ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=262418)

ابوالوليد المسلم 17-02-2022 05:20 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (209)

سُورَةُ الإسراء(26)
صـ 131 إلى صـ 135




ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول : " تحلفون خمسين يمينا وتستحقون قاتلكم . أو : صاحبكم . . " الحديث ، قالوا : فعلى أن الرواية " قاتلكم " فهي صريح في القود بالقسامة . وعلى أنها " صاحبكم " فهي محتملة لذلك احتمالا قويا . وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر " صاحبكم " لاحتمل أن يكون المراد به المقتول ، وأن المعنى : تستحقون ديته . والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول ; لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملا ، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه .

ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه " .

ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " قالوا : معنى " دم صاحبكم " قتل القاتل .

وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد " بدم صاحبكم " الدية ، وهو احتمال قوي أيضا ; لأن العرب تطلق الدم على الدية ، ومنه قوله :


أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر


ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد ، قالا : حدثنا الوليد ( ح ) ، وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، أخبرنا الوليد ، عن أبي عمرو ، عن عمرو بن شعيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لية البحرة ، قال : القاتل والمقتول منهم ، وهذا لفظ محمود : ببحرة ، أقامه محمود وحده على شط لية اهـ . وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله : " عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما ترى . وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا ، وقال : هذا منقطع ، ثم قال : وروى أبو داود أيضا في المراسيل عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد ، عن قتادة ، وعامر الأحول عن أبي المغيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقاد بالقسامة الطائف " ، وهو أيضا منقطع . وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال : أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت ، أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران [ ص: 132 ] رجلا ضربه بشويق ، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك ، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا ، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة ، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه ، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره . ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه : أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص : إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا .

وقال البيهقي في سننه أيضا : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا بحر بن نصر ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد : أن هشام بن عروة أخبره : أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة . . . فذكر الحديث في قتله ، قال : فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك ، فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب ، فثنى عليهم الأيمان ، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما ، فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه ، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه . قال هشام : فلم ينكر ذلك عروة ، ورأى أن قد أصيب فيه الحق ، وروينا فيه عن الزهري وربيعة .

ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير : أنهما أقادا بالقسامة .

ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك ، وقال : إن وجد أصحابه بينة ، وإلا فلا تظلم الناس ، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة . انتهى كلام البيهقي رحمه الله .

هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة .

وأما حجج من قال : لا يجب بها إلا الدية فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب " .

قال النووي في شرح مسلم : معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم ، فإما أن يدوا صاحبكم - أي : يدفعوا إليكم ديته - وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا ، فينتقض عهدهم ، ويصيرون حربا لنا .

وفيه دليل لمن يقول : الواجب بالقسامة الدية دون القصاص . اهـ كلام النووي ، [ ص: 133 ] رحمه الله .

ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم " ، قالوا : هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص .

ومن أدلتهم أيضا ما ذكره الحافظ ( في فتح الباري ) ، قال : وتمسك من قال : لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه ، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي ، قال : وجد قتيل بين حيين من العرب ، فقال عمر : قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينا ، وأغرموهم الدية . وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة ، عن منصور ، عن الشعبي : أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران ووداعة أن يقاس ما بين القريتين ; فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلا حتى يوافوه في مكة ، فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، ثم قضى عليهم الدية ، فقال : " حقنت بأيمانكم دماءكم ، ولا يطل دم رجل مسلم " .

قال الشافعي : إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور ، والحارث غير مقبول . انتهى . وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد : أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم " أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب " ، ولكن سنده ضعيف .

وقال عبد الرزاق في مصنفه : قلت لعبد الله بن عمر العمري : أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال : لا . قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا . قلت : فعمر ؟ قال : لا . قلت : فلم تجترئون عليها ؟ فسكت .

وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر قال في القسامة : توجب العقل ولا تسقط الدم . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله .

فهذه هي أدلة من قال : إن القسامة توجب الدية ولا توجب القصاص .

وأما حجة من قال : إن القسامة لا يلزم بها حكم ، فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه ، ولم يعلموا أحق هو أم باطل ، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة ، حدثني أبو [ ص: 134 ] قلابة : أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ، ثم أذن لهم فدخلوا ، فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قالوا : نقول القسامة القود بها حق ، وقد أقادت بها الخلفاء . قال لي : ما تقول يا أبا قلابة ؟ ونصبني للناس . فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه ، أكنت ترجمه ؟ قال : لا . قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق ، أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا . قلت : فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام . . . إلى آخر حديثه .

ومراد أبي قلابة واضح ، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروه .

هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة ، وهذه حججهم .

قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي دليلا - القود بالقسامة ; لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم " ، وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى . ولم يثبت ما يعارض هذا . والقسامة أصل وردت به السنة ، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع ، كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفا ; لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه ، شرع لحياة الناس وردع المعتدين ، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك .
تنبيه

اعلم أن رواية سعيد بن عبيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم " لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة " وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة ، قال : " يحلفون " يعني اليهود المدعى عليهم ، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلا - لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة ; لأن سعيد بن عبيد وهم فيها ، فأسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين ، لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين . ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولا على أولياء المقتول ، فلما أبوا عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم . فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة [ ص: 135 ] من ثقة حافظ فوجب قبولها . وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد ( في باب القسامة ) وذكر رواية يحيى بن سعيد ( في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين ) وفيها : " تحلفون وتستحقون قاتلكم " أو صاحبكم . . . الحديث . والخطاب في قوله " تحلفون وتستحقون " لأولياء المقتول .

وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد - ابن حجر في الفتح وغير واحد ، لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها ; كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول .

وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : فقلنا اضربوه ببعضها الآية [ 2 \ 73 ] ، وقد أسند حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين - يحيى بن سعيد ، وابن عيينة ، وحماد بن زيد ، وعبد الوهاب الثقفي ، وعيسى بن حماد ، وبشر بن المفضل ، فهؤلاء سبعة . وإن كان أرسله مالك ، فقد وصله جماعة الحفاظ ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد .

وقال مالك رحمه الله ( في الموطأ ) بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث : أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون . اهـ محل الغرض منه .

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث ، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة ، فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين :

الأول : أن يقول المقتول : دمي عند فلان . وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك ، أو لا بد من اثنين ؟ خلاف عندهم .

والثاني : أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 17-02-2022 05:20 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (210)

سُورَةُ الإسراء(27)
صـ 136 إلى صـ 140



قال مالك في الموطأ : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون ، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين : إما أن يقول المقتول دمي عند فلان ، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم ، فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه ، ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين [ ص: 136 ] الوجهين . اهـ محل الغرض منه ، هكذا قال في الموطأ ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله .

واعلم أن كثيرا من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول : قتلني فلان .

قالوا : هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة .

واحتج مالك رحمه الله بأمرين :

الأول : أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت : الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيئ ، وقد دلت على ذلك آيات قرآنية ; كقوله : وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين [ 63 \ 10 ] ، وقوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [ 4 \ 18 ] ، وقوله : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 84 ] إلى غير ذلك من الآيات .

فهذا معهود من طبع الإنسان ، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره ، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له .

الأمر الثاني : أن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول : دمي عند فلان .

فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله : قتلني فلان ، أو : دمي عند فلان ، في رواية ابن وهب وابن القاسم .

ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء القتيل معجزة لنبي الله موسى ، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه ، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جازما لا يدخله احتمال ، فافترقا .

ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول ، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد .

قال : وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك ، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعله أمرهم بالقسامة معه . اهـ كلام ابن العربي . وهو غير ظاهر عندي ; لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله ، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها [ 2 \ 72 ] . فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي ، والله تعالى أعلم . والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم ، وروى أشهب عن مالك : أنه [ ص: 137 ] يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة ، وروى ابن وهب : أن شهادة النساء لوث . وذكر محمد عن ابن القاسم : أن شهادة المرأتين لوث ، دون شهادة المرأة الواحدة .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي : اختلف في اللوث اختلافا كثيرا . ومشهور مذهب مالك : أنه الشاهد العدل . وقال محمد : هو أحب إلي ، قال : وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم .

وممن أوجب القسامة بقوله : دمي عند فلان : الليث بن سعد ، وروي عن عبد الملك بن مروان .

والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول : دمي عند فلان ، منهم من يقول : يشترط في ذلك أن يكون به جراح ، ومنهم من أطلق .

والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية : أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول ، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب .

واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك .

الأولى : أن يشهد عدلان بالضرب ، ثم يعيش المضروب بعده أياما ، ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة . وبه قال الليث أيضا .

وقال الشافعي : يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب ، وهو مروي أيضا عن أبي حنيفة .

الثانية : أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل ، وعليه أثر الدم مثلا ، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك . وبه قال الشافعي . ويلحق بهذا أن تفترق جماعة عن قتيل ، وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين : أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين .

أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما ، والجمهور على أن القسامة عليهما معا مطلقا . قاله ابن حجر في الفتح .

وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة ، فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله ، فيحلف خمسون رجلا من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ، ولا يحلف الولي ، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة .

وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة : الثوري والأوزاعي . [ ص: 138 ] وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية : أن يوجد بالقتيل أثر . وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة ، بل يكون هدرا ; لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة ، وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة ; كقصة اليهود مع الأنصاري .

وأما الشافعي رحمه الله ، فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته ; كالواحد أو جماعة غير عدول . وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه ، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلا ، ولا يوجد غيره ، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل .

وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين ، والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين : أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها ، وكذلك تجب عنده فيما كان كقصة اليهودي مع الأنصاري .

وأما الإمام أحمد ، فاللوث الذي تجب به القسامة عنده ، فيه روايتان .

الأولى : أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ، كنحو ما كان بين الأنصار واليهود ، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب ، وما جرى مجرى ذلك . ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم ، نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ . واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي ; قاله في المغني .

والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي ، وذلك من وجوه :

أحدها : العداوة المذكورة .

والثاني : أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم ، فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ، ذكره القاضي ، وهو مذهب الشافعي .

والثالث : أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم ، ولا يوجد غيره .

الرابع : أن تقتتل فئتان فيفترقوا عن قتيل من إحداهما ، فاللوث على الأخرى . [ ص: 139 ] ذكره القاضي ، فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا ، فاللوث على طائفة القتيل ، وهذا قول الشافعي . وروي عن أحمد : أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه ، وهذا قول مالك . وقال ابن أبي ليلى : على الفريقين جميعا ، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه ، وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور .

الخامس : أن يشهد بالقتل عبيد ونساء ; فعن أحمد هو لوث ، لأنه يغلب على الظن صدق المدعي ، وعنه : ليس بلوث ، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر .

فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة ، فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث ، فإنه قال في من مات بالزحام يوم الجمعة : ديته في بيت المال . وهذا قول إسحاق ، وروي عن عمر وعلي ، فإن سعيدا روى في سننه عن إبراهيم قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة . فجاء أهله إلى عمر ، فقال : بينتكم على من قتله . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، لا يطل دم امرئ مسلم ، إن علمت قاتله وإلا فأعطهم ديته من بيت المال . انتهى من المغني .

وقد قال ابن حجر في الفتح ( في باب إذا مات في الزحام أو قتل به ) في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه : وحجته ( يعني إعطاء ديته من بيت المال ) ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة ، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة : أن والد حذيفة قتل يوم أحد ، قتله بعض المسلمين يظن أنه من المشركين ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم له شاهد مرسل أيضا ( في باب العفو عن الخطأ ) وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور : أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات ، فوداه علي من بيت المال .

وفي المسألة مذاهب أخرى ( منها ) قول الحسن البصري : أن ديته تجب على جميع من حضر ، وهو أخص من الذي قبله . وتوجيهه : أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم . ( ومنها ) قول الشافعي ومن تبعه : أنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف ، فإن حلفت استحققت الدية ، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة . وتوجيهه : أن الدم لا يجب إلا بالطلب .

( ومنها ) قول مالك : دمه هدر . وتوجيهه : أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد . وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب ( في باب العفو عن الخطأ ) انتهى [ ص: 140 ] كلام ابن حجر رحمه الله .

والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطبا للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ : " غفر الله لكم " استدل به من قال : إن ديته وجبت على من حضر ; لأن معنى قوله : " غفر الله لكم " ، عفوت عنكم ، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به . انتهى محل الغرض منه . فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله .

قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به : أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم ; لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه ، وقد تقرر في الأصول " أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن " وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي :


بغالب الظن يدور المعتبر فاعتبر الإسلام كل من غبر
، إلخ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:02 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (211)

سُورَةُ الإسراء(28)
صـ 141 إلى صـ 145


فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة ، وإنما يحلف فيها الرجال . وبهذا قال أبو حنيفة ، وأحمد ، والثوري ، والأوزاعي ، وربيعة ، والليث ، ووافقهم مالك في قسامة العمد ، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة . وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة . وقال الشافعي : يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكرا كان أو أنثى ، عمدا كان أو خطأ .

واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلا منكم . قالوا : ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم .

واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم : " تحلفون خمسين يمينا فتستحقون دم صاحبكم " ، فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص ، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئا ، فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية .

وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم ، فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم " ما نصه : هذا مما يجب تأويله ; لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة . وتأويله عند أصحابنا : أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينا ، والحالف هم الورثة ، فلا يحلف أحد من [ ص: 141 ] الأقارب غير الورثة ، يحلف كل الورثة ذكورا كانوا أو إناثا ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، هذا مذهب الشافعي ، وبه قال أبو ثور وابن المنذر . ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ ، وأما في العمد فقال : يحلف الأقارب خمسين يمينا ، ولا تحلف النساء ولا الصبيان . ووافقه ربيعة والليث ، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر . انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله .

ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره .
الفرع الثاني : قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه ; فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم ، وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم ; فإن حلفوها برئوا عند الجمهور ، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم : " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم " أي يبرءون منكم بذلك . وهذا قول مالك والشافعي ، والرواية المشهورة عن أحمد ، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور ، كما نقله عنهم صاحب المغني .

وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل المحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية ، وذكر نحوه أبو الخطاب رواية عن أحمد . وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا ، ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم ، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم .

الفرع الثالث : إن امتنع المدعون من الحلف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم ، فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .
الفرع الرابع : إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم : لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يمينا ، ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم .

قال مالك في الموطأ : وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ، وهو مذهب الإمام أحمد .

وقال بعض علماء الحنابلة : تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية ; لأن المدعى عليهم متساوون . وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا ، فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين فقيل يحبسون حتى يحلفوا ، وهو قول أبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، وهو مذهب [ ص: 142 ] مالك أيضا ، إلا أن المالكية يقولون : إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا ، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة ، ولا أعلم لهذا دليلا ، وأظهر الأقوال عندي : أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الأيمان ، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد ، وهو اختيار أبي بكر ; لأنه حكم ثبت بالنكول فثبت في حقهم هاهنا كسائر الدعاوى ; قال في المغني : وهذا القول هو الصحيح ، والله تعالى أعلم .
الفرع الخامس : اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة ; فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة ، فلو كان للمقتول ابن واحد مثلا استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها ، وأظهر الأقوال دليلا هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة : " يحلف خمسون منكم . " الحديث . وهما ابنا عم المقتول ، ولا يرثان فيه لوجود أخيه ، وقد قال لهم " يحلف خمسون منكم " ، وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلا وارثون ، لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسبا .

وأجاب المخالفون بأن الخطاب للمجموع مرادا به بعضهم ، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده ; فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينا ، وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث ، فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معينا لا وارثا ، فإن كان وارثا يصح عفوه عن الدم ، سقط القود بنكوله ، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا . هذا مذهب مالك رحمه الله .

وأما القسامة في الخطأ عند مالك رحمه الله فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم ، فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يمينا كلها واستحق نصيبه من الدية .

وأما الشافعي رحمه الله فقال : لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يمينا سواء قلوا أم كثروا ، فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يمينا ، وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين ، فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحق حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق .

وقد قدمنا أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله : أن القسامة إنما تستحق بها [ ص: 143 ] الدية لا القصاص .

وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان :

الأولى : أنه يحلف خمسون رجلا من العصبة خمسين يمينا ، كل رجل يحلف يمينا واحدة ، فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك ، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون ، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون ، وهذا قول لمالك أيضا ، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح .

والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة ، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم ، فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق ، إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد ، فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة . وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي حامد .

وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد بها القتيل ، فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلا .

تنبيه

قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ، فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار ، فإن تساووا جبر الكسر عليهم ، كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين ; فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يمينا ، وهو ست عشرة وثلثان ، فيتمم الكسر على كل واحد منهم ، فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا .

فإن قيل : يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يمينا ; لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يمينا .

فالجواب : أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز ، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز ، فعلم استواؤهم في جبر الكسر ، فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستو في قدر كسرها الحالفون ، كأن كان على أحدهم نصفها ، وعلى آخر ثلثها ، وعلى آخر سدسها ، حلفها من عليه نصفها تغليبا للأكثر ، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس . وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم ، وقال غيرهم : تجبر على الجميع . والله تعالى أعلم .

[ ص: 144 ] وقال بعض أهل العلم : يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا ، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه . واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يمينا كلها . قال : وما يحلفه منفردا يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى .

قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول بعيد فيما يظهر ; لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط ، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السادس : لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد ، وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها ، منهم مالك وأحمد والزهري ، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم .

وهذا القول هو الصواب ، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره :

" يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته . " الحديث . فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم " يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد . وقيل : يستحق بالقسامة قتل الجماعة ; لأنها بينة موجبة للقود ، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة ، وممن قال بهذا أبو ثور ، قاله ابن قدامة في المغني .

وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا ؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا ؟ فقال بعض أهل العلم : تسمع على غير معين ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلا بقصة الأنصاري المقتول بخيبر ; لأن أولياءه ادعوا على يهود خيبر . وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين ، قالوا : ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم " فبين أن المدعى عليه لا بد أن يعين .

وقال بعض من اشترط كونها على معين : لا بد أن تكون على واحد ، وهو قول أحمد ومالك .

وقال بعض من يشترط كونها على معين : يجوز الحلف على جماعة معينين ، وقد قدمنا اختلافهم : هل يجوز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد ، وهو ظاهر الحديث ، وهو الحق إن شاء الله .

وقال أشهب صاحب مالك : لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل ، [ ص: 145 ] ويسجن الباقون عاما ، ويضربون مائة .

قال ابن حجر في الفتح : وهو قول لم يسبق إليه ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت ، ودعوى القتل أيضا على البت ، فإن قيل : كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره ، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم ؟

فالجواب : أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا ، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قتله حلف على ذلك ، وإن لم يغلب على ظنه غلبة قوية فلا يجوز له الإقدام على الحلف .

الفرع الثامن : إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وارثه ما كان عليه من الأيمان ، وكانت بينهم على حسب مواريثهم ، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم ; لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه .

ولنكتف بما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة ، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جدا ، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع .
غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة

وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها أيام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه - أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية ، لأنه من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلما ، والله تعالى يقول : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] ، وكان الأمر كما قال ابن عباس .

وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسيره هذه الآية الكريمة ، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه ، وهو استنباط غريب عجيب ، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:02 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (212)

سُورَةُ الإسراء(29)
صـ 146 إلى صـ 150


قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا

نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم ، ويشمل ذلك قوله : رأيت ، ولم ير . وسمعت ، ولم يسمع ، وعلمت ، ولم يعلم . ويدخل فيه كل قول بلا علم ، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم ، وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر ; كقوله : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ ص: 146 ] [ 2 \ 169 ] ، وقوله :

قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم الآية [ 49 \ 12 ] ، وقوله : قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقوله : وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 \ 28 ] ، وقوله : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ 4 \ 157 ] ، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة - كثيرة جدا ، وفي الحديث : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " .
تنبيه

أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد ، قالوا : لأنه اتباع غير العلم .

قال مقيده عفا الله عنه : لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه ، وكفر متبعه ; كقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] وقوله : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] ، وقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] ، وقوله : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 21 \ 24 ] ، وقوله : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] إلى غير ذلك من الآيات .
أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات على منع الاجتهاد في الشرع مطلقا ، وتضليل القائل به ، ومنع التقليد من أصله - فهو من وضع القرآن في غير موضعه ، وتفسيره بغير معناه ، كما هو كثير في [ ص: 147 ] الظاهرية ; لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة ، ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه ، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين ; كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به - لا وجه لمنعه ، وكان جاريا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينكره أحد من المسلمين . وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى " في سورة الأنبياء والحشر " مسألة الاجتهاد في الشرع ، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به ، قياسا كان الإلحاق أو غيره ، ونبين أدلة ذلك ، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام ، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم ، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك .
وسنذكر هنا طرفا قليلا من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه ، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم .

اعلم أولا أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر ، وهو نوع من القياس الجلي ، ويسميه الشافعي رحمه الله " القياس في معنى الأصل " وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس ، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما ; أعني الفرق المؤثر في الحكم .

ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه .

وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 ، 8 ] فإنه لا شك أيضا في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة ، والإثابة بمثقال الجبل المسكوت عنه .

وقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل الآية [ 65 \ 2 ] ، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة ، وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتا عنها .

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء ، مع أن ذلك مسكوت عنه .

وقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية [ 4 \ 10 ] ، لا شك في أنه [ ص: 148 ] يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه ; لأن الجميع إتلاف له بغير حق .

وقوله صلى الله عليه وسلم : " من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق " يدل على أن من أعتق شركا له في أمة فحكمه كذلك ، لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما .

وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " ، لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر ; كالجوع والعطش المفرطين ، والسرور والحزن المفرطين ، والحقن والحقب المفرطين .

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد ، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلا ، وصب البول من القارورة في الماء الراكد ; إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر . ولا شك أن في ذلك كله استدلالا بمنطوق به على مسكوت عنه . وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول " بتحقيق المناط " لا يمكن أن ينكره إلا مكابر ، ومسائله التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر ، وسنذكر أمثلة منها ; فمن ذلك قوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم ، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه ، وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلا من أصله ، والإنفاق على الزوجات واجب ، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم ، وقيم المتلفات واجبة على من أتلف ، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد ، والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها ، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن ; لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله ، ولا يحكم إلا بقول العدل ، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة . وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .

ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن [ ص: 149 ] يحيى التميمي ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " .

وحدثني إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله ، وزاد في عقب الحديث : قال يزيد : فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : أخبرنا مروان - يعني ابن محمد الدمشقي - حدثنا الليث بن سعد ، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث ، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعا . انتهى .

فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم ، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئا في اجتهاده ، وهذا يقطع دعوى الظاهرية منع الاجتهاد من أصله ، وتضليل فاعله والقائل به قطعا باتا كما ترى .

وقال النووي في شرح هذا الحديث : قال العلماء : أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ; فإن أصاب فله أجران : أجر باجتهاده ، وأجر بإصابته ، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده . وفي الحديث محذوف تقديره : إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد . قالوا : فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم ، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ، ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا ; لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي ، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا ، وهي مردودة كلها ، ولا يعذر في شيء من ذلك . وقد جاء في الحديث في السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، واثنان في النار . قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار ، وقاض قضى على جهل فهو في النار " انتهى الغرض من كلام النووي .

فإن قيل : الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد .

فالجواب أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه ، وذلك ممنوع .

[ ص: 150 ] وقال البخاري في صحيحه : باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ . حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا حيوة ، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " ، قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة . وقال عبد العزيز بن المطلب ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبي سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . اهـ . فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية . ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه ، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه - لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى ; لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له : " فبم تحكم " ؟ قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : أجتهد رأيي . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه : وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه .

وقال ابن قدامة ( في روضة الناظر ) بعد أن ساق هذا الحديث : قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص ، والحارث والرجال مجهولون ; قاله الترمذي . قلنا : قد رواه عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ رضي الله عنه . انتهى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:03 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (213)

سُورَةُ الإسراء(30)
صـ 151 إلى صـ 155




ومراد ابن قدامة ظاهر ; لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه ، وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله : هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد ; لأنها ليست في المسند ولا في [ ص: 151 ] السنن ، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولا ليس فيهم مجروح ولا متهم ، وسيأتي استقصاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء . ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا . وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي ، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين ، قاله في التقريب ، وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديما وحديثا بالقبول ، وسيأتي إن شاء الله " في سورة الأنبياء " ، و " سورة الحشر " ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم .

ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ، أفأصوم عنها ؟ قال : " أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته ، أكان يؤدي ذلك عنها " ؟ قالت : نعم . قال : " فصومي عن أمك " وفي رواية لهما عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، أفأقضيه عنها ؟ قال : " لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيه عنها " ؟ قال : نعم . قال : " فدين الله أحق أن يقضى " . انتهى .

واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطرابا ، لأنها وقائع متعددة : سألته امرأة فأفتاها ، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة ، كما نبه عليه غير واحد .

وهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم ; لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي ، بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه ، وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى .

ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضا : ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هل لك إبل " ؟ قال : نعم . قال : " فما ألوانها " ؟ قال : حمر . قال : " فهل يكون فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا . قال : " فأنى أتاها ذلك " ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق . قال : " وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " . اهـ .

فهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره ، وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي ، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه ، ليس موجبا للعان ; [ ص: 152 ] فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود ، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد ; كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجدادا ورقا نزعت ألوانها إلى الورقة ، وبهذا اقتنع السائل .

ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره : ما رواه أبو داود ، والإمام أحمد ، والنسائي ، عن عمر رضي الله عنه قال : هششت يوما فقبلت وأنا صائم . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : صنعت اليوم أمرا عظيما ! قبلت وأنا صائم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم " ؟ فقلت : لا بأس بذلك . فقال صلى الله عليه وسلم " فمه " . اهـ .

فإن قيل : هذا الحديث قال فيه النسائي : منكر .

قلنا : صححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم . قاله الشوكاني في نيل الأوطار .

قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح . قال : أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث ( ح ) وثنا عيسى بن حماد ، أخبرنا الليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال عمر بن الخطاب : هششت فقبلت . . إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفا . ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح ، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد ، أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ ، وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة ، ثقة . وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت ، فقيه إمام مشهور . وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله ، أو أبو يوسف المدني ، نزيل مصر ; ثقة . وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة . وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى . فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة ; لأن المضمضة مقدمة الشرب ، والقبلة مقدمة الجماع ، فالجامع بينهما أن كلا منهما مقدمة الفطر ، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها .

فهذه الأدلة التي ذكرنا - فيها الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له .

[ ص: 153 ] فإن قيل : إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك .

قلنا : فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل ، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته ، فكلها تثبت بها الحجة ، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى .
مسألة

قال ابن خويز منداد من علماء المالكية : تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة ; لأنه لما قال : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] دل على جواز ما لنا به علم ، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به . وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص ; لأنه ضرب من غلبة الظن ، وقد يسمى علما اتساعا ، فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما ، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل عن طريق الشبه . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه ، فقال : " ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة ، قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال : إن بعض هذه الأقدام لمن بعض " وفي حديث يونس بن يزيد : وكان مجزز قائفا . اهـ بواسطة نقل القرطبي في تفسيره .

قال مقيده عفا الله عنه : من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة ، فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها ، واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جدا بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة .

قالوا : فلو كان الشبه تثبت به الأنساب لأثبت النبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به ، فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها ، والحكم بأن الولد ابن زنى ، ولم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك كما يأتي إيضاحه ( في سورة النور ) إن شاء الله تعالى .

وهذا القول بعدم اعتبار أقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم .

وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد ، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي : إن بعض هذه الأقدام من بعض ، حتى برقت أسارير وجهه من السرور .

[ ص: 154 ] قالوا : وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه ، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل ; لأن تقريره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه ، وأحرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه ، وهو واضح كما ترى .

واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا ، فمنهم من قال : لا يقبل ذلك إلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر . ومنهم من قال : يقبل ذلك في الجميع .

قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء ; لأن سرور النبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة ، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول ، وهو قول الجمهور وهو الحق ، خلافا للإمام مالك رحمه الله قائلا : إن صورة السبب ظنية الدخول ، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله :


واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب
تنبيهان

الأول : لا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانت أمه فراشا لرجل آخر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ، ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشا لزمعة ; فقال صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب ، فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها : " احتجبي عنه " مع أنه ألحقه بأبيها ، فلم ير سودة قط ، وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم .
التنبيه الثاني

قال بعض علماء العربية : أصل القفو البهت والقذف بالباطل ، ومنه الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا " أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس ، وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه ، وقوله " لا نقفو أمنا " أي لا نقذف أمنا ونسبها ، ومنه قول الكميت :


فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا


وقول النابغة الجعدي :

[ ص: 155 ]
ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا


والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب : الاتباع كما هو معلوم من اللغة ، ويدخل فيه اتباع المساوي كما ذكره من قال : إن أصله القذف والبهت .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] فيه وجهان من التفسير :

الأول : أن معنى الآية أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه ، فيقال له : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه ؟

ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله : ولتسألن عما كنتم تعملون [ 16 \ 93 ] ، وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

والوجه الثاني : أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها ، فتشهد عليه جوارحه بما فعل .

قال القرطبي في تفسيره : وهذا المعنى أبلغ في الحجة ; فإنه يقع تكذيبه من جوارحه ، وتلك غاية الخزي ، كما قال : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، وقوله : شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون [ 41 \ 20 ] .

قال مقيده عفا الله عنه : والقول الأول أظهر عندي ، وهو قول الجمهور .

وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر ; لأن قوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] ، يفيد تعليل النهي في قوله : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] بالسؤال عن الجوارح المذكورة ، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه : أن " إن " المكسورة من حروف التعليل . وإيضاحه : أن المعنى : انته عما لا يحل لك ; لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره ، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه ، فلا تستعمل نعمه في معصية .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:03 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (214)

سُورَةُ الإسراء(31)
صـ 156 إلى صـ 160




ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ ص: 156 ] [ 16 \ 78 ] ، ونحوها من الآيات . والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله : أولئك راجعة إلى السمع والبصر والفؤاد ، وهو دليل على الإشارة " أولئك " لغير العقلاء وهو الصحيح ، ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي :


يا ما أميلح غزلانا شدن لنا من هاؤليائكن الضال والسمر


وقول جرير :


ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام


خلافا لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه ، وأن الرواية فيه " بعد أولئك الأقوام " والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا

نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية . وقوله : مرحا [ 17 \ 37 ] مصدر منكر ، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة :


ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع


وقرئ : " مرحا " بكسر الراء على أنه الوصف من مرح ( بالكسر ) يمرح ( بالفتح ) أي : لا تمش في الأرض في حال كونك متبخترا متمايلا مشي الجبارين .

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله عن لقمان مقررا له : ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك الآية [ 31 \ 18 ، 19 ] ، وقوله : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الآية [ 25 \ 63 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأصل المرح في اللغة : شدة الفرح والنشاط ، وإطلاقه على مشي الإنسان متبخترا مشي المتكبرين ; لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة .

وأظهر القولين عندي في قوله تعالى : إنك لن تخرق الأرض [ 17 \ 37 ] أن معناه لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها وشدة وطئك عليها ، ويدل لهذا المعنى قوله بعده : ولن تبلغ الجبال طولا [ 17 \ 37 ] أي : أنت أيها المتكبر المختال ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين ، أنت عاجز عن التأثير فيهما ، فالأرض التي تحتك لا تقدر أن [ ص: 157 ] تؤثر فيها فتخرقها بشدة وطئك عليها ، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها ; فاعرف قدرك ، ولا تتكبر ، ولا تمش في الأرض مرحا .

القول الثاني أن معنى لن تخرق الأرض [ 17 \ 37 ] لن تقطعها بمشيك . قاله ابن جرير ، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج :


وقاتم الأعماق خاوي المخترق مشتبه الأعلام لماع الخفق


لأن مراده بالمخترق : مكان الاختراق . أي المشي والمرور فيه . وأجود الأعاريب في قوله : طولا أنه تمييز محول عن الفاعل ، أي لن يبلغ طولك الجبال ، خلافا لمن أعربه حالا ومن أعربه مفعولا من أجله ، وقد أجاد من قال :


ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم هم منك أرفع



وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع


واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا [ 17 \ 37 ] على منع الرقص وتعاطيه ; لأن فاعله ممن يمشي مرحا .
قوله تعالى : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما

الهمزة في قوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين [ 17 \ 40 ] للإنكار ، ومعنى الآية : أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون ، لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه ، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البنات ! وهذا خلاف المعقول والعادة ، فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها ، فلو كان جل وعلا متخذا ولدا - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهما ، ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما .

وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، فقد جعلوا له الأولاد ! ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناث ، وهم لا يرضونها لأنفسهم .

وقد بين الله تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] ، وقوله : أم له البنات ولكم البنون ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد بينا ذلك بإيضاح في " سورة النحل " ، وقوله في هذه الآية الكريمة : [ ص: 158 ] إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] بين فيه أن ادعاء الأولاد لله - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - أمر عظيم جدا ، وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 88 - 95 ] ، فالمشركون - قبحهم الله - جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، ثم ادعوا أنهم بنات الله ، ثم عبدوهم ; فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث ، والهمزة والفاء في نحو قوله : أفأصفاكم [ 17 \ 40 ] قد بينا حكمها بإيضاح في " سورة النحل " أيضا .
قوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا .

قرأ جمهور القراء " كما تقولون " بتاء الخطاب . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كما يقولون [ 17 \ 42 ] بياء الغيبة . وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير ، كلاهما حق ويشهد له قرآن . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق ، وكلاهما يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع لأنه كله حق .

الأول من الوجهين المذكورين : أن معنى الآية الكريمة : لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا ( أي الآلهة المزعومة ) أي لطلبوا إلى ذي العرش ( أي إلى الله ) سبيلا ; أي إلى مغالبته وإزالة ملكه ، لأنهم إذا يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض . سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا !

وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي ، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة ، ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 ، 92 ] ، وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ 21 \ 22 ] وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبي علي الفارسي ، والنقاش ، وأبي منصور ، وغيره من المتكلمين .

الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة : أن المعنى لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ ص: 159 ] أي : طريقا ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية [ 17 \ 57 ] ، ويروى هذا القول عن قتادة ، واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره .

ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول ; لأن في الآية فرض المحال ، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له ، لا يظهر معه أنها تتقرب إليه ، بل تنازعه لو كانت موجودة ، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا

في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير :

الأول : أن المعنى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا ; أي حائلا وساترا يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به ، وعلى هذا القول فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه ، والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة ; كقوله : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 41 \ 5 ] ، وقوله : ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] ، وقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الآية [ 18 \ 57 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وممن قال بهذا القول في معنى الآية : قتادة والزجاج وغيرهما .

الوجه الثاني في الآية : أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه ، قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية : أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، قالت : لما نزلت : تبت يدا أبي لهب [ 111 \ 1 ] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :

مذمما أبينا . . ودينه قلينا . . وأمره عصينا

ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ؟ فقال : " إنها لن تراني " وقرأ قرآنا اعتصم به ، كما قال تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ ص: 160 ] [ 17 \ 45 ] ، فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني . فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا ورب هذا البيت ما هجاك ، فانصرفت وهي تقول : قد علمت قريش أني بنت سيدها
، إلى غير ذلك من الروايات بهذا المعنى .

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه : ولقد اتفق لي ببلادنا - الأندلس - بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا ، وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه ، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء ، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن ، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا ، وأحدهما يقول للآخر : هذا ديبلة ( يعنون شيطانا ) وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني . اهـ ، وقال القرطبي : إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر .

والعلم عند الله تعالى .

وقوله في هذه الآية الكريمة : حجابا مستورا قال بعض العلماء : هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل ; أي حجابا ساترا ، وقد يقع عكسه كقوله تعالى : من ماء دافق [ 86 \ 6 ] أي مدفوق عيشة راضية [ 69 \ 21 ] أي مرضية . فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية ، والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق " مجازا عقليا " ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية ; قولهم : ميمون ومشئوم ، بمعنى يامن وشائم . وقال بعض أهل العلم : قوله : مستورا على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول ; لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه ، أو مستورا به القارئ فلا يراه غيره ، واختار هذا أبو حيان في البحر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على قلوب الكفار أكنة ( جمع كنان ) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه ، لئلا يفقهوا القرآن ، أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن ; أي فهم معانيه فهما ينتفع به صاحبه ، وأنه جعل في آذانهم وقرا ; أي صمما وثقلا لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:04 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (215)

سُورَةُ الإسراء(32)
صـ 161 إلى صـ 165





وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به ، وأنه هو كفرهم ، [ ص: 161 ] فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها ، كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم الآية [ 61 \ 5 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ 6 \ 110 ] ، وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 102 ] ، وقوله : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 125 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

تنبيه

في هذه الآية الكريمة الرد الواضح على القدرية في قولهم : إن الشر لا يقع بمشيئة الله ، بل بمشيئة العبد ; سبحان الله وتعالى علوا كبيرا عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته ؟ ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية [ 32 \ 13 ] ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال : " لا إله إلا الله " ولى الكافرون على أدبارهم نفورا ، بغضا منهم لكلمة التوحيد ، ومحبة للإشراك به جل وعلا .

وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، مبينا أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار ، كقوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [ 39 \ 45 ] ، وقوله : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقوله : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون [ 37 \ 35 ، 36 ] ، وقوله : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الآية [ 42 \ 13 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] ، وقوله : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ 41 \ 72 ] .

[ ص: 162 ] وقوله في هذه الآية : نفورا [ 17 \ 46 ] جمع نافر ; فهو حال . أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك ، والفاعل يجمع على فعول كساجد وسجود ، وراكع وركوع .

وقال بعض العلماء : " نفورا " مصدر ، وعليه فهو ما ناب عن المطلق من قوله : ولوا ; لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه .
قوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا

; بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم ; أي إزالة المكروه عنهم ، ولا تحويلا ، أي تحويله من إنسان إلى آخر ، أو تحويل المرض إلى الصحة ، والفقر إلى الغنى ، والقحط إلى الجدب ، ونحو ذلك . ثم بين فيها أيضا أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته ، ويبتغون الوسيلة إليه ، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم .

قال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في قوم من العرب من خزاعة - أو غيرهم - كانوا يعبدون رجالا من الجن ، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الآية [ 17 \ 57 ] ، وعن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا يعبدون عزيرا والمسيح وأمه ، وعنه أيضا ، وعن ابن مسعود ، وابن زيد ، والحسن : أنها نزلت في عبدة الملائكة . وعن ابن عباس : أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه .

وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده ، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا ، بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله " في سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [ 34 \ 22 - 23 ] ، وقوله " في الزمر " : أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ ص: 163 ] [ 39 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا " في سورة المائدة " أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة " وفي آية المائدة " : هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح ; ومنه قول لبيد :


أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي لب إلى الله واسل


وقد قدمنا " في المائدة " أن التحقيق أن قول عنترة :


إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي


من هذا المعنى ، كما قدمنا أنها تجمع على وسائل ، كقوله :


إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل


وأصح الأعاريب في قوله : أيهم أقرب [ 17 \ 57 ] ، أنه بدل من واو الفاعل في قوله : يبتغون ، وقد أوضحنا هذا " في سورة المائدة " بما أغنى عن إعادته هنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا .

قال بعض أهل العلم : في هذه الآية الكريمة حذف الصفة ، أي : وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها . وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] ، وقوله : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، أي بل لا بد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم ، وقوله : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [ 11 \ 117 ] ، وقوله : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 ، 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي كل سفينة صالحة ; بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيها هو وموسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها ; لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة ، ومن حذف النعت قوله تعالى : قالوا الآن جئت بالحق [ 2 \ 71 ] ; أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر ، وهو المرقش الأكبر :


[ ص: 164 ] ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد


أي فرع فاحم وجيد طويل .

وقول عبيد بن الأبرص :
من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل


أي قوله قول فصل ، وفعله فعل جميل ، ونائله نائل جزيل ، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله :


وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل


وقال بعض أهل العلم : الآية عامة ، فالقرية الصالحة إهلاكها بالموت ، والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب ، ولا شك أن كل نفس ذائقة الموت ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، والمسطور : المكتوب . ومنه قول جرير :


من شاء بايعته مالي وخلعته ما تكمل التيم في ديوانها سطرا


وما يرويه مقاتل عن كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية : من أن مكة تخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف ، وأما خراسان فهلاكها ضروب ، ثم ذكر بلدا بلدا - لا يكاد يعول عليه ; لأنه لا أساس له من الصحة ، وكذلك ما يروى عن وهب بن منبه : أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية ، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة ، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينة على يد رجل من بني هاشم ، وخراب الأندلس من قبل الزنج ، وخراب إفريقية من قبل الأندلس ، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها ، وخراب العراق من الجوع ، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشراب من الفرات ، وخراب البصرة من قبيل الغرق ، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا ، وخراب الري من الديلم ، وخراب خراسان من قبل التبت ، وخراب التبت من قبل الصين ، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من الجوع . اهـ .

كل ذلك لا يعول عليه ; لأنه من قبيل الإسرائيليات .
قوله تعالى : وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها

الآية ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة ، أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحا لا لبس فيه فظلموا بها ، ولم يبين ظلمهم بها هاهنا ، ولكنه أوضحه في مواضع أخر ، [ ص: 165 ] كقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم الآية [ 7 \ 77 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها الآية [ 91 \ 14 ] ، وقوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس

الآية [ 17 \ 60 ] ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس ; أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم .

قال بعض أهل العلم : ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة ، قوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ، وقوله : قل للذين كفروا ستغلبون الآية [ 3 \ 12 ] ، وقوله : والله يعصمك من الناس [ 5 \ 67 ] ، وفي هذا أن هذه الآية مكية ، وبعض الآيات المذكورة مدني . أما آية القمر وهي قوله : سيهزم الجمع [ 54 \ 45 ] ، الآتية فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:05 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (216)

سُورَةُ الإسراء(33)
صـ 166 إلى صـ 170




قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن .

التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة : أن الله جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس ; لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك ، معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقا ، قالوا : كيف يصلي ببيت المقدس ، ويخترق السبع الطباق ، ويرى ما رأى في ليلة واحدة ، ويصبح في محله بمكة ؟ هذا محال ، فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به ، واعتقادهم أنه لا يمكن ، وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس ، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ : إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 64 ] ، قالوا : ظهر كذبه ; لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة ، فكيف ينبت في أصل النار ؟ فصار ذلك فتنة . وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 62 - 64 ] وهو واضح كما ترى . وأشار في موضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم ، وهو قوله : أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ 53 \ 12 - 18 ] ، وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة . وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم [ ص: 166 ] أن قول من قال : إن الرؤيا التي أراه الله إياها هي رؤياه في المنام بني أمية على منبره ، وإن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية - لا يعول عليه ; إذ لا أساس له من الصحة ، والحديث الوارد بذلك ضعيف لا تقوم به حجة ، وإنما وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار ، وأصل النار بعيد من رحمة الله ، واللعن : الإبعاد عن رحمة الله ، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن ، أو للعن الذين يطعمونها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا .

قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] ، يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين ، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر ، فصرح بهما معا " في البقرة " في قوله : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] ، وصرح بإبائه " في الحجر " بقوله : إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين [ 115 \ 31 ] ، وباستكباره في " ص " بقوله : إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 \ 74 ] ، وبين سبب استكباره بقوله : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 12 ، 18 \ 76 ] ، كما تقدم إيضاحه " في البقرة " ، وقوله : طينا حال ; أي لمن خلقته في حال كونه طينا . وتجويز الزمخشري كونه حالا من نفس الموصول ، غير ظاهر عندي . وقيل : منصوب بنزع الخافض ; أي من طين . وقيل : تمييز ، وهو أضعفها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن إبليس اللعين قال له : أرأيتك [ 17 \ 62 ] ، أي أخبرني : هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم ; أي لم كرمته علي وأنا خير منه . والكاف في أرأيتك حرف خطاب ، و " هذا " مفعول به لـ " أرأيت " .

والمعنى : أخبرني . وقيل : إن الكاف مفعول به ، و " هذا " مبتدأ ، وهو قول ضعيف . وقوله : لأحتنكن ذريته [ 17 \ 62 ] ، قال ابن عباس : لأستولين عليهم ، وقاله الفراء . وقال مجاهد : لأحتوينهم . وقال ابن زيد : لأضلنهم . قال القرطبي : والمعنى متقارب . أي لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال ، ولأجتاحنهم .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد بقوله : لأحتنكن ذريته ، أي لأقودنهم إلى ما أشاء ; من قول العرب : احتنكت الفرس : إذا جعلت الرسن [ ص: 167 ] في حنكه لتقوده حيث شئت . تقول العرب : حنكت الفرس أحنكه ( من باب ضرب ونصر ) واحتنكته : إذا جعلت فيه الرسن ; لأن الرسن يكون على حنكه . وقول العرب : احتنك الجراد الأرض : أي أكل ما عليها . من هذا القبيل ; لأنه يأكل بأفواهه ، والحنك حول الفم . هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر ، فالاشتقاق في المادة من الحنك ، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقا والاستئصال ; كقول الراجز :
أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت



واحتنكت أموالنا واجتلفت


وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله : لأحتنكن ذريته الآية [ 17 \ 62 ] ، بينه أيضا في مواضع أخر من كتابه ; كقوله لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين [ 38 \ 82 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه " في سورة النساء " وغيرها .

وقوله في هذه الآية : إلا قليلا [ 17 \ 62 ] بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر ; كقوله : ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 ، 83 ] ، وقوله : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 - 40 ] كما تقدم إيضاحه .

وقول إبليس في هذه الآية : لأحتنكن ذريته الآية [ 17 \ 62 ] ، قاله ظنا منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن ، كما قال تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] .
قوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا .

قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال اذهب [ 17 \ 63 ] ، هذا أمر إهانة ; أي اجهد جهدك ، فقد أنظرناك فمن تبعك ، أي : أطاعك من ذرية آدم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] أي وافرا . عن مجاهد وغيره . وقال الزمخشري وأبو حيان : اذهب ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء ، وإنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته . وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله : فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] .

[ ص: 168 ] وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة ، بينه أيضا في مواضع أخر ; كقوله : قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] ، وقوله : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : جزاء مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :


بمثله أو فعل او وصف نصب وكونه أصلا لهذين انتخب


والذي يظهر لي : أن قول من قال : إن " موفورا " بمعنى " وافر " لا داعي له . بل " موفورا " اسم مفعول على بابه ، من قولهم : وفر الشيء يفره ، فالفاعل وافر ، والمفعول موفور ، ومنه قول زهير :


ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم


وعليه : فالمعنى : جزاء مكملا متمما . وتستعمل هذه المادة لازمة أيضا تقول : وفر ماله فهو وافر ; أي كثير . وقوله : " موفورا " نعت للمصدر قبله كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : هذا أمر قدري ; كقوله تعالى : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] ; أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا ، وتسوقهم إليها سوقا . انتهى .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله : واستفزز [ 17 \ 64 ] ، وقوله : وأجلب ، وقوله : وشاركهم ، إنما هي للتهديد ، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ 41 \ 40 ] ، وبهذا جزم أبو حيان " في البحر " ، وهو واضح كما ترى . وقوله : واستفزز ، أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم ، فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه ، والاستفزاز : الاستخفاف . ورجل فز : أي خفيف ، ومنه قيل لولد البقرة : فز . لخفة حركته . ومنه قول زهير :

[ ص: 169 ]
كما استغاث بسيء فز غيطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك


" والسيء " في بيت زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز : اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة ، والحشك أصله السكون ; لأنه مصدر حشكت الدرة : إذا امتلأت ، وإنما حركه زهير للوزن . والغيطلة هنا : بقرة الوحش ذات اللبن . وقوله ; بصوتك [ 17 \ 64 ] ، قال مجاهد : هو اللهو والغناء والمزامير ; أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير . وقال ابن عباس : صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية ; لأن ذلك إنما وقع طاعة له . وقيل : بصوتك : أي وسوستك . وقوله : وأجلب أصل الإجلاب : السوق بجلبة من السائق . والجلبة : الأصوات . تقول العرب : أجلب على فرسه ، وجلب عليه : إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق . والخيل تطلق على نفس الأفراس ، وعلى الفوارس الراكبين عليها ، وهو المراد في الآية . والرجل : جمع راجل ، كما قدمنا أن التحقيق : جمع " الفاعل " وصفا على " فعل " بفتح فسكون ، وأوضحنا أمثلته بكثرة ، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون ; إذ ليست فعل - بفتح فسكون - عندهم من صيغ الجموع ، فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل ، وصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وشارب وشرب : إنه اسم جمع لا جمع ، وهو خلاف التحقيق .

وقرأ حفص عن عاصم ورجلك [ 17 \ 64 ] بكسر الجيم - لغة في الرجل جمع راجل .

وقال الزمخشري : هذه القراءة على أن " فعلا " بمعنى " فاعل " نحو تعب وتاعب ومعناه : " وجمعك الرجل " . اهـ ; أي : الماشين على أرجلهم .

وشاركهم في الأموال والأولاد [ 17 \ 64 ] ، أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف : ( منها ) ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له ; كالبحائر والسوائب ونحو ذلك ، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى ، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعا كالربا والغصب وأنواع الخيانات ; لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له .

وأما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضا :

منها قتلهم بعض أولادهم طاعة له .

[ ص: 170 ] ومنها أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة .

ومنها تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك ، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيدا لغير الله ؛ طاعة له ، ومن ذلك أولاد الزنى ; لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة ؛ طاعة له ، إلى غير ذلك .

فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنته هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد ، كقوله : قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ 6 \ 140 ] فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته . وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضا ; وكقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] ، وكقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون [ 6 \ 138 ] ، وقوله : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الأحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر ، ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " ، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان " انتهى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:05 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (217)

سُورَةُ الإسراء(34)
صـ 171 إلى صـ 175




فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم ، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم ( في الحديث الأول ) وضرها لهم لو تركوا التسمية ( في الحديث الثاني ) كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم . وقوله : " فاجتالتهم " أصله افتعل من الجولان ; أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال . يقال : جال واجتال : إذا ذهب وجاء ، ومنه الجولان في الحرب ، واجتال الشيء : إذا ذهب به وساقه . والعلم عند الله تعالى . والأمر في قوله : وعدهم ; [ ص: 171 ] كالأمر في قوله : واستفزز ، وقوله : وأجلب ، وقد قدمنا أنه للتهديد .

وقوله : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل ; كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى ، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة ، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة .

وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله : ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [ 57 \ 14 ] ، وقوله : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان

الآية [ 17 \ 65 ] ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن عباده الصالحين لا سلطان للشيطان عليهم ، فالظاهر أن في الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا ، ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف ، وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضا آيات أخر ; كقوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] ، وقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ; كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا .

بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة : أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر ; أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال ، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك - ضل عنهم ; أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا ، فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده ، لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا ، [ ص: 172 ] فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر ، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم ، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، كما قال تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [ 17 \ 67 ] .

وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة ; كقوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 22 - 23 ] ، وقوله : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 63 - 64 ] ، وقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ 31 \ 32 ] ، وقوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله [ 39 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه " في سورة الأنعام " وغيرها .

ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده سخافة عقول الكفار ، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله ، مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر ، بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر فتبتلعهم الأرض ، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم ، أو يعيدهم مرة أخرى في البحر فتغرقهم أمواجه المتلاطمة ، كما قال هنا منكرا عليهم أمنهم وكفرهم بعد وصول البر : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا [ 17 \ 68 ] وهو المطر أو الريح اللذين فيهما الحجارة أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم [ 17 \ 69 ] ; أي بسبب كفركم ، فالباء سببية ، و " ما " مصدرية . والقاصف : ريح البحار الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها . ومنه قول أبي تمام :


إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم


يعني : إذا ما هبت بشدة كسرت عيدان شجر نجد ؛ رتما كان أو غيره .

[ ص: 173 ] وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء - أوضحه في مواضع أخر ; كقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية [ 34 \ 9 ] ، وقوله : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم الآية [ 6 \ 65 ] ، وقوله : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير [ 67 \ 16 - 17 ] ، وقوله " في قوم لوط " : إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر [ 54 \ 34 ] ، وقوله : لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل : إنها السحابة أو الريح ، وكلا القولين صحيح ; لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصبا وحصبة ، وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصبا أيضا ; ومنه قول الفرزدق :


مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور


وقول لبيد :


جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه


وقوله في هذه الآية : ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 96 ] ، " فعيل " بمعنى " فاعل " . أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم ; كقوله فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها [ 91 \ 14 ، 15 ] ، أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك . وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعا ، ومنه قول الشماخ يصف عقابا :


تلوذ ثعالب الشرفين منها كما لاذ الغريم من التبيع


أي : كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه .

ومنه قول الآخر :


غدوا وغدت غزلانهم وكأنها ضوامن غرم لهن تبيع


أي خصمهن مطالب بدين .

ومن هذا القبيل قوله تعالى : فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان الآية [ 2 \ 178 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع " وهذا هو معنى قول ابن عباس وغيره : " تبيعا " أي نصيرا ، وقول مجاهد : نصيرا ثائرا .
[ ص: 174 ] تنبيه

لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة : أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده ، ولا يصرفون شيئا من حقه لمخلوق ، وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده ، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة ، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من عبدة الأوثان ، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد ، وغشيتهم الأهوال والكروب التجئوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح ، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله ، مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره .

ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى " في سورة النمل " : آلله خير أم ما أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء الآيات [ 37 \ 27 ] 59 - 62 ، فتراه جل وعلا في هذه الآيات الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد ; كخلقه السموات والأرض ، وإنزاله الماء من السماء ، وإنباته به الشجر ، وجعله الأرض قرارا ، وجعله خلالها أنهارا ، وجعله لها رواسي ، وجعله بين البحرين حاجزا ، إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد ; سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات : كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ; فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة ، فركب في البحر متوجها إلى الحبشة ، فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده ، فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك علي عهد ، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رءوفا رحيما . فخرجوا من البحر ، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه . اهـ .

[ ص: 175 ] والظاهر أن الضمير في قوله : به تبيعا [ 17 \ 69 ] راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله : فيغرقكم بما كفرتم [ 17 \ 69 ] ، أي لا تجدون تبيعا يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق .

وقال صاحب روح المعاني : وضمير " به " قيل للإرسال ، وقيل للإغراق ، وقيل لهما باعتبار ما وقع ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد كرمنا بني آدم .

قال بعض أهل العلم : من تكريمه لبني آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها ، فإن الإنسان يمشي قائما منتصبا على رجليه ، ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ، ويأكل بفمه .

ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقوله : وصوركم فأحسن صوركم [ 40 \ 64 ] وفي الآية كلام غير هذا ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وحملناهم في البر والبحر

الآية ، أي في البر على الأنعام ، وفي البحر على السفن .

والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا ; كقوله : وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 22 ] ، وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون [ 43 \ 12 ] ، وقد قدمنا هذا مستوفى بإيضاح " في سورة النحل " .
قوله تعالى : يوم ندعو كل أناس بإمامهم .

قال بعض العلماء : المراد " بإمامهم " هنا كتاب أعمالهم .

ويدل لهذا قوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [ 36 \ 12 ] ، وقوله : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 ] ، وقوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية [ 18 \ 49 ] ، وقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] ، واختار هذا القول ابن كثير ; لدلالة آية " يس " المذكورة عليه . وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره ، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن ، وعن قتادة ومجاهد : أن المراد بـ بإمامهم نبيهم .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 21-02-2022 06:06 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (218)

سُورَةُ الإسراء(35)
صـ 176 إلى صـ 180





[ ص: 176 ] ويدل لهذا القول قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [ 10 \ 47 ] ، وقوله : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا الآية [ 4 \ 41 ] ، وقوله : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء الآية [ 16 \ 89 ] ، وقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء الآية [ 39 \ 69 ] .

قال بعض السلف : وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ; لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال بعض أهل العلم : بإمامهم ; أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع ; وممن قال به : ابن زيد ، واختاره ابن جرير .

وقال بعض أهل العلم : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم [ 17 \ 71 ] ، أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به ، فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة ; كما قال تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] ، وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي ، والعلم عند الله تعالى .

فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية وما يشهد لها من قرآن ، وقوله بعد هذا : فمن أوتي كتابه بيمينه [ 17 \ 71 ] ، من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال .

وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرءونه ولا يظلمون فتيلا .

وقد أوضح هذا في مواضع أخر ; كقوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه [ 69 \ 19 ] - إلى قوله - وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه [ 69 \ 25 ] ، وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة .

وقول من قال : إن المراد بـ بإمامهم كمحمد بن كعب " أمهاتهم " أي يقال : يا فلان ابن فلانة - قول باطل بلا شك . وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعا : " يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان " .
قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة : عمى القلب لا عمى العين ، ويدل لهذا قوله تعالى : [ ص: 177 ] فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 46 ] ; لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر ، بخلاف العكس ; فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه ، قال تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى [ 80 \ 1 - 4 ] .


إذا بصر القلب المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما عمي في آخر عمره كما روي عنه من وجوه ، كما ذكره ابن عبد البر وغيره :


إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور



قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مأثور


وقوله في هذه الآية الكريمة : فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [ 17 \ 72 ] ، قال بعض أهل العلم : ليست الصيغة صيغة تفضيل ، بل المعنى فهو في الآخرة أعمى كذلك لا يهتدي إلى نفع ، وبهذا جزم الزمخشري .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يتبادر إلى الذهن أن لفظة " أعمى " الثانية صيغة تفضيل ; أي هو أشد عمى في الآخرة .

ويدل عليه قوله بعده : وأضل سبيلا ; فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع . والمقرر في علم العربية : أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل ، الوصف منه على " أفعل " الذي أنثاه فعلاء ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :


وغير ذي وصف يضاهي أشهلا


والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغا من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط ، أنه يحفظ ولا يقاس عليه ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :


وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر


ومن أمثلة ذلك قوله :


ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ



أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ


وقال بعض العلماء : إن قوله في هذا البيت " وأبيضهم سربال طباخ " ليس صيغة [ ص: 178 ] تفضيل ، بل المعنى أنت وحدك الأبيض سربال طباخ من بينهم .
قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا .

روي عن سعيد بن جبير أنها نزلت في المشركين من قريش ، قالوا له صلى الله عليه وسلم : لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا ، وعن ابن عباس في رواية عطاء : أنها نزلت في وفد ثقيف ، أتوا النبي فسألوه شططا ، قالوا : متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها ، وحرم وادينا كما حرمت مكة . إلى غير ذلك من الأقوال في سبب نزولها ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار كادوا يفتنونه ، أي قاربوا ذلك . ومعنى يفتنونك : يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك .

قال بعض أهل العلم : قاربوا ذلك في ظنهم لا فيما في نفس الأمر ، وقيل : معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم .

وبين في موضع آخر : أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه ، وأنه امتنع أشد الامتناع ، وقال لهم : إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه ; بل يتبع ما أوحى إليه ربه ، وذلك في قوله : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، وقوله في هذه الآية : وإن كادوا [ 17 \ 73 ] ، هي المخففة من الثقيلة ، وهي هنا مهملة ، واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية ، كما قال في الخلاصة :


وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل


والغالب أنها لا تكون كذلك مع فعل إلا إن كان ناسخا كما في هذه الآية ، قال في الخلاصة :


والفعل إن لم يك ناسخا فلا تلفيه غالبا بإن ذي موصلا


كما هو معروف في النحو .
قوله تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وعصمته له من الركون إلى الكفار ، وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة [ ص: 179 ] وضعف الممات ; أي : مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة ، وبهذا جزم القرطبي في تفسيره . وقال بعضهم : المراد بضعف عذاب الممات : العذاب المضاعف في القبر . والمراد بضعف الحياة : العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث ، وبهذا جزم الزمخشري وغيره . والآية تشمل الجميع .

وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه - لو خالف - بينه في غير هذا الموضع ; كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الآية [ 69 \ 44 - 46 ] .

وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى كان الجزاء عند المخالفة أعظم - بينه في موضع آخر ; كقوله : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الآية [ 33 \ 30 ] . ، ولقد أجاد من قال :


وكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر


تنبيه

هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار ، فضلا عن نفس الركون ; لأن لولا [ 17 \ 74 ] حرف امتناع لوجود ; فمقاربة الركون منعتها لولا الامتناعية لوجود التثبيت من الله جل وعلا لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم ، فصح يقينا انتفاء مقاربة الركون فضلا عن الركون نفسه . وهذه الآية تبين ما قبلها ، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة ; لأن قوله : لقد كدت تركن إليهم شيئا [ 17 \ 74 ] ، أي قاربت تركن إليهم - هو عين الممنوع بـ لولا الامتناعية كما ترى ، ومعنى تركن إليهم : تميل إليهم .
قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس

الآية ، قد بينا " في سورة النساء " : أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي أشارت لأوقات الصلاة ; لأن قوله : لدلوك الشمس [ 17 \ 78 ] أي لزوالها على التحقيق ، فيتناول وقت الظهر والعصر ; بدليل الغاية في قوله : إلى غسق الليل ; أي ظلامه ، وذلك يشمل وقت المغرب والعشاء . وقوله : وقرآن الفجر ، أي صلاة الصبح ، كما تقدم إيضاحه وأشرنا للآيات المشيرة لأوقات الصلوات ; كقوله : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل الآية [ 11 \ 114 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية [ 30 \ 17 ] . وأقمنا بيان ذلك [ ص: 180 ] من السنة في الكلام على قوله : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ 4 \ 103 ] ، فراجعه هناك إن شئت ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، الحق في لغة العرب : الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل ، والباطل : هو الذاهب المضمحل . والمراد بالحق في هذه الآية : هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من دين الإسلام ، والمراد بالباطل فيها : الشرك بالله ، والمعاصي المخالفة لدين الإسلام .

وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الإسلام جاء ثابتا راسخا ، وأن الشرك بالله زهق ; أي ذهب واضمحل وزال . تقول العرب : زهقت نفسه : إذا خرجت وزالت من جسده .

ثم بين جل وعلا أن الباطل كان زهوقا ، أي مضمحلا غير ثابت في كل وقت ، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، وذكر أن الحق يزيل الباطل ويذهبه ; كقوله : قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [ 34 \ 48 ، 49 ] ، وقوله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .

وقال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ومسلم ، والترمذي والنسائي ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [ 34 \ 49 ] .

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها ، وقال : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg


الساعة الآن : 06:59 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 208.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 208.06 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.24%)]