأ المرأة في قبلها من أي الجهات شاء. وكان سالم بن عبد الله بن عمر يقول: كذب العبد على أبي. وهذا مما يقوي غلط نافع على ابن عمر؛ فإن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ؛ كقول عبادة: كذب أبو محمد.

لما قال: الوتر واجب. وكقول ابن عباس: كذب نوف: لما قال لما صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. ومن الناس من يقول: ابن عمر هو الذي غلط في فهم الآية. والله أعلم أي ذلك كان؛ لكن نقل عن ابن عمر أنه قال. أويفعل هذا مسلم لكن بكل حال معنى الآية هو ما فسرها به الصحابة والتابعون وسبب النزول يدل على ذلك. والله أعلم.
وسئل - رحمه الله -:
عن رجل ينكح زوجته في دبرها. أحلال هو أم حرام؟
فأجاب:

" وطء المرأة في دبرها " حرام بالكتاب والسنة وهو قول جماهير السلف والخلف؛ بل هو اللوطية الصغرى وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في
أدبارهن} وقد قال تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} " والحرث " هو موضع الولد؛ فإن الحرث هو محل الغرس والزرع. وكانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية؛ وأباح للرجل أن يأتي امرأته من جميع جهاتها؛ لكن في الفرج خاصة. ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جمعيا؛ فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما؛ كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به والله أعلم.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها؟ وهل أباحه أحد من العلماء؟
فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، " الوطء في الدبر " حرام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين: من الصحابة والتابعين وغيرهم؛ فإن الله قال في كتابه: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} وقد ثبت في الصحيح: أن اليهود كانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فسأل المسلمون عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} و " الحرث " موضع الزرع.
والولد إنما يزرع في الفرج لا في الدبر {فأتوا حرثكم} وهو موضع الولد. {أنى شئتم} أي من أين شئتم: من قبلها ومن دبرها وعن يمينها وعن شمالها. فالله تعالى سمى النساء حرثا؛ وإنما رخص في إتيان الحروث والحرث إنما يكون في الفرج. وقد جاء في غير أثر: أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن}
" و " الحش " هو الدبر وهو موضع القذر والله سبحانه حرم إتيان الحائض مع أن النجاسة عارضة في فرجها فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة: و " أيضا " فهذا من جنس اللواط ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه؛ لكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك. ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها.
وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن ابن عمر وقد كان سالم بن عبد الله يكذب نافعا في ذلك. فإما أن يكون نافع غلط أو غلط من هو فوقه. فإذا غلط بعض الناس غلطة لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة.
ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مسكر خمر؛ وكل خمر حرام} وأنه سئل عن أنواع من الأنبذة فقال: {كل مسكر حرام} {ما أسكر كثيره فقليله حرام} وجب اتباع هذه السنن الثابتة. ولهذا نظائر في الشريعة. ومن وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما فإن علم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما. والله أعلم.

(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
و " أيضا " قوله سبحانه وتعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم} فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها أنكم لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها أو حراما ونحوه فإذا قيل له: افعل ذلك أو لا تفعل هذا.
قال: قد حلفت بالله: فيجعل الله عرضة ليمينه. فإذا كان قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم في الحلف من البر والتقوى. والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولى أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين:

إن وفى بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور؛ فقد يكون خروج أهله منه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقي فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة.

وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة: ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه} ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم {من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم من التكفير. " واللجاج " التمادي في الخصومة؛ ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في الخصومة ولهذا تسمي العلماء هذا " نذر اللجاج والغضب " فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الامتناع من الحنث.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان.
وأيضا {فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك} أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين {فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير} وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير} وفي رواية {فليأت الذي هو خير. وليكفر عن يمينه} وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف؛ فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا لشر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
وقوله هنا " على يمين " هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمي الأمر المحلوف عليه يمينا كما يسمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك وكذلك أخرجاه في الصحيحين {عن أبي موسى الأشعري في قصته وقصة أصحابه؛ لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه فقال: والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ثم قال:
إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها} وفي رواية في الصحيحين {إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير} وروى مسلم في صحيحه عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير} وفي رواية لمسلم أيضا {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير}وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي. فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه.
وروى النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته} وهذا صريح بأنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام فروى أبو داود في سننه حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة.
فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك} فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

{لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك} ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة؛ كما أفتاه عمر. ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك. وإنما قال صلى الله عليه وسلم {لا يمين ولا نذر} لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 05:06 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (116)

من صــ 101 الى صـ
ـ 108





وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم} يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق.
ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم وهذا الثاني هو الظاهر؛ لاستدلال عمر بن الخطاب به؛ فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله.
وأيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه} رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن وأبو داود ولفظه حدثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان؛ عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى} ورواه أيضا من طريق عبد الرزاق عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث} وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث} رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ولفظه " فله ثنياه " والنسائي وقال: " فقد استثنى ".
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وهؤلاء منهم من قال: " لغو اليمين " هو أن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه بلا نزاع.
وأما إذا سبق لسانه في المستقبل: ففيه روايتان. وهذه طريقة القاضي وابن عقيل في " الفصول "؛ واختار القاضي في " خلافه " أن قوله في المستقبل لا والله بلى والله ليس بلغو وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما. ومنهم من قال: ما يسبق على اللسان هو لغو بلا نزاع بين العلماء وفيما إذا حلف على شيء فتبين بخلافه روايتان.
وهذه طريقة أبي محمد.
" والصواب " أن النزاع في الصورتين؛ فإن الشافعي في رواية الربيع عنه يوجب الكفارة فيمن حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه؛ ولكن القول الآخر للشافعي أن هذا لغو كقول الجمهور وهذا هو قول محمد بن الحسن وكذا هو ظاهر مذهب أحمد أن كلا النوعين لغو لا كفارة فيه وهذا قول جمهور أهل العلم؛ ولهذا جزم أكثر أصحاب أحمد بأنه لا كفارة لا في هذا ولا في هذا.

ولم يذكروا نزاعا؛ لأنه نص على أن كليهما لغو في جوابه كما ذكر ذلك الخرقي وابن أبي موسى وغيرهما من المتقدمين. وذكر طائفة عنه في اللغو " روايتين "رواية كقول أبي حنيفة ومالك. ورواية كقول الشافعي كما ذكر ذلك طائفة: منهم ابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهما. وصرح بعض هؤلاء - كابن عقيل وغيره - بأنه إذا قيل: إن اللغو هو أن يسبق على لسانه اليمين من غير قصد فإنه إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث. فلهذا صار في مذهبه عدة طرق.

" طريقة القدماء " أن كليهما لغو قولا واحدا.
" وطريقة القاضي " أن الماضي لغو قولا واحدا وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان وهذه الطريقة توافق مذهب أبي حنيفة ومالك.
" وطريقة أبي محمد " أن سبق اللسان لغو قولا واحدا. وفي الماضي روايتان. وهذه الطريقة توافق مذهب الشافعي.
" والطريقة الرابعة " وهي أضعف الطرق: أن اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا وفي الأخرى هذا دون هذا.
" والطريقة الخامسة " وهي الجامعة بين الطرق: أن في مذهبه ثلاث روايات كما ذكر ذلك صاحب المحرر فإذا سبق على لسانه: لا والله بلى والله وهو يعتقد أن الأمر كما حلف عليه: فهذا لغو باتفاق الأئمة الأربعة.
وإذا سبق على لسانه اليمين في المستقبل أو تعمد اليمين على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه: ففي الصورتين أقوال ثلاثة؛ هي الروايات الثلاث عن أحمد. " أحدها " أن الجميع لغو كقول الجمهور وهو ظاهر مذهب أحمد وهي ومذهبه في إحدى الطريقتين بلا نزاع عنه. وعلى هذه الطريقة فقد فسر اللغو بهذا. وهذا أحد قولي الشافعي.
" والثاني " أنه يحنث في الماضي دون ما سبق على لسانه وهو أحد قولي الشافعي أيضا.

" والثالث " بالعكس كمذهب أبي حنيفة ومالك. فقد تبين أن المخطئ في عقد اليمين الذي حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه هو في إحدى الطريقتين كالناسي والجاهل وفي الأخرى لا يحنث قولا واحدا. والمعروفة عند أئمة أصحاب أحمد. وعلى هذا فالحالف بالطلاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه لا يحنث إذا لم يحنث الناسي والجاهل في المستقبل: إما تسوية بينهما. وإما بطريق الأولى على اختلاف الطريقتين. وهكذا ذكر المحققون من الفقهاء.

وقد ظن بعض متأخري الفقهاء كالسامري صاحب " المستوعب " أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث قولا واحدا؛ لأن الطلاق لا لغو فيه وهذا خطأ؛ فإن الذي يقول إن الطلاق لا لغو فيه هو الذي يحنث الناسي والجاهل إذا حلف بالطلاق وأما من لم يحنث الناسي والجاهل فإنه لا يقول لا لغو في الطلاق - إذا فسر اللغو بأن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه - فإن عدم الحنث في هذه الصورة: إما أن يكون أولى بعدم الحنث في تلك الصورة أو يكون مساويا لها؛ كما قد بيناه.
ولا يمكن أحد أن يقول: إنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على امرأته لا يفعله ففعله ناسيا أو جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يحنث؛ ويقول إذا حلف على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث؛ لأن الجهل المقارن لعقد اليمين أخف من الجهل المقارن لفعل المحلوف عليه وغايته أن يكون مثله؛ ولأن اليمين الأولى منعقدة اتفاقا.
وأما الثانية ففي انعقادها نزاع بينهم. والله أعلم.

(للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
" والإيلاء " هو الحلف والقسم والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا وإن حلف بما عقده لله كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد وأحمد. ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء وإما أن يطلق.
والفيئة هي الوطء: خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان. فإن فاء فوطئها حصل مقصودها وقد أمسك بمعروف وقد قال تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقاء امرأته. ولا تسقط الكفارة كما في قوله:
{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها؛ فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين. وإن كان المولي لا يفيء؛ بل قد عزم على الطلاق؛ فإن الله سميع عليم. فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء وإما أن يعزم الطلاق. فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى.
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ... (228)
والقرء: هو الدم لظهوره وخروجه وكذلك الوقت؛ فإن التوقيت إنما يكون بالأمر الظاهر. ثم الطهر يدخل في اسم القرء تبعا كما يدخل الليل في اسم اليوم {قال النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: دعي الصلاة أيام أقرائك} والطهر الذي يتعقبه حيض هو قرء فالقرء اسم للجميع.
وأما الطهر المجرد فلا يسمى قرءا؛ ولهذا إذا طلقت في أثناء حيضة لم تعتد بذلك قرءا؛ لأن عليها أن تعتد بثلاثة قروء وإذا طلقت في أثناء طهر كان القرء الحيضة مع ما تقدمها من الطهر؛ ولهذا كان أكابر الصحابة على أن الأقراء الحيض كعمر وعثمان وعلي وأبي موسى وغيرهم؛ لأنها مأمورة بتربص ثلاثة قروء؛ فلو كان القرء هو الطهر لكانت العدة قرأين وبعض الثالث فإن النزاع من الطائفتين في الحيضة الثالثة؛ فإن أكابر الصحابة ومن وافقهم يقولون:

هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وصغار الصحابة إذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد حلت فقد ثبت بالنص والإجماع أن السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع وقد مضى بعض الطهر والله أمر أن يطلق لاستقبال العدة لا في أثناء العدة وقوله: {ثلاثة قروء} عدد ليس هو كقوله: أشهر؛ فإن ذاك صيغة جمع لا عدد فلا بد من ثلاثة قروء كما أمر الله لا يكفي بعض الثالث.


http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 05:15 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (117)

من صــ 109 الى صـ
ـ 116






وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
في قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} إلى قوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} إلى قوله تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. فجعل المباح أحد أمرين:
إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالرد إلا إذا أرادوا إصلاحا؛ وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف وقال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وقال تعالى في الآية الأخرى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقال تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} وقوله هنا: {بالمعروف}.
يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل والمعروف تزويج الكفء. وقد يستدل به من يقول: مهر مثلها من المعروف؛ فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} إلى قوله: {وعاشروهن بالمعروف} فقد ذكر أن التراضي بالمعروف والإمساك بالمعروف؛ والتسريح بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين؛ فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف؛ وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار؛ والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم.

وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة فعليه أن يبيت عندها ويطأها بالمعروف. ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله. وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف؛ لا بتقدير من الشرع قررته في غير هذا الموضع.

والمثال المشهور هو " النفقة " فإنها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين. ومنهم من قال: هي مقدرة بالشرع نوعا وقدرا: مدا من حنطة أو مدا ونصفا أو مدين؛ قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا؛ فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته العظيمة بعرفات: {لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف}.

وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعامه كطعامه ولا طعام البلاد الحارة كالباردة ولا المعروف في بلاد التمر والشعير.

كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن {حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت؛ ولا تضرب الوجه؛ ولا تقبح؛ ولا تهجر إلا في البيت}. فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام: {لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة: {تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت} " ولم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين؛ لكن قيد ذلك بالمعروف تارة وبالمواساة بالزوج أخرى. وهكذا قال في نفقة المماليك؛ ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
{: هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل؛ وليلبسه مما يلبس؛ ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق} ففي الزوجة والمملوك أمره واحد: تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف. وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس. فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب والمواساة مستحبة. وقد يقال أحدهما تفسير للآخر.

وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع والقدر وصفة الإنفاق. وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك. أما " النوع " فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر ولا موزونا كالخبز ولا ثمن ذلك كالدراهم؛ بل يرجع في ذلك إلى العرف. فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك.
أو يكون أكل الخبز والإدام فيعطيها ذلك. وإن كان عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه في البيت فعل ذلك.

وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يشتري خبزا من السوق فعل ذلك. وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف فلا يتعين عليه دراهم ولا حبات أصلا؛ لا بشرع ولا بفرض؛ فإن تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف وهو مضر به تارة وبها أخرى. وكذلك " القدر " لا يتعين مقدار مطرد؛ بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.
وأما " الإنفاق " فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة. وقيل: لا يجب التمليك. وهو الصواب؛ فإن ذلك ليس هو المعروف؛ بل عرف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله فيأكل هو وامرأته ومملوكه: تارة جميعا. وتارة أفرادا.

ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك؛ بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا في العشرة؛ وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر؛ لا عند العشرة بالمعروف.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك. تارة قال: " {لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف} " كما قال في المملوك. وتارة قال: {تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت} " كما قال في المملوك. وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته فعلم أن هذا الكلام لا يقتضي إيجاب التمليك.
وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسى وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها فلا حق لها سوى ذلك. وإن أنكرت ذلك أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف؛ بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا أو حب مقدر مطلقا؛ لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
فصل:
وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام لمماليكه وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة. وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف؛ بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل - وهو الصواب - وجوب الخدمة؛ فإن الزوج سيدها في كتاب الله؛ وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف.
ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة. ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف وهذا هو الصواب فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة.
فصل:
والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق؛ فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة. ومن العرف تارة أخرى؛ لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض:

كعارية البضع؛ والولاء لغير المعتق؛ فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط فهذه أصول جامعة مع اختصار. والله أعلم.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif


ابوالوليد المسلم 24-04-2022 05:25 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (118)

من صــ 117 الى صـ
ـ 124






(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229)
(فصل في أن البينونة نوعان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

و " جماع الأمر " أن البينونة نوعان: " البينونة الكبرى " وهي إيقاع البينونة الحاصلة بإيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به المرأة حتى تنكح زوجا غيره.
و " البينونة الصغرى " وهي: التي تبين بها المرأة وله أن يتزوجها بعقد جديد في العدة وبعدها. فالخلع تحصل به البينونة الصغرى دون الكبرى. والبينونة الكبرى الحاصلة بالثلاث تحصل إذا أوقع الثلاث على الوجه المباح المشروع وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه؛ أو يطلقها واحدة وقد تبين حملها ويدعها حتى تنقضي العدة؛ ثم يتزوجها بعقد جديد. وله أن يراجعها في العدة.
وإذا تزوجها أو ارتجعها فله أن يطلقها الثانية على الوجه المشروع. فإذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو كلمات قبل رجعة أو عقد فهو محرم عند الجمهور؛ وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في المشهور عنه؛ بل وكذلك إذا طلقها الثلاث في أطهار قبل رجعة أو عقد؛ في مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. ولو أوقع الثلاث إيقاعا محرما: فهل يقع الثلاث؟ أو واحدة؟ على قولين معروفين للسلف والخلف؛ كما قد بسط في موضعه.
فإذا قيل: إنه لا يقع لم يملك البينونة الكبرى بكلمة واحدة وإذا لم يملكها لم يجز أن تبذل له العوض فيما لا يملكه فإذا بذلت له العوض على الطلاق الثلاث المحرمة بذلت له العوض فيما يحرم عليه فعله ولا يملكه فإذا أوقعه لم يقع منه إلا المباح والمباح بالعوض إنما هو بالبينونة الصغرى دون الكبرى؛ بل لو طلقها ثنتين وبذلت له العوض على الفرقة بلفظ الطلاق أو غير الطلاق لم تقع الطلقة الثالثة على قولنا: إن الفرقة بعوض فسخ تحصل به البينونة الصغرى؛ فإذا فارقها بلفظ الطلاق أو غيره في هذه الصورة وقعت به " البينونة الصغرى "وهو الفسخ دون الكبرى.
وجاز له أن يتزوج المرأة بعقد جديد؛ لكن إن صرحت ببذل العوض في الطلقة الثالثة المحرمة وكان مقصودها أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره: فقد بذلت العوض في غير البينونة الصغرى وهو يشبه ما إذا بذلت العوض في الخلع بشرط الرجعة. فإن اشتراطه الرجعة في الخلع يشبه اشتراطها الطلاق المحرم لها فيه وهو في هذه الحال يملك الطلقة الثالثة المحرمة لها كما كان يملك قبل ذلك الطلاق الرجعي. والله سبحانه أعلم.

(فصل في أن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

قال طائفة من العلماء: إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق؛ فإن الله يبغض الطلاق؛ وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان ينصب عرشه على البحر؛ ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة؛ فيأتي أحدهم فيقول ما زلت به حتى شرب الخمر.

فيقول الساعة يتوب ويأتي الآخر فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته. فيقبله بين عينيه. ويقول: أنت أنت}. وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه: أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد؛ يطلق الرجل المرأة ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارا فقصرهم الله على الطلقات الثلاث؛ لأن الثلاث أول حد الكثرة وآخر حد القلة.

ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول؛ ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا. وحرمه في مواضع باتفاق العلماء. كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق؛ فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء. والله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة كما قال: {أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة} فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح. والوطء بملك اليمين. واليهود والنصارى لا يطئون إلا بالنكاح؛ لا يطئون بملك اليمين.
و " أصل ابتداء الرق " إنما يقع من السبي. والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: {فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وأعطيت الشفاعة} فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها. " والنصارى " يحرمون النكاح على بعضهم ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق.
" واليهود " يبيحون الطلاق؛ لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم. والنصارى لا طلاق عندهم. واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم.
والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا. ولو أبيح الطلاق بغير عدد - كما كان في أول الأمر - لكان الناس يطلقون دائما: إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق؛ وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط: كالطلاق في الحيض حتى يباح دائما بسؤالها؛ بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء: إما نهي تحريم أو نهي تنزيه.
وما كان مباحا للحاجة قدر بقدر الحاجة. والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} وكما قال: {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا} وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا.
وهذه الأحاديث في الصحيح. وهذا مما احتج به من لا يرى وقوع الطلاق إلا من القصد؛ ولا يرى وقوع طلاق المكره؛ كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع؛ ولو تكلم بالكفر مستهزئا بآيات الله وبالله ورسوله كفر؛ كذلك من تكلم بالطلاق هازلا وقع به. ولو حلف بالكفر فقال: إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله؛ أو فهو يهودي أو نصراني. لم يكفر بفعل المحلوف عليه؛ وإن كان هذا حكما معلقا بشرط في اللفظ؛ لأن مقصوده الحلف به بغضا له ونفورا عنه؛ لا إرادة له؛ بخلاف من قال: إن أعطيتموني ألفا كفرت فإن هذا يكفر. وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط.
ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن الخلع فسخ للنكاح؛ وليس هو من الطلقات الثلاث كقول ابن عباس والشافعي وأحمد في أحد قوليهما لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير؛ وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل ولهذا يباح في الحيض؛ بخلاف الطلاق.

وأما إذا عدل هو عن الخلع وطلقها إحدى الثلات بعوض فالتفريط منه. وذهب طائفة من السلف: كعثمان بن عفان وغيره؛ ورووا في ذلك حديثا مرفوعا. وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد جعلوه مع الأجنبي فسخا. كالإقالة. والصواب أنه مع الأجنبي كما هو مع المرأة؛ فإنه إذا كان افتداء المرأة كما يفدى الأسير فقد يفتدي الأسير بمال منه ومال من غيره وكذلك العبد يعتق بمال يبذله هو وما يبذله الأجنبي وكذلك الصلح يصح مع المدعى عليه ومع أجنبي فإن هذا جميعه من باب الإسقاط والإزالة.

وإذ كان الخلع رفعا للنكاح؛ وليس هو من الطلاق الثلاث: فلا فرق بين أن يكون المال المبذول من المرأة أو من أجنبي. وتشبيه فسخ النكاح بفسخ البيع: فيه نظر؛ فإن البيع لا يزول إلا برضى المتابعين؛ لا يستقل أحدهما بإزالته؛ بخلاف النكاح؛ فإن المرأة ليس إليها إزالته؛ بل الزوج يستقل بذلك؛ لكن افتداؤها نفسها منه كافتداء الأجنبي لها.
ومسائل الطلاق وما فيها من الإجماع والنزاع مبسوط في غير هذا الموضوع. والمقصود هنا إذا وقع به الثلاث حرمت عليه المرأة بإجماع المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولا يباح إلا بنكاح ثان وبوطئه لها عند عامة السلف والخلف؛ فإن النكاح المأمور به يؤمر فيه بالعقد. وبالوطء بخلاف المنهي عنه؛ فإنه ينهى فيه عن كل من العقد والوطء؛ ولهذا كان النكاح الواجب والمستحب يؤمر فيه بالوطء من العقد " والنكاح المحرم " يحرم فيه مجرد العقد.
(فصل في الخلع)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

والمرأة إذا أبغضت الرجل كان لها أن تفتدي نفسها منه كما قال تعالى {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وهذا الخلع تبين به المرأة فلا يحل له أن يتزوجها بعده إلا برضاها وليس هو كالطلاق المجرد؛ فإن ذلك يقع رجعيا له أن يرتجعها في العدة بدون رضاها؛ لكن تنازع العلماء في هذا الخلع: هل يقع به طلقة بائنة محسوبة من الثلاث؟ أو تقع به فرقة بائنة وليس من الطلاق الثلاث بل هو فسخ؟ على قولين مشهورين.
و " الأول " مذهب أبي حنيفة ومالك وكثير من السلف ونقل عن طائفة من الصحابة؛ لكن لم يثبت عن واحد منهم بل ضعف أحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم جميع ما روي في ذلك عن الصحابة.
و " الثاني " أنه فرقة بائنة وليس من الثلاث وهذا ثابت عن ابن عباس باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهو قول أصحابه: كطاوس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث وإسحاق بن راهويه؛ وأبي ثور وداود وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم. واستدل ابن عباس على ذلك بأن الله تعالى ذكر الخلع بعد طلقتين ثم قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا. ثم أصحاب هذا القول تنازعوا: هل يشترط أن يكون الخلع بغير لفظ الطلاق؟ أو لا يكون إلا بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة ويشترط مع ذلك أن لا ينوي الطلاق؟ أو لا فرق بين أن ينويه أو لا ينويه وهو خلع بأي لفظ وقع بلفظ الطلاق أو غيره؟ على أوجه في مذهب أحمد وغيره: أصحها الذي دل عليه كلام ابن عباس وأصحابه وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه وهو الوجه الأخير وهو: أن الخلع هو الفرقة بعوض فمتى فارقها بعوض فهي مفتدية لنفسها به وهو خالع لها بأي لفظ كان ولم ينقل أحد قط لا عن ابن عباس وأصحابه ولا عن أحمد بن حنبل أنهم فرقوا بين الخلع بلفظ الطلاق وبين غيره؛ بل كلامهم لفظه ومعناه يتناول الجميع.

والشافعي رضي الله عنه لما ذكر القولين في الخلع هل هو طلاق أم لا؟ قال: وأحسب الذين قالوا هو طلاق هو فيما إذا كان بغير لفظ الطلاق؟ ولهذا ذكر محمد بن نصر والطحاوي أن هذا لا نزاع فيه والشافعي لم يحك عن أحد هذا؛ بل ظن أنهم يفرقون.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif

ابوالوليد المسلم 24-04-2022 05:34 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (119)

من صــ 125 الى صـ
ـ 132






وهذا بناه الشافعي على أن العقود وإن كان معناها واحدا فإن حكمها يختلف باختلاف الألفاظ. وفي مذهبه في نزاع في الأصل وأما أحمد بن حنبل فإن أصوله ونصوصه وقول جمهور أصحابه أن الاعتبار في العقود بمعانيها لا بالألفاظ وفي مذهبه قول آخر: أنه تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ وهذا يذكر في التكلم بلفظ البيع وفي المزارعة بلفظ الإجارة وغير ذلك.
وقد ذكرنا ألفاظ ابن عباس وأصحابه وألفاظ أحمد وغيره وبينا أنها بينة في عدم التفريق.
وأن أصول الشرع لا تحتمل التفريق وكذلك أصول أحمد. وسببه ظن الشافعي أنهم يفرقون. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع وبينا أن الآثار الثابتة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس وغيره تدل دلالة بينة أنه خلع؛ وإن كان بلفظ الطلاق وهذه الفرقة توجب البينونة. والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي.
قال هؤلاء وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلا بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي. وقال هؤلاء: ولو قال لامرأته: أنت طالق طلقة بائنة لم يقع بها إلا طلقة رجعية؛ كما هو مذهب أكثر العلماء؛ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. قالوا: وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله وهذا قول فقهاء الحديث وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل طلاق بغير عوض لا يقع إلا رجعيا وإن قال: أنت طالق طلقة بائنة أو طلاقا بائنا: لم يقع به عندهما إلا طلقة رجعية.
وأما الخلع ففيه نزاع في مذهبهما. فمن قال بالقول الصحيح طرد هذا الأصل واستقام قوله ولم يتناقض كما يتناقض غيره؛ إلا من قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن الخلع بلفظ الطلاق يقع طلاقا بائنا فهؤلاء أثبتوا في الجملة طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث فنقضوا أصلهم الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة.

وقال بعض الظاهرية: إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقا رجعيا؛ لا بائنا؛ لأنه لم يمكنه أن يجعله طلاقا بائنا لمخالفة القرآن؛ وظن أنه بلفظ الطلاق يكون طلاقا فجعله رجعيا وهذا خطأ؛ فإن مقصود الافتداء لا يحصل إلا مع البينونة؛ ولهذا كان حصول البينونة بالخلع مما لم يعرف فيه خلاف بين المسلمين؛ لكن بعضهم جعله جائزا؛ فقال: للزوج أن يرد العوض ويراجعها؛ والذي عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه لا يملك الزوج وحده أن يفسخه ولكن لو اتفقا على فسخه كالتقايل: فهذا فيه نزاع آخر كما بسط في موضعه.

والمقصود هنا أن كتاب الله يبين أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا رجعيا وليس في كتاب الله طلاق بائن إلا قبل الدخول. وإذا انقضت العدة فإذا طلقها ثلاثا فقد حرمت عليه وهذه البينونة الكبرى وهي إنما تحصل بالثلاث لا بطلقة واحدة مطلقة؛ لا يحصل بها لا بينونة كبرى ولا صغرى. وقد ثبت عن ابن عباس أنه قيل له. إن أهل اليمن عامة طلاقهم الفداء فقال ابن عباس: ليس الفداء بطلاق.

ورد المرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة. وبهذا أخذ أحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه؛ لكن تنازع أهل هذا القول: هل يختلف الحكم باختلاف الألفاظ؟ والصحيح أن المعنى إذا كان واحدا فالاعتبار بأي لفظ وقع؛ وذلك أن الاعتبار بمقاصد العقود وحقائقها لا باللفظ وحده فما كان خلعا فهو خلع بأي لفظ كان وما كان طلاقا فهو طلاق بأي لفظ كان وما كان يمينا فهو يمين بأي لفظ كان وما كان إيلاء فهو إيلاء بأي لفظ كان وما كان ظهارا فهو ظهار بأي لفظ كان.

والله تعالى ذكر في كتابه " الطلاق " و " اليمين " و " الظهار " و " الإيلاء " و " الافتداء " وهو الخلع وجعل لكل واحد حكما فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله وندخل في الطلاق ما كان طلاقا وفي اليمين ما كان يمينا وفي الخلع ما كان خلعا وفي الظهار ما كان ظهارا؛ وفي الإيلاء ما كان إيلاء. وهذا هو الثابت عن أئمة الصحابة وفقهائهم والتابعين لهم بإحسان.
ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض فيجعل ما هو ظهار طلاقا: فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذي يبغضه الله ورسوله ويحتاجون إما إلى دوام المكروه؛ وإما إلى زواله بما هو أكره إلى الله ورسوله منه وهو " نكاح التحليل ".

(فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)

وقد ثبت في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة رفاعة القرظي. لما أرادت أن ترجع إلى رفاعة بدون الوطء لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك} وليس في هذا خلاف إلا عن سعيد بن المسيب فإنه - مع أنه أعلم التابعين - لم تبلغه السنة في هذه المسألة. " والنكاح المبيح " هو النكاح المعروف عند المسلمين وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: {حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك} فأما " نكاح المحلل " فإنه لا يحلها للأول عند جماهير السلف وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله المحلل والمحلل له} وقال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما. وكذلك قال عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم: إنه لا يبيحها إلا بنكاح رغبة؛ لا نكاح محلل. ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه رخص في نكاح التحليل.
ولكن تنازعوا في " نكاح المتعة " فإن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه. " أحدها " أنه كان مباحا في أول الإسلام بخلاف التحليل. " الثاني " أنه رخص فيه ابن عباس وطائفة من السلف؛ بخلاف التحليل فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة.
" الثالث " أن المتمتع له رغبة في المرأة وللمرأة رغبة فيه إلى أجل؛ بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال وهو ليس له رغبة فيها بل في أخذ ما يعطاه وإن كان له رغبة فهي من رغبته في الوطء؛ لا في اتخاذها زوجة من جنس رغبة الزاني؛ ولهذا قال ابن عمر: لا يزالان زانيين؛ وإن مكثا عشرين سنة.
إذ الله علم من قلبه أنه يريد أن يحلها له.
ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح؛ فإن النكاح المعروف كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}والتحليل فيه البغضة والنفرة؛ ولهذا لا يظهره أصحابه؛ بل يكتمونه كما يكتم السفاح.

ومن شعائر النكاح إعلانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف} ولهذا يكفي في إعلانه الشهادة عليه عند طائفة من العلماء وطائفة أخرى توجب الإشهاد والإعلان؛ فإذا تواصوا بكتمانه بطل. ومن ذلك الوليمة عليه والنثار والطيب والشراب ونحو ذلك مما جرت به عادات الناس في النكاح.

وأما " التحليل " فإنه لا يفعل فيه شيء من هذا؛ لأن أهله لم يريدوا أن يكون المحلل زوج المرأة ولا أن تكون المرأة امرأته؛ وإنما المقصود استعارته لينزو عليها كما جاء في الحديث المرفوع تسميته بالتيس المستعار؛ ولهذا شبه بحمار العشريين الذي يكترى للتقفيز على الإناث؛ ولهذا لا تبقى المرأة مع زوجها بعد التحليل كما كانت قبله؛ بل يحصل بينهما نوع من النفرة. ولهذا لما لم يكن في التحليل مقصود صحيح يأمر به الشارع: صار الشيطان يشبه به أشياء مخالفة للإجماع فصار طائفة من عامة الناس يظنون أن ولادتها لذكر يحلها أو أن وطأها بالرجل على قدمها أو رأسها أو فوق سقف أو سلم هي تحته يحلها. ومنهم من يظن أنهما إذا التقيا بعرفات كما التقى آدم وامرأته أحلها ذلك.

ومنهن من إذا تزوجت بالمحلل به لم تمكنه من نفسها؛ بل تمكنه من أمة لها. ومنهن من تعطيه شيئا وتوصيه بأن يقر بوطئها. ومنهم من يحلل الأم وبنتها. إلى أمور أخر قد بسطت في غير هذا الموضع بيناها في " كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل " ولا ريب أن المنسوخ من الشريعة وما تنازع فيه السلف خير من مثل هذا؛ فإنه لو قدر أن الشريعة تأتي بأن الطلاق لا عدد له لكان هذا ممكنا وإن كان هذا منسوخا. وإما أن يقال: إن من طلق امرأته لا تحل له حتى يستكري من يطؤها فهذا لا تأتي به شريعة.

وكثير من أهل التحليل يفعلون أشياء محرمة باتفاق المسلمين؛ فإن المرأة المعتدة لا يحل لغير زوجها أن يصرح بخطبتها سواء كانت معتدة من عدة طلاق أو عدة وفاة قال تعالى " {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} فنهى الله تعالى عن المواعدة سرا وعن عزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. وإذا كان هذا في عدة الموت فهو في عدة الطلاق أشد باتفاق المسلمين؛ فإن المطلقة قد ترجع إلى زوجها؛ بخلاف من مات عنها.
وأما " التعريض " فإنه يجوز في عدة المتوفى عنها ولا يجوز في عدة الرجعية وفيما سواهما. فهذه المطلقة ثلاثا لا يحل لأحد أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين وإذا تزوجت بزوج ثان وطلقها ثلاثا لم يحل للأول أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين. وذلك أشد وأشد.
وإذا كانت مع زوجها لم يحل لأحد أن يخطبها لا تصريحا ولا تعريضا: باتفاق المسلمين فإذا كانت لم تتزوج بعد لم يحل للمطلق ثلاثا أن يخطبها؛ لا تصريحا ولا تعريضا. باتفاق المسلمين. وخطبتها في هذه الحال أعظم من خطبتها بعد أن تتزوج بالثاني.
وهؤلاء " أهل التحليل " قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثا ويعزمان قبل أن تنقضي عدتها وقبل نكاح الثاني على عقدة النكاح بعد النكاح الثاني نكاح المحلل ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل وللمحلل وما ينفقه عليها في عدة التحليل والزوج المحلل لا يعطيها مهرا ولا نفقة عدة ولا نفقة طلاق؛ فإذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز في هذه وقت نكاحها بالثاني أن يخطبها الأول - لا تصريحا ولا تعريضا - فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثاني؟ أو إذا كان بعد أن يطلقها الثاني لا يحل للأول أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله:
فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق بل قبل أن يتزوج بل قبل أن تنقضي عدتها منه فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين. وكثير من أهل التحليل يفعله وليس في التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ولا صورة أباحها النص؛ بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه ومنها ما تنازع فيه العلماء.

وأما الصحابة فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له منهم؛ وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة وغيره من الأنكحة التي تنازع فيها السلف؛ وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف كل تحريمه. وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علما ودينا؛ وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم. والله تعالى أعلم.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif


ابوالوليد المسلم 24-04-2022 05:45 PM

رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الرابع
الحلقة (120)

من صــ 133 الى صـ
ـ 140




وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن هذا " التحليل " الذي يفعله الناس اليوم: إذا وقع على الوجه الذي يفعلونه من الاستحقاق والإشهاد وغير ذلك من سائر الحيل المعروفة: هل هو صحيح أم لا؟ وإذا قلد من قال به هل: يفرق بين اعتقاد واعتقاد؟ وهل الأولى إمساك المرأة أم لا؟

فأجاب:
التحليل الذي يتواطئون فيه مع الزوج - لفظا أو عرفا - على أن يطلق المرأة أو ينوي الزوج ذلك: محرم. لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله في أحاديث متعددة وسماه " التيس المستعار " وقال: {لعن الله المحلل والمحلل له}.
وكذلك مثل عمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم لهم بذلك آثار مشهورة: يصرحون فيها بأن من قصد التحليل بقلبه فهو محلل؛ وإن لم يشترطه في العقد. وسموه " سفاحا ". ولا تحل لمطلقها الأول بمثل هذا العقد ولا يحل للزوج المحلل إمساكها بهذا التحليل بل يجب عليه فراقها؛ لكن إذا كان قد تبين باجتهاد أو تقليد جواز ذلك؛ فتحللت وتزوجها بعد ذلك ثم تبين له تحريم ذلك: فالأقوى أنه لا يجب عليه فراقها؛ بل يمنع من ذلك في المستقبل وقد عفا الله في الماضي عما سلف.

(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
في قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها} إلى قوله: {واعلموا أن الله بما تعملون بصير} مع قوله: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} إلى قوله: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} وفي ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه وبعضها متنازع فيه. وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك؛ فهو إما لعدم استطاعته فيعذر. أو لتفريطه فيلام.
وقوله تعالى {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} يدل على أن هذا تمام الرضاعة وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية. وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير. وقوله: {حولين كاملين} يدل على أن لفظ " الحولين " يقع على حول وبعض آخر. وهذا معروف في كلامهم يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك. قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول: " حولين " ويريد أقل منهما كما قال تعالى: {فمن تعجل في يومين} ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر؛ وتقول: لم أر فلانا يومين. وإنما تريد يوما وبعض آخر. قال " كاملين " ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما. وهذا بمنزلة قوله تعالى {تلك عشرة كاملة} فإن لفظ " العشرة " يقع على تسعة وبعض العاشر. فيقال: أقمت عشرة أيام. وإن لم يكملها. فقوله هناك {كاملة} بمنزلة قوله هنا {كاملين} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: قال {الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين} " فالكامل الذي لم ينقص منه شيء؛ إذ الكمال ضد النقصان.
وأما " الموفر " فقد قال: أجرهم موفرا. يقال: الموفر. للزائد؛ ويقال: لم يكلم. أي يجرح كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في " كتاب الزهد " عن وهب بن منبه: {أن الله تعالى قال لموسى وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا؛ لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى} وكان هذا تغيير الصفة وذاك نقصان القدر وذكر " أبو الفرج " هل هو عام في جميع الوالدات؟ أو يختص بالمطلقات؟ على قولين. والخصوص قول سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل في آخرين. والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين. قال القاضي ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج أو مطلقة. " قلت " الآية حجة عليهم؛ فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف؛ لا زيادة على ذلك.

وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة. والآية لا تدل على هذا؛ بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية؛ لأن الولد يتغذى بغذاء أمه وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع. وعلى هذا فلا منافاة بين القولين؛ فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع كما ذكر في " سورة الطلاق " وهذا مختص بالمطلقة وقوله تعالى {حولين كاملين} قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك.

فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة؛ فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره؛ فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم وكذلك الأجل المسمى في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط. وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان.

" أحدهما " قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد فيكون الحولان ثلثمائة وستين. وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما وهو غلط بين.

و " القول الثاني " قول من يقول: منها واحد بالعدد وسائرها بالأهلة. وهذا أقرب؛ لكن فيه غلط؛ فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه فيكون التكميل أحد عشر فيكون المنتهي حادي عشر المحرم وهو غلط أيضا. وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه لأن قوله: {يرضعن} خبر في معنى الأمر.

وهي مسألة نزاع؛ ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء؛ لأن عليهم الاسترضاع؛ لا على الوالدات؛ بدليل قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} وقوله: {فآتوهن أجورهن} فلو كان متحتما على الوالدة لم يكن عليه الأجرة.
فيقال: بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها وهي تستحق الأجرة والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها.
وقوله تعالى {لمن أراد أن يتم الرضاعة} دليل على أنه لا يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة وقد بين ذلك بقوله تعالى: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضى الأبوين فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك كان الأمر لمن أراد الإتمام؛ لأنه قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} وقوله تعالى {يرضعن} صيغة خبر ومعناه الأمر.
والتقدير والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة؛ فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك وكان على الأب رزقها وكسوتها وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك؛ فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا. يدل على ذلك قوله تعالى {لمن أراد أن يتم الرضاعة}. ولفظة (من) إما أن يقال: هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثى فمن أراد الإتمام أرضعن له. وإما أن يقال: قوله تعالى {لمن أراد أن يتم الرضاعة} إنما هو المولود له وهو المرضع له. فالأم تلد له وترضع له كما قال تعالى: {فإن أرضعن لكم}.

والأم كالأجير مع المستأجر. فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له وإن أراد أن لا يتم فله ذلك وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب ومفهومها أيضا جواز الفصل بتراضيهما. يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه؛ لكن مفهوم قوله تعالى {عن تراض} أنه لا يجوز كما ذكر ذلك مجاهد وغيره؛ ولكن تناوله قوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت وكفته بذلك مؤنة الطفل فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر.

ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة. قال مجاهد: " التشاور " فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبى فليس لها وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك على تراض منهما وتشاور يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما. وقوله تعالى {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} قال إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن: روي عن مجاهد والسدي. وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها: بالمعروف: روي عن سعيد بن جبير ومقاتل. وقرأ ابن كثير: (أتيتم) بالقصر.
وقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقل: وعلى الوالد كما قال {والوالدات} لأن المرأة هي التي تلده وأما الأب فلم يلده؛ بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: {وبالوالدين إحسانا} فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا بل أبا. وفيه بيان أن الولد ولد للأب؛ لا للأم؛ ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه.
وهذا يوافق قوله تعالى {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} فجعله موهوبا للأب. وجعل بيته بيته في قوله: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا والمرأة وعاء: فالولد زرع للأب قال تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فالمرأة هي الأرض المزروعة والزرع فيها للأب وقد {نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره} " يريد به النهي عن وطء الحبالى فإن ماء الواطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع وفي الحديث الآخر الصحيح: " {لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستعبده وهو لا يحل له}؟ " وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله صلى الله عليه وسلم {أنت ومالك لأبيك} "
وقوله صلى الله عليه وسلم {إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه} " فقد حصل الولد من كسبه كما دلت عليه هذه الآية؛ فإن الزرع الذي في الأرض كسب المزدرع له الذي بذره وسقاه وأعطى أجرة الأرض فإن الرجل أعطى المرأة مهرها وهو أجر الوطء كما قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} وهو مطابق لقوله تعالى {ما أغنى عنه ماله وما كسب} وقد فسر {وما كسب} بالولد.
فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا ثم أنفق على الرضيع كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز؛ فالزرع هو الولد وهو من كسبه.

وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به؛ كما جاءت به السنة وأن ماله للأب مباح وإن كان ملكا للابن فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن؛ فإذا مات ولم يتملكه ورث عن الابن. وللأب أيضا أن يستخدم الولد ما لم يضر به. وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن؛ فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدى عليه لم يجز فالابن أولى.

http://forum.hwaml.com/imgcache2/hwa...845727_869.gif



الساعة الآن : 05:48 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 908.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 907.04 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.19%)]