ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=84)
-   -   تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=273185)

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:08 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(147)
الحلقة (161)
صــ 406إلى صــ 411




ذكر من قال ذلك :

1646 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) - على عهد سليمان - قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث الكهنة الناس ، فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب [ ص: 406 ] الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب ، فجعلها في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف بعد ذلك خلف ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي ، وذهب معهم فأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فادن! قال : لا ولكني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ، ثم طار فذهب ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ، فذلك حين يقول : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

1647 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قالوا : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله جل وعز : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر [ ص: 407 ] والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان - وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ، فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم .

1648 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : لما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا لما معهم ، ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) الآية ، قال : اتبعوا السحر ، وهم أهل الكتاب . فقرأ حتى بلغ : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان .

ذكر من قال ذلك :

1649 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان ، فاتبعته اليهود على ملكه ، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان .

1650 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام ، فكتبوا أصناف السحر : "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا ، فليفعل كذا وكذا" . حتى إذا صنعوا أصناف السحر ، جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه : "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم" ، ثم دفنوه تحت كرسيه ، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا ، فلما عثروا عليه قالوا : ما كان سليمان [ ص: 408 ] بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه ، فليس في أحد أكثر منه في يهود . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون لمحمد ! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .

قال : كان حين ذهب ملك سليمان ، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع الله إلى سليمان ملكه ، قام الناس على الدين كما كانوا ، وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان حدثان ذلك ، فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا ، فأنزل الله : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، وهي المعازف واللعب ، وكل شيء يصد عن ذكر الله .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته ، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل ، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله ، وهجرهم العمل به ، وهو في أيديهم يعلمونه [ ص: 409 ] ويعرفون أنه كتاب الله ، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان . وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن المتبعة ما تلته الشياطين ، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق ، وأمر السحر لم يزل في اليهود . ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله : ( واتبعوا ) بعضا منهم دون بعض . إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) - إلى أخلافهم بعدهم ، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول ، ولا حجة تدل عليه؛ فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال : كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود ، داخل في معنى الآية ، على النحو الذي قلنا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ما تتلو الشياطين )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ما تتلو الشياطين ) ، الذي تتلو . فتأويل الكلام إذا : واتبعوا الذي تتلو الشياطين .

واختلف في تأويل قوله : ( تتلو ) . فقال بعضهم : يعني بقوله : ( تتلو ) ، تحدث وتروي ، وتتكلم به وتخبر ، نحو "تلاوة" الرجل للقرآن ، وهي قراءته . ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك ، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم .

ذكر من قال ذلك :

1651 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن عمرو ، عن مجاهد في قول الله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : كانت الشياطين تسمع الوحي ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها [ ص: 410 ] مائتين مثلها . فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه ، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين ، فعلمته الناس ، وهو السحر .

1652 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، من الكهانة والسحر . وذكر لنا ، والله أعلم ، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه .

1653 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، قال : نراه ما تحدث .

1654 - حدثني سلم بن جنادة السوائي قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان ، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس .

وقال آخرون : معنى قوله : ( ما تتلو ) ، ما تتبعه وترويه وتعمل به .

ذكر من قال ذلك :

1655 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : ( تتلو ) ، قال : تتبع .

1656 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن أبي رزين مثله . [ ص: 411 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان ، باتباعهم ما تلته الشياطين .

ولقول القائل : "هو يتلو كذا" في كلام العرب معنيان . أحدهما : الاتباع ، كما يقال : "تلوت فلانا" إذا مشيت خلفه وتبعت أثره ، كما قال جل ثناؤه : ( هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت ) [ يونس : 30 ] ، يعني بذلك تتبع .

والآخر : القراءة والدراسة ، كما تقول : "فلان يتلو القرآن" ، بمعنى أنه يقرأه ويدرسه ، كما قال حسان بن ثابت :


نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد


ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى"التلاوة" كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر . وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل ، ودارسته بالرواية ، فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك ، وعملت به ، وروته .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:08 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(148)
الحلقة (162)
صــ 412إلى صــ 417





القول في تأويل قوله تعالى : ( ملك سليمان )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( على ملك سليمان ) ، في ملك سليمان . وذلك أن العرب تضع "في" موضع "على" و"على" في موضع "في" . [ ص: 412 ] من ذلك قول الله جل ثناؤه : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) [ سورة طه : 71 ] يعني به : على جذوع النخل ، وكما قالوا : "فعلت كذا في عهد كذا ، وعلى عهد كذا" ، بمعنى واحد . وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله :

1657 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال ابن جريج : ( على ملك سليمان ) ، يقول : في ملك سليمان .

1658 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن أبي إسحاق في قوله : ( على ملك سليمان ) ، أي : في ملك سليمان .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر )

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما هذا الكلام ، من قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان ، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان ، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟

قيل : وجه ذلك ، أن الذين أضاف الله - جل ثناؤه - إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود ، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى [ ص: 413 ] الشياطين من ذلك ، إلى سليمان بن داود . وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته ، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر؛ فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم ، عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه ، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة ، وتبرأ بإضافة ذلك إلىسليمان - من سليمان ، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا : بل كان ساحرا ، فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها ، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها ، وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك ، بأن سليمان كان يعمله ، فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا ، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان ، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله ، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه .

ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار :

1659 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر ، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه ، فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به . فقال أهل الحجاز : كان سليمان [ ص: 414 ] يعمل بهذا ، وهذا سحر! فأنزل الله - جل ثناؤه - على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان . فقال : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية ، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام .

1660 - حدثني أبو السائب السوائي قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذي أصاب سليمان بن داود ، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه ، قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئا من نسائه ، أعطى الجرادة خاتمه ، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس ، قال : فجاءها سليمان فقال : هاتي خاتمي! فقالت : كذبت ، لست بسليمان ! قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال : فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل جل ثناؤه : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، فأنزل الله جل وعز عذره .

1661 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز قال : أخذ سليمان من كل [ ص: 415 ] دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد ، خلي عنه ، فرأى الناس السجع والسحر ، وقالوا : هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

1662 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران بن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس : من أين جئت؟ قال : من العراق . قال : من أيه؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال : ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم من ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا حدث منه صدق ، كذب معها سبعين كذبة ، قال : فتشربها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان ، فدفنها تحت كرسيه ، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه ، فقالوا : هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - فأنزل الله عذر سليمان : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .

1663 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه ، فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى [ ص: 416 ] الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب ، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه ، كراهية أن يتعلمها الناس ، فلما قبض الله نبيه سليمان ، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس ، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به ، فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك ، فقال جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .

1664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك ، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان . فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب ، فقالوا : هذا علم كتمناه سليمان ! فقال الله جل وعز : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

1665 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها ، وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه ، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس .

1666 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب قال : لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت : "من أراد أن يأتي كذا وكذا ، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا ، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا" ، فكتبته وجعلت عنوانه : "هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ ص: 417 ] بن داود من ذخائر كنوز العلم" ، ثم دفنته تحت كرسيه ، فلما مات سليمان ، قام إبليس خطيبا فقال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نبيا ، وإنما كان ساحرا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه؛ فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا ، وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ، جعل يذكر الأنبياء ، حتى ذكر داود وسليمان ، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد ! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل الله عذر سليمان : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg

ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:09 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(149)
الحلقة (163)
صــ 418إلى صــ 423




1667 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، - أي باتباعهم السحر وعملهم به - ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) .

قال أبو جعفر : فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، وتأويل قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ما ذكرنا فبين أن في الكلام متروكا ، ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه ، وأن معنى الكلام : واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان ، وما كفر سليمان ، فيعمل بالسحر ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس [ ص: 418 ] السحر . وقد كان قتادة يتأول قوله : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) على ما قلنا .

1668 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، يقول : ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه ، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه .

وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى "تتلو" ، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن "تتلو" بمعنى "تلت"؛ إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله : ( واتبعوا ) ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك . وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وأما معنى قوله : ( ما تتلو ) ، فإنه بمعنى : الذي تتلو ، وهو السحر .

1669 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، أي السحر .

قال أبو جعفر : ولعل قائلا أن يقول : أوما كان السحر إلا أيام سليمان؟

قيل له : بلى ، قد كان ذلك قبل ذلك ، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم ، وقد كانوا قبل سليمان ، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح : إنه ساحر .

[ فإن ] قال : فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ [ ص: 419 ] قيل : لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان ، على ما قد قدمنا البيان عنه ، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه ، مما كانوا وجدوه ، إما في خزائنه ، وإما تحت كرسيه ، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك ، فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته ، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب ، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت )

قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم في تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) . فقال بعضهم : معناه الجحد ، وهي بمعنى "لم" .

ذكر من قال ذلك :

1670 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فإنه يقول : لم ينزل الله السحر .

1671 - حدثنا ابن حميد قال : حدثني حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( وما أنزل على الملكين ) ، قال : ما أنزل الله عليهما السحر .

فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع ، من توجيههما معنى قوله : ( وما أنزل على الملكين ) إلى : ولم ينزل على الملكين - : واتبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "ببابل هاروت وماروت" . فيكون حينئذ قوله : " ( ببابل هاروت وماروت ) ، من المؤخر الذي معناه التقديم . [ ص: 420 ]

فإن قال لنا قائل : وكيف - وجه تقديم ذلك؟

قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ من السحر ] ، وما أنزل [ الله السحر ] على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت - فيكون معنيا ب "الملكين" : جبريل وميكائيل ، لأن سحرة اليهود ، فيما ذكر ، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبها الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس [ ذلك ] ببابل ، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان : اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت . فيكون " هاروت وماروت " ، على هذا التأويل ، ترجمة على "الناس" وردا عليهم .

وقال آخرون : بل تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) - "الذي" .

ذكر من قال ذلك :

1672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : قال معمر ، قال قتادة والزهري عن عبد الله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم . قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر ، قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" . [ ص: 421 ]

1673 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا . يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين ، وأن كلام الملائكة فيما بينهم ، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به ، كان سحرا .

1674 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .

1675 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، قال : التفريق بين المرء وزوجه .

1676 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ) ، فقرأ حتى بلغ : ( فلا تكفر ) ، قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر .

قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت ، وهما ملكان من ملائكة الله ، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى .

قال أبو جعفر إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر ، أم [ ص: 422 ] هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟

قلنا له : إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله ، وبين جميع ذلك لعباده ، فأوحاه إلى رسله ، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم . وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ، ونهاهم عن ركوبها . فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ، ونهاهم عن العمل بها .

وليس في العلم بالسحر إثم ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب . وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر ، وإنما الإثم في العمل به ، وأن يضر به ، من لا يحل ضره به .

فليس في إنزال الله إياه على الملكين ، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس ، إثم ، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك ، بإذن الله لهما بتعليمه ، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة ، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر . وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به ، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به . ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك ، لم يكن من تعلمه حرجا ، كما لم يكونا حرجين لعلمهما [ ص: 423 ] به؛ إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما .

وقال آخرون : معنى "ما" معنى "الذي" ، وهي عطف على "ما" الأولى . غير أن الأولى في معنى السحر ، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه .

فتأويل الآية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان ، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت .

ذكر من قال ذلك :

1677 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) . وكان يقول : أما السحر ، فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان ، فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .

وقال آخرون : جائز أن تكون "ما" بمعنى "الذي" ، وجائز أن تكون "ما" بمعنى "لم" .

ذكر من قال ذلك :

1678 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فقال الرجل : يعلمان الناس ما أنزل عليهما ، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:10 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(150)
الحلقة (164)
صــ 424إلى صــ 429





1679 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن [ ص: 424 ] بعض أصحابه ، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره : ( وما أنزل على الملكين ) ، فقيل له : أأنزل أو لم ينزل؟ فقال : لا أبالي أي ذلك كان ، إلا أني آمنت به . .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، قول من وجه "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) إلى معنى "الذي" ، دون معنى "ما" التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك ، من أجل أن "ما" إن وجهت إلى معنى الجحد ، تنفي عن "الملكين" أن يكونا منزلا إليهما ، ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني "هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما أو بدلا من "الناس" في قوله : ( يعلمون الناس السحر ) ، وترجمة عنهم . فإن جعلا بدلا من "الملكين" وترجمة عنهما ، بطل معنى قوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ؛ لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه ، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ [ ص: 425 ]

وبعد ، فإن "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : ( وما كفر سليمان ) ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : ( وما كفر سليمان ) ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه ، فإن كان الذي نفي عن الملكين من ذلك نظير الذي نفي عنسليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين .

وإن كان قوله "هاروت وماروت" ترجمة عن "الناس" الذين في قوله : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر ، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما! فإن يكن ذلك كذلك ، فلن يخلو "هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين :

إما أن يكونا ملكين ، فإن كانا عنده ملكين ، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس ، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب! وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول .

أو أن يكونا رجلين من بني آدم . فإن يكن ذلك كذلك ، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم ؛ لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم ، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما ، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما . [ ص: 426 ] وفي وجود السحر في كل زمان ووقت ، أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم ، لم يعدما من الأرض منذ خلقت ، ولا يعدمان بعدما وجد السحر في الناس ، فيدعي ما لا يخفى بطوله .

فإذ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها ، فبين أن معنى ( ما ) التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) بمعنى "الذي" ، وأن "هاروت وماروت" ، مترجم بهما عن الملكين ، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما ، لأنهما في موضع خفض على الرد على "الملكين" . ولكنهما لما كانا لا يجران ، فتحت أواخر أسمائهما .

فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟

قيل له : إن الله - جل ثناؤه - عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك ، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم . فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه ، فغير منكر أن يكون - جل ثناؤه - علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله ، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه ، وعن السحر ، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما ، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما ، ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين ، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله ، فلم يكن ذلك لهم ضائرا ، [ ص: 427 ] إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به ، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه ، فكذلك الملكان ، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ، بعد نهيهما إياه عنه ، وعظتهما له بقولهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، إذ كانا قد أديا ما أمرا به بقيلهما ذلك ، كما : -

1680 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) إلى قوله : ( فلا تكفر ) ، أخذ عليهما ذلك .

ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين ، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ( ببابل ) :

1681 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا : يا رب ، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا! قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض ، قال : فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء ، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن ، يقال لها : " بيذخت " فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله ، وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما [ ص: 428 ] للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه ، فلما وقعا فيما وقع من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك! كنت أعلم! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت ، وجعلا ببابل .

1682 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حجاج ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم! فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا ملكين من أفضلكم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس ، وكان أهل فارس يسمونها " بيذخت " . قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا ) . فلما وقعا بالخطيئة ، استغفروا لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . [ ص: 429 ]

1683 - حدثني المثنى قال : حدثني الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد قال ، سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها ، فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء ، فمسخت كوكبا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:10 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(151)
الحلقة (165)
صــ 430إلى صــ 435




1684 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق - جميعا ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت ، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر . قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما . [ ص: 430 ]

1685 - حدثني المثنى قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة قال : حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث : أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي ، فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب ، فاختاروا منكم ملكين . فاختاروا هاروت وماروت ، فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس ، وليس بيني وبينكما رسول ، انزلا إلى الأرض ، ولا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا . فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما . [ ص: 431 ]

1686 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات ، فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل ، فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية ، " الزهرة " ، وبالنبطية "بيذخت" ، واسمها بالفارسية "أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني! فقال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال : الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر : إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا ، فعرفا الهلك ، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة ، فعلقا ببابل ، فجعلا يكلمان الناس كلامهما ، وهو السحر .

1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من [ ص: 432 ] المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي رب ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر ، وقتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم ، فقيل لهم : إنهم في غيب؛ فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وجعل بهما شهوات بني آدم ، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنها أتت عليهما ، فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه ، فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها ، فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها ، فمر بهما إنسان ، وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر ، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة ، وأرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، [ ص: 433 ] فحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب ، فعجبوا كل العجب ، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له؛ فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان .

1688 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا فرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر ، طلعت الحمراء؟ قلت : لا - مرتين أو ثلاثا - ثم قلت : قد طلعت! قال : لا مرحبا ولا أهلا! قلت : سبحان الله ، نجم مسخر سامع مطيع! قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم ، قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال : فاختاروا ملكين منكم! قال : فلم يألوا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت . [ ص: 434 ]

1689 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات . فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا . فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما . فحكما [ ص: 435 ] فعدلا . فكانا يحكمان النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم ، فقضيا عليها ، فلما قامت ، وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت؟ قال : نعم ، فبعثا إليها : أن ائتينا نقض لك ، فلما رجعت ، قالا لها - وقضيا لها - : ائتينا! فأتتهما ، فكشفا لها عن عورتهما ، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها ، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا ، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت ، فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما ، فاستغاثا برجل من بني آدم ، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، ومع الدنيا سبع مرات مثلها ، فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:11 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(152)
الحلقة (166)
صــ 436إلى صــ 441



قال أبو جعفر : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : ) وما أنزل على الملكين ) ، يعني به رجلين من بني آدم . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال ، فأما من جهة النقل ، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من [ ص: 436 ] الصحابة والتابعين وقراء الأمصار ، وكفى بذلك شاهدا على خطئها .

وأما قوله ( ببابل ) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها ، فقال بعضهم : إنها " بابل دنباوند " .

1690 - حدثني بذلك موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .

وقال بعضهم : بل ذلك" بابل العراق " .

ذكر من قال ذلك :

1691 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة ، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل ، فأتت بها هاروت وماروت ، فتعلمت منهما السحر .

قال أبو جعفر : واختلف في معنى السحر ، فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر ، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به ، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه! قالوا : فكذلك المسحور ذلك صفته ، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر ، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته ، كالذي : - [ ص: 437 ]

1692 - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر ، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله .

1693 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت ، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله . [ ص: 438 ]

1694 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان : أن يهود بني زريق عقدوا عقد سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوها في بئر حزم ، حتى كان رسول الله ينكر بصره ، ودله الله على ما صنعوا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها ، فكان [ ص: 439 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سحرتني يهود بني زريق .

وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته ، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا . وقالوا : لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات ، لم يكن بين الحق والباطل فصل ، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها . قالوا : وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله : ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ سورة طه : 66 ] ، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره ، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم ، كالموات والجماد والحيوان ، وصحة ما قلنا .

وقال آخرون : قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا ، وأن يسحر الإنسان والحمار ، وينشئ أعيانا وأجساما ، واعتلوا في ذلك بما : -

1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرنا ابن أبي الزناد قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج [ ص: 440 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به . قالت عائشة لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول : إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به ، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر؟ فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ففزعت فلم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت؟ قلت : نعم . فقالا : فهل رأيت شيئا؟ قلت : لم أر شيئا! فقالا لي : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ، فاقشعررت ، ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟ [ ص: 441 ] فقلت : لم أر شيئا . فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ، فإنك على رأس أمرك! فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء ، وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت! فقالا : ما رأيت؟ فقلت : فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي! فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي! فأطلعت ، وقلت : أحقلي! فأحقلت ، ثم قلت : أفركي! فأفركت ، ثم قلت : أيبسي! فأيبست ، ثم قلت : أطحني! فأطحنت ، ثم قلت : أخبزي ، فأخبزت ، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان ، سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:12 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(153)
الحلقة (167)
صــ 442إلى صــ 447




قال أهل هذه المقالة بما وصفنا ، واعتلوا بما ذكرنا ، وقالوا : لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه . قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك لو كان على غير الحقيقة ، وكان على وجه التخييل والحسبان ، لم يكن تفريقا على صحة ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة .

وقال آخرون : بل "السحر" أخذ بالعين .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر )

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه ، حتى يقولا له : إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم ، فلا تكفر بربك ، كما : -

1696 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 443 ] السدي قال : إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر ، وعظاه وقالا له : لا تكفر ، إنما نحن فتنة! فإن أبى ، قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه ، فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه ، فذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) الآية .

1697 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة والحسن : ( حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، قال : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .

1698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال قتادة : كانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" .

1699 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر قال : قال غير قتادة : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" .

1700 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن قال : أخذ عليهما أن يقولا ذلك .

1701 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" . لا يجترئ على السحر إلا كافر . [ ص: 444 ]

وأما الفتنة في هذا الموضع ، فإن معناها : الاختبار والابتلاء ، من ذلك قول الشاعر .


وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شرا طويلا


ومنه قوله : "فتنت الذهب في النار" ، إذا امتحنتها لتعرف جودتها من رداءتها ، "أفتنها فتنة وفتونا" ، كما : -

1702 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ( إنما نحن فتنة ) ، أي بلاء .
[ ص: 445 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه )

قال أبو جعفر : وقوله جل ثناؤه : ( فيتعلمون منهما ) ، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما ، وليس بجواب لقوله : ( وما يعلمان من أحد ) ، بل هو خبر مستأنف ، ولذلك رفع فقيل : "فيتعلمون" ، فمعنى الكلام إذا : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة ، فيأبون قبول ذلك منهما ، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه .

وقد قيل : إن قوله : ( فيتعلمون ) ، خبر عن اليهود معطوف على قوله "ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" ، " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) . وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم .

والذي قلنا أشبه بتأويل الآية؛ لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ، ما كان للتأويل وجه صحيح ، أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام .

و"الهاء" و"الميم" و"الألف" من قوله : ( منهما ) ، من ذكر الملكين ، ومعنى ذلك : فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه .

و"ما" التي مع "يفرقون" بمعنى "الذي" . وقيل : معنى ذلك : السحر الذي يفرقون به . وقيل : هو معنى غير السحر . وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل . [ ص: 446 ]

وأما "المرء" ، فإنه بمعنى : رجل من أسماء بني آدم ، والأنثى منه "المرأة" . يوحد ويثنى ، ولا تجمع ثلاثته على صورته ، يقال منه : "هذا امرؤ صالح ، وهذان امرآن صالحان" ، ولا يقال : هؤلاء امرؤو صدق ، ولكن يقال : "هؤلاء رجال صدق" ، وقوم صدق . وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها . يقال : هذه امرأة ، وهاتان امرأتان" ، ولا يقال : هؤلاء امرآت ، ولكن : "هؤلاء نسوة" .

وأما "الزوج" ، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل : "هي زوجه" بمنزلة الزوج الذكر ، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره : ( أمسك عليك زوجك ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون : "هي زوجته" ، كما قال الشاعر :


وإن الذي يمشي يحرش زوجتي كماش إلى أسد الشرى يستبيلها


فإن قال قائل : وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل : قد دللنا فيما مضى على أن معنى "السحر" : تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته ، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه . فإن كان [ ص: 447 ] ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه ، فتفريقه بين المرء وزوجه : تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته ، من حسن وجمال ، حتى يقبحه عنده ، فينصرف بوجهه ويعرض عنه ، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا ، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذي كان منه فرقة ما بينهما ، وقد دللنا ، في غير موضع من كتابنا هذا ، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه ، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg




ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:13 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(154)
الحلقة (168)
صــ 448إلى صــ 453




1703 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، وتفريقهما : أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه ، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه .

وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه ، فإنهم وجهوا تأويل قوله : ( فيتعلمون منهما ) إلى "فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، كقول القائل : ليت لنا كذا من كذا" ، أي مكان كذا ، كما قال الشاعر :


جمعت من الخيرات وطبا وعلبة وصرا لأخلاف المزنمة البزل
[ ص: 448 ] ومن كل أخلاق الكرام نميمة وسعيا على الجار المجاور بالنجل


يريد بقوله : "جمعت من الخيرات" ، مكان خيرات الدنيا ، هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة ، ومنه قول الآخر :


صلدت صفاتك أن تلين حيودها وورثت من سلف الكرام عقوقا


يعني : ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك .
[ ص: 449 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، بضارين - بالذي تعلموه منهما ، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره . فأما من دفع الله عنه ضره ، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرقى ، فإن ذلك غير ضاره ، ولا نائله أذاه .

ول "الإذن" في كلام العرب أوجه ، منها : الأمر على غير وجه الإلزام ، وغير جائز أن يكون منه قوله : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ؛ لأن الله - جل ثناؤه - قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة .

ومنها : التخلية بين المأذون له ، والمخلى بينه وبينه .

ومنها العلم بالشيء ، يقال منه : "قد أذنت بهذا الأمر" إذا علمت به "آذن به إذنا" ، ومنه قول الحطيئة :


ألا يا هند إن جددت وصلا وإلا فأذنيني بانصرام


يعني فأعلميني . ومنه قوله جل ثناؤه : ( فأذنوا بحرب من الله ) [ سورة البقرة : 279 ] ، وهذا هو معنى الآية ، كأنه قال جل ثناؤه : وما هم بضارين ، [ ص: 450 ] بالذي تعلموا من الملكين ، من أحد إلا بعلم الله . يعني : بالذي سبق له في علم الله أنه يضره . كما : -

1704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان في قوله : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، قال : بقضاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ( ويتعلمون ) ، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم ، ولا ينفعهم في معادهم . فأما في العاجل في الدنيا ، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، فقال جل ثناؤه : لقد علم النابذون - من يهود بني [ ص: 451 ] إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم ، التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به ، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم ، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم ، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان ، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت - لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق . كما : -

1705 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يقول : قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم : أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة .

1706 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يعني اليهود . يقول : لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره ، ما له في الآخرة من خلاق .

1707 - وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه .

1708 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة : أن من اشترى السحر وترك دين الله ، ما له في الآخرة من خلاق ، فالنار مثواه ومأواه .

قال أبو جعفر : وأما قوله : ( لمن اشتراه ) ، فإن "من" في موضع رفع ، وليس [ ص: 452 ] قوله : ( ولقد علموا ) بعامل فيها؛ لأن قوله : ( ولقد علموا ) ، بمعنى اليمين ، فلذلك كانت في موضع رفع؛ لأن الكلام بمعنى : والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق . ولكون قوله : ( قد علموا ) بمعنى اليمين ، حققت ب "لام اليمين" ، فقيل : ( لمن اشتراه ) ، كما يقال : "أقسم لمن قام خير ممن قعد" . وكما يقال : "قد علمت ، لعمرو خير من أبيك" .

وأما "من" فهو حرف جزاء . وإنما قيل : "اشتراه" ولم يقل : "يشتروه" ، لدخول "لام القسم" على "من" . ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا ب "فعل" دون "يفعل" ، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم ، كما قال الله جل ثناؤه : ( لإن أخرجوا لا يخرجون معهم ) [ سورة الحشر : 12 ] ، وقد يجوز إظهار فعله بعده على "يفعل" مجزوما ،

كما قال الشاعر :


لإن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع


واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ما له في الآخرة من خلاق ) . فقال بعضهم : "الخلاق" في هذا الموضع : النصيب .

ذكر من قال ذلك :

1709 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، يقول : من نصيب . [ ص: 453 ]

1710 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، من نصيب .

1711 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا وكيع ، قال سفيان : سمعنا في : ( وما له في الآخرة من خلاق ) ، أنه ما له في الآخرة من نصيب .

وقال بعضهم : "الخلاق" ههنا الحجة .

ذكر من قال ذلك :

1712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : ليس له في الآخرة حجة .

وقال آخرون : الخلاق : الدين .

ذكر من قال ذلك :

1713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال الحسن : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : ليس له دين .

وقال آخرون : "الخلاق" ههنا القوام .

ذكر من قال ذلك :

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:13 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(155)
الحلقة (169)
صــ 454إلى صــ 459




1714 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : قوام .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى"الخلاق " في هذا الموضع : النصيب . وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب .

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 454 ]

1715 - "ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم" .

يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :


يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا سرابيل من قطر وأغلال


يعني بذلك : لا نصيب لهم ولا حظ ، إلا السرابيل والأغلال .

فكذلك قوله : ( ما له في الآخرة من خلاق ) : ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة ، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازى به في الجنة ويثاب عليه ، فيكون له حظ ونصيب من الجنة . وإنما قال جل ثناؤه : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة ، وهو يعني به : لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار ، إذ كان قد دل ذمه - جل ثناؤه - أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر ، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات ، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا .
[ ص: 455 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( 102 ) )

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى "شروا" : "باعوا" ، فمعنى الكلام إذا : ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته ، كما :

1716 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ( ولبئس ما شروا به أنفسهم ) ، يقول : بئس ما باعوا به أنفسهم .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قال جل ثناؤه : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ؟ وقد قال قبل : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم ، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟

قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته ، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به ، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما معنى الكلام : وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله ، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . فقوله : ( لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه ، وخبر منه - جل ثناؤه - عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم ، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة ، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم ، وخسارة صفقة بيعهم؛ إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ، ولا يعرف حلاله وحرامه ، [ ص: 456 ] وأمره ونهيه . ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ، ما له في الآخرة من خلاق; ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها ، ويكفرون بالله ورسله ، ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر ، على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله ، عنادا منهم ، وبغيا على رسله ، وتعديا منهم لحدوده ، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب ، فذلك تأويل قوله .

وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يعني به الشياطين ، وأن قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ، يعني به الناس . وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف؛ وذلك أنهم مجمعون على أن قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ) ، معني به اليهود دون الشياطين : ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنزيل؛ لأن الآيات قبل قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ) ، وبعد قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم ، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم ، مع علمهم بخطأ فعلهم ، فقوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، أحد تلك الأخبار عنهم .

وقال بعضهم : إن الذين وصف الله - جل ثناؤه - بقوله : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ، فنفى عنهم العلم ، هم الذين وصفهم الله بقوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) . وإنما نفى عنهم - جل ثناؤه - العلم بقوله : ( لو كانوا يعلمون ) - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله : ( ولقد علموا ) - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا ، وإنما العالم العامل بعلمه ، وأما إذا خالف عمله علمه ، فهو في معاني الجهال . قال : وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل ، وإن كان بفعله عالما : "لو علمت لأقصرت" كما قال كعب بن زهير المزني ، وهو [ ص: 457 ] يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده :


إذ حضراني قلت : لو تعلمانه! ألم تعلما أني من الزاد مرمل


فأخبر أنه قال لهما : "لو تعلمانه" ، فنفى عنهما العلم ، ثم استخبرهما فقال : ألم تعلما؟ قالوا : فكذلك قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ) و ( لو كانوا يعلمون )

وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب ، أعني بقوله : ( ولقد علموا ) وقوله : ( لو كانوا يعلمون ) ، وإنما هو استخراج ، وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه ، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن - أولى .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ( 103 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) ، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، "آمنوا" فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم ، و"اتقوا" ربهم فخافوه فخافوا عقابه ، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم ، وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه ، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به ، "لو كانوا يعلمون" أن ثواب الله إياهم على ذلك [ ص: 458 ] خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به . وإنما نفى بقوله : ( لو كانوا يعلمون ) العلم عنهم : أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله ، وقدر جزائه على طاعته .

و"المثوبة" في كلام العرب ، مصدر من قول القائل : أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة" ، فأصل ذلك من : "ثاب إليك الشيء" بمعنى : رجع . ثم يقال : "أثبته إليك " أي ، رجعته إليك ورددته ، فكان معنى "إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها" : إرجاعه إليه منها بدلا ورده عليه منها عوضا ، ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه : مثيبا له . ومنه "ثواب" الله عز وجل عباده على أعمالهم ، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه ، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه - عن ذكر جوابه ، وأن معناه : ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ، ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله : لأثيبوا .

وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك ، ويرى أن جواب قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) ، ( لمثوبة ) ، وأن "لو" إنما أجيبت "بالمثوبة" ، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى "لإن" في أنهما جزاءان ، فإنهما جوابان للإيمان ، فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت "لو" بجواب "لإن" ، و"لإن" بجواب "لو" ، لذلك ، وإن اختلفت أجوبتهما ، فكانت "لو" من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل ، وكانت "لإن" من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما وصفنا من تقاربهما؛ فكان يتأول معنى قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) : ولإن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير . [ ص: 459 ]

وبما قلنا في تأويل "المثوبة" قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

1717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( لمثوبة من عند الله ) ، يقول : ثواب من عند الله .

1718 - حدثني يونس قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله ) ، أما "المثوبة" فهو الثواب .

1719 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) ، يقول : لثواب من عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لا تقولوا راعنا ) . فقال بعضهم : تأويله : لا تقولوا خلافا .

ذكر من قال ذلك :

1720 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : لا تقولوا خلافا .

1721 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا خلافا .

1722 - وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

1723 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن رجل عن مجاهد مثله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg


ابوالوليد المسلم 14-06-2022 09:14 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(156)
الحلقة (170)
صــ 460إلى صــ 465



1724 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد مثله . [ ص: 460 ]

وقال آخرون : تأويله : أرعنا سمعك . أي : اسمع منا ونسمع منك .

ذكر من قال ذلك :

1725 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( راعنا ) ، أي : أرعنا سمعك .

1726 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك .

1727 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( راعنا ) ، قال : كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك .

ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا : "راعنا" . فقال بعضهم : هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة ، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

1728 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) قول كانت تقوله اليهود استهزاء ، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم .

1729 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين : فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، كما قالت اليهود والنصارى . [ ص: 461 ]

1730 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، قال : كانوا يقولون : راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين ، فقال الله : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا )

. 1731 - وحدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك! وإنما "راعنا" كقولك ، عاطنا .

1732 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) قال : "راعنا" القول الذي قاله القوم ، قالوا : ( سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) [ سورة النساء : 46 ] قال : "قال : هذا الراعن" - والراعن : الخطاء - قال : فقال للمؤمنين : لا تقولوا خطاء ، كما قال القوم ، وقولوا : انظرنا واسمعوا . قال : كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه ، ويسمع منهم ، ويسألونه ويجيبهم .

وقال آخرون : بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها ، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

1733 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عطاء في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانت لغة في الأنصار في الجاهلية ، فنزلت هذه الآية : ( لا تقولوا راعنا ) ولكن قولوا انظرنا ) إلى آخر الآية . [ ص: 462 ]

1734 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانت لغة في الأنصار .

1735 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء مثله .

1736 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه : أرعني سمعك! فنهوا عن ذلك .

1737 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : "راعنا" : قول الساخر . فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال بعضهم : بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه ، يقال له : رفاعة بن زيد ، كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له ، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه ، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

1738 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر : هذا خطأ ، إنما هو ابن التابوت ، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك ، واسمع غير مسمع ، فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا ، فكان [ ص: 463 ] ناس منهم يقولون : "اسمع غير مسمع" ، كقولك اسمع غير صاغر ، وهي التي في النساء ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) [ سورة النساء : 46 ] ، يقول : إنما يريد بقوله طعنا في الدين . ثم تقدم إلى المؤمنين فقال : "لا تقولوا راعنا" .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في نهي الله - جل ثناؤه - المؤمنين أن يقولوا لنبيه : "راعنا" أن يقال : إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

1739 - "لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا : الحبلة" .

1740 - و"لا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي" .

وما أشبه ذلك ، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب ، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما ، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات .

فإن قال لنا قائل : فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في "العنب" أن يقال له : "كرم" ، وفي "العبد" أن يقال له : "عبد" ، فما المعنى الذي في قوله : ( راعنا ) حينئذ ، الذي من أجله كان النهي من الله - جل ثناؤه - للمؤمنين [ ص: 464 ] عن أن يقولوه ، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله : ( انظرنا ) ؟

قيل : الذي فيه من ذلك ، نظير الذي في قول القائل : "الكرم" للعنب ، و"العبد" للمملوك . وذلك أن قول القائل : "عبدي" لجميع عباد الله ، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله ، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره ، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل ، فيقال : "فتاي" . وكذلك وجه نهيه في "العنب" أن يقال : "كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرم ، وإن كانت مسكنة ، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد؛ فكره أن يتصف بذلك العنب ، فكذلك نهى الله - عز وجل - المؤمنين أن يقولوا : "راعنا"؛ لما كان قول القائل : "راعنا" محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك . من قول العرب بعضهم لبعض : "رعاك الله" : بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى : أرعنا سمعك ، من قولهم : "أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رعاء أو مراعاة" ، بمعنى : فرغته لسماع كلامه . كما قال الأعشى ميمون بن قيس :


يرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا


يعني بقوله : "يرعي" يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك .

وكان الله - جل ثناؤه - قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ، حتى نهاهم - جل ذكره - فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم . فتقدم [ ص: 465 ] إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء ، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها ، ومن المعاني أرقها؛ فكان من ذلك قولهم : ( راعنا ) لما فيه من احتمال معنى : ارعنا نرعاك ، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين ، كما يقول القائل : "عاطنا ، وحادثنا ، وجالسنا" ، بمعنى : افعل بنا ونفعل بك - ومعنى : أرعنا سمعك ، حتى نفهمك وتفهم عنا ، فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك ، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم ، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له ، ولا بالفظاظة والغلظة ، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بقولهم له : ( اسمع غير مسمع وراعنا ) .

يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) ، فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه ، مما يسر اليهود والمشركين .

فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله : ( راعنا ) أنه بمعنى : خلافا ، فمما لا يعقل في كلام العرب؛ لأن "راعيت" في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين : أحدهما بمعنى "فاعلت" من "الرعية" وهي الرقبة والكلاءة . والآخر بمعنى إفراغ السمع ، بمعنى "أرعيته سمعي" . وأما "راعيت" بمعنى "خالفت" ، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب ، إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين ، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد ، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg



الساعة الآن : 07:12 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 214.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 214.11 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.23%)]