رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (41) قصة إحياء الطيور (3) كتبه/ ياسر برهامي قول الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). قال ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره: "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية: ما صحَّ به الخبرُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ...)"، وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارضٍ مِن الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: مِن أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟! فسأل حينئذٍ ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى؛ ليعاين ذلك عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: أوَلم تؤمن؟ يقول: أوَلم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت. ومعنى قوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه. وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) إلى أنه: ليزداد إيمانًا، أو إلى أنه: ليُوَفَّق. عن سعيد بن جبير: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: ليُوَفَّق. عن سعيد بن جبير: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: ليزداد يقيني. عن الضحاك: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يقول: ليزداد يقينًا. عن قتادة: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: أراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه. عن معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا. عن الربيع: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا. عن سعيد بن جبير: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: ليزداد يقيني. عن مجاهد وإبراهيم في قوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني. قال: وقد ذكرنا فيما مضى قولَ مَن قال: معنى قوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بأني خليلك. وقال آخرون: معنى قوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. عن ابن عباس قوله: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك. (قلتُ: وما رجَّحه ابن جرير مِن أن المقصود بذلك هو الخواطر، وأن المطلوب من إبراهيم هو ازدياد الإيمان بقدرة الله -عز وجل-، وازدياد اليقين دون شك؛ هو الصحيح الذي بيَّنا صحته). قال ابن جرير: وأما تأويل قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) فإنه: أَوَلم تُصدق؟ عن سعيد بن جبير: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) قال: أولم توقن بأني خليلك؟ قال ابن زيد في قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) قال: أولم توقن". (قلتُ: وقول سعيد بن جبير قد سبق بيان ضعفه). ثم قال ابن جرير -رحمه الله-: "القول في تأويل قوله: (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ) قال: يعني -تعالى ذكره- بذلك: قال الله له: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ)، فذكر أن بعض أهل العلم يقول: إن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسًا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا". (قلتُ: تعيين هذه الطيور الأربعة من أصنافها المختلفة مما لم يرد به القرآن، ولم ترد به السُّنَّة الصحيحة، ولا حاجة إلى معرفة ذلك، وإنما هي اهتمامات أهل الكتاب دائمًا بتفاصيل القصة دون المعاني المستفادة منها، فلا ينبغي أن ننشغل بها، ولا أن نذكر الاختلافات فيها، والله المستعان). قال ابن جرير -رحمه الله-: "القول في تأويل قوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) -ثم ذكر الخلاف في القراءات- (فَصُرْهُنَّ): بضم الصاد، و"صِرْهُنَّ" بكسرها، ورجَّح قول مَن قال: إنهما لغتان بمعنى واحد؛ لاتفاق المفسرين من السلف على أن المعنى: فقطعهن. عن ابن عباس قال: هي نبطية، فشققهن. عن ابن عباس قال في الآية: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) قال: إنما هو مثل قال: قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، ربعًا ها هنا، وربعًا ها هنا، ثم ادعوهن يأتينك سعيًا. عن ابن عباس: "فَصُرْهُنَّ" قال: قطعهن. عن أبي مالك: "فَصُرْهُنَّ" يقول: فقطعهن. وعن سعيد قال: (فَصُرْهُنَّ) جناح ذِه عند رأس ذِه، ورأس ذِه عند جناح ذِه، وذكر عن عكرمة ومجاهد: قطعهن. وعن مجاهد: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا، ثم اخلط لحومهن بريشهن. عن قتادة: أُمِرَ نبي الله -عليه السلام- أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن. وعن قتادة، قال: "فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ" قال: فمزقهن، قال: أُمر أن يخلط الدماء بالدماء والريش بالريش، ثم اجعل على كل جبل منهم جزءًا. وعن الربيع والضحاك وابن إسحاق، نحو ذلك. قال ابن جرير: ففيما ذكرنا من أقوال مَن رُوينا في تأويل قوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أنه بمعنى قطعهن دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك" (قلتُ: أي: من أن صُرهن وصِرهن قراءتان بمعنى واحد، وأنهما لغتان). قال: "فسواءٌ قرأ القارئ بضم الصاد أو كسرها؛ إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد، ثم هو اختار ضم الصاد". ثم قال في قوله -تعالى-: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا): "قال: قال بعض أهل التأويل: يعني بذلك على كل ربع من أربع الدنيا جزءًا منهن. عن ابن عباس قال: اجعلهن في أرباع الدنيا ربعًا هاهنا، وربعًا هاهنا، وربعًا هاهنا، وربعًا هاهنا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا". (قلتُ: كأنه قصد المشرق والمغرب، والشمال والجنوب، وليس أنه يطوف الدنيا كلها ليضع هذه الأجزاء في أنحاء الدنيا البعيدة، وإنما هو في جهاتها المختلفة، والله أعلم). ثم قال ابن جرير -رحمه الله-: "حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أُمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ثم يخلط بين لحموهن وريشهن ودمائهن ثم يجزئهن على أربعة أجبل، فذُكر لنا أنه شكل على أجنحتهن وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة والبُضْعة إلى البُضْعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ثم دعاهن فأتيناه سعيًا على أرجلهن، ويلقى كل طير برأسه، وهذا مَثَل أتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها". وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (42) قصة إحياء الطيور الأربعة (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). قال الطبري -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "عن الربيع، قال: ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسَّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم، ثم دعاهن فأتينه سعيًا، يقول: شَدًّا (أي: جريًا) على أرجلهن. وهذا مَثَل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها. وقال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: إن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال: تعالين بإذن الله كما كنتم! فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه، ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامها ويمنها. فأراه الله إحياء الموتى بقدرته؛ حتى عرف ذلك بغير ما قال نمرود من الكذب والباطل. قال ابن زيد: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرقهن، اجعل رأس كل واحد وَجُؤْشُوشَ -أي: الصدر- الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه! فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما ناديتَهن فجئنك، فكما أحييتُ هؤلاء وجمعتهن بعد هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا؛ يعني: الموتى. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يُريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال. عن ابن جريج قال: لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربه ما سأل، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ)، قال ابن جريج: فذبحها، ثم اخْلِط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) حيث رأيت الطير ذهبت والسباع! قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها. عن السدي قال: فخذ أربعة من الطير فصُرْهُن إليك، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبلٍ منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطعهن أعضاء، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا. وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبلٍ. عن مجاهد: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) قال: ثم بددهن على كل جبلٍ يأتينك سعيًا، وكذلك يحيي الله الموتى. عن الضحاك قال: أمره الله أن يخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا. عن الضحاك قال: فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن. قال ابن جرير-رحمه الله-: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله -تعالى ذكره- أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك، وتبديدها عليه أجزاء؛ لأن الله -تعالى ذكره- قال له: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا)، والكل: حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. (قلتُ: يعني: كلمة "كل" تدل على الجمع لكلِّ الأفراد التي تدخل تحته). فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليها خارجة من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا أو جميعًا؛ فإن كانت بعضًا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه، أو يكون جميعًا، فيكون أيضًا كذلك. وقد أخبر الله -تعالى ذكره- أنه أمره بأن يجعل ذلك على كل جبل؛ وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، وإما ما في الأرض من الجبال. (قلتُ: ولا شك أنه معلوم أن إبراهيم لا يقدر أن يصل إلى جبال الأرض جميعًا، فيما يعتاد الناس فيه من القدرة، فالظاهر -والله أعلى وأعلم- أن البحث في عدد الجبال وفي تعيينها ليس مما له فائدة؛ ولكن كل جبل يصل إليه إبراهيم). فأما قول مَن قال: إن ذلك أربعة أجبل، وقول مَن قال: هن سبعة، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به. وإنما أمر الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل؛ ليُري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن، وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن، وقبل تفريق أجزائهن على الجبال، أطيارًا أحياء يطرن، فيطمئن قلب إبراهيم، ويعلم أن كذلك يجمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة وتأليفه أجزاءهم بعد البلى، ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردى. والجزء من الكل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. قال ابن جرير في تأويل قوله -تعالى-: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يعني -تعالى ذكره- بذلك: واعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن ورد إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن = عزيزٌ في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره، وعصوا رسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم، حكيمٌ في أمره. قال ابن إسحاق: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره. وقال الربيع: عزيز في نقمته حكيم في أمره" (انتهى من تفسير الطبري باختصارٍ يسيرٍ). والفوائد مطروحة المرة القادمة -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (43) قصة إحياء الطيور الأربعة (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). في هذه الآية فوائد: الأولى: أن التصديق واليقين يزيد وينقص، وهذا قول عامة أهل السُّنة، وأنه ليس كل نقص يكون شكًّا، وهذه الآية تتضمن أوضح الرد على المرجئة القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنهم جعلوا -وغلاتهم الجهمية- الإيمان هو المعرفة والتصديق، ووافقهم الأشاعرة حيث جعلوا الإيمان هو المعرفة والتصديق الباطن فقط دون نطق اللسان، ثم قالوا: إنَّ أي نقص يكون شكًّا، والشك كفر؛ فالإيمان لا يزيد ولا ينقص! وهذه الآية الكريمة -وغيرها من آيات القرآن- وأدلة السنة، وإجماع أهل السنة: تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، واليقين -الذي هو أحد أركان الإيمان- يتفاوت بين أهل الإيمان بعضهم وبعض، وبين أحوال الواحد منهم؛ فهو في وقتٍ يكون أكمل إيمانًا من وقتٍ آخر، ولا يلزم أن يكون ذلك شكًّا. فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعد رؤيته إحياء الله الطيور الأربعة -بعد أن قطعها وجعلها على الأجبل الأربعة- صار أكثر اطمئنانًا ويقينًا -كما أراد- أكثر منه قبل أن يعاين ذلك، وليس المُخبَر كالمُعايِن، وقد كان مؤمنًا قبل ذلك، ولم يكن شاكًّا. واعلم أن زيادة اليقين والتصديق تكون بالكمية والكيفية، وقصة إبراهيم في زيادة الكيفية؛ وذلك يكون بتظاهر الأدلة حتى يصل الإنسان إلى أعلى درجاتها، وهي المعاينة كما دلت عليه هذه الآية. فزيادة اليقين تعني: زيادة نوعية التصديق نفسها، ونوعية التصديق مختلفة ومتفاوتة في كلِّ أصلٍ مِن أصول الإيمان الستة؛ فقد يزول التصديق بالكلية، وذلك يعني زوال الإيمان بحدوث شيء من أمرين: الشك أو التكذيب. والشك: هو الشك المستوي الطرفين؛ فصاحبه متردد: هل حقًا لا إله إلا الله أم يُعبَد غيره معه؟ أو أنه يشك هل خلق الله العالم أو لم يخلقه؟ أم أن العالم قديم أزلي كما يقول الملحدون وأدعياء الطبيعة؟ وكذلك الشك في أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكون عند الشاك احتمال الصدق واحتمال الكذب؛ فهو يشك في ذلك وليس عنده يقين بأحد القولين، وهو متردد: هل القرآن حق أم أنه كتاب مختلق؟ ومتردد: هل يُبعث الناس يوم القيامة أم ليست هناك قيامة ولا بعث ولا نشور؟ وكذلك يشك: هل توجد الملائكة أم هي شخصيات توهَّمَها المؤمنون والمسلمون؟ وكذلك في الرسل يشك: هل هم من أذكياء العالم الذين عندهم قوة التخيُّل وقوة التخييل وقوة التعبير، فهيَّؤوا للناس أنهم رسل وليسوا كذلك، أم أن الأمر كما قالوا بأنهم رسل من عند الله وأتتهم الملائكة بهذه الرسالة؟ فأصول الإيمان كلها يحصل عند البعض شك فيها، وغالبًا ما يكون متلازمًا؛ فالشاك في الربوبية والألوهية والرسالة والكتب المنزلة والملائكة واليوم الآخر، وكذا الشاك في القضاء والقدر، زال من قلبه التصديق بسبب هذا الشك؛ قال -عز وجل- عن المنافقين: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)، فهؤلاء أناس نطقوا الشهادتين، وصلوا وصاموا، لكنهم منافقون؛ لأنهم في ريبٍ كما قال -تعالى-: (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:45). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه-: (اذهبْ بنعليَّ هاتَينِ فمَنْ لقِيتَ مِنْ وراءِ هذا الحائطِ يَشهدُ أن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بها قلبُهُ فَبَشِّرْهُ بالجِنَّةِ) (رواه مسلم)، فلكي ينجو العبد يوم القيامة لا بد أن يكون مستيقنًا، ولكي يكون مؤمنًا عند الله وعنده أصل الإيمان لا بد أن يكون عنده يقين، فلو كان عنده شك أو ريب؛ فليس عنده أصل الإيمان. وأفظع من الشك والريب: التكذيبُ؛ فالشك هو استواء الطرفين، أما التكذيب فهو أن يعتقد في باطنه خلاف الحق، ولو شبَّهنا الإيمان ببناء، فالذي عنده شك أرضه مستوية لا شيء فوقها من البناء، ولا شيء نازل عنها، أما المكذِّب فمثله كمثل حفرة تحت الأرض؛ كالذي يعتقد أن الله ثالث ثلاثة! أو يعتقد أن المسيح إله! أو ينفي نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكذبه! فهذا لا يتردد في هل الله واحد أم ثلاثة، بل يجزم أنه ثلاثة، فهذا عنده تكذيب، وهذا لا يتردد هل المسيح عبدٌ رسولٌ أم إله، بل يجزم أنه إله! فهو معتقد للكفر بخلاف الذي يشك، فإنه شك بين الإيمان والكفر، وزوال الإيمان بالشك مثل زواله بالتكذيب في حصول الكفر، وإن كان التكذيب أشد. والذي يعتقد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رجل كذاب شر من الذي يشك: هل هو رسول أم لا! صادق أم لا! فهو وإن لم يكن مكذبًا له؛ إلا أنه غير معتقد صدقه، فالتكذيب أشد من الشك، وكلا الأمرين ينتفي معهما أصل الإيمان. وكل هذا التفصيل إنما قصدنا منه بيان أن نوعية التصديق نفسها تختلف، وأن أول درجة من درجات التصديق الباطن هي زوال الشك، وبالتالي: زوال التكذيب بالأَوْلى، فبداية الإيمان هي لا إله إلا الله، وذلك إن لم تبلغه الأدلة القطعية بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وبعض المنافقين عنده شك، وبعضهم عنده تكذيب وهم أشد درجات المنافقين، والكفار منهم مكذبون ومنهم شاكون، ومنهم مَن لا يُكذِّب في الحقيقة؛ إنما عندهم استكبار؛ فزال عمل القلب من قلوبهم. وقد ينضم إلى ذلك تكذيب اللسان؛ فهم يكذبون بلسانهم وإن كانوا يعلمون أنهم كاذبون فيما يقولون، كما قال -تعالى- عن مشركي قريش: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام:33)، فالجحود والنفي كان بلسانهم بخلاف ما في صدورهم. وبعض علماء اليهود كانوا يصرِّحون للنبي -صلى الله عليه وسلم- بنبوته، قائلين: نشهد أنك نبي، ومع ذلك ظلوا على كفرهم؛ لأنه ليس عندهم الانقياد الباطن لما جاء به -صلى الله عليه وسلم-، أي: قد زال عمل القلب. والمنافقون كانوا نوعين: منهم مَن كان عنده شك، ومنهم مَن عنده تكذيب، وإن كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. وبعضهم عنده تصديق باطن، لكن عنده كراهية لما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وكراهية للدين، مع علمه بحقيقته؛ لذا نقول: إن أولى درجات الإيمان هي تصديق القلب، وهو زوال الشك؛ أي: لا يكون عنده شك في أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فهذه أولى درجات الإيمان، ولكن قد يكون مَن لا يشك الآن في ذلك، لكن لو أن أحدًا شككه وفتنه؛ فإنه يشك ويُفتن؛ فهذا قَبْل أن يُفتَن عنده أصل الإيمان، وليس معه الإيمان الواجب، فإذا فُتِن زال ذلك الأصل، قال الله -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10)، أي: في الفرار منه، فإنه يفر من عذاب الناس كما يفر المؤمنون من عذاب الله بطاعة الله -عز وجل-، فهو يطيع الكفار الذين فتنوه! وقال -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ . يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ . يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج:11-13). كان بعض الأعراب يدخل في هذا الدين، فإن ولدت امرأته ذكورًا وأنتجت إبله، وأمطرت السماء في تلك السنة؛ قال: هذا دين خير، فيظل مسلمًا، وإن أنجبت امرأته إناثًا، ولم تنتج إبله، وأمسكت السماء، قال: هذا دين سوء، ويتشاءم به! (روى البغوي في تفسيره نحوه). وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) قالَ: "كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فإنْ ولَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلامًا، ونُتِجَتْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينٌ صالِحٌ، وإنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، ولَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ، قالَ: هذا دِينُ سُوءٍ!"، فهذا الرجل حاله -بعد أن ينقلب- معروفٌ أنه خسر الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ)؛ فحال هذا قبل أن يفتن وينقلب أن عنده أصل الإيمان؛ لأن الله أثبت أنه يَعبد اللهَ على حرف؛ فإيمانه ناقص، وتصديقه ناقص، ولم يكن لديه شك ولا تكذيب؛ بخلاف الذي ليس عنده أصل الإيمان، ولم يدخل في الدين بعد، لكن إيمان هذا الذي يعبد الله على حرف ليس هو الإيمان الواجب، والقدر الواجب من الإيمان هو الذي يُدخل صاحبه الجنة لأول وهلة، فلو مات هذا الذي ليس عنده الإيمان الواجب على تلك الحال قبل أن ينقلب ويُفتن لمات وعنده أصل الإيمان، فلا يخلد في النار، ولكن لا يلزم أن يدخل الجنة لأول وهلة؛ بل يمكن أن يعذب في النار، ولكنه لا يخلد فيها. ونشبه ذلك بالبناء: فشخص إيمانه ضعيف أقل مِن القدر الواجب، مثله كمثل جدار حديث البناء لم تجف مواده، فلو دفعه أحدٌ أو اتكأ عليه؛ لَخَرَّ فورًا، فكذلك هذا الشخص لو شككه أحدٌ لشك، ولو فتنه لافْتُتِنَ، كما قال الله -عز وجل- في بعض المنافقين: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) (الأحزاب:14)، أي: لَأَعْطَوها، وهؤلاء لم يكونوا كفارًا في الأصل أو منافقين في الأصل؛ وإلا لفرحوا عند دخول المشركين المدينة، وإنما هم سيترددون يسيرًا ثم يشركون. فمِن الناس مَن يكون إيمانه ناقصًا، فتأتيه فتنةٌ فيرجع عن الإيمان، فذلك الذي يُفتن؛ لذلك قلنا: إن أولى درجات الإيمان هي زوال الشك، ولكن لا يشترط أن يكون ثابتًا عند الفتن بحصول أصله، بل بحصول كماله الواجب. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال(44) قصة إحياء الطيور الأربعة (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة الثانية من فوائد الآية الكريمة: مَثَل مَن استكمل الإيمان الواجب الذي يستحق صاحبه أن يدخل الجنة لأول وهلة بالنسبة إلى تفاضل الإيمان بالكيفية؛ أي: بدرجة التصديق واليقين، كمثل مَن اشتد بناؤه وجفت مواده وتماسكت؛ فإذا دفعوه لم يخر، ليس كالذي كان بناؤه ضعيفًا لم تجف مواده فلو دفعه أحد أو اتكأ عليه؛ لَخَرَّ وسقط. أما الأول فإنه لا يُفتن ولا يتزلزل عند الفتن، وإذا شُكِّكَ لم يشك، ولكن الشيطان لم ييأس منه، ولا يزال يأمل في هدم بنائه، فما زال يوسوس له وسوسة الصدر؛ فيأتي الشيطان إليه فيوسوس له في الوحدانية، أو في النبوة أو في القرآن أو في القَدَر أو في بعض الشرائع أو في غير ذلك، وهو يكره ذلك ويضيق به ذرعًا، وليس عنده شك -الذي هو استواء الطرفين-، وإلا لَمَا ضاق به ولَمَا كره تلك الوسوسة، وكونه يقاوم هذه الوسوسة، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسأل أهل العلم ليزيلوا عنه شبهات الوساوس التي يضيق به؛ فهذا دليل على أنه لا يشك، وأن عنده الإيمان الواجب. وبعض الناس يجهل الفرق بين الشك والوسوسة، وربما أوقعه الشيطان بذلك في ظن أنه يشك وأنه قد كفر؛ فلربما قَبِل بعضهم ذلك ووقع في الفتنة، وأما مَن حقق الإيمان الواجب فإنه يظل كارهًا ولا يقع في الفتنة، ويفرق بين الشك والوسوسة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله من الصحابة وشكوا إليه، قالوا: "إنّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: (وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟) قالوا: نَعَمْ، قالَ: (ذاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ) (رواه مسلم). وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الذي تأتيه الوسوسة فيردها هو مؤمن، عنده الإيمان الواجب، لكن هناك مَن هو أعلى منه في الإيمان، وهو الذي لا تأتيه الوساوس مطلقًا، وهم في منزلة الصديقية، كما كان أبو بكر -رضي الله عنه- في هذه المرتبة في صلح الحديبية، في حين كان عمر -رضي الله عنه- قد جاءته وساوس احتمال خطأ النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال: "والله ما شككت منذ أسلمتُ إلا يومئذٍ" (رواه ابن حبان)، فلم يشك في حياته قط أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخطأ إلا يومئذٍ، وهو بالقطع لم يشك في رسالته، فهو موقن بذلك دائمًا، يقول: "ألَسْنا على الحَقِّ وهُمْ على الباطِلِ؟ أليسَ قَتْلانا في الجَنَّةِ، وقَتْلاهُمْ في النّارِ؟ قالَ: (بَلى)، قالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا" (متفق عليه)، وإنما الشك والوسوسة جاءته باحتمال أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخطأ في الاجتهاد في هذه المسألة؛ أي: قبول الصلح على تلك الشروط المجحفة، وكانت هذه حقًا وسوسة من الشيطان. ولكنَّ أبا بكر الصديق لم تأته وسوسة في عدم خطأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ولم يوسوس له الشيطان مِن يوم أن آمن؛ ولذلك درجة الصديقين أعلى مقامًا من درجة عامة المؤمنين الذين قد تأتي لهم الوساوس ويردونها، فمقام الصديقية مقام لا تأتيه وسوسة أصلًا؛ سواء في أصول الإيمان، من الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، أو في فروع الدين، فكم من المؤمنين تأتيه الوساوس في القدر، وتنازعه نفسه وتجعله يتردد، والآخر تأتيه وساوس فيما دون ذلك من المسائل العملية التي يوسوس بها الشيطان. فدرجة الصديقية درجة إيمان مستحبة، ودرجة تصديق أعلى، وهي التي كان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عليها، ولكن فوقها درجة المعاينة، وقد كان إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا ومصدقًا، وليس عنده شك قط، ولكنه كان يريد أن يرى بعينيه؛ لأن عين اليقين أكمل من علم اليقين، فكان يريد أن يرى بعينه ليطمئن قلبه، قال -تعالى-: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: في قضية إحياء الموتى. ونبي الله موسى -عليه السلام- رَجَع إلى قومه غضبان أسفًا، وكان يعلم -بإخبار الله له- أن قومه قد فُتِنوا، وأنهم قد عبدوا العجل، وقد رجع إليهم حزينًا غاضبًا من أجل ذلك، وهو دليل على انتفاء الوسوسة عنه، ودليل على أنه مصدِّق تمام التصديق لخبر الله -عز وجل-، وعنده يقين من حيث نوعية التصديق، لكنه عندما رآهم بعينيه يعبدون العجل ألقى الألواح من شدة الغضب، مع أنه كان عائدًا حاملًا للألواح عارفًا في نفسه بما يفعلون، لكنه عندما رآهم ألقى الألواح غيظًا وازداد غضبًا، مع أنه كان مؤمنًا بخبر الله، لكن نوعية التصديق تختلف. ومن الأمثلة على ذلك في الأمور المحسوسة: اختلاف درجة التصديق، فإذا أخبر الناسَ ثقةٌ أن في المكان الفلاني حريقًا، فصدقوه؛ لأنه ثقة عندهم، ثم أتى آخر فأخبرهم أنه ليس هناك حريق إنما هو بعض الدخان، فقد يتزحزح التصديق عند بعضهم، لكنهم يصدقون الثقة الذي أخبرهم بالحريق، وخبر الواحد قد يتزحزح العلم الذي ينشأ عنه، فإذا أخبرهم مِن الثقات اثنان أو ثلاثة أو عشرة لم يتزحزح اليقين؛ وذلك لأن الخبر قد استفاض إليهم بذلك، وإذا أخبرهم مائة مثلًا، ثم رأوه بأعينهم؛ فلا شك أن هذه المعاينة أكمل حتى من المتواتر. ولهذا قال الله -عز وجل- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) (النجم:53)، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- رأى بعينيه -في المعراج- الجنة والنار، ورأى جبريل -عليه السلام-، ورأى سدرة المنتهى في آياتٍ أراه الله -عز وجل- إيَّاها، قال -تعالى-: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 17-18)؛ رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، ورأى نور الحجاب، حيث قال لأبي ذر -رضي الله عنه- حين سأله: "هلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فقالَ: (رَأَيْتُ نُورًا)، وفي الرواية الأخرى: (نُورٌ أنّى أَراه) (رواهما مسلم)، أي: نور الحجاب حجبني؛ فكيف أراه؟! رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك بعينيه، وهذه أكمل درجات الإيمان والتصديق. وقد أعطاه الله -عز وجل- أكثر من مسألة، وإبراهيم -عليه السلام- قد سأل مسألة واحدة فأعطاه الله إياها، وهي كيف يحيي الموتى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه الله آيات كبرى، وذلك من غير سؤال، فكان في ذلك أكمل منزلة -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا قال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّما كنتُ خَليلًا مِن وَراءَ وَراءَ) (رواه مسلم)؛ لأن الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- أكمل خُلَّةً، وأعظم منزلة، وأعطاه الله ما لم يعطِ أحدًا من العالمين. وكذلك في مسألة الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، ووجد مَن ينازعه ويؤذيه في اتِّباع النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن كثرة الفتن في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة، ولكن ذلك ليس في كلِّ الأعمال؛ لأن الذين شهدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل إيمانًا في هذه الجزئية من غيرهم، وإن كان إيمان غيرهم بالغيب إيمانًا عظيمًا، لكن فطرة الله التي فطر الناس عليها أن المعاينة أكمل من علم اليقين؛ ولذلك ألذ نعيم عند أهل الجنة أن يروا ربهم -سبحانه وتعالى- بأبصارهم، رزقنا الله -سبحانه وتعالى- لذة النظر إلى وجهه. ولنا حديث آخر -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (45) قصة إحياء الطيور الأربعة (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة الثالثة: من وجوه زيادة الإيمان في القلب: زيادة قول القلب بالكمية -وقد ذكرنا فيما مضى زيادته بالكيفية-، وأما زيادته بالكمية: فهي زيادته بما يعلمه الإنسان مِن حقائق الإيمان وأصوله الستة، وما يتفرع منها، فقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله جبريل عن الإيمان، قال: (أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ، وملائكتِهِ، وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخِرِ، وتؤمنَ بالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ) (متفق عليه)، فكل أصل من هذه الأصول يتفاوت الناس فيه ويتفاضلون، كما يتفاوت الشخص في نفسه بين وقتٍ وآخر حسب علمه بتفاصيل الإيمان بأسماء الله -عز وجل- وصفاته، وكذلك تعبُّده بكلِّ اسم منها، ومعرفة معاني الربوبية والألوهية تفصيلًا، وأنواع العبادات، فكل ذلك مما يتفاوت فيه الناس، والشخص في نفسه بين العلم وعدم العلم، وهذا كله مِن وجوه الزيادة والنقصان. ولذا فالناس بعضهم أكمل إيمانًا من بعض، وبعضهم أقل من بعض، وهذا بين أهل الإيمان؛ لأنه لا يُتصور الزيادة والنقصان في معدوم الإيمان؛ إلا أن بعضهم أكفر مِن بعض، وبعضهم يكون في الدرك الأسفل من النار؛ لتكذيبه أو شكه في كلِّ مسائل الدين والإيمان، كمَن يشك في وجود الله أو يجحد وجود الله -وهم الملاحدة في زماننا-، فهم أيضًا يتفاوتون نقصانًا ولا زيادة فيهم؛ لأنهم دون حدِّ التصديق الأدنى، وهو: زوال الشك. وكذلك فإن تكذيب الإنسان بكل ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشد ممَّن كذب بعضه وأقر ببعضه؛ ولذا افترق حكم أهل الكتاب في إباحة الزواج من نسائهم وأكل ذبائحهم دون غيرهم من أهل الشرك؛ وإن كان الجميع مشركًا وكافرًا بإجماع المسلمين. فزيادة الكمية في تصديق القلب: أنه كلما عَلِم الإنسان شيئًا من الشرع لم يكن يعلمه، وبالتالي لا يصدق به فصدقه؛ ازداد بذلك إيمانًا: كإنسانٍ لم يكن يعلم بعض أسماء الله -عز وجل-، أو يعلمها لكنه لا يفهم معناها؛ فإذا علمها وآمن بها وصدَّق بعد أن كان جاهلًا وفهم معناها؛ ازداد بذلك إيمانًا، وهذه الزيادة من باب المعرفة والتصديق الباطن، فإنسان لم يكن يعلم أن من أسماء الله -تعالى- المقيت، فسمع قول الله -تعالى-: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) (النساء:85)، فصدَّق وآمن أن مِن أسماء الله -عز وجل- المقيت، وهو لا يدري معنى المقيت، فهو أكمل إيمانًا ممَّن لم يعلم هذا الاسم، ولا هذه الآية، ثم بعد ذلك عَلِم معناها، وأن معنى المقيت: الشهيد والرقيب؛ فقد ازداد بذلك إيمانًا. وكل المسلمين تقريبًا يعلمون أن الله -عز وجل- هو الصمد -نعني عامتهم-، وأكثرهم لا يعلم معنى الصمد، فإذا آمن الإنسان بأن الله هو الصمد؛ فهو أكمل ممَّن لم يعلم ذلك، ثم إذا علم معناه: أنَّ الصمد هو الذي يُصمَد إليه، ويُقصَد في الحوائج، وأنه هو السيد الكامل في سؤدده، العظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه؛ فهو الذي له كل صفات الكمال، وأيضًا إذا عَلِم أن مِن معنى الصمد أنه لا جوف له، وأنه لا يأكل ولا يشرب، وأنه أيضًا الباقي بعد خلقه، وأنه الذي لم يلد ولم يولد؛ فكل هذا يزداد به علمًا ويزداد به تصديقًا، وهو قبل ذلك لم يكن كافرًا، بل كان جاهلًا بدرجات الجهل المختلفة. وأصل الإيمان في هذا الباب هو الإيمان بلا إله إلا الله ابتداءً، بما يثبت به أصل الإيمان والدين، قال الله -عز وجل-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد:19)، قال البخاري: "فبدأ بالعلم قبل العمل". وقد يكون عنده أصل الإيمان بلا إله إلا الله، وليس عنده من العلم بتفاصيل الإلهية التي تتضمن في الحقيقة كل مظاهر وأنواع العبودية تفصيلًا، وبهذا تشمل الدِّين كله؛ ولهذا يثبت أصل الدين بتصديق القلب بها، ثم بنطق اللسان، وإن كان مَن صدَّق بها بقلبه وعاجَلَتْه المنية فمات قبل أن ينطق بها، أو منعه مانعٌ؛ كخرس وعجز عن الإشارة وقتها، وإن لم يُحكَم بإسلامه ظاهرًا؛ إلا أنه عند الله مؤمنٌ وناجٍ غير معذب بحسب علمه وتقصيره في طلب العلم، فإن لم يقصر فهو ناجٍ لأول وهلة، وإن قصر في طلب العلم أثم، وإن لم يزُل إيمانه بذلك. وكذلك الإيمان بالملائكة، قد لا يعلم الإنسان أسماء الملائكة؛ بل قد لا يعلم وجودهم أصلًا، إلى أن يتعلم ما ورد في الكتاب والسنة من إثبات الإيمان بالملائكة، وقد يتعلم بعد ذلك أسماء الملائكة الذين وردت أسماؤهم في القرآن والسنة، وما أعمالهم كذلك، وقد لا نعلم عمل بعض الملائكة بالتفصيل، وقد نعلم أعمالهم ولا نعلم أسماءهم، فالذين هم حول العرش الكروبيون لا نعلم أسماءهم جميعًا، ونعلم أسماء بعض مَن يحمل العرش إن صحَّ حديث: "صَدَّقَ أُمَيَّةَ بنَ أبي الصَّلْتِ في شيءٍ مِنْ شِعْرِه" (رواه أحمد)، فمنهم: رجل، وثور، ونسر، وليث، وإن كان بعض أهل العلم يضعِّف الحديث. ونعلم أن هناك ملكًا للموت، هو ملك الموت، ولم يثبت في اسمه صراحةً اسم: "عزرائيل"؛ الذي يعتقده كثيرٌ مِن الناس ويقولونه، وكذلك ثبت اسم منكر ونكير في ملكي القبر، وبالقطع وبالإجماع ثبت اسم جبريل وميكائيل في القرآن، واسم إسرافيل في سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- الصحيحة الثابتة. وكذلك في باب الإيمان بالكتب والرسل: فمَن يعلم أسماء الخمسة والعشرين رسولًا الذين وردت أسماؤهم في القرآن، ويصدق بهم واحدًا واحدًا، ويعلم أن هناك رسلًا آخرين لم يقصصهم الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- في القرآن، كما قال -عز وجل-: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (الأنعام:164)، ويعلم أن هناك رسلًا آخرين أخبر بهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: كيوشع بن نون، وإن لم يُذكر في القرآن، والخضر -على قول مَن يثبت نبوته، والراجح في ذلك الوقف-، وقد توقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تُبَّع؛ فكل هذا كلما علم الإنسان ما فيه مِن تفصيلٍ ثبت في الكتاب والسنة فيؤمن به إجمالًا يزيد إيمانه بالأنبياء أكثر من شخص آخر لا يعلم إلا أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعلم الرسل الآخرين، أو يؤمن بهم إجمالًا كما ذكرنا، ولا يعرف أسماءهم، ولا حتى أسماء مَن وردت أسماؤهم في القرآن. فهناك تفاوت بين الناس وبين الإنسان نفسه في أحواله المختلفة؛ فحاله حين لم يكن يعلم يختلف عن حاله حين يعلم، فأصل الإيمان في باب قول القلب وتصديقه هو التصديق بلا إله إلا الله، أما ما سوى ذلك فيصير شرطًا في أصل الإيمان إذا بلغ الإنسانَ علمُه، أو على الأصح في الاصطلاح يكون ركنًا في أصل الإيمان. وهذه مسألة مهمة، وهي أن أصل الإيمان في ذلك هو ما قاله الله -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ). فلو أن إنسانًا لا يعلم بلا إله إلا الله، فلا يكون مؤمنًا أصلًا ويكون كافرًا، وأما كونه معذبًا أم لا؛ فهذا حسب بلوغ الحجة الرسالية لأي رسول من الرسل، فأما إذا كان لم يأته خبر رسول لم يكن معذبًا، بل كان ممتحنًا يوم القيامة ولو مات كافرًا مشركًا. أما إذا علم أنه لا إله إلا الله، ولم يعلم أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يعلم أن جبريلَ ملك من ملائكة الله مُوكَّل بالوحي أتى محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ولم يعلم أن موسى -صلى الله عليه وسلم- رسول من عند الله، ولم يعلم أن التوراة من الكتب التي أنزلها الله، ولم يعلم بأن القرآن أنزله الله ولم يبلغه ذلك بعد؛ فهذا ليس بكافر، بل هو مؤمن بإيمانه بلا إله إلا الله. وللحديث تفصيل آخر مهم -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (46) قصة إحياء الطيور الأربعة (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة الرابعة: ذكرنا في الفائدة الثالثة: أن أصلَ الإيمان هو ما قال الله -عز وجل-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (محمد:19)، فإذا لم يعلم الإنسان أن لا إله إلا الله فليس بمؤمن، بل هو كافر حتى ولو لم يكن معذبًا؛ لأنه معذور بعدم بلوغ دعوة رسول مِن الرسل، وأما إذا علم أن لا إله إلا الله فإن أصل الإيمان عنده إذا نطق مع ذلك الشهادتين، حتى ولو لم يعلم أن محمدًا رسول الله، ولم يعلم أن جبريل مَلَك من ملائكة الله، ولم يعلم أن القرآن أنزله الله؛ فهذا ليس بكافر، بل هو مؤمن بإيمانه بلا إله إلا الله. فأما إذا بلغه بعد ذلك أن محمدًا رسول الله فأبى، أو بلغه أن موسى رسول الله فأبى، أو بلغه أن جبريل مَلَك من الملائكة فكذب بذلك، وأن جبريل ينزل بالوحي فكذب بذلك، أو بلغه القرآن أو آية منه فكذب به = فهو كافر، ونقض بذلك لا إله الله، لكن كل ذلك لم يصبح شرطًا أو -بالأصح- ركنًا من أركان الإيمان إلا عندما بلغه هذا الأمر، فليس شرطًا ابتداءً، بل لا يكون شرطًا إلا بعد بلوغه الإنسان، بخلاف شهادة أن لا إله إلا الله التي بُعِث بها كلُّ الرُّسُل ودعوا إليها، فإذا لم تبلغ الإنسان لم يكن مؤمنًا، وإذا لم توجد في قلبه: "لا إله إلا الله"؛ لم يكن مؤمنًا، حتى إن كان غير معذَّبٍ. ومَن بلغته وآمن بها، وإن لم يبلغه شيء آخر مِن الدِّين، ولا آمن بشيء آخر؛ لأنه لا يعرف غير لا إله إلا الله = فهو مؤمن ناجٍ عند الله، غير مكلَّف بما لم يبلغه، كما في حديث صِلَة عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ حتّى لا يُدْرَى ما صيامٌ، ولا صلاةٌ، ولا نسُكٌ، ولا صدَقةٌ، وَلَيُسْرَى على كتابِ اللَّهِ -عزَّ وجلَّ- في ليلَةٍ، فلا يَبْقى في الأرضِ منهُ آيةٌ، وتبقى طوائفُ منَ النّاسِ الشَّيخُ الكبيرُ والعجوزُ، يقولونَ: أدرَكْنا آباءَنا على هذِهِ الكلمةِ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فنحنُ نقولُها)، فقالَ لَهُ صِلةُ: ما تُغني عنهم: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وَهُم لا يَدرونَ ما صلاةٌ، ولا صِيَامٌ، ولا نُسُكٌ، ولا صدقةٌ؟ فأعرضَ عنهُ حُذَيْفةُ، ثمَّ ردَّها علَيهِ ثلاثًا، كلَّ ذلِكَ يعرضُ عنهُ حُذَيْفةُ، ثمَّ أقبلَ علَيهِ في الثّالثةِ، فقالَ: "يا صِلةُ، تُنجيهِم منَ النّار ثلاثًا" (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وهذا الحديث أصل في هذا الباب العظيم المهم، وهو أن أصل الإيمان المنجي من النار -إذا ثبت للإنسان- هو: "لا إله إلا الله"؛ خلافًا لأهل البدع الذين يشترطون تفاصيل معينة في هذا الأمر، مثل: اشتراط ما سمَّوه: حدَّ الإسلام، وأركان الإيمان، وأجزاء الركن مِن الحكم والولاية والنسك، كما يقوله أتباع "عبد المجيد الشاذلي"، المشهورون بالتوقف والتَّبَيُّن، كما ذكره في كتابه: "حَدُّ الإسلام وحقيقة الإيمان": مِن أن مَن لم يعلم شيئًا من الحكم والولاية والنسك فهو كافر، جاهلًا كان أو غير جاهل، وإذا شكَّ في مدلولٍ من كلمةٍ عنده على أركان الحد -وهي: الحكم والولاية والنسك- فإنه يُتوقف فيه لموضع اللوث، وهذا كله مِن البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان. وللذلك نقول: هذا أصل مهم؛ لأن البعض يشترط في أصل الإيمان تفاصيل معينة في كلمة التوحيد، وفي الانقياد، ونحو ذلك. فالبعض مِن أهل البدع يقولون: الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا إذا عَلِم تفاصيل هذه الكلمة، ولا تكفي المعرفة الإجمالية بها، بل لا بد أن يعرف أنواع الشرك ويتبرأ منها ويتركها! ولازم كلامهم أن يدرس التوحيد من أوله إلى آخره لنحكم له بأصل الإسلام وحقيقة الإيمان، وحقيقة كلامهم لزوم معرفة أنواع الشرك المختلفة؛ شرك النسك، وشرك الحكم، وشرك الولاية على حدِّ قولهم! ويا ليتهم اكتفوا بذلك، بل جعلوا تفاصيل النُّسُك -لأن النسك مقصود به العبادة-، مثل: الاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، والحَلِف، والنذر، والدعاء، والركوع والسجود، والخوف والرجاء، والإخلاص، والتوكل والإنابة؛ فكلُّ هذه داخلة في النُّسُك، وغيرها مِن أعمال الظاهر والباطن؛ فمَن جهل شيئًا مِن ذلك؛ فهو كافر عندهم! ولم يكتفوا أيضًا بأن الولاء لله، بل لا بد أن يعرف التفصيل: فالمحبة، والنصرة، والطاعة، والمتابعة، والتشبه، والقيام بالأمر، والنصح، وغير ذلك مِن أمور الموالاة كلها شروط، أو أركان لا يصح الإيمان إلا بمعرفتها، وكذا تفاصيل أمر الحكم وأنواع الشرك فيه، لا يكون الإنسان مؤمنًا ولا مسلمًا، ظاهرًا ولا باطنًا، حتى توجد في قلبه، وينطق بها لسانه، إن توقفوا في معرفة ذلك مِن قلبه؛ توقفوا عن حكم الإسلام له. ونرد عليهم قائلين: ولماذا اشترطتم هذه الأنواع الثلاثة فقط؟! بل يلزم على كلامكم اشتراط المعرفة بالشرك في الربوبية، والشرك في الأسماء والصفات؛ فلماذا لَمْ تشترطوا ذلك في أصول الإيمان؟! والمراد بها: أصل ما لا يثبت الإيمان ابتداءً إلا به، وأن مَن لم يعرفها فهو كافر جاهل، وهذا لا شك مِن أخطر الأمور، فإن كلَّ اسمٍ مِن أسماء الله الحسنى تتعلَّق به عبادة من العبادات، فلو جهله إنسان لَزِم -على قولهم- أنه كافر جاهل، وإذا وقع في شرك لا يدري أنه شرك، كان غير معذور عندهم؛ لأنه لا عذر بالجهل، ولا عذر بالتأويل! نعوذ بالله من هذه البدع المضلة. والحق في ذلك: أن الأصل في الإيمان -كما قلنا- أن يعلم أنه لا إله إلا الله كما قال الله -عز وجل-، ثم يزداد ذلك -أي: أصل الإيمان- فيما بعد بما يبلغه عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من العقائد الواجبة، ومن تفاصيل الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر؛ بحيث يصبح ما بلغه مِن ذلك شرطًا في أصل الإيمان أو -على الأصح- ركنًا مِن أركانه، لو أنه كذَّب به لكفر، وهذا هو الوجه من وجوه زيادة الإيمان بالكمية. والله أعلى وأعلم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (47) قصة إحياء الطيور الأربعة (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة الخامسة: دلّتْ الآيةُ الكريمة على أن الإيمان أصلٌ وله كمالٌ، وقد ذكرنا في الفوائد الأربعة السابقة تفاوت أقوال القلب وأعماله بالكمّية والكيفية، وأما زيادة الإيمان وكماله بالنظر إلى زيادة أعمال اللسان والجوارح، فأصل أعمال اللسان هو النطق بالشهادتين، وهو ركن من أركان الإيمان، وهو المقصود بقول مَن يقول: الإيمان قول وعمل، فيجعلون القول -الذي هو نطق الشهادتين- ركنًا مستقلًا؛ لأن حكم الشهادتين مستقل عن حكم أعمال اللسان الأخرى، وهي في الحقيقة أقوال، لكن سُمّيت أعمالًا؛ لأن نطق الشهادتين به يثبت أصل الإسلام ظاهرًا وباطنًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يخرجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ)، وقال: (مَن ماتَ وهو يَعْلَمُ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الجَنَّةَ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ) (متفق عليه). ويُلحظ في هذا الحديث: أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي في استمرار العصمة لا في أصلها، فإن الإجماع المعلوم من الدِّين بالضرورة -كما نقله ابن رجب الحنبلي- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلُ الإسلامَ ممَّن نطق الشهادتين، ويجعله بذلك مسلمًا، ثم بعد ذلك يُؤمر بالصلاة والزكاة. فأصل العصمة يَثبتُ بالنطق بالشهادتين، واستمرارها بالمحافظة على الصلاة والزكاة؛ فإنَّ مَن امتنع عن ذلك حلَّتْ عقوبتُه، فالصلاة والزكاة مِن حق لا إله إلا الله، أما باقي أعمال اللسان أو أقوال اللسان فهي التي تقع في الصلاة، وفي الحج، وفي التسبيح، والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وسائر أقوال اللسان التي يحبها الله، وكذا أعمال الجوارح؛ فهذه كُلها يزيد الإيمانُ وينقصُ بها؛ ولذلك زيادة الإيمان ونقصانه بِناءً على تفاوتِ أعمالِ الجوارح مع أقوالِ اللسان، مَردُّ ذلك إلى أن أعمال الجوارح من الإيمان، وقد دلَّ على ذلك قولُ الله -تعالى-: (وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، فبوّبَ عليه البخاريُّ باب: "صيام رمضان من الإيمان"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، وبوّبَ عليه البخاريُّ باب: "قيام رمضان من الإيمان". وكذا أداء الزكاة وأداء خُمس الغنيمة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس: (آمُرُكُم بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وأَن تُقيمُوا الصَّلاةَ وتُؤتُوا الزَّكَاةَ، وأَن تُؤدّوا خُمُسَ ما غَنِمْتُمْ) (متفق عليه). وهذه الأحاديث صريحة في أن أعمال الجوارح داخل مسمَّى الإيمان، وهذه المسألة موضع نزاع كبير بين أهل السنة والمُرجِئة؛ فالمُرجئة -وهم الذين غَلوا في جانب الرجاء- سُمُّوا مرجئة من التأخير؛ لأنهم أخَّروا العمل، فهم يقولون: "الإيمان هو التصديق فقط بالقول واللسان". والغلاة منهم -وهم الجهمية-: يغالون في الإرجاء، يقولون: "الإيمان هو المعرفة، ولو لم ينطق الشهادتين"، وهذا هو الضلال المبين؛ لأن إبليس يَلزم أن يكون مؤمنًا عندهم؛ لأن عنده معرفةً بالله، وضلَّ بعد كفره وإبائه واستكباره، يقول: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، ويقول: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فهو يؤمن بالربوبية؛ يُؤمن أن الله خلقه، ويؤمن أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يُنظِر من يشاء، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ومع ذلك كله لم يكن مؤمنًا؛ لأن الإيمان ليس هو المعرفة فقط، بل لا بد معه من انقياد القلب وعمله ومحبته، وتعظيم لله -عز وجل-، وسائر أعمال القلوب، ولا بد كذلك من نطق اللسان. ويلزمهم -يلزم المرجئة-: أن يكون فرعون مؤمنًا كذلك؛ لقول الله -عز وجل-: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)، ومَن قال بإيمان إبليس وفرعون خرج مِن مِلَّة الإسلام -والعياذ بالله-. وقد دخل الإرجاء على كثيرٍ مِن الناس في عصرنا، كمَن يقول: "إن اليهود والنصارى مؤمنون؛ لأنهم يعلمون أن لا إله إلا الله، ويعلمون أن الله خلقهم"، وهذا القول في تجويز تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكذا عدم النطق بالشهادتين مُنَاقِض لأصل الإسلام -والعياذ بالله-. ومن أهم مسائل الخلاف بين أهل السنة والمُرجِئة: أنهم لا يُدخِلون عملَ القلب في الإيمان عند أكثرهم، وإن كان منهم مَن يُدخِل أعمالَ القلب في الإيمان مِن المتقدمين، وأما عمل الجوارح فهم متفقون -حتى مرجئة الفقهاء- على أنه عندهم ليس من الإيمان، وعندهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأشدّ خلاف بين أهل السنة وبين مَن أخرج أعمال القلوب مِن الإيمان هو في عمل القلب، وذلك بأنهم يُجوّزون ترك حب الله -عز وجل- والخوف منه، والإخلاص له، وأعمال القلوب بلا نزاع -وبالنص كما سبق- ركن في الإيمان لا يحصلُ الإيمانُ إلا بها، فلو أن إنسانًا ليس عنده أصل حب الله، فضلُا على أن يكون مُبغضًا لله، أو ليس عنده حب للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فضلًا على أن يكون مُبغضًا للرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا لا يكون مؤمنًا أصلًا، بل هو كافر، حتى ولو نطق الشهادتين فإنه يكون منافقًا النفاق الأكبر. ولو أن إنسانًا عنده حب الله وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكنَّ هذا الحب ضعيف، فإذا ما جاءته شهوة قدَّم حب تلك الشهوة على حب الله ورسوله؛ فهذا عنده أصل الإيمان، وإيمانه ناقص يستحق به العقوبة في الدنيا والآخرة، وأما كامل الإيمان الواجب: فهو الذي يُقدِّم حبَّ الله وحبَّ رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما تحبه نفسه من الشهوات المحرمة؛ فالله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فهذا هو المؤمن الإيمان الكامل الواجب الذي كَمَّلَ القدر الواجب مِن إيمانه؛ فالذي عنده أصل الإيمان مستحق للعذاب، ولكنه لا يُخَلَّد في النار، ومَن عنده الإيمان الواجب مستحق للنجاة من أول وهلة، ودخول الجنة من أول وهلة، وأما لو زال أي عمل من أعمال القلوب بالكُلية لزال الإيمان بالكلية، وإن كنا لا نستطيع أن نعرف ذلك في الدنيا إلا بأن يصرِّح صاحبه بالقول، كمَن قال بلسانه: إنه لا يحب الله، أو لا يحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو لا يحب القرآن، أو أن يعمل عملًا يدل دلالة ظاهرة على زوال عمل القلب: كمَن يرمي المصحف في القاذورات فهذا كفر ناقل عن الملة، ونحن لم نعرف كفر هؤلاء مِن قلوبهم، إنما علمناه مِن لسانه أو عمله للكفر بجوارحه. فأما إذا كان لا يحب القرآن باطنًا ولم يصرِّح بذلك، فهو ليس مؤمنًا عند الله -عز وجل-، بل هو كافر في الباطن، وإن عاملناه مسلمًا لو نطق الشهادتين، وكمَن يقول: إنه لا يخاف الله، أو قال: إنه لا يخاف النار، أو قال إنه لا يخاف القيامة، ولو أنه منذ أسلم وهو ولا يخاف الله ولو ذرة، فهو لم يكن مؤمنًا ابتداءً، كان منافقًا، والذي يقول: إنه لا يخاف الله كفر بهذه الكلمة؛ لأن الله -عز وجل- يقول: (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فمَن لم يخف الله ليس مؤمنًا، وقال الله -تعالى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، فأصل التوكل ركن في أصل الإيمان، وكذا أصل الرجاء، فاليأس مِن رحمة الله ناقل عن ملة الإسلام، كما قال الطحاوي -رحمه الله-. موضع الخلاف مع هؤلاء المرجئة في قضية عمل القلب؛ إذ إن أصلَ عمل القلب ركن في أصل الإيمان، وهم يقولون: لا يلزم إلا التصديق والمعرفة، عامتهم يشترطون نطق الشهادتين، والجهمية منهم لا يشترطون ذلك، وكلها ضلالات، وأما أعمال الجوارح؛ فهذه مسألة عظيمة أيضًا يختلف فيها أهل السنة مع المُرجئة، فأهل السنة: يقولون إن عمل القلب واللسان والجوارح جزءٌ من الإيمان -كما سبقَ بيانُه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الإيمانُ بِضْعٌ وَسَبعُونَ أَوْ بِضعٌ وسِتُونَ شُعْبَةً: فَأفْضَلُهَا قَولُ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، والحَياءُ شُعبَةٌ مِنَ الإيمان) (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم). وإن كان العلماءُ مِن أهل السنة يختلفون: هل من أعمال الجوارح ما يكون تركه كفرًا ناقلًا عن الملة أم لا؟ وهذا النزاع بينهم لا يزيد على الأركان الأربعة؛ فلا نزاع بين أهل السنة فيما زاد على الأركان من الأعمال الواجبة أنَّ تركه لا يكون كفرًا، بل معصية، وكذا فعل الكبائر معصية وليست كفرًا؛ خلافًا للخوارج القائلين: إن الكبائر يكفر الإنسان، والمعتزلة الذين يقولون: إن الكبائر تُضيِّع أصل الإيمان وتخلّد صاحبها في النار، وهو في منزلة بين المنزلتين. وأما الأركان الأربعة: فهي مسألة خلافية بين أهل السنة، وجماهيرهم على أن الأركان الأربعة إذا تركها تكاسلًا لم يَخْرُج من الملة؛ لأحاديث الشفاعة المستفيضة المتواترة في خروج عُصَاة الموحِّدين الذين يشهدون: "أن لا إله إلا الله" مِن النار. وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (48) قصة إحياء الطيور الأربعة (10) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة السادسة: قاعدة "الإيمان له أصل وكمال" هي من خصائص أهل السنة والجماعة، لم يشاركهم فيها غيرهم من أهل البدع في الإيمان، المرجئة من جانب، والوعيدية من الخوارج والمعتزلة من الجانب الآخر، وذلك بناءً على اعتقاد أهل السنة من أن الإيمان يزيد وينقص، ويتبعض ويتشعب، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما خالفهم فيه أهل البدع بسائر طوائفهم، فقد نفوا اجتماعَ الكفر والإيمان، والطاعة والمعصية في الشخص الواحد. والمقصود باجتماع الكفر والإيمان في قلب العبد: اجتماع أصل الإيمان مع الكفر الأصغر، أو النفاق الأصغر، أو الفسق الأصغر، والظلم الأصغر، أو أن يوجد في القلب شيء من الإيمان يُحبِطه الكفر الأكبر، ولا يزال موجودًا في القلب؛ كإبليس ظلّ يعرف ربَّه بعد أن أبى واستكبر، وكان من الكافرين، قال: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الحجر:36)، فقد أيقن أن الله ربه وأنه هو الذي يحيي ويميت ويُنظِر، وأنه يُقر بيوم يبعثون، وأن هناك بعثًا بعد الموت، ويقر بالقيامة، ومع ذلك كله فهو كافر؛ وذلك لأن الشرك محبط للعمل، كما قال -عز وجل-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (سورة الزمر: 65 - 66). الشرك الأكبر، والنفاق الأكبر، والظلم الأكبر، والفسق الأكبر المخرج من الملة، قد يوجد في القلب معه شيءٌ من التصديق والمعرفة، بل وربما شيءٌ من أعمال القلوب، لكن زال من القلب بعضُها الآخر، وزال نُطق اللسانِ بالشهادتين، وحصل في القلب الإباء والاستكبار، فخَوُفُ إبليس من ربه -عز وجل- حين قال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 48)، ذلك مع استمرار الإباء والاستكبار في قلبه؛ أحبط أثر ذلك الخوف، كما أحبطَ أثر التصديق بوجود الله وربوبيته، وخلقه لعباده، وبَعثه لهم، والإقرار باليوم الآخر. كما أن أهل الكتاب يقرون بالله -عز وجل- خالقًا رازقًا، بل يُقرون به معبودًا، وكذلك أقروا برسل الله في الجملة، وآمنوا برسلهم، وبالكتب المنزلة عليهم، لكنهم لمّا ادَّعوا لله -عز وجل- الولدَ؛ حبطتْ أعمالُهم بذلك، وحبطَ إيمانُهم، وكذلك لما كذّبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذّبوا كلام الله -عز وجل- المُنزّل عليه القرآن العظيم، فقد كذبوا الله؛ فقد كفروا بالله وأشركوا بالله، فحبط تصديقُهم؛ ولذا سماهم الله لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، في قوله -عز وجل-: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)، فهذا في اجتماع شيء من التصديق -بل وبعض أعمال القلوب- مع وجود الكفر الأكبر في قلب الإنسان، فيحبطه، ولا يظهر أثره المعتبر شرعًا، بل الكفر هو الذي يبقى أثرُه حتى يُخلّد صاحبه في النار. وأما المسألة الأولى في اجتماع الكفر والإيمان في القلب -أَعني اجتماع أصل الإيمان مع الكفر الأصغر والظلم الأصغر- فقد دلَّت عليها دلائل كثيرة، مثل: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّما عَبْدٍ أَبَقَ مِن مَوَالِيهِ فقَدْ كَفَرَ) (رواه مسلم)، وقال: (ليسَ مِن رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أبِيهِ وهو يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ) (رواه مسلم)، وقال للنساء: (يَكْفُرْنَ) قيلَ: أيَكْفُرْنَ باللَّهِ؟ قالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ) (رواه البخاري)، وغير ذلك من الأدلة الدَّالَّة على اجتماع أصل الإيمان والكفر الأصغر، وهذا كله فرع على قاعدة الإيمان له أصل وكمال، وقد دلَّت عليه آية إحياء الطيور الأربعة في سورة البقرة، التي نحن في صدد فوائدها. والمقصود بأصل الإيمان: هو الحد الذي مَن نقص عنه إيمانُه صار كافرًا، ومَن لم يبلغه لم يدخل في الإسلام، قال محمد بن نصر المروزي: "إِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ مِثَقالَ ذَرَّةٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ يَزْدَادُ بَعْدَهُ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ، فَإِنْ نَقَصَتِ الزِّيَادَةُ الَّتِي بَعْدَ الْأَصْلِ لَمْ يَنْقُصِ الْأَصْلُ" (تعظيم قدر الصلاة، 2/700)، وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَهُوَ مُرَكَّبٌ -أي الإيمان- مِنْ أَصْلٍ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ وَمِنْ وَاجِبٍ يَنْقُصُ بِفَوَاتِهِ" (كتاب الإيمان الأوسط، 1/99)، وقال: "ومَن ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا حتى يترك أصل الإيمان"، وقال أيضًا: "وهو -أي: الإيمان- في الكتاب بمعنيين: أصل وفرع". ومما اتفق أهلُ العلم على أمور هي أصل في الإيمان، فمَن تركها فقد كفر، هي أصول أربعة متفق عليها، وقد اختلفوا فيما سواها؛ فالأصول المتفق عليها: أولًا: قول القلب وهو ما لم يحدث فيه نزاع بين أهل القبلة، فضلًا عن أهل السُّنة؛ إلا ما كان من خلاف للكرّامية وغلاة الجهمية عند مَن فرَّق منهم بين الإقرار والتصديق. والمقصود بقول القلب: التصديق بشهادة أن لا إله إلا الله، ومَن بَلَغه خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخبر أي رسول، لزمه التصديق به، وكذا الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأما مَن لم تبلغه دعوة رسول قط بلا إله إلا الله فهو كافر، وإن كان معذورًا، لا يُعذّب حتى تبلغه الحجة الرسالية، أو يمتحن يوم القيامة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "قال أهل السنة: إن مَن ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد". وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي -في فتح الباري شرح صحيح البخاري-: "الإيمان قسمان: أحدهما إيمانٌ بالله، وهو: الإقرار والتصديق، والثاني: إيمان بالله وهو الطاعة والانقياد، فنقيض الأول كفر، ونقيض الثاني فسق، وقد يُسمى كفرًا، ولكن لا ينقل عن الملة"، وقال: "والإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه الغرماء من مظالمهم، بل يبقى على صاحبه؛ لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخُلد بعض أهل التوحيد في النار". الأصل الثاني المتفق عليه: قول اللسان، وهو نطق الشهادتين، وهذا محل اتفاق بين أهل القبلة، إلا الجهمية ومَن وافقهم، حيث جعلوا الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ومنهم متأخرو الأشاعرة، قال الحافظ ابن رجب: "ومعلوم أن الجنة يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان". الثالث من الأمور المتفق عليها: عمل القلب، والمقصود هو أصل عمل القلب، ونعني به: أن كل عمل واجب من أعمال القلوب فأصله أصل في الإيمان، وفي هذا الأصل يبدأ التمايز بين المرجئة وأهل السنة، حيث إن المرجئة يجعلون الإيمان هو الاعتقاد والقول فقط دون أعمال الجوارح، وبعضهم أدخل بعض أنواع عمل القلب في الإيمان مثل: الصالحية، والشمارية، والتومانية، ولكن أكثرهم لا يجعلون عمل القلب داخلًا في الإيمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد). وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والدين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالًا هو الأصل"، وقد فسر معنى الحال في موضع آخر، فقال: "يدخل في ذلك ما يُسمَّى مقالًا وحالًا، مثل: الصبر والشكر، والخوف والرجاء، والتوكل والرضا، والخشية والإنابة"، وقال: "مَن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه؛ فقد أتى ببعض الشكر وأصله، والكفر إنما يثبت إذا عُدمَ الشكر". وقال أيضًا: "ولا بد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وخشيته؛ وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانًا البتة" (انتهى من مجموع الفتاوى). الأصل الرابع الذي هو من الأصول المتفق عليها: تركُ النواقض: القولية والعملية والاعتقادية، واعلم أن ترك كل ما نهى الشرعُ عنه من الإيمان، وترك ما هو كفر أكبر من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة داخل في أصل الإيمان بلا خلاف عند أهل السنة. قال ابن منده -رحمه الله-: "قال أهل الجماعة: الإيمان أصله المعرفة بالله، والتصديق له وبه، وبما جاء من عنده بالقلب واللسان، مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة، ومع الخوف والحب والخضوع له والتعظيم، فمَن أتى هذا الأصل فقد دخل في الإيمان، ولَزمه اسمه أحكامه، ولا يكون مستكملًا له حتى يأتي بفرعه". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وسادسها: أنه يلزمهم -أي: المرجئة- أن مَن سجد للصليب والأوثان طوعًا، وألقى المصحف في الحش عمدًا، وقَتَل النفس بغير حق، وقتل كلَّ مَن رآه يصلي، وسفك دم مَن يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين؛ يلزمهم أنه مؤمن" إلى أن قال: "فمَن لم يتركها دلَّ ذلك على فساد إيمانه الباطن". وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (49) قصة إحياء الطيور الأربعة (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة السابعة: ذكرنا في قاعدة: "الإيمانِ له أصلٌ وكمالٌ" الأصولَ الأربعةَ المتفق عليها في كونها أركانًا في أصل الإيمان، أما الأصول المختلف فيها، فهي: المباني الأربعة المذكورة في حديث جبريل -عليه السلام-؛ أي: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وبعض أهل العلم ألحقها كلها بالأصول، وأكثرهم لم يُلحق منها شيئًا، وبعضهم ألحق بعضها؛ بمعنى أنه يكفِّر مَن ترك شيئًا منها. وهذه الأقوال كالتالي: فمِن أهل العلم مَن يكفِّر تارك الصلاة تكاسلًا، وهذه أشهر المسائل التي فيها الخلاف، وهم يكفرونه بترك ثلاث صلوات -على قول-، أو صلاتين مجموعتين -على قول-، أو صلاة واحدة -على قول ثالث-. وهؤلاء -الذين يكفرون بترك الصلاة- عامتهم إنما يكفرون تارك الصلاة تكاسلًا، إذا دعاه الإمام إلى الصلاة، وعرضه على السيف فأبى، فعند ذلك يكفِّرونه، ويوجبون قتله ردةً، وقالوا: إنه لا يُتصور أن يكون مُصدقًا بوجوب الصلاة ومُوقنًا بأن الله يعذبه على تركها، وفي قلبه تعظيم أمر الله والانقياد لأمره، ثم يفضِّل القتل على أن يصلي، فإذا صبر على القتل فلا يمكن إلا أن يكون كافرًا زنديقًا. وبعضهم يكفر بترك الصلاة والزكاة، وبعضهم يكفر بترك الصلاة أو الزكاة إذا قاتل على منعها، وبعضهم يكفر بترك أي مِن الأركان الأربعة، وهذه الأقوال كلها في مذهب أحمد -رحمه الله تعالى-. وإن كان مَن يكفرون بترك الصلاة بعضهم يكفر بالترك المجرد، وهو أضعف الأقوال عند الحنابلة، وإنما قال به الآجري وطائفة وافقته، ولكن عامة مَن يكفرون إنما يكفرونه إذا عُرض على السيف. وجماهير العلماء لا يكفرون بترك شيء من الأركان الأربعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "مباني الإسلام الأربعة المأمور بها إن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها؛ فإنه يُقاتَل بتركها عند جماهير العلماء (يقصد: إذا كانوا طائفة امتنعت عن الصلاة، وامتنعت عن أن تسلم تارك الصلاة للإمام؛ لكي يعاقبه على تركها) ويكفر أيضًا عند كثير منهم أو أكثرهم أو أكثر السلف (إنما قال ذلك؛ لأن جماهير المتأخرين من أهل العلم لا يكفرون تارك الصلاة، ونسبة التكفير إلى جمهور السلف فيه نظر). وأما فعل المنهي عنه -الذي لا يتعدى ضرره صاحبه- فإنه لا يُقتَل به عند أحد من الأئمة، ولا يكفر به؛ إلا إذا ناقض الإيمان بفوات الإيمان، وكونه مرتدًا أو زنديقًا (قلتُ: بعض المنهي عنه قد ورد الشرع فيه بقتل صاحبه؛ مثل: رجم الزاني المحصن). وذلك أن من الأئمة مَن يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس؛ لأن الإسلام بُني عليها، وهو قول طائفة من السلف، ورواية عن أحمد، اختارها بعض أصحابه. ومنهم من لم يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة، وهي رواية أخرى عن أحمد، ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة والزكاة إذا قاتل الإمامَ عليها، كرواية الإمام أحمد، ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة، كرواية عن أحمد، ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره، كرواية عن أحمد، ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره، كالمشهور من مذهب الشافعي" (انتهى من مجموع الفتاوى، 20/ 97). ويُلاحَظ هنا: أن هذه الأحكام هي الترك المجرد عن الجحود والاستكبار، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "مردود النزاع هو فيمن أقرَّ بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها، وأما مَن لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم" (انتهى من مجموع الفتاوى، 20/ 97). بناءً على ذلك، فالخلاف فيمَن ترك المباني الأربعة -وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج- متكاسلًا لا جاحدًا ولا آبيًا ولا مستكبرًا؛ وذلك بأن يقر أنه مخطئ، وأن الصلاة فرض، وأنها تلزمه = فالخلاف فيه سائغ. بخلاف الجاحد الذي يقول: صوم رمضان ليس فرضًا! والآبي الذي يقول: لا يلزمني أن أصوم! فالمتكاسل هو الذي يُفطر في رمضان مع إقراره بفرضيته، بحجة أنه متعب أو جائع، أو لا يخرج الزكاة بخلًا بها، بزعم قلة المال وكثرة الحقوق وخوف الفقر، أو رجل لا يحج مع الإقرار بوجوبه، بحجة ارتفاع حرارة الجو ومشقة السفر إلى الحج وكثرة الزحام الذي لا يحتمله في ظنه؛ فهذا تارك لهذه الأركان تكاسلًا لا جحودًا. وهذا المتكاسل هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ منهم مَن يكفره كفرًا أكبر، ومنهم مَن لا يكفره كفرًا أكبر؛ بل أصغر، والقول الثاني هو قول جمهور العلماء. وأما منزلة الخلاف في هذه المسألة، فهي مِن مسائل الخلاف السائغ؛ فليس هناك خلاف أنه لو أبق عبد من سيده أنه ليس بكافر؛ مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيُّما عَبدٍ أبَقَ مِن مَواليهِ، فقد كفَرَ) (رواه مسلم)، فنعني أنه ليس كافرًا كفرًا أكبر بالإجماع، فهذا الكفر -باتفاق أهل السنة وإجماعهم- محمول على أنه كفر دون كفر. والمرأة التي لا تطيع زوجها ليس هناك خلاف في أنها ليست كافرة كفرًا ناقلًا عن الملة، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمَّى عدم طاعة الزوج كفرًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء: (يا مَعْشَرَ النِّساءِ، تَصَدَّقْنَ وأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفارَ، فإنِّي رَأَيْتُكُنَّ أكْثَرَ أهْلِ النّارِ، فَقالتِ امْرَأَةٌ منهنَّ جَزْلَةٌ: وما لنا يا رَسولَ اللهِ أكْثَرُ أهْلِ النّارِ؟ قالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ) (متفق عليه)، وليس هناك خلاف بأنه كفر دون كفر، وكذا مَن ترك برَّ والديه. فمَن كفَّر العبد الآبق مِن مولاه؛ فهو ضال مبتدع، ومَن كفَّر المرأة التي تعصي زوجها فهو ضال مبتدع، ومَن كفَّر آكل الربا -مِن غير استحلال- فهو ضال مبتدع، ويكون أسوأ من آكل الربا نفسه، بخلاف الصلاة والزكاة والصيام والحج، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العَهدُ الذي بَينَنا وبَينَهُم الصلاةُ، فمن تَرَكَها فَقَد كَفَرَ) (رواه الترمذي والنسائي وأحمد، وصححه الألباني). وهناك تفسيران: الأول: كَفَر كفرًا أكبر، والثاني: كَفَر كفرًا أصغر، وكلاهما محتمل عند أهل السنة، لا يخرج الإنسان بترجيح أحدهما إلى الابتداع، فهذه مسألة اجتهادية كما مضى، فلا يُبدع فيها المخالف ولا يُفسق، سواء مَن كفَّره لا يقول عمَّن لم يكفره: مرجئ، ومَن لم يكفِّره لا يقول عمَّن كفَّره: إنه خوارج أو تكفير. فأما مسألة تكفير مرتكب الكبيرة؛ فلا نزاع فيها عند أهل السنة، ومَن قال بها مِن الخوارج أو مَن قال بخلوده في النار مِن المعتزلة؛ فهو ضال مبتدع. وأما الراجح في هذه المسألة فهو قولُ جماهير أهل السنة: أنه لا يُكفَّر؛ لما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فيَقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: شَفَعَتِ المَلائِكَةُ، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنُونَ، ولَمْ يَبْقَ إلَّا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فيُخْرِجُ مِنْها قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ... )، وفي آخر الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هَؤُلاءِ عُتَقاءُ اللهِ الَّذِينَ أدْخَلَهُمُ اللَّهُ الجَنَّةَ بغيرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، ولا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ) (رواه مسلم). وهو مِن أصرح الأدلة على ذلك، ولا يصح حمله على مَن يكون في آخر الزمان ممَّن لم يبلغه فرض الصلاة وغيرها، فإن هؤلاء إذ لم يبلغهم وجوب هذه الأشياء لا يستحقون عذابًا؛ إذ مِن شروط التكليف: العلم أو التمكن منه، وهؤلاء عاجزون؛ لاندثار الشرائع كلها، والأحاديث الواردة هي في خروج عصاة الموحدين من النار. وكذلك لا يصح تقييدها بالأحاديث الواردة في وجوب الأعمال وكفر تارك الصلاة؛ لأن مقتضى ذلك التقييد أن يكون مَن يحافظ على الصلوات الخمس في مواقتيها يُقَال عنه: لم يعمل خيرًا قط! وهذا باطل ظاهر البطلان. ويؤيد ذلك: قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "واللهِ لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ" (متفق عليه)، فهو دليل واضح على عدم الفرق بينهما عند الصحابة، مع ما قد ورد في مانعي الزكاة أنه يُعذَّب يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولو كان كافرًا كفرًا أكبر لما احتمل أن يكون سبيله إلى الجنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن صَاحِبِ كَنزٍ لا يُؤدِّي زَكاتَه، إلّا أُحْمي عليه في نارِ جَهَنَّمَ، فيُجْعَلُ صَفائِحَ، فيُكْوى بها جَنْبَاهُ وجَبينُه، حتى يَحكُمَ اللهُ بيْنَ عِبادِهِ في يَومٍ كان مِقْدارُهُ خَمْسينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثم يَرى سَبيلَه إمّا إلى الجَنَّةِ، وإمّا إلى النّارِ) (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم). وفي هذه الرواية الصريحة ردٌّ على القائلين: بأن مَن لم يكفِّر تارك المباني فهو مرجئ ومبتدع! ويحملون الحديث على بعض رواياته: "لا يُؤدِّي حقَّها"، ويحملون الحق على ما سوى الزكاة؛ فهذه الرواية نص صريح في الزكاة لا يجوز أن تهمل. وكذا المفطر في رمضان، فقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقضاء والكفارة، مع أنه مفطر عمدًا؛ فدلَّ ذلك على أن الأركان الأربعة تركها تكاسلًا أو شهوة، لا يُخرج مِن الملة، ولكن نسمي مَن ترك الصلاة كافرًا، ونسمي ترك الصلاة كفرًا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمَّاه كذلك؛ لكن نقول: هو كفر دون كفر، والخطر الأعظم على تارك الصلاة أن يموت على غير التوحيد، ويُفتن عند الموت؛ لأن الشيطان يسهل عليه التسلط عليه عند موته، وأبواب الكفر مفتوحة عليه، وسوء الخاتمة أقرب إليه، نعوذ بالله من ذلك. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (50) قصة إحياء الطيور الأربعة (12) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة الثامنة: في قاعدة "الإيمان أصل وله كمال"، كما دلّتْ عليه الآيةُ الكريمةُ. ذكرنا الأصولَ الأربعةَ المتفقَ عليها التي هي أركانُ الإيمان، وهي: اعتقادُ القلب، وعملُ القلب، ونطقُ اللسان، وتَركُ النواقض والمكفِّرات، وذكرنا المختلفَ فيه من أركان الإسلام، وهل تركُها تكاسلًا يُكفِّر أم لا؟ الصلاة والزكاة والصوم والحج، ورجَّحنا أن الترك تكاسلًا بلا إباء ولا استكبار ولا استحلال، لا يُكفَّر التاركُ له كفرًا أكبر ناقلًا عن الملة، وإن كان كافرًا كفرًا دون كفر، وأشهر ذلك الصلاة. فهل هناك أعمال ظاهرة يُكفَّر المرءُ بتركها غير المباني الأربعة؟ قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- عن هذا السؤال -بعد أن ذكر الخلاف في تكفير تارك الصلاة والمباني-: "أما بقية خصال الإسلام والإيمان -غير المباني الأربعة- فلا يَخرجُ العبدُ بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة، وإنما خالفَ في ذلك الخوارجُ، ونحوهُم مِن أهل البدعِ، فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه، إذا زال منها شيءٌ نقص البنيان، ولم ينهدم أصلُ البنيان بذلك النقص" (فتح الباري لابن رجب (1/ 62- 72) باختصارٍ). أما مسألة تارك جنس العمل: فهي مسألة حادثة بهذا الاعتبار -أَعني: تكفير مَن ترك جنس العمل- فلم يكنْ أحدٌ من أئمةِ العلمِ يتكلمُ في هذا الاصطلاحِ بالتكفير، وبدايةُ هذه المسألة كانت عند جماعة "التوقف والتبيُّن"، فهم يقولون: إن تارك جنس العمل الواجب -بمعنى أنه يعزمُ ألّا يفعل حتى يموت- فهو كافر كفرًا ناقلًا عن الملة، ناقضًا لأصل الإيمان عندهم، وقد كان ذلك في رسالة اسمها: "التوقف والتبين ... بدعة أم سنة؟"، لكنها -فيما أعلم- غير موجودة الآن، طالعتُها قديمًا، عندما كانوا ينتسبون إلى هذا الاسم، ولا يتبرؤون منه كحالهم الآن. وهذا القول بدعةٌ ضلالةٌ مُنكرةٌ، وهو موجود لدى مَن تأثَّر بالفكر القطبي، منبع هذه البدعة الجديدة المُستحدثة، كما أنه موجود عند بعض المنتسبين للدعوة الوهابية، أما أن ذلك موجود في كتب المتقدمين وكلامهم ممَّن تكلَّم في الإيمان، وأنه قول وعمل ويزيد وينقص؛ فلم أطَّلِع على أحدٍ قط قد قال بتكفير تارك جنس العمل بهذا الاعتبار. وقد اختلفوا في معنى تكفير تارك جنس العمل؛ مَن الذي يكفَّر؟ وما مقصودهم بهذه العبارة؟ فنقول: لعدم وضوح هذا المصطلح فقد اختلفوا في فَهمِه والتعبير عنه، فمنهم مَن قال: إنه يُقصَد به تارك العمل بالكُلية، فيترك كل الأعمال، بما في ذلك أركان الإسلام الخمسة -ما عدا الشهادتين، فإنهم لا يقصدونهما-، وهذا القول ينطبق على عمومه: تارك الصلوات الخمس، وتارك الصيام، وتارك الزكاة، وتارك الحج، وهو عازم على فعلها أو غير عازم على أن لا يفعلها، وهذا التكفير فيه خلاف سائغ بين أهل السنة، ولا يصحُ التعبير بأن هذا جنس العمل؛ لأن هذا من الخلاف السائغ بين فريقين؛ الفريق الأول يقول بتكفير تارك أي واحد من المباني الأربعة، ولو أدَّى هذا التارك كل المباني الأخرى، كان عنده كافرًا؛ فلا يصحُ أن يقال: إن هذا تاركٌ لجنس العمل؛ لأنه لم يترك كل الأعمال، ومع ذلك كُفَّر بترك واحدٍ من المباني الأربعة، بل لا ينطبق على مَن صلى في عمره صلاةً واحدةً، أنه تارك لجنس العمل؛ لأنه قد صلَّى صلاةً، وهذا لا يقوله أحدٌ؛ لا الفريق الذي يُكفِّر بترك المباني الأربعة، أو ببعضها -كما سبق بيانه-، ولا الذي لا يُكفِّره، فإن مَن يُكفر تارك الصلاة يكفِّره بترك صلاة واحدة أو صلاتين أو ثلاث، ولم يقل أحدٌ مِن هذا الفريق المُكفِّر أنَّ مَن صلى صلاةً واحدةً في عُمره لا يُكفَّر، ولو ترك بعدها الصلوات كلها. وقد سبق أن بيَّنا: أن تكفير تارك الصلاة عند القائلين به عند جمهورهم، إنما يكون إذا أصرَّ على تركها وقد عُرض على السيف، فأبى أن يصلي، وأما إذا لم يدعه الإمامُ ويعرضه على العقوبة، فإنهم لا يكفرونه، إلا قولًا ضعيفًا عندهم بأن الترك المجرد يُخرِج مِن الملة، وكذا في تارك المباني الثلاثة الأخرى، والخلاف فيها أضعف؛ للنصوص الواضحة في عدم التكفير. وأما الفريق الثاني الذي لا يُكفر تاركَ الصلاة، فهو يقول: لو تركَ كلَّ الصلوات ما لم يكن مستحلًا، ولا آبيًا ولا مستكبرًا، فهو ما زال عندهم على أصل الإسلام، عنده لا إله إلا الله، ولم يعمل خيرًا قط، ينجو بها عند الله من الخلود في النار. أما أن يُقَال: لو صلَّى صلاة في حياته فهذا لا نُكفِّره، وأما إذا لم يصلِ صلاة واحدة فنحن نُكفره! فلا يوجد مَن يقول ذلك مِن أهل العلم؛ فلا يصحُ أن نقول على شخص إنه تارك لجنس العمل، ويكون قد صامَ يومًا، أو صلى صلاة؛ فهو في الحقيقة بذلك ليس بتارك لجنس العمل، ومَن يُكفر تاركَ المباني يُكفر من أفطر بعد أن صام يومًا واحدًا، أو من ترك الصلاة بعد أن صلى صلاة واحدة، فهذا قولٌ مستحدثٌ ثالث، ليس من كلام أهل العلم. وقد سبقَ أن بيَّنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه يقول: إن مَن عزم أن يصلي في المستقبل فعنده عمل فلا يُكفَّر، وهو يقصد بذلك عمل القلب؛ فهذا القول بتكفير تارك جنس العمل مع حَمل العمل على مجموع الأعمال كلها، فلو أتى أي عمل ولو تسبيحة، ولو ردَّ سلام ونحو ذلك، لما كُفِّر، هو قولٌ محدثٌ لم يقل به لا مَن كفّر، ولا مِن لم يكفِّر بترك الصلاة أو باقي المباني الأربعة. الاحتمال الثاني في قصدهم بتكفير تارك جنس العمل هو: أن يترك أيَّ عمل واجب بالكُلية، ويعزم على ألا يفعله حياته كلها، ومَن يُصرُّ على المعصية إلى أن يموت ويعزمُ أن يظل يفعلها، فهذا عندهم تارك لجنس العمل، ويصبح عندهم كافرًا، وهذه البدعة الضلالة أصلها مِن فكر الخوارج. والاحتمال الثالث أنهم يقصدون بذلك: أنَّ مَن ترك جنس العمل الذي يختص به أهل الإسلام، فيقولون: إن مِن ترك هذا فهو الكافر، لا بد أن يفعل منه شيئًا، فنقول: رجلٌ سبَّحَ تسبيحةً، أو ردّ السلامَ بصيغة أهل الإسلام، فهذا قد فعلَ واجبًا، فهل لا تكفِّرونه إذا ترك المباني، وتكفرونه إذا ترك ردّ السلام أو التسبيحة؟! فهذا قول عجيب محدث، ما قاله أحدٌ من أهل العلم، وهو بدعة ضلالة أيضًا. فأصبحت كل الاحتمالات في تفسير تارك جنس العمل، لم يقل بها أحدٌ مِن أهل العلم، ولذا قلنا: إن هذا الاصطلاح "تكفير تارك جنس العمل" اصطلاح حادث وبدعة منكرة، وأما إذا حملوا ذلك على المباني الأربعة فقط دون غيرها؛ فالخلاف سائغ، وأما إذا قبلوا بأن يحملوا معنى تارك جنس العمل على ترك النواقض -نواقض التوحيد-، فالخلاف معهم خلاف سائغ، ولا يصبح خلافًا حقيقيًا، لكن -فيما أعلم- لا يوجد مَن يقبل ذلك، أو يفسِّره ممَّن يقول بتارك جنس العمل. والله المستعان. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (51) قصة إحياء الطيور الأربعة (13) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة التاسعة: ذكرنا أن هذه الآية الكريمة تدلُ على أن الإيمانَ أصلٌ وله كمال، وأنه يزيدُ وينقصُ، وننقلُ اليوم نُقولًا عن أهل العلم في حُكم تَرك مباني الإسلام الأربعة، عدا الشهادتين. قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "أما هذه الخمس فإن زالتْ كُلُها سقطَ البنيانُ، ولم يثبتْ بعد زوالها، وكذلك إن زالَ منها الركنُ الأعظمُ وهو الشهادتان، وزوالهما يكونُ بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمعُ معهما، وأما زوالُ الأربع البواقي فاختلف العلماء: هل يزول الاسمُ بزوالها؟ أم بزوال واحد منها؟ أم لا يزول بذلك؟ أم يُفرَّق بين الصلاة وغيرها؛ فيزول بترك الصلاة دون غيرها؟ أم يختص زوالُ الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة؟ وفي ذلك اختلاف مشهور، وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد" (فتح الباري لابن رجب). قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما مع الإقرار بالوجوب إذا تركَ شيئًا مِن هذه الأركان الأربعة، ففي التكفير أقوالٌ للعلماءِ، هي روايات عن أحمد: أحدها: أنه يُكفَّر بترك واحدة من الأربعة، حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاعٌ بين العلماءِ، فمتى عَزم على تركه بالكُلية كَفَرَ، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبوبكر. الثاني: أنه لا يُكفَّر بترك شيء من ذلك، مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثيرٍ من الفقهاءِ من أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهي إحدى الروايات عند أحمد، اختارها ابن بطة وغيره. الثالث: لا يُكفَّر إلا بترك الصلاة، وهذه هي الرواية الثانية عند أحمد، وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد. الرابع: يُكفَّر بتركها وترك الزكاة فقط. الخامس: يُكفّر بتركها وترك الزكاة إذا قاتلَ الإمامَ عليها دون ترك الصيام والحج" (مجموع الفتاوى). قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "أركانُ الإسلام الخمسة: أولها: الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعةُ إذا أقَرَّ بها، وتركها تهاوُنًا، فنحن وإن قاتَلْناه على فِعْلِها، فلا نُكَفِّرُه بتَرْكِها، والعلماءُ اختلفوا في كُفرِ التاركِ لها كَسَلًا من غيرِ جُحودٍ، ولا نُكَفِّرُ إلَّا ما أجمع عليه العُلماءُ كُلُّهم، وهو: الشَّهادتان" (الدرر السنية). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في شرح العمدة: "ويُقتل -أي: تارك الصلاة- لكُفره في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: يُقتل كما يُقتل الزاني والمحارب مع ثبوت إسلامه حدًّا محضًا، وهو اختيار ابن بطة، وقال: هذا هو المذهب، وأنكر خلاف هذا" (انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله). قال في الإنصاف: "عن ابن بطة المذهب على هذا، لم أجد في المذهب خلافه -يعني مذهب الإمام أحمد-، واختاره -يعني ابن قدامة-، وقال: هو أصوب القولين، ومال إليه الشارحُ، واختاره ابن عبدوس في تذكرته، وابن عبدوس المتقدم، وصححه المجدُ -يَعني مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام-، وصاحب المذهب، ومسبوك الذهب، وابن رُزين، والنظم، والتصحيح، ومجمع البحرين، وجَزم به في الوجيز، والمنور، والمنتخب، وقدَّمه في المحرر، وابن تميم، والفائق. وقال في الرعاية: وعنه يُقتل حدًّا. وقيل: لفسقه" (انتهى من الإنصاف). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أدلة رواية عدم القتل في شرح العمدة أيضًا: "لما روى عبادةُ بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن شَهِدَ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُه ورسولُه وابنُ أَمَتِهِ، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، وأنَّ الجنةَ حقٌّ، وأنَّ النارَ حقٌّ، وأنَّ البَعْثَ حقٌّ، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من عملٍ) (متفق عليه)، وعن أنس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومُعاذ بنُ جَبَلٍ رَدِيفهُ علَى الرَّحْلِ، قالَ: (يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: ما مِن عَبْدٍ يَشْهَدُ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ، قالَ: يا رَسولَ اللهِ، أفَلا أُخْبِرُ بها الناس فَيَسْتَبْشِرُوا، قالَ: إذًا يَتَّكِلُوا) فأخْبَرَ بها مُعاذُ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. (متفق عليه)، ولما تَقَدَّم مِن حديث أبي عبادة، وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيمَن لم يحافظ عليها: (لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام بآيات من القرآن يرددها، حتى صلى الغَداةَ، فقال: "دَعَوْتُ لِأُمَّتِي، فَقَالَ: مَاذَا أُجِبْتَ وَمَاذَا رُدَّ عَلَيْكَ، فَقَالَ: مَا لَوِ اطَّلَعُوا عَلَيْهِ اطِّلَاعَةً لَتَرَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ"، قَالَ: أَفَلَا أَذْهَبُ فَأُبَشِّرُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَذَهَبَ مُعَنِّفًا قَذْفَةَ حُجْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ تَبْعَثْ بِهَا إِلَى النَّاسِ يَتَّكِلُوا عَنِ الْعِبَادَةِ، قَالَ: فَرَدَّنِي وَلَمْ أَقَلْ شَيْئًا" (رواه أحمد في مسنده، والبزار، وسنده حسن). والآية: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)؛ ولأن الصلاة عملٌ من أعمال الجوارح فلم يُكفّر بتركه كسائر الأعمال المفروضة؛ ولأن مِن أصول أهل السُّنة أنهم لا يُكفرون أحدًا من أهل السنة بذنبٍ، ولا يخرجونه من الإسلام بعملٍ؛ بخلاف ما عليه الخوارج، وإنما الكفرُ بالاعتقادات. وقد رُوي عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ من أصلِ الإيمانِ: الْكفُّ عمَّن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ولا نُكفِّرُهُ بذنبٍ ولا نخرِجُهُ منَ الإسلامِ بعملٍ، والجِهادُ ماضٍ منذُ بعثَني اللَّهُ إلى أن يقاتِلَ آخرُ أمَّتي الدَّجَّالَ، لا يبطلُهُ جورُ جائرٍ ولا عدلُ عادلٍ، والإيمانُ بالأقدار" (رواه أبو داود والبيهقي، وضعفه الألباني). وتارك الصلاة مع إقراره بالوجوب صحيح الاعتقاد فلا يُكفَّر، والرواية الأولى -يعني التكفير- اختيار أكثر الأصحاب، مثل: أبي بكر، وابن شاقلا، وابن حامد القاضي وأصحابه، وهو المنقول عن جماهير السلف، ثم ذكر أدلةَ ذلك" (انتهى من شرح العمدة لابن تيمية -رحمه الله-). وقال -في خاتمة الكلام بعد أن رجَّح أن كُفرَ تارك الصلاة دون أن يُدعى إليها كافرًا كفر نفاق، وأما مَن دُعي إليها فأصرَّ على تركها حتى قُتل فإنه يُقتل كافرًا-: "وأما الأحاديث المطلقة في الشهادتين فعنها أجوبة ... الرابع: أن هذا كله محمول على مَن يؤخرها عن وقتها وينوي قضاءها، أو يُحدّث به نفسه كالأمراء الذين كانوا يؤخِّرون الصلاة حتى يخرج الوقت، وكما فسَّره ابن مسعود وبيَّن أن تأخيرها عن وقتها من الكبائر، وأن تركها بالكلية كفر، وكذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفِّ عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا، فعُلِم أنهم لو تركوا الصلاة لقوتِلوا، والإمام لا يجوزُ قتالُه حتى يَكفر، وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتالُه، ولو جاز قتالُه بذلك لقوتِل على تفويتِها، كما يُقاتل على تركِها، وهذا دليلٌ مستقلٌ في المسألةِ. ويُحمل أيضًا على مَن يخل ببعض فرائضها ببعض الأوقات، وشبه ذلك، وأما مَن لا يصلي قطّ في طول عمره، ولا يَعزم على الصلاة ومات على غير توبة، أو ختم له بذلك، فهذا كافر قطعًا"، وهذا صريح في أنَّ مَن يعزم على الصلاة لا يُكفِّره شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. فائدة: قال في الإنصاف: "الداعي له هو الإمام أو نائبه، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجبْ قتله، ولا يكفرُ على الصحيح من المذهب، وعليه جماهيرُ الأصحابِ، وقطعَ به كثيرٌ منهم، وكذا لو تركَ كفارةً أو نذرًا، وذكر الآجُرِّيُ أنه يكفرُ بترك الصلاة، ولو لم يُدع إليها. قال في الفروع: وهو ظاهر كلام جماعة، ويأتي كلامه في المستوعب في باب ما يفسده الصوم، عند قوله: "أو اغتسل" يعني بعد ما أصبح". فائدة ثانية: اختلف العلماءُ في كُفر إبليس، فذكر أبو إسحاق بن شاقلا أنه كفرَ بترك السجود لا بجحودهِ. وقيل: كفرَ لمخالفته الأمر الشفاهي من الله -تعالى-؛ فإنه -سبحانه وتعالى- خاطَبَه بذلك؛ قال الشيخُ برهان الدين: "قاله صاحب الفروع في الاستعاذة له"، وقال جمهور العلماء: "إنما كفرَ؛ لأنه أبى واستكبرَ، وعاندَ وطغى، وأصرَّ واعتقدَ أنه محقٌ في تمردِه، واستدل بأنه خيرٌ منه، فكان تركُه للسجود تسفيهًا لأمر الله -تعالى- وحكمته". قال الإمام أحمد: "إنما أُمِرَ بالسجود فاستكبر وكان من الكافرين، والاستكبارُ كفرٌ"، وقالت الخوارج: "كفرٌ بمعصية الله، وكل معصية كفر"، وهذا خلاف الإجماع" (الإنصاف). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيمن يتركُ الصلاةَ بعض الأوقات لا يقضيها، ولا ينوي قضاءَها: "والأشبه في مثل هذا أنه لا يكفر بالباطن أيضًا، حتى يعزم على تركها بالكلية، كما لم يكفر في تأخيرها عن وقتها، كما تقدَّم مِن الأحاديث، ولأن الفرائض تُجبر يوم القيامة بالنوافل؛ ولأنه متى عَزم على بعض الصلاة فقد أتى بما هو مجرد إيمان" (شرح العمدة). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (52) قصة إحياء الطيور الأربعة (14) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة العاشرة: إن هذه الآية العظيمة -إحياء الموتى- التي أراها اللهُ -عز وجل- إبراهيمَ -صلى الله عليه وسلم- قد أرى نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- آياتٍ أعظم منها في المعراج، كما قال -تعالى-: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:11-18). ومدحه الله -عز وجل- أعظم مدحٍ، فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، فكان ما رآه مِن غير سؤال ولا تطلع منه لما أوريه، ولا زيغٍ عما يرى من هوله وعظمته، فرأى جبريل -عليه الصلاة والسلام- على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سد أفق السماء، وهو المقصود بقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، والنزلة الأولى: كانت بالأفق المبين بالأرض في أجياد مكة، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ . وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ) (التكوير:23-25). وفي مسند أحمد وسنن النسائي بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: "رأى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جبريلَ في صورتِه وله ستُّمائةِ جَناحٍ، كلُّ جَناحٍ منها قد سدَّ الأفُقَ، يسقُطُ مِنْ جَناحِه مِنَ التهاويلِ والدُّرِّ والياقوتِ ما اللهُ به عليمٌ"، والتهاويل: الجواهر العظيمة"، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سدرة المنتهى، وما يخرج منها من الأنهار، وما يتغشاها من الفراش الذي من ذهب والألوان، ففي صحيح مسلم، من حديث أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- ذكر قصة المعراج، وفيه: (ثُمَّ انْطَلَقْنا حتَّى انْتَهَيْنا إلى السَّماءِ السَّادِسَةِ، فأتَيْتُ علَى مُوسَى -عليه السَّلامُ-، فَسَلَّمْتُ عليه، فقالَ: مَرْحَبًا بالأخِ الصَّالِحِ والنبيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: رَبِّ، هذا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِن أُمَّتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرُ ممَّا يَدْخُلُ مِن أُمَّتِي، قالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنا حتَّى انْتَهَيْنا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فأتَيْتُ علَى إبْراهِيمَ، وقالَ في الحَديثِ: وحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه رَأَى أرْبَعَةَ أنْهارٍ يَخْرُجُ مِن أصْلِها نَهْرانِ ظاهِرانِ، ونَهْرانِ باطِنانِ، فَقُلتُ: يا جِبْرِيلُ، ما هذِه الأنْهارُ؟ قالَ: أمَّا النَّهْرانِ الباطِنانِ فَنَهْرانِ في الجَنَّةِ، وأَمَّا الظّاهِرانِ: فالنِّيلُ والْفُراتُ)، وفي غير الصحيح عن مقاتل: "الباطنان" هما: السلسبيل والكوثر. والله أعلم. وفي رواية في الصحيح: (النِّيلُ والفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا)، وهذا يدل على أن أصل هذين النهرين العظيمين كانا في السماء ولا يزالا، ونزل منهما هذا الجزء الذي يجري في الأرض إلى الآن؛ ولذا نرجو الله -عز وجل- أن لا يضمحل هذان النهران أبدًا؛ لبركة مصدرهما، ويبقى الجزء الأكبر منهما في السماء. وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود قال: "لَمّا أُسْرِيَ برَسولِ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، اُنْتُهي به إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، وهي في السَّماءِ السّادِسَةِ، إلَيْها يَنْتَهِي ما يُعْرَجُ به مِنَ الأرْضِ فيُقْبَضُ مِنْها، وإلَيْها يَنْتَهِي ما يُهْبَطُ به مِن فَوْقِها فيُقْبَضُ مِنْها، قالَ: (إِذْ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يَغْشى)، قالَ: فَراشٌ مِن ذَهَبٍ، قالَ: فَأُعْطِيَ رَسولُ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- ثَلاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ، وأُعْطِيَ خَواتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَن لَمْ يُشْرِكْ باللَّهِ مِن أُمَّتِهِ شيئًا، المُقْحِماتُ". وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في قصة المعراج، قال: (ثُمَّ عُرِجَ بنا إلى السَّماءِ السَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فقِيلَ: مَن هذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قيلَ: ومَن معكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، قيلَ: وقدْ بُعِثَ إلَيْهِ؟ قالَ: قدْ بُعِثَ إلَيْهِ، فَفُتِحَ لنا فإذا أنا بإبْراهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، وإذا هو يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بي إلى السِّدْرَةِ المُنْتَهَى، وإذا ورَقُها كَآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثَمَرُها كالْقِلالِ (وفي رواية: "كقِلالِ هَجَر"، وهي: الجَرَّة العظيمة) قالَ: فَلَمَّا غَشِيَها مِن أمْرِ اللهِ ما غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَما أحَدٌ مِن خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أنْ يَنْعَتَها (أي: يصفها) مِن حُسْنِها)، وفي رواية: (وغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي ما هي) (أي: من الجمال العجيب والألوان العجيبة). وذكر النووي -رحمه الله- الجمع بين ما ورد في حديث أنس من أن سدرة المنتهى في السماء السابعة، وفي حديث ابن مسعود أنها في السماء السادسة؛ بأن أصلها في السماء السادسة، ومعظمها في السابعة، فقد علم أنها في نهاية مِن العِظَم، والله أعلى وأعلم. ومِن الآيات التي أراها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى الجنة ودخلها، ففي حديث أنس في صحيح مسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنابِذُ اللُّؤْلُؤِ وإذَا تُرَابُهَا المِسْكُ)، وسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صريف الأقلام التي تكتب بها المقادير اليومية، كما في حديث ابن عباس وأبي حَبَّة الأنصاري عند مسلم: كان يقولان: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ عَرَجَ بي حتّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أسْمَعُ فيه صَرِيفَ الأقْلامِ). قال النووي -رحمه الله-: "معنى "ظهرتُ" علوت، و"المستوى" قال الخطابي: المراد به المصعد. وقيل: المكان المستوي. و"صريف الأقلام" تصويتها حال الكتابة. قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله -تعالى- ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله -تعالى- من ذلك أن يُكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره. قال القاضي: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كُتْب الله -تعالى- من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو -تعالى- يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله -تعالى- والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله -تعالى-، أو مَن أطلعه على شيء مِن ذلك من ملائكته ورسله، ولا يتأوُّل هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان؛ إذ جاءت به الشريعة المطهرة، ودلائل العقول لا تحيله، والله -تعالى- يفعل ما يشاء ويحكم ويريد؛ حكمةً من الله -تعالى- وإظهارًا لما يشاء مِن غيبه لمَن يشاء مِن ملائكته وسائر خلقه؛ وإلا فهو الغني عن الكتب والاستذكار سبحانه وتعالى. قال القاضي -رحمه الله-: وفيه علو منزلة نبيبنا -صلى الله عليه وسلم-، وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السماوات دليل على علو درجته وإبانة فضله" (شرح النووي على مسلم). ومن الآيات التي أراها اللهُ نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: أنه رأى البيت المعمور ومن حوله سبعون ألفًا مِن الملائكة يطوفون حوله كل يوم لا يعودون إلى يوم القيامة، بل يأتي غيرهم كما سبق ذكر ذلك من الأحاديث الصحيحة. ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى مالكًا -خازن النار- وسلَّم عليه، رواه مسلم من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما-. ورأى أرواح الأنبياء مصورةً في صورة أجسادهم، إلا عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- فإنه رآه بروحه وجسده في السماء الثانية، فرأى في السماء الأولى آدم -عليه السلام-، ورأى في الثانية عيسى ويحيى -ابني الخالة-، ورأى في السماء الثالثة يوسف -عليه السلام-، ورأى إدريس في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، ورأى موسى في السماء السادسة، وفي رواية: في السابعة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، وفي رواية: في السادسة، والله أعلى وأعلم، ولا مانع من أن ينتقل الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- بين هذه السماوات. ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- صورة الدجال، وكُشف له عنها، وليس معنى ذلك أن الدجال في السماء؛ بل هو في الأرض كما دل عليه حديث تميم الداري في إحدى جزر البحار الشرقية. كل هذا رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يطلب؛ فعلمنا بذلك فضله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أفضل من جميع الخلق، وعلمنا معنى قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما كُنتُ خليلًا مِن وراءَ وراءَ) (رواه مسلم)، فخلة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم خلة من جميع الأخلاء، ومنزلته فوق جميع الخلق -صلى الله عليه وسلم-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (53) قصة إحياء الطيور الأربعة (15) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260). الفائدة الحادية عشرة: ما رآه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الآية العظيمة: قد جَعَلَ اللهُ لنا في آياته المشهودة التي أرشدتنا إليها آياتُه المقروءة ما هو مثله لمَن تدبر في خَلْق الإنسان، وفي إحياء الأرض بعد موتها، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:12-14). وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَ?لِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) (الحج:5-7). وفي علم الأجنة الحديث ومتابعة مراحل السقط، بل تصوير حركة الحيوانات المنوية والبويضة ونموها، وكيف تحيط الحيوانات المنوية بالبويضة؛ حتى إذا أدخل واحدٌ مِن هذه العشرات من الملايين من الحيوانات المنوية -التي هي جزء من مئات الملايين في الدفقة الواحدة من الرَّجل- رأسَه في جدار البويضة؛ توقفت كل الحيوانات الأخرى، ثم تدخل المادة الوراثية -الموجودة في نواة الحيوان المنوي- داخل البويضة، وينحل جدار نواة البويضة، وتصطف كل الكروموزومات من الحيوان المنوي ومن البويضة كلٌ أمام نظيره؛ ثلاثة وعشرون زوجًا نصفها من الرجل، ونصفها من المرأة، تحمل كل الصفات الوراثية على أشرطتها من خلال مئات الآلاف من الجينات المرصودة وغير المرصودة. ثم يتكوَّن غشاء للنواة الجديدة في البويضة الملقحة، ثم تهاجر البويضة الملحقة إلى تجويف الرحم، ثم تُزرع في جداره الخلفي الأعلى، وتبدأ في امتصاص المواد الغذائية والأكسجين من دم الأم الموجود في جدار الرحم؛ لتبدأ مرحلة العلقة، كما تمص العلقة (الدودة) الدم من جلد المحجوم ومَن تلتصق بجلده، ثم تتكاثر الخلايا وتهاجر من أماكنها؛ لتصطف في ثلاث طبقات خارجية وداخلية ومتوسطة. وتبدأ مرحلة المضغة تمامًا مثل قطعة اللحم الممضوغة، ثم تهاجر كل مجموعة من الخلايا إلى موضع العضو الذي سيتكوَّن منها بقدرة الله، إلى أن يتم خلق الخلايا العظمية، ثم بعدها الخلايا اللحمية، ثم يُشكل الإنسانُ من بداية الأسبوع السابع؛ أي: عند اثنتين وأربعين ليليةً -كما في الحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة بن أُسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم- إلى تمام ست وخمسين يومًا من تاريخ التلقيح؛ فتتكوَّن كل أجهزة الجسم من الطبقات الثلاثة التي خُلِقت في مرحلة المضغة. فيتكوَّن الجهاز العصبي والجلد والجهاز الدوري -بما فيه من القلب والشرايين- والرئتان والجهاز التنفسي كله، والكليتان والجهاز البولي، والجهاز التناسلي، والجهاز الهضمي، والهيكل العظمي، واليدان، والرجلان، والرأس وما حواه؛ من العينين والأذنين، والفم والأنف، واللسان والشفتين بطريقة عجيبة بديعة! واللهِ إنها لأعجبُ من هجرة أجزاء الطيور الأربعة -التي رآها إبراهيم- إلى رؤوسها وأجزائها الأخرى، حتى عادت كما كانت! فتبارك الله أحسن الخالقين. وأما حياة النبات: فتبدأ من جنين البذرة؛ فإذا سُقيت البذرةُ وامتص جنينُها العناصرَ الغذائية -الموجودة حوله داخل البذرة نفسها- بدأ في تصنيع الجذر والساق الذي يتجه كلٌّ منهما بوجهته المعروفة؛ هذا إلى باطن الأرض، والساق إلى فوق، ثم يشق الأرض. وعندها يبدأ تكوُّن الأوراق التي تمتص الأكسجين وثاني أكسيد الكربون والطاقة الشمسية، ويتحول كل ذلك -بقدرة الله من خلال مادة الكلورفيل- إلى عناصر غذائية مع الماء، والعناصر الأرضية التي امتصها الجذر من باطن الأرض، وهذه كلها لا تدرك ولا تعقل، وليس لها عقلٌ، ولكن آثار قدرة الله -سبحانه وتعالى-. وتمتد الخلايا وتتكاثر وتنمو وتهاجر إلى أجزائها المرتقبة من مزيد الجذور، والساق المرتفعة والأغصان والأوراق، ثم الثمار بعد الأزهار، ثم في نهاية الأمر كما قال -سبحانه وتعالى- تراه مصفرًا ثم يكون حطامًا، قال -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَذِكْرَى? لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21)، وقال -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى? فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ . أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (ق:58-67). الفائدة الثانية عشرة: ختْمُ هذه الآية الكريمة بقوله -عز وجل-: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) دليلٌ على أن ابتداء الخلق وإعادته، وإحياء الموتى من مقتضى عزته وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ فهو عز وجل العزيز الغالب الذي لا يُمانَع، الذي قهر الخلق جميعًا بقدرته، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام:18)، وهو سبحانه وتعالى غالبٌ على أمره؛ إذا أراد شيئًا قال له كن فكان. وهو -عز وجل- الحكيم الذي أحكم خَلْق الأشياء وأتقن صنع كل شيء، وهو -سبحانه- الذي أحكم ما شاء مِن خلقه؛ ليريَ عبادَه قدرتَه، ثم هو الحكيم الذي له الحكمة التامة في خَلْق ما خَلَق، وفي شرع ما شرع. ومَن تأمل الكون المشهود عَلِم الحكمة التامة، والعِلْم والعِزَّة، والقهر والغلبة، ظاهرةً باديةً في الموت والحياة، وفي دورة حياة الإنسان، وحياة النبات، وحياة الحيوان. وكل ذلك -لمن تدبر- دالٌّ على كمال أسماء الله -سبحانه وتعالى- وصفاته. ونسأل الله عز وجل أن يمنَّ علينا بشهود معاني أسمائه وصفاته في الكون، كما نتعلمها من كتاب الله سبحانه وتعالى. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (54) اصطفاءُ الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- وذريته (1) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33-34). قال ابن كثير -رحمه الله-: "يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ الْبُيُوتَ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَاصْطَفَى آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَهْبَطَهُ مِنْهَا، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَاصْطَفَى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَمَّا عَبَدَ النَّاسُ الْأَوْثَانَ، وَأَشْرَكُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَا، وَانْتَقَمَ لَهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّتُهُ بَيْنَ ظَهْرَاني قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَاصْطَفَى آلَ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُمْ: سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا: هُوَ وَالِدُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسار: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ يَاشَمَ بْنِ أَمُونَ بْنِ مَيْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أَمْصِيَا بْنِ يَاوشَ بْنِ أجريهو بْنِ يَازِمَ بْنِ يَهْفَاشَاطَ بْنِ إِنْشَا بْنِ أَبِيَّانَ بْنِ رُخَيْعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، فَعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ" (انتهى من تفسير ابن كثير). وقال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما -أي: مِن أجل دينهما-، وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه؛ لأنهم كانوا أهل الإسلام، فأخبرَ اللهُ -عز وجل- أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته، وإنما عَنَى بـ"آل إبراهيم وآل عمران" المؤمنين" (تفسير الطبري). وقد دللنا على أن "آل الرجل" أتباعه وقومه، ومَن هو على دينه، عن ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (آل عمران: 68)، وهم المؤمنون. عن قتادة في قوله -تعالى-: "(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين" -(قلتُ: لعله قصد نوحًا وإبراهيم؛ لأن الله ذكرهما مُقدَّمين على العالمين في مواضع عِدَّة)-، وعن قتادة في الآية قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضَّلهم على العالمين، فكان محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم. وعن الحسن في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) إلى قوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم، وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قال ابن جرير: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران ذريةً بعضها من بعض. وإنما جعل "بعضهم من بعض" في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال في موضع آخر: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (التوبة: 67)، يعني: أن دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته. وعن قتادة في قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له. وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تُضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا (انتهى من ابن جرير). قال القرطبي -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ)، قال: التقدير: إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام، فحُذِف المضاف. وقال الزجاج: اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم. (وَنُوحًا) قيل: إنه مشتق مِن ناح ينوح، وهو اسم أعجمي؛ إلا أنه انصرف؛ لأنه على ثلاثة أحرف (قلتُ: هذا هو الصحيح، وليس أنه مشتق من النوح؛ فلا دليل على ذلك). قال: "وهو شيخ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم -عليه السلام- بتحريم البنات والأخوات، والعمات والخالات، وسائر القرابات، ومَن قال: إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وَهِم على ما يأتي بيانه في (الأعراف) إن شاء الله". قوله -تعالى-: (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) في البخاري عن ابن عباس قال: آل إبراهيم وآل عمران: المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، يقول الله -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:68). وقيل: آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم. وقيل: آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران، ومنه قوله -تعالى-: (وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) (البقرة: 248)، وفي الحديث: "يا أبا مُوسى لقَدْ أُوتِيتَ مِزْمارًا مِن مَزامِيرِ آلِ داوُدَ" متفق عليه، وقيل: آل عمران آل إبراهيم، كما قال: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)، وقيل: المراد عيسى؛ لأن أمه ابنة عمران، وقيل: نفسه كما ذكرنا، وقال مقاتل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوى بن يعقوب، وقال الكلبي: هو عمران أبو مريم، وهو مِن ولد سليمان -عليه السلام-. وحكى السهيلي: عمران بن ماتان، وامرأته حنة، خص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء؛ لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم، ولم ينصرف عمران؛ لأن في آخره ألفًا ونونًا زائدتين، ومعنى قوله: (عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: على عالمي زمانهم في قول أهل التفسير، وقال الترمذي الحكيم: على جميع الخلق كلهم، وقيل: (عَلَى الْعَالَمِينَ): على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور؛ وذلك لأن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق، فأما محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد جازت مرتبته الاصطفاء؛ لأنه حبيب ورحمة، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فالرسل خُلِقوا للرحمة، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- خُلق بنفسه رحمة؛ فلذلك صار أمانًا للخلق لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور، وسائر الأنبياء لم يَحِلُّوا هذا المحل؛ ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا أيُّها النّاسُ إنَّما أنا رحمةٌ مُهداةٌ" (رواه الدارمي، وصححه الألباني)، يخبر أنه بنفسه رحمة من الله للخلق، وقوله: "مهداة" أي: هدية من الله للخلق. ويقال: اختار آدم بخمسة أشياء: أولها: أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته. والثاني: أنه علَّمه الأسماء كلها. والثالث: أمر الملائكة بأن يسجدوا له. والرابع: أسكنه الجنة، والخامس جعله أبا البشر. واختار نوحًا بخمسة أشياء: أولها: أنه جعله أبا البشر؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين، والثاني: أنه أطال عمره. ويُقَال: طوبى لمَن طال عمره وحسن عمله. والثالث أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين. والرابع: أنه حمله على السفينة. والخامس: أنه كان أول مَن نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرِّم تزويج الخالات والعمات. واختار إبراهيم بخمسة أشياء: أولها: أنه جعله أبا الأنبياء؛ لأنه رُوي أنه خرج من صُلبه ألف نبي من زمانه إلى زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-. والثاني: أنه اتخذه خليلًا. والثالث: أنه أنجاه من النار. والرابع: أنه جعله إمامًا للناس. والخامس: أنه ابتلاه بالكلمات فوفَّقه حتى أتمهن. (قلتُ: أما أنه خرج من صلبه ألف نبي؛ فهذا لا دليل عليه). ثم قال: وآل عمران، فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنما اختارهما على العالمين؛ حيث بَعَثَ على قومه المنَّ والسلوى، وذلك لم يكن لأحدٍ مِن الأنبياء في العالم، وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ولم يكن ذلك لأحدٍ في العالم، والله أعلم. وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ): معنى بعضها مِن بعض، يعني في التناصر في الدين، كما قال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) يعني في الضلالة، قاله الحسن وقتادة. وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها" (انتهى). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (55) اصطفاء الله إبراهيم وآله وذريته (2) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33-34). في الآية فوائد: الأول: الاصطفاء والاجتباء من صفات الله -تعالى- الفعلية؛ فهو وحده يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس كما يشاء -سبحانه-، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68)، والخيرة في الآية ليست بمعنى الإرادة؛ بل بمعنى الاصطفاء والاجتباء والتفضيل، كما قال -تعالى- لموسى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه:13)، فكما يصطفي اللهُ -سبحانه- للنبوة والرسالة مَن شاء مِن خلقه؛ فهو يجتبي ويصطفي مَن شاء للصلاح من عباده المؤمنين ولاتباع دين الإسلام، كما قال -تعالى-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78). والنظر في الاجتباء والاصطفاء والتفضيل مأمور به شرعًا؛ ليتعظ الإنسان، ويعرف أن الله وحده الذي له التفضيل، قال -عز وجل-: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21). وليشهد المؤمن آثارَ الحكمة والقدرة، والإرادة والعلم، والسمع والبصر من صفات الله -تعالى-، ومَن تأمَّل مَنْ اجتباهم الله واصطفاهم، وكيف كانت صفاتهم وأخلاقهم، وأعمالهم، وأحوالهم الإيمانية؛ فإنه لا بد أن يحبهم، ولا بد أن يحب الذي اصطفاهم وصنعهم على عينه؛ فهو أعلم -سبحانه- بالشاكرين، وأعلم حيث يجعل رسالته، وهو الذي يَقْسِم رحمته الدينية والدنيوية بين خلقه، (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، وهو -سبحانه- يقسم رحمته بفضله وعلمه، وحكمته، وسمعه وبصره، وكل ذلك أيضًا بالعدل فهو لا يظلم الناس شيئًا، لكن الناس أنفسهم يظلمون. الفائدة الثانية: ذِكرُ اللهِ اجتباء آدم ونوحًا، وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ولا نزاع في نبوة آدم ونوح وإبراهيم -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-، ولا أعلمُ نصًّا في إثبات أو نفي نبوة عمران، إن كان هو والد مريم كما رجَّحه ابن كثير، أو إن كان والد موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم- كما رجَّحه غير ابن كثير، والاصطفاء كما ذكرنا يكون بالاختيار للعمل الصالح والدين الحق، كما قد يكون بالنبوة والرسالة، فالأقرب في ذلك السكوت والتوقف لاحتمال الأدلة للأمرين وعدم ظهور الترجيح بينهما. الفائدة الثالثة: اجتباء واصطفاء الله لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، اجتباءٌ واصطفاءٌ عظيم؛ إذ اتخذه خليلًا وأتاه رشده من أول أمره، وابتلاه بكلمات فأتمهن، وصبرَ على الرمي في النار، وصبر على ذبح الولد لله -عز وجل-، وصبر على ترك وَلَدِه وأمِ ولده في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وبنى بيتَ الله الحرام، وحجَ البيتَ هو وذريته جميعًا، وذريتهم مِن بعده، وأتاه الصحف، صحف إبراهيم، وجعل من ذريته النبوة والكتاب، وكان الذي عمّر بالتوحيد أعظم بقاع الأرض مكة المكرمة، ثم بيت المَقدس، وصبر على الدعوة إلى الله أعظم الصبر، ولم يؤمن به إلا رجلٌ واحدٌ وهو لوط -عليه السلام-، وامرأةٌ واحدةٌ هي امرأته سارة، ووصفه اللهُ بأنه حليم أوّاه منيب، وفارق قومه وهاجر لله -سبحانه وتعالى-، وتبرأ منهم لما أصروا على الكفر، فجعله الله الأسوة الحسنة للمؤمنين عبر الزمان، قال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة:4-6). فلذلك حُقَّ للأمم أن تسعى للانتساب لإبراهيم، والقرب منه، فمنَّ اللهُ على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الأولوية وهذا الشرف، وباتباع ملته حقًا، فقال -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67 -68)، فلا تصحُ نِسْبة إلى إبراهيم إلا من خلال اتباع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وخاتم الأنبياء، الذي هو مِن آل إبراهيم، بل هو أشرف آل إبراهيم، بل هو أشرف الخليقة على الإطلاق -صلى الله عليه وسلم-. ولا بد لصحة الانتساب إلى إبراهيم مِن الإيمان بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصح اتباع ملة إبراهيم ودين إبراهيم الحق إلا باتباع دين محمد -صلى الله عليه وسلم- وشريعته، والبراءة ممن كذَّبه أو خالفه؛ حتى لو انتسب إلى الأنبياء السابقين، فإن العهد الذي أخذه الله عليهم بالإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يُوجب عليهم الإيمان به إذا بلغه خبره، وإلا كفروا برسلهم وأنبيائهم، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81)، وقال الله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف 156 -158). وقال الله -تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح:29). فلا يصح إيمانٌ بالتوراة ولا بالإنجيل، ولا بموسى ولا بعيسى ولا بأبيهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا بالإيمان بالرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبالقرآن العظيم؛ فهذا هو الدين الإبراهيمي الحق، لا دينَ إبراهيمي يمكن أن يحصل للإنسان دون أن يؤمنَ بالقرآن، وبالرسول -عليه الصلاة والسلام-. فاللهم يا مُقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، ويا مُصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (56) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية كتبه/ ياسر برهامي فقد قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68). إن هذه الآيات الكريمة مِن أوضح وأصرح الآيات في القرآن في بيان حقيقة دين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأنه الإسلام دون غيره، وأنه لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين. وينبغي كثرة تلاوة هذه الآيات على مسامع الناس في الصلاة، وخطب الجمعة والدروس واللقاءات؛ حتى تستقر معانيها في النفوس في مقاومة ومواجهة ما يسمى بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"، الذي هو خدعة اليهود وأذنابهم، ولا علاقة له بدين إبراهيم الحقيقي القائم على البراءة من الشرك وأهله، وهم يدَّعون زورًا وبهتانًا تضمنه الشرك ومساواة الملل، وقبول تكذيب الأنبياء، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. ولنتعلم تفسير هذه الآية الكريمة ونعلِّمه للناس؛ حتى لا يلبِّس عليهم أحدٌ في هذه المسألة الخطيرة التي تعصفُ مخالفتُها بأصل دين الإنسان، وتلحقه بالكافرين، وهو قد يظنُ نفسه من المسلمين؛ لأنها تقدحُ وتنقضُ شهادة: "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، ومَن انتقضت عنده الشهادتان لم ينفعه عملٌ، ولا قولٌ، ولا خلقٌ طيبٌ، ولا معاملةٌ حسنةٌ مع الناس؛ لأن الله لا يغفر أن يُشْرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وتصحيحُ عبادة غير الله وقبولها -ولو كان المعبود من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء- هدمٌ كاملٌ لكلمة لا إله إلا الله، قال الله -تعالى-: (ما كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران:79- 80). وكذا تصحيح دين مَن يُكذّب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ويُكذّب القرآنَ المنزل من عند الله عليه، يعتبر هَدمًا كاملًا لشهادة: "أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والدين الإبراهيمي الجديد الذي يُروِّج له اليهودُ وأتباعهم إنما يقوم على ذلك، فلا بد من مقاومة ذلك، وتحصين المسلمين ضده، وإظهار مخالفته، والبراءة منه، وعدم الرضا به. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "ينكر -تبارك وتعالى- على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم، كما قال محمد بن إسحاق بن يسار -بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه-: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا؛ فأنزل الله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) إلى آخر الآيات، أي: كيف تَدَّعون أيها اليهود أنه كان يهوديًّا، وقد كان زمنُه قبل أن ينزل اللهُ التوراةَ على موسى؟! وكيف تدّعون أيها النصارى أنه كان نصرانيًّا، وإنما حدثتْ النصرانيةُ بعد زمنه بدهر؟! ولهذا قال -تعالى-: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، ثم قال: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) الآية، هذا إنكار على مَن يُحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه عِلم -مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم- لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ثم قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا) أي: مُتحنِّفًا عن الشرك قاصدًا إلى الإيمان، وما كان من المشركين، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة:135). ثم قال -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) يقول -تعالى-: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل -صلى الله عليه وسلم- الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم-، والذين آمنوا مِن أصحابه المهاجرين والأنصار ومَن تبعهم بعدهم. قال سعيد بن منصور بسنده عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ لِكلِّ نبيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبيِّينَ وإنَّ وليِّيَ أَبِي وخليلُ ربِّي، ثمَّ قرأَ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (رواه الترمذي). وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي: وَليُّ جميع المؤمنين برسله" (انتهى من تفسير ابن كثير بصرفٍ يسيرٍ). قلتُ: وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه الله-، وهو يدل على ولاية خاصة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وإن كانت الولاية لجميع الأنبياء حاصلة صلى الله عليهم وسلم أجمعين، ولكن هناك ولاية أخص لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (57) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية (2) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68). قال ابن جرير -رحمه الله-: (يعني تعالى ذكره بقوله: يا أهل الكتاب، يا أهل التوراة والإنجيل لِمَ تحاجون، لم تجادلون في إبراهيم وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن -صلوات الله عليه وسلامه-، وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته، فعابهم الله -عز وجل- بادِّعائهم ذلك، ودلَّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أن دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أن دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينـزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟! وقيل: نـزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنـزل الله -عز وجل- فيهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (آل عمران:65)، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا، فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنـزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية. وعن قتادة قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) (آل عمران:65)، يقول: لِمَ تحاجون في إبراهيم وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، أفلا تعقلون؟! وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا؛ فأكذبهم الله -عز وجل- ونفاهم منه، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (ورَوَى عن الربيع مثله). وروى عن مجاهد في قول الله -عز وجل-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ)، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله -عز وجل- منهم، حين ادَّعت كل أمة أنه منهم، وألحق به المؤمنين مَنْ كان من أهل الحنيفية (قلتُ: قول مجاهد يوافِق القول الأول أنها نزلت في اليهود والنصارى كما ذكره محمد بن إسحاق عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا أقرب إلى سياق الآيات؛ فإنها نزلت في شأن المسيح -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أنها كانت عند مجيء وفد نصارى نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومجادلتهم إياه، فالمناسب أنها كانت في اليهود والنصارى معًا كما سبق في القول الأول). وأما قوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فإنه يعني: أفلا تفقَهون خطأ قيلكم: إن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت مِن بعد مَهلكه بحين؟! وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66). قال أبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله-: يعني بقوله جل ثناؤه: ها أنتم، القومَ الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا حاججتم، خاصمتم وجادلتم فيما لكم به علم من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته؛ فلِمَ تحاجون، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون فيما ليس لكم به علم، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ عن السدي: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)؛ فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، أما الذي لهم به علم، فما حرَّم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم، فشأن إبراهيم. عن قتادة: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم؛ فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون؟! وروى عن الربيع مثله. قال ابن جرير: قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور، ومما تجادلون فيه؛ لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السماوات ولا في الأرض، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع. وقوله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67). قال أبو جعفر الطبري: وهذا تكذيبٌ من الله -عز وجل- دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون، وقضاءٌ منه -عز وجل- لأهل الإسلام ولأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أنهم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم. يقول الله عز وجل: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا كان من المشركين الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم، ولكن كان حنيفًا، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها، مسلمًا يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللًا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه. عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنـزل الله -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا) الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم -يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا-، وعن الربيع مثله. عن سالم بن عبد الله -لا أراه إلا يحدثه عن أبيه-: أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقيَ عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله. فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم. (قلتُ: قد ثبت في السنة الصحيحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثنى على زيد بن عمر بن نوفيل، ورآه في هيئة حسنة). وقوله -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68). قال أبو جعفر: يعني -جل ثناؤه- بقوله: إن أولى الناس بإبراهيم، إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته للذين اتبعوه، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به، وهذا النبي يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله والله ولي المؤمنين، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به مِن عنده، على مَن خالفهم مِن أهل الملل والأديان. وعن قتادة قوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته وهذا النبي، وهو نبي الله محمد والذين آمنوا معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبي الله واتبعوه. كان محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم. وروى عن الربيع مثله. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (حديث صحيح)، وعن ابن عباس في قول الله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)، وهم المؤمنون" (انتهى من تفسير ابن جرير). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (58) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (3) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68). هذه الآيات فيها فوائد: الأولى: هذه الآية الكريمة هي أقوى حُجَّة عقلية ونقلية على براءة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من اليهودية والنصرانية الحاليين منذ بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهما قائمتان على تكذيب الرسل، والوقوع في الشرك، وهذا خلاف ما جاء به موسى وعيسى -صلى الله عليهما وسلم-، فإنهما جاءا بالإسلام كما كان هو دين أبيهما إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى- مُبينًا كفر اليهود والنصارى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30- 33). وقال -تعالى- مُبينًا كفرَ مَن كذَّب رسولًا من رُسله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء: 150 - 152)؛ فكيف بمَن كذَّب خاتمهم وأفضلهم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؟! وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: 81). فكُفر اليهودِ بعيسى -صلى الله عليه وسلم- واتهامهم أمه بالبهتان العظيم كفرٌ مستقل؛ إضافة إلى عبادة أحبارهم الذين حرَّفوا التوراة وبدَّلوا الأحكام، قال الله -تعالى-: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:156 - 159). وقال -تعالى- مُبينًا تحريف أحبار اليهود لِمَا أنزلَ اللهُ عليهم في التوراة ومسارعتهم في الكفر بذلك: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 41)، وهذه الآيات نزلتْ في شأنِ تبديلِ اليهودِ حُكمَ التوراة بالرجم، وجعلهم الجلد والتحميم مكان الرجم، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: "ائْتُوا هذا النبي فإنه بُعثَ بالتخفيف؛ فإن حَكمَ لكم بالجلد والتحميم فخذوه، وقولوا حَكمَ به نبيٌ، وإن لم تؤتوه فاحذروا"، وهذا فضلًا عن كفرهم وتكذيبهم برسول الله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن الذي أنزله عليه فيه كلام الله، ومَن كذّب الله؛ فقد كفر به وبأنبيائه وبرسله جميعًا، قال الله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) (الفتح: 29). وكفر النصارى بعبادتهم للمسيح -صلى الله عليه وسلم- وقولهم بألوهية الأقانيم الثلاثة، وهذا يتضمن عبادة النبي عيسى، وعبادة الروح القدس، وهذا كله من الشرك البيِّن، وكذا اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، حين اتبعوهم على تحريم الحلال وتحليل الحرام، وهذا كفرٌ مستقل كما بيّنه الله في كتابه، فعن عدي بن حاتم قال: أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ وفي عنقي صليبٌ من ذَهبٍ. فقالَ يا عديُّ اطرح عنْكَ هذا الوثَنَ، وسمعتُهُ يقرأُ في سورةِ براءةٌ "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ" قالَ: أما إنَّهم لم يَكونوا يعبدونَهم؛ ولَكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لَهم شيئًا استحلُّوهُ، وإذا حرَّموا عليْهم شيئًا حرَّموه" (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ إضافة إلى كُفرهم بمحمدٍ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن العظيم كلام الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلّا كانَ مِن أصْحابِ النّارِ" (متفقٌ على صحته). وفي هذا كلِّه -وفي غيره من الآيات والأدلة المبثوثة في كتاب الله- أوضح الدليل على بطلان ما يُسمّى بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"، الذي يُسوّي مخترعوه ومتبعوه بين المِلل الثلاث، وهو مِن أعظم المُحال والتناقض كما بينّا من قبل. الثانية: دلّتْ الآيةُ على أن أهل الكتاب عندهم عِلْمٌ بأخبار أنبيائهم دون غيرها، وقد تضمَّنت كتبُهم -رغم ما وقع فيها من تحريف- حقيقةَ الدين الحق المقبول عند الله، الذي هو التوحيد، الذي هو دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أول وصية لموسى أوصاها بها ربه -عزَّ وجل- وهي أعظم وصية لعيسى -صلى الله عليه وسلم- بنص الإنجيل بعد نص التوراة، ففي التوراة في سفر الخروج <20: 2-5> في الوصية الأولى لموسى وبني إسرائيل: (أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما، لا تسجد لهن ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك إله غيور)، وفي سفر أشعياء (43 :5 - 44 : 6): (قَبلي لم يُصوّر إله، وبعدي لا يكون، إني أنا الرب، وليس غيري مخلص أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري). وفي الإنجيل نصوصٌ كثيرةٌ على إثباتِ التوحيدِ، ففي إنجيل مرقص (28 – 30): (جاء واحد من الكتبة فسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أي وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك) هذه هي الوصية الأولى، وفي إنجيل يوحنا (17 : 3): (هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته). وهذا من كلام المسيح -صلى الله عليه وسلم-، ومَن تأمَّلَ هذه النصوص عَلِمَ حقيقة الديانة النصرانية في مهدِها وفي بدايتِها، أنها قامتْ على التوحيد المحض، ومَن رأى مَن الذي يدعو إلى هذه الوصية التي هي أول الوصايا، التي هي دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لم يجد إلا أهل الإسلام الذين يرفعون شعارهم في العالم كله: "لا إله إلا الله". فالحمد لله على نعمة الإسلام. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (59) حقيقة دين إبراهيم وعلاقته باليهودية والنصرانية (4) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68). الفائدة الثالثة: دَلَّ قوله تعالى: (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) (آل عمران: 66)، على أن الجدال بغير علمٍ مذموم، وقد صار الجدال بغير علمٍ مَرَضًا اجتماعيًّا عند كثيرٍ مِن الناس؛ خاصة في مجالس السَّمر على المقاهي والنوادي ونحوها، وصار كلُّ أحدٍ يتحدثُ فيما لا يعلمُ، ويجادلُ فيما لا يعلمُ، وهو لم يدرس شيئًا في المسألة التي يتكلم فيها، ويجادل ويخاصم فيها، والواجب على المسلم الإعراض عن هذا كما قال تعالى: (خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بِالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنْ الجَاهِلِين) (الأعراف: 199). والجدالُ بغير علمٍ يتضمنُ الفتوى بغير علمٍ، وربما كانت شرًّا منه؛ لأن السائلَ يثقُ في المسؤول ويقبل كلامه، وقد دعا النبي -صلى الله عليه- وسلم على مَن أفتى بغير علمٍ بالتشدد الباطل الذي أدَّى إلى قتلِه، فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك لمَّا أفتوا مَن أصابته جراحة بالغسل، وعدم التيمم والمسح على الخرقة التي يربطها على جُرحه. وقد دَخَلَ مَن أفتى بغير علمٍ فيمَن يُضِل الناسَ، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ . ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج:8-9). وهذه الآية في رؤوس الضلال والبدع الذين يُضلون غيرهم، وليس عندهم علم بالوحي، فيقولون على الله ما لا يعلمون في: أسمائه وصفاته، وربوبيته، وألوهيته، وأمره ونهيه، وقضائه وقدره، وما أخبر عبادَه في كتبه المنزلة، وعلى ألسنة رسله. فالواجب على الإنسان أن يحذر كلَّ الحذر مِن أن يقول على الله ما لا يعلم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33). ولا شكَّ أنَّ المُقَلِّدَ الذي لا يعلمُ النصوصَ والأدلةَ ويسترشدُ بأقوالِ أهلِ العلمِ داخلٌ في هذا العمومِ، الذي دلتْ عليه الآياتُ مِن ذمِّ مَنْ قالَ على الله بغير علمٍ، وكذلك القاضي والحاكم الذي يحكمُ بالتقليد أو بالهوى؛ هو ممَّن يقول على اللهِ ما لم يعلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني). وهذا يدلُ على أن الذي قَضَى بالجهل ولو وافق الحقَّ لا يُقبَلُ منه، بل هو في النار؛ لأنه إنما قَضَى به لكونه وافق هواه، ولا يجوزُ لأحدٍ أن تغره المناصب الرسمية، والأسماء الرنانة التي يُطلقها عليه الناسُ؛ فيقبل أن يُفتي أو يحكم أو يقضي أو يدعو بغير علمٍ بالوحي المنزل من الكتاب والسنة؛ فهذا هو العلم، وهل حرَّفَ الناسُ دينَ الرسلِ إلا باتباعهم مَنْ يُجادلون في الله بغير علم ويقولون على الله بغير علم!، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) (الحج: 3)، وهذه في المُقلدين المُتبعين لشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولتصغى إليه قلوب أتباعهم الذين لا يؤمنون بالآخرة لتنفذ مشيئة الله بالعدل فيهم، وعذابهم على ما اقترفوه من الجرائم، والصدِّ عن سبيل الله، وتحريف كتبه ودعوة رسله. الفائدة الرابعة: دلَّ قولُه تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66)، أنَّ عِلْمَ البشر مهما بلغَ فهو إلى علم الله جهلٌ، قال الخضر لموسى -عليهما السلام- لما أراد أن يُبين لموسى قِلَّة علم البشر: "يا موسى أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر"، وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أعلم الخلق بالله وأشدهم له خشية: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) (رواه مسلم). وإنَّ مِن أخطر الأمراض في زماننا الاغترار بالعلوم الحديثة، والاختراعات والاكتشافات، مع أن العَالِم كلما تبحّر في علمه عَلِمَ أن علوم البشر في الحقيقة ما هي إلا قشرة رقيقة صغيرة من علوم لا يحيطُ بها إلا الله في مجال علمه؛ فضلًا عن غيره، فلا يُغتر بالله ولا يظنُ أنه بإمكانهم محاداة الله في أمره، كما يقع من الملحدين الجاهلين، الذين كان عِلمهم الدنيوي فتنةً لهم، مع أنه في الحقيقة لا علم، قال تعالى عن قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص: 78). وقد ظنَّ كثيرٌ من المغرورين أنَّ ما عارض ما يُسمُونه العلم الحديث من النصوص يجب رده، حتى ولو كان ما يُسمونه عِلْمًا، هو مجرد افتراض أو نظرية، ولم يصل إلى أن يكون حقيقةً علميةً! فمهما كانتْ النصوصُ الصحيحةُ ثابتة فهُم يردونها بزعم مخالفة العلم الحديث؛ فكذَّب بعضُهم القرآنَ، وكذَّب بعضُهم السنةَ الصحيحةَ الثابتةَ، أو أوَّلوا النصوصَ وحرَّفوها عن معانيها، بما يَقطع كل عالِم ببطلان هذا التأويل، كما يقوله مَن يقول بفرضية النشوء والارتقاء والتطور، أو مَن يحاول التعديل لها ليوافق الغرب؛ فيقول بالتطور الموجَّه مع أنَّ الفرضية لم تتجاوز مجرد الفرض! ومَن تأمّل النصوصَ جَزَمَ بالخَلق المستقل لهذه المخلوقات؛ فأما خَلقُ آدم وخَلقُ إبليس فالنصوص أكثر من أن تُحصَى، وآدم أبو البشر بنص السنة، وكذا من معنى الكتاب. وأمَّا خَلقُ الأنعامِ: فقد قال الله عز وجل: (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (الزمر: 6). فهذه الأوهامُ التي يتّبعونها داخلةٌ في قول الله عز وجل: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، وقال: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ?لظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116). فالمؤمنُ يعلمُ يقينُا أنَّ الله يعلم ونحن لا نعلم، فيجب أن نقدِّم نصوص الكتاب والسنة على كلِّ ما سواها، وأما الحقائق العلمية فيستحيل أن تأتي النصوص بمخالفتها، فإن الشرعّ يأتي بمحاراة العقول، أي: ما تحار فيه العقول، ولا يأتي أبدًا بمحالات العقول، أي: ما يستحيل في العقل. ونسألُ الله أن يثبتنا على الهدى. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (60) حقيقة دين إبراهيم عليه السلام وعلاقته باليهودية والنصرانية (5) كتبه/ ياسر برهامي فقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 65-68). الفائدة الخامسة: دَلَّ قولُه تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على براءة إبراهيم صلى الله عليه وسلم من اليهودية والنصرانية، وأنه كان مسلمًا، وهذا الإسلام -الذي هو دِين الأنبياء جميعًا- قَائِمٌ على توحيد الله، ونفي الشرك عنه وإبطاله، والإيمان برسل الله واتِّباعهم صلى الله عليهم وسلم جميعًا، قال الله عز وجل عن نوح صلى الله عليه وسلم: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:72). وقال عن موسى صلى الله عليه وسلم: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) (يونس: 84-85). وقال الله تعالى عن فرعون وهو يغرق معلنًا دخول دين موسى عليه السلام وبني إسرائيل: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90)، وقال سبحانه عن الحواريين في إيمانهم بعيسى صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة:111)، وقال سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52). فهذا الإٍسلام هو دين الله في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ لا يقبل اللهُ غيرَه مِن أحدٍ، وبعد بعثةِ النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوجب اللهُ اتِّباعه على الإنس والجن؛ لم يعد ممكنًا أن يحقق أحدٌ صحةَ الانتسِاب لدين الإسلام إلا بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتِّباعه، واتِّباع الشريعة الخاتمة التي أُنزِلت عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى صلى الله عليه وسلم -عندما ينزل في آخر الزمان حاكمًا بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومبطِلًا لسائر الملل-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَمًا مُقْسِطًا؛ فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) (متفق عليه). وقال تعالى: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:159)؛ فسَّرها أبو هريرة رضي الله عنه بإيمان أهل الكتاب قَبْل موت عيسى صلى الله عليه وسلم بعد نزوله الأرض قائدًا وإماما؛ لأمة الإسلام أمةٍ محمد صلى الله عليه وسلم. الفائدة السادسة: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): يدل على نفي وإبطال الشرك بأنواعِه كلِّها: الشرك في الربوبية، والشرك في الألوهية، والشرك في الأسماء والصفات؛ فأما الشرك في الأسماء والصفات فهو: بأن يعتقد وصفَ الله بصفاتِ المخلوقين، أو أن يصفَ المخلوقين بصفات الله، أو أن يجحدَ وينفي أسماءَ الله وصفاته الدَّالَّة على كماله. فأما وصفُ الله بصفات المخلوقين، فهو كما قال الله عز وجل عن اليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) (المائدة:64)، وقال الله عز وجل عنهم: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ? سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181). وأنكر الله عز وجل على مَن قال اتَّخذ الله وَلَدًا! كما قال سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)، وقال سبحانه وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص). وقال عز وجل عن مشركي قريش: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ? وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات:158- 159). وأما مَن وصفَ المخلوق بصفة الخالق؛ كمَن يعتقد أن غيرَ الله عز وجل يَمْلِكُ الضرَّ والنفع، والإحياء والإماتة، والخفض والرفع، والإعزاز والإذلال؛ فقد قال الله عز وجل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26). وكالذين يعتقدون أن غيرَ اللهَ عز وجل يدبِّر الأمر، أو يَمْلِك شيئًا في هذا العَالَم! قال سبحانه وتعالى: (?قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ . وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (سبأ:22-23)، وقال عز وجل: (أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) (يونس:31). فإذا كان هؤلاء المشركون كَفَروا؛ رغم اعتقادهم أن تدبيرَ الأمر، ومِلك السمع والبصر لله وحده؛ فكيف بمَن اعتقد بأن الله يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبِّر الأمر؟! تعالى الله عن ذلك! ومِن الشرك في الربوبية: دعاوى الحرية المُعَاصِرَة التي لا تَرَى سقفًا لحرية البشر؛ إلا أهواؤهم، وهم يرون أنهم أحرارٌ في أنفسهم ليسوا مملوكين لله! والله سبحانه وتعالى هو المَلِك الحق دون مَن سواه. وكذلك مَن يعتقد أن غيرَ الله يأمر وينهى ويشرِّع، ويَسَود الناس بما يريده دون شرع الله: قال الله عز وجل: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟) قال: فقلت: بَلَى، قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي والبيهقي، وصححه الألباني). ودعاوى الديموقراطية على النمط الغربي الذي يَرَى حقَّ الناس في وضع التشريعات دون رجوعٍ لشرع الله، بل يعاقبون مَن يطالب بالرجوع إلى شرع الله! هو مِن الشرك الأكبر في الربوبية. وأما الشرك في الألوهية فهو: بصرف العبادة لغير الله، مِن: حبٍّ وخوفٍ ورجاءٍ، وتوكل وإنابة، وافتقار، وإخلاص، وشكر وصبر، وذبح ونذر، وحَلِف، ودعاء، واستغاثة، واستعانة، واستعاذة، وسائر أنواع العبادات. ودَلَّت الآية -أيضًا- على وجوب البراءة مِن الشرك وأهله؛ وإلا فمَن صَحَّح شركهم ورضي به وأحبه، واتبعهم عليه، ونصرهم عليه، وحارب أهلَ الإيمان في صفهم؛ فهو مشرك مثلهم. نعوذ بالله من الشرك. ونستكمل في المقال القادم إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (61) حقيقة دين إبراهيم عليه السلام وعلاقته باليهودية والنصرانية (6) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 65-68). الفائدة السابعة: دَلَّ قوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) على أن الولايةَ الحقيقية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، والانتسابَ إليه إنما هو في هذه الأمة الإسلامية؛ لأنها التي ورثت متابعة الأنبياء جميعًا، فهي وارثة ولاية مَن اتبعوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التوحيد مِن الأنبياء والأولياء عَبْر العصور، وورثت اتِّباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعد هناك ولاية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الأمة الإسلامية. وأفعل التفضيل في الآية ليس على بابه؛ فهو بمعنى أن ولاية إبراهيم محصورة في الذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، وأما ولاية النَّسب بين بني إسرائيل وبين إبراهيم صلى الله عليه وسلم بحكم الولادة مِن نَسْلِه -إن ثبت نسلُهم إليه-؛ فهي مقطوعة بظلمهم وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتكذيبهم لرسول الله عيسى صلى الله عليه وسلم، ومحاولتهم قتله وصلبه، ثم تكذيبهم لرسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؛ قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، والكفر والشرك أعظم الظلم. وقال عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 26)؛ ولذا لم تبقَ لليهود ولا للنصارى نسبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض قراباته المشركين: (إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (رواه البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه). بل هذه الأمة هي التي ورتت ولاية موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وسائر الأنبياء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء لما سألَ اليهودَ في المدينة عن صيامه، فقالوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلهِ، فَقَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ)، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (متفق عليه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى، الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ) (متفق عليه)، فالمسلمون هم أتباع موسى، وهم أتباع عيسى على الحقيقة، كما قال عز وجل لعيسى عليه السلام: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 55). فالذين اتَّبعوا المسيحَ صلى الله عليه وسلم هم أهل الإسلام، هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فَرِح أهلُ الكتاب بما أُنزِل إلى الرسول من الكتاب، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) (الرعد:36)؛ وذلك لأن وعدَ الله بظهور المؤمنين الحقيقيين بعيسى صلى الله عليه وسلم تحقق ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف:14). وإنما حصل ظهورُ أتباع المسيح صلى الله عليه وسلم الحق بظهور دينهم؛ التوحيد دون الشرك بالتثليث، ودون تكذيب عيسى صلى الله عليه وسلم، واتهام أمه بالبهتان العظيم! فأصبحوا ظاهرين ببعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وظهور المؤمنين، وظهور الدين الحقيقي لعيسى صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كله إذا نزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان فإنه ينزل في هذه الأمة قائدًا لها، مصليًا صلاتها، مستقبلًا قبلتها، حاكمًا بشريعتها، متَّبِعًا لنبيها صلى الله عليه وسلم؛ أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ)، وفي رواية لمسلمٍ: (فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ). وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْد المنارة الْبَيْضَاء شرقيّ دمشق) (رواه مسلم)، وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ)؛ ولذلك ثَبَتَ أن منا مَن يصلي عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم خلفه ثم يقود الأمة بعد ذلك ويصير إمامهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (وَتَكُونُ الْمِلَّةُ وَاحِدَةً) (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20843)، وقال الألباني: "إسناده مرسل صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"). وبهذا -وغيره- يُعرَف أن ما يحاوله اليهودُ -أعداءُ الله- مِن خِدَاع العَالَم بتسمية اتفاقيات التطبيع باتفاقيات إبراهيم، والمسار الذي يريدونه المسمَّى بـ"مسار إبراهيم!" لن يحدث -بإذن الله-. - وهم يريدون ويخططون؛ لتعميق التطبيع الاقتصادي -بل الاختراق الإسرائيلي لاقتصاد الدول العربية والتغلغل فيها-. - والتطبيع الاجتماعي: بقبول المسلمين لوجود اليهود في وسط بلادهم ومجتمعاتهم محبين لهم، متعاطفين معهم، قابلين لدعاواهم بأنهم مظلومون مضطهدون! وهم الظالمون المضطهدون لأهل الإسلام. - والتطبيع الإعلامي: بالظهور المشترك المتسارع لإعلاميين هنا وهناك. - والتطبيع العلمي: بين الجامعات والأبحاث، والمنح المشتركة. - والتطبيع الصحي: بعقد اتفاقات التعاون الصحي، والاطلاع على الخطط الصحية، وغيرها. - والتطبيع الرياضي: بلعب الفِرَق الرياضية المشتركة بعد أن ظلَّ العربُ -بل والمسلمون- يأبون اللعب مع الفِرَق اليهودية، والرياضيين اليهود الإسرائيليين. - والتطبيع في مسارات الطيران المباشر المنتظِم. - والتطبيع السياحي: بوفود السياحة العربية والمسلمة إلى أرض فلسطين المحتلة؛ حتى ينسى وجود الاحتلال. - والتطبيع المصرفي: بفتح فروع البنوك هنا وهناك. وغير ذلك مما ينتهي كما يخططون -ولن يكون بإذن الله- إلى تدويل دول المسار، أي: تحويل دول المنطقة إلى دولةٍ واحدةٍ كونفدرالية، أو غيرها حسب الظروف، باسم: "الولايات المتحدة الإبراهيمية!". ثم بعد ذلك تغيير دين الشعوب "خاصة المسلمين" إلى الدِّين الجديد المسمَّى: بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"؛ القائم على مساواة الأديان وعقد صلوات وعبادات مشتركة، كما أدَّى "البابا" صلاة مشتركة في العراق تمهيدًا لهذا! وبناء معابد مشتركة يجتمع فيها اليهود والمسلمون والنصارى، وكما يحاول اليهود فعله في المسجد الأقصى بتقسيم الوقت، وكذا في المسجد الإبراهيمي، وهذا مؤقتًا إلى أن يتمكنوا مِن أخذه بالكلية وطرد المسلمين في الحقيقة. وكذلك عدم استقلالية الأماكن المقدسة؛ فهكذا يزعم أصحاب الدين الجديد، ويزعمون اعتماد التصوف العالمي القائل بوحدة الوجود، ووحدة الأديان، فكرًا يوحِّد بين الأديان المتحاربة مع اعتماد الرقص آلية لحلِّ النزاعات الدينية! كما كان يفعله أتباع جلال الدين الرومي المسمَّون بالمولوية؛ نسبة إلى مولاهم "جلال الدين الرومي"، والذي كان يحضر درسه ورقصه اليهود معهم التلمود، والنصارى معهم الإنجيل، والمسلمون معهم القرآن، ثم يتركون ذلك كله ويبدأون في الرقص الدوار، وحضر جنازته اليهود والنصارى والمسلمون؛ كل ينتسِب إليه! ونبرأ إلى الله من ذلك. فكل ما يحاوله اليهود مِن ذلك هو مناقضة لأصل دين الإسلام، ومآله إلى الاضمحلال والذهاب، قال الله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81)، وقال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد: 17). وما على المسلمين إلا أن يتمسكوا بدينهم، ويظهروا بطلان هذه الدعاوى اليهودية الصهيونية المدعومة مِن النصارى الصهيونيين في الغرب؛ الذين يظنون أن نزول المسيح لن يكون إلا بعد مُلكِ إسرائيل. ولن يتم ذلك إلا ببيان نصوص القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وأن نعلِّم أجيالنا المتتابعة هذه النصوص ومعانيها، وكذا الحفاظ على هوية دولهم الإسلامية العربية، ومنع إضعافها أو أن تقسَّم، أو إحداث الفوضى فيها باسم: "الثورات"؛ فإنها خُطُوات على طريق الخراب. والله المستعان وعليه التكلان. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (62) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:95-97). إن مِن أخطر ما ينادي به أصحابُ الاختراع المحدَث الكفري فيما يسمونه -كذبًا وزورًا- بـ"الدِّين الإبراهيمي": هو عدم خصوصية الأماكن المقدسة، بل تشترك كل الطوائف في تقديس أماكنها جميعًا، مع أن هؤلاء اليهود لا يعظِّمون بيتَ الله الحرام، ولا يقصدون الكعبة المُشَرَّفة في صلاتهم، ولا يرون حجًّا ولا عمرة، وكذا النصارى؛ رغم أن أنبياءهم الذين مضوا قد حجوا بيت الله الحرام، وعيسى -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل إلى الأرض في آخر الزمان ليحجن إلى بيت الله الحرام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّ بوادي الأزرق فسأل: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ -يعني: ليفًا- وَهُوَ يُلَبِّي) (رواه مسلم). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيُثَنِّيَنَّهُمَا) (رواه مسلم). وهذه المسألة قد بيَّنها الله -سبحانه وتعالى- في القرآن العظيم ردًّا على اليهود والنصارى قديمًا في انتسابهم إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من غير اتباع ملته، ومن غير تعظيم لبيت الله الحرام، والكعبة المشرفة التي بناها. وبيَّن -سبحانه وتعالى- وجوبَ الحج على كلِّ الناس إن استطاعوا إليه سبيلًا، فكذلك ينبغي أن نستدل بها على بطلان ما يدَّعونه من الدِّين الإبراهيمي المزعوم؛ لأنهم لا يعظِّمون الكعبة، ولا يرون الحج إلى بيت الله الحرام، ولا يرون الكعبة قبلة؛ فلا تصح لهم نسبة إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وإلى دينه إلا باتباع ملته، وهي: "التوحيد والاتباع لنبيه -صلى الله عليه وسلم- محمدٍ خاتم النبيين"، وكذا لا بد لهم من الحج إلى بيت الله الحرام. وقوله -تعالى-: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: قل يا محمد: صدق فيما أخبر به، وفيما شرعه في القرآن على لسان محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأتِ نبيٌّ بأكمل منها، ولا أبين، ولا أوضح ولا أتم، كما قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:161)، وقال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123). وقوله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ): يخبر -تعالى- أن أول بيتٍ وُضِع للناس، أي: لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده، (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) يعني: الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي يزعم كلُّ مِن طائفتي: النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه؛ ولهذا قال: (مُبَارَكًا) أي: وضع مباركًا، (وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ). وعند الإمام أحمد -بسنده- عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ حَيْثُمَا أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّ، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ) (وأخرجه البخاري ومسلم). وقال ابن أبي حاتم عن علي في قوله -تعالى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)، قال: كانت البيوت قِبْلَة، ولكنه كان أول بيت وُضِع لعبادة الله. وروى أيضًا ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي، فقال: ألا تحدثني عن البيت: أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت. وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقًا. والصحيح قول علي -رضي الله عنه-؛ فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه: "دلائل النبوة" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس؛ فإنه كما ترى مِن مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيف. والأشبه -والله أعلم- أن يكون هذا موقوفًا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك مِن كلام أهل الكتاب. وقوله -تعالى-: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ): من أسماء مكة على المشهور، قيل: سميت بذلك؛ لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، يعني: أنهم يزلون بها ويخضعون عندها. وقيل: لأن الناس يتباكون فيها، أي: يزدحمون. قال قتادة: إن الله بكَّ به الناس جميعًا، ويصلي النساء أمام الرجال، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعمرو بن شعيب، ومقاتل بن حيان -(قلتُ: وهذا لا يصح شرعًا، وإن وقع كونًا؛ لأن الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- لم يشرِّع "لا في بيت الله الحرام، ولا في غيره": أن تصلي المرأة بجوار الرجل وأمامه، فإن ذلك منهي عنه، ويجب على النساء أن يتراجعن فيكن خلف الرجال، كما في جميع المساجد وجميع الصلوات)-، وذكر حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مكة من الفج إلى التنعيم، وبكة من البيت إلى البطحاء. وقال شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: بكة: البيت والمسجد. وكذا قال الزهري. وقال عكرمة في رواية، وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة. وقال أبو مالك وأبو صالح، وإبراهيم النخعي، وعطية العوفي ومقاتل بن حيان: بكة موضع البيت، وما سوى ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة: مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأُمَّ رُحْمٍ، وأم القُرَى، وصَلَاح، والعَرْش على وزن بَدْر، والقَادِس؛ لأنها تطهِّر من الذنوب، والمُقدَّسَة، والنَّاسَّة والباسَّة، والحَاطِمة، والرَّأْس، وكُوثى، والبلدة، والبَنِيَّة، والكعبة. (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي: دلالات ظاهرة أنه مِن بناء إبراهيم، وأن الله عظَّمه وشرفه. ثم قال تعالى: (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) يعني: الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقًا بجدار البيت، حتى أخَّره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّوَّاف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة:125)، وقد قدَّمنا الأحاديث في ذلك -(قلتُ: يعني حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قَضَى طوافه بالكعبة نفذ إلى مقام إبراهيم، وقرأ قول الله عز وجل: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) بجعل المقام بينه وبين البيت، وصلَّى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما بـ"قل هو الله أحد"، و"قل يا أيها الكافرون" رواه مسلم من حديث جابر وغيره)-" (انتهى من تفسير ابن كثير). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (63) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 95-97). قال ابن كثير رحمه الله: "وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) أي: فمنهن مقام إبراهيم والمَشْعَر. وقال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بينة. وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وغيرهم. وقال أبو طالب في قصيدته: ومَوْطئ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبةٌ عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ ناعلِ وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم. هكذا رأيت في النسخة، ولعله الحجر كله مقام إبراهيم، وقد صرَّح بذلك مجاهد. وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يعني: حَرمَ مكة؛ إذا دخله الخائف يأمن مِن كلِّ سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري، وغيره: كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول؛ فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى التيمي، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) قال: مَن عاذ بالبيت أعاذه البيتُ، ولكن لا يُؤوى ولا يُطعَم ولا يُسقى، فإذا خرج أُخِذ بذنبه. وقال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67)، وقال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش: 3-4)، وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع أشجارها وقلع حشيشها، كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعًا وموقوفًا؛ ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: "لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا"، وقال يوم الفتح فتح مكة: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَد شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إِلَّا مَنْ عَرَّفها، وَلَا يُخْتَلى خَلاها"، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَرَ، فَإِنَّهُ لقَيْنهم ولبُيوتهم، فَقَالَ: "إِلَّا الإذْخَر". ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه، ولهما -واللفظ لمسلم أيضًا- عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلَّم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً"، فإن أَحَد ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أَذِن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس؛ فليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخزية. وعن جابر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ" (رواه مسلم). وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح، وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه، وروى أحمد عن أبي هريرة، نحوه. وقال ابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة بن هبيرة، في قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) قال: آمنًا من النار. وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي بسنده عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورًا له"، ثم قال: تفرد به عبد الله بن المؤمل، وليس بقوي. وقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة:196)، والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًّا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس، قد فُرِض عليكم الحج فَحُجُّوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فإنما هَلَك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"، ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون، به نحوه. وقد روى سفيان بن حسين بسنده عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج"، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال: "لو قلتها، لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم من حديث الزهري، به، ورواه شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. وروي من حديث أسامة يزيد. وقال الإمام أحمد بسنده عن علي قال: لما نزلت: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ فسكت، قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ قال: "لا، ولو قلتُ: نعم، لوجبت"، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101). وكذا رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، من حديث منصور بن وردان، به: ثم قال الترمذي: حسن غريب. وفيما قال نظر؛ لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي. وقال ابن ماجه بسنده عن أنس بن مالك: قالوا: يا رسول الله، الحج في كل عام؟ قال: "لو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها لعُذِّبتُم". وفي الصحيحين من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، عن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله، متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: "لا، بل للأبد"، وفي رواية: "بل لأبَد أبَد". وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته: "هذه ثم ظُهُور الحُصْر"؛ يعني: ثم الزَمْنَ ظُهُور الحُصْر، ولا تَخْرُجْنَ مِن البُيُوت" (انتهى كلام ابن كثير رحمه الله). وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدِّين إبراهيمي بين الحقيقة والضلال (64) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96-97). قال ابن كثير رحمه الله: "وأما الاستطاعة فأقسام: تارة يكون الشخص مستطيعًا بنفسه، وتارة بغيره، كما هو مقرَّر في كُتُب الأحكام. (قلتُ: المستطيع بغيره هو العاجز عن الحج بنفسه مع كونه يملك المال، وهو الذي يُسَمَّى: المعضوب؛ فهذا يجب عليه أن يحجِّجَ غيره؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر، وحديث الخثعمية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي شيخ كبير لا يثبت على الراحلة، فهل يجزي أن أحج عنه؟ قال: نعم). ورَوَى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَن الحاجُّ يا رسول الله؟ قال: "الشَّعثُ التَّفِل"، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: "العَجُّ وَالثَّجُّ"، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: "الزاد والراحلة". وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي. قال الترمذي: ولا نعرفه إلا مِن حديثه، وقد تكلَّم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه. (قلتُ: قال الألباني في ضعيف الترمذي عن هذا الحديث: ضعيف جدًّا، وقال ابن حجر: طرقه كلها ضعيفة). وقال في كتاب الحج: هذا حديث حَسَن لا يُشكُّ أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا، وقد تكلَّموا فيه من أجل هذا الحديث، لكن قد تابعه غيره، فروى ابن أبي حاتم: عن محمد بن عباد بن جعفر قال: جلست إلى عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، وكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به. ثم قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس، وأنس، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وقتادة، نحو ذلك. وقد رُوي هذا الحديث من طُرُق أخرى من حديث أنس، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وعائشة كلها مرفوعة، ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرَّر في كتاب الأحكام، والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث، ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سُئِل عن قول الله عز وجل: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، فقيل ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. (قلتُ: قال الدارقطني: الصحيح أنه مرسل، وكذا قال غير واحد مِن أهل العلم: الصحيح إرساله). ورَوَى ابن جرير عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، ورواه وكيع. (قلتُ: وقد دَلَّ حديثُ الخثعمية على: أن السبيل قد لا يُستطَاع مع وجود الزاد والراحلة؛ فقد لا يثبت الرجل على الراحلة مع ملكه لها، مع وجود الزاد؛ فدلَّ هذا الحديث على ضعف معنى الزاد والراحلة، أو يحمل معنى الزاد والراحلة على الأغلب الأعم. والفائدة في هذا الخلاف: فيمَن قَدَر على الحج ماشيًا: كواحدٍ مِن سكان الحَرَم، أو نحوه؛ فهذا يلزمه على قول مَن ضعَّف الحديث، ولا يلزمه على مَن صححه أو حسنه، والراجح أنه ضعيف). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدَكم لا يدري ما يعرض له"، وروى أيضًا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أراد الحج فليتعجل"، ورواه أبو داود. (قلتُ: حديث: "تعجَّلوا إلى الحج" مع ضعف إسناده -لأن فيه إسماعيل بن خليفة- ضعَّفه غيرُ واحدٍ؛ فقد حسَّن الألباني هذا الحديث لشواهده، وكذا حسَّن حديث أبي داود: "مَن أراد الحج فليتعجَّل"، مع ضعف إسناده أيضًا، لكن حسنه لكثرة الطرق والشواهد، وقد احتج بهذا الحديث -"تعجلوا إلى الحج"- ونحوه مَن يقول بأن الحجَ واجبٌ على الفور لمَن استطاع، والحديث مع ضعفه لا يصلح حجة؛ خصوصًا مع رواية: "مَن أراد الحج فليتعجل"؛ فإنه ردَّه إلى إرادته، وهذا واضح في أنه على التراخي، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، وهو الصحيح). وقد رَوَى ابن جبير عن ابن عباس في قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، قال: مَن ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا. وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة. وروى وكيع بن الجراح، بسنده عن ابن عباس قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قال: الزاد والراحلة. (قلتُ: قول ابن عباس المنقول: مَن مَلَك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا؛ فهذا محمول على زمنه ومكانه، وإلا فقد لا يستطيع مَن مَلَك هذا المبلغ في زماننا الحج إلى بيت الله الحرام. وأما قول عكرمة مولاه أن السبيل هو: الصحة؛ فهو يدل على أنه لا تلزم الراحلة لمَن قَدَر على المشي). وقوله: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: أي: ومَن جحد فريضة الحج؛ فقد كفر، والله غني عنه. وقال سعيد بن منصور، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نزلت: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85)، قالت اليهود: فنحن مسلمون. قال الله عز وجل فأخْصَمْهُم فحجهم؛ يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على المسلمين حج البيت مَن استطاع إليه سبيلًا"، فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا، قال الله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. وقال أبو بكر بن مردويه بسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت الله؛ فلا يضره مات يهوديًّا أو نصرانيًّا، وذلك بأن الله قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). ورواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم، ورواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا مِن هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال مجهول، والحارث يُضعَّف في الحديث. وقال البخاري: هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ. وقد روى أبو بكر الإسماعيلي عن عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "مَن أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهوديًّا مات أو نصرانيًّا"، وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه، ورَوَى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري، قال: قال عمر بن الخطاب: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كلِّ منَ كان له جدة -أي: سعة- فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين" (انتهى من تفسير ابن كثير). (قلتُ: هذا الأثر الأخير الذي رواه سعيد بن منصور عن الحسن البصري مرسل؛ فإن الحَسَن لم يدرك عمر رضي الله عنه، ولا شك في صحة إسناد حديث عبد الرحمن بن غنم عن عمر رضي الله عنه، وهو محمول على الجاحد، أو محمول على الترهيب والتشديد في ترك الحج لمَن استطاع إليه سبيلًا، ولا يقول أحدٌ مِن أهل العلم بمقتضاه؛ خاصة أن الجزية لا تُفرَض على المرتد. والله أعلى وأعلم). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (65) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 95-97). في الآية فوائد: الأولى: أوجب اللهُ على جميع الناس اتِّباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم القائمة على الحنيفية، وهي: الميل إلى الله والإعراض عن غيره؛ فالتوحيد هو أول واجب على العباد، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25). ولا يحصل تحقيق العبادة إلا باتباع الرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا يحصل الإيمان بأحدهم إلا بالإيمان بجميعهم، وبعد بعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به مِلَّة إبراهيم عليه السلام بعد اندثارها في الأرض قبل بعثته؛ إلا بقايا قليلة جدًّا من أهل الكتاب بقوا على التوحيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (رواه مسلم). فبعد بعثته صلى الله عليه وسلم انحصر دين الإسلام وملة إبراهيم في الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه، واتباع الكتاب الذي أنزله الله معه، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَ?هَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وغير ذلك كثير. وعموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق من الإنس والجن معلومة بالضرورة؛ فدعوى الزنادقة المرتدين في زماننا بعدم ركنية الإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وأنه يصح الإيمان ويمكن دخول الجنة لمَن كذَّبه، وكذَّب القرآن الذي أُنزِل معه، وأن الجنة ليست حكرًا على أتباعه صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، مناقضة لأصل الملة ورِدَّة صريحة عن الإسلام بإجماع العلماء؛ كتم ذلك مَن كتم، وأظهره مَن أظهره، وداهن فيه مَن داهن. ولا شك أن وجودَ هذه الدعاوى مِن منتسبين إلى الإسلام، بل إلى العِلْم أحيانًا! والتمهيد الذي يريده اليهود وأولياؤهم لما يسمونه: بـ"الدين الإبراهيمي الجديد" الذي يريدون به هدم الإسلام لإفساح المجال لهم، والسيطرة على فلسطين والقدس؛ أرض الميعاد في عقيدتهم الغريبة! وهيهات ... ! لن يكون ذلك بإذن الله، وإنما وعدهم الله الأرض المقدَّسة لما كانوا على التوحيد والإيمان، واتباع الرسل وليس على تكذيبهم؛ ولذلك فهذه الأرض وعدها الله عز وجل أهل الإيمان به مِن أي نَسَبٍ كانوا، وفي أي زمان كانوا، وذلك فهي أرض الإسلام وأهل الإسلام إلى يوم القيامة شرعًا وواقعًا بشرط التزام المسلمين بالإسلام، كما فتحها المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه، وظلت في أيديهم إلى أن وقعت في أيدي الصلبيين ثم فتحها صلاح الدين، وظلت في أيدي المسلمين إلى أن احتلها الحلفاء الغربيون بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وسلموها لليهود، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وستعود بإذن الله إلى أهل الإسلام قطعًا ويقينًا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55)، وقال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 105-107). الفائدة الثانية: البراءة من الشرك أساس ملة إبراهيم وركنها الركين؛ ولذا تكررت هذه الجملة مع ذكر إبراهيم عِدَّة مرات، وما كان من المشركين، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123)، وقال سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 78-79). وقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة: 4). فلا يصح لأحدٍ إيمان إلا بالبراءة من الشرك والمشركين، وهذه البراءة تعني: اعتقاد بطلان عبادة غير الله؛ سواء كان المعبودُ مَلَكًا مُقَرَّبًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو وليًّا صالحًا، أو أحبارًا أو رهبانًا، أو إنسًا أو جنًّا، أو حجرًا أو شجرًا، أو قبرًا أو ضريحًا، فصرف العبادة لغير الله شرك بأي نوع مِن أنواع العبادة، ثم يصرِّح الإنسان بلسانه بالبراءة مِن الشرك وبطلان عبادة غير الله، والدعوة إلى ترك عبادة ما يُعبد مِن دون الله، والسعي باليد واللسان والنفس والمال حسب القدرة المشروعة إلى إبطال عبادة كلِّ مَن يعبد مِن دون الله. وأما مَن صَحَّح عبادة غير الله أو مَدَحَها؛ فقد خَرَج مِن الملة كمَن يَضيق بمَن ينكِر عبادةَ البقر أو بوذا، ويصف عبادة البقر بأنه حضارة ورقي؛ فلا يشك في كفره وزندقته مسلمٌ. الفائدة الثالثة: شَرَفُ الكعبة بيت الله الحرام؛ لأنها أول بيتٍ وُضِع للناس في الأرض لعبادة الله، وقد كانت عبادة الله في الأرض قبله بلا شك، بل إن توحيدَ الله وعبادته بدأت مع وجود البشرية، وخلق آدم وحواء عليهما السلام في الجنة، وبعد أن نزلا إلى الأرض، لكن لم يكن يُخصص للعبادة والصلاة بيتٌ، وكان الأنبياء والمؤمنون قبل إبراهيم عليه السلام يعبدون الله في بيوتهم، وفي أي مكان في الأرض، فإن ثَبَت ما روي مِن طُرُق ضعيفة -لا تصح إسنادًا-: أن الملائكةَ هي التي بَنَت الكعبة، أو أن آدم عليه السلام هو الذي بناها؛ فهو أدلُّ على شَرَف الكعبة البيت الحرام، ولكن هذا لم يثبُت، والذي ثَبَت هو تحريم البقعة، فتحريم هذه البقعة وتشريع تعظيمها سابق على بناء الكعبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (متفق عليه). وقال عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37). فقبل أن تكون مكة بلدًا، وقبل أن تُبنَى الكعبة؛ فهذه البقعة تُسمَّى بيت الله المحرَّم، فشرفها سابق، وتحريمها يوم خلق الله السماوات والأرض، وهذا كله شَرَف عظيم لهذه البقعة؛ نحمد الله عز وجل أن جعلها قبلتنا، وجعل حَجَّنا إليها. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (66) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 95-97). الفائدة الرابعة: بركة الكعبة المشرفة أمر مشاهد محسوس؛ في الأرزاق والأقوات، والطاعات والعبادات، وغير ذلك، ومضاعفة أجر الصلاة فيه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني). وقد طَرَد بعضُ العلماء ذلك في جميع العبادات؛ في الصيام، والصدقة، وقراءة القرآن والذِّكْر، ولا دليل صحيح على ذلك، والأحاديث في فضل رمضان بمكة ضعيفة، والله أعلم. والناس يجدون من الهمة والعزيمة على الطاعة والقدرة على العبادة في الحَرَم ما لا يجدون في غيره، وهذا من بركة بيت الله الحرام، كما أن أحوال القلوب في الحرم وما حوله، يتضاعف الخير فيها، ويبعُد عنها الشر أكثر من غيرها. ومن البركة العجيبة في ذلك: اتساع هذه البقعة الصغيرة لملايين البشر في الحج والعمرة؛ خاصة في المواسم، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذا من بركة البيت؛ ولذا لا يُمنَع أحدٌ شرعًا مِن حج بيت الله الحرام ومن العمرة والطواف متى قَصَد ذلك وأراده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ وَيُصَلِّي أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، فلا يصح منع الناس مِن الحج والعمرة، والأعداد يتسع لها مكان المشاعر ببركة الله عز وجل التي جعلها في هذه البقعة. الفائدة الخامسة: الهداية الحاصلة ببيت الله الحرام لمَن قصده أو صلى إليه من آيات الله سبحانه؛ فهي هداية لكلِّ مِن قصده مَن العالمين "هُدَىً للعالمين"، ولعل هذه الهداية التي تحصل للعالم كله إذا قصدوا البيت هي السبب في مشروعية الحج والعمرة للصبيان وغير المميزين؛ لما يَحْدُث لهم من الهداية في مستقبل عمرهم؛ روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: (مَنِ الْقَوْمُ؟) قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: (رَسُولُ اللهِ)، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ). بوَّب النووي رحمه الله على هذا الحديث: "باب صحة حج الصبي وأجر مَن حج به"، وقال: "فيه حُجَّة للشافعي ومالك وأحمد، وجماهير العلماء: أن حج الصبي منعقد صحيح يُثَاب عليه، وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام، بل يقع تطوعًا، وهذا الحديث صريح فيه. وقال أبو حنيفة: لا يصح حجه؛ قال أصحابه: إنما فعلوه تمرينًا له ليعتاده فيفعله إذا بَلَغ، وهذا الحديث يرد عليهم. قال القاضي: لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان، وإنما منعه طائفة من أهل البدع، ولا يُلتفَت إلى قولهم، بل هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإجماع الأمة، وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه، وتجري عليه أحكام الحج، وتجب فيه الفدية، ودم الجُبْرَان، وسائر أحكام البالغ؛ فأبو حنيفة يمنع ذلك كله، ويقول: إنما يجب ذلك تمرينًا على التعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحكام الحج في ذلك، ويقولون حجه منعقد، يقع نفلًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حَجًّا. قال القاضي: وأجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام" (انتهى من شرح النووي على مسلم). الفائدة السادسة: الأمن الذي شَرَعَه الله لمن دخل الحرم ثابتٌ شرعًا بلا استثناء؛ إلا الساعة التي أحله الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وإلا مَن ارتكب جُرْمًا في الحرم، وأما كونًا: فهو في الأغلب الأعم كذلك، وقد يقع خوفٌ كاستثناء لمَن دَخَل الحرم كما حدث أيام حصار الحجاج لمكة أيام ابن الزبير، إلى أن قُتِل ابن الزبير رضي الله عنهما، وكذا أيام القرامطة، وغيرها: كأيام فتنة جُهيمان؛ فهذا لا ينافي أن الحَرَم في الأصل آمن في معظم الأحيان، وكل ما حدث من إخافةٍ لأحدٍ لم يرتكب جرمًا في الحرم؛ فهو مخالف للشرع. فالواجب تأمين كل مَن دخل مكة؛ خاصة مَن قصد البيت للحج والعمرة والطواف مسلمًا؛ لأن الله حَرَّم مكةَ على المشركين، قال الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة: 28)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) (متفق عليه)، وباتفاق العلماء: لفظ الشرك هنا يعم اليهود والنصارى، وغيرهم مِن أهل الملل، وليس فقط عُبَّاد الأوثان. وأما مَن ارتكب جُرْمًا يستوجب حدًّا أو تعزيرًا، ثم لجأ إلى الحَرَم: فالصحيح من أقوال العلماء: أنه لا يهيَّج، ولا يؤخذ في الحرم، بل يضيق عليه؛ فلا يُبايَع ولا يشترى منه، ولا يعامَل بأي وجوه المعاملة حتى يخرج مِن الحرم فيؤخذ حين إذًا؛ فيُعاقَب بما يستحق من حدٍّ أو تعزير. ومِن أهل العلم مَن أجاز أخذه من الحرم، وليس بصحيح؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: "لو وجدتُ قاتلَ عمر في الحرم ما نَدَهْتُهُ -أي: زجرته-" (أخرجه عبد الرزاق في مسنده)، وروى عبد الرزاق -أيضًا- والأزرقي في أخبار مكة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لو وجدتُ فيه -أي: في الحرم- قاتل الخطاب، ما مسستُه حتى يخرج". أما مَن ارتكب الجُرْمَ في الحَرَم؛ فهو الذي انتهك حُرْمَة الحرم وأمانه؛ فيجب منعه مِن ذلك بعقوبته حدًّا أو تعزيرًا. الفائدة السابعة: هذه الآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) هي التي يَبِين منها مقصود عنواننا من هذه السلسلة من مقالات: "الدين الإبراهيمي"، وهو: أن الحج من أركان دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم قديمًا وحديثًا؛ فقد حج إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وحجت سارة، وحج إسحاق، وحج إسماعيل صلى الله عليهم وسلم، وحج موسى صلى الله عليه وسلم، ويحج عيسى صلى الله عليه وسلم قبل يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما مَرَّ بوادي الأزرق: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ) (رواه مسلم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيُثَنِّيَنَّهُمَا) (رواه مسلم)، وهذه الأحاديث في الصحيح، وقد سبق ذكرها وتخريجها. فكل مَن اتبع إبراهيم صلى الله عليه وسلم على دينه وَجَب عليه الحج؛ لأن إبراهيم نادى بأمر الله له: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 27-29). فنادى إبراهيم: إن لله بيتًا فحجوه، وهذا الأمر للوجوب، والآيات والأحاديث تدل على وجوب الحج على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في شرعهم، ولكنهم ضيَّعوا ذلك، وتركوا هذه الفريضة، وتركوا تعظيم الكعبة واستقبالها؛ رغم النصوص الصحيحة في تعظيمها في التوراة؛ فهي جبال فاران التي استعلن منها الرب، أي: أنزل الكتاب الذي فيه أوضح البيان، وأعلنه وأصرحه عن وحدانية الله، وبيان أدلة هذه الوحدانية بأنواعها: توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات؛ فأعظم وأعلن كتاب تضمَّن التعريف بأسماء الله وصفاته، وحقوقه، هو: "القرآن العظيم"، بما لم يَرِد في الكتب السابقة، وإن كان يصدقها في أصل ما جاءت به. وبرية فاران هي التي سَكَنها إسماعيل بنصِّ التوراة، وقد نصَّت التوراة أيضًا على أن الله استجاب لإبراهيم في إسماعيل، وأن الله يجعل منه أمة عظيمة يلي أمرهم اثنا عشر رئيسًا، وليس للعرب شأنٌ، ولا أن أمتهم سارت أمة عظيمة؛ إلا ببعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومع هذا اليهود والنصارى أبوا ويأبون حج بيت الله الحرام، فقد سار الحج ركنٌ من أركان الدِّين الإبراهيمي الحق؛ دين الإسلام، دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأصبح تعظيمه وقصده في الصلاة علامة على الانتساب إلى هذا الدِّين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ) (رواه البخاري). ومفهومه الواضح: أن مَن صلَّى غير صلواتنا الخمس بهيئتها المعروفة مِن: القيام والركوع والسجود، وأعداد الركعات؛ فليس بمسلمٍ إذا كان يصلي صلاة غيرها، ويأبى أن يصلي؛ لا بمجرد الترك الذي فيه الخلاف المعروف، ومَن استقبل قبلة غير الكعبة المشرفة؛ فليس بمسلم، قال الله تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ). فلا يصح أن ينسب أحدٌ إلى دين إبراهيم، وهو يأبى الحج، وهذا هو مقصود ما نُقِل عن الصحابة رضي الله عنهم في تكفير مَن لم يحج، وهو مَن يأبى الحج ويرفضه، ويرفض الانقياد لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقصد البيت الحرام، وهو أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارت مسألة من مسائل الفرقان بين الحق والباطل. وليس مجرد ترك الحج مع الإقرار بوجوبه، والعزم على فعله في المستقبل ولو كان قادرًا عليه الآن مِن هذا الباب؛ أما مَن يأبى ويقول: "إن الحج وثنية!"، كما يقوله زنادقة في زماننا! أو فيه مِن الوثنية: كتقبيل الحجر الأسود، أو أنه لا يقتنع بالطواف حول أحجار، ولا برجم أحجار، وكذا مَن يرى أو ترى: أن الأضحية غير مقبولة؛ لأنه ليس مِن المقبول أن تُزهق أرواح ملايين الحيوانات البريئة -كما تزعم- مِن أجل منام رآه بعض الصالحين؛ فهذا كله مِن الكفر والعياذ بالله، والردة الصريحة عن دين الإسلام؛ دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ودين إبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وعلى كل الأنبياء. فهذه الآية الكريمة تبيِّن بطلان الدعوة الجديدة المستحدثة التي خطط لها اليهودُ بعونٍ مِن نصارى الغرب بدينٍ موحَّدٍ بين المسلمين واليهود والنصارى؛ هدفه هدم الإسلام دون غيره من الأديان؛ لأنه الذي يقف في وجه مخططات اليهود. هذا الدين المزعوم الذي لا توجد فيه أماكن مقدسة خاصة، بل المشترك منها فقط؛ يعنون المسجد الأقصى، ولا توجد فيه أماكن عبادة مستقلة، بل مجامع أديان للعبادة المشتركة، واعتماد الرقص كما يقوله "إلياس عميدون" زعيم الطريقة الصوفية العالمية، أحد مؤسسي ما يسمَّى بمسار إبراهيم الذي آخر خطوة فيه: الدين الإبراهيمي الجديد، بعد الولايات المتحدة الإبراهيمية في جمع دول منطقة الشرق الأوسط في كيانٍ واحدٍ بزعامة اليهود، حيث يقول في طريقته الصوفية العالمية، واعتماد الرقص كآلية لإزالة الخلافات بين الشعوب! وهذا الرقص الذي يفعله اليهود الآن في المسجد الأقصى، وغيره من المساجد الإسلامية التي بُنِيت على التوحيد: كالمسجد الإبراهيمي؛ يفعلون ذلك في أعيادهم تدنيسًا منهم للمسجد الأقصى بخرافاتهم وسفاهة عقولهم، وهي خطوة أولى فقط، وسوف يمنعون بعدها المسلمين منه بالكلية إذا تمكَّنوا من ذلك، ونسأل الله أن لا يمكِّنهم أبدًا من ذلك. كما فعل النصارى ذلك حين احتلوا القدس قبل أن يحررها صلاح الدين رحمه الله؛ فعندما أخذوا القدس في الحروب الصليبية رفعوا صليبًا عظيمة على قبة الصخرة، وجعلوا المسجد زريبة للخنازير، وإسطبلًا للخيول، ودنَّسوه بالنجاسات حتى طهَّره الله منهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وحرية العبادة ... شعار يرفعونه فقط؛ لخداع المسلمين، وها هي جرائمهم في المسجد طوال شهر رمضان وبعده، ومنع المسلمين من الصلاة فيه إلا بضوابط ابتدعوها، وكذا بعض المساجد الأخرى يمنعون المسلمين من الصلاة فيها أيامًا؛ ليؤدوا طقوس الرقص التي يسمُّونها: صلاة وعبادة! والله لا نقبلها ولا نرتضيها، ولا نرتضي هذا الدين الإبراهيمي الباطل المزعوم. وأما زعيم أمريكا "بايدن" فيقول في تهنئته -غير المقبولة- للمسلمين بعيد الفطر: "إن أعياد الأديان الثلاثة اجتمعتْ هذا العام (يعني عيد الفصح عند اليهود - وعيد القيامة عند النصارى - وعيد الفطر عند المسلمين)، وهذه بالتأكيد رسالة -يعني بوضوح الدِّين الإبراهيمي الجديد، الباطل النسبة لإبراهيم عليه السلام-!". ألم تكن هذه الأعياد عَبْر ثلاثة وثلاثين سنة مفترقة، وستظل كذلك حتى تأتي الدورة الجديدة التي تقترب فيها الشهور القمرية من الشهور الشمسية كل ثلاث وثلاثين سنة وثُلُث؛ لأن السنين القمرية أكثر من السنين الشمسية بتسع سنين، كل ثلاثمائة سنة؛ كل مائة ثلاث سنين، وكل ثلاث وثلاثين سنة وثلث بسنة، وبهذا تجتمع هذه الأعياد توافقًا؛ لا رسالة مِن الله، وإلا فالرسالة مِن الله حَمَلَها النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم مجدِّدًا رسالة إبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليه وسلم ودينهم، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، وقال عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَ?هَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، فإن قبلتم يا أهل الكتاب الكلمة السواء: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). إن قبلتم هذه الكلمة السواء وإلا فلكم دينكم ولنا ديننا، ونرفض دينكم الجديد المزعوم؛ فالله بريء منه، وأنتم من الله أبرياء: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (67) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ? وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء:51-55). إن عداوةَ اليهود للمسلمين عداوةٌ متأصِّلة متجذِّرَة كما وصفهم الله تعالى بقوله: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة:82)، وقد بدأت هذه العداوة بمجرد البَعْثَة النبوية الشريفة التي كرَّم اللهُ بها العربَ مِن نسل إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم، وقد كان الواجب عليهم في الشرع والعقل مراعاة النَّسَب الذي بين العرب وبينهم؛ إذ الجميع مِن ذرية إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فهم أبناء إسحاق بن إبراهيم، والعرب أبناء إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم. ومع ذلك فقلوبهم المليئة بالكبر والعدوان، والعُجْب بالنفس، وادِّعاء الاختصاص بالاجتباء، والحسد القاتل للعرب؛ رغم ما يعلمون مِن كتابهم مِن وجود أمة عظيمة من نسل إسماعيل وَعَدَ اللهُ عز وجل بها إبراهيم كما في التوراة في سفر التكوين رقم: (20) مِن قول الله عز وجل لإبراهيم: (أما إسماعيل فقد سمعتُ لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثِّره كثيرًا جدًّا، اثني عشر رئيسًا يلد، وأجعله أمة كبيرة). ولا وجود لهذه الأمة الكبيرة من نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم؛ إلا ببعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإيتائه النبوة والمُلْك لأمته مِن بعده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا) (رواه مسلم). ومِن هنا حدث لليهود الحسد والكبر على المسلمين، وزعموا أن المسلمين أولاد الجارية، وأن اليهود أبناء الزوجة، والعبرة بالأب في هذا المقام؛ فإن الأبَ واحدٌ، وهم كانوا يظنون -بعد ما حدث لهم من بلاءات؛ بسبب كفرهم وشركهم وقتلهم الأنبياء- أن هذا النبي المنتظر سيكون منهم، ولم يعلموا أن الاجتباء قد تحوَّل إلى أبناء عمومتهم العرب، والاصطفاء قد تمَّ به وَعْدُ الله لإبراهيم في إسماعيل ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومُلك العرب والمسلمين بحمد الله تعالى الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس كما وصفهم الله تعالى، فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110). وجعل ملكهم في المشارق والمغارب، وكلَّفهم بأن يُعلوا كلمة الله عز وجل في الأرض كلها، وأن يجاهدوا بالقرآن وبالسنان، بالدعوة والقتال في سبيل الله؛ فعند ذلك كَفَرَ اليهودُ وآمنوا بالجبت والطاغوت، ووالوا الكفار المشركين عباد الأوثان ضد المؤمنين أتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم حتى وصفوهم بأنهم أهدى مِن الذين آمنوا سبيلًا! وكل عاقل -فضلاً عن مؤمنٍ بالله وبرسله- يعلم أن دينَ النبي صلى الله عليه وسلم هو أرفع من دين المشركين، بل من كلِّ دين يخالفه على الإطلاق، وأن ما بعثه الله به، وما أنزل عليه في كتابه -الذي لا يوجد مثله من الكتب المنزلة؛ فضلًا عن غيرها- ما فيه مِن العقائد أعلى مِن كلِّ عقيدة أخرى، وأن ما فيه من العبادات والأخلاق، والشرائع، والتحليل والتحريم، ونظام الدولة والمجتمع، أعلى مِن كلِّ ما سبقه مِن الرسالات والكتب السماوية؛ فضلًا عمَّا وضعه الناس بآرائهم. ومع ذلك فعداوة اليهود لنا أشد العداوة، وكفرهم أعظم الكفر؛ رغم أن المنطلقات التي عندهم كانت تُوجِب عليهم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن ورقةُ بن نوفل، وكما آمن عبد الله بن سلام، ولكن قَتَل الحسدُ قلوبَ كبراء اليهود مِن زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا! فهذه الآيات البيِّنات من صورة النساء تبيِّن كفرَ اليهود وشركهم، وعداوتهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، مع أنهم مِن آل إبراهيم الذين آتاهم اللهُ المُلْكَ العظيم في نسل إسحاق ويعقوب، ثم في نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم أبي الأمة العظيمة. ثم جاء الدور على الأمة العظيمة ورؤسائها مِن خُلَفَاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) (رواه مسلم)؛ على خلاف بين العلماء في هذا الحديث؛ إلا أنه يتوافق مع ما ورد في التوراة، والظاهر أنهم خلفاء هذه الأمة الراشدون -كما سبق أن شرحناه في مواضع أخرى-. فقوله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا). قال ابن كثير رحمه الله: "أما الجبت: فقال محمد بن إسحاق عن حَسَّان بن فائدٍ، عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، والضحاك، والسدي. وعن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وأبي مالك، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، وعطية: الجبت: الشيطان. وزاد ابن عباس: بالحبشية. وعن ابن عباس أيضًا: الجبت: الشرك. وعنه: الجبت: الأصنام. وعن الشعبي: الجبت: الكاهن. وعن ابن عباس: الجبت: حيي بن أخطب. وعن مجاهد: الجبت: كعب بن الأشرف. وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه: "الصحاح": الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر، ونحو ذلك، وفي الحديث: "الطيرة والعيافة، والطَّرْق من الجبت" (قلتُ: الطيرة: التشاؤم، وكذا التفاؤل بالطيور. والعيافة: زجر الطير؛ لتتجه يمينًا أو شمالًا، فيأخذ منها مسارًا يسير فيه بناءً على الاتجاه الذي ذهبتْ فيه؛ فإن خرجت يمينًا سافر، وإن خرجتْ يسارًا لم يسافر. والطَّرْق: الخطوط التي يفعلها الكهان، ثم يقرأون منها الغيب بزعمهم كقراءة الفنجان!). قال: وليس هذا من محض العربية؛ لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي. وهذا الحديث الذي ذكره رواه الإمام أحمد في مسنده عن قَطَن بن قبيصة، عن أبيه -وهو قبيصة بن مخارق- أنه سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت"، وقال عوف: العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يُخَطُّ في الأرض. والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. وهكذا رواه أبو داود في سننه، والنسائي، وابن أبي حاتم (وهو حديث حسن). وقد تقدَّم الكلام على "الطاغوت" في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا. (قلتُ: والصحيح أنه كلُّ مَن عُبِد مِن دون الله وهو راضٍ، وكذا كل مَن اتبع على غير شرع الله عز وجل، وعلى غير بصيرة من الله؛ ولذا فهو يشمل: الشيطان، والكاهن، والساحر، والحاكم بغير ما أنزل الله، والحاكم المبدِّل لشرع الله). وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله أنه سُئِل عن "الطواغيت"، فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين. وقال مجاهد: الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم. وقال الإمام مالك: هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ). وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (68) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: "(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) أي: يفضِّلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما أنتم وما محمد. فقالوا: نحن نصل الأرحام، ونَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، ونسقي الماء على اللبن، ونَفُكُّ الْعُنَاةَ، ونسقي الحجيج، ومحمد صُنْبُور؛ قطع أرحامنا، واتبعه سُرَّاق الحجيج بنو غِفَار؛ فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلًا؛ فأنزل الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السَّلَف. وقال الإمام أحمد: عن ابن عباس قال: لما قَدِم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتِر من قومه؟! يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية! قال: أنتم خير! قال فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) (الكوثر:3) -(قال الشيخ محمود شاكر رحمه الله: الصنبور: سفعات تنبت في جذع النخلة، غير مستأرضة في الأرض. ثم قالوا للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له، ولا عَقِب، ولا ناصر: "صنبور"؛ فأراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، صنبور نَبَت في جذع نخلة، فإذا قُلِع انقطع؛ فكذلك هو إذا مات، فلا عقب له! وكَذَبوا، ونصر الله رسوله وقطع دابر الكافرين)-. ونزل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا). وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزَّبوا الأحزاب من قريش، وغطفان، وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسَلَّامُ بن أبي الحُقَيْق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس؛ فأما وحوح وأبو عامر وهودة فمِن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قَدِموا على قريش، قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العِلْم بالكتب الأول؛ فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممَّن اتبعه! فأنزل الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) إلى قوله عز وجل: (وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا). فهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا، ولا في الآخرة؛ لأنهم إنما ذهبوا يستنصِرون بالمشركين؛ وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق؛ فكفى الله شرهم: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب:25). وقوله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا): يقول تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ)؟! وهذا استفهام إنكاري، أي: ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل، فقال: (فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) أي: لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدًا من الناس، ولا سيما محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا ما يملأ "النقير"، وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الآية كقوله -تعالى-: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ) (الإسراء:100)، أي: خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو مِن بخلكم وشحكم؛ ولهذا قال: (وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء:100) أي: بخيلًا. ثم قال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) يعني بذلك: حَسَدَهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم مِن تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب، وليس من بني إسرائيل. روى الطبراني بسنده عن ابن عباس في قوله -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) الآية، قال: نحن الناس دون الناس (قلتُ: أي: نحن المقصودون بكلمة الناس في قوله عز وجل: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) دون باق الناس). قال الله -تعالى-: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) أي: فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل -الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوةَ، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن وهي: الحكمة، وجعلنا فيهم الملوك، ومع هذا (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ) أي: بهذا الإيتاء، وهذا الإنعام، (وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ) أي: كفر به وأعرض عنه، وسَعَى في صدِّ الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي: من بني إسرائيل، فقد اختلفوا عليهم؛ فكيف بك يا محمد، ولستَ من بني إسرائيل؟! وقال مجاهد: (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ) أي: بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، (وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ) فالكفرة منهم أشد تكذيبًا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين. ولهذا قال متوعِّدًا لهم: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم، ومخالفتهم كتب الله ورسله" (انتهى من تفسير ابن كثير). قال ابن جرير رحمه الله: "الجبت والطاغوت: اسمان لكلِّ معظَّم بعبادةٍ من دون الله، أو طاعة، أو خضوع له؛ كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، مِن حجر أو إنسان أو شيطان، وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها، كانت معظَّمة بالعبادة من دون الله؛ فقد كانت جُبوتًا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولًا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله. وكذلك حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود، في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين. وفي قوله -تعالى-: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا): يعني بذلك جل ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (هَؤُلاءِ) يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر، (أَهْدَى) يعني: أقوم وأعدل (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: من الذين صَدَّقوا الله ورسوله وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، (سَبِيلًا) يعني: طريقًا. وإنما ذلك مَثَلٌ، ومعنى الكلام: أن اللهَ وَصَف الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله، أعدل وأصوبُ من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك. وأولى الأقوال بالصحة في ذلك: قولُ مَن قال: إن ذلك خبرٌ مِن الله -جل ثناؤه- عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود، وجائز أن يكون: كانت الجماعةَ الذين سمَّاهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد (يعني ابن جبير)، أو يكون حُيَيًّا، وآخَرَ معه؛ إما كعبًا، وإما غيرَه" (انتهى من تفسير الطبري بتصرفٍ واختصارٍ). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (69) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). في الآيات فوائد: الفائدة الأولى: ذَمَّ اللهُ اليهودَ بإيمانهم بالجِبْتِ، ومنه: الكهانة، والسحر، وعبادة الأوثان، وكلها مِن أمر الشيطان ورنته وصوته. والطاغوت، وهو: كل ما يُعبَد من دون الله، وهو راضٍ، وهذا الإيمان بالباطل إنما هو بموافقة أهله، وتصويب ملتهم وإن لم يعتقدوا بقلوبهم صحة عبادتها، ولكنهم يقولون ذلك مجاملة للمشركين؛ كراهية للحق الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسدًا للمؤمنين، مع أن المؤمنين أقرب إليهم نَسَبًا، وأقرب إليهم عقيدة، وكتابهم أقرب إلى كتابهم، ومع ذلك فالحسد قد أَكَل قلوبَهم! وهذا الذم للكفار مِن أهل الكتاب هو للمسلمين أيضًا؛ لو فعلوا فعلهم، واتَّبعوا أهل الكتاب على صنيعِهم؛ فادعاء الإيمان بالكتاب مع مخالفة ما يأمر به لا ينفع صاحبه؛ فالذين يدَّعون الإيمان بالقرآن والرسول عليه الصلاة والسلام من المسلمين، ثم يتعاملون بالسحر الذي يتضمَّن كفرًا، ويأتون الكهان والعرافين والمنجمين مدعي علم الغيب، ومنهم: قارئي الأبراج الذين يدَّعون معرفة ما في الغدِ مِن خلال تاريخ الميلاد، والبرج الذي وُلِد فيه الإنسان، وادِّعاء صفات ملازمة لكلِّ برج ومواليده، وبالتالي يتوقَّعون أنماطًا للشخصية بناءً على ذلك! وللأسف: هذا من أكثر مواقع المطالعة على شبكة الإنترنت، وكل هذا ينافي الإيمان بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام. ومِن الإيمان بالطاغوت في زماننا: مَن يصححون عبادة غير الله، ويرون مَن يعبد البقرَ مثلًا على حضارة ورُقِيٍّ! وكذا مَن يَعْبُد "بوذا" عندهم، بل ويعلنون ذلك! ويعلنون كراهيتهم أن يزدري المسلمون هذه العقائد الفاسدة الكفرية، والتي كفرها معلومٌ مِن الدِّين بالضرورة؛ أما اليهود والنصارى عندهم؛ فهم مؤمنون! يدخلون الجنة التي زعموا كفرًا وزورًا أنها ليست حِكْرًا على المسلمين، وغير ذلك من الضلالات: كوصف قتلاهم بالشهداء، والترحُّم عليهم، والصلاة عليهم، والاستغفار لهم، وإهداء ثواب الأعمال لهم: كقراءة الفاتحة لهم. وكذلك تهنئة الأحياء منهم بأعيادهم الشركية؛ بزعم أن هذا مِن البرِّ والقِسْط، وهذا من الكذب على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلو كان منه -من البرِّ- لبادر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته امتثالًا لأمر الله؛ لأنهم أحرص الناس على البرِّ والقسط الذي أمر اللهُ به؛ كيف وقد ثَبَت عنهم النهي عن ذلك والتحذير منه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال الله عز وجل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18)، وقد دخل في أهوائهم: كل ما يهوونه، ومِن ذلك: ما يهوونه مِن تعظيم المسلمين لعيدهم وتهنئتهم لهم، روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر -رضي الله عنه- قال: "لَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ"، وروى البيهقي أيضًا بإسنادٍ جيدٍ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "مَنْ مَرَّ بِبِلَادِ الْأَعَاجِمِ فَصَنَعَ نَيْرُوزَهُمْ وَمَهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ، حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا يجوز للمسلمين حضور أعياد المشركين باتفاق أهل العلم الذين هم أهله، وقد صَرَّح به الفقهاء مِن أتباع المذاهب الأربعة في كتبهم" (أحكام أهل الذمة). وروى ابن جرير وغيره عن: أبي العالية، وطاوس، وابن سيرين، والضحاك، وغيرهم، في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان: 72)؛ قالوا: "هي أعياد المشركين". قال أبو حفص الكبير الحنفي -رحمه الله-: "لو أن رجلًا عَبَد الله تعالى خمسين سنة، ثم جاء يوم النيروز وأهدى إلى بعض المشركين بَيْضَة يريد تعظيم ذلك اليوم؛ فقد كَفَر وحَبِط عملُه". وقال صاحب الجامع الأصغر -أيضًا من الحنفية-: "إذا أهدى يوم النيروز إلى مسلمٍ آخر، ولم يُرِد به تعظيم اليوم، ولكن على ما اعتاده بعض الناس؛ لا يكفر، ولكن ينبغي أن لا يفعل ذلك في هذا اليوم خاصة، ولكن يفعله قبله أو بعده؛ لكيلا يكون تشبيهًا بهؤلاء القوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ). وقال في الجامع الأصغر: "رجل اشترى يوم النيروز شيئًا يشتريه الكفرة منه، وهو لم يكن يشتريه قبل ذلك؛ إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما تعظِّمه المشركون كفر، وإن أراد الأكل والشرب والتنعم لا يكفر" (انتهى من البحر الرائق شرح كنز الدقائق للعلامة ابن نُجيم الحنفي 8/ 555). وأما المالكية: فقد صَرَّح أشهب -كما في العتبية- قال: "قيل لمالك: أترى بأسًا أن يهدي الرجل لجاره النصراني مكافأة له على هدية أهداها إليه؟ قال: ما يعجبني ذلك، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآية (الممتحنة: 1). قال ابن رشد -رحمه الله-: قوله: مكافأة له على هدية أهداها إليه؛ إذ لا ينبغي له أن يقبل منه هدية؛ لأن المقصودَ من الهداية التودد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء"؛ فإن أخطأ وقَبِل منه هديته وفاتت عنده، فالأحسن أن يكافئه عليها حتى لا يكون له عليه فضل في معروفٍ صَنَعَه معه. وسُئِل مالك -رحمه الله- عن مؤاكلة النصراني في إناءٍ واحدٍ، قال: "تركه أحب إليَّ، ولا يُصَادِق نصرانيًّا. قال ابن رشد رحمه الله: الوجه في وَجْهِ مُصَادِقة النصراني بيِّن؛ لأن اللهَ -عز وجل- يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة:22). ومِن مختصر الواضحة: "سُئِل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي يركب فيها النصارى لأعيادهم؛ فكَرِه ذلك مخافة نزول السَّخَط عليهم لكفرهم الذي اجتمعوا له. قال: وكَرِه ابنُ القاسم للمسلم أن يهدي للنصراني في عيده مكافأة له، ورآه مِن تعظيم عيده وعونًا له على مصلحة كفره؛ ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئًا من مصلحة عيدهم؛ لا لحمًا، ولا إدامًا، ولا ثوبًا، ولا يُعَارون دابة، ولا يعانون على شيءٍ مِن دينهم؛ لأن ذلك مِن التعظيم لشركهم، وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك، ولا أعلم أحدًا اختلف في ذلك (انتهى كلام ابن القاسم). ويُمنَع التشبُّه بهم؛ لما ورد في الحديث: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)، ومعنى ذلك: تنفير المسلمين عن موافقة الكفار في كلِّ ما اختصوا به، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكره موافقة أهل الكتاب في كلِّ أحوالهم حتى قالت اليهود: "إن محمدًا يريد أن لا يَدَع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه". وقد جَمَع هؤلاء بين التشبُّه بهم فيما ذُكِر والإعانة لهم على كفرهم، ويزدادون به طغيانًا؛ إذ إنهم إذا رأوا المسلمين يوافقونهم أو يساعدونهم أو هما معًا؛ كان ذلك سببًا لغبطتهم بدينهم" (انتهى من المدخل لابن الحاج المالكي باختصارٍ 2 /46- 48). (قلتُ: ما ذكره ابن القاسم عن الإمام مالك في كراهية الإهداء؛ إنما هو فيما إذا أراد بذلك التودد، ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، حين رَدَّ هدية مشرك، وأما ما ثَبَت أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبِل هدايا مِن بعض المشركين وأهدى إليهم؛ كما قَبِل من أُكَيْدِرِ دُومَة، وقَبِل مِن المقوقس، ومِن غيرهما؛ فهذا فيما لم يُرَد به التودد). وقال الإمام الدميري من الشافعية -رحم الله- في فصل التعزير: "تتمة: يُعزَّر مَن وافق الكفار في أعيادهم، ومَن يمسك الحية، ومَن يدخل النار، ومَن قال لذمي: يا حاج، ومَن هنَّأه بعيده، ومن سَمَّى زائر قبور الصالحين حاجًّا، والساعي بالنميمة؛ لكثرة إفسادها بين الناس" (انتهى من النجم الوهاج في شرح المنهاج للعلامة الدميري الشافعي). وكذا قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (4/ 191). وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في باب الردة: "ثم رأيتُ بعض أئمتنا المتأخرين ذَكَر ما يوافِق ما ذكرتُه، فقال: ومِن أقبح البدع: موافقة المسلمين النصارى في أعيادهم؛ بالتشبه بأكلهم، والهدية لهم، وقبول هديتهم فيه، وأكثر الناس اعتناءً بذلك: المصريون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)، بل قال ابن الحاج: لا يحل لمسلمٍ أن يبيع نصرانيًّا شيئًا مِن مصلحة عيده؛ لا لحمًا، ولا أدمًا، ولا ثوبًا، ولا يُعَارون شيئًا ولو دابة؛ إذ هو معاونة لهم على كفرهم، وعلى وُلَاة الأمر منعُ المسلمين من ذلك. ومنها: اهتمامهم في النيروز بأكل الهريسة، واستعمال البخور في خميس العيدين سبع مرات؛ زاعمين أنه يدفع الكسل والمرض، وصبغ البيض أصفر وأحمر، وبيعه، والأدوية في السبت الذي يسمونه: "سبت النور!"، وهو في الحقيقة سبت الظلام، ويشترون فيه الشبت، ويقولون: إنه للبركة، ويجمعون ورق الشجر ويلقونها في ليلة السبت بماءٍ يغتسلون فيه لزوال السحر، ويكتحلون فيه لزيادة نور أعينهم، ويدهنون فيه بالكبريت والزيت، ويجلسون عرايا في الشمس؛ لدفع الجَرَب والحَكَّة، ويطبخون طعام اللبن، ويأكلونه في الحمام، إلى غير ذلك من البدع التي اخترعوها. ويجب منعهم من التظاهر بأعيادهم" (انتهى من الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي 4/ 238 -239). وأما الحنابلة: فقد قال العلامة البهوتي في "كشف القناع عن متن الإقناع": "وقال الشيخ: يحرم شهود عيد اليهود والنصارى، وغيرهم من الكفار وبيعه لهم فيه، وفي المنتهى: لا نبيع لهم فيه. ومهاداتهم لعيدهم؛ لما في ذلك مِن تعظيمهم، فيشبه بداءتهم بالسلام، ويحرم بيعهم وإجارتهم ما يعملونه كنيسة أو تمثالًا -أي: صنمًا- ونحوه، كالذي يعملونه صليبًا؛ لأنه إعانة لهم على كفرهم، وقال تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، ويحرم كلُّ ما فيه تخصيص لعيدهم وتمييز لهم، وهو مِن التشبه بهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعًا؛ للخبر. وتجب عقوبة فاعله" (انتهى من كشف القناع على متن الإقناع للبهوتي 3 /131). |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (70) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). الفائدة الثانية: ما يقع في زماننا مِن تصويبِ بعض مَن ينتسب إلى الإسلام لجميع الملل؛ خاصة اليهودية والنصرانية، وتشبههم باليهود الذين كان إيمانهم بالجبت والطاغوت ليس عن اعتقادٍ منهم لصحة عبادة الأوثان، بل كان مجاملة للمشركين، في سبيل تحريضهم على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فَذَمَّهم اللهُ أعظم الذمِّ، وجعلهم مؤمنين بالجبت والطاغوت كفارًا بالله مِن أجل ذلك! فليحذر أهل الإسلام من ذلك؛ فإن كلَّ مَن رضيَ بعبادة غير الله ولو مِن غيره؛ فقد نقض شهادة: "أن لا إله الله"، ومَن صَحَّح مِلَّةَ منَ يكذِّب الرسول صلى الله عليه وسلم ويكذِّب القرآن "كلام الله"؛ فقد نقض شهادة: "أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد صار مِن الفتنة في زماننا أن يُمتحَن البعضُ في هذه المسألة؛ فإن قال بالحق الذي هو مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم، بل لا يُعلم فيه خلاف أصلًا عن أحدٍ مِن المسلمين؛ مُنِع من الإمامة والفُتيا والخطابة، وتولي أي وظيفةٍ دينيةٍ! لأنه عندهم تكفيري؛ لأنه يكفِّر اليهود والنصارى! وهذا والله مِن الخطر العظيم، وتحريف الدِّين، ونشر الفساد في الأرض. فإلى الله المشتكى. الفائدة الثالثة: قولُ اليهود عن المشركين عُبَّاد الأوثان: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)، هو أيضًا مِن المداهنة في الدِّين؛ فإن النهي عن اتخاذ الصور والأصنام في التوراة ثابت إلى زماننا هذا؛ ففي التوراة في (سِفْر الخروج الإصحاح 20): "لا يكن لكَ آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن" (انتهى). ومع ذلك فقد قال اليهود للمشركين: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) مداهنة لهم؛ لكي يحققوا لهم ما يريدون مِن تجييش الجيوش، وتحزيب الأحزاب؛ لحرب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وهم يقولون اليوم فيما يسمونه: بـ"الدِّين الإبراهيمي الجديد" الذي يروِّجون له، يقولون فيه بمساواة الملل! والبحث عما يسمونه: "القِيَم المشتركة بين الأديان"؛ حتى مع الهندوس -عُبَّاد البقر-، والبوذيين -عُبَّاد بوذا-؛ فضلًا عن النصارى الذين يكفِّرونهم، وكذا المسلمين. ولا يجوز لمسلم أن يدعو إلى ما يُسَمَّى بالقِيَم المشتركة بين الأديان، مع إظهار المحبة للكفار الملحدين المائلين عن الحق؛ فإن هذه القِيَم المشتركة إن لم يكن معها عقيدة صحيحة، لا ينفع صاحبها شيءٌ مِن ذلك. ومِن هذا الباب: ما يقع في زماننا مِن مداهنة الكثيرين لأهل الملل الأخرى، وتصحيح هذه الملل، والقول بأنهم أهدى سبيلًا ممَّن يسمونهم المتطرفين مِن الجماعات الإسلامية، وهم عندهم الذين لا يوافقونهم على أهوائهم في تحريف الدِّين، ومخالفة النصوص الصريحة، بل استنكر بعضُهم عدم تكفير الأزهر لـ"داعش، وجبهة النصرة، والقاعدة"، مع أنهم خوارج، ولكن لا يكفيهم التبديع، ولا يرضون إلا بالتكفير؛ مع أنهم لا يكفِّرون أهل الملل الأخرى! وهذه المداهنة مما حذَّرنا الله عز وجل منها في كتابه، فقال: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: 73-75). وأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لمَن عَرَض عليه مِن الكافرين: نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة؛ فأنزل الله عليه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 1-6). فلا يمكن أن يكون عابدًا لله مَن يشرك بالله عز وجل؛ حتى لو أقرَّ بوجوده، ولو صَرَف له أنواعًا مِن العبادات، كما كان المشركون يقولون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك؛ إلا شريكًا هو لك، ملكته وما مَلَك"؛ فالشرك محبط للعمل، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65-66). فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يستحيل منه أن يقع منه معصية فضلًا عن الشرك؛ إذا أشرك حبط عمله؛ فكيف بمَن دونه؟! ولذا قال الله تعالى: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). فكيف يقول مَن يَنْتسِب إلى الإسلام بأن: اليهود والنصارى، والمجوس، والبوذيين، والهندوس؛ كلهم نحبهم، وكلهم بينهم قَدْر مشترك، ولا يفسد الخلاف الذي بينهم للود قضية؟! فنحن لا نحتاج اليوم إلى إبراز القِيَم المشتركة بين الأديان، بل نحتاج إلى إبراز القِيَم الفَارِقَة؛ فهذا الفرقان الذي أنزله الله بين الحق والباطل، وهو "القرآن العظيم"، وما بيَّنه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لا بد وأن يُبَيَّن للناس؛ أن الإسلام هو الدِّين الحق، لا دين عند الله سواه، وهو دين إبراهيم، ودين موسى، ودين عيسى، ولا نداهن، ولا نقول كما قال رؤساء اليهود للمشركين: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). الفائدة الرابعة: حَكَم اللهُ عز وجل باللعن على مَن دَاهَن في الدِّين، وقال عن المشركين: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)، وهذا الطرد مِن رحمة الله والإبعاد عن جنته، طردٌ أبدي وخلود لصاحبه في نار جهنم، فالله عز وجل حَكَم بلعنهم، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا)؛ ولذلك فلا بد وأن يُخذَل هؤلاء "وأمثالهم ممَّن يُدَاهِن في الدِّين، وممَّن يسوي بين الحق والباطل". واليهود لا بد وأن يزول نصرُهم، ولا بد أن يُهدَم سلطانُهم؛ لأنهم لا نَصِير لهم مِن الله؛ خاصة بعد ما ازدادوا كُفْرًا وعُدْوانًا؛ بانتهاك حُرُمات المسلمين، وبمحاولات تضليل المسلمين بما اخترعوا مِن "الدِّين الإبراهيمي الجديد"، ومَن وافق على هذا الدِّين ونَشَرَه، وخَرَج مِن الإسلام بسببه؛ فإنه ملعونٌ كما لُعِن هؤلاء، ومخذولٌ غير منصورٍ كما لم يُنصَر هؤلاء. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (71) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). الفائدة الخامسة: دَلَّ قوله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) على بُخْل اليهودِ الشديد، وحبِّهم الاستئثار بالمُلْك وبالمال، وهذه حقيقة يعلمها كلُّ مَن عامل اليهود. ولقد استحوذوا على الكراهية الشديدة في كلِّ الشعوب التي عاشوا فيها؛ فقد صَاغ الأدباء الأوروبيون القُدَامى بخلَ اليهود وعداوتهم للناس في رواياتهم، كالرواية المشهورة: "تاجر البندقية"؛ التي ألَّفها "شكسبير" الإنجليزي. وقد كانت الحويصلات التي عاشوا فيها؛ سببًا لانعزالهم المعنوي عن الناس، مع اهتمامهم البالغ بالمال، وأكلهم الربا أضعافًا مضاعفه، وأكلهم السحت، وهو: الحرام بأنواعه مِن الرشوة والغش، وبخس الناس أشياءهم؛ قال -تعالى-: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء: 161)، وقال -تعالى-: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة: 42)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 75). وفي سبب نزول قوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء: 60-61): أن الخصومةَ التي وقعتْ بين أحد المنافقين وبين يهودي، فطلب المنافقُ التحاكمَ إلى كعب بن الأشرف؛ عَلِم أنه يأخذ الرشوة، وطلب خصمه اليهودي التحاكم إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ عَلِم أنه لا يأكل الرشوة. (ذكره ابن جرير وابن كثير). ولذا نستفيد من هذه الآية الكريمة: أن اليهودَ إذا أخذوا شيئًا؛ فلن يعطوا منه نقيرًا؛ فضلًا عمَّا هو أكثر منه، والنقير هو: النُّقْرَة التي تكون في ظهر النواة، يخرج منها نبات النخلة، فمَن يحلمون بأن يعطيهم اليهود شيئًا بالسلام؛ مما أخذه اليهود مِن: الأرض أو البلاد، أو المال؛ فهم واهمون، ومخطئون أشد الخطأ، بل في الحقيقة هم مشاركون لليهود في ظلمهم وعدوانهم على المسلمين، والمفاوضات مع اليهود لا تُثمِر شيئًا؛ إلا إذا خرجوا منها رابحين، ولن ينسحبوا مِن أرضٍ أخذوها؛ إلا أن تُنزع منهم نزعًا، فهل بعد بيان الله لنا عن حقيقتهم مِن بيان؟! الفائدة السادسة: دَلَّ قوله -تعالى-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) على شِدَّة حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عَبْر الزمان، وقد بيَّن اللهُ لنا في القرآن حرصهم، وحبهم لكفر المؤمنين وتركهم دين الإسلام؛ بسبب حسدهم لهم، فقال -تعالى-: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (آل عمران: 69). فالحسد الذي قَتَل قلوبهم، وملأها عن آخرها على المسلمين؛ بسببه كانوا مِن وراء دعوات الانحراف عن الدِّين، ومحاولات إضلال المسلمين، وقد كان عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ادَّعى الإسلام نفاقًا مِن وراء الثورة على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، والتي انتهت بقتله، ثم كان مِن وراء خطة إشعال القِتَال ليلة الجمل، بعد أن اتفق الصحابة رضي الله عنهم: علي وطلحة والزبير، وعائشة رضي الله عنهم، على الصلح والتسكين. قال ابن كثير رحمه الله: "قال: وأشرف القومُ (قلتُ: يعني الصحابة) على الصلح؛ كره ذلك مَن كرهه، ورضيه مَن رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي رضي الله عنهما تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبًا؛ فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأَنْ جَمَعَهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان، ثم حَدَث هذا الحَدَث الذي جَرَى على الأمة؛ أقوام طلبوا الدنيا، وحسدوا مَن أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي مَنَّ الله بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ثم قال: ألا إني مرتحل غدًا؛ فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحدٌ أعان على قتل عثمان بشيءٍ مِن أمور الناس. فلما قال هذا اجتمع جماعة من رؤوسهم (قلتُ: يعني قتلة عثمان): كالْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى، وعبد الله بن سَبَأ المعروف: بابن السوداء (قلتُ: وكان يهوديًّا فأسلم)، وسالم بن ثعلبة، وَعِلْبَاء بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي. ولله الحمد. فقالوا: ما هذا الرأي؟! وعلي واللهِ أعلمُ بكتابِ الله ممَّن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدًا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم؛ فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟! فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا (قلتُ: يعني أنهم يريدون قتلهم)، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا؛ فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليًّا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت. فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا؛ فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم. فقال عِلْبَاء بن الهيثم: دعوهم، وارجعوا بنا حتى نتعلَّق ببعض البلاد، فنمتنع بها. فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذًا والله كان يتخطفكم الناس. ثم قال ابن السوداء -قَبَّحه الله-: يا قوم، إن عِزَّكُمْ في خُلْطَة الناس؛ فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس، ولا تدعوهم يجتمعون، فمَن أنتم معه لا يجد بدًّا مِن أي يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومَن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون؛ فأبْصَروا الرأي وتَفَرَّقوا عليه" (البداية والنهاية، ط. دار هجر، 10 / 450-452). ثم قال ابن كثير رحمه الله -بعد أن ذكر الصلح بين الصحابة رضي الله عنهم-: "وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون، وأجمعوا على أن يُثِيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب مِن ألفي رجل، فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم. وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلًا، وبيَّتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ مِن أصحاب علي؛ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه، ولبسوا اللأمة، وركبوا الخيول، ولا يشعر أحدٌ منهم بما وَقَع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا، وقامت الحرب على سَاقٍ وقَدَمٍ، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان، فنشبت الحرب" (البداية والنهاية، ط. دار هجر، 10/ 455). وإنا لله وإنا إليه راجعون. وأيضًا كان عبد الله بن سبأ هو أول مَن دعا إلى الغلو في علي رضي الله عنه؛ فادَّعى فيه الإلهية، وتَبِعه القومُ؛ فطلبه عليٌّ فهرب وأدرك أصحابه، فدعاهم إلى التوبة والرجوع إلى الإسلام؛ وإلا حَرَّقهم فأبوا حتى حرقهم علي رضي الله عنه، وخطَّأه ابن عباس في التحريق وصوَّبه في القتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) (رواه البخاري). ولا تزال بقايا الغلو في الرافضة في علي بن أبي طالب، حتى قال قائلهم: "علي جاعل الأرض مهادًا، وباني فوقكم سَبْعًا شدادًا، يدبرِّ الأفلاك!"، وكل ذلك من الكفر -والعياذ بالله-، واليهود هم أصل ذلك. كما أن اليهودَ هم أصل قول فرقة الجهمية الحلولية القائلين: "إن الله في كلِّ مكان!"، وأنكروا علوَّ الله على عرشه، فالجهم بن صفوان الذي تُنسَب إليه هذه الفرقة الضالة؛ شيخه الجعد بن درهم. قال ابن كثير رحمه الله: "كان الجعد بن درهم مِن أهل الشام، وهو مؤدِّب مروان الحمار؛ ولهذا يُقَال له: مروان الجعدي؛ فنُسِب إليه، وهو شيخ الجهم بن صفون الذي تُنسَب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون: إن الله في كل مكان بذاته؛ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي" (البداية والنهاية، ط. دار هجر، 13/ 199). قلتُ: وهو الذي سَحَر النبي صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله عز وجل. ثم كان اليهود هم الذين خَرَج منهم أعظم الملاحدة ضررًا على البشرية، مثل: "كارل مركس"، ثم "لينين" الذي قَتَل من المسلمين في تكوين دولة الاتحاد السوفيتي نحو الـ 20 مليون مسلم، وكذا كان "فرويد" الذي هو أصل فلسفة الجنس، والانحرافات الجنسية الذي يُنسَب إليه عِلْم النَّفْس، ويبني أمره على الرغبات الجنسية المُحَرَّمة. فاليهود هم شرُّ مِن أفسد في العَالَم بكونهم يحبون الاستئثار بالمُلْك، ويستبيحون إضلالَ الناس؛ بأنواع الكفر والزندقة عَبْر الزمان. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (72) عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحسدهم لهم رغم أنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (النساء: 51-55). الفائدة السابعة: قوله تعالى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا): دليل على أن المُلْكَ في آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم عريقًا عَبْر الزمان، وأعظمه: ملك سليمان صلى الله عليه وسلم، الذي دعا ربَّه: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَ?ذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (ص: 35-39). وقد دل قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا) (متفق عليه)، على أن الله استجاب لسليمان، ولم يجعل لأحدٍ ملكًا كملكه؛ هذا من جهة النوعية: كتسخير الجن والريح، وإن كان لا يمنع ذلك أن يتسع ملك بعض الملوك، ومِن ذلك مُلك الأمة، إلى أوسع مما بلغه ملك سليمان في المشارق والمغارب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ) (رواه مسلم). وذكر الله عز وجل إيتاء آل إبراهيم المُلكَ والحكمة، وإيتاءهم الملك العظيم في سياق الرد على حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، دليل على أمرين: الأول: أن اليهودَ منهم مَن كفر بالحق رغم الملك العظيم، ورغم ظهور أدلة النبوة التي هي أعظم الحكمة؛ فليس مستبعدًا بعد ذلك كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحسدهم له وللمؤمنين. الثاني: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فهو أهل أن يؤتى الملك، وأن تؤتاه أمته وأتباعه؛ خاصة أنه شرع صلى الله عليه وسلم أن الأئمة مِن قريش، كما ثبت به الحديث الصحيح، وقريش من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أبناء إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت ذلك في التوراة، كما سبق أن ذكرنا في هذه المقالات أن من ذرية إسماعيل اثني عشر رئيسًا، وقد وقع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن ملك أمته وأصحابه؛ خاصة الخلفاء الراشدين والملوك العادلين، وكما أخبرت به التوراة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ) (متفق عليه). يعني: الخلافة. وفي رواية: (لَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) (رواه مسلم)، وكلهم من نسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالتبعية. وفي الآية بشارة إلى أن الله يبقي الملك في آل إبراهيم، وهم مَن كان على ملته مِن أتباعه وذريته، وهذا لا يحصل إلا بأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم وحدهم الذين على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما ملك اليهود؛ فملك عارض سرعان ما يزول، كما يحدث في زماننا، فظلمهم وإجرامهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله من أعظم أسباب زوال ملكهم ومحقهم، كما قال الله عز وجل: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 140-141). وأعظم ملك لليهود يكون في زمن الدجال، وهو كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي، قال صلى الله عليه وسلم: (يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا، عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ) (رواه مسلم). والظاهر من الأحاديث: أنهم يملكون فلسطين، ويكون الدجال قرب القدس عند نزول المسيح صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يطلب المسيح الدجال فيدركه بباب لُدٍّ، وهي مِن قرى بيت المقدس، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب المِلْح في الماء، فلو تركه لذاب، ولكن يقتله ويريهم دمه في حربته، كما دَلَّ عليه حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم. ومدة لبث الدجال في الأرض وملك اليهود معه، وهو الذي ينتظرونه أشد انتظار، ويظنون أنه مسيح الحق وهم قد كفروا بالمسيح الحق مسيح الهدى صلى الله عليه وسلم، فهم ينتظرون مسيح الضلالة؛ ملكه لا يزيد عن أربعين يومًا، منها: يوم كسنة، ومنها: يوم كشهر، ومنها: يوم كجمعه، وسائر أيامه كأيامكم كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان. فملك اليهود زائل -بإذن الله- لا محالة؛ فلا تيأسوا أيها المسلمون، ولا تغتروا ببقاء ملكهم، فعن قريب يزول -بإذن الله-. الفائدة الثامنة: دَلَّ قوله تعالى: (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ? وَكَفَى? بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا): أن بني إسرائيل رغم ظهور علامات النبوة، وهي كما بيَّنا أعظم أقسام الحكمة، ورغم ظهور المُلك في آل إبراهيم؛ إلا أن منهم مَن كفروا وصدوا أنفسهم وصدوا الناس عن الإيمان بنبوة الأنبياء، بل كما قال الله عز وجل: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (البقرة: 87). فهكذا فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذَّبوه وحاربوه، وحاولوا قتله مرات كما في سبب غزوة بني النضير؛ إذ أرادوا إلقاء رحى عظيمة عليه صلى الله عليه وسلم، وهو جالس لديهم، وحاولوا قتله وأصحابه، واستئصال الإسلام والمسلمين في غزوة الأحزاب التي دبَّرها ومكر بها حيي بن أخطب القرظي، وأيضًا حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم بالسم يوم خيبر، ولا يزال بقاياهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم، ويصدون الناس عنه بأنواع الضلالات التي ينشرونها، ومنها: ما يزعمونه مِن الدِّين الإبراهيمي الجديد الذي هو دين الدجاجلة والكذابين! كما يحاولون قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ فقد قتلوا الكثير منهم؛ هم يريدون بذلك إطفاء نور الوحي في الأمة، وأن تعم فيهم الخرافة والجهل، ويسأل الرؤوس الجهال فيضلون ويضلون. فهل بعد هذا البيان من الله عز وجل عن كفرهم وعداوتهم وحسدهم يمكن أن يقبل مسلمٌ صداقتهم أو التحالف معهم، ومناصرتهم؟! ولا شك أن التحالف مع أعداء الأمة لن يعود عليها إلا بالخسران والتمكين لأعدائها، وضياع حقوقهم وحقوق المسلمين في فلسطين وغيرها، وضياع الدعوة إلى الله عز وجل في كلِّ مكان يظهر فيه التحالف مع اليهود. نسأل الله أن يكفَّ شر أعداء الأمة عنها، وأن يحفظ عليها دينها، وأن يهدي أئمتها وقادتها لإقامة الدِّين وموالاة المؤمنين، وعدم موالاة الكافرين. آمين. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (73) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) (النساء: 123-126). النزاع قديم بين المشركين وأهل الكتاب وبين المسلمين -ولا يزال كذلك-؛ وكلٌّ يدَّعي أنه على الحق، وقد حَكَم الله لأهل الإسلام فبيَّن للمشركين وأهل الكتاب مِن اليهود والنصارى: أن أمانيَّهم بأنهم أهل الحق وأن دينهم هو الحق، لا ينبني عليها حكمٌ ولا قضاءٌ ولا جزاء، وإنما الدِّين عند الله الإسلام؛ فالإسلام هو الدِّين الحق الذي هو أحسن الأديان وأحقها، بل لا حَسَن مِن الأديان غيره، ولا حق سواه، ولا يَقْبَل اللهُ عز وجل من أحدٍ دينًا غيره، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19)، وقال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85). وهذا الدِّين هو اتباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي كان حنيفًا لله، أي: محبًّا له، مُخْلِصًا له، مريدًا له، مائلًا إليه بقلبه ووجهه وكل جوارحه، معرضًا عن غيره، متبرئًا مِن كلِّ ما يُعبَد من دون الله، ومِن كل مَن يعبد غير الله، متبرئًا مِن الشرك ومن المشركين أيًّا كانت ملتهم؛ ولذا اتخذه الله خليلًا، فمَن أراد الدِّين الإبراهيمي الحق؛ فليكن كذلك حنيفًا مسلمًا، وليتبرأ من المشركين من عُبَّاد الأوثان ومِن أهل الكتاب، وإن انتسبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإن الحنيفية هي ملته، وليس الأمر بالتمني ولا بالتحلي، ولا بالادِّعاء، ولا بمجرد الانتساب، بل بموافقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في عقيدته وعمله. قال الإمام بن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات من سورة النساء: "قال قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيُّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم؛ فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إلى قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) الآية، ثم أفلج الله حجة المسلمين على مَن ناوأهم مِن أهل الأديان. وكذا رُوي عن السدي ومسروق، والضحاك، وأبي صالح، وغيرهم، وكذا رَوَى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نَسَخ كلَّ كتاب، ونبينا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم فقال: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآية، وخيَّر بين الأديان فقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، (قلتُ: خَيَّر بين الأديان، أي: بيَّن خيرها وأحسنها واختارها للناس). وقال مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب. وقالت اليهود والنصارى: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) (البقر: 111)، (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) (البقرة: 80). والمعنى في هذه الآية: أن الدِّينَ ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وَقَر بالقلب وصدقته الأعمال، وليس كل مَن ادَّعى شيئًا حَصَل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: "إنه هو المحق" سُمِع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) كقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8). وقد رُوي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثيرٍ من الصحابة، روى الإمام أحمد بسنده عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فكل سوء عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟! -(قلتُ: أي: الشدة والجهد سواء كانت بسبب الأمراض أو بسبب ضيق العيش أو الحاجة إلى الناس)-، قال: بلى. قال: "فهو ما تجزون به"، ورواه سعيد بن منصور بسنده، ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءا يُجزَ به في الدنيا". وقال أبو بكر بن مردويه: بسنده عن عبد الله بن عمر: انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا، ولا تمرُّن عليه. قال: فسها الغلام، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير، فقال: يغفر الله لك، ثلاثًا، أما والله ما علمتك إلا صوامًا قوامًا وصَّالًا للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها. قال: ثم التفت إليَّ فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به"، ورواه أبو بكر البزار، وروى في مسند ابن الزبير عن ابن بسطام، قال: كنت مع ابن عمر فمرَّ بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال: رحمك الله أبا خبيب، سمعت أباك -يعني الزبير- يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءًا يجز به في الدنيا والأخرى"، ثم قال: لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه. وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عمر يحدِّث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، هل أقرئك آية نزلت عليَّ؟"، قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصامًا في ظهري حتى تمطأتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا أبا بكر؟"، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون، فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة". وهكذا رواه ثم قال: وموسى بن عبيدة يضعف، ومولى ابن سباع مجهول" (انتهى من تفسير ابن كثير). (قلتُ: وهذه الآثار ضعيفة الإسناد؛ إلا أن المعنى ثابتٌ من أدلة كثيرة في أن المصائب والآلام يكفَّر بها مِن سيئات العِبَاد). وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (74) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) (النساء: 123-126). قال ابن جرير رحمه الله بسنده عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: "لما نزلت -يعني قوله الله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)- قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي المصائب في الدنيا". طريق أخرى عن الصديق: قال ابن مردويه عن مسروق قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء". قال ابن جرير عن أبي بكر: لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به؟! فقال: "يا أبا بكر، أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارة". حديث آخر: قال سعيد بن منصور عن عائشة: أن رجلًا تلا هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال: إنا لنجزى بكل عمل؟ هلكنا إذًا! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم، يجزى به المؤمن في الدنيا، في نفسه، في جسده، فيما يؤذيه". طريق أخرى رواها ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله، إني لأعلم أشد آية في القرآن، فقال: "ما هي يا عائشة؟" قالت: قلتُ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقال: "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها" رواه ابن جرير. طريق أخرى: روى أبو داود الطيالسي عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقالت: ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عائشة، هذه مبايعة الله للعبد، مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفزع لها، فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير". طريق أخرى: روى ابن مردويه عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفيظ عند الموت". -الفيظ: يقال فاظت وفاضت روحه لغتان، إذا خرجت روحه-. وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه". حديث آخر رواه سعيد بن منصور عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة؛ حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها" هكذا رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء. قال: "أما والذي نفسي بيده إنها لكما نزلت، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم في الدنيا إلا كفر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه". وقال عطاء بن يسار عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المؤمن مِن نصب ولا وصب، ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر به من سيئاته" أخرجاه (البخاري ومسلم في صحيحهما). حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا؟ ما لنا بها؟ قال: "كفارات". قال أُبَيٌّ -يعني أُبَي بن كعب-: وإن قَلَّت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها"، قال: فدعا أبي على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت (الوعك ارتفاع درجة الحرارة، أي: الحمى)، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حره؛ حتى مات رضي الله عنه. تفرد به أحمد. حديث آخر: رواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)؟ قال: "نعم، ومَن يعمل حسنة يجزى بها عشرًا، فهلك مَن غلب واحدتُه عشرًا". وروى ابن جرير عن الحسن: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: الكافر، ثم قرأ: "وهل نجازي إلا الكفور"، وهكذا روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير: أنهما فسَّرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا. (قلتُ: الأحاديث السابقة الصحيحة تدل على فهم الصحابة رضي الله عنهم للآية على عمومها، وتأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكن ذَكَر تكفير السيئات بالمصائب؛ فدل ذلك على أن العبرةَ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإننا قد رجَّحنا أن الخطابَ في قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أنه خطاب للمشركين وأهل الكتاب، ولكن القاعدة الكلية العامة في قوله عز وجل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) على عمومها كما بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنزاع كان بين المشركين وبين أهل الكتاب أيهم أحسن دينًا؛ ففلج الله حجة المسلمين بأن بيَّن أن أحسن الدِّين هو مَن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا، ومع ذلك بقي قوله عز وجل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا). وأما قول ابن عباس رضي الله عنه وسعيد بن جبير والحسن أن ذلك هو الشرك فنعم؛ لأن الشركَ أعظم سيئة، وهي السيئة التي لا ينجو الإنسان إذا مات وهو عليها ولم يتب إلى الله عز وجل منها، فلا بد أن يجزى بهذه السيئة عذاب الخلود في النار، ولا يمنع من ذلك: أن السيئات دون الشرك داخلة في عموم الآية ويُجزَى بها المؤمن بالمصائب، وأما الكافر فيُمتَّع في الحياة الدنيا، فيلقى الله عز وجل ولم يُخَفَّف عنه شيء). قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. رواه ابن أبي حاتم. والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال، لما تقدم من الأحاديث، وهذا اختيار ابن جرير، والله أعلم". وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (75) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) لما ذكر الجزاء على السيئات، وأنه لا بد أن يؤخَذ مستحقها مِن العبد؛ إما في الدنيا وهو الأجود له، وإما في الآخرة، والعياذ بالله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة؛ شَرَع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده؛ ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو: النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو: الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير، وهما في نواة التمرة، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة، والثلاثة في القرآن. ثم قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي: أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانًا واحتسابًا، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون متابعًا للشريعة؛ فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فَقَد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمتى فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراؤون الناس، ومَن فقد المتابعة كان ضالًّا جاهلًا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة؛ ولهذا قال تعالى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدًا، أي: تاركًا له عن بصيرة، ومقبلًا على الحق بكلِّيته؛ لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه رادٌّ. وقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)؛ هذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدَى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرَّب به العبادُ له، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)، قال كثيرون من السلف: أي: قام بجميع ما أُمِر به، ووفَّى كلَّ مقامٍ مِن مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) (البقرة: 124)، الآية، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120)، الآية والآية بعدها. قال: وروى البخاري عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا لما قَدِم اليمن صلَّى الصبح بهم فقرأ: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم. وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما سمَّاه الله خليلًا؛ مِن أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْبٌ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل -وقال بعضهم: من أهل مصر- ليمتار طعاما لأهله من قِبَلِه، فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب مِن أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره مِن الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: مِن الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فقال: نعم هو من خليلي الله، فسمَّاه الله بذلك خليلًا. قال: وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته: أن يكون خبرًا إسرائيليًّا لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب، (قلتُ: قد أحسن ابن كثير في ردِّ هذا الأثر واعتباره من الإسرائيليات). وإنما سُمِّي خليلُ الله؛ لشدة محبة لربه عز وجل لما قام له مِن الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: "أما بعد، أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله"، وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا". وروى أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: عجبًا! إن الله اتخذ من خلقه خليلًا فإبراهيم خليله! وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلَّم موسى تكليمًا! وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك؛ ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول مَن يحرِّك حِلَق الجنة فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر". قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. (قلتُ: أما لفظه: "وأنا حبيب الله ولا فخر"؛ فلا شاهد له مِن حديث صحيح، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع وأول مشفع" فثابت في الصحيح، وكذا: "أنه أول مَن يحرك حِلَق الجنة" فصحيح أيضًا، وأنه أكرم الأولين والآخرين ثبت في الصحيح كما في قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة"). وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه (قلتُ: هو حديث صحيح، والرؤية المذكورة فيه هي رؤية بالقلب للرسول صلى الله عليه وسلم كما ثَبَت عن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي في المنام في أحسن صورة، والرؤية في المنام ليست رؤية بالعين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه، فالرؤية في المنام رؤية بالقلب لا بالعين، ونقل الدارمي إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بقلبه ولم يره بعينه). قال: وكذا رُوِي عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبيد بن عمير قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيِّف الناس فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلًا قائمًا، فقال: يا عبد الله، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبدٍ من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلًا. قال: مَن هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارًا حتى يفرِّق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فبمَ اتخذني الله خليلًا؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم. وروى بسنده عن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا ألقى في قلبه الوجل، حتى إن خفقان قلبه ليسمع مِن بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء" (انتهى من تفسير ابن كثير). وهذه الآثار الأخيرة أيضًا من الإسرائيليات، فالله أعلم بها. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (76) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). في الآيات الكريمة فوائد: الأولى: ظَنُّ أهل كلِّ مِلَّة أنهم على الحق، وأنهم سيدخلون الجنة إن وُجِدت آخرة؛ لا يغني عن أصحابه شيئًا، فهي أماني الباطل، وليس الدِّين بالتمني ولا بالتحلي، والانتسِاب الباطل إلى الأنبياء، وإلى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم خصوصًا، ودعوى الدِّين الإبراهيمي الذي يتساوى فيه اليهود والنصارى والمسلمون، ولكن الإيمان والدِّين هو ما وَقَر في القلب وصَدَّقه العمل، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وَقَر في القلب وصَدَّقه العمل، إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حَسَنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى! وكَذَبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". الفائدة الثانية: وجود هذه الأماني الباطلة لدى المشركين وأهل الكتاب مِن أوضح الأدلة في الردِّ على مَن يزعم أن الكفرَ يلزم فيه المعاندة، بعد معرفة الحق في باطن الإنسان، وأن مَن أخطأ الاجتهادَ في أصلِ الدِّين ولو كَذَّب اللهَ وسولَه وأشرك بالله، بل ولو ألحد، لكن باجتهاده كان ناجيًا عند الله وإن كَذَّب الرُّسُلَ والكُتُب! كما يقوله طائفة مِن زنادقة زماننا؛ فيقولون بأن نسبية الحق مطلقة، بمعنى أن كلَّ إنسان يرى نفسه على الحق، فهذا هو الحق عنده، وعند غيره من الناس شيء آخر؛ فهو حق أيضًا! فالحق عندهم متعدد، والملل كلها صواب، وكلُّ مَن تمسَّك بكلِّ ما هو عليه كان ناجيًا داخلًا الجنة، وهذا المذهب في حقيقته كفر وتكذيب للقرآن وللرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية وغيرها ترد عليهم؛ فالمشركون وأهل الكتاب يمنون أنفسهم بالجنة، والمشركون وإن لم يؤمنوا بالآخرة فهم يمنون أنفسهم بأنهم أهل الحق، لا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكذَّبهم الله، فقال لهم ولأهل الكتاب: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) إلى قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: "وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد: مِن أنه عُني بقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)، مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب؛ لأن المسلمين لم يجرِ لأمانيهم ذكر فيما مَضَى مِن الآي قبل قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)، وإنما جَرَى ذكر أمانيِّ نصيب الشيطان المفروضِ، وذلك في قوله: (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلِآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) (النساء:119)، وقوله: (عِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) (النساء:120)، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) بما قد جَرَى ذِكْرُه قَبْلُ، أحقُّ وأولى مِن ادِّعاء تأويلٍ فيه (قلتُ: يعني أن ذلك في مجادلة بين المسلمين وأهل الكتاب) لا دلالةَ عليه مِن ظاهر التنـزيل، ولا أَثَرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذًا: ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه، التي يمنيكموها وليُّكم عدوُّ الله مِن إنقاذكم ممَّن أرادكم بسوءٍ، ونصرتكم عليه وإظفاركم به، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارًا بالله وبحلمه عنهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاءَ عمله، مَن يعمل منكم سوءًا، أو مِن غيركم (يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا). ومما يدلُّ أيضًا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) مشركو العرب، كما قال مجاهد: إن اللهَ وَصَف وَعْدَ الشيطانِ ما وَعَدَ أولياءهُ، وأخبَر بحال وَعْدِه، ثم أتبع ذلك بصفة وعدِه الصادق سبحانه بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا)، وقد ذَكَر -جل ثناؤه- مع وصفِه وَعْدَ الشيطان أولياءه، وَتَمْنِيَتِهِ إياهم الأمانيّ بقوله: (يَعْدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ)، كما ذكر وَعْدَه إياهم؛ فالذي هو أشبهُ: أن يُتبعَ تمنيتَه إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عِدته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك، صَحَّ أن قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآية، إنما هو خبرٌ مِن الله عن أماني أولياء الشيطان، وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم مِن سوء الجزاء، وما إليه صائرةٌ أعمال أولياء الله مِن حُسْن الجزاء، وإنما ضمَّ جل ثناؤه أهلَ الكتاب إلى المشركين في قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ لأن أماني الفريقين مِن تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يُمَنِّيهُمُوهَا بقوله: (وَلَأُضِلَنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ)". وقال رحمه الله في قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا): "هذا قضاءٌ مِن الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلِها، يقول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) أيها الناس، وأصوبُ طريقًا، وأهدى سبيلًا (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، يقول: ممَّن استسلم وجهُه لله؛ فانقاد له بالطاعة، مصدِّقًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به مِن عند ربه" وهو محسن"، يعني: وهو عاملٌ بما أمره به ربه، محرِّم حرامه ومحلِّل حلاله، (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به بنيه مِن بعده وأوصاهم به، (حَنِيفًا) يعني: مستقيمًا على منهاجه وسبيله. وقال تعالى مبيِّنًا بطلان مذهب تعدد الحق لتعدد الأديان والملل: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ . وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (فصلت:19-23)، فقد ظنوا بربهم ظنًّا فاسدًا أهلكهم وهم يحسبون أنفسهم على الحق، وهم أعداء الله وهم يظنون أنفسهم أولياءه! وقال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف:103-105). قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "هم اليهود والنصارى؛ فأما اليهود فكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب" (رواه البخاري في صحيحه). فدلَّت الآيات على أن مَن ضَلَّ وهو يحسب أنه يحسن صُنْعًا بإعراضه عن آيات الله، وتكذيبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتقاده الفاسد في الآخرة؛ فهو أخسر الناس عملًا، ولا ينفعه ظنه أو تقليده أو اجتهاده في مخالفة رُسُل الله عز وجل، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا . خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب: 64-68)، فقد ضلوا بإضلال السادة والكبراء لهم؛ فلم ينفعهم تقليدهم، وظنهم أنهم على الحق. وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) (سبأ: 31-33) الآية؛ فقد دلَّت الآية على أن تقليدهم لكبارهم المستكبرين في الأرض لا ينفعهم، وظنهم الباطل لا يغني عنهم شيئًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، فدل هذا الحديث على أن بلوغَ خبرِ النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، ودعوته إلى التوحيد؛ كافٍ في قيام الحجة على اليهود والنصارى؛ فضلًا عن غيرهم. وكل هذه الأدلة تدل على أن الحق واحدٌ، وأن دين الإسلام دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودين إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم؛ فلا أحسن مِن هذا الدِّين، ولا يقبل مِن أحدٍ غيره، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، وقال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19). قال ابن قدامة رحمه الله في روضة الناظر -في الكلام على مسألة كلَّ مجتهدٍ مصيب، وزعم الزاعم: أن مخالفة ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن الحق؛ فهو معذور غير آثم، وهو مذهب الجاحظ-: "وأما الذي ذهب إليه الجاحظ؛ فباطل يقينًا، وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنا نعلم قطعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ اليهودَ والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلمُ أن المعاندَ العارفَ مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه" (انتهى من روضة الناظر). وهو يقصد أنهم لم يعرفوا ذلك؛ لأنهم أعرضوا عنه بعد أن بلغهم. ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص: 27)، وقال عز وجل: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة: 78)، أي: فلم ينفعهم ظنهم ذلك. وقال سبحانه وتعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (المجادلة: 18)؛ فدلَّت الآية الكريمة على أن حسبان المنافقين بحلفهم أنهم على شيء لم يجعلهم على شيء. وهذه القضية قضية مقطوع بها عند أهل الإسلام؛ في أن الدِّين واحدٌ، والحق واحد لا يتعدد؛ هو ما بُعِث به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (77) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (5) كتبه/ ياسر برهامي قال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الكريمة: فهم الصحابة رضي الله عنهم لقول الله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم على فهمهم العمومَ منه، مع توضيحه لهم: أن جزاءَ المؤمن على السيئات هو ما يصيبه في الدنيا مِن المرض والألم حتى الشوكة يشاكها كما سبقت بذلك الأحاديث التي ذكرناها في التفسير، مع أن سبب نزول هذه الآية: ادِّعاء أهل الكتاب والمشركين وتمنيهم أنهم الفائزون والناجون، وأنهم أهدى سبيلًا هو مِن أقوى الأدلة على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن هذه طريقة الصحابة في الفهم، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فصارت مِن السُّنة. وبهذا انتفعوا بالآيات التي نزلت في الكفار، ومَن سبق مِن الأمم السابقة، وكذا كفار أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأنهم عَلِموا أنَّ ما ذمَّ اللهُ المشركين وأهل الكتاب عليه هو ذم لنا إذا ما فعلناه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة في تحذير الصحابة من طريقة أهل الكتاب، كما في قصة ذات أنوط، كما روى الترمذي وصححه، وصححه الألباني عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بشرك، فمررنا بسدرة يعكف المشركون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهُ أَكْبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ! قُلْتُم -وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنو إِسْرَائِيْلَ لِمُوْسَى: (اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (الأَعْرَاف:138)، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)". وكما قال حذيفة رضي الله عنه لما قالوا له: إن قول الله -تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، أنها نزلت في بني إسرائيل، فقال لهم: "نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، أن تكون لكم كل حلوة، وتكون لهم كل مرة"، مستنكرًا علهم تخصيصهم الذم لبني إسرائيل وإن فعلوا مثل فعلهم! وهذه الطريقة مِن الفهم مِن أعظم ما ينتفع به العبدُ مِن كتاب الله؛ حتى لا يسقطَ النصوصَ على غيره رغم اختلاف حكم الإيمان عن الكفر؛ فيظن أن أوصافَ الكفار لا يُذمُّ عليها المسلمون إذا فعلوها! وهذا يقع فيه الكثيرون حيث يقولون: إن هذه الآيات نزلت في الكفار، أو في اليهود والنصارى وليست فينا، فيعمل مثل عملهم، وربما فعل الشرك والكفر كما فعلوا، مثلما يجوِّز البعض الآن دعاء الأموات من الأولياء أو مَن يظنهم أولياء، ويجوِّز طلب المدد منهم والتمسح بأضرحتهم؛ بزعم التبرك بأصحابها، والتوسل بهم، ويرد على مَن نَهَى عن ذلك بالآيات الصريحة بالنهي عن دعاء غير الله كقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف: 5-6)، وقوله -تعالى-: (َلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 106-107)، وقوله -تعالى-: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 13-14)، وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء: 56-57). وغيرها مِن الآيات الكثيرة، القاطعة الدلالة على شرك مَن دعا غير الله؛ فيردون هذه الحجة الواضحة بقولهم: إن هذه الآيات نزلت في المشركين، وأنتم تحملونها على المسلمين، وأنه لا يوجد في المسلمين مَن يعتقد عقيدتهم! مع أن مَن تأمل أحوالَ الناس الذين يعظِّمون القبور ويطلبون المدد مِن أًصحابها، يعلم يقينًا: أن عقيدتهم كاعتقاد هؤلاء المشركين في أوثانهم التي ترمز عندهم إلى الملائكة التي اعتقدوا أنها بنات الله، وأنهم ما يطلبون ذلك إلا على سبيل الشفاعة، كمَن عبدها مِن دون الله -أو مع الله- ويزعم أنها تشفع لهم، قال الله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18)، وقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3). وكان المشركون يقولون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا هو لك، ملكته وما ملك"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن قولهم: "لبيك لا شريك لك لبيك. قد قد"، أي: اكتفوا بذلك؛ فصار هؤلاء اليوم يقولون: يستطيع الولي أن يخلقَ الجنينَ في بطن المرأة، وأن يهب طالب الولد ولدًا، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدبِّر الأكوان، وأن عليًّا يدبِّر الأفلاك، وأن الكون يدبره الأقطاب؛ يظنون أنهم إذا زادوا: "بإذن الله" أن ذلك يجزئ عنهم، مع أنهم كذبوا في ذلك الاعتقاد، وفعلوا مثلما فعل المشركون حين أرادوا أن يبرروا شركهم بأن يقولوا: "إلا شريكًا هو لك، ملكته وما ملك"؛ قال الله سبحانه وتعالى في الرد عليهم: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى . تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى . إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى . أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى . فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى . وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (النجم: 19-26). وهذا كله يبيِّن: أن اعتقادَ مَن ينتسبون إلى الإسلام اليوم، بل إلى العِلْم والفتوى، مثل ما يعتقد المشركون في أوثانهم أنها على سبيل الشفاعة، وأنها مملوكة لله؛ فما دام أقرَّ بذلك جَاز أن يصرف لها: الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والحلف بها، وبعضهم يجوِّز ذلك بأنهم لا يستقلون بالفعل والتأثير، مع أن المشركين لم يقولوا ذلك، فصاروا شرًّا منهم، وذلك أن المشركين كانوا يقرون بأن مَن يدبر الأمر هو الله، قال الله -عز وجل-: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس: 31). وبعضهم يدَّعي أن ذلك على سبيل المجاز العقلي، مع أن الناس لا تعرف المجاز ولا تقصده، بل يقولون: الأولياء يسمعون ويجيبون؛ نعوذ بالله، وكل ذلك بسبب عدم انتفاعهم بالقرآن، وعدم علمهم، وعدم عملهم بقاعدة: "العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"؛ التي عمل بها الصحابة، وفهموا بها القرآن؛ فانتفعوا بآياته. وإن كان لا بد لنا هنا مِن التنبيه على أن: الانتفاع بهذه القاعدة لا يَلْزَم منه التسوية بين المسلم والكافر، ولا بين الشرك وما دونه، كما يفعله كثيرٌ ممَّن يدَّعي التَّدَبُّر، ويسير على طريقة بعض المعاصرين الذين لم يتقِنوا العِلْمَ، وجعلوا يسقطون الآيات على الواقع دون إدراكِ الفَرْق بين الشرك وبين ما دونه، وبين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، وبين كفر النوع وكفر المعيَّن، وبين الكفر بالعموم وبين تكفير نوع القائل أو الفاعل. وكذا مَن لا ينتبه إلى قضية استيفاء الشروط وانتفاء الموانع قَبْل تكفير المُعَيَّن، والتي نَبَع منها إنكار العذر بالجهل، وهو مِن أهم موانع التكفير في زماننا، وبالتالي: توسَّع في تكفير مجتمعات المسلمين، وكفَّر الملايين، بل مئات الملايين مِن المسلمين دون إقامة الحجة على مَن فعل الشرك منهم، وإزالة الشبهة فضلًا عمَّن لم يقع في الشرك، وإنما لم يَعْرِف حالَه؛ فوقع بسبب هذا: الخلل والاضطراب في مسائل الإيمان والكفر، والحق وسطٌ بين الفريقين، وعَدْل ونَصَف بين الطرفين. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (78) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). الفائدة الرابعة: دَلَّ قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) على شرط الإيمان في قبول العمل، وأن العمل لو كان صالحًا لا يقبل إلا مع الإيمان؛ فالشروط ثلاثة في قبول العمل: الأول: أن يكون صوابًا موافقًا للسنة. الثاني: أن يكون خالصًا لله. الثالث: أن يكون صاحبه مؤمنًا. وقد يظن البعض أن شرطَ الإخلاص هو شرط الإيمان، وليس كذلك؛ فقد يكون العمل صالحًا، مثل: بر الوالدين أو الإحسان إلى الفقراء كما يفعله كثيرٌ مِن المنصِّرين في إفريقيا، وغيرها، وقد يكون صاحبه يريد الثواب من الله لا يريد الرياء والسمعة، ولكنه ينتقِض عنده ركنٌ مِن أركان الإيمان كمَن قال: اتخذ الله ولدًا، أو اعتقد أن الأنبياء والملائكة أرباب، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 79-80). وكمَن يعتقدون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدبرُ الأكوان كما يقوله مَن يقوله مِن الصوفية الغلاة، أو مَن يعتقد أن عليًّا مدبر الأفلاك كما يقوله مَن يقوله مِن الشيعة، ولا يغني عنهم اعتقادهم أن هذا بإذن الله؛ فهذا قد قاله المشركون الذين كَفَّرهم الله عز وجل، وكَفَّرهم رسوله صلى الله عليه وسلم، حين قالوا في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك؛ إلا شريكًا هو لك، ملكته وما مَلَك"؛ فلم ينفعهم ذلك، ثم هذا مِن القول على الله بغير علمٍ، وافتراء الكذب على الله، قال الله عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33)، فجعل القول على الله بغير علمٍ بعد الشرك لشِدَّة غلظه؛ خاصة إذا كان ذلك متعلقًا بالله، وأسمائه وصفاته، وربوبيته وألوهيته، وقال عز وجل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) (الأنعام: 21). وأما الاحتجاج بقوله تعالى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (النازعات: 5)؛ فإن تدبيرَ أمرٍ مِن الأمور بأمرٍ مِن الله تعالى لا يعني بحالٍ أن يكون مَن يفعل هذا يدبِّر الأكوان، فنحن ندبِّر أمور معاشنا وحياتنا، ونرتِّب مصالحنا، مع التوكل على الله تعالى؛ فهل يصح أن نقول عن أنفسنا: إننا ندبِّر الأكوان؟! فتدبير الملائكة لأمرٍ مِن الأمور لا يعني أنها تدبِّر الأكوان، فتدبير الأمر، أو تدبير الكون غير تدبير أمرٍ مِن الأمور، فالعموم في كلمة الأمر، والعموم في كلمة الأكوان، بتدبير الأمر فيها، لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (يونس: 31)؛ فقد أقرَّ المشركون بأن الله عز وجل هو الذي يدبِّر الأمر أفيجوز لمسلمٍ أن يكون أسوأ اعتقادًا مِن المشركين الذين أشركوا في الإلهية بأن يعتقد أن غير الله يدبِّر الأمر، أفلا يتقون الله عز وجل في قولهم هذا الذي هو أفظع مِن الشرك الذي كان عليه المشركون؟! وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان وأركانه في حديث جبريل لما سأله عن الإيمان، فقال: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) (رواه مسلم)، فمَن فَقَد ركنًا مِن هذه الأركان بالكلية بحيث زال مِن أصله؛ فَقَد أصلَ الإيمان، فلا يُقبَل منه عمل صالح ولو كان خالصًا، فالإيمان بالله هو الإيمان به عز وجل ربًّا وإلهًا لا شريك له في ربوبيته ولا إلهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته؛ فإنكار وجود الله سبحانه كالملاحدة مهما عملوا من خيرٍ للبشرية وقدَّموا من أعمال انتفعت بها الإنسانية، يخلَّد صاحبه في النار ويحرمه الجنة. ومَن قال: اتخذ الله ولدًا لم يكن مؤمنًا بالله عز وجل، بل مشركًا؛ قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-31)، وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم: 88-95). وقال الله سبحانه وتعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29)، مع أن أهل الكتاب يقرون بوجود الله؛ فدلَّت الآية على أن الإيمان ليس مجرد الإقرار بوجود الله فحسب، بل بتوحيده بأنواع التوحيد؛ ولذا كان اليهود والنصارى غير مؤمنين إيمانًا مقبولًا عند الله عز وجل؛ بسبب ادِّعاء الصاحبة والولد لله عز وجل، وبسبب تكذيب كُتُب الله التي هي كلامه، وبسبب تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا عدم إيمانهم باليوم الآخر؛ لأنهم وإن أقروا بوجود اليوم الآخر إلا أنهم أنكروا مِن أنواع النعيم في الجنة، ومِن أنواع العذاب في النار ما وَرَد في كتاب الله عز وجل وكُتُبه المتقدِّمة، فكانوا كفارًا بذلك كما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قوله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105)، فقال: هم اليهود والنصارى؛ أما اليهود فكفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب". وكذا مَن قال: إن الله عز وجل إنسانٌ بعينه فقد كَفَر، وحُرِّمَت عليه، الجنة وخُلِّد في النار؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72). وأشد شركًا وكفرًا مِن هؤلاء: القائلون بوحدة الوجود، وأن كلَّ البشر، وكل الحيوانات، وكل الجمادات، وكل شيء في الوجود، شيء واحد هو الله! كما قال ابن الفارض: وَإِنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ عَاكِفٌ … فَلَا تَعْدُ بِالْإِنْكَارِ بِالْعَصَبِيَّةِ وَإِنْ عَبَدَ النَّارَ الْمَجُوسُ وَمَا انْطَفَتْ … كَمَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مُذْ أَلْفِ حَجَّةِ فَمَا عَبَدُوا غَيْرِي وَمَا كَانَ قَصْدُهُمْ … سِوَايَ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوا عَقْدَ نِيَّةِ وَمَا عَقَدَ الزُّنَّارُ حُكْمًا سِوَى يَدِي … وَإِنْ حَلَّ بِالْإِقْرَارِ لِي فَهْيَ بَيْعَتِي وكما قال ابن عربي: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني لقد صارَ قلبي قابلًا كلَ صُورةٍ ... فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبَانِ وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ ... وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ ... ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني ومَن كفر برسولٍ مِن الرسل أو مَلَك مِن الملائكة بتكذيب أو بغض، لم يَقْبَل الله منه عملًا، قال تعالى عن اليهود الذي قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 97-98)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 150-151). ومَن كَذَّب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أشد كفرًا مِن كل مَن كذَّب الرُّسُلَ قبل ذلك، ومَن كذَّب رسولًا واحدًا؛ فقد كذَّب بجميع الرسل، ومَن كفر بكتاب أنزله الله فقد كفر بجميع الكتب، وكفر بالله سبحانه وتعالى الذي تكلَّم بهذه الكتب، ومن كفر باليوم الآخر وأنكر شيئًا مما أتت به الرسلُ مِن المعلوم من الدِّين بالضرورة عما يكون في يوم القيامة، وما في الجنة وما في النار؛ لم يُقبَل منه عمل ولو كان صالحًا، ولو ابتغَى به وجهَ الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن ابن جدعان، وقد كان في الجاهلية يقري الضيف، ويعتق الرقاب هل ينفعه ذلك: (لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (رواه مسلم). وكذا مَن كذَّب بالقدر جملة أو تفصيلًا قد عُلِم من الدِّين بالضرورة، كمَن أنكر علمَ الله وكتابة المقادير، فقد كفر ولا يَقبَل الله منه عملًا، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "والذي نفسي بيده، لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر"، وكذا مَن كذَّب بمشيئة الله وقدرته وخلقه لأفعال العباد، لكن بعد أن تُقَام عليه الحجة؛ لوجود الشبهات عندهم في ذلك. وبالجملة: فمَن كَذَّب أيًّا مِن هذه الأركان الستة التي أخبر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمنًا، ولا يقبل الله منه عملًا، ولا صرفاً ولا عدلًا، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (79) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (7) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 123-125). الفائدة الخامسة: دَلَّ قولُه تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)، على أن مسئولية التكليف مشتركة بين الذكور والإناث؛ فكلٌّ منهم مسئولٌ عن فعل الصالحات وترك المنكرات، مع الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره، وهذا بخلاف النظرة المنحرفة للمرأة التي انتشرت قبل الإسلام وجاء الإسلام بهدمها، وقد انتشرتْ في جميع الديانات حتى المنسوبة إلى الأنبياء بسبب التحريف؛ فضلًا عن الديانات الأرضية، والحضارات البشرية، فالبعض يراها شيطانًا كما نَصَّت بعضُ مجامع النصارى على ذلك، والبعض يراها أداة للمتعة: كالحضارات اليونانية، والرومانية، كما تشهد بذلك تماثيلهم ورسومهم وآثارهم، وهذا الفكر هو الذي وَرِثَه الغربُ عنهم حتى لو تشدَّقُوا بحقوق المرأة! فلا تزال المرأة -عندهم- سلعة مجانية فوق كلِّ السلع في كلِّ ترويج وتسويق؛ حتى زجاجة المشروب الغازي، حتى كيس البطاطس المقلية؛ فضلًا عن المساكن وفيلات القُرى السياحية والسواحل البحرية، والسيارات، وغيرها. والحقيقة: أنهم برفع شعارات المساواة المطلقة دون قيدٍ، ووضع قواعد تخريب الأسرى وهدمها، ونشر ثقافة النِّدِيَّة التي تخالف الفطرة التي فَطَر اللهُ الناسَ عليها وتخالف الشريعة التي بيَّنها اللهُ بعدله؛ يضرون المرأةَ أعظم الضرر، ويخدعونها؛ لتقع في فخ الفتنة، وشَرَك الشِّرْك والضلال. وقد بَيَّن سبحانه وتعالى أن الرجالَ قوامون على النساء، فقال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34)، فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل، وليس علاقة تنافس وندية، وعلاقة سكينة لا قلق واضطراب، ونزاع مستمر يهدم البيت والمجتمع، وعلاقة مودة لا بغضاء وكراهية، وعلاقة رحمة لا عذاب، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21). وأول مَن أظهر ما هُدِم مِن شرائع الله السابقة في حقِّ الإناث هو الإسلام، وأول مَن رَدَّ للمرأة اعتبارها بأنها إنسان مكلَّفة لها الثواب إن أحسنت، وعليها العقاب إن أساءت، فهي مقصودة بتحقيق غاية البشرية في الأرض، وهي عبادة الله وحد لا شريك له، فشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي التي أقامت للمرأة حقها واعتبارها. ولا شك أن اختلافَ بعضِ التشريعات بين الرجل والمرأة؛ كلٌّ حسب طبيعته التي خلقها اللهُ فيها هو العدل، وليس العدل هو المساواة؛ فالحيض، والحمل والولادة، والرضاعة والحضانة، والتربية في سنوات الصغر الأولى، أولى بها الأنثى، والكد والسعي في الأرض، ومكابدة ومباشرة الأعمال الشاقة، وطلب الرزق والنفقة، وكذا القتال؛ أولى بالرجال حسب قدرتهم وطبيعتهم؛ فاحذروا الأفكار النسوية الغربية المدمِّرة للمرأة وللمجتمع كله، والتي تروِّج ظلم الإسلام للمرأة، وتحاول الالتفات على التشريعات الربانية العادلة باسم: المساواة؛ فهي والله تضر المرأة أضعاف أضعاف ما يظنون أنها تنفعها. الفائدة السادسة: دل قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) على إقامة الحجة لأهل الإسلام على أهل الكتاب والمشركين الظانين بمجرد الادِّعاء أنهم الأحسن والأفضل، فَنَصَر اللهُ حجةَ أهلِ الإسلام وبيَّن أن دِينَ إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو الإسلام الذي بُعِثَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك، وملة إبراهيم واجبة الاتِّباع على كلِّ أحدٍ. واتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم واجبٌ على كلِّ مَن بلغته دعوتُه مِن الإنس والجن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال الله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: 19)، فكلُّ مَن بلغه القرآنُ؛ فهو منذر، وواجب عليه الإيمان به واتباعه، فانحصر الدِّين الإبراهيمي الحق في دِين محمدٍ صلى الله عليه وسلم واتِّباع النور الذي أُنزِل معه، ومَن تأمل هذه الآية الكريمة وجدها تهدم فكرة الدين الإبراهيمي الجديد المزعوم، الباطل الذي أسسه اليهود؛ لاستغلال جهل الناس بحقيقة التوحيد والإيمان بالرسل؛ ولذا كانت أهم معالم هذا الدِّين المزعوم: اعتماد الصوفية العالمية كوسيلةٍ لحلِّ الخلافات بين الأديان؛ لأنها بنوعيها الغالية في الأنبياء والأولياء، والاعتقاد فيهم أنهم يدبِّرون الكون، بل الأكوان! وأنهم يخلقون ويرزقون، وإن أضافوا إلى ذلك: بإذن الله! وأنهم يستجيبون الدعاء على الغيب، وأن أسماعهم وأبصارهم وقدراتهم وَسِعَت العالَم، وكل هذا مِن الغلو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ) (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني). والنوع الثاني هو: الصوفية الفلسفية القائمة على وحدة الوجود ووحدة الأديان، كما روَّج لها قديمًا: الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، وجلال الدين الرومي، وغيرهم؛ فكلاهما -أي: كلا النوعين- يهدم التوحيد والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا عجب أن يعتمدها الدِّين الإبراهيمي الجديد، وكذا اعتماد الرقص للتقريب بين الأديان؛ لأنه الذي يغيِّب العقل ويبعده عن الدليل، وكذا يعتمدون نشر ما يسمونه القِيَم المشتركة بين الأديان مع السكوت عن العقائد الفارقة بينها التي أنزلها الله في كتابه، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) (آل عمران: 4)، وهو سبحانه يمتن بالفرقان على مَن آمن واتَّقى؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29). نسأل اللهُ أن يجعلَ لنا الفرقان، وأن يهدمَ هذا الدِّين الخَبِيث الذي إبراهيم عليه السلام بريء منه، وكذا كل الأنبياء: موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا دين يُتَّبَع إلا دين إبراهيم الحق، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (80) الإسلام دين إبراهيم خليل الرحمن دون اليهودية والنصرانية والشِّرْك (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125). الفائدة السابعة: دَلَّ قولُه تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) على إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى، والخلة هي المحبة العظيمة الخالصة، وهي أخص مِن المحبة المطلقة، والله يحب المتقين، ويحب المؤمنين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب الذين يحبونه؛ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائِم، ويحب مَن أدَّى الفرائض وهو مؤمن متَّقٍ، ثم واظب على النوافل حتى يصل إلى درجة المحبوبية الخاصة بأوليائه الذين مَن عاداهم فقد آذنه الله بالحرب، وهم الذين آمنوا وكانوا يتقون. أما الخُلَّة فهي: محبة خالصة كاملة مِن كلِّ وجه خاصة قد جعلها الله لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولنبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته قبل أن يموت بخمس: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) (رواه مسلم). وفي الصحيح في حديث الشفاعة الطويل في الإراحة مِن هول الموقف، وفي استفتاح باب الجنة فيقول آدم: (اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ، قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)؛ يعني أن خلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربِّه أقرب وأعظم من خلته هو، وكل هذه الروايات تدل على إثبات صفة الخلة لله سبحانه؛ فهو الذي اتخذ إبراهيم خليلًا، وليس فقط أن إبراهيم اتخذه خليلًا فتكون مِن صفة العبد، بل هي من صفة الرب -عز وجل-. وكما ذكرنا أنها المحبة الخاصة الخالصة، ولم يرد تأويل الخلة ولا المحبة بالإرادة كما يقوله متأخرو الأشاعرة المؤولون للصفات غير الصفات السبعة الثابتة عندهم بطريق العقل؛ لأنهم سَلَكوا طريقة التأويل التي تؤدي إلى التعطيل. ولقد سمع الصحابة -رضي الله عنهم- من الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات وهذه الأحاديث، ولم يقولوا له قط: هل تجوز الخلة على الله وهي صفة نقص؟! أو كيف يتخذ الله إنسان خليلًا وهذا يقتضي التشبيه؛ لأن الخلة هي المحبة التي تتخلل شغاف القلب؛ فهذا يستلزم التشبيه والتجسيم؟! ولا قالوا له مرة واحدة: إنها تستلزم التجسيم، ولا هي ولا غيرها، وهو محال على الله، وإننا لو قلنا ذلك؛ لكنا حشوة مجسِّمة كفارًا؟! ولا قالوا: كيف نثبِت لله سبحانه صفات وأفعال غير الصفات السبع التي يقبلها العقل دون غيرها -وهي: الحياة، والعلم، والقدرة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام-؟! ولا نشك أن كلَّ أشعري يقول بهذا الكلام المنكر، والمعتزلة والجهمية قبلهم يوقنون: أن هذا لم يقع من الصحابة، بل يجزمون أن الصحابة ما خاضوا بهذه الطريقة، ولا بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الصفة -الخلة وكذا المحبة- تقتضي النقص أو التشبيه أو التجسيم، ويجب نفيها أو تأويلها إلى أحد الصفات السبعة، لا والله ما حدث ذلك قط! ومَن قالوا بذلك لا ينسبون كلامهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا إلى أحدٍ مِن أصحابه، ولا إلى التابعين، ولا أئمة تابعيهم، وإنما ينسبون ذلك الكلام إلى الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وواصل بن عطاء، وبشر المريسي أئمة الجهمية والمعتزلة، وكفى بهذا حجة في إبطال هذا المذهب المنحرف عن طريقة القرون الثلاثة الخيرية، وليحذروا من أن يحشروا مع هؤلاء المبتدعين؛ فإن المرء مع مَن أحب، كما قد تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وإذا علمنا أن حقيقة هذه المذاهب المبنية على عِلْم الكلام المعدَّل من الفلسفة؛ إنما صنعه واخترعه فلاسفة اليونان، ومناطقة الوثنيون الكفار؛ علمنا أنه لا يجوز لمسلمٍ أن يقبله، ولا أن يتبعه؛ فضلًا أن يوالي ويعادي عليه، ويزعم أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة دون السلف الصالح مِن الصحابة ومَن تبعهم. ولقد فهم الصحابة هذه النصوص بمعانيها في اللغة اللائقة بالله -عز وجل-، وعلموا يقينًا أن كيفيتها في حقه سبحانه ليس ككيفيتها في حقِّ المخلوقين؛ لعلمهم بقوله -تعالى-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11)، وقوله -عز وجل-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: 1-4). فالحقيقة التي هي الكيفية على التفصيل لا يعلمها إلا الله الذي هو أعلم بنفسه، وأعلم بغيره، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق به، وهو لم يتكلَّم على كيفية، ولم ينفِ المعنى قط، ولم يقل: هذه حروف كالكلام الأعجمي إياكم أن تفهموا له معنى خلاف معناه اللغوي العربي الذي لا يحتاج إلى تعريفات وحدود، وهي التي أدَّت إلى اعتقاد التشبيه على نصوص الكتاب والسُّنة، حتى قال قائلهم: إن الأخذَ بظواهر نصوص الكتاب والسنة من أصول الكفر! نعوذ بالله من الخذلان، بل يجب أن يُقال في هذه النصوص المُثبِتَة للخلة والمحبة وغيرها: الخلة والمحبة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة. وتأمل عجيب حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس، وهو من أدلة نبوته ومعجزاته؛ إذ أخبر بما يقع بعده محذِّرًا أمته من هذه البدع -وقد رواه مسلم في صحيحه-. وهو قد حَذَّر الأمةَ مِن أكثر ثلاث فِرَق تنتشِر ضلالاتها في الأمة مِن بعده -صلى الله عليه وسلم-، وهي: - الرافضة الذين يبغضون أبا بكر ويكفِّرونه، وقد بيَّن فضله فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ) (رواه البخاري). - وكذلك رَدَّ على الفرقة الثانية المعطِّلة الذين ينفون الصفات والأفعال الإلهية: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). - وأما الفرقة الثالثة: فهم غلاة الصوفية الذين يتخذون قبورَ الأنبياء والصالحين مساجد اتِّباعًا لأهل الكتاب، بل ويتقرَّبون بذلك إلى الله، عكس ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما يعلم -صلى الله عليه وسلم- مِن خطر الغلو الذي يؤدي إلى اعتقاد ربوبيتهم، بل وإلهيتهم بصرف العبادة لهم، مع علم هؤلاء الغلاة: أن مِن هؤلاء المقبورين مَن كان لا يصلي الجمعة، ولا الجماعة، بل ولا يصلي أصلًا؛ مع بقائه على ولايته ووقوعه في الفناء واتحاده بذات الرب، وأنه قد سقط عنه التكليف، ويسمون ذلك جنون الروح، بل يجعلون ارتكاب المنكرات من الكرامات كبيع الحشيش على باب المسجد "الأزهر"، وفعل الفاحشة أمام تلامذته حتى تركوه إلا واحدًا أعدَّ له ماء الغسل! نعوذ بالله. بل يجوزون ادِّعاء الألوهية منهم، ويقولون: لا يجوز الإنكار عليهم؛ لأنهم في مقام النحو، فيجوزون أن يقول الولي: سبحاني سبحاني، ما أعظم شأني! بل ويرون الحلاج الذي ادَّعى الحلول، وقُتِل على الزندقة والردة -بإجماع علماء زمانه- قد قُتِل بلسان الشرع، لكنه محمود بلسان الحق! وكأن الشرع قد جاء بغير الحق، وهذا قول يخرج صاحبه من الملة، ومخالف للمعلوم من الدِّين بالضرورة: مِن أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد جاء بالحق، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) (النساء: 170)، وهذا على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين في الظاهر والباطن وفي الحقيقة والشريعة، وليس في الدِّين باطل يخالِف الظاهر، ولا حقيقة تخالف الشريعة، بل الحق كله قد جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حقيقة وشريعة، ومَن أعرض عمَّا جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تُرهات وخزعبلات الزنادقة من الصوفية الحلولية والاتحادية؛ فهو لاحقٌ بهم. نعوذ بالله مِن حالهم، ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. وللحديث بقية إن شاء الله. |
الساعة الآن : 03:21 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour