ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=262418)

ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:28 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (479)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 139 إلى صـ 146


وقد قدمنا مرارا الآيات الدالة على إطلاق الظلم على الكفر ، كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] . وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] . وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 139 ] ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك ، كما فسره به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثابت في صحيح البخاري .
قوله - تعالى - : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .

الاستفهام بهل هنا بمعنى النفي ، و ( ينظرون ) بمعنى ينتظرون ، أي ما ينتظر الكفار إلا الساعة ، أي القيامة ، ( أن تأتيهم بغتة ) أي في حال كونها مباغتة لهم ، أي مفاجئة لهم ، ( وهم لا يشعرون ) أي بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها .

والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : أن تأتيهم في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الساعة ، وكون ينظرون بمعنى ينتظرون معروف في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس :
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الساعة تأتيهم بغتة - جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة [ 7 \ 187 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها [ 47 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية الآية [ 36 \ 49 - 50 ] .

فالمراد بالصيحة : القيامة .

وقوله : وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية الآية - يدل على أنها تأتيهم وهم في غفلة وعدم شعور بإتيانها ، إلى غير ذلك من الآيات . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة ; فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام ، وذكر بعضا منها في غير هذا الموضع .

[ ص: 140 ] فمن ذلك الإيمان والتقوى ، وذلك في قوله - تعالى - في سورة " يونس " : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 \ 62 - 63 ] .

ومن ذلك الاستقامة ، وقولهم : ربنا الله ، وذلك في قوله في " فصلت " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا [ 41 ] . وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 46 \ 13 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

والخوف في لغة العرب : الغم من أمر مستقبل .

والحزن : الغم من أمر ماض .

وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر .

وإطلاق الخوف على الغم أسلوب عربي معروف .

قال بعض العلماء : ومنه قوله - تعالى - : إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ 2 \ 229 ] .

قال معناه : إلا أن يعلما .

ومنه قول أبي محجن الثقفي :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله : أخاف ، أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته .

وقوله في هذه الآية الكريمة : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام .

وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله - تعالى - : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 - 36 ] .

ولا منافاة في ذلك ، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل ، كما ثبت في الصحيح في حديث وفد عبد القيس ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا .

[ ص: 141 ] ومن أصرحها في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون " .

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح : " وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .

فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - " إماطة الأذى عن الطريق " إيمانا .

وقد أطال البيهقي - رحمه الله - في شعب الإيمان ، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة بتسميتها إيمانا .

فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد .

وقد يطلق الإيمان إطلاقا آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب ، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح .

والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله ، فغيره تابع له ، وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام .

فالإيمان ، على هذا الإطلاق اعتقاد ، والإسلام شامل للعمل .

واعلم أن مغايرته - تعالى - بين الإيمان والإسلام في قوله - تعالى - : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] .

قال بعض العلماء : المراد بالإيمان هنا معناه الشرعي ، والمراد بالإسلام معناه اللغوي ، لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب - إسلام لغة لا شرعا .

وقال بعض العلماء : المراد بكل منهما معناه الشرعي ، ولكن نفي الإيمان في قوله : ولما يدخل الإيمان ، يراد به عند من قال هذا نفي كمال الإيمان ، لا نفي أصله ، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا ; لأن قوله : ولما يدخل فعل في سياق النفي ، وهو صيغة عموم على التحقيق ، وإن لم يؤكد بمصدر ، ووجهه واضح جدا كما قدمناه مرارا .

وهو أن الفعل الصناعي ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر وزمن ونسبة عند البلاغيين ، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية ، وهو أصوب .

[ ص: 142 ] فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعا ، وهو نكرة لم تتعرف بشيء ، فيئول إلى معنى النكرة في سياق النفي .

وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، بقوله :
ونحو لا شربت أو وإن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا


ووجه إهمال ( لا ) في هذه الآية في قوله - تعالى - : لا خوف [ 46 \ 13 ] - أن ( لا ) الثانية التي هي ولا هم يحزنون [ 46 \ 13 ] بعدها معرفة ، وهي الضمير ، وهي لا تعمل في المعارف ، بل في النكرات ، فلما وجب إهمال الثانية أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معا .
قوله - تعالى - : ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون .

قوله - تعالى - في هذه الآية : وأزواجكم فيه لعلماء التفسير وجهان : أحدهما ، أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله ، واقتصر على هذا القول ابن كثير .

والثاني : أن المراد بأزواجهم نساؤهم في الجنة; لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول .

ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم ، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة .

قال - تعالى - : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 55 ] .

وقال كثير من أهل العلم : إن المراد بالشغل المذكور في الآية ، هو افتضاض الأبكار . وقال - تعالى - : وزوجناهم بحور عين [ 52 \ 20 ] . وقال - تعالى - : وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 22 - 23 ] . وقال - تعالى - : فيهن خيرات حسان إلى قوله : حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 22 - 23 ] . وقال : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] . [ ص: 143 ] وقال - تعالى - : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء ، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن ، خلافا لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء ، وأن ذلك لا أصل له في اللغة .

والحق أن ذلك لغة عربية ، ومنه قول الفرزدق :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها


وقول الحماسي :
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا


وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في صفية : " إنها زوجتي " .

وقوله : تحبرون أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد ، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها .
قوله - تعالى - : يطاف عليهم بصحاف من ذهب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة ، والتحلي بهما ، ولبس الحرير ، ومنه السندس والإستبرق ، وفي سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] .
قوله - تعالى - : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، أي تلتذ به الأعين ، أي برؤيته لحسنه ، كما قال - تعالى - : صفراء فاقع لونها تسر الناظرين [ 2 \ 69 ] . وأسند اللذة إلى العين ، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين ، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية ، وهي مقدم شعر الرأس ، في قوله - تعالى - : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه ، في قوله - تعالى - : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة الآية [ 88 \ 2 - 3 ] .

[ ص: 144 ] ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية ، كما أن الخشوع والعمل والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة فيها كل مشتهى ، وكل مستلذ - جاء مبسوطا موضحة أنواعه في آيات كثيرة من كتاب الله ، وجاء محمد أيضا إجمالا شاملا لكل شيء من النعيم .

أما إجمال ذلك ففي قوله - تعالى - : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ 32 \ 17 ] .

وأما بسط ذلك وتفصيله فقد بين القرآن أن من ذلك النعيم المذكور في الآية - المشارب ، والمآكل والمناكح ، والفرش والسرر ، والأواني ، وأنواع الحلي والملابس ، والخدم إلى غير ذلك ، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك .

أما المآكل فقد قال - تعالى - : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 73 ] . وقال : ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 32 - 33 ] . وقال - تعالى - : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] . وقال - تعالى - : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

أما المشارب ، فقد قال - تعالى - : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] . وقال - تعالى - : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا الآية [ 76 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] . وقال - تعالى - : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] . وقال - تعالى - : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] . وقال - تعالى - : كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [ 69 \ 24 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 145 ] وأما الملابس والأواني والحلي ، فقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " النحل " .

وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريبا ، وهي كثيرة كقوله - تعالى - : ولهم فيها أزواج مطهرة الآية [ 2 \ 25 ] . ويكفي ما قدمنا من ذلك قريبا .

وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك ، ففي آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق [ 55 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] . وقوله - تعالى - : على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين [ 56 \ 15 - 16 ] .

والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب .

وقوله - تعالى - : إخوانا على سرر متقابلين [ 15 \ 47 ] . وقوله - تعالى - : فيها سرر مرفوعة [ 88 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان [ 55 \ 76 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما خدمهم فقد قال - تعالى - في ذلك : يطوف عليهم ولدان مخلدون الآية [ 56 \ 17 ] . وقال - تعالى - في سورة " الإنسان " في صفة هؤلاء الغلمان : إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله - تعالى - : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [ 76 \ 20 ] .

والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك - كثيرة جدا ، ولنكتف منها بما ذكرنا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وأنتم فيها خالدون [ 43 \ 71 ] - قد قدمنا الآيات الموضحة ; لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له البتة ، كقوله - تعالى - : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي غير مقطوع ، وقوله - تعالى - : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] . وقوله - تعالى - : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
قوله - تعالى - : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون .

[ ص: 146 ] قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة ، كقوله - تعالى - : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] . وقوله - تعالى - : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] . وقوله - تعالى - : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ 32 \ 17 ] .

وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يدخل أحدكم عمله الجنة " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله . قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .

وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة - هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل ، وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله .

والله يقول : إنما يتقبل الله من المتقين [ 5 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون .

اللام في قوله : ليقض لام الدعاء .

والظاهر أن المعنى أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت .

والدليل على ذلك أمران : الأول : أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا : يا مالك ، ولما خاطبوه في قولهم : ربك .

والثاني : أن الله بين في سورة " المؤمن " أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب ، وذلك في قوله - تعالى - : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب [ 40 \ 49 ] . وقوله : ليقض علينا ربك أي ليمتنا ، فنستريح بالموت من العذاب .

ونظيره قوله - تعالى - : فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] أي أماته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:30 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (480)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 147 إلى صـ 154


وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : قال إنكم ماكثون - دليل على أنهم لا يجابون [ ص: 147 ] إلى الموت ، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية .

وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ، ولا تغني هي عنهم ، ولا يخفف عنهم عذابها ، ولا يخرجون منها .

أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا : قال إنكم ماكثون - فقد دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقوله - تعالى - : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ] . وقوله - تعالى - : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا الآية [ 35 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت الآية [ 14 \ 17 ] .

وأما كون النار لا تغني عنهم ، فقد بينه - تعالى - بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] . فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء - رد عليه بهذه الآية الكريمة .

وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جدا ، كقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها [ 35 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] . وقوله - تعالى - : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] . وقوله - تعالى - : لا يفتر عنهم الآية [ 43 \ 75 ] . وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] . وقوله - تعالى - : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] على الأصح في الأخيرين .

وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] . وقوله - تعالى - في " المائدة " : يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] . وقوله - تعالى - في " الحج " : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها الآية [ 22 \ 22 ] . وقوله - تعالى - في " السجدة " : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] . وقوله - تعالى - في " الجاثية " : فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون [ 45 \ 35 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحا شافيا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات [ ص: 148 ] الكتاب " في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] . وفي سورة " النبإ " في الكلام على قوله - تعالى - : لابثين فيها أحقابا [ 78 \ 23 ] وسنوضحه أيضا - إن شاء الله - في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية " النبإ " المذكورة ، ونوضح هناك - إن شاء الله - إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث .
قوله - تعالى - : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشورى " في الكلام على قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] .
قوله - تعالى - : بلى ورسلنا لديهم يكتبون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 9 ] وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ] .
قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين .

اختلف العلماء في معنى إن في هذه الآية .

فقالت جماعة من أهل العلم : إنها شرطية ، واختاره غير واحد ، وممن اختاره ابن جرير الطبري ، والذين قالوا : إنها شرطية ، اختلفوا في المراد بقوله : فأنا أول العابدين .

فقال بعضهم : فأنا أول العابدين لذلك الولد .

وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولدا .

وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد .

وقالت جماعة آخرون : إن لفظة إن في الآية نافية .

والمعنى : ما كان لله ولد ، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله : فأنا أول العابدين ثلاثة أوجه : الأول - وهو أقربها - : أن المعنى : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له [ ص: 149 ] عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

والثاني : أن معنى قوله : فأنا أول العابدين أي الآنفين المستنكفين من ذلك ، يعني القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له .

والعرب تقول : عبد - بكسر الباء - يعبد - بفتحها - فهو عبد - بفتح فكسر - على القياس ، وعابد أيضا سماعا إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه ، ومنه قول الفرزدق :
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليبا بدارم


فقوله : وأعبد ، يعني آنف وأستنكف .

ومنه أيضا قول الآخر : متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما

وفي قصة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المشهورة ، أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت ، فولدت لستة أشهر ، فبعث بها عثمان لترجم ، اعتقادا منه أنها كانت حاملا قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر ، فقال له علي - رضي الله عنهما - : إن الله يقول : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ويقول - جل وعلا - : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر .

فما عبد عثمان - رضي الله عنه - أن بعث إليها لترد ولا ترجم .

ومحل الشاهد من القصة ، فوالله : ( ما عبد عثمان ) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق .

الوجه الثالث : أن المعنى فأنا أول العابدين أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن ( إن ) نافية ، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء .

[ ص: 150 ] وإنما اخترنا أن إن هي النافية لا الشرطية ، وقلنا : إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا - لأربعة أمور : الأول : أن هذا القول جار على الأسلوب العربي جريانا واضحا ، لا إشكال فيه ، فكون ( إن كان ) بمعنى ما كان - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، كقوله - تعالى - : إن كانت إلا صيحة واحدة [ 36 \ 29 ] أي ما كانت إلا صيحة واحدة .

فقولك مثلا معنى الآية الكريمة : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم ، المنزه عن الولد ، أو الآنفين المستنكفين من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه ، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - لا إشكال فيه ; لأنه جار على اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، دال على تنزيه الله تنزيها تاما عن الولد ، من غير إيهام البتة لخلاف ذلك .

الأمر الثاني : أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها - هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا [ 19 \ 88 - 89 ] . والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن ( إن ) نافية .

فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع - النفي الصريح .

وخير ما يفسر به القرآن القرآن ; فكون المعبر به في الآية ( ما كان للرحمن ولد ) [ 43 \ 81 ] بصيغة النفي الصريح - مطابق لقوله - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] . وقوله - تعالى - في أول " الفرقان " : ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد الآية [ 23 \ 91 ] . وقوله - تعالى - : لم يلد ولم يولد [ 112 \ 3 ] . وقوله - تعالى - : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون [ 37 \ 151 - 152 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما على القول بأن ( إن ) شرطية ، وأن قوله - تعالى - : فأنا أول العابدين - جزاء [ ص: 151 ] لذلك الشرط ، فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله ، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى .

الأمر الثالث : هو أن القول بأن ( إن ) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية ، إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال ، وكتاب الله - جل وعلا - يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها .

وإيضاح هذا أنه على القول بأن ( إن ) شرطية ، وقوله : فأنا أول العابدين جزاء الشرط - لا معنى لصدقه البتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء .

والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة - منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط ، وتاليها الذي هو الجزاء ، والبرهان القاطع على صحة هذا هو كون الشرطية المتصلة تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معا ، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها ، فمثال كذبهما معا مع صدقها قوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى ، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها قضية كاذبة بلا شك ، ونعني بأداة الربط لفظة ( لو ) من الطرف الأول ، واللام من الطرف الثاني ، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول : كان فيهما آلهة إلا الله ، وهذه قضية في منتهى الكذب ، وصار الطرف الثاني فسدتا ، أي السماوات والأرض ، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى .

فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته .

فإن كان الربط صحيحا فهي صادقة ، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط .

وإن كان الربط بينهما كاذبا كانت كاذبة كما لو قلت : لو كان هذا إنسانا لكان حجرا ، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح .

وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جدا ، كالآية التي ذكرنا ، وكقولك : لو كان الإنسان حجرا لكان جمادا ، ولو كان الفرس ياقوتا لكان حجرا ، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط .

ومثال صدقها مع كذب أحدهما قولك : لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت ; [ ص: 152 ] فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها ، مع أنها كاذبة في أحد الطرفين دون الآخر ; لأن عدم النجاة من الموت صدق ، وكون زيد في السماء كذب ، هكذا مثل بهذا المثال البناني ، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية ، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث .

والمثال الصحيح : لو كان الإنسان حجرا لكان جسما .

واعلم أن قوما زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك .

وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي .

والتحقيق الأول .

ولم يقل أحد البتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات .

فإذا حققت هذا فاعلم أن الآية الكريمة - على القول بأنها جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال .

وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير : أن مصب الصدق والكذب في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك - فمعنى الآية عليه باطل ، بل هو كفر; لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .

لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد لم يكن أول العابدين ، وفساد هذا المعنى كما ترى .

وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية .

فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة أيضا ، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال; لأن كون المعبود ذا ولد ، واستحقاقه هو أو ولده العبادة ، لا يصح الربط بينهما البتة إلا على معنى ، هو كفر بالله ; لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولدا أو والدا .

[ ص: 153 ] وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله : إن كان للرحمن ولد - إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد .

ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال .

فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد - ظهور فساده كما ترى ، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلا ، فادعاء أن ( إن ) في الآية شرطية مثل ما لو قيل : لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له ، وهذا لا يصدق بحال; لأن واحدا من آلهة متعددة لا يمكن أن يعبد ، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال .

ويتضح لك ذلك بمعنى قوله : وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض الآية [ 23 \ 91 ] .

فإن قوله : ( إذا ) أي لو كان معه غيره من الآلهة لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به ، وغالب بعضهم بعضا ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ، ولفسد كل شيء ، كما قال - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين .

ومعنى ابتغائهم إليه - تعالى - سبيلا - هو طلبهم طريقا إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم .

والحاصل أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء ، إلا إذا كان الجزاء مستحيلا أيضا ; لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل .

أما كون الشرط مستحيلا والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر - فهذا مما لا يصح بحال .

ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه .

ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط ، وصحة تاليها [ ص: 154 ] الذي هو الجزاء - لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه ، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك ، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط - لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما البتة .

وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها ، بل هو مناقض لمعنى الآية .

والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان ، ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلا .

وبالثاني منهما كون الصدق المذكور من أجل خصوص المادة .

ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات ، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده; لأنه يصدق في مادة ، ويكذب في أخرى .

والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد ، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال .

ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالا خاصة .

فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء ، فلا بد أن يكون ذلك ، لكونها اتفاقية ، أو لأجل خصوص المادة فقط .

فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك : إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت .

فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل ، والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح .

وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية .

ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلا ، فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه ، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلا ، وإنما هو في اللفظ فقط .

فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلا ، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ ، فهو كقولك : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:17 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (481)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 155 إلى صـ 162


وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة [ ص: 155 ] " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] فراجعه .

ومعلوم أن قوله : قل إن كان للرحمن ولد لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ، ولم يدع أحد أنها لا علاقة بين طرفيها أصلا .

ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط - ما مثل به الفخر الرازي لهذه الآية الكريمة ، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به ، فإنه لما قال : إن الشرط الذي هو إن كان للرحمن ولد باطل ، والجزاء الذي هو : فأنا أول العابدين صحيح .

مثل لذلك بقوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم ، يعني أن قوله : إن كان الإنسان حجرا شرط باطل ، فهو كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فكون الإنسان حجرا ، وكون الرحمن ذا ولد - كلاهما شرط باطل .

فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله : فأنا أول العابدين يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو إن كان للرحمن ولد .

وهذا غلط فاحش جدا ، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة ; لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - إنما صدق لأجل خصوص المادة ، لا لمعنى اقتضاه الربط البتة .

وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر ، والنسبة بين الإنسان والجسم - هي العموم والخصوص المطلق في كليهما .

فالجسم أعم مطلقا من الحجر ، والحجر أخص مطلقا من الجسم ، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضا عموما مطلقا ، والإنسان أخص من الجسم أيضا خصوصا مطلقا ; فالجسم جنس قريب للحجر ، وجنس بعيد للإنسان ، وإن شئت قلت : جنس متوسط له .

وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول : الجسم إما نام ؛ أي يكبر تدريجا أو غير نام ، فغير النامي كالحجر مثلا ، ثم تقسم النامي تقسيما ثانيا ، فتقول : [ ص: 156 ] النامي إما حساس أو غير حساس ، فغير الحساس منه كالنبات .

ثم تقسم الحساس تقسيما ثالثا ، فتقول : الحساس إما ناطق أو غير ناطق ، والناطق منه هو الإنسان .

فاتضح أن كلا من الإنسان والحجر يدخل في عموم الجسم ، والحكم بالأعم على الأخص صادق في الإيجاب بلا نزاع ولا تفصيل .

فقولك : الإنسان جسم صادق في كل تركيب ، ولا يمكن أن يكذب بوجه ، وذلك للملابسة الخاصة بينهما من كون الجسم جنسا للإنسان ، وكون الإنسان فردا من أفراد أنواع الجسم ، فلأجل خصوص هذه الملابسة بينهما - كان الحكم على الإنسان بأنه جسم صادقا على كل حال ، سواء كان الحكم بذلك غير معلق على شيء ، أو كان معلقا على باطل أو حق .

فالاستدلال : يصدق هذا المثال على صدق الربط بين الشرط والجزاء في قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين بطلانه كالشمس في رابعة النهار .

والعجب كل العجب من عاقل يقوله; لأن المثال المذكور إنما صدق ؛ لأن الإنسان يشمله مسمى الجسم .

أما من كان له ولد فالنسبة بينه وبين المعبود الحق هي تباين المقابلة ; لأن المقابلة بين المعبود بحق وبين والد أو ولد هي المقابلة بين الشيء ومساوي نقيضه ; لأن من يولد أو يولد له لا يمكن أن يكون معبودا بحق بحال .

وإيضاح المنافاة بين الأمرين أنك لو قلت : الإنسان جسم - لقلت الحق ، ولو قلت : المولود له معبود ، أو المولود معبود - قلت الباطل الذي هو الكفر البواح .

ومما يوضح ما ذكرنا إجماع جميع النظار على أنه إن كانت إحدى مقدمتي الدليل باطلة ، وكانت النتيجة صحيحة - أن ذلك لا يكون إلا لأجل خصوص المادة فقط ، وأن ذلك الصدق لا عبرة به ، فحكمه حكم الكذب ، ولا يعتبر إلا الصدق اللازم المضطرد في جميع الأحوال .

فلو قلت مثلا : كل إنسان حجر ، وكل حجر جسم ; لأنتج من الشكل الأول كل [ ص: 157 ] إنسان جسم ، وهذه النتيجة في غاية الصدق كما ترى .

مع أن المقدمة الصغرى من الدليل التي هي قولك : كل إنسان حجر في غاية الكذب كما ترى .

وإنما صدقت النتيجة لخصوص المادة كما أوضحنا ، ولولا ذلك لكانت كاذبة ; لأن النتيجة لازم الدليل ، والحق لا يكون لازما للباطل ، فإن وقع شيء من ذلك فلخصوص المادة كما أوضحنا .

وبهذا التحقيق تعلم أن الشرط الباطل لا يلزم ، وتطرد صحة ربطه ، إلا بجزاء باطل مثله .

وما يظنه بعض أهل العلم من أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ 10 \ 94 ] كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين - فهو غلط فاحش ، والفرق بين معنى الآيتين شاسع ، فظن استوائها في المعنى باطل .

وإيضاح ذلك أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك الآية ، معناه المقصود منه جار على الأسلوب العربي ، لا إبهام فيه ; لأنا أوضحنا سابقا أن مدار صدق الشرطية على صحة الربط بين شرطها وجزائها ، فهي صادقة ولو كذب طرفاها عند إزالة الربط كما تقدم إيضاحه قريبا .

فربط قوله : فإن كنت في شك بقوله : فاسأل الذين يقرءون الكتاب - ربط صحيح لا إشكال فيه ; لأن الشاك في الأمر شأنه أن يسأل العالم به عنه كما لا يخفى ، فهي قضية صادقة ، مع أن شرطها وجزاءها كلاهما باطل بانفراده ، فهي كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهي شرطية صادقة لصحة الربط بين طرفيها ، وإن كان الطرفان باطلين عند إزالة الربط .

أما قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين على القول بأن ( إن ) شرطية - لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها البتة ; لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال .

ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا أشك ، ولا أسأل أهل الكتاب " فنفى الطرفين [ ص: 158 ] مع أن الربط صحيح ، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى ، فلا يقول هو ولا غيره : ليس له ولد ، ولا أعبده .

وعلى كل حال ، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح ، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا ، فلا يصح .

فاتضح الفرق بين الآيتين ، وحديث : " لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب " . رواه قتادة بن دعامة مرسلا .

وبنحوه قال بعض الصحابة فمن بعدهم ، ومعناه صحيح بلا شك .

وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه ; لقبحه وشناعته ، ولم أعلم أحدا من الكفار في ما قص الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه ، وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه .

وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه الديني واللغوي .

قال في الكشاف ما نصه : قل إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ، ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .

وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة ، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها .

ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول : هو شيطان ، وليس بإله .

فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله - تعالى - خالقا للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماحة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن [ ص: 159 ] نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه .

ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير - رحمه الله - للحجاج حين قال له : أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .

وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد ، المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : ( إن كان للرحمن ولد ) في زعمكم ( فأنا أول العابدين ) الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد إليه . ا هـ

الغرض من كلام الزمخشري .

وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه ، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية - ما الله عالم به .

ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله .

وسنبين لك ما يتضح به ذلك ; فإنه أولا قال : ( إن كان للرحمن ولد ) وضح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .

فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل ; لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه ، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد - فلا شك أن ذلك يقتضي أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال ، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه ; لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة ، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد ، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا .

أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا البتة .

وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم ; فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه .

فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه ; لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله .

[ ص: 160 ] والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارجا عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا .

فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج - دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه .

فإنه قال فيها : إن الحجاج قال لسعيد بن جبير : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى .

قال سعيد للحجاج : لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .

فهو يدل على أنه علق المحال على المحال ، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .

فقوله : لو علمت أن ذلك إليك في معنى قل إن كان للرحمن ولد ، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد .

فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .

ولكنه لم يقل هذا ; لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه .

وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر .

فقد اضطر فيه أيضا إلى ألا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا ; فإنه قال فيه : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ، ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول هو شيطان ، وليس بإله .

فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي : إن كان الله خالقا للكفر في القلوب . . . إلخ .

فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم - مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله ، وهذا المستحيل في زعمه الباطل ، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل [ ص: 161 ] وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه - فهو شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .

فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله ، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية .

لأنه جعل قوله : إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى " إن كان للرحمن ولد " في أن الشرط فيهما مستحيل ، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .

كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أول العابدين .

فاللازم لكلامه أن يقول : لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له ، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله : فأنا أول العابدين .

وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه وشدة ضلاله وتناقضه ; لشناعته ووضوح بطلانه ، فهي عبارات مزخرفة ، وشقشقة لا طائل تحتها ، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية ، والتناقض الواضح ، وكم من كلام مليء بزخرف القول ، وهو عقيم لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته كما قيل : وإني وإني ثم إني وإنني إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا فظل يعمل أياما رويته وشبه الماء بعد الجهد بالماء

واعلم أن الكلام على القدر وخلق أفعال العباد ، قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] . ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله - تعالى - خالق كل شيء ، كما قال - تعالى - : الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . وقال - تعالى - : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] . وقال : هل من خالق غير الله [ 35 \ 2 ] . وقال - تعالى - : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] .

فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن لله شيطان - سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا - .

[ ص: 162 ] وجزى الزمخشري بما هو أهله .

الأمر الرابع : هو دلالة استقراء القرآن العظيم أن الله - تعالى - إذا أراد أن يفرض المستحيل ليبين الحق بفرضه - علقه أولا بالأداة التي تدل على عدم وجوده ، وهي لفظة ( لو ) ، ولم يعلق عليه البتة إلا محالا مثله ، كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] . وقوله - تعالى - : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا الآية [ 21 \ 17 ] .

وأما تعليق ذلك بأداة لا تقتضي عدم وجوده كلفظة ( إن ) مع كون الجزاء غير مستحيل - فليس معهودا في القرآن .

ومما يوضح هذا المعنى الذي ذكرنا - المحاورة التي ذكرها جماعة من المفسرين ، التي وقعت بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة ، وهي وإن كانت أسانيدها غير قائمة ، فإن معناها اللغوي صحيح .

وهي أن النضر بن الحارث كان يقول : الملائكة بنات الله ، فأنزل الله قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية .

فقال النضر للوليد بن المغيرة : ألا ترى أنه قد صدقني ؟

فقال الوليد : لا ، ما صدقك ، ولكنه يقول : ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، أي الموحدين من أهل مكة المنزهين له عن الولد . فمحاورة هذين الكافرين ، العالمين بالعربية مطابقة لما قررنا .

لأن النضر قال : إن معنى الآية على أن ( إن ) شرطية مطابق لما يعتقده الكفار من نسبة الولد إلى الله ، وهو معنى محذور وأن الوليد قال : إن ( إن ) نافية ، وأن معنى الآية على ذلك هو مخالفة الكفار وتنزيه الله عن الولد .

وبجميع ما ذكرنا يتضح أن ( إن ) في الآية الكريمة نافية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:19 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (482)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 163 إلى صـ 170

وذلك مروي عن ابن عباس والحسن والسدي وقتادة وابن زيد وزهير بن محمد وغيرهم .
[ ص: 163 ] تنبيه

اعلم أن ما قاله ابن جرير وغير واحد من أن القول بأن ( إن ) نافية - يلزمه إيهام المحذور الذي لا يجوز في حق الله .

قالوا : لأنه إن كان المعنى : ما كان لله ولد ; فإنه لا يدل على نفي الولد إلا في الماضي ، فللكفار أن يقولوا : إذا صدقت ، لم يكن له في الماضي ولد . ولكن الولد طرأ عليه بعد ذلك لما صاهر الجن ، وولدت له بناته التي هي الملائكة .

وإن هذا المحذور يمنع من الحمل على النفي لا شك في عدم صحته ; لدلالة الآيات القرآنية بكثرة على أن هذا الإيهام لا أثر له ولو كان له أثر لما كان الله يمدح نفسه بالثناء عليه بلفظة ( كان ) الدالة على خصوص الزمن الماضي في نحو قوله - تعالى - : وكان الله عزيزا حكيما [ 4 \ 158 ] . وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 17 ] . وكان الله غفورا رحيما [ 4 \ 96 ] . وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 27 ] . إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي يصعب حصرها .

فإن معنى كل تلك الآيات أنه كان ولم يزل .

فلو كان الكفار يقولون ذلك الذي زعموه الذي هو قولهم : صدقت ، ما كان له ولد في الماضي ، ولكنه طرأ له - لقالوا مثله في الآيات التي ذكرنا .

كأن يقولوا : كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] في الماضي ، ولكنه طرأ عليه عدم ذلك . وهكذا في جميع الآيات المذكورة ونحوها .

وأيضا فإن المحذور الذي زعموه لم يمنع من إطلاق نفي الكون الماضي في قوله - تعالى - : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] . وقوله : وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] . وقوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

ومن أوضحها في محل النزاع قوله - تعالى - : وما كان معه من إله الآية [ 23 \ 91 ] .

ولم يمنع من نفي القرآن للولد في الزمن الماضي في قوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد [ 23 \ 91 ] [ ص: 164 ] فإن الكفار لم يقولوا يوما ما : صدقت ، ما اتخذه في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه .

وكذلك في قوله : ولم يتخذ ولدا [ 17 \ 111 ] . وقوله : لم يلد [ 112 \ 3 ] ; لأن ( لم ) تنقل المضارع إلى معنى الماضي .

والكفار لم يقولوا يوما : صدقت ، لم يتخذ ولدا في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه ، ولم يقولوا : لم يلد في الماضي ، ولكنه ولد أخيرا .

والحاصل أن الكفار لم يقروا أن الله منزه عن الولد لا في الماضي ولا في الحال ، ولا في الاستقبال .

ومعلوم أن الولادة المزعومة حدث متحدد .

وبذلك تعلم أن ما زعموه من إيهام المحذور في كون ( إن ) في الآية نافية - لا أساس له ولا معول عليه ، وأن ما ادعوه من كونها شرطية ليس لها معنى في اللغة العربية ، إلا المعنى المحذور الذي لا يجوز في حق الله بحال .

واعلم أن كلام الفخر الرازي في هذه الآية الكريمة الذي يقتضي إمكان صحة الربط بين طرفيها على أنها شرطية لا شك في غلطه فيه .

وأما إبطاله لقول من قال : إن المعنى : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين له والمكذبين لكم في ذلك ، فهو إبطال صحيح ، وكلامه فيه في غاية الحسن والدقة ، وهو يقتضي إبطاله بنفسه ، لجميع ما كان يقرره في الآية الكريمة .

والحاصل أن كون معنى ( إن ) في الآية الكريمة هو النفي لا إشكال فيه ، ولا محذور ولا إيهام ، وأن الآيات القرآنية تشهد له لكثرة الآيات المطابقة لهذا المعنى في القرآن .

وأما كون معنى الآية الشرط والجزاء فلا يصح له معنى غير محذور في اللغة ، وليس له في كتاب الله نظير ، لإجماع أهل اللسان العربي على اختلاف المعنى في التعليق بإن والتعليق بلو .

لأن التعليق بـ ( لو ) يدل على عدم الشرط ، وعدم الشرط استلزم عدم المشروط بخلاف ( إن ) .

[ ص: 165 ] فالتعليق بها يدل على الشك في وجود الشرط بلا نزاع .

وما خرج عن ذلك من التعليق بها مع العلم بوجود الشرط أو العلم بنفيه ، فلأسباب أخر ، وأدلة خارجة ، ولا يجوز حملها على أحد الأمرين المذكورين ، إلا بدليل منفصل كما أوضحناه في غير هذا الموضع .
تنبيه

اعلم أن ما ذكرنا من أن ( لو ) تقتضي عدم وجود الشرط ، وأن ( إن ) تقتضي الشك فيه - لا يرد عليه قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية [ 10 \ 94 ] . كما أشرنا له قريبا .

لأن التحقيق أن الخطاب في قوله : ( فإن كنت في شك ) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به من يمكن أن يشك في ذلك من أمته .

وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تجعل مع الله إلها آخر الآية [ 17 \ 22 ] - دلالة القرآن الصريحة على أنه - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليه الخطاب من الله ، والمراد به التشريع لأمته ، ولا يراد هو - صلى الله عليه وسلم - البتة بذلك الخطاب .

وقدمنا هناك أن من أصرح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . فالتحقيق أن الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته لا هو نفسه ; لأنه هو المشرع لهم بأمر الله .

وإيضاح ذلك أو معنى : إما يبلغن عندك الكبر أي إن يبلغ عندك الكبر يا نبي الله والداك أو أحدهما ، فلا تقل لهما : أف .

ومعلوم أن أباه مات وهو حمل ، وأمه ماتت وهو في صباه ، فلا يمكن أن يكون المراد : إن يبلغ الكبر عندك هما أو أحدهما ، والواقع أنهما قد ماتا قبل ذلك بأزمان .

وبذلك يتحقق أن المراد بالخطاب غيره من أمته الذي يمكن إدراك والديه أو أحدهما الكبر عنده .

وقد قدمنا أن مثل هذا أسلوب عربي معروف ، وأوردنا شاهدا لذلك ؛ رجز سهل بن مالك الفزاري في قوله : [ ص: 166 ]
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرة معطاره
إياك أعني واسمعي يا جاره

وقد بسطنا القصة هناك ، وبينا أن قول من قال : إن الخطاب في قوله - تعالى - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية [ 17 \ 23 ] لكل من يصح خطابه من أمته - صلى الله عليه وسلم - لا له هو نفسه - باطل ; بدليل قوله - تعالى - بعده في سياق الآيات : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة الآية [ 17 \ 39 ] .

والحاصل أن آية : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية [ 10 \ 94 ] لا ينقض بها الضابط الذي ذكرنا ; لأنها كقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 22 ] . لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] . فلا تكونن من الممترين [ 10 \ 94 ] . ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] . ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

ومعلوم أنه هو - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل شيئا من ذلك البتة ، ولكنه يؤمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه .

وبذلك تعلم اطراد الضابط الذي ذكرنا في لفظة لو ، ولفظة إن ، وأنه لا ينتقض بهذه الآية .

هذا ما ظهر لنا في هذه الآية الكريمة ، ولا شك أنه لا محذور فيه ولا غرر ولا إيهام ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون .

قد قدمنا معنى لفظة سبحان ، وما تدل عليه من تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وإعراب لفظة سبحان مع بعض الشواهد العربية في أول سورة " بني إسرائيل " .

ولما قال - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية - نزه نفسه تنزيها تاما عما يصفونه به من نسبة الولد إليه ، مبينا أن رب السماوات والأرض ورب العرش - جدير بالتنزيه عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

[ ص: 167 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أنه لما ذكر وصف الكفار له بما لا يليق به ، نزه نفسه عن ذلك معلما خلقه في كتابه أن ينزهوه عن كل ما لا يليق به - جاء مثله موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد إلى قوله - تعالى - : سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 - 92 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ 17 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ 4 \ 171 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل الآية [ 15 \ 3 ] .
قوله - تعالى - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] .
قوله - تعالى - : وعنده علم الساعة .

قد بينا الآيات الموضحة في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية [ 6 \ 59 ] .

وفي " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو الآية [ 7 \ 178 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
[ ص: 168 ] قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني " إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله - تعالى - : وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .

قرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي - : ( وقيله ) بفتح اللام وضم الهاء ، وقرأه عاصم وحمزة : ( وقيله ) بكسر اللام والهاء .

قال بعض العلماء : إعرابه بأنه عطف محل على ( الساعة ) لأن قوله - تعالى - : وعنده علم الساعة [ 43 \ 85 ] - مصدر مضاف إلى مفعوله .

فلفظ الساعة مجرور لفظا بالإضافة ، منصوب محلا بالمفعولية ، وما كان كذلك جاز في تابعه النصب نظرا إلى المحل ، والخفض نظرا إلى اللفظ ، كما قال في الخلاصة : وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن

وقال في نظيره في الوصف : واخفض أو انصب تابع الذي انخفض كمبتغي جاه ومالا من نهض

وقال بعضهم : هو معطوف على سرهم [ 43 \ 80 ] .

وعليه فالمعنى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم [ 43 \ 80 ] . وقيله يارب الآية .

وقال بعضهم : هو منصوب على أنه مفعول مطلق .

أي ، وقال : قيله ، وهو بمعنى قوله ، إلا أن القاف لما كسرت أبدلت الواو ياء لمجانسة الكسرة .

قالوا : ونظير هذا الإعراب قول كعب بن زهير
: تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا بن أبي سلمى لمقتول


أي ويقولون قيلهم .

[ ص: 169 ] وقال بعضهم : هو منصوب بيعلم محذوفة ; لأن العطف الذي ذكرنا على قوله : سرهم ، والعطف على ( الساعة ) يقال فيه : إنه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يصلح لكونه اعتراضا ، وتقدير الناصب إذا دل المقام عليه لا إشكال فيه . كما قال في الخلاصة : ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما

وأما على قراءة الخفض فهو معطوف على الساعة ، أي وعنده علم الساعة ، وعلم ( قيله يا رب ) .

واختار الزمخشري أنه مخفوض بالقسم ، ولا يخفى بعده كما نبه عليه أبو حيان .

والتحقيق أن الضمير في ( قيله ) للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

والدليل على ذلك أن قوله بعد : فاصفح عنهم وقل سلام [ 43 \ 89 ] - خطاب له - صلى الله عليه وسلم - بلا نزاع ، فادعاء أن الضمير في ( قيله ) لعيسى لا دليل عليه ولا وجه له .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شكواه - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه عدم إيمان قومه - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 ] . وذكر مثله عن موسى في قوله - تعالى - في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون [ 44 \ 22 ] . وعن نوح قوله - تعالى - : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا [ 71 \ 5 - 6 ] . إلى آخر الآيات .
قوله - تعالى - : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون .

قرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي - : ( فسوف يعلمون ) بياء الغيبة ، وقرأ نافع وابن عامر : ( فسوف تعلمون ) بتاء الخطاب .

وهذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة أمور : الأول : أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصفح عن الكفار .

والثاني : أن يقول لهم سلام .

[ ص: 170 ] والثالث : تهديد الكفار بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار .

وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع ؛ كقوله - تعالى - في الأول : وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] . وقوله - تعالى - : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم [ 22 \ 48 ] .

والصفح : الإعراض عن المؤاخذة بالذنب .

قال بعضهم : وهو أبلغ من العفو .

قالوا : لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق ، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضا عن عتابه فما فوقه .

وأما الأمر الثاني : فقد بين - تعالى - أنه هو شأن عباده الطيبين .

ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - سيدهم ، كما قال - تعالى - : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] . وقال - تعالى - : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] . وقال عن إبراهيم : إنه قال له أبوه : لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 19 \ 46 ] . قال له : سلام عليك [ 19 \ 47 ] .

ومعنى السلام في الآيات المذكورة إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ، ومن مجازاتهم لهم بالسوء ، أي سلمتم منا لا نسافهكم ، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا .

وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة - قد جاء موضحا في آيات كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 67 ] . وقوله : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] . وقوله - تعالى - : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . وقوله - تعالى - : لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:22 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (483)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 171 إلى صـ 178


[ ص: 171 ] وكثير من أهل العلم يقول : إن قوله - تعالى - : فاصفح عنهم وما في معناه - منسوخ بآيات السيف ، وجماعات من المحققين يقولون : هو ليس بمنسوخ .

والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم - وصف كريم ، وأدب سماوي ، لا يتعارض مع ذلك ، والعلم عند الله - تعالى - .
[ ص: 172 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الدُّخَانِ

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ .

أَبْهَمَ - تَعَالَى - هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ 97 \ 1 ] وَبَيَّنَ كَوْنَهَا ( مُبَارَكَةٍ ) الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ 97 \ 3 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ .

فَقَوْلُهُ : فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، إِلَى آخِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي سُورَةِ " الْقَدْرِ " - كَثِيرَةُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ جِدًّا .

وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [ 2 \ 185 ] .

فَدَعْوَى أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِنَصِّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحِ .

وَلَا شَكَّ كُلُّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ .

وَالْأَحَادِيثُ - الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُهُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ شَعْبَانَ - الْمُخَالِفَةُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ - لَا أَسَاسَ لَهَا ، وَلَا يَصِحُّ سَنَدُ شَيْءٍ مِنْهَا ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ .

فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ مُسْلِمٍ يُخَالِفُ نَصَّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَ بِلَا مُسْتَنَدِ كِتَابٍ ، وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ .
قوله - تعالى - : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا .

معنى قوله : يفرق ، أي يفصل ويبين ، ويكتب في الليلة المباركة التي هي ليلة القدر - كل أمر حكيم ، أي ذي حكمة بالغة ; لأن كل ما يفعله الله مشتمل على أنواع الحكم الباهرة .

وقال بعضهم : حكيم ، أي محكم ، لا تغيير فيه ولا تبديل .

[ ص: 173 ] وكلا الأمرين حق ; لأن ما سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل ، ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة .

وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها .

وإيضاح معنى الآية أن الله - تبارك وتعالى - في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة إلى ليلة القدر من السنة الجديدة .

فتبين في ذلك الآجال والأرزاق ، والفقر والغنى ، والخصب والجدب والصحة والمرض ، والحروب والزلازل ، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنا ما كان .

قال الزمخشري في الكشاف : ومعنى ( يفرق ) يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم فيها إلى الأخرى القابلة . إلى أن قال : فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرائيل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ا هـ محل الغرض منه بلفظه .

ومرادنا بيان معنى الآية ، لا التزام صحة دفع النسخ المذكورة للملائكة المذكورين ; لأنا لم نعلم له مستندا .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، يدل أيضا على أن الليلة المباركة هي ليلة القدر ; فهو بيان قرآني آخر .

وإيضاح ذلك أن معنى قوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر أي في ليلة التقدير لجميع أمور السنة ، من رزق وموت ، وحياة وولادة ، ومرض وصحة ، وخصب وجدب ، وغير ذلك من جميع أمور السنة .

قال بعضهم : حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له ، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة .

وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر ، فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم .

[ ص: 174 ] وقد قدمنا في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] - أن قدر بفتح الدال مخففا يقدر ، ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدرا بمعنى قدر تقديرا ، وأن ثعلبا أنشد لذلك قول الشاعر :
فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أروق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر


وبينا هناك ، أن ذلك هو معنى ليلة القدر ; لأن الله يقدر فيها وقائع السنة .

وبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فيها يفرق كل أمر حكيم وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال ، والقدر بسكونها - هما ما يقدره الله من قضائه ، ومنه قول هدبة بن الخشرم :
ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري


واعلم أن قول من قال : إنما سميت ليلة القدر لعظمها وشرفها على غيرها من الليالي من قولهم : فلان ذو قدر ، أي ذو شرف ومكانة رفيعة - لا ينافي القول الأول ; لاتصافها بالأمرين معا ، وصحة وصفها بكل منهما ، كما أوضحنا مثله مرارا .

واختلف العلماء في إعراب قوله : أمرا من عندنا . قال بعضهم : هو مصدر منكر في موضع الحال ، أي أنزلناه في حال كوننا آمرين به .

وممن قال بهذا الأخفش .

وقال بعضهم : هو ما ناب عن المطلق من قوله : ( أنزلناه ) ، وجعل ( أمرا ) بمعنى : إنزالا .

وممن قال به المبرد .

وقال بعضهم هو ما ناب عن المطلق من ( يفرق ) ، فجعل ( أمرا ) بمعنى فرقا ، أو فرق بمعنى ( أمرا ) .

وممن قال بهذا الفراء والزجاج .

وقال بعضهم هو حال من ( أمرا ) ، أي ( يفرق فيها بين كل أمر حكيم ) في حال [ ص: 175 ] كونه ( أمرا من عندنا ) وهذا الوجه جيد ظاهر ، وإنما ساغ إتيان الحال من النكرة وهي متأخرة عنها ; لأن النكرة التي هي ( أمر ) وصفت بقوله ( حكيم ) كما لا يخفى .

وقال بعضهم ( أمرا ) مفعول به لقوله : ( منذرين ) [ 44 \ 3 ] . وقيل غير ذلك .

واختار الزمخشري أنه منصوب بالاختصاص ، فقال : جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وأكسبه فخامة ، بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، وهذا الوجه أيضا ممكن ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] . وفي سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون .

هذا الذي ادعوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - افتراء ، من أنه معلم ، يعنون أن هذا القرآن علمه إياه بشر ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - مجنون - قد بينا الآيات الموضحة لإبطاله .

أما دعواهم أنه معلم فقد قدمنا الآيات الدالة على تلك الدعوى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] . وفي سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون إلى قوله فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 4 - 5 ] .

وبينا الآيات الموضحة لافترائهم وتعنتهم في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] .

وفي الفرقان في الكلام على قوله - تعالى - : فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها الآية [ 25 \ 4 - 5 ] .

وأما دعواهم أنه مجنون ، فقد قدمنا الآيات الموضحة لها ولإبطالها في سورة " قد [ ص: 176 ] أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق الآية [ 23 \ 70 ] .
قوله - تعالى - : وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله .

الرسول الكريم هو موسى ، والآيات الدالة على أن موسى هو الذي أرسل لفرعون وقومه - كثيرة ومعروفة .

وقوله : أدوا إلي أي سلموا إلي عباد الله ، يعني بني إسرائيل ، وأرسلوهم معي .

فقوله : عباد الله مفعول به لقوله : أدوا .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن موسى طلب من فرعون أن يسلم له بني إسرائيل ويرسلهم معه - جاء موضحا في آيات أخر ، مصرحا فيها بأن عباد الله هم بنو إسرائيل ، كقوله - تعالى - في " طه " : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم [ 20 \ 47 ] . وقوله - تعالى - في " الشعراء " : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل الآية [ 26 \ 16 - 17 ] .

والتحقيق أن ( أن ) في قوله : أن أدوا هي المفسرة ; لأن مجيء الرسول يتضمن معنى القول ، لا المخففة من الثقيلة ، وأن قوله : عباد الله مفعول به كما ذكرنا ، وكما أوضحته آية " طه " وآية " الشعراء " لا منادى مضاف .
قوله - تعالى - : وإني عذت بربي وربكم .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب [ 40 \ 27 ] .
وله - تعالى - : كذلك وأورثناها قوما آخرين .

لم يبين هنا من هؤلاء القوم الذين أورثهم ما ذكره هنا ، ولكنه بين في سورة " الشعراء " أنهم بنو إسرائيل ، وذلك في قوله - تعالى - : كذلك وأورثناها بني إسرائيل الآية [ ص: 177 ] [ 26 \ 59 ] كما تقدم في الترجمة ، وفي " الأعراف " .
قوله - تعالى - : ولقد نجينا بني إسراءيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه نجى بني إسرائيل من العذاب المهين الذي كان يعذبهم به فرعون وقومه - جاء موضحا في آيات أخر ، مصرحا فيها بأنواع العذاب المذكور ، كقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم إلى قوله : وأنتم تنظرون [ 2 \ 49 - 50 ] . وقوله في " الأعراف " : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم الآية [ 7 \ 141 ] . وقوله - تعالى - في " المؤمن " : فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه الآية [ 40 \ 25 ] . وقوله - تعالى - عن " إبراهيم " : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم الآية [ 14 \ 16 ] .

وقوله في " الشعراء " : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 \ 22 ] فتعبيده إياهم من أنواع عذابه لهم ، إلى غير ذلك من الآيات .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، من أن فرعون كان عاليا من المسرفين - أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " يونس " : وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين [ 10 \ 83 ] . وقوله - تعالى - في أول " القصص " : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين [ 28 \ 4 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم .

قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : يصب من فوق رءوسهم الحميم [ 22 \ 19 ] .

[ ص: 178 ] وقد تركنا إحالات متعددة بينا فيها بعض آيات سورة " الدخان " هذه ، خشية الإطالة بكثرة الإحالة .
قوله - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون .

قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين الآية [ 19 \ 97 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:26 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (484)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 179 إلى صـ 186



[ ص: 179 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ " الْجَاثِيَةِ " - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى - .

الْأَوَّلُ مِنْهَا : خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .

الثَّانِي : خَلْقُهُ النَّاسَ .

الثَّالِثُ : خَلْقُهُ الدَّوَابَّ .

الرَّابِعُ : اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .

الْخَامِسُ : إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ .

السَّادِسُ : تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ .

وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ .

وَلِذَا قَالَ : لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ قَالَ : آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، ثُمَّ قَالَ : آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .

[ ص: 180 ] أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ 50 \ 6 - 8 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 34 \ 9 ] . وَقَوْلِهِ : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 101 ] . وَقَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 158 ] . وَقَوْلِهِ : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 30 \ 22 ] فِي " الرُّومِ " وَ " الشُّورَى " [ 42 \ 29 ] . وَقَوْلِهِ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [ 40 \ 64 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [ 40 \ 64 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [ 51 \ 47 - 48 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ : وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [ 78 \ 6 - 12 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ .

وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ . [ 30 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [ 2 \ 21 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [ 71 \ 13 - 14 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [ 39 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [ 51 \ 21 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ .

وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " الشُّورَى " : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [ 42 \ 29 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ [ ص: 181 ] مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 39 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [ 39 \ 6 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ .

وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا ، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " آلِ عِمْرَانَ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ 3 \ 190 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " فُصِّلَتْ " : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [ 41 \ 37 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [ 36 \ 37 - 38 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [ 24 \ 44 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ 28 \ 71 - 73 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ 23 \ 80 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا ، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ : مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [ 80 \ 24 - 32 ] .

[ ص: 182 ] وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ .

هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا ، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [ 24 \ 43 ] ؟ .

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا ، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 6 \ 99 ] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [ 78 \ 14 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [ 36 \ 33 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

[ ص: 183 ] وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ " الْجَاثِيَةِ " هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [ 40 \ 13 ] .

وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ فِي " الْبَقَرَةِ " : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ 30 \ 46 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [ 15 \ 22 ] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
تنبيه

اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة " الجاثية " هذه - ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث ، كثرة مستفيضة .

وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " البقرة " وسورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليها مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك ، وسنعيد طرفا منها هنا لأهميتها إن شاء الله - تعالى - .

والأول من البراهين المذكورة : هو خلق السماوات والأرض المذكور هنا في سورة " الجاثية " هذه إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ، لأن خلقه - جل وعلا - للسماوات والأرض - من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت ; لأن من خلق الأعظم الأكبر لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر .

والآيات الدالة على هذا كثيرة ، كقوله - تعالى - : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، وقوله - تعالى - : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] . وقوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 184 ] أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم الآية [ 17 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .

ونظير آية " النازعات " هذه قوله - تعالى - في أول " الصافات " : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا الآية [ 37 \ 11 ] ; لأن قوله : أم من خلقنا يشير به إلى خلق السماوات والأرض وما ذكر معهما المذكور في قوله - تعالى - : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إلى قوله فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 5 - 10 ] .

وأما الثاني من البراهين المذكورة : فهو خلقه - تعالى - للناس المرة الأولى ; لأن من ابتدع - خلقهم على غير مثال سابق - لا شك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى ، كما لا يخفى .

والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جدا في كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] إلى آخر الآيات .

وقوله - تعالى - : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] . وقوله - تعالى - : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين الآية [ 19 \ 66 - 68 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] . وقوله - تعالى - : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] . وقوله - تعالى - : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] . وقوله - تعالى - : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ ص: 185 ] إلى قوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 1 - 7 ] يعني أي شيء يحملك على التكذيب بالدين - أي بالبعث والجزاء - وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم ، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته على إعادته مرة أخرى . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما البرهان الثالث منها ، وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، فإنه يكثر الاستدلال به أيضا على البعث في القرآن العظيم ; لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم ; لأن الجميع أحياء بعد موت .

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 5 - 7 ] . وقوله - تعالى - : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .

فقوله - تعالى - : كذلك نخرج الموتى أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها ، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت ، وقوله - تعالى - : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت . وقوله - تعالى - : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق .

أشار - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آيات هذا القرآن العظيم ، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه .

[ ص: 186 ] وما ذكره - جل وعلا - في آية " الجاثية " هذه - ذكره في آيات أخر بلفظه ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 251 - 252 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين [ 3 \ 107 - 108 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : تلك - بمعنى هذه .

ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب ، كقوله : ذلك الكتاب [ 2 \ 2 ] بمعنى : هذا الكتاب . كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا أنني أنا ذلكا


يعني أنا هذا .

وقد أوضحنا هذا المبحث ، وذكرنا أوجهه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) - في أول سورة " البقرة " ، وقوله - تعالى - : نتلوها أي نقرؤها عليك .

وأسند - جل وعلا - تلاوتها إلى نفسه ; لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك ، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغا عنه - جل وعلا - .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] .

فقوله : فإذا قرأناه ، أي قرأه عليك الملك المرسل به من قبلنا مبلغا عنا ، وسمعته منه ، فاتبع قرآنه ، أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه .

وقد أشار - تعالى - إلى ذلك في قوله : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:28 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (485)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 187 إلى صـ 194


وسماعه - صلى الله عليه وسلم - القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له - هو معنى تنزيله إياه [ ص: 187 ] على قلبه في قوله - تعالى - : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ 2 \ 97 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] يعني آياته الشرعية الدينية .

واعلم أن لفظ الآية يطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وفي القرآن العظيم إطلاقين أيضا .

أما إطلاقاه في اللغة العربية :

فالأول منهما - وهو المشهور في كلام العرب - فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع


ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار في قوله بعده :


رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع


وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم .

ومنه قول برج بن مسهر :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا


وقوله : بآياتنا ، يعني بجماعتنا .

وأما إطلاقاه في القرآن العظيم : فالأول منهما : إطلاق الآية على الشرعية الدينية ، كآيات هذا القرآن العظيم ، ومنه قوله هنا : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الآية .

وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية على الآية الكونية القدرية ، كقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] .

أما الآية الكونية القدرية فهي بمعنى الآية اللغوية التي هي العلامة ; لأن الآيات الكونية علامات قاطعة ، على أن خالقها هو الرب المعبود وحده .

[ ص: 188 ] وأما الآية الشرعية الدينية ، فقال بعض العلماء : إنها أيضا من الآية التي هي العلامة ; لأن آيات هذا القرآن العظيم - علامات على صدق من جاء بها ، لما تضمنته من برهان الإعجاز ، أو لأن فيها علامات يعرف بها مبدأ الآيات ومنتهاها .

وقال بعض العلماء : إنها من الآية بمعنى الجماعة ، لتضمنها جملة وجماعة من كلمات القرآن وحروفه .

واختار غير واحد أن أصل الآية أيية - بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها - فاجتمع في الياءين موجبا إعلال ; لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
من واو وياء بتحريك أصل ألفا أبدل بعد فتح متصل
إن حرك التالي . . . . . . . . . . . إلخ
.

والمعروف في علم التصريف أنه إن اجتمع موجبا إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما ، وإعلال الثاني بإبداله ألفا ، كالهوى والنوى والطوى والشوى ، وربما صحح الثاني وأعل الأول ، كغاية وراية ، وآية - على الأصح من أقوال عديدة - ومعلوم أن إعلالهما لا يصح ، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الإعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق

قوله - تعالى - : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن من كفر بالله وبآيات الله ، ولم يؤمن بذلك مع ظهور الأدلة والبراهين على لزوم الإيمان بالله وآياته ; أنه يستبعد أن يؤمن بشيء آخر ; لأنه لو كان يؤمن بحديث لآمن بالله وبآياته ; لظهور الأدلة على ذلك ، وأن من لم يؤمن بآيات الله متوعد بالويل ، وأنه أفاك أثيم ، والأفاك : كثير الإفك ، وهو أسوأ الكذب ، والأثيم : هو مرتكب الإثم بقلبه وجوارحه ، فهو مجرم بقلبه ولسانه وجوارحه - قد ذكره - تعالى - في غير هذا الموضع ، فتوعد المكذبين لهذا القرآن بالويل يوم القيامة ، وبين استبعاد إيمانهم بأي حديث بعد أن لم يؤمنوا بهذا القرآن ، وذلك بقوله في آخر المرسلات : [ ص: 189 ] وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون [ 47 \ 48 - 50 ] . فقوله - تعالى - : ويل يومئذ للمكذبين كقوله هنا : ويل لكل أفاك أثيم .

وقد كرر - تعالى - وعيد المكذبين بالويل في سورة " المرسلات " كما هو معلوم ، وقوله في آخر " المرسلات " : فبأي حديث بعده يؤمنون كقوله هنا في " الجاثية " : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .

ومعلوم أن الإيمان بالله على الوجه الصحيح يستلزم الإيمان بآياته ، وأن الإيمان بآياته كذلك يستلزم الإيمان به - تعالى - وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم يدل على أن من يسمع القرآن يتلى ، ثم يصر على الكفر والمعاصي في حالة كونه متكبرا عن الانقياد إلى الحق الذي تضمنته آيات القرآن كأنه لم يسمع آيات الله ، له البشارة يوم القيامة بالعذاب الأليم ، وهو الخلود في النار ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " لقمان " : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - في " الحج " : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] . وقوله - تعالى - : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ 47 \ 16 ] . فقوله - تعالى - عنهم : ماذا قال آنفا - يدل على أنهم ما كانوا يبالون بما يتلو عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والهدى .

وقد ذكرنا كثيرا من الآيات المتعلقة بهذا المبحث في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل [ 41 \ 4 - 5 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية : كأن لم يسمعها خففت فيه لفظة ( كأن ) ، ومعلوم أن كأن إذا خففت كان اسمها مقدرا ، وهو ضمير الشأن ، والجملة خبرها ، كما قال في الخلاصة : [ ص: 190 ]
وخففت كأن أيضا فنوي منصوبها وثابتا أيضا روي

وقد قدمنا في أول سورة " الكهف " أن البشارة تطلق غالبا على الإخبار بما يسر ، وأنها ربما أطلقت في القرآن وفي كلام العرب على الإخبار بما يسوء أيضا . وأوضحنا ذلك بشواهده العربية . وقوله في هذه الآية الكريمة : ويل لكل أفاك أثيم قال بعض العلماء : ويل واد في جهنم .

والأظهر أن لفظة ويل كلمة عذاب وهلاك ، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله ، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .

قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - : يؤمنون ، بياء الغيبة .

وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم - : تؤمنون ، بتاء الخطاب .

وقرأه ورش عن نافع ، والسوسي عن أبي عمرو - : يومنون ، بإبدال الهمزة واوا وصلا ووقفا .

وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واوا في الوقف دون الوصل .

والباقون بتحقيق الهمزة مطلقا .
قوله - تعالى - : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة توعد الأفاك الأثيم بالويل ، والبشارة بالعذاب الأليم .

وقد قدمنا قريبا أن من صفاته أنه إذا سمع آيات الله تتلى عليه أصر مستكبرا كأن لم يسمعها ، وذكر في هذه الآية الكريمة أنه إذا علم من آيات الله شيئا اتخذها هزوا ، أي مهزوءا بها ، مستخفا بها ، ثم توعده على ذلك بالعذاب المهين .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يتخذون آيات الله هزوا ، وأنهم سيعذبون على ذلك يوم القيامة - قد بينه - تعالى - في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في آخر [ ص: 191 ] " الكهف " : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا [ 18 \ 106 ] . وقوله - تعالى - في " الكهف " أيضا : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه الآية [ 18 \ 56 - 35 ] . وقوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 34 - 35 ] .

وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة وحفص عن عاصم - : هزؤا بضم الزاي بعدها همزة محققة .

وقرأه حفص عن عاصم بضم الزاي وإبدال الهمزة واوا .

وقرأه حمزة هزءا ، بسكون الزاي بعدها همزة محققة في حالة الوصل .

وأما في حالة الوقف ، فعن حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي ، فتكون الزاي مفتوحة بعدها ألف ، وعنه إبدالها واوا محركة بحركة الهمزة .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لهم عذاب مهين أي لأن عذاب الكفار الذين كانوا يستهزءون بآيات الله لا يراد به إلا إهانتهم وخزيهم وشدة إيلامهم بأنواع العذاب .

وليس فيه تطهير ولا تمحيص لهم ، بخلاف عصاة المسلمين ، فإنهم وإن عذبوا فسيصيرون إلى الجنة بعد ذلك العذاب .

فليس المقصود بعذابهم مجرد الإهانة ، بل ليئولوا بعده إلى الرحمة ودار الكرامة .
قوله - تعالى - : من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم .

قوله - تعالى - : من ورائهم جهنم قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الشواهد العربية في سورة " إبراهيم " في الكلام على قوله - تعالى - : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم . الآية [ 14 \ 15 - 16 ] . وبينا هناك أن أصح الوجهين أن ( وراء ) بمعنى أمام .

فمعنى من ورائه جهنم أي أمامه جهنم يصلاها يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : [ ص: 192 ] وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] أي أمامهم ملك .

وذكرنا هناك الشواهد العربية على إطلاق وراء بمعنى أمام ، وبينا أن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، وكذلك آية " الجاثية " هذه ، فقوله - تعالى - : من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء .

أوضح فيه أن ما كسبه الكفار في دار الدنيا من الأموال والأولاد لا يغني عنهم شيئا يوم القيامة ، أي لا ينفعهم بشيء ، فلا يجلب لهم بسببه نفع ولا يدفع عنهم بسببه ضر ، وإنما اتخذوه من الأولياء في دار الدنيا من دون الله ، كالمعبودات التي كانوا يعبدونها ، ويزعمون أنها شركاء لله - لا ينفعهم يوم القيامة أيضا بشيء .

وهاتان المسألتان اللتان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، قد أوضحهما الله في آيات كثيرة من كتابه .

أما الأولى منهما ، وهي كونهم لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا - فقد أوضحها في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 1 - 2 ] . وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة الآية [ 104 \ 2 - 4 ] . وقوله - تعالى - : قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 39 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : يا‎ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه الآية [ 69 \ 27 - 28 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم : ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية [ 26 \ 87 - 88 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار [ 3 \ 10 ] . وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 3 \ 116 ] . وقوله - تعالى - في " المجادلة " : [ ص: 193 ] اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا الآية [ 58 \ 16 - 17 ] .

والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

وأما الثانية منهما ، وهي كونهم لا تنفعهم المعبودات التي اتخذوها أولياء من دون الله - فقد أوضحها - تعالى - في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " هود " : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ 11 \ 101 ] . وقوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [ 46 \ 28 ] . وقوله - تعالى - : وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 28 \ 64 ] . وقوله - تعالى - : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا [ 18 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء الآية [ 46 \ 5 - 6 ] . وقوله - تعالى - : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] . وقوله - تعالى - : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] . وقوله - تعالى - : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ، الأولياء جمع ولي .

والمراد بالأولياء هنا : المعبودات التي يوالونها بالعبادة من دون الله ، وما في قوله : وما كسبوا و ما اتخذوا - موصولة - وهي في محل رفع في الموضعين ; لأن ما الأولى فاعل يغني ، وما الثانية معطوفة عليها ، وزيادة لا قبل المعطوف على منفي - معروفة . وقوله : ولا يغني أي لا ينفع . والظاهر أن أصله من الغناء - بالفتح والمد - وهو النفع .

[ ص: 194 ] ومنه قول الشاعر :
وقل غناء عنك مال جمعته إذا صار ميراثا وواراك لاحد

فقوله : قل غناء ، أي قل نفعا . وقول الآخر
: قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا


فقوله : الغناء أي النفع .

والبيت من شواهد إعمال المصدر المعرف بالألف واللام ; لأن قوله : قول الأحبة ، فاعل قوله : الغناء . وأما الغناء - بالكسر والمد - فهو الألحان المطربة .

وأما الغنى - بالكسر والقصر - فهو ضد الفقر .

وأما الغنى - بالفتح والقصر - فهو الإقامة ، من قولهم : غني بالمكان - بكسر النون - يغنى - بفتحها - غنى - بفتحتين - إذا أقام به .

ومنه قوله - تعالى - : كأن لم تغن بالأمس [ 10 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : كأن لم يغنوا فيها [ 7 \ 92 ] كأنهم لم يقيموا فيها .

وأما الغنى - بالضم والقصر - فهو جمع غنية ، وهي ما يستغني به الإنسان .

وأما الغناء - بالمد والضم - فلا أعلمه في العربية .

وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غني كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني ، وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر ، وهما قوله :


وضد فقر كإلى ، وكسحاب النفع ، والمطرب أيضا ككتاب
وكفتى إقامة وكهنا جمع لغنية لما به الغنى
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:32 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (486)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 195 إلى صـ 202


قوله - تعالى - : هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم .

الإشارة في قوله : هذا هدى راجعة للقرآن العظيم المعبر عنه بآيات الله في قوله : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] . وقوله : فبأي حديث بعد الله وآياته الآية [ 45 \ 6 ] . [ ص: 195 ] وقوله : يسمع آيات الله تتلى عليه [ 45 \ 8 ] . وقوله : وإذا علم من آياتنا شيئا [ 45 \ 9 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن هذا القرآن هدى ، وأن من كفر بآياته له العذاب الأليم - جاء موضحا في غير هذا الموضع .

أما كون القرآن هدى ، فقد ذكره - تعالى - في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ 16 \ 89 ] . وقوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] . وقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] . وقوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [ 41 \ 44 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وأما كون من كفر بالقرآن يحصل له بسبب ذلك العذاب الأليم - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه الآية [ 11 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا [ 20 \ 99 - 101 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا [ 18 \ 106 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .

وقد قدمنا في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] . وغير ذلك من المواضع - أن الهدى يطلق في القرآن إطلاقا عاما ، بمعنى أن الهدى هو البيان والإرشاد وإيضاح الحق ، كقوله : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم الحق وأوضحناه ، وأرشدناهم إليه وإن لم يتبعوه ، وكقوله : هدى للناس [ 2 \ 185 ] . وقوله هنا : هذا هدى - وأنه يطلق أيضا في القرآن بمعناه الخاص ، وهو التفضل بالتوفيق إلى طريق الحق والاصطفاء ، كقوله : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] . وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [ 41 \ 44 ] . وقوله : والذين اهتدوا زادهم هدى [ ص: 196 ] [ 47 \ 17 ] . وقوله : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا في سورة " فصلت " أن معرفة إطلاق الهدى المذكورين ، يزول بها الإشكال الواقع في آيات من كتاب الله .

والهدى مصدر هداه على غير قياس ، وهو هنا من جنس النعت بالمصدر ، وبينا فيما مضى مرارا أن تنزيل المصدر منزلة الوصف إما على حذف مضاف ، وإما على المبالغة .

وعلى الأول فالمعنى : هذا القرآن ذو هدى ، أي يحصل بسببه الهدى لمن اتبعه ، كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

وعلى الثاني فالمعنى أن المراد المبالغة في اتصاف القرآن بالهدى حتى أطلق عليه أنه هو نفس الهدى .

وقوله في هذه الآية الكريمة : " لهم عذاب من رجز أليم " أصح القولين فيه أن المراد بالرجز العذاب ، ولا تكرار في الآية ; لأن العذاب أنواع متفاوتة ، والمعنى : لهم عذاب من جنس العذاب الأليم ، والأليم معناه المؤلم . أي : الموصوف بشدة الألم وفظاعته .

والتحقيق إن شاء الله : أن العرب تطلق الفعيل وصفا بمعنى المفعل ، فما يذكر عن الأصمعي من أنه أنكر ذلك إن صح عنه فهو غلط منه ; لأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعل معروف في القرآن العظيم وفي كلام العرب ، ومن إطلاقه في القرآن العظيم قوله تعالى عذاب أليم [ 2 \ 104 ] أي مؤلم ، وقوله - تعالى - : بديع السماوات والأرض [ 2 \ 117 ] أي مبدعهما ، وقوله - تعالى - : إن هو إلا نذير لكم الآية [ 34 \ 46 ] أي منذر لكم ، ونظير ذلك من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع

فقوله : الداعي السميع ، يعني الداعي المسمع . وقوله أيضا :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع


أي موجع . وقول غيلان بن عقبة : [ ص: 197 ]
ويرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها وهج أليم


أي مؤلم . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير ، وحفص عن عاصم : من رجز أليم ، بخفض أليم على أنه نعت لرجز .

وقرأه ابن كثير ، وحفص عن عاصم : من رجز أليم ، برفع أليم على أنه نعت لعذاب .
قوله - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وفي سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها إلى قوله : وما كنا له مقرنين [ 43 \ 12 - 13 ] . قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم الآية [ 17 \ 7 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : وفضلناهم على العالمين [ 45 \ 16 ] .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين ، وذكر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [ 2 \ 47 - 122 ] في الموضعين . وقوله في " الدخان " : ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ 44 \ 32 ] . وقوله في " الأعراف " : قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين [ 7 \ 140 ] .

ولكن الله - جل وعلا - بين أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من بني إسرائيل وأكرم على الله ، كما صرح بذلك في قوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف الآية [ ص: 198 ] [ 3 \ 110 ] . فـ ( خير ) صيغة تفضيل ، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم ، بني إسرائيل وغيرهم .

ومما يزيد ذلك إيضاحا حديث معاوية بن حيدة القشيري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أمته : " أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله " : وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم ، وهو حديث مشهور .

وقال ابن كثير : حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ولا شك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور - رضي الله عنه - ; لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر في قوله - تعالى - : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 110 ] وقد قال - تعالى - : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ 2 \ 143 ] . وقوله : وسطا أي خيارا عدولا .

واعلم أن ما ذكرنا من كون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من بني إسرائيل ، كما دلت عليه الآية والحديث المذكوران وغيرهما من الأدلة - لا يعارض الآيات المذكورات آنفا في تفضيل بني إسرائيل .

لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه .

ولكنه - تعالى - بعد وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - صرح بأنها خير الأمم .

وهذا واضح ; لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل - إنما يراد به ذكر أحوال سابقة .

لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا به وكذبوا ، كما قال - تعالى - : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] .

ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلا إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق ، لا في وقت نزول القرآن .

ومعلوم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف [ ص: 199 ] تفضيل بني إسرائيل ، وأنها بعد وجودها ، صرح الله بأنها هي خير الأمم ، كما أوضحنا . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها .

وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون .

نهى الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون .

وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] - أنه - جل وعلا - يأمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وينهاه ، ليشرع بذلك الأمر والنهي لأمته ، كقوله هنا : ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] .

ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع أهواء الذين لا يعلمون ، ولكن النهي المذكور فيه التشريع لأمته ، كقوله - تعالى - : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : فلا تطع المكذبين [ 68 \ 8 ] . وقوله : ولا تطع كل حلاف مهين [ 68 \ 10 ] . وقوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 39 ] . وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد بينا الأدلة القرآنية على أنه - صلى الله عليه وسلم - يخاطب ، والمراد به التشريع لأمته ، في آية " بني إسرائيل " المذكورة .

وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من النهي عن اتباع أهوائهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " الشورى " : ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] . وقوله - تعالى - في " الأنعام " : فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون [ 6 \ 150 ] . وقوله - تعالى - في " القصص " : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

[ ص: 200 ] وقد بين - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " أن الحق لو اتبع أهواءهم لفسد العالم ، وذلك في قوله - تعالى - : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ 23 \ 71 ] .

والأهواء : جمع هوى بفتحتين وأصله مصدر ، والهمزة فيه مبدلة من ياء ، كما هو معلوم .
قوله - تعالى - : وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض .

قد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن الظلم في لغة العرب أصله وضع الشيء في غير موضعه .

وأن أعظم أنواعه الشرك بالله ; لأن وضع العبادة في غير من خلق ورزق هو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه .

ولذا كثر في القرآن العظيم إطلاق الظلم بمعنى الشرك ، كقوله - تعالى - : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] . وقوله - تعالى - : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] . وقوله - تعالى - : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] . وقوله - تعالى - عن لقمان : يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر قوله - تعالى - : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] بأن معناه : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك .

وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من أن الظالمين بعضهم أولياء بعض - جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في آخر " الأنفال " : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [ 8 \ 73 ] . وقوله - تعالى - : وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون [ 6 \ 129 ] . وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله الآية [ 7 ] . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . وقوله : [ ص: 201 ] إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية [ 16 \ 100 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : والله ولي المتقين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ولي المتقين ، وهم الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه .

وذكر في موضع آخر أن المتقين أولياؤه ، فهو وليهم وهم أولياؤه ; لأنهم يوالونه بالطاعة والإيمان ، وهو يواليهم بالرحمة والجزاء ، وذلك في قوله - تعالى - : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

ثم بين المراد بأوليائه في قوله : الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 \ 63 ] . فقوله - تعالى - : وكانوا يتقون كقوله في آية " الجاثية " هذه : والله ولي المتقين .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أنه ولي المؤمنين ، وأنهم أولياؤه ، كقوله - تعالى - : إنما وليكم الله ورسوله الآية [ 5 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا الآية [ 47 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [ 7 \ 196 ] . وقوله - تعالى - في الملائكة : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية [ 34 \ 41 ] . إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه بأبسط من هذا .
قوله - تعالى - : هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون .

الإشارة في قوله : هذا للقرآن العظيم .

والبصائر جمع بصيرة ، والمراد بها البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبسا ، كقوله - تعالى - : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة [ 12 \ 108 ] أي على علم ودليل واضح .

والمعنى أن هذا القرآن براهين قاطعة ، وأدلة ساطعة ، على أن الله هو المعبود وحده ، وأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - حق .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن القرآن بصائر للناس - جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في أخريات " الأعراف " : [ ص: 202 ] قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] . وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ [ 6 \ 104 ] .

وما تضمنته آية " الجاثية " من أن القرآن بصائر وهدى ورحمة ، ذكر - تعالى - مثله في سورة " القصص " عن كتاب موسى الذي هو التوراة في قوله - تعالى - : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] .

وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من كون القرآن هدى ورحمة - جاء موضحا في غير هذا الموضع .

أما كونه هدى فقد ذكرنا الآيات الموضحة له قريبا .

وأما كونه رحمة فقد ذكرنا الآيات الموضحة له في " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا [ 18 \ 1 ] . وفي أولها في الكلام على قوله - تعالى - : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] . وفي " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [ 35 \ 2 ] . وفي " الزخرف " في الكلام على قوله : أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 32 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يوقنون أي لأنهم هم المنتفعون به .

وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف ، وهو أن المبتدأ الذي هو قوله : هذا اسم إشارة إلى مذكر مفرد ، والخبر الذي هو بصائر جمع مكسر مؤنث .

فيقال : كيف يسند الجمع المؤنث المكسر إلى المفرد المذكر ؟ والجواب : أن مجموع القرآن كتاب واحد ، تصح الإشارة إليه بهذا ، وهذا الكتاب الواحد يشتمل على براهين كثيرة ، فصح إسناد البصائر إليه لاشتماله عليها كما لا يخفى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-02-2023 11:36 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (487)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 203 إلى صـ 210


قوله - تعالى - : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة ( ص ) في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 203 ] أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه .

قد أوضحنا معناه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا [ 25 \ 43 ] .
قوله - تعالى - : وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة .

قد أوضحنا معناه في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث بعد الموت - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - عنهم : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] . وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين [ 23 \ 35 - 37 ] . وقوله - تعالى - عنهم : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 3 ] . وقوله - تعالى - عنهم : أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقد قدمنا البراهين القاطعة القرآنية على تكذيبهم في إنكارهم البعث ، وبينا دلالتها على أن البعث واقع لا محالة - في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " ، وسورة " الحج " ، وأول سورة " الجاثية " هذه ، وأحلنا على ذلك مرارا .

وبينا في سورة " الفرقان " الآيات الموضحة أن إنكار البعث كفر بالله ، والآيات التي [ ص: 204 ] فيها وعيد منكري البعث بالنار في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله - تعالى - : ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون [ 40 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : كل أمة تدعى إلى كتابها الآية .

قد قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] .
قوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " في الكلام على قوله - تعالى - : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] .
قوله - تعالى - : فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون .

قد أوضحنا معنى قوله : يستعتبون ، في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم لا يخرجون منها - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] .
قوله - تعالى - : فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين .

أتبع الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة حمده - جل وعلا - بوصفه بأنه رب السماوات [ ص: 205 ] والأرض ورب العالمين ، وفي ذلك دلالة على أن رب السماوات والأرض ، ورب العالمين - مستحق لكل حمد ولكل ثناء جميل .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " الفاتحة " : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] . وقوله - تعالى - في آخر " الزمر " : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [ 39 \ 75 ] . وقوله - تعالى - : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 45 ] . وقوله - تعالى - في أول " الأنعام " : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] . وقوله - تعالى - في أول " سبإ " : الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير [ 34 \ 1 ] . وقوله في أول " فاطر " : الحمد لله فاطر السماوات والأرض الآية [ 35 \ 1 ] .
قوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن له الكبرياء في السماوات والأرض ، يعني أنه المختص بالعظمة والكمال والجلال والسلطان في السماوات والأرض ; لأنه هو معبود أهل السماوات والأرض ، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه وتمجيده ، والخضوع والذل له .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما [ 43 \ 84 - 85 ] .

فقوله : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله معناه أنه هو وحده الذي يعظم ويعبد في السماوات والأرض ، ويكبر ويخضع له ويذل .

وقوله - تعالى - : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 30 \ 27 ] .

فقوله : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض معناه أن له الوصف الأكمل الذي هو أعظم الأوصاف وأكملها وأجلها في السماوات والأرض .

وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله يقول : العظمة إزاري [ ص: 206 ] والكبرياء ردائي ، فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري " .
[ ص: 207 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَحْقَافِ


قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .

قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " ، وَقَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " .
قوله - تعالى - : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى .

صيغة الجمع في قوله : خلقنا - للتعظيم .

وقوله : إلا بالحق ، أي خلقا متلبسا بالحق .

والحق ضد الباطل ، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبسا بالحق أنه خلقهما لحكم باهرة ، ولم يخلقهما باطلا ، ولا عبثا ، ولا لعبا ، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسا به - إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده - جل وعلا - كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] .

فتلبس خلقه للسماوات والأرض بالحق واضح جدا ، من قوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون بعد قوله : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ; لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله - هو أعظم الحق .

وكقوله - تعالى - : [ ص: 208 ] ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] ; لأن قوله : اعبدوا ربكم فيه معنى الإثبات من لا إله إلا الله .

وقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه .

وقد أقام الله - جل وعلا - البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما - في قوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء الآية .

وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بأعظم الحق ، الذي هو إقامة البرهان القاطع ، على توحيده - جل وعلا - ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان القاطع المذكور على توحيده - جل وعلا - علم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة ، وبين من لا يستحقها ، هي كونه خالقا لغيره ، فمن كان خالقا لغيره ، فهو المعبود بحق ، ومن كان لا يقدر على خلق شيء ، فهو مخلوق محتاج ، لا يصح أن يعبد بحال .

فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - في آية " البقرة " المذكورة آنفا : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية .

فقوله : الذي خلقكم يدل على أن المعبود هو الخالق وحده ، وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده .

وقد أوضح - تعالى - هذا في سورة " النحل " ; لأنه - تعالى - لما ذكر فيها البراهين القاطعة على توحيده - جل وعلا - ، في قوله : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون إلى قوله : وعلامات وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 3 - 16 ] - أتبع ذلك بقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] .

وذلك واضح جدا في أن من يخلق غيره هو المعبود ، وأن من لا يخلق شيئا لا يصح أن يعبد .

[ ص: 209 ] ولهذا قال - تعالى - قريبا منه : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 16 \ 20 ] . وقال - تعالى - في " الأعراف " : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقال - تعالى - في " الحج " : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [ 22 \ 73 ] أي ومن لا يقدر أن يخلق شيئا لا يصح أن يكون معبودا بحال ، وقال - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى الآية [ 87 \ 1 - 2 ] .

ولما بين - تعالى - في أول سورة " الفرقان " صفات من يستحق أن يعبد ، ومن لا يستحق ذلك - قال في صفات من يستحق العبادة : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] .

وقال في صفات من لا يصح أن يعبد : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 3 ] .

والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكل تلك الآيات تدل دلالة واضحة على أنه - تعالى - ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق .

وقد بين - جل وعلا - أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، خلقا متلبسا به - تعليمه خلقه أنه - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه قد أحاط بكل شيء علما ، وذلك في قوله - تعالى - : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .

فلام التعليل في قوله : لتعلموا ، متعلقة بقوله : خلق سبع سماوات الآية ، وبه تعلم أنه ما خلق السماوات السبع والأرضين السبع ، وجعل الأمر يتنزل بينهن - إلا خلقا متلبسا بالحق .

ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقا متلبسا به ، هو تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، ثم جزاؤهم على أعمالهم ، كما قال - تعالى - في أول [ ص: 210 ] سورة " هود " : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .

فلام التعليل في قوله : ليبلوكم ، متعلقة بقوله : خلق السماوات والأرض وبه تعلم أنه ما خلقهما إلا خلقا متلبسا بالحق .

ونظير ذلك قوله - تعالى - في أول " الكهف " : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] . وقوله - تعالى - في أول " الملك " : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .

ومما يوضح أنه ما خلق السماوات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق - قوله - تعالى - في آخر " الذاريات " : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ 51 \ 56 - 57 ] .

سواء قلنا : إن معنى إلا ليعبدون ، أي لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم ; لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له ، كما قال - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . وقال - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] .

أو قلنا : إن معنى إلا ليعبدون ، أي إلا ليقروا لي بالعبودية ، ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي ; لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعا ، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه - تعالى - كرها .

ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال .

وقد بين - تعالى - أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقا متلبسا به - جزاء الناس بأعمالهم ، كقوله - تعالى - في " النجم " : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .

فقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض أي هو خالقها ومن فيهما ليجزي الذين أساءوا بما عملوا الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:01 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (488)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 211 إلى صـ 218



ويوضح ذلك قوله - تعالى - في " يونس " : [ ص: 211 ] إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] .

ولما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، لا لحكمة تكليف وحساب وجزاء - هددهم بالويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ ، في قوله - تعالى - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .

وقد نزه - تعالى - نفسه عن كونه خلق الخلق عبثا ، لا لتكليف وحساب وجزاء ، وأنكر ذلك على من ظنه ، في قوله - تعالى - : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .

فقوله : ( فتعالى الله ) أي تنزه وتعاظم وتقدس عن أن يكون خلقهم لا لحكمة تكليف وبعث ، وحساب وجزاء .

وهذا الذي نزه - تعالى - عنه نفسه - نزهه عنه أولو الألباب ، كما قال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم إلى قوله : ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [ 3 \ 190 - 191 ] . فقوله عنهم : سبحانك أي تنزيها لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلا ، لا لحكمة تكليف وبعث ، وحساب وجزاء .

وقوله - جل وعلا - في آية " الأحقاف " هذه : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق - يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلا ، ولا لعبا ولا عبثا .

وهذا المفهوم جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا الآية [ 38 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : ربنا ما خلقت هذا باطلا [ 3 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ 44 \ 38 - 39 ] .

وقوله - تعالى - في آية " الأحقاف " هذه : وأجل مسمى معطوف على قوله : بالحق أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق ، وبتقدير [ ص: 212 ] أجل مسمى ، أي وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض ، وهو يوم القيامة كما صرح الله بذلك في أخريات " الحجر " في قوله - تعالى - : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية الآية [ 15 \ 85 ] .

فقوله في " الحجر " : وإن الساعة لآتية بعد قوله : إلا بالحق يوضح معنى قوله في " الأحقاف " : إلا بالحق وأجل مسمى .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمدا ينتهي إليه أمرهما ، كما قال - تعالى - : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ 39 \ 67 ] . وقال - تعالى - : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات [ 14 \ 48 ] . وقوله : وإذا السماء كشطت [ 81 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : يوم ترجف الأرض والجبال الآية [ 73 \ 14 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : والذين كفروا عما أنذروا معرضون .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن الكفار معرضون عما أنذرتهم به الرسل - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] . وقوله في " يس " : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] . وقوله - تعالى - : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 6 \ 4 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

والإعراض عن الشيء : الصدود عنه ، وعدم الإقبال إليه .

قال بعض العلماء : وأصله من العرض - بالضم - وهو الجانب; لأن المعرض عن الشي يوليه بجانب عنقه صادا عنه .

والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .

وقد أوضحنا معاني الإنذار في أول سورة " الأعراف " .

وما في قوله : عما أنذروا قال بعض العلماء : هي موصولة ، والعائد محذوف ، أي الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه ، أي خوفوه من عذاب يوم [ ص: 213 ] القيامة . وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مضطرد كما هو معلوم .

وقال بعض العلماء : هي مصدرية ، أي والذين كفروا معرضون عن الإنذار ، ولكليهما وجه .
قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين .

قد ذكرنا قريبا أن قوله : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] - يتضمن البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله . وأن العلامة الفارقة بين المعبود بحق ، وبين غيره هي كونه خالقا . وأول سورة " الأحقاف " هذه يزيد ذلك إيضاحا ; لأنه ذكر من صفات المعبود بحق أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ، وذكر من المعبودات الأخرى التي عبادتها كفر مخلد في النار أنها لا تخلق شيئا .

فقوله - تعالى - : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله [ 46 \ 4 ] أي هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله ، أروني ماذا خلقوا من الأرض .

فقوله : أروني - يراد به التعجيز والمبالغة في عدم خلقهم شيئا .

وعلى أن ما استفهامية ، و ذا موصولة - فالمعنى أروني ما الذي خلقوه من الأرض . وعلى أن ما و ذا بمنزلة كلمة واحدة يراد بها الاستفهام - فالمعنى : أروني أي شيء خلقوه من الأرض ؟

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من لم يخلق شيئا في الأرض ولم يكن له شرك في السماوات ، لا يصح أن يكون معبودا بحال - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " فاطر " : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا الآية [ 35 \ 40 ] . وقوله في " لقمان " : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 11 ] . وقوله في " سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمنا طرفا منها قريبا .

[ ص: 214 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ائتوني بكتاب من قبل هذا - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] .
قوله - تعالى - : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء [ 45 \ 10 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا [ 19 \ 81 ] .
قوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قرئت عليهم آيات هذا القرآن العظيم ، الذي هو الحق ، ادعوا أنها سحر مبين واضح .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من افترائهم على القرآن أنه سحر ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ساحر - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " سبأ " : وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين [ 34 \ 43 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 43 ] . وقوله - تعالى - : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم إلى قوله : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون [ 21 \ 2 - 3 ] . وقوله - تعالى - : ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .

والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله - تعالى - أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا .

أم هذه هي المنقطعة ، وقد قدمنا أنها تأتي بمعنى الإضراب ، وتأتي بمعنى همزة الإنكار ، وتأتي بمعناهما معا ، وهو الظاهر في هذه الآية الكريمة .

فأم فيها على ذلك تفيد معنى الإضراب والإنكار معا ، فهو بمعنى دع هذا ، واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمدا افترى هذا القرآن ، وقد كذبهم الله في [ ص: 215 ] هذه الدعوى في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله الآية [ 10 \ 38 ] . وقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ 11 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه [ 10 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا أي إن كنت افتريت هذا القرآن ، على سبيل الفرض .

والتقدير : عاجلني الله بعقوبته الشديدة ، وأنتم لا تملكون لي منه شيئا ، أي لا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على الافتراء ، فكيف أفتريه لكم ، وأنتم لا تقدرون على دفع عذاب الله عني ؟

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 69 \ 44 - 47 ] .

فقوله - تعالى - في آية " الحاقة " هذه : ولو تقول علينا بعض الأقاويل كقوله في آية " الأحقاف " : قل إن افتريته .

وقوله في " الحاقة " : فما منكم من أحد عنه حاجزين يوضح معنى قوله فلا تملكون لي من الله شيئا ; لأن معنى قوله : فما منكم من أحد عنه حاجزين ، أنهم لا يقدرون على أن يحجزوا عنه ، أي يدفعوا عنه عقاب الله له بالقتل ، لو تقول عليه بعض الأقاويل .

وذلك هو معنى قوله : فلا تملكون لي من الله شيئا أي لا تقدرون على دفع عذابه عني .

ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] .

وما تضمنته آية " الأحقاف " هذه وآية " الحاقة " المبينة لها ، من أنه لو افترى على الله [ ص: 216 ] أو تقول عليه عاجله بالعذاب ، وأنه لا يقدر أحد على دفعه عنه - جاء معناه في بعض الآيات ، كقوله - تعالى - في " يونس " : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] أي إني أخاف - إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره - عذاب يوم عظيم .

وذكر الله - تعالى - مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخر ، كقوله عن صالح : قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته الآية [ 11 \ 63 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية ] .
قوله - تعالى - : قل ما كنت بدعا من الرسل .

الأظهر في قوله : بدعا أنه فعل بمعنى المفعول ، فهو بمعنى مبتدع ، والمبتدع هو الذي أبدع على غير مثال سابق .

ومعنى الآية : قل لهم يا نبي الله : ما كنت أول رسول أرسل إلى البشر ، بل قد أرسل الله قبلي جميع الرسل إلى البشر ، فلا وجه لاستبعادكم رسالتي ، واستنكاركم إياها ; لأن الله أرسل قبلي رسلا كثيرة .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات الآية [ 30 \ 47 ] . وقوله - تعالى - : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الآية [ 4 \ 163 ] . وقوله - تعالى - : حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم [ 42 \ 1 - 3 ] . وقوله - تعالى - : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك الآية [ 41 \ 43 ] . وقوله - تعالى - : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية [ 3 \ 144 ] . وقوله - تعالى - : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا الآية [ 6 \ 34 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .

[ ص: 217 ] التحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية الكريمة : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا ، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي ، أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء .

وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة .

وما أدري ما يفعل بكم : أيخسف بكم ، أو تنزل عليكم حجارة من السماء ، ونحو ذلك .

وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين .

وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الآية [ 7 \ 188 ] . وقوله - تعالى - آمرا له - صلى الله عليه وسلم - : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] .

وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي في الآخرة - فهو خلاف التحقيق ، كما سترى إيضاحه - إن شاء الله - .

فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن - في أحد قوليه - أنه لما نزل قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم - فرح المشركون واليهود والمنافقون ، وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من عند نفسه ، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به .

فنزلت ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 \ 2 ] فنسخت هذه الآية .

وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين لك الله ما يفعل بك ، فليت شعرنا ما هو ما فاعل بنا
.

فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية [ 48 \ 5 ] . ونزلت : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] .

فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته - صلوات الله وسلامه عليه - وقد قال له الله - تعالى - : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] وأن قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [ ص: 218 ] في أمور الدنيا ، كما قدمنا . فإن قيل : قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله : ما يفعل بي أي في الآخرة ، فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - عندهم ، ودخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، أنها قالت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ; لقد أكرمك الله - عز وجل - تعني عثمان بن مظعون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت : لا أدري ، بأبي أنت وأمي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " الحديث .

فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة ، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمد - رحمه الله - انفرد به البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له " ما أدري وأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به " ، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ; بدليل قولها : فأحزنني ذلك . ا هـ محل الغرض منه . وهو الصواب - إن شاء الله - والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به .

جواب الشرط في هذه الآية محذوف .

وأظهر الأقوال في تقديره : إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به ، وجحدتموه - فأنتم ضلال ظالمون . وكون جزاء الشرط في هذه الآية كونهم ضالين ظالمين - بينه قوله - تعالى - في آخر " فصلت " : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد [ 41 \ 52 ] . وقوله في آية " الأحقاف " هذه : فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .

وقال أبو حيان في البحر : مفعولا أرأيتم محذوفان ; لدلالة المعنى عليهما .

والتقدير : أرأيتم حالكم ، إن كان كذا ، ألستم ظالمين .

فالأول : حالكم ، والثاني : ألستم ظالمين ، وجواب الشرط محذوف ، أي فقد ظلمتم .

ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:04 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (489)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 219 إلى صـ 226




[ ص: 219 ] وبعض العلماء يقول : إن أرأيتم بمعنى أخبروني . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وشهد شاهد من بني إسراءيل على مثله .

التحقيق - إن شاء الله - أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف ، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها ، كقولهم : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله .

وعلى هذا فالمعنى : وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن وحي منزل حقا من عند الله ، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له; ولذا قال - تعالى - : فآمن واستكبرتم .

ومما يوضح هذا تكرر إطلاق المثل في القرآن مرادا به الذات ، كقوله - تعالى - : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات الآية [ 6 \ 122 ] .

فقوله : كمن مثله في الظلمات ، أي كمن هو نفسه في الظلمات ، وقوله - تعالى - : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا [ 2 \ 137 ] أي فإن آمنوا بما آمنتم به ، لا بشيء آخر مماثل له - على التحقيق - .

ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود فإن آمنوا بما آمنتم به الآية .

القول بأن لفظة ( ما ) في الآية مصدرية ، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان ، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا ، لا يخفى بعده .

والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - كما قال الجمهور ، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية .

وقيل : إن الشاهد موسى بن عمران - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وقيل غير ذلك .
قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه .

[ ص: 220 ] أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، أنهم كفار مكة ، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين وضعفاءهم : كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم - أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير .

وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير ; لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه ، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه ، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة .

وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة - تدل له آيات كثيرة من كتاب الله ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا ، دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة ، وتكذيب الله لهم في ذلك - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا الآية [ 19 \ 77 - 79 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] مع قوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ [ 41 \ 50 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .

وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير ، وأنما هم عليه لو كان خيرا لسبقهم إليه أصحاب الغنى والجاه والولد من الكفار - فقد دلت عليه آيات أخر ، كقوله - تعالى - في " الأنعام " : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا [ 6 \ 53 ] .

فهمزة الإنكار في قوله : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير .

[ ص: 221 ] وقد رد الله عليهم بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم الآية [ 6 \ 53 - 54 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 48 - 49 ] . وقوله - تعالى - في " ص " : وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أأتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار [ 38 \ 62 - 63 ] .

فقد قال غير واحد : إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ، ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ، ويدل له قوله : أأتخذناهم سخريا وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار ، كما قال - تعالى - : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله - تعالى - : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] . وقوله - تعالى - : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الآية [ 2 \ 212 ] .
قوله - تعالى - : وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا .

قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج الآية [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] . وفي أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الآية [ 18 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

[ ص: 222 ] قد قدمنا الكلام عليه في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الآية [ 41 ] .
قوله - تعالى - : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا .

قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : حسنا بضم الحاء وسكون السين ، وكذلك هو في مصاحفهم .

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي : إحسانا بهمزة مكسورة وإسكان الحاء ، وألف بعد السين .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] . وقال أبو حيان في البحر : قيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسنا وإحسانا على المفعول الثاني لوصينا .

وقيل : التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ، ويجوز أن يكون حسنا بمعنى إحسان ، فيكون مفعولا به ، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله - تعالى - .

وقيل : النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا . ا هـ منه ، وكلها له وجه .
قوله - تعالى - : حملته أمه كرها ووضعته كرها .

قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر : كرها بفتح الكاف في الموضعين .

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر : كرها بضم الكاف في الموضعين .

وهما لغتان كالضعف والضعف .

ومعنى حملته كرها أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة .

[ ص: 223 ] ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف ، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها .

ومعنى وضعته كرها : أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة ، كما هو معلوم .

وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه ، لا شك أنها يعظم حقها بها ، ويتحتم برها والإحسان إليها ، كما لا يخفى .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل ، ودلت عليه آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - في " لقمان " : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن [ 31 \ 14 ] أي تهن به وهنا على وهن ، أي ضعفا على ضعف; لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ، ازدادت ضعفا على ضعف .

وقوله في آية " الأحقاف " هذه كرها في الموضعين - مصدر منكر ، وهو حال ، أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع


وقال بعضهم : كرها في الموضعين نعت لمصدر ، أي حملته حملا ذا كره ، ووضعته وضعا ذا كره . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا .

هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل ، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل ; لأن هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " صرحت بأن أمد الحمل والفصال معا - ثلاثون شهرا .

وقوله - تعالى - في " لقمان " : وفصاله في عامين . وقوله في " البقرة " : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] - يبين أن أمد الفصال عامان ، وهما أربعة وعشرون شهرا ، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر ، فتعين كونها أمدا للحمل ، وهي أقله ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .

[ ص: 224 ] ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد الحمل - هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة .

وقد أوضحنا الكلام عليها في مباحث الحج ، في سورة " الحج " في مبحث أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، وأشرنا لهذا النوع من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول .

التحقيق - إن شاء الله - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه بمعنى الذين ، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث .

والدليل من القرآن على أن ( الذي ) بمعنى الذين ، وأن المراد به العموم - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه مبتدأ خبره قوله - تعالى - : أولئك الذين حق عليهم القول الآية .

والإخبار عن لفظة الذي في قوله : أولئك الذين حق عليهم القول بصيغة الجمع - صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - ليس بصحيح ، كما جزمت عائشة - رضي الله عنها - ببطلانه .

وفي نفس آية " الأحقاف " هذه دليل آخر واضح على بطلانه ، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول ، وهو قوله : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] .

[ ص: 225 ] ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - أسلم وحسن إسلامه ، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة - رضي الله عنهم - .

وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق ( الذي ) وإرادة ( الذين ) ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ; لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها ، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع


فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن - هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " . وقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] . أي كمثل الذين استوقدوا ، بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي بنورهم و تركهم ، والواو في لا يبصرون .

وقوله - تعالى - في " البقرة " أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي كالذين ينفقون ; بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] . وقوله في " الزمر " : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] . وقوله في " التوبة " : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد


وقول عديل بن الفرخ العجلي :
وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي


وقول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
إلا الذي قاموا بإطراف المسد

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أف لكما كلمة تضجر . وقائل ذلك عاق [ ص: 226 ] لوالديه غير مجتنب نهي الله في قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . وقوله : أتعدانني فعل ، مضارع وعد ، وحذف واوه في المضارع مطرد ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :
فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد


والنون الأولى نون الرفع ، والثانية نون الوقاية ، كما لا يخفى .

وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي : أتعدانني ، بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة .

وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة .

وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة ، والهمزة للإنكار .

وقوله : أن أخرج أي أبعث من قبري حيا بعد الموت .

والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني ، يعني أتعدانني الخروج من قبري حيا بعد الموت ، والحال قد مضت القرون ، أي هلكت الأمم الأولى ، ولم يحي منهم أحد ، ولم يرجع بعد أن مات .

وهما ، أي والداه ، يستغيثان الله ، أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث ، ويقولان لولدهما : ويلك آمن ، أي بالله وبالبعث بعد الموت .

والمراد بقولهما : ويلك - حثه على الإيمان . إن وعد الله حق ، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه ، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث : ما هذا إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت إلا أساطير الأولين .

والأساطير جمع أسطورة . وقيل : جمع إسطارة ، ومراده بها ما سطره الأولون ، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها .

وقوله : أولئك ترجع الإشارة فيه إلى العاقين المكذبين بالبعث المذكورين في قوله : والذي قال لوالديه أف لكما الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:07 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (490)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 227 إلى صـ 234




[ ص: 227 ] وقوله : حق عليهم القول أي وجبت عليهم كلمة العذاب .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله - تعالى - : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .

معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار : أذهبتم طيباتكم .

فقول : يعرضون على النار - قال بعض العلماء : معناه يباشرون حرها ، كقول العرب : عرضهم على السيف إذا قتلهم به ، وهو معنى معروف في كلام العرب .

وقد ذكر - تعالى - مثل ما ذكر هنا في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق [ 46 \ 34 ] وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب ; لقوله : قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [ 6 ] . وقوله - تعالى - : وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 45 - 46 ] ; لأنه عرض عذاب .

وقال بعض العلماء : معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها ، والكشف لهم عنها حتى يروها ، كما قال - تعالى - : ورأى المجرمون النار الآية [ 18 \ 53 ] . وقال - تعالى - : وجيء يومئذ بجهنم [ 89 \ 23 ] .

وقال بعض العلماء في الكلام قلب ، وهو مروي عن ابن عباس وغيره . قالوا : والمعنى : ويوم تعرض النار على الذين كفروا . قالوا : وهو كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض . يعنون عرضت الحوض على الناقة ، ويدل لهذا قوله - تعالى - : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا [ 18 \ 100 ] .

[ ص: 228 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية ، كقلب الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، ونحو ذلك - اختلف فيه علماء العربية ، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه ، فأجازوا قلب المشبه مشبها به والمشبه به مشبها بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسرا لطيفا ، كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه المقلوب .

وأجازه كثير من علماء العربية .

والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها ، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ، ولا يقاس عليه ، ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز :
ومنهل مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه


أي كأن سماءه لون أرضه ، وقول الآخر :
وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح


لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح ، فقلب التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه .

قالوا : ومن أمثلته في القرآن وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة [ 28 \ 76 ] ; لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح ، أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها ، وقوله - تعالى - : فعميت عليهم الأنباء [ 28 \ 66 ] . أي عموا عنها . ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير :
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل


لأن معنى قوله : تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف ، والقور : الحجارة العظام ، والعساقيل : السراب .

والكلام مقلوب ; لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس ، كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله :
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى واجتاب أردية السراب إكامها


فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت ، أي لبست ، أردية السراب .

والأردية جمع رداء ، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية [ ص: 229 ] عليه ; لأنه خلاف الظاهر ، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه .

وظاهر الآية جار على الأسلوب العربي الفصيح ، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها قرأه ابن كثير وابن عامر : أأذهبتم بهمزتين ، وهما على أصولهما في ذلك .

فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين .

وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال . وابن ذكوان يحققها من غير إدخال .

وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي : أذهبتم طيباتكم بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .

واعلم أن للعلماء كلاما كثيرا في هذه الآية قائلين : إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ، ونحو ذلك .

وإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك خوفا منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية . والمفسرون يذكرون هنا آثارا كثيرة في ذلك ، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق : إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار ، وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم ; لأنه - تعالى - ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم .

وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق ; لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه ، والله - تعالى - يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .

أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله - تعالى - به في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم الآية .

والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملا صالحا مطابقا للشرع ، مخلصا فيه لله ، كالكافر الذي يبر والديه ، ويصل الرحم ويقري الضيف ، وينفس عن المكروب ، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله - يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق [ ص: 230 ] والعافية ، ونحو ذلك ، ولا نصيب له في الآخرة .

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] .

وقد قيد - تعالى - هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته ، في قوله - تعالى - : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] .

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة; يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .

وفي لفظ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته " ا هـ .

فهذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط ، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معا ، وبمقتضى ذلك يتعين تعيينا لا محيص عنه أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر; لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة .

وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معا - فلم يذهب طيباته في الدنيا ; لأن حسناته مدخرة له في الآخرة ، مع أن الله - تعالى - يثيبه بها في الدنيا ، كما قال - تعالى - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب - ثوابا في الدنيا ، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة .

والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وعلى كل حال فالله - جل وعلا - أباح لعباده على [ ص: 231 ] لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - الطيبات في الحياة الدنيا ، وأجاز لهم التمتع بها ، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة ، كما قال - تعالى - : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .

فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة ، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا .

ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة ، يكون لهم أجر زائد على ذلك ; لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد ، كما هو معلوم .

والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا ; لأنه يجزى في الدنيا فقط كالآيات المذكورة ، وحديث أنس المذكور عند مسلم - قد قدمناها موضحة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الهوان ، وهو الذل والصغار .

وقوله - تعالى - : بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ، الباء في قوله : بما كنتم - سببية ، وما مصدرية ، أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض ، وكونكم فاسقين .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون ، وهو عذاب النار - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ 39 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار الآية [ 32 \ 20 ] .

وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فما يكون لك أن تتكبر فيها الآية [ 7 \ 13 ] .

[ ص: 232 ] وقوله - تعالى - : بغير الحق مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكبارا متلبسا بغير الحق ، كقوله - تعالى - : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه ، وقوله : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] . ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم ، ونحو ذلك من الآيات ، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن .
قوله - تعالى - : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف .

أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ، ولكنه بين في آيات أخرى أنه هود - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - كقوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . وغير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن النبي هودا نهى قومه أن يعبدوا غير الله ، وأمرهم بعبادته - تعالى - وحده ، وأنه خوفهم من عذاب الله ، إن تمادوا في شركهم به .

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر .

أما الأول منهما ففي قوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . ونحو ذلك من الآيات .

وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في " الشعراء " في قوله - تعالى - : واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ 26 \ 132 - 135 ] . وهو يوم القيامة .
قوله - تعالى - : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين .

ومعنى قوله - تعالى - : لتأفكنا عن آلهتنا ، أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده .

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : [ ص: 233 ] أحدهما : إنكار عاد على هود أنه جاءهم ، ليتركوا عبادة الأوثان ، ويعبدوا الله وحده .

والثاني : أنهم قالوا له : ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجله لنا إن كنت صادقا فيما تقول ، عنادا منهم وعتوا .

وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 7 \ 70 ] .
قوله - تعالى - : وأبلغكم ما أرسلت به .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هودا قال لقومه إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم; لأنه ليس عليه إلا البلاغ ، وهذا المعنى جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين [ 7 \ 67 - 68 ] . وقوله - تعالى - في سورة " هود " : فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم الآية [ 11 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] .
قوله - تعالى - : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه .

لفظة إن في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه ، يدل استقراء القرآن على أن واحدا منها هو الحق ، دون الاثنين الآخرين .

قال بعض العلماء : إن شرطية ، وجزاء الشرط محذوف ، والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم .

وقال بعضهم : إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لـ ما الموصولة على ما النافية ; لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم .

[ ص: 234 ] كقول قتيلة بنت الحارث أو النضر العبدرية :
أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن نزل بها النجائب تخفقوا


وقول دريد بن الصمة في الخنساء :
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب


فـ ( إن ) زائدة بعد ( ما ) النافية في البيتين ، وهو كثير ، وقد حملوا على ذلك ( ما ) الموصولة ، فقالوا : تزاد بعدها ( إن ) كآية " الأحقاف " هذه . وأنشد لذلك الأخفش : يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب

أي يرجي المرء الشيء الذي لا يراه ، وإن زائدة ، وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما .

لأن الأول منهما فيه حذف وتقدير .

والثاني منهما فيه زيادة كلمة .

وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه .

أما الوجه الثالث الذي هو الصواب - إن شاء الله - فهو أن لفظة ( إن ) نافية بعد ( ما ) الموصولة ، أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام ، وكثرة الأموال والأولاد والعدد .

وإنما قلنا : إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه ، فإن الله - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشا وقوة ، وأكثر منهم عددا وأموالا وأولادا ، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهلكهم الله بسببه ، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم ، كقوله - تعالى - في " المؤمن " : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] .

وقوله فيها أيضا : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم الآية [ 40 \ 21 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:09 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (491)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 235 إلى صـ 242


[ ص: 235 ] وقوله - تعالى - في " الروم " : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 10 ] .
قوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ الآية \ 10 ] .
قوله - تعالى - : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم .

ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " أنه صرف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرا من الجن والنفر دون العشرة يستمعون القرآن وأنهم لما حضروه ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا أي اسكتوا مستمعين ، وأنه لما قضى ، أي انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قراءته ولوا أي رجعوا إلى قومهم من الجن في حال كونهم منذرين ، أي مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله ، ويجيبوا داعيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى ، المنزل من بعد موسى - يهدي إلى الحق ، وهو ضد الباطل ، وإلى طريق مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه .

وقد دل القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن ، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله - وقع ولم يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أوحى الله ذلك إليه ، كما قال - تعالى - في القصة بعينها مع بيانها وبسطها ، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن ، بعد استماعهم القرآن العظيم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 82 \ 1 - 2 ] إلى آخر الآيات .
[ ص: 236 ] قوله - تعالى - : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .

منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وآمن به ، وبما جاء به من الحق - غفر الله له ذنوبه ، وأجاره من العذاب الأليم . ومفهومها ، أعني مفهوم مخالفتها المعروف بدليل الخطاب ، أن من لم يجب داعي الله من الجن ، ولم يؤمن به لم يغفر له ، ولم يجره من عذاب أليم ، بل يعذبه ويدخله النار ، وهذا المفهوم جاء مصرحا به مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة - فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي ، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة ، وهي قوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 46 - 47 ] . وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم ، قائلين : إنه يفهم من هذه الآية ، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله ، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط ، كما هو نص الآية - كله خلاف التحقيق .

وقد أوضحنا ذلك في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية ، من سورة " الأحقاف " فقلنا فيه ما نصه : هذه الآية يفهم من ظاهرها ، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه ، وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة .

وقد تمسك جماعة من العلماء منهم ، الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بظاهر هذه الآية ، فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة ، وهي قوله - تعالى - : ولمن خاف مقام ربه جنتان ; لأنه - تعالى - بين شموله للجن والإنس ، بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان .

[ ص: 237 ] ويستأنس لهذا بقوله - تعالى - : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] . فإنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس .

والجواب عن هذا أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة ; لأنه - تعالى - قال فيها : ولمن خاف مقام ربه جنتان .

وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : ولمن خاف ، يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معا بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان .

فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين ; لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى .

ولو سلمنا أن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ، يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم ، وقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق .

والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول .

ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى وجدناه معدوما من أصله ; للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ، ولا ثالث .

ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين .

أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح .

وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف - واضح .

فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما ، فظهر عدم دخوله فيه أصلا .

أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط ، فلأن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم [ ص: 238 ] فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب .

وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر ، لا بالجملة قبله ، كما قيل به .

وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر .

والجواب عن هذا : أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته ، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم ، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به ; لم يغفر لهم ، وهو كذلك .

أما جزاء الشرط فلا مفهوم له ; لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة ، فيذكر بعضها جزاء له ، فلا يدل على نفي غيره .

كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت .

فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع ; لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة ، كالغرم .

وكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة - كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به .

فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه .

وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أعني المسند إليه ، سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك .

وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " .

والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ، ولا يستند إلى الفعل [ ص: 239 ] إجماعا ، ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية .

ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ; لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة .

وأجيب من جهة الجمهور : بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم ، لا لتخصيصه بالحكم; إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه .

ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به - إنما هو في المسند إليه لا في المسند ; لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها ، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور .

أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية .

ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان - فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ; لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال ، فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد; لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرش مثلا .

والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء .

وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني إن كانت حقيقية .

أما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة .

وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب - فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به ، وربما كان اعتباره كفرا ، كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : ( محمد رسول الله ) [ 48 \ 29 ] فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين .

فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا ، سواء كان [ ص: 240 ] اسم جنس ، أو اسم عين ، أو اسم جمع أو غير ذلك .

فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو .

وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد .

والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر .

فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية .

ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب ; لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به ، إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة ; لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه ، وهو واضح لا إشكال فيه .

وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي ، وأنه أضعف المفاهيم - بقوله :

أضعفها اللقب وهو ما أبي من دونه نظم الكلام العرب

وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين ، وهو صريح قوله - تعالى - : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين .

والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله - تعالى - . ا هـ . منه بلفظه .
قوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير .

قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية ، وأنها من الآيات الدالة على البعث في [ ص: 241 ] " البقرة " و " النحل " و " الجاثية " ، وغير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا ، والباء في قوله : بقادر يسوغه أن النفي متناول ل ( أن ) فما بعدها ، فهو في معنى أليس الله بقادر ؟

ويوضح ذلك قوله بعد : بلى . مقررا لقدرته على البعث وغيره .
قوله - تعالى - : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل . اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافا كثيرا .

وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة ، وهم الذين قدمنا ذكرهم في " الأحزاب " و " الشورى " ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - .

وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كما صبروا - أربعة ، فصار هو - صلى الله عليه وسلم - خامسهم .

واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأن لفظة من في قوله : من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق ، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] ، فأمر الله - جل وعلا - نبيه في آية " القلم " هذه بالصبر ، ونهاه عن أن يكون مثل يونس ; لأنه هو صاحب الحوت ، وكقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] . فآية " القلم " ، وآية " طه " المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ولا تستعجل لهم .

نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة ، أن يستعجل العذاب لقومه ، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم ، فمفعول ( تستعجل ) محذوف ، تقديره العذاب ، كما قاله القرطبي ، وهو الظاهر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا [ 73 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] .

[ ص: 242 ] فإن قوله : ومهلهم قليلا ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا موضح لمعنى قوله : ولا تستعجل لهم .

والمراد بالآيات ، نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن طلب تعجيل العذاب لهم ; لأنهم معذبون لا محالة ، عند انتهاء المدة المحددة للإمهال ، كما يوضحه قوله - تعالى - : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] . وقوله - تعالى - : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] . وقوله - تعالى - : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله - تعالى - : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ 10 \ 45 ] . وفي سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] .

وبينا في الكلام على آية " قد أفلح المؤمنون " وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة .
قوله - تعالى - : بلاغ .

التحقيق - إن شاء الله - أن أصوب القولين في قوله : بلاغ أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، أي هذا القرآن بلاغ من الله إلى خلقه .

ويدل لهذا قوله - تعالى - في سورة " إبراهيم " : هذا بلاغ للناس ولينذروا به [ 14 \ 52 ] . وقوله في " الأنبياء " : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [ 21 \ 106 ] . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:13 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (492)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 243 إلى صـ 250



والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ ، وقد علم باستقراء اللغة العربية أن الفعال يأتي [ ص: 243 ] كثيرا بمعنى التفعيل ، كبلغه بلاغا ، أي تبليغا ، وكلمه كلاما ، أي تكليما ، وطلقها طلاقا ، وسرحها سراحا ، وبينه بيانا .

كل ذلك بمعنى التفعيل ; لأن فعل - مضعفة العين ، غير معتلة اللام ولا مهموزته - قياس مصدرها التفعيل .

وما جاء منه على خلاف ذلك - يحفظ ولا يقاس عليه ، كما هو معلوم في محله .

أما القول بأن المعنى : وذلك اللبث بلاغ ، فهو خلاف الظاهر كما ترى ، والعلم عند الله - تعالى - .
[ ص: 244 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ مُحَمَّدٍ

سُورَةُ الْقِتَالِ وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ .

قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصُّدُودِ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ لَازِمَةٌ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصَّدِّ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ .

وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ، أَيْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، أَيْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ .

وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ لَازِمَةٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ : كَفَرُوا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا تَكْرَارَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، مُضِلُّونَ لِغَيْرِهِمْ بِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَ ثَوَابَهَا ، فَمَا عَمِلَهُ الْكَافِرُ مِنْ حَسَنٍ فِي الدُّنْيَا ، كَقَرْيِ الضَّيْفِ ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، وَحَمْيِ الْجَارِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ ، يَبْطُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَضْمَحِلُّ وَيَكُونُ لَا أَثَرَ لَهُ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : [ ص: 245 ] وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ 25 \ 23 ] . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ .

وَقِيلَ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمُ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَيْ غَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أَيْ أَصْلَحَ لَهُمْ شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ إِصْلَاحًا لَا فَسَادَ مَعَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْ يُبْطِلَ أَعْمَالَ الْكَافِرِينَ ، وَيُبْقِيَ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ 1 \ 15 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [ 42 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [ 25 \ 23 - 24 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا مَعَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ، مَعَ زِيَادَةِ إِيضَاحٍ مُهِمَّةٍ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [ 17 \ 19 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ " الْأَحْقَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا الْآيَةَ [ 46 \ 20 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَصْلُهُ مِنَ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ ، لَا مِنَ الضَّالَّةِ كَمَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ 6 \ 24 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ 26 \ 20 ] . وَفِي آخِرِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ [ ص: 246 ] عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 18 \ 104 ] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [ 18 \ 2 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [ 47 \ 2 ] .

قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ : هُوَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ا هـ مِنْهُ .

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [ 11 \ 17 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ اللَّهِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [ 6 \ 66 ] . قَالَ - تَعَالَى - : وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [ 69

- 51 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ [ 10 \ 108 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [ 4 \ 170 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [ 47 \ 3 ] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ ، أَيْ إِبْطَالِهَا وَاضْمِحْلَالِهَا وَبَقَاءِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ ، كُلُّهُ وَاقِعٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ .

وَالزَّائِلُ الْمُضْمَحِلُّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بَاطِلًا ، وَضِدُّهُ الْحَقُّ .

وَبِسَبَبِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ أَعْمَالُهُ حَقٌّ ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ ، لَا زَائِلَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ .

[ ص: 247 ] وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الثَّوَابِ ، لَا يَتَوَهَّمُ اسْتِوَاءَهُمَا إِلَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ 68 \ 35 - 36 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ 38 \ 28 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ 45 \ 21 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ .

قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ : فَإِنْ قُلْتَ : أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ ؟

قُلْتُ : فِي جَعْلِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ . أَوْ فِي أَنَّ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ . ا هـ مِنْهُ .

وَأَصْلُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ يُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهُ .
قوله - تعالى - : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .

قوله - تعالى - : فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله ، وهو بمعنى فعل الأمر ، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع : وهي فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] .

واسم فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] .

والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله - تعالى - : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] .

والمصدر النائب عن فعله ، كقوله - تعالى - : فضرب الرقاب ، أي فاضربوا رقابهم ، وقوله - تعالى - : حتى إذا أثخنتموهم ، أي أوجعتم فيهم قتلا .

[ ص: 248 ] فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض .

وقوله : فشدوا الوثاق ، أي فأسروهم ، والوثاق - بالفتح والكسر - اسم لما يؤسر به الأسير من قيد ونحوه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون ، ثم بعد ذلك يأسرونهم - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 68 ] . وقد أمر بقتلهم في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] . وقوله : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] . وقوله - تعالى - : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] . وقوله : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم الآية [ 8 \ 57 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإما منا بعد وإما فداء أي فإما تمنون عليهم منا ، أو تفادونهم فداء .

ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله ، كما قال في الخلاصة :
وما لتفصيل كإما منا عامله يحذف حيث عنا


ومنه قول الشاعر :
لأجهدن فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل


وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج .

وذكر ابن جرير عن أبي بكر - رضي الله عنه - ما يؤيده .

ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء ; لأن الآية منسوخة عنده ، بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق .

ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه .

وأكثر أهل العلم يقولون : إن الآية ليست منسوخة ، وإن جميع الآيات المذكورة [ ص: 249 ] محكمة ، فالإمام مخير ، وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق .

قالوا : قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر ، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى .

ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق ، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات ، والمجوز قائم في مقام المنع ، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة ، وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم ، كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ اهـ محل الغرض منه .

ومعلوم أن بني ناجية من العرب .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق .

ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد ، والله - تبارك وتعالى - في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات ، في توكيد ثبوت ملك الرقيق ، وهي ملك اليمين ; لأن ما ملكته يمين الإنسان فهو مملوك له تماما ، وتحت تصرفه تماما ، كقوله - تعالى - : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] . وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين في سورة " قد أفلح المؤمنون " [ 23 \ 5 - 6 ] . و " سأل سائل " [ 70 \ 29 - 30 ] . وقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم الآية [ 4 \ 24 ] . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم الآية [ 24 \ 33 ] . وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] . وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك الآية [ 33 \ 52 ] . وقوله : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ 33 \ 50 ] . وقوله : [ ص: 250 ] أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن [ 24 \ 31 ] . وقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ 16 \ 71 ] . وقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] . وقوله : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ 30 \ 28 ] . فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق ، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها ، وهي معلومة ، فلا ينكر الرق في الإسلام إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله .

وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

ومن المعلوم أن كثيرا من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين ، أو أبناء أرقاء مملوكين .

فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدا لأنس بن مالك .

وهذا مكحول كان عبدا لامرأة من هذيل ، فأعتقته .

ومثل هذا أكثر من أن يحصى ، كما هو معلوم .

واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين لنفي الرق في الإسلام من أن آية " القتال " هذه دلت على نفي الرق من أصله ; لأنها أوجبت واحدا من أمرين لا ثالث لهما ، وهما المن والفداء فقط - فهو استدلال ساقط من وجهين : أحدهما : أن فيه استدلالا بالآية ، على شيء لم يدخل فيها ، ولم تتناوله أصلا ، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى .

وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى إلى من وفداء ، لم تتناول قطعا إلا الرجال المقاتلين من الكفار ; لأن قوله : فضرب الرقاب ، وقوله : حتى إذا أثخنتموهم - صريح في ذلك كما ترى .

وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله : فشدوا الوثاق .

فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرا البتة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:15 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (493)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 251 إلى صـ 258



ويزيد ذلك إيضاحا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 251 ] وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان .

ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية ، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين ، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا في حال كونهم مقاتلين ، ولو قصره على هؤلاء ، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى .

الوجه الثاني : هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حتى تضع الحرب أوزارها أي : إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم حتى إذا أثخنتموهم قتلا فأسروهم حتى تضع الحرب أوزارها أي حتى تنتهي الحرب .

وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح ، والعرب تسمي السلاح وزرا ، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل ، ومنه قول الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا وفي معنى أوزار الحرب أقوال أخر معروفة تركناها ، لأن هذا أظهرها عندنا . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين ، إن نصروا ربهم ، نصرهم على أعدائهم ، وثبت أقدامهم ، أي عصمهم من الفرار والهزيمة .

وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] ، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 41 ] ، وكقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 252 ] وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف [ 22 \ 41 ] .

يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ، ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة .

فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئا ، ثم جاءه يطلب منه الأجرة .

فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ، ثم يقولون : إن الله سينصرنا - مغررون ; لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفى .

ومعنى نصر المؤمنين لله - نصرهم لدينه ولكتابه ، وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمته هي العليا ، وأن تقام حدوده في أرضه ، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها . قد قدمنا إيضاحه في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وأحلنا على الآيات الموضحة لذلك في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض [ 30 \ 9 ] ، وأوضحناها في الزخرف في الكلام على قوله : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه [ 46 \ 26 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . الآيات التي توضح معنى هذه الآية ، هي المشار إليها في نفس الآية ، التي ذكرنا قبلها .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من إخراج كفار مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم [ 60 \ ] ، [ ص: 253 ] وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [ 8 - 30 ] .

وقد أخرجوه فعلا بمكرهم المذكور ، وبين - جل وعلا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم لا ذنب لهم يستوجبون به الإخراج إلا الإيمان بالله ، كما قال تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] ، وقال تعالى : يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم [ 60 \ 1 ] ، أي يخرجون الرسول وإياكم لأجل إيمانكم بربكم .

وقال تعالى في إخراجهم له : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول [ 9 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ، غير ابن كثير بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مشددة مكسورة ونون ساكنة .

وقرأه ابن كثير : " وكائن " بألف بعد الكاف ، وهمزة مكسورة .

وكلهم عند الوقف يقفون على النون الساكنة ، كحال الصلة ، إلا أبا عمرو فإنه يقف على الياء .

وقد قدمنا أوجه القراءة في " كأين " ومعناها ، وما فيها من اللغات ، مع بعض الشواهد العربية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة [ 22 \ 45 ] .
قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين

أنهار الماء وأنهار الخمر التي ذكرها الله في هذه الآية بين بعض صفاتها في آيات أخرى ، كقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار [ 47 \ 12 ] في آيات كثيرة ، وقوله : وماء مسكوب [ 56 \ 31 ] ، وقوله : إن المتقين في ظلال وعيون [ 77 \ 41 ] ، وقوله : [ ص: 254 ] فيها عين جارية [ 88 \ 12 ] ، وقد بين تعالى من صفات خمر الجنة أنها لا تسكر شاربها ، ولا تسبب له الصداع الذي هو وجع الرأس في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، وقوله : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 47 ] .

وقد قدمنا معنى هذه الآيات بإيضاح في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ 5 \ 90 ] . الآية

وقوله تعالى في الآية الكريمة : غير آسن أي غير متغير اللون ولا الطعم . والآسن والآجن معناهما واحد ، ومنه قول ذي الرمة :
ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا
وقول الراجز :
ومنهل فيه الغراب ميت كأنه من الأجون زيت
سقيت منها القوم واستقيت


وبما ذكرنا تعلم أن قوله : غير آسن كقوله : من لبن لم يتغير طعمه .
قوله تعالى : ولهم فيها من كل الثمرات .

قد بين تعالى في سورة البقرة أن الثمار التي يرزقها أهل الجنة يشبه بعضها بعضا في الجودة والحسن والكمال ، ليس فيها شيء رديء ، وذلك في قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها [ 2 \ 25 ] .
قوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 19 ] .
قوله تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة [ 47 \ 18 ] .

[ ص: 255 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ 43 \ 66 ] .
قوله تعالى : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم .

التحقيق إن شاء الله تعالى في معنى هذه الآية الكريمة ، أن الكفار يوم القيامة ، إذا جاءتهم الساعة ، يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله ، وأن الإيمان في ذلك الوقت لا ينفعهم لفوات وقته ، فقوله : ذكراهم مبتدأ خبره فأنى لهم أي كيف تنفعهم ذكراهم وإيمانهم بالله ، وقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان .

والضمير المرفوع في جاءتهم عائد إلى الساعة التي هي القيامة .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون ، ولا ينفعهم إيمانهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ 34 \ 52 ] ، وقوله تعالى : وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 86 \ 23 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله إلى قوله : أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .

فظهر أن قوله : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم على حذف مضاف ، أي أنى لهم نفع ذكراهم .

والذكرى اسم مصدر بمعنى الاتعاظ الحامل على الإيمان .
قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه إذا أنزل سورة محكمة ، أي متقنة الألفاظ والمعاني ، واضحة الدلالة ، لا نسخ فيها وذكر فيها وجوب قتال الكفار ، تسبب عن ذلك ، كون الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق ، ينظرون كنظر الإنسان الذي يغشى عليه ; لأنه في سياق الموت ، لأن نظر من كان كذلك تدور فيه عينه ويزيغ بصره .

[ ص: 256 ] وهذا إنما وقع لهم من شدة الخوف من بأس الكفار المأمور بقتالهم .

وقد صرح - جل وعلا - بأن ذلك من الخوف المذكور في قوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [ 33 \ 19 ] .

وقد بين تعالى أن الأغنياء من هؤلاء المنافقين ، إذا أنزل الله سورة فيها الأمر بالجهاد ، استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عن الجهاد ، وذمهم الله على ذلك ، وذلك في قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 9 \ 86 ] .
قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .

الهمزة في قوله : أفلا يتدبرون للإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة ، على أصح القولين ، والتقدير : أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح


وقوله تعالى : أم على قلوب أقفالها " أم " فيه منقطعة بمعنى بل ، فقد أنكر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن ، بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير ، ولا لفهم قرآن .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] ، وقوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .

وقد ذم - جل وعلا - المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها [ 32 \ 22 ] .

[ ص: 257 ] ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها ، وإدراك معانيها والعمل بها ، فإنه معرض عنها ، غير متدبر لها فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر ، وقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن ، كما قال تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 - 30 ] .

وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به ، أمر لا بد منه للمسلمين .

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشتغلين بذلك هم خير الناس . كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وقال تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ 3 \ 79 ] .

فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له ، من أعظم المناكر وأشنعها ، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى .

ولا يخفى على عاقل أن القول بمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اكتفاء عنهما بالمذاهب المدونة ، وانتفاء الحاجة إلى تعلمهما ; لوجود ما يكفي عنهما من مذاهب الأئمة - من أعظم الباطل .

وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ومخالف لأقوال الأئمة الأربعة .

[ ص: 258 ] فمرتكبه مخالف لله ولرسوله ولأصحاب رسوله جميعا وللأئمة رحمهم الله ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين : إن تدبر هذا القرآن العظيم ، وتفهمه والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة ، وإن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي ، ولا أثر عن الصحابة - قول لا مستند له من دليل شرعي أصلا .

بل الحق الذي لا شك فيه ، أن كل من له قدرة من المسلمين ، على التعلم والتفهم ، وإدراك معاني الكتاب والسنة ، يجب عليه تعلمهما ، والعمل بما علم منهما .

أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعا .

وأما ما علمه منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح . فله أن يعمل به . ولو آية واحدة أو حديثا واحدا .

ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله - عام لجميع الناس .

ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار ، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول ، بل ليس عندهم شيء منها أصلا . فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه ، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين ، كما ترى .

ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وإذا فدخول الكفار والمنافقين في الآيات المذكورة قطعي ، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله ، وعدم عملهم به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:18 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (494)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 259 إلى صـ 266



وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعا ، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا [ ص: 259 ] فيما فيه مجال للاجتهاد . والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة من الكتاب والسنة ، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد ، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد ، بل ليس فيها إلا الاتباع ، وبذلك تعلم أن ما ذكره صاحب مراقي السعود تبعا للقرافي من قوله : من لم يكن مجتهدا فالعمل منه بمعنى النص مما يحظل لا يصح على إطلاقه بحال لمعارضته لآيات وأحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل .

ومن المعلوم أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه .

ومن المعلوم أيضا أن عمومات الآيات والأحاديث الدالة على حث جميع الناس على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله - أكثر من أن تحصى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي " وقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي " الحديث ، ونحو ذلك مما لا يحصى .

فتخصيص جميع تلك النصوص بخصوص المجتهدين ، وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم تحريما باتا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين .

ومعلوم أن المقلد الصرف ، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله .

وقال صاحب مراقي السعود في نشر البنود في شرحه لبيته المذكور [ ص: 260 ] آنفا ما نصه : يعني أن غير المجتهد يحظل له ، أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه من نسخ وتقييد ، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد ، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد ، قاله القرافي . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أنه لا مستند له ، ولا للقرافي الذي تبعه في منع جميع المسلمين غير المجتهدين من العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، إلا مطلق احتمال العوارض ، التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة ، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك ، وهو مردود من وجهين :

الأول : أن الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ ، والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص ، والمطلق ظاهر في الإطلاق حتى يثبت ورود المقيد ، والنص يجب العمل به حتى يثبت النسخ بدليل شرعي ، والظاهر يجب العمل به عموما كان أو إطلاقا أو غيرهما حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، كما هو معروف في محله .

وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ، ونحو ذلك - أبو العباس بن سريج ، وتبعه جماعات من المتأخرين ، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها .

وقد أوضح ابن القاسم العبادي في الآيات البينات غلطهم في ذلك ، في كلامه على شرح المحل لقول ابن السبكي في جمع الجوامع ، ويتمسك بالعام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البحث عن المخصص ، وكذا بعد الوفاة ، خلافا لابن سريج ا هـ .

وعلى كل حال فظواهر النصوص من عموم وإطلاق ونحو ذلك ، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، من مخصص أو مقيد ، لا لمجرد مطلق الاحتمال ، كما هو معلوم في محله .

[ ص: 261 ] فادعاء كثير من المتأخرين ، أنه يجب ترك العمل به حتى يبحث عن المخصص والمقيد مثلا - خلاف التحقيق .

الوجه الثاني : أن غير المجتهد إذا تعلم آيات القرآن ، أو بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها ، تعلم ذلك النص العام أو المطلق ، وتعلم معه مخصصه ومقيده إن كان مخصصا أو مقيدا ، وتعلم ناسخه إن كان منسوخا ، وتعلم ذلك سهل جدا ، بسؤال العلماء العارفين به ، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك ، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها ، وحديثا فيعمل به ، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم ، كما يشير له قوله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ 8 \ 29 ] ، على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل .

وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] .

وهذه التقوى التي دلت الآيات على أن الله يعلم صاحبها بسببها ما لم يكن يعلم ، لا تزيد على عمله بما علم ، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم .

فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة ، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين من الانتفاع بنور القرآن ، حتى يحصلوا شرطا مفقودا في اعتقاد القائلين بذلك . وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله - هو كما ترى .
[ ص: 262 ] تنبيه مهم :

يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة ، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى ، والطامة الكبرى ، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة .

وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله ، استغناء تاما في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات ، وحدود وغير ذلك ، بالمذاهب المدونة .

وبناء هذا على مقدمتين :

إحداهما : أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين .

والثانية : أن المجتهدين معدومون عدما كليا ، لا وجود لأحد منهم في الدنيا ، وأنه بناء على هاتين المقدمتين ، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض ، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة .

وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة ، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان .

فتأمل يا أخي رحمك الله : كيف يسوغ لمسلم ، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون .

فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة ، لا حاجة إلى تعلمهما ، وأنهما يغني غيرهما ، فهذا بهتان عظيم ، ومنكر من القول وزور .

وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه ، فهو أيضا زعم باطل ; لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة ، مع كونها في غاية التعقيد [ ص: 263 ] والكثرة ، والله - جل وعلا - يقول في سورة القمر مرات متعددة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 - 22 - 32 - 40 ] ، ويقول تعالى في الدخان : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، ويقول في مريم : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .

فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به ، والله - جل وعلا - يقول : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم [ 29 \ 49 ] ، ويقول : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] .

فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته .

ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ، ليستضاء به ، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل ، والحسن من القبيح ، والنافع من الضار ، والرشد من الغي .

قال الله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .

وقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 ] ، وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، وقال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقال تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] .

فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم ، هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به ، ويهتدى بهداه في أرضه ، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور .

فلا تكن خفاشي البصيرة ، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم :


خفافيش أعماها النهار بضوئه

ووافقها قطع من الليل مظلم

مثل النهار يزيد أبصار الورى

نورا ويعمي أعين الخفاش
[ ص: 264 ] يكاد البرق يخطف أبصارهم [ 2 \ 20 ] ، أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [ 13 \ 19 ] .

ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام ، ومن لم يجعل الله له نورا ، فما له من نور .

وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف ، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوسائل النافعة المنتجة ، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا .

ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى ، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك ، من ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومبين وأحوال الرجال ، من رواة الحديث ، والتمييز بين الصحيح والضعيف ; لأن الجميع ضبط وأتقن ودون ، فالجميع سهل التناول اليوم .

فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين .

وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت ، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها ، وما يتطرق إليها من العلل والضعف .

فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما .

والناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله .

واعلم أيها المسلم المنصف ، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق ، على الله وكتابه وعلى النبي وسنته المطهرة ، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم ; لكونهم لا يميزون بين حق وباطل .

[ ص: 265 ] فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [ 18 \ 23 ] بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان - ما نصه : وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله ، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل ، وأن يقصد بها حل اليمين ، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس ، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . انتهى منه بلفظه .

فانظر يا أخي - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام وما أبطله ، وما أجرأ قائله على الله وكتابه ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سبحانك هذا بهتان عظيم .

أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة ، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم ، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة ، فالذي ينصره هو الضال المضل .

وأما قوله : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، فهذا أيضا من أشنع [ ص: 266 ] الباطل وأعظمه ، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم .

والتحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح .

والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا ; لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا ، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس .

ومما يوضح لك ذلك : أن آية الكهف هذه التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين ، وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة : وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، كله باطل لا أساس له .

وظاهر الآية بعيد مما ظن ، بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا ، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة ، ولا التضمن ولا الالتزام ، فضلا على أن تكون ظاهرة فيه .

وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحا ; لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فقال لهم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه ، وعدم تعليقه بمشيئته - جل وعلا - فتأخر عنه الوحي .

ثم علمه الله في الآية الأدب معه ، في قوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .

ثم قال لنبيه : واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، يعني إن قلت سأفعل كذا غدا ، ثم نسيت أن تقول : إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك ، فاذكر ربك ، أي قل : إن شاء الله ، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته ، بسبب النسيان ، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:21 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (495)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 267 إلى صـ 274




[ ص: 267 ] والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهبا من المذاهب الأربعة ولا غيرهم ، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله .

وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه . فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليدا أعمى على جهالة عمياء ، أين دل ظاهر آية الكهف هذه على اليمين بالله ، أو بالطلاق ، أو بالعتق ، أو بغير ذلك من الأيمان ؟

هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار : سأخبركم غدا ؟

وهل قال الله : ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غدا ؟

ومن أين جئتم باليمين ، حتى قلتم : إن ظاهر القرآن هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها ، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟

ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحا ما قاله الصاوي أيضا في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله [ 3 \ 7 ] ، فإنه قال على كلام الجلال ما نصه : زيغ أي ميل عن الحق للباطل ، قوله : بوقوعهم في الشبهات واللبس ، أي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن ، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة ا هـ .

فانظر - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام ، وما أبطله ، وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به . فإنه جعل ما قاله نصارى نجران هو ظاهر كتاب الله ، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم ، فأخذ بظاهر القرآن .

وذكر أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر ، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح ، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .

[ ص: 268 ] وقد قال قبل هذا : قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم : ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ؟ فقال : نعم ، فقالوا : حسبنا ، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله . فنزلت الآية .

فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ، هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح ، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .

وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه ، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة ، بوجه من الوجوه ، ولا بدلالة من الدلالات ، أن عيسى ابن الله ، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت .

فقول الصاوي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل ، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره ، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره ، وقوله : وروح منه كقوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه - جل وعلا .

فلفظة " من " في الآيتين لابتداء الغاية ، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران .

وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر ، وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص ، والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره .

فبنوا باطلا على باطل ، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل .

ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا .

فتصور الصاوي أن ظاهر آية الكهف المتقدمة هو حل الأيمان ، بالتعليق بالمشيئة [ ص: 269 ] المتأخر زمنها عن اليمين ، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها .

وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران ، من أن عيسى ابن الله فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم - ظاهر القرآن مطلقا ، كما لا يخفى على عاقل .

وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران : إن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة .

ومن هم العلماء الذين قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟

سموهم لنا ، وبينوا لنا من هم ؟

والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ، ولا متعلم ; لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده ، وتنفذ به أوامره ، وينصف به بين عباده في أرضه .

والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى :فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .

والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر .

وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول .

فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من [ ص: 270 ] أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى .

وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي .

وهذا كما ترى ، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة ، ليست بلائقة .

والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك .

وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله ، وسنة رسوله ، هو عدم معرفة مدعيها .

ولأجل هذه البلية العظمى ، والطامة الكبرى ، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم ، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله ، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، وعقد ذلك المقرئ في إضاءته في قوله :

والنص إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا واقطع عن الممتنع الأطماعا وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى ، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم .

والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها ، لكل مسلم راجع عقله ، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه . ولا بد أن نتساءل هنا ، فنقول :

أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟

والجواب الذي لا جواب غيره : بلى .

وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته [ ص: 271 ] تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق ؟

والجواب الذي لا جواب غيره : لا .

فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .

فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف وصفاتهما متخالفة كل التخالف .

فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق ؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق ؟

فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق .

وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق .

فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق ، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم ، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] .

والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، أنها صفة كمال وجلال ، لائقة بالله - جل وعلا - ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله .

وقد بين - جل وعلا - عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال ، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة ، قال تعالى في تعظيم شأنها : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] .

[ ص: 272 ] وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى .

ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة ، لإجماع أهل الحق والباطل ، كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة .

ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السماوات والأرض .

فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله ; لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان ، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث ، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها - أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى ، وعلى كتابه العظيم ، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين ، وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل ، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به ، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول أحد من السلف .

وماذا عليك لو صدقت الله ، وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ؟

وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق ؟

هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق ؟

فاخش الله يا إنسان ، واحذر من التقول على الله بلا علم ، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه .

واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به ، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول : هذا الذي وصفت به [ ص: 273 ] نفسك غير لائق بك ، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ، ولا من رسولك ، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك .

فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة ، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا ، وأبدلها لك بوصف لائق بك ، وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود .

سبحانك هذا بهتان عظيم .

فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور .

ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المئولين لها بمعان لم ترد عن الله ، ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض .

فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه ، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ; لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ ، وكذلك في بعض الصفات الجامعة كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلا ; لأنها يشتق منها العظيم المتكبر والجليل والملك ، وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يشتق منها غيرها كصفة اليد والوجه ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه ، أو أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا وجه له البتة بوجه من الوجوه .

ولم يرد عن الله ، ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها وتأويله ; لأنها لا يشتق منها .

وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغا لجحد ما وصف الله به نفسه ؟

ولا شك عند كل مسلم راجع عقله ، أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه ، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه .

والسبب الموجب للإيمان إيجابا حتما كليا هو كونه من عند الله ، وهذا السبب هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله ، سواء استأثر الله [ ص: 274 ] بعلمه كالمتشابه ، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم ، كما قال الله عنهم : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .

فلا شك أن قوله تعالى : لما خلقت بيدي من عند ربنا ، وقوله تعالى : والله على كل شيء قدير [ 2 \ 284 ] من عند ربنا أيضا فيجب علينا الإيمان بالجميع ; لأنه كله من عند ربنا .

أما الذي يفرق بينه ، وهو عالم بأن كله من عند ربه ، بأن هذا يشتق منه ، وهذا لا يشتق منه فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض .

والمقصود أن كل ما جاء من عند الله يجب الإيمان به ، سواء كان من المتشابه ، أو من غير المتشابه ، وسواء كان يشتق منه أو لا .

ومعلوم أن مالكا - رحمه الله - سئل كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب .

وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلا ونحوهما ليست كاليد ، والوجه ، بدعوى أن القدرة والإرادة مثلا ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي ، بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها فهو من أعظم الباطل .

ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم .

ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد ; لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه ، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه .

فقصدهم حسن ، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:23 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (496)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 275 إلى صـ 282



وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله ، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله : رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم ، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى : [ ص: 275 ] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 5 ] .

وخطؤهم المذكور لا شك فيه ، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولا ، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق ، لسلموا مما وقعوا فيه .

ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم كل العلم ، بأن الظاهر المتبادر ، مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق ، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق ; لأنه تشبيه بصفات الخلق ، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك ; لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، ولا سيما في العقائد ، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه .

فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المئولون لا أساس له كما ترى .

فإن قيل : إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين ، والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا ، إلا كيفية المعاني المعروفة عندها كالجارحة ، وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة ، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم .

فالجواب من وجهين :

الوجه الأول : أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها ، لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق .

والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق ، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر ، إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين ، أما سمع لا يقوم بأذن ، وبصر لا يقوم بحدقة ، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة .

فلا فرق بين السمع والبصر ، وبين اليد والاستواء ، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات .

[ ص: 276 ] وأما الذي اتصف الله به من ذلك ، فلا تعرف له العرب كيفية ، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق ، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى ، كما قال الإمام مالك رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق ، والرازق والمرزوق ، والمحيي والمحيا ، والمميت والممات - فوارق عظيمة لا حد لها تستلزم المخالفة التامة ، بين صفات الخالق والمخلوق .

الوجه الثاني : أن نقول لمن قال : بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم ، من كونها صفة كمال وجلال ، منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق .

هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد ، فلا بد أن يقول : لا . فإن قال ذلك .

قلنا : معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات .

فالذات والصفات من باب واحد .

فكما أن ذاته - جل وعلا - تخالف جميع الذوات ، فإن صفاته تخالف جميع الصفات .

ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها .

ألا ترى مثلا أن لفظة رأس كلمة واحدة ؟

إن أضفتها إلى الإنسان ، فقلت : رأس الإنسان ، وإلى الوادي ، فقلت : رأس الوادي ، وإلى المال ، فقلت : رأس المال ، وإلى الجبل ، فقلت : رأس الجبل .

فإن كلمة الرأس اختلفت معانيها ، وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها ، مع أنها في مخلوقات حقيرة .

[ ص: 277 ] فما بالك بما أضيف من الصفات إلى الله ، وما أضيف منها إلى خلقه ، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق ، كما لا يخفى .

فاتضح بما ذكر أن الشرط في قول المقرئ في إضاءته :


والنص إن أوهم غير اللائق
شرط مفقود قطعا ; لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله لا تدل ظواهرها البتة إلا على تنزيه الله ، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال .

فكل المسلمين الذين يراجعون عقولهم ، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم هو مخالفة الله لخلقه ، كما نص عليه بقوله : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وبذلك تعلم أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله :


فاصرفه عن ظاهره إجماعا
إجماع مفقود أصلا ، ولا وجود له البتة ; لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة .

فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ، ولا من تابعيهم ، ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة ، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين .

وإنما لم يقولوا بذلك ; لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه ، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى .

ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك : إن الله تبارك وتعالى موصوف [ ص: 278 ] بتلك الصفات حقيقة لا مجازا ; لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق واتصافه تعالى بالكمال والجلال .

وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا - لا ينكره مسلم .

ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ، ونفي المجاز ، كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها ، وأنها كلها مجازات .

وجعلوا ذلك طريقا إلى نفيها ; لأن المجاز يجوز نفيه ، والحقيقة لا يجوز نفيها .

فقالوا مثلا : اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة أو الجود ، فنفوا صفة اليد ، لأنها مجاز .

وقالوا : على العرش استوى مجاز فنفوا الاستواء ; لأنه مجاز .

وقالوا : معنى " استوى " استولى ، وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق .

ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء ، وتبديل اليد بالقدرة أو النعمة ; لأن الله - جل وعلا - يقول في محكم كتابه في سورة البقرة : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 2 \ 59 ] ، ويقول في الأعراف فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون [ 7 \ 162 ] ، فالقول الذي قاله الله لهم هو قوله " حطة " وهي فعلة من الحط بمعنى الوضع خبر مبتدأ محذوف ، أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا ، أي حط ووضع لها عنا فهي بمعنى طلب المغفرة ، وفي بعض روايات الحديث في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقالوا : حنطة ، وهي القمح .

وأهل التأويل قيل لهم : على العرش استوى ، فزادوا لاما ، فقالوا : استولى .

[ ص: 279 ] وهذه اللام التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى : وقولوا حطة . ويقول الله - جل وعلا - في منع تبديل القرآن بغيره : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .

ولا شك أن من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .

فعليه أن يجتنب التبديل ويخاف العذاب العظيم ، الذي خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره المذكور في قوله : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .

واليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله الله لهم : هو لفظ حطة ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة .

وأهل هذه المقالة لم ينكروا أن كلمة القرآن هي استوى ، ولكن حرفوها وقالوا في معناها : استولى وإنما أبدلوها بها ; لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن ، لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق ، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم ، باستيلاء بشر على العراق .

وهل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه ؟

وهل يوجد شيء إلا والله مستول عليه ، فالله مستول على كل شيء .

وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استوى على كل شيء غير العرش ؟

فافهم .

[ ص: 280 ] وعلى كل حال ، فإن المئول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق ، وجاء بدله بالاستيلاء ، لأنه هو اللائق به في زعمه ، ولم ينتبه .

لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه ، وليس بلائق قطعا ، إلا أنه يقول : إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق ، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق والله يقول : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 \ 74 ] .

ونحن نقول : أيها المئول هذا التأويل ، نحن نسألك إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين أعني لفظ استوى الذي أنزل الله به الملك على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا يتلى ، كل حرف منه عشر حسنات ، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر .

ولفظة استولى التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف .

فأي الكلمتين أحق بالتنزيه في رأيك . الأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله ، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم ، من غير مستند أصلا ؟

ونحن لا يخفى علينا الجواب الصحيح ، عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه .

واعلم أن ما ذكرنا من أن ما وصف الله به نفسه من الصفات ، فهو موصوف به حقيقة لا مجازا ، على الوجه اللائق بكماله وجلاله .

وأنه لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف ، كالسمع والبصر والحياة .

وبين صفة لا يشتق منها كالوجه واليد .

وأن تأويل الصفات كتأويل الاستواء بالاستيلاء ، لا يجوز ولا يصح .

هو معتقد أبي الحسن الأشعري رحمه الله .

وهو معتقد عامة السلف ، وهو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .

فمن ادعى على أبي الحسن الأشعري أنه يئول صفة من الصفات ، كالوجه واليد والاستواء ، ونحو ذلك فقد افترى عليه افتراء عظيما .

[ ص: 281 ] بل الأشعري رحمه الله مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال ، ( كالموجز ) ، ( ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) ، ( والإبانة عن أصول الديانة ) أن معتقده الذي يدين الله به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل .

وأن ذلك لا يصح تأويله ، ولا القول بالمجاز فيه .

وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب المعتزلة ومن ضاهاهم .

وهو أعلم الناس بأقوال المعتزلة ، لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم ، قبل أن يهديه الله إلى الحق ، وسنذكر لك هنا بعض نصوص أبي الحسن الأشعري رحمه الله لتعلم صحة ما ذكرنا عنه .

قال رحمه الله ( في كتاب الإبانة عن أصول الديانة ) الذي قال غير واحد أنه آخر كتاب صنفه ، ما نصه :

فإن قال لنا قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة ، والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له :

قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث .

ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون .

لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين وشك الشاكين . فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم ، وعلى جميع أئمة المسلمين .

وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا .

وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن [ ص: 282 ] محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .

وأن الله استوى على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له وجها كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وأن له عينان بلا كيف كما قال : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أن من يفتري على الأشعري - أنه من المئولين المدعين أن ظاهر آيات الصفات وأحاديثها لا يليق بالله - كاذب عليه كذبا شنيعا .

وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة أيضا في إثبات الاستواء لله تعالى ما نصه :

إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى . وقد قال الله عز وجل : إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وقد قال : بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقال عز وجل : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [ 32 \ 5 ] ، وقال حكاية عن فرعون : ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [ 40 \ 36 ] .

فكذب فرعون نبي الله موسى عليه السلام في قوله : ( إن الله عز وجل فوق السماوات ) . وقال عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .

فالسماوات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال : أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السماوات . هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة المذكور .

وقد أطال رحمه الله في الكلام بذكر الأدلة القرآنية في إثبات صفة الاستواء ، وصفة العلو لله - جل وعلا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:26 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (497)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 283 إلى صـ 290



ومن جملة كلامه المشار إليه ما نصه :

[ ص: 283 ] وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن قول الله عز وجل : الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان . وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة .

ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم .

فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد ، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها .

وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول :

إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها .

ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها .

وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية .

وهذا خلاف الدين - تعالى الله عن قولهم . ا هـ .

هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في آخر مصنفاته ، وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة .

وتراه صرح رحمه الله بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة والجهمية والحرورية لا قول أحد من أهل السنة وأقام البراهين الواضحة على بطلان ذلك .

فليعلم مئولو الاستواء بالاستيلاء أن سلفه في ذلك المعتزلة والجهمية والحرورية ، لا أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولا أحد من السلف .

وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] أن قول الجهمية ومن تبعهم : إن الله في كل مكان - قول باطل .

[ ص: 284 ] لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأقل وأصغر ، من أن يسع شيء منها خالق السماوات والأرض ، الذي هو أعظم وأكبر من كل شيء ، وهو محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .

فانظر إيضاح ذلك في الأنعام .

واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة ، من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة ، وأن ذلك محال على الله ، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية ، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني كله باطل .

وسببه سوء الظن بالله وبكتابه ، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم . واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل يقال له :

ما مرادك بالجهة ؟

إن كنت تريد بالجهة مكانا موجودا انحصر فيه الله ، فهذا ليس بظاهر القرآن ، ولم يقله أحد من المسلمين .

وإن كنت تريد بالجهة العدم المحض .

فالعدم عبارة عن لا شيء .

فميز أولا بين الشيء الموجود ، وبين لا شيء .

وقد قال أيضا أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة أيضا ما نصه :

فإن سئلنا : أتقولون : إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله عز وجل : يد الله فوق أيديهم [ 48 \ 10 ] ، وقوله عز وجل : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] .

وأطال رحمه الله الكلام في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله .

ومن جملة ما قال ما نصه :

ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله : يدي يدين ليستا نعمتين .

فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة .

[ ص: 285 ] قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟

فإن رجوعنا إلى شاهدنا ، وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق ؟

فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة .

قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما ، فاقضوا بذلك على الله عز وجل .

وإلا فأنتم لقولكم متأولون ولاعتلالكم ناقضون .

وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا .

فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما ، يدين ليستا نعمتين ، ولا جارحتين ، ولا كالأيدي ؟

وكذلك يقال لهم :

لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ، ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ، ليس كالإنسان ، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم .

فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ، من أجل أن ذلك خلاف الشاهد انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أن الأشعري رحمه الله يعتقد أن الصفات التي أنكرها المئولون كصفة اليد ، من جملة صفات المعاني كالحياة ونحوها ، وأنه لا فرق البتة بين صفة اليد وصفة الحياة فما اتصف الله به من جميع ذلك فهو منزه عن مشابهة ما اتصف به الخلق منه .

واللازم لمن شبه في بعض الصفات ونزه في بعضها أن يشبه في جميعها أو ينزه في جميعها ، كما قاله الأشعري .

أما ادعاء ظهور التشبيه في بعضها دون بعض ، فلا وجه له بحال من الأحوال ، لأن الموصوف بها واحد ، وهو منزه عن مشابهة صفات خلقه .

ومن جملة كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله المشار إليها آنفا في إثبات الصفات ما نصه :

[ ص: 286 ] فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] على المجاز ؟ .

قيل له : حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته ، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة .

ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم ، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص ، فليس هو على حقيقة الظاهر ؟

وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ؟

كذلك قول الله عز وجل : لما خلقت بيدي على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين ، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة .

ولو جاز ذلك لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم ، فهو على الخصوص ، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة .

وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز بغير حجة .

بل واجب أن يكون قوله : لما خلقت بيدي إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وفيه تصريح أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، بأن صفات الله كصفة اليد ثابتة له حقيقة لا مجازا ، وأن المدعين أنها مجاز هم خصومه وهو خصمهم كما ترى .

وإنما قال رحمه الله : إنه تعالى متصف بها حقيقة لا مجازا ، لأنه لا يشك في أن ظاهر صفة الله هو مخالفة صفة الخلق ، وتنزيهها عن مشابهتها كما هو شأن السلف الصالح كلهم .

فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه ، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق .

[ ص: 287 ] فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له .
تنبيه مهم

فإن قيل : دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن الله وصف نفسه بصفة اليدين كقوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وقوله تعالى : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وقوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية [ 39 \ 67 ] .

والأحاديث الدالة على مثل ما دلت عليه الآيات المذكورة كثيرة ، كما هو معلوم ، وأجمع المسلمون على أنه - جل وعلا - لا يجوز أن يوصف بصفة الأيدي مع أنه تعالى قال : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون [ 36 \ 71 ] ، فلم أجمع المسلمون على تقديم آية لما خلقت بيدي على آية مما عملت أيدينا ؟

فالجواب : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي ، ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين أحدهما إرادة التعظيم فقط ، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلا ، لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم - إنما يراد بها واحد .

والثاني أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف ، وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن القرآن العظيم يكثر فيه جدا إطلاق الله - جل وعلا - على نفسه صيغة الجمع ، يريد بذلك تعظيم نفسه ، ولا يريد بذلك تعددا ولا أن معه غيره ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .

فصيغة الجمع في قوله : إنا وفي قوله : نحن وفي قوله : نزلنا وقوله : لحافظون لا يراد بها أن معه منزلا للذكر ، وحافظا له غيره تعالى .

بل هو وحده المنزل له والحافظ له ، وكذلك قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وقوله : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، ونحو هذا كثير في القرآن جدا ، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله : إنا . وفي قوله : خلقنا وفي قوله : عملت أيدينا إنما يراد بها التعظيم ، ولا يراد بها التعدد أصلا .

[ ص: 288 ] وإذا كان يراد بها التعظيم ، لا التعدد ؛ علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله : لما خلقت بيدي ، لأنها دلت على صفة اليدين . والجمع في قوله : أيدينا لمجرد التعظيم .

وما كان كذلك لا يدل على التعدد فيطلب الدليل من غيره ، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم بذلك ، كالآيات المتقدمة .

وإن دل على معنى آخر حكم به .

فقوله مثلا : وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد ، وكذلك قوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد ، ومنزل واحد ، ومنشئ واحد .

وأما قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، فقد دل البرهان القطعي على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، كما تقدم إيضاحه قريبا .

وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله : لحافظون [ 15 \ 9 ] ، وقوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، وقوله : أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، وقوله : خلقنا لهم مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، لا يراد بشيء منه معنى الجمع ، وإنما يراد به التعظيم فقط .

وقد أجاب أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة بما يقرب من هذا في المعنى .

واعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا ، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة ، وإنما يراد به معنى أمام .

واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة " بين " خاصة ، أعني لفظة " بين يديه " ، فإن المراد بهذه اللفظة أمامه . وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة ، ولا أي صفة كائنة ما كانت .

[ ص: 289 ] وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى : وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه [ 34 \ 31 ] ، أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب .

وكقوله : ومصدقا لما بين يديه من التوراة [ 5 \ 46 ] ، أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة .

وكقوله : فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ 41 \ 25 ] ، فالمراد بلفظ " ما بين أيديهم " ما أمامهم .

وكقوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] ، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومما يوضح لك ذلك أنه لا يمكن تأويل اليدين في ذلك بنعمتين ولا قدرتين ولا جارحتين . ولا غير ذلك من الصفات ، فهذا أسلوب خاص دال على معنى خاص . بلفظ خاص مشهور في كلام العرب فلا صلة له باللفظ الدال على الجارحة ، بالنسبة إلى الإنسان ولا باللفظ الدال على صفة الكمال والجلال الثابتة لله تعالى . فافهم .

وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " الذي ذكر فيه أقوال جميع أهل الأهواء والبدع والمئولين والنافين لصفات الله أو بعضها ما نصه :

جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئا .

وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله سبحانه على عرشه ، كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] . إلى أن قال في كلامه هذا بعد أن سرد مذهب أهل السنة والجماعة - ما نصه :

فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه ، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه [ ص: 290 ] نذهب ، وما توفيقنا إلا بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وبه نستعين ، وعليه نتوكل ، وإليه المصير ، هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب المقالات المذكور .

وبه تعلم أنه يؤمن بكل ما جاء عن الله في كتابه وما ثبت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يرد من ذلك شيئا ولا ينفيه بل يؤمن به ويثبته لله ، بلا كيف ولا تشبيه ، كما هو مذهب أهل السنة . وقال أبو الحسن الأشعري أيضا في كتاب المقالات المذكور ما نصه :

وقال أهل السنة وأصحاب الحديث : ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال عز وجل : الرحمن على العرش استوى ولا نقدم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف . ثم أطال الكلام رحمه الله في إثبات الصفات كما قدمنا عنه ، ثم قال ما نصه : وقالت المعتزلة : إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فتراه صرح في كتاب المقالات المذكور ، بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء ، هو قول المعتزلة لا قوله هو ، ولا قول أحد من أهل السنة .

وزاد في كتاب الإبانة مع المعتزلة الجهمية والحرورية كما قدمنا .

وبكل ما ذكرنا تعلم أن الأشعري رجع عن الاعتزال إلى مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها .

وقد قدمنا إيضاح الحق في آيات الصفات بالأدلة القرآنية بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .

واعلم أن أئمة القائلين بالتأويل رجعوا قبل موتهم عنه ، لأنه مذهب غير مأمون العاقبة ; لأن مبناه على ادعاء أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تليق بالله لظهورها وتبادرها في مشابهة صفات الخلق .

ثم نفي تلك الصفات الواردة في الآيات والأحاديث ، لأجل تلك الدعوى الكاذبة المشئومة ، ثم تأويلها بأشياء أخر ، دون مستند من كتاب أو سنة ، أو قول صحابي أو أحد من السلف .

وكل مذهب هذه حاله ، فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:29 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (498)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 291 إلى صـ 298


[ ص: 291 ] وقد أشار تعالى في سورة الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله ، وبصفاته عالم بما يليق به ، وبما لا يليق وذلك في قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] .

فتأمل قوله : فاسأل به خبيرا ، بعد قوله : ثم استوى على العرش الرحمن ، تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق .

فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن .

وقد قال تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] .

وبذلك تعلم أن من يدعي أن الاستواء يستلزم التشبيه ، وأنه غير لائق - غير خبير ، نعم والله هو غير خبير .

وسنذكر هنا إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات .

أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري ، وهو القاضي محمد بن الطيب المعروف بأبي بكر الباقلاني ، فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف ويمنع تأويلها منعا باتا ، ويقول فيها بمثل ما قدمنا عن الأشعري ، وسنذكر لك هنا بعض كلامه .

قال الباقلاني المذكور في كتاب التمهيد ما نصه :

باب في أن لله وجها ويدين ، فإن قال قائل : فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين ؟ قيل له : قوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] .

وقوله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، فأثبت لنفسه وجها ويدين .

فإن قالوا : فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله : خلقت بيدي أنه خلقه بقدرته أو بنعمته ، لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة ، وبمعنى القدرة ، كما يقال : لي عند فلان يد بيضاء . يراد به نعمة .

[ ص: 292 ] وكما يقال : هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان ، يراد به أنه تحت قدرته وفي ملكه .

ويقال : رجل أيد إذا كان قادرا .

وكما قال تعالى : خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما [ 36 \ 71 ] ، يريد عملنا بقدرتنا . وقال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين


فكذلك قوله : خلقت بيدي يعني بقدرتي أو نعمتي .

يقال لهم هذا باطل ; لأن قوله : بيدي يقتضي إثبات يدين هما صفة له .

فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان .

وأنتم لا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة ، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين ؟

وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم .

وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين ; لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى .

ولأن القائل لا يجوز أن يقول : رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني نعمته .

وكذلك لا يجوز أن يقال : لي عند فلان يدان يعني نعمتين .

وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان ، لأن القول : يد - لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات .

ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس ، وعن أن يقول : وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني ؟

وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه - دليل على فساد ما قالوه .

[ ص: 293 ] فإن قال قائل : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة ؟ إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة .

يقال له : لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك .

وكما لا يجب متى كان قائما بذاته أن يكون جوهرا أو جسما ، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وهو صريح في أنه يرى أن صفة الوجه ، وصفة اليد ، وصفة العلم ، والحياة والقدرة كلها من صفات المعاني ، ولا وجه للفرق بينها ، وجميع صفات الله مخالفة لجميع صفات خلقه .

وقال الباقلاني أيضا في كتاب التمهيد ما نصه :

فإن قالوا : فهل تقولون : إنه في كل مكان ؟

قيل : معاذ الله ، بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه ، فقال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، وقال : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .

ولو كان في كل مكان ، لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ، تعالى عن ذلك ، ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذ خلق منها ما لم يكن خلقه ، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان .

ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا .

وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله ، إلى أن قال رحمه الله : ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر :


قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر ، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا .

وقوله : ثم استوى على العرش [ 25 \ 59 ] ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فيبطل ما قالوه .

[ ص: 294 ] فإن قال قائل : ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله ، لأعرف ذلك .

قيل له : صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها .

وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وقد نقلناه من نسخة هي أجود نسخة موجودة لكتاب التمهيد للباقلاني المذكور .

وترى تصريحه فيها بأن صفة الوجه واليد من صفات المعاني كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ، كما هو قول أبي الحسن الأشعري الذي قدمنا إيضاحه .

واعلم أن إمام الحرمين ، أبا المعالي الجويني ، كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل ، وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد .

ولكنه رجع عن ذلك في رسالته العقيدة النظامية فإنه قال فيها :

اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها .

فرأى بعضهم تأويلها ، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب ، وفيما صح من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم .

وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه .

والذي نرتضيه رأيا وندين لله به عقدا - اتباع سلف الأمة ، فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة .

وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة .

وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها .

[ ص: 295 ] فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة .

فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع بحق .

فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب .

ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة .

فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، ويبقى وجه ربك [ 55 \ 27 ] ، وقوله : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] ، وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا ، فهذا بيان ما يجب لله تعالى . انتهى كلامه بلفظه من الرسالة النظامية المذكورة مع أن رجوع الجويني فيها إلى أن الحق هو مذهب السلف أمر معلوم .

وكذلك أبو حامد الغزالي ، كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل ، ثم رجع عن ذلك ، وبين أن الحق الذي لا شك فيه هو مذهب السلف .

وقال في كتابه : إلجام العوام عن علم الكلام :

اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر - هو مذهب السلف ، أعني الصحابة والتابعين ، ثم قال : إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصول مسلمة عند كل عاقل .

ثم بين أن الأول من تلك الأصول المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهم ودنياهم .

الأصل الثاني : أنه بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، ولم يكتم منه شيئا .

[ ص: 296 ] الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لازموه وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل .

والأصل الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل ، ولو كان التأويل من الدين أو علم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا ودعوا إليه أولادهم وأهلهم .

ثم قال الغزالي : وبهذه الأصول الأربعة المسلمة عند كل مسلم نعلم بالقطع أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه .

انتهى باختصار .

ولا شك أن استدلال الغزالي هذا لأن مذهب السلف هو الحق - استدلال لا شك في صحته ، ووضوح وجه الدليل فيه ، وأن التأويل لو كان سائغا أو لازما لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ولقال به أصحابه وتابعوهم كما لا يخفى .

وذكر غير واحد عن الغزالي أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله .

وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري رحمه الله .

واعلم أيضا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل - رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله .

وقد قال في ذلك في كتابه : أقسام اللذات : لقد اختبرت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فلم أجدها تروي غليلا ، ولا تشفي عليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وفي النفي : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي . ا هـ .

وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها :


نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال


[ ص: 297 ] إلى آخر الأبيات .

وكذلك غالب أكابر الذين كانوا يخوضون في الفلسفة والكلام ، فإنه ينتهي بهم أمرهم إلى الحيرة وعدم الثقة بما كانوا يقررون .

وقد ذكر عن الحفيد ابن رشد وهو من أعلم الناس بالفلسفة أنه قال :

ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟

وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم ، وقد قال في ذلك : لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم وأمثال هذا كثيرة .

فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق ، وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يقلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين .

فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف ؟

إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم ، وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم .

وهو مصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة ، وهم خصومه وهو خصمهم ، كما أوضحنا كلامه في الإباحة والمقالات .

وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له ، وأن الحق هو اتباع مذهب السلف كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلاني ، وأبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبي عبد الله الفخر الرازي ، وغيرهم ممن ذكرنا .

فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وألا تجادلوا في آيات الله بغير سلطان أتاكم ، والله - جل وعلا - يقول في كتابه : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ 40 \ 56 ] .

[ ص: 298 ] ويقول تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 20 - 21 ] .
المسألة الثانية في الكلام على الاجتهاد .

اعلم أولا أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا ، وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم ، وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .

وبينا طرفا منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين .

اعلم أولا : أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين ، يقولون : إن شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا ، عاقلا شديد الفهم .

طبعا عارفا بالدليل العقلي ، الذي هو استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد نقل صارف عنه .

عارفا باللغة العربية ، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية .

وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود ، والرسوم ، وشرائط البرهان .

عارفا بالأصول ، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:31 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (499)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 299 إلى صـ 306




[ ص: 299 ] ولا يشترط عندهم حفظ النصوص ، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث .

عارفا بمواقع الإجماع والخلاف .

عارفا بشروط المتواتر ، والآحاد والصحيح والضعيف .

عارفا بالناسخ والمنسوخ .

عارفا بأسباب النزول .

عارفا بأحوال الصحابة ، وأحوال رواة الحديث ، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس . ا هـ .

ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة ، ولا إجماعا دالا على ذلك .

وإنما مستندهم في ذلك هو تحقيق المناط في ظنهم .

وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يشترط له إلا شرط واحد ، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما .

ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة .

وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد .

ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط .

لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط ، أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل .

فاشترطوا جميع الشروط المذكورة ، ظنا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها .

وهذا الظن فيه نظر ; لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا [ ص: 300 ] يمتنع عليه ، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه ، هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به .

وسؤال أهل العلم : هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا . وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد ، بل هو من نوع الاتباع .

وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية .

والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة . وسنذكر طرفا منها لنبين أنه لا يجوز تخصيصها بتحصيل الشروط المذكورة .

قال الله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] ، والمراد بـ ما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال .

وقال تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ 4 \ 61 ] .

فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك - أنه من جملة المنافقين ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

وقال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] ، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته .

وتعليقه الإيمان في قوله : إن كنتم تؤمنون بالله على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله .

وقال تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون [ 39 \ 55 ] ، ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ، والسنة [ ص: 301 ] مبينة له ، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله : من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .

وقال تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [ 39 \ 18 ] ، ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال .

وقال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، وقوله : إن الله شديد العقاب فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها .

وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، والأسوة : الاقتداء ، فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك باتباع سنته .

وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ 4 \ 65 ] ، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما اختلفوا فيه .

وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] .

والاستجابة له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته - صلى الله عليه وسلم - وهي مبينة لكتاب الله .

وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع شيئا إلا الوحي ، وأن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله .

قال تعالى في سورة يونس : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .

وقال تعالى في الأنعام : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .

وقال تعالى في الأحقاف : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] .

[ ص: 302 ] وقال تعالى في الأنبياء : قل إنما أنذركم بالوحي الآية [ 21 \ 45 ] ، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره .

وقال تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي الآية [ 34 \ 50 ] ، فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي ، والآيات بمثل هذا كثيرة .

وإذا علمت منها أن طريقه - صلى الله عليه وسلم - هي اتباع الوحي ، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فهو مطيع لله كما قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ 3 \ 31 ] .

ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالا في الدنيا ولا شقيا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده .

قال تعالى في طه : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ 20 \ 123 ] ، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي .

ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه ، وذلك في قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] .

ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي المصرح به في القرآن ، لا يتحقق فيمن يقلد عالما ليس بمعصوم ، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ . في حال كونه معرضا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده ، كافية مغنية ، عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي ، والعمل به ، لا تكاد تحصى ، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا تكاد تحصى ; لأن طاعة الرسول طاعة الله .

وقد قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، [ ص: 303 ] وقال تعالى : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [ 3 \ 132 ] .

وقال تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .

وقال : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم [ 4 \ 69 ] .

وقال تعالى : ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [ 33 \ 71 ] .

وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [ 4 \ 80 ] .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] .

وقال تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ 4 \ 13 - 14 ] .

وقال تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [ 5 \ 92 ] .

وقال تعالى : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [ 8 \ 1 ] .

وقال تعالى : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [ 24 \ 54 ] .

وقال : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [ 24 \ 56 ] .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [ 47 \ 33 ] .

[ ص: 304 ] وقال تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ 24 \ 51 - 52 ] .

وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .

وقال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله [ 9 \ 71 ] .

ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي ، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي ، وتفهمه وتعلمه والعمل به ، فتخصيص تلك النصوص كلها ، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به : لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين - يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل على ذلك البتة .

بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه ، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا .

وهذه المسألة الثانية يتداخل بعض الكلام فيها ، مع بعض الكلام في المسألة الأولى ، فهما شبه المسألة الواحدة .
المسألة الثالثة في التقليد في بيان معناه لغة واصطلاحا وأقسامه وبيان ما يصح منها وما لا يصح

اعلم أن التقليد في اللغة : هو جعل القلادة في العنق .

وتقليد الولاة هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم ، ومنه قول لقيط الإيادي :


وقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
وأما التقليد في اصطلاح الفقهاء : فهو الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله .

والمراد بالمذهب هو ما يصح فيه الاجتهاد خاصة .

[ ص: 305 ] ولا يصح الاجتهاد البتة في شيء يخالف نصا من كتابه أو سنة ثابتة ، سالما من المعارض ; لأن الكتاب والسنة حجة على كل أحد كائنا من كان ، لا تسوغ مخالفتهما البتة لأحد كائنا من كان فيجب التفطن ; لأن المذهب الذي فيه التقليد يختص بالأمور الاجتهادية ولا يتناول ما جاء فيه نص صحيح من الوحي سالم من المعارض .

قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : مختصرا على مذهب الإمام مالك بن أنس ما نصه :

( والمذهب لغة : الطريق ومكان الذهاب ، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية ) انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فقوله : من الأحكام الاجتهادية تدل على أن اسم المذهب لم يتناول مواقع النصوص الشرعية السالمة من المعارض .

وذلك أمر لا خلاف فيه ; لإجماع العلماء على أن المجتهد المطلق إذا أقام باجتهاده دليلا ، مخالفا لنص من كتاب أو سنة أو إجماع ، أن دليله ذلك باطل بلا خلاف .

وأنه يرد بالقادح المسمى في الأصول بفساد الاعتبار .

وفساد الاعتبار الذي هو مخالفة الدليل لنص أو إجماع من القوادح التي لا نزاع في إبطال الدليل بها ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في القوادح :
والخلف للنص أو إجماع دعا فسادا لاعتبار كل من وعى وبما ذكرنا
تعلم أنه لا اجتهاد أصلا ولا تقليد أصلا في شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع .

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن بعض الناس من المتأخرين أجاز التقليد ، ولو كان فيه مخالفة نصوص الوحي ، كما ذكرنا عن الصاوي وأضرابه .

وعليه أكثر المقلدين للمذاهب في هذا الزمان وأزمان قبله .

وبعض العلماء منع التقليد مطلقا ، وممن ذهب إلى ذلك ابن خويز منداد من المالكية ، والشوكاني في القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد .

[ ص: 306 ] والتحقيق : أن التقليد منه ما هو جائز ، ومنه ما ليس بجائز ، ومنه ما خالف فيه المتأخرون المتقدمين من الصحابة وغيرهم من القرون الثلاثة المفضلة .
وسنذكر كل الأقسام هنا ، إن شاء الله مع بيان الأدلة .

أما التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين ، فهو تقليد العامي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به ، وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف فيه .

فقد كان العامي يسأل من شاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم النازلة تنزل به ، فيفتيه فيعمل بفتياه .

وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعمل بفتياه .

قال صاحب نشر البنود في شرحه لقوله في مراقي السعود :


رجوعه لغيره في آخر يجوز للإجماع عند الأكثر ما نصه
: يعني أن العامي يجوز له عند الأكثر الرجوع إلى قول غير المجتهد الذي استفتاه أولا في حكم آخر لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، على أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم ، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها .

فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله ، فكذلك في المسألة الأخرى . قاله الحطاب شارح مختصر الخليل .

قال القرافي : انعقد الإجماع على أن من أسلم ، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر .

وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ، ويعمل بقولهم بغير نكير .

فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل . انتهى محل الغرض منه .

وما ذكره من انعقاد الإجماعين صحيح كما لا يخفى ، فالأقوال المخالفة لهما من متأخري الأصوليين كلها - مخالفة للإجماع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:34 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (500)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 307 إلى صـ 314





[ ص: 307 ] وبعض العلماء يقول : إن تقليد العامي المذكور للعالم وعمله بفتياه من الاتباع لا من التقليد .

والصواب : أن ذلك تقليد مشروع مجمع على مشروعيته .
وأما ما ليس من التقليد بجائز بلا خلاف ، فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده ، مجتهدا آخر يرى خلاف ما ظهر له هو ؛ للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لا يجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه .

وأما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير ، فهو تقليد رجل واحد معين دون غيره ، من جميع العلماء .

فإن هذا النوع من التقليد ، لم يرد به نص من كتاب ولا سنة ، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير .

وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله ، فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره ، من جميع علماء المسلمين .

فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع ، ومن يدعي خلاف ذلك ، فليعين لنا رجلا واحدا من القرون الثلاثة الأول ، التزم مذهب رجل واحد معين ، ولن يستطيع ذلك أبدا ; لأنه لم يقع البتة .

وسنذكر هنا إن شاء الله جملا من كلام أهل العلم في فساد هذا النوع من التقليد وحجج القائلين به ، ومناقشتها ، وبعد إيضاح ذلك كله نبين ما يظهر لنا بالدليل أنه هو الحق والصواب إن شاء الله .

قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، ما نصه :

باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع : قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه ، فقال : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] .

[ ص: 308 ] وروي عن حذيفة وغيره ، قالوا : " لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم " .

وقال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي الصليب ، فقال لي : " يا عدي : ألق هذا الوثن من عنقك ، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : قلت : يا رسول الله : إنا لم نتخذهم أربابا . قال : بلى ، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه ؟ فقلت : بلى ، فقال : تلك عبادتهم " .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن أبي البختري في قوله عز وجل : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ، ولكنهم أمروهم ، فجعلوا حلال الله حرامه ، وحرامه حلاله فأطاعوهم ، فكانت تلك الربوبية .

قال : وحدثنا ابن وضاح ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن أبي البختري ، قال : قيل لحذيفة في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أكانوا يعبدونهم ؟ فقال : لا ، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه .

وقال جل وعز : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 23 - 24 ] .

فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء ، فقالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون [ 43 \ 24 ] .

وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] .

وقال : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم [ 2 \ 166 - 167 ] .

[ ص: 309 ] وقال عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [ 21 \ 52 - 53 ] .

وقال : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] .

ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء .

وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ; لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر .

وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ; لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا ، وإن اختلفت الآثام فيه .

وقال الله عز وجل : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ، وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب هذا ، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا .

فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها ، وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك .

أخبرنا عبد الوارث ، ثم ساق السند إلى أن قال : حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة ، قال : وما هي يا رسول الله ؟

قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع
" .

وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله " . هذا لفظ أبي عمر في جامعه .

وكثير بن عبد الله المذكور في الإسناد ضعيف ، وأبوه عبد الله مقبول ، ولكن المتنين المرويين بالإسناد المذكور كلاهما له شواهد كثيرة تدل على أن أصله صحيح .

ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر في جامعه بإسناده عن زياد بن حدير ، عن عمر بن [ ص: 310 ] الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون .

ثم ذكر بالإسناد المذكور عن ابن مهدي عن جعفر بن حبان ، عن الحسن قال : قال أبو الدرداء : إن فيما أخشى عليكم زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق .

ثم أخرج بإسناده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول في مجلسه كل يوم ، قلما يخطئه أن يقول ذلك : " الله حكم قسط ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق ، والمرأة والصبي ، والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول : قد قرأت القرآن ، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإن كل بدعة ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم " إلى آخر ما ذكره رحمه الله من الآثار الدالة على نحو ما تقدم من أن زلة العالم من أخوف المخاوف على هذه الأمة .

وإنما كانت كذلك لأن من يقلد العالم تقليدا أعمى يقلده فيما زل فيه فيتقول على الله أن تلك الزلة التي قلد فيها العالم من دين الله ، وأنها مما أمر الله بها ورسوله ، وهذا كما ترى والتنبيه عليه هو مراد ابن عبد البر .

ومرادنا أيضا بإيراد الآثار المذكورة .

ثم قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه ما نصه : وشبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة ، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير .

وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن ابن مسعود أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك .

ثم ساق الروايات في تفسيرهم الإمعة ، ومعنى الإمعة معروف .

قال الجوهري في صحاحه : يقال الإمع والإمعة أيضا للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد ، ومنه قول ابن مسعود : لا يكونن أحدكم إمعة . انتهى منه .

[ ص: 311 ] ولقد أصاب من قال :


شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
وذكر ابن عبد البر بإسناده عن ابن مسعود في تفسير الإمعة ، أنه قال : كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره ، وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال .

ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد النخعي ، وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم : يا كميل إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، إلى آخر الحديث .

وفيه : أف لحامل حق لا يصيره له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن افتتن به ، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه .

ولا شك أن المقلد غيره تقليدا أعمى يدخل فيما ذكره علي رضي الله عنه في هذا الحديث ; لأنه لا يدري عن دين الله شيئا إلا أن الإمام الفلاني عمل بهذا .

فعلمه محصور في أن من يقلده من الأئمة ذهب إلى كذا ولا يدري أمصيب هو فيه أم مخطئ .

ومثل هذا لم يستضئ بنور العلم ، ولم يلجأ إلى ركن وثيق لجواز الخطأ على متبوعه ، وعدم ميزه هو بين الخطأ والصواب .

ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :

ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر .

[ ص: 312 ] وقال في جامعه أيضا رحمه الله : وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قد ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال : " تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون فيفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون " .

وهذا كله نفي للتقليد ، وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده .

ثم ذكر رحمه الله آثارا نحو ما تقدم ثم قال : وقال : عبيد الله بن المعتمر : لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد .

وهذا كله لغير العامة ، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها ; لأنها لا تتبين موقع الحجة ، ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك ، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة . والله أعلم .

ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] .

وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه في القبلة إذا أشكلت عليه .

فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد من تقليد عالمه ، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا .

وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحريم والتحليل ، والقول في العلم .

ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ، ومن أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه " .

ثم ذكر بسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها كان إثمها عليه ا هـ .

ولا شك أن المقلد أعمى عما يفتى به ; لأن علمه به محصور في أن فلانا قاله مع [ ص: 313 ] علمه بأن فلانا ليس بمعصوم من الخطأ والزلل .

ثم قال أبو عمر رحمه الله : وقال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه .

قالوا : والمقلد لا علم له ، ولم يختلفوا في ذلك إلى أن قال رحمه الله : وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .

وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله لدليل يوجب عليك ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح ، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع .

وقال أبو عمر في آخر كلامه في هذا الباب ما نصه : ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار .

وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كلامه عن التقليد ما نصه : وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم .

فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله ، وأنا أورده قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فيما حكمت به ؟

فإن قال : نعم ، أبطل التقليد ; لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد .

وإن قال : حكمت به بغير حجة .

قيل له : فلم أرقت الدماء ، وأبحت الفروج وأتلفت الأموال ، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟

قال الله عز وجل : إن عندكم من سلطان بهذا [ 10 \ 68 ] ، أي من حجة بهذا ؟

فإن قال : أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة ، لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي .

قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك ، فتقليد معلم [ ص: 314 ] معلمك أولى ; لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك : كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك .

فإن قال : نعم ، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه .

وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله .

وقيل له : كيف تجوز تقليد من هو أصغر ، وأقل علما ؟

ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما ، وهذا تناقض ؟

فإن قال : لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه ، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك .

قيل له : كذلك من تعلم من معلمك ، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك ، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك . لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك .

فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء ، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله . والأعلى للأدنى أبدا .

وكفى بقول يئول إلى هذا تناقضا وفسادا ا هـ .

ثم قال أبو عمر رحمه الله بعد هذا ما نصه : يقال لمن قال بالتقليد : لم قلت به ، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا ؟

فإن قال : قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم أحصها ، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني .

قيل له : أما العلماء ، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض ، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:37 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (501)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 315 إلى صـ 322




[ ص: 315 ] وكلهم عالم ، والعالم الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه .

فإن قال : قلدته لأني أعلم أنه صواب .

قيل له : علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع ؟

فإن قال : نعم . أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل .

وإن قال : قلدته لأنه أعلم مني .

قيل له : فقلد كل من هو أعلم منك ، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ، ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك .

فإن قال : قلدته ; لأنه أعلم الناس .

قيل له : فإنه إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا .

فإن قال : أنا أقلد بعض الصحابة . قيل له : فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله ؟

على أن القول لا يصح لفضل قائله ، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه .

وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم عن مالك ، قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] . فإن قال قصري وقلة علمي يحملني على التقليد .

قيل له : أما من قلد فيما ينزل من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه ، فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور ، لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله ، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة ; لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك .

ولكن من كانت هذه حاله ، هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله ؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج ، وإراقة الدماء ، واسترقاق الرقاب ، وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ، ولا قام له الدليل عليه ؟

[ ص: 316 ] وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب ، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه ، فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع ، لزمه أن يجيزه للعامة .

وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن ، قال الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 7 \ 36 ] ، وقال : أتقولون على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 28 ] .

وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم ، وإنما هو ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا . انتهى كله من جامع ابن عبد البر رحمه الله .

واعلم أن حاصل جميع حجج المقلدين منحصر في قولهم : نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] .

فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه ، وهذا نص قولنا ، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يعلم إلى سؤال من يعلم ، فقال في حديث صاحب الشجة : " ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العيي السؤال " .

وقال أبو العسيف : الذي زنى بامرأة مستأجرة : " وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه " :

وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر .

فروى شعبة عن عاصم الأحول ، عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة : أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء : هو ما دون الولد والوالد ، فقال عمر بن الخطاب : إنني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر .

وصح عنه أنه قال له : رأينا لرأيك تبع ، وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر .

وقال الشعبي عن مسروق : كان ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتون الناس : ابن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى .

وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة .

[ ص: 317 ] كان عبد الله يدع قوله لقول عمر ، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي ، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب .

وقال جندب : ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس .

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا " في شأن الصلاة حيث أخر فصلى ما فاته من الصلاة مع الإمام بعد الفراغ ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ، ثم يدخلون مع الإمام .

قال المقلدة : وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء ، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به ، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم .

وقال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 9 \ 100 ] .

وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنهم ، ويكفي ذلك الحديث المشهور " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .

وقال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ; فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .

وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .

وقال : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .

وقد كتب عمر إلى شريح : أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قضى به الصالحون .

[ ص: 318 ] وقد منع عمر عن بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة .

وألزم بالطلاق الثلاث فتبعوه أيضا .

واحتلم مرة ، فقال له عمرو بن العاص : خذ ثوبا غير ثوبك ، فقال : لو فعلتها صارت سنة .

وقال أبي بن كعب وغيره من الصحابة : ما استبان لك فاعمل به ، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه .

وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بين أظهرهم ، وهذا تقليد لهم قطعا ; إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم .

وقد قال تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ 9 \ 122 ] ، فأوجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم ، وهذا تقليد منهم للعلماء .

وصح عن ابن الزبير ، أنه سئل عن الجد والإخوة ، فقال : أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا " فإنه أنزله أبا ، وهذا ظاهر في تقليده له .

وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد ، وذلك تقليد له .

وجاءت الشريعة بقبول قول القائف ، والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات ، وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد ، وذلك تقليد محض .

وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل ، وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد ، وذلك تقليد محض لهؤلاء .

وأجمعوا على جواز شراء اللحمان ، والثياب والأطعمة وغيرها ، من غير سؤال عن أسباب حلها ، وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها .

ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا ، والقدر قد منع من وقوعه .

[ ص: 319 ] وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته ، وجواز وطئها تقليدا لهن في كونها هي زوجته .

وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة ، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة ، وقراءة الفاتحة ، وما يصح به الاقتداء ، وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد .

ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها ، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات ، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل .

وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث : أرضعتك وأرضعت امرأتك ، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بفراقها ، وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك .
وقد صرح الأئمة بجواز التقليد ، فقال حفص بن غياث : سمعت سفيان يقول : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه .

وقال محمد بن الحسن : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد من هو مثله .

وقد صرح الشافعي بالتقليد ، فقال : في الضبع بعير ، قلته تقليدا لعمر .

وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب ، قلته تقليدا لعثمان .

وقال في مسألة الجد مع الإخوة إنه يقاسمهم ، ثم قال : وإنما قلت بقول زيد . وعنه قبلنا أكثر الفرائض .

قال في موضع آخر من كتابه الجديد : قلته تقليدا العطاء .

وهذا أبو حنيفة رحمه الله في مسائل الآبار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها .

وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا ، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا .

[ ص: 320 ] ويقول في غير موضع : ما رأيت أحدا أقتدي به يفعله ، ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال .

وقد قال الشافعي في الصحابة : رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ، ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا .

وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا ، وذلك عام في كل علم وصناعة .

وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان ، كما فاوت بين الأبدان ، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله ، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها .

ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء ، بل جعل سبحانه وتعالى هذا عالما ، وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع ، وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله .

وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق ، فهل فرض على كل منهم عين أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها ؟

وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا ؟

وهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا البلاد ، وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه .

ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة .

وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود ؟ فهو من لوازم الشرع والقدر .

والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد . وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها .

ونقول لمن احتج على إبطاله : كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم ، فليس بيدك إلا تقليد الراوي .

[ ص: 321 ] وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد ، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم ، فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ، ومنعنا من تقليد العالم ، وهذا سمع بأذنه ما رواه ، وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأدى هذا مسموعه ، وأدى هذا معقوله .

وفرض على هذا تأدية ما سمعه ، وعلى هذا تأدية ما عقله ، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما .

ثم يقال للمانعين من التقليد : أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ ، بأن يكون مقلده مخطئا في فتواه ، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه .

وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها ، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه ، وهذا متفق عليه بين العقلاء ا هـ .

هذا هو غاية ما يحتج به المقلدون ، وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ، وبين بطلانه من واحد وثمانين وجها .

وسنذكر هنا إن شاء الله جملا مختصرة من كلامه الطويل تكفي المنصف ، وتزيد المسألة إن شاء الله إيضاحا وإقناعا .

قال في إعلام الموقعين بعد ذكره حجج المقلدين التي ذكرناها آنفا ما نصه : قال أصحاب الحجة : عجبا لكم معاشر المقلدين ، الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ، ولا معدودين في زمرة أهله ، كيف أبطلتم مذهبكم ، بنفس دليلكم ، فما للمقلد وما للاستدلال ؟ وأين منصب المقلد من منصب المستدل ؟

وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها ، من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس ، وكنتم في ذلك متشبهين بما لم تعطوه ، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه ، وذلك ثوب زور لبستموه ، ومنصب لستم من أهله غصبتموه .

فأخبرونا : هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه ، وبرهان دلكم عليه ، فنزلتم به من [ ص: 322 ] الاستدلال أقرب منزل ، وكنتم به عن التقليد بمعزل ، أم سلكتم سبيله اتفاقا ، وتخمينا من غير دليل .

وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل ، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم .

ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة ، قلتم لسنا من أهل هذه السبيل ، وإن خاطبناكم بحكم التقليد ، فلا معنى لما أقمتموه من الدليل .

والعجب أن كل طائفة من الطوائف ، وكل أمة من الأمم ، تدعي أنها على حق ، حاشا فرقة التقليد ، فإنهم لا يدعون ذلك ، ولو ادعوه لكانوا مبطلين ، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليها ، وبرهان دلهم عليها ، وإنما سبيلهم محض التقليد ، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ، ولا الحالي من العاطل .

وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم ، وقالوا نحن على مذاهبهم ، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه ، فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه ، فخالفوهم في ذلك كله .

وقالوا : نحن من أتباعهم ، تلك أمانيهم ، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم ، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم .

وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد ، وتحريمه ، وأنه لا يحل القول به في دين الله ، ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته .

ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط .

وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس .

والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:40 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (502)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 323 إلى صـ 330






ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ، ويترك له كل ما خالفه [ ص: 323 ] من كتاب أو سنة أو قول صاحب ، أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره ، وهذا من أعجب العجب .

وأيضا فإنا نعلم بالضرورة ، أنه لم يكن في عصر الصحابة ، رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله ، فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره ، فلم يأخذ منها شيئا .

ونعلم بالضرورة ، أن هذا لم يكن في عصر التابعين ، ولا تابعي التابعين .

فليكذبنا المقلدون برجل واحد ، سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه - صلى الله عليه وسلم - فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه ، يبيحون به الفروج ، والدماء والأموال ، ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم ، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وعلى كل حال ، فأنتم أيها المقلدون : تقولون إنه لا يجوز العمل بالوحي إلا بخصوص المجتهدين فلم سوغتم لأنفسكم الاستدلال على التقليد بآية : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] ، وآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية [ 9 \ 122 ] .

هل رجعتم عن قولكم بأن الاستدلال بالوحي لا يجوز لغير المجتهد ، أو ارتكبتم ما تعتقدون أنه حرم من استدلالكم بالقرآن مع شدة بعدكم عن رتبة الاجتهاد ؟

وفي هذا رد إجمالي لجميع ما استدللتم به على التقليد الذي أنتم عليه .

ثم يقال : أليست هذه الآيات التي استدللتم بها في زعمكم من ظواهر الكتاب ، التي سن لكم الصاوي وأمثاله أن العمل بها من أصول الكفر ، فإنه لم يستثن شيئا من ظواهر القرآن يكون العمل به ليس من أصول الكفر .

فلم تجرأتم على شيء هو من أصول الكفر وسوغتم لأنفسكم الاستدلال بالقرآن ، مع أنه لا يجوز عندكم إلا للمجتهدين .

وسنذكر رد استدلال المقلدين تفصيلا ، بإيجاز إن شاء الله تعالى .

[ ص: 324 ] أما استدلالهم بآية فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] ، فهو استدلال في غير محله . فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هو عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها .

ولا شك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذين يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة .

فقد أمروا أن يسألوا أهل الذكر ليفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي .

ومن سأل عن الوحي وأعلم به وبين له كان عمله به اتباعا للوحي لا تقليدا ، واتباع الوحي لا نزاع في صحته .

وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة ، فهي لا تدل إلا على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين ، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالما من العلماء ، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم ، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره .

وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه : هل يعلمون له رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نرى لك رخصة وأنت قادر على الماء ، فاغتسل فمات ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيي السؤال " .

فهو استدلال أيضا في غير محله ، وهو حجة أيضا على المقلدين لا لهم .

قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرشد المستفتين ، كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه ، وسنته فقال : قتلوه قتلهم الله ، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم ، وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد ; فإنه ليس علما باتفاق الناس .

فإنما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فاعله ، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم ، فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم .

وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم ، فإنه لما أخبروه [ ص: 325 ] بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البكر الزاني أقره على ذلك ، ولم ينكره ، فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم .

وأما استدلالهم بأن عمر قال في الكلالة : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر ، وأن ذلك تقليد منه له . فلا حجة لهم فيه أيضا .

وخلاف عمر لأبي بكر رضي الله عنهما أشهر من أن يذكر .

كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر ، وخالفه عمر .

وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا لمن ولدت لسيدها منهن ، ونقض حكمه ، ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي .

وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر .

وخالفه في المفاضلة في العطاء ، فرأى أبو بكر التسوية ، ورأى عمر المفاضلة .

وخالفه في الاستخلاف ، فاستخلف أبو بكر عمر على المسلمين ، ولم يستخلف عليهم عمر أحدا إيثارا لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعل أبي بكر رضي الله عنهم .

وخالفه في الجد والإخوة ، مع أن خلاف أبي بكر الذي استحيا منه عمر هو خلافه في قوله : إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء - هو ما دون الولد والوالد فاستحيا عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه ، وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ .

ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء ، وقد اعترف أنه لم يفهمها ، قاله في إعلام الموقعين .

ومن العجب استدلال المقلدين على تقليدهم ، باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر ، مع أنهم لم يستحيوا من مخالفة أبي بكر وعمر ، وجميع الصحابة ، ومخالفة الكتاب والسنة إذا كان ذلك لا يوافق مذهب إمامهم ، كما هو معلوم من عادتهم .

وكما أوضحه الصاوي في الكلام الذي قدمنا على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .

[ ص: 326 ] فقد قدمنا هناك أنه قال : إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل ، ولو وافق الصحابة ، والحديث الصحيح والآية ، وربما أداه ذلك إلى الكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .

فمن هذا مذهبه ودينه كيف يستدل باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر ؟

بل كيف يستدل بنص من نصوص الوحي ، أو قول أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟

مع أن أبا بكر خليفة راشد أمر النبي بالاقتداء به في قوله : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " الحديث ، فليس الاقتداء بالخلفاء كالاقتداء بغيرهم .

وأما استدلالهم على تقليدهم بقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : رأينا لرأيك تبع ، فيكفي في رده ما قدمنا قريبا ، من مخالفة عمر لأبي بكر ، مع القصة التي قال له فيها : رأينا لرأيك تبع ، رد فيها على أبي بكر بعض ما قاله .

وأيد الصحابة ما قال عمر في رده على أبي بكر رضي الله عنهما .

لأن الحديث المذكور في وفد بزاخة من أسد وغطفان حين قدموا على أبي بكر يسألونه الصلح ، فخيرهم أبو بكر بين الحرب المجلية والسلم المخزية .

فقالوا : هذه المجلية قد عرفناها ، فما المخزية ؟

قال : تنزع منكم الحلقة والكراع ، ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا ؟ وتدون لنا قتلانا إلى آخر كلامه .

وفيه : فقام عمر بن الخطاب فقال : قد رأيت رأيا سنشير عليك ، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت ، وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم ، وتردون ما أصبتم منا ، فنعم ما ذكرت ، وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار ، فإن قتلانا قد قاتلت فقتلت على ما أمر الله ، أجورها على الله ، ليس لها ديات .

فتتابع القوم على ما قال عمر رضي الله عنه .

فهذه القصة الثابتة : هي التي في بعض ألفاظها : ورأينا لرأيك تبع .

[ ص: 327 ] وأنت ترى عمر رضي الله عنه لم يقلد فيها أبا بكر رضي الله عنه ، إلا فيما يعتقد صوابه .

فإن ما ظهر له أنه صواب قال له فيه : نعم ما ذكرت .

وما ظهر له أنه ليس بصواب رده على أبي بكر ، وهو قول أبي بكر بدفع ديات الشهداء ; لأن عمر يعتقد أن الشهيد في سبيل الله لا دية له ; لأن الله يقول : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] .

وذلك يوضح لك أن الصحابة رضي الله عنهم لا يعدلون عن الكتاب والسنة إلى قول أحد .

وأما احتجاجهم بتقليد ابن مسعود لعمر فهو ظاهر السقوط ، ولو وافق عمر في بعض المسائل فهو من قبيل موافقة بعض العلماء لبعض ، لاتفاق رأيهم لا لتقليد بعضهم لبعض .

وقد خالف ابن مسعود عمر رضي الله عنهما في مسائل كثيرة جدا ، كمخالفته له في أم الولد ; لأن ابن مسعود يقول فيها : إنها تعتق من نصيب ولدها ، ومن ذلك أن ابن مسعود كان يطبق في ركوعه إلى أن مات ، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه .

وكان ابن مسعود يقول في الحرام : هي يمين ، وعمر يقول : إنه طلقة واحدة .

وكان ابن مسعود يحرم النكاح بين الزانيين وعمر يتوبهما ، وينكح أحدهما الآخر .

وكان ابن مسعود يرى بيع الأمة طلاقها ، وعمر يرى عدم ذلك ، وأمثال هذا كثيرة معلومة .

مع أن ابن مسعود يقول : إنه أعلم الصحابة بكتاب الله وأنه لو كان أحد أعلم منه به لرحل إليه ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة .

وقد قدمنا عنه قوله : كن عالما أو متعلما ، ولا تكن إمعة .

فليس ابن مسعود من أهل التقليد ، مع أن المقلدين المحتجين بتقليد ابن مسعود [ ص: 328 ] لعمر ، لا يقلدون ابن مسعود ، ولا عمر ولا غيرهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ولا يأخذون بقول الله ولا رسوله وإنما يفضلون على ذلك كله تقليد أحد الأئمة أصحاب المذاهب رحمهم الله .

وأما استدلالهم على التقليد بأن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر .

وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي .

وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنه من المعلوم أن الصحابة المذكورين رضي الله عنهم لا يدعون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد ، وهذا لا شك فيه .

وكان ابن عمر يدع قول عمر ، إذا ظهرت له السنة .

وكان ابن عباس يقول : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون : قال أبو بكر وعمر .

وأما استدلالهم على التقليد بأن معاذا رضي الله عنه صلى مسبوقا فصلى ما أدرك مع الإمام أولا ، ثم قضى ما فاته بعد سلام الإمام ، وكانوا قبل ذلك يصلون ما فاتهم أولا ، ثم يدخلون مع الإمام في الباقي .

وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ذلك : " إن معاذا قد سن لكم سنة ، فكذلك فافعلوا " ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن ذلك لم يكن سنة إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى .

فلا حجة قطعا في قول أحد كائنا من كان ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود .

وإنما العبرة بقوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين .

وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] .

قائلين إن المراد بأولي الأمر العلماء ، وأن طاعتهم المأمور بها في الآية هي تقليدهم ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنه لا يجوز طاعة أولي الأمر إجماعا فيما خالف كتابا أو سنة ، ولا طاعة لهم إلا في المعروف كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 329 ] ولا نزاع بين المسلمين في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

والتحقيق في معنى الآية الكريمة أن المراد بأولي الأمر : ما يشمل الأمراء والعلماء ; لأن العلماء مبلغون عن الله وعن رسوله ، والأمراء منفذون ، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه ; لأن ما أمر به أولو الأمر لا يخلو من أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون طاعة لله ولرسوله من غير نزاع ، وطاعة أولي الأمر في مثل هذا من طاعة الله ورسوله .

والثاني : أن يحصل فيه نزاع ، هل هو من طاعة الله ورسوله أو لا ؟

وفي هذه الحالة لا تجوز الطاعة العمياء لأولي الأمر ولا التقليد الأعمى كما صرح الله تعالى بذلك في نفس الآية .

لأنه تعالى لما قال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] ، أتبع ذلك بقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فالآية صريحة في رد كل نزاع إلى الله ورسوله .

والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه في حياته ، والرد إلى سنته بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم .

وقد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 - 30 ] بعض الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، كحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .

وحديث علي رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار : " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا ، إنما الطاعة في المعروف " .

وفي الكتاب العزيز : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .

ولا يخفى أن طاعة الله وطاعة رسوله المأمور بها في الآية لا يتحقق وجودها إلا بمعرفة أمر الله ورسوله ونهي الله ورسوله .

[ ص: 330 ] والمقلدون مقرون على أنفسهم بأنهم لا يعلمون أمر الله ولا نهيه ، ولا أمر رسوله ولا نهيه .

وغاية ما يدعون علمه هو أن الإمام الذي قلدوه قال كذا ، مع عجزهم عن التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب ، بل أكثرهم لا يميزون بين قول الإمام وبين ما ألحقه أتباعه بعده مما قاسوه على أصول مذهبه .

ولا شك أن طاعة العلماء هي اقتفاء ما كانوا عليه من النظر في كتاب الله وسنة رسوله وتقديمها على كل قول وعلى كل رأي كائنا ما كان .

فمن قلدهم التقليد الأعمى وترك الكتاب والسنة لأقوالهم ، فهو المخالف لهم المتباعد عن طاعتهم كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله .

وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 9 \ 100 ] ، قائلين : إن تقليدهم من جملة اتباعهم بإحسان ، فمقلدهم ممن رضي الله عنه بنص الآية فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين ساروا على مثل ما كانوا عليه من العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن أحد منهم يقلد رجلا ويترك الكتاب والسنة لقوله .

فالمقلدون التقليد الأعمى ليسوا ممن اتبعوهم البتة ، بل هم أعظم الناس مخالفة لهم ، وأبعدهم عن اتباعهم ، فأتبع الناس لمالك مثلا ابن وهب ونظراؤه ، ممن يعرضون أقواله على الكتاب والسنة فيأخذون منها ما وافقهما دون غيره .

وأتبع الناس لأبي حنيفة أبو يوسف ومحمد مع كثرة مخالفتهما له ، لأجل الدليل من كتاب أو سنة .

وأتبع أصحاب أحمد بن حنبل له البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم ، لتقديمهم الدليل على قوله وقول غيره ، وهكذا .

وأما استدلالهم على تقليدهم ، بحديث : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فهو ظاهر السقوط أيضا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:43 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (503)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 331 إلى صـ 338





[ ص: 331 ] اعلم أولا أن الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، فجميع طرقه ليس فيها شيء قائم ، قال في إعلام الموقعين :

روي هذا الحديث من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر .

ومن طريق حمزة الجري ، عن نافع عن ابن عمر ، ولا يثبت شيء منها .

قال ابن عبد البر : حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ; أن أبا عبد الله بن مضرح حدثهم : ثنا محمد بن أيوب الصموت قال : قال لنا البزار : وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فهذا الكلام لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم . انتهى منه .

وضعف الحديث المذكور معروف عن أهل العلم .

مع أن المقلدين المحتجين به يمنعون تقليد الصحابة ، ويحرمون الاهتداء بتلك النجوم .

وهو تناقض عجيب لأنهم تركوا نفس ما دل عليه الحديث واستدلوا بالحديث على ما لم يتعرض له الحديث ، وهو تقديمهم تقليد أئمتهم على تقليد الصحابة .

مع أن قياسهم على الصحابة لا يصح لعظم الفارق ، وبما ذكرنا تعلم سقوط استدلالهم بما ذكروا عن ابن مسعود من قوله : " من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد " .

والله - جل وعلا - يقول : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ 2 \ 44 ] .

وأما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .

وقوله - صلى الله عليه وسلم : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " فهو حجة عليهم لا لهم ; لأن سنة الخلفاء الراشدين التي حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرونة بسنته ليس فيها البتة تقليد أعمى ، ولا التزام قول رجل بعينه .

[ ص: 332 ] بل سنتهم هي اتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتقديمهما على كل شيء ; لأنهم هم أتبع الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشدهم حرصا على العمل بما جاء به .

فالذي يقدم آراء الرجال على كتاب الله وسنة رسوله ويستدل على ذلك بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، هو كما ترى .

وأقوال الخلفاء رضي الله عنهم وأفعالهم كلها معروفة مدونة إلى الآن ليس فيها تقليد أعمى ، ولا جمود على قول رجل واحد .

وإنما هي عمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ومشاورة لأصحابه فيما نزل من النوازل واستنباط ما لم يكن منصوصا من نصوص الكتاب والسنة على أحسن الوجوه وأتقنها ، وأقربها لرضا الله والاحتياط في طاعته .

وكانوا إذا بلغهم شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجعوا إليه ولو كان مخالفا لرأيهم .

فقد رجع أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى قول المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض للجدة السدس .

وكان أبو بكر يرى أنها لا ميراث لها ، وقد قال لها لما جاءته : " لا أرى لك شيئا في كتاب الله ، ولا أعلم لك شيئا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم " .

وقد رجع عمر إلى قول المذكورين في دية الجنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فيها غرة عبد أو وليدة .

ورجع عمر أيضا إلى حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .

ورجع عمر أيضا إلى قول الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .

ورجع عثمان بن عفان إلى حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالسكنى في البيت الذي توفي عنها زوجها وهي فيه حتى تنقضي عدتها .

وكان عثمان بعد ذلك يفتي بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى تنقضي عدتها .

[ ص: 333 ] وأمثال هذا أكثر من أن تحصى ، وفي ذلك بيان واضح ، لأن سنة الخلفاء الراشدين هي المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وتقديم سنته على كل شيء ، فعلينا جميعا أن نعمل بمثل ما كانوا يعملون لنكون متبعين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنتهم .

أما المقلد المعرض عن سنتهم ، وعن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفضلا على ذلك تقليد أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله ، فما كان يحق له أن يستدل بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث لأنه مقر بمقتضى تقليده بأنه أبعد الناس عن العمل بحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث .

وأما استدلالهم بأن عمر كتب إلى شريح : أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون فهو حجة عليهم أيضا لا لهم ; لأن فيه تقديم كتاب الله ، ثم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم العمل بما قضى به الصالحون ، وخيرهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ولو كان المقلدون يمتثلون هذا ، لما أنكر عليهم أهل العلم ، ولكن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون العمل بكتاب الله وسنة رسوله ، والعمل بفتاوى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ويوجبون الجمود على قول الإمام الذي قلدوه والتزموا بمذهبه .

ومن كانت هذه حاله ، فلا يحق له أن يستدل بشيء من هذه الأدلة .

وأما استدلالهم بأن عمر رضي الله عنه منع بيع أمهات الأولاد فتبعه الصحابة .

وألزم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وتبعه الصحابة ، فهو ظاهر السقوط أيضا .

وقد قدمنا أن متابعة بعض الصحابة لبعض إنما هي لاتفاقهم فيما رأوه ، لا لأن بعضهم مقلد بعضا تقليدا أعمى .

وقد قدمنا إيضاح ذلك بما يكفي .

مع أن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون تقليد عمر ، وسائر الصحابة ، فمن عجائبهم أنهم يستدلون بما يعتقدون أن العمل به ممنوع .

[ ص: 334 ] وأما استدلالهم بأن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم : خذ ثوبا غير ثوبك ، فقال : لو فعلت صارت سنة . فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن عمر بن الخطاب خاف أن يفعل شيئا فيعتقد من لا علم عنده أنه إنما فعله لكونه سنة ، فامتنع من فعله لأجل هذا المحذور .

مع أن المقلد يرى منع تقليد عمر رضي الله عنه .

وأما استدلالهم بما ذكروه عن أبي وغيره أنه قال : ما استبان لك فاعمل به ، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه ، فهو حجة عليهم أيضا لا لهم .

لأن قوله : ما استبان لك فاعمل به ، صريح في أن ما استبان من كتاب الله وسنة رسوله ، يجب العمل به ولا يجوز العدول عنه لقول أحد .

وهذا نقيض ما عليه المقلدون ، فهم دائما يستدلون على مذهبهم بما يناقضه .

والأظهر أن مراد أبي بن كعب بقوله : فكله إلى عالمه ، أي فكل علمه إلى الله .

فمراده بما اشتبه المتشابه ، ومراده بعالمه : الله .

فهو يشير إلى قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .

فالذين قالوا " آمنا به كل من عند ربنا " فقد وكلوا ما اشتبه عليهم إلى عالمه وهو الله .

ويحتمل أن يكون مراد أبي بقوله : فكله إلى عالمه أي فكله إلى من هو أعلم به منك من العلماء ، وهذا هو الذي فهمه ابن القيم في إعلام الموقعين من كلام أبي .

وعلى هذا الاحتمال فلا حجة فيه أيضا للمقلدين ; لأن من خفي عليه شيء من العلم فوكله إلى من هو أعلم به منه ، فقد أصاب .

ولا يلزم من ذلك الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله بل هو عمل بالقرآن لقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] .

[ ص: 335 ] وأما استدلالهم على تقليدهم بأن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود بين أظهرهم ، وأن ذلك تقليد لهم فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنهم ما كانوا يفتونهم في حالة وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا بما علمهم من الكتاب والسنة كما لا يخفى .

ومن أفتى منهم وغلط في فتواه أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتواه التي ليست مطابقة للحق ، وردها عليه كإنكاره على أبي السنابل بن بعكك قوله لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها ووضعت حملها بعد ذلك بأيام : " إنها لا تنقضي عدتها إلا بعد أربعة أشهر وعشر ليال " .

وقد استدل أبو السنابل على ما أفتى به بعموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] .

وقد رد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتواه مبينا أن عموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا [ 2 \ 234 ] مخصص بقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] .

وكإنكاره - صلى الله عليه وسلم - على الذين أفتوا صاحب الشجة بأنهم لم يجدوا له رخصة وهو يقدر على الماء .

وقد قدمنا قصته ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيهم : " قتلوه قتلهم الله " الحديث .

والظاهر أنهم استندوا في فتواهم لما فهموه من قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 4 \ 43 ] ، وغفلوا عن قوله : وإن كنتم مرضى [ 4 \ 43 ] ، وأمثال هذا كثيرة .

وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ 9 \ 122 ] ، قائلين إن الآية أوجبت قبول إنذارهم ، وأن ذلك تقليد لهم ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الإنذار في قوله : ولينذروا قومهم لا يكون برأي .

وإنما يكون بالوحي خاصة ، وقد حصر تعالى الإنذار في الوحي بأداة الحصر التي هي " إنما " في قوله : قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] .

وبه تعلم أن الإنذار لا يقوم إلا بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة ، لم يكن قد أنذر ، كما [ ص: 336 ] أن النذير من أقام الحجة ، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير .

فما لا شك فيه أن هذا الإنذار المذكور في قوله : ولينذروا ، والتحذير من مخالفته في قوله : لعلهم يحذرون ليس برأي ولا اجتهاد .

وإنما هو إنذار بالوحي ممن تفقه في الدين ، وصار ينذر بما علمه من الدين ، كما يدل عليه قوله تعالى قبله ليتفقهوا في الدين [ 9 \ 122 ] ، فهو يدل على أن قوله : ولينذروا قومهم أي بما تفقهوا فيه من الدين .

وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

فتبين أن الآية لا دليل فيها البتة لطائفة التقليد ، الذين يوجبون تقليد إمام بعينه ، من غير أن يرد من أقواله شيء ، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء .

ونجعل أقواله عيارا لكتاب الله وسنة رسوله فما وافق أقواله منهما قبل وما لم يوافقها منهما رد .

وهذا النوع من التقليد لا شك في بطلانه ، وعدم جوازه .

فالآية الكريمة بعيدة كل البعد من الدلالة عليه ، مع أن استدلال المقلدين بها على تقليدهم استدلال بشيء يعتقدون أن الاستدلال به ممنوع باتا ، لأنه استدلال بقرآن .

وأما قبول إنذارهم فهو من الاتباع لا من التقليد ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .

وأما استدلالهم بأن ابن الزبير ، قال ما يدل على تقليده لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في أن الجد يحجب الإخوة ، فهو ظاهر السقوط أيضا .

وقد قدمنا مرارا في رد استدلالهم بتقليد الصحابة بعضهم بعضا ما يكفي ، فأغنى عن إعادته هنا .

وأما استدلالهم بقبول شهادة الشاهد في الحقوق . قائلين : إن قبول شهادته فيما شهد به تقليد له ، فهو ظاهر السقوط لظهور الفرق بينه وبين ما استدلوا عليه به . من تقليد رجل واحد بعينه ، بحيث لا يترك من أقواله شيء ولا يؤخذ مما خالفها شيء ، ولو كان كتابا أو سنة .

[ ص: 337 ] وذلك من وجهين :

أحدهما : أن العمل بشهادة الشاهد أخذ بكتاب الله وسنة رسوله ، لأن الله يقول : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، ويقول : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء بالشاهد واليمين في الأموال ، وفي الحديث : " شاهداك أو يمينه " وهو حديث صحيح .

فالأخذ بشهادة الشاهد إذا من العمل بكتاب الله وسنة رسوله لا من التقليد لرجل واحد بعينه تقليدا أعمى .

الوجه الثاني : أن الشاهد إنما يخبر عما أدركه بإحدى حواسه ، والمدرك بالحاسة يحصل به القطع لمن أدركه بخلاف الرأي ، فإن صاحبه لا يقطع بصحة ما ظهر له من الرأي .

ولذا أجمع العلماء على الفرق بين خبر التواتر المستند إلى حس ، وبين خبر التواتر المستند إلى عقل .

فأجمعوا على أن الأول يوجب العلم المفيد للقطع لاستناده إلى الحس .

وأن الثاني لا يوجبه ، ولو كان خبر التواتر يفيد العلم في المعقولات لكان قدم العالم مقطوعا به ; لأنه تواتر عليه من الفلاسفة خلق لا يحصيهم إلا الله .

مع أن حدوث العالم أمر قطعي لا شك فيه ، فالذين تواتروا من الفلاسفة على قدم العالم الذي هو من المعقولات لا من المحسوسات لو تواتر عشرهم على أمر محسوس لأفاد العلم اليقيني فيه .

فالشاهد إن أخبر عن محسوس ، وكان عدلا ، فهو عدل مخبر عما قطع به قطعا لا يتطرق إليه الشك ، بخلاف المجتهد ، فإنه عدل أخبر عما ظنه ، فوضوح الفرق بين الأمرين كما ترى .

[ ص: 338 ] وأما استدلالهم على تقليدهم بقبول قول القائف والخارص والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد .

وتقليد الأعمى في القبلة .

وتقليد المؤذنين في الوقب والمترجمين والمعرفين ، والمعدلين ، والمجرحين .

وتقليده المرأة في طهرها ، فهو كله ظاهر السقوط أيضا .

لأن جميع ذلك لا يقبل منه إلا ما قام عليه دليل من كتاب أو سنة ، فالعمل به من العمل بالدليل الشرعي لا من التقليد الأعمى .

وذلك كله من قبيل الشهادة ، والإخبار بما عرفه القائف والخارص إلى آخره ، لا من قبيل الفتوى في الدين .

وقد استدل العلماء على قبول قول القائف بسرور النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول مجزز بن الأعور المدلجي في أسامة وزيد : " هذه الأقدام بعضها من بعض " .

فلو كان قول القائف لا يقبل ؛ لما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم ، ولما برقت أسارير وجهه سرورا به .

فقبوله لذلك ، فهو اتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وقد قدمنا الأحاديث النبوية الدالة على قبول قول الخارص ، وبينا أن بعضها ثابت في الصحيح ، ورد قول من منع ذلك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] ، فهذا مثال ما ثبت بالسنة من قبول قول المذكورين .

ومثال ما دل عليه القرآن من ذلك قبول قول الحكمين في المثل في جزاء الصيد ; لأن الله نص عليه في قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] .

وهكذا كل من ذكروا ، فإن قبول قولهم إنما صح بدليل شرعي يدل على قبوله من كتاب أو سنة أو إجماع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:48 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (504)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 339 إلى صـ 346






[ ص: 339 ] مع أن الإخبار عن جميع ما ذكر إخبار عن محسوس ، والتقليد الذي استدلوا به عليه إخبار عن معقول مظنون .

والفرق بين الأمرين قدمناه قريبا ، فليس شيء من ذلك تقليدا أعمى بدون حجة .

وأما استدلالهم على التقليد المذكور بجواز شراء اللحوم والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الاكتفاء بقول الذابح والبائع ليس بتقليد أعمى في حكم ديني لهما .

وإنما هو عمل بالأدلة الشرعية ; لأنها دلت على أن ما في أسواق المسلمين من اللحوم والسلع محمول على الجواز والصحة ، حتى يظهر ما يخالف ذلك .

ومما يدل على ذلك ، ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " إن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوا ، قال : وكانوا حديثي عهد بالكفر " .

قال المجد في المنتقى بعد أن ساق الحديث : رواه البخاري والنسائي وابن ماجه ، وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد . انتهى منه .

وقد أجمع العلماء على هذا ، فالعمل به عمل بالدليل الشرعي ; لأن الله لو كلف الناس ألا يشتري أحد منهم شيئا حتى يعلم حليته فوقعوا في حرج عظيم تتعطل به المعيشة ويختل به نظامها .

فأجاز الله تعالى ذلك برفع الحرج كما قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، فالاستدلال به على التقليد الأعمى فاسد ، لأنه أخذ بالحجة والدليل ، وليس من التقليد .

وأما استدلالهم على التقليد بأن الله لو كلف الناس كلهم الاجتهاد ، وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا ، فهو ظاهر السقوط أيضا .

ومن أوضح الأدلة على سقوطه أن القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير ، لم يكن فيهم تقليد رجل واحد بعينه هذا التقليد الأعمى .

[ ص: 340 ] ولم تتعطل متاجرهم ، ولا صنائعهم ، ولم يرتكبوا ما يمنعه الشرع ولا القدر ، بل كانوا كلهم لا يقدمون شيئا على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

وكان فيهم علماء مجتهدون يعلمون بالكتاب والسنة ويفتون بهما ، وكان فيهم قوم دون رتبتهم في العلم ، يتعلمون من كتاب الله وسنة رسوله ما يحتاجون للعمل به في أنفسهم ، وهم متبعون لا مقلدون .

وفيهم طائفة أخرى ، هي العوام لا قدرة لها على التعلم ، وكانوا يستفتون فيما نزل من النوازل من شاءوا من العلماء ، وتارة يسألونه عن الدليل فيما أفتاهم به .

وتارة يكتفون بفتواه ولا يسألون ، ولم يتقيدوا بنفس ذلك العالم الذي يستفتونه ، فإذا نزلت بهم نازلة أخرى ، سألوا عنها غيره من العلماء إن شاءوا ، ولا إشكال في هذا الذي مضت عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، ولا يلزمه تعطيل صنائع ولا متاجر ، ولا يمنعه شرع ولا قدر .

فكيف يستدل منصف للتقليد الأعمى ، بأن الناس لو لم ترتكبه لوقعوا في المحذور المذكور .

وعلى كل حال فكل عاقل لم يعمه التعصب ، يعلم أن تقليد إمام واحد بعينه ، بحيث لا يترك من أقواله شيء ، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء ، وجعل أقواله عيارا لكتاب الله ، وسنة رسوله ، فما وافق أقواله منهما جاز العمل به ، وما خالفها منهما وجب اطراحه ، وترك العمل به - لا وجه له البتة .

وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وإجماع الأئمة الأربعة ، فالواجب على المسلمين تعلم كتاب الله وسنة رسوله ، والعمل بما علموا منهما .

والواجب على العوام الذين لا قدرة لهم على التعلم سؤال أهل العلم ، والعمل بما أفتوهم به .

وسيأتي لهذا زيادة إيضاح وإقناع للمنصف في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى .

وقد بينا هنا بطلان جميع الحجج التي يحتج بها المقلدون التقليد المذكور ، وما لم [ ص: 341 ] نذكر من حججهم ، قد أوضحنا رده وإبطاله فيما ذكرنا .


تنبيهات مهمة تتعلق بهذه الآية الكريمة : التنبيه الأول : اعلم أن المقلدين اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين ، وهما بعيدتان من الصدق . وظن صدقهما يدخل أوليا في عموم قوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " .

أما الأولى منهما فهي ظنهم أن الإمام الذي قلدوه لا بد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله ، ولم يفته منها شيء ، وعلى جميع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفته منها شيء

ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها ، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه ، وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح .

ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيء من الوحي الموجود بين أيديهم .

وهذا الظن كذب باطل بلا شك .

والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .

ومن أصرح ذلك أن الإمام مالكا رحمه الله ، إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته ، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبي جعفر ورده عليه .

وأخبره أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في أقطار الدنيا ، كلهم عنده علم ليس عند الآخر .

ولم يجمع الحديث جمعا تاما بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة ; لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روي عنهم كثير من [ ص: 342 ] الأحاديث لم يكن عند غيرهم ، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان ، وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص .

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه ، وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها كثيرا فبينها له ولم يفهم .

فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال : ما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال لي : " يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء " ، فهذا من أوضح البيان ; لأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية الصيف يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والآية تبين معنى الكلالة بيانا شافيا ، لأنها أوضحت أنها : ما دون الولد والوالد .

فبينت نفي الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى : إن امرؤ هلك ليس له ولد [ 4 \ 176 ] ، وبينت نفي الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى : وله أخت فلها نصف ما ترك [ 4 \ 176 ] ; لأن ميراث الأخت يستلزم نفي الولد .

ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة ، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم ، وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه .

وقد خفي معنى هذا أيضا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة : أقول فيها برأيي . فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، هو ما دون الولد والوالد .

فوافق رأيه معنى الآية ، والظاهر أنه لو كان فاهما للآية لكفته عن الرأي ; كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه : " تكفيك آية الصيف " ، وهو تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسئول عنه .

ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان الآية ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم ، فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفي ويكفي .

وقد خفي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أعطى الجدة السدس [ ص: 343 ] حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس " فرجع إلى قولهما .

ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم : قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل .

ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها . حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه : أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .

ولم يعلم أيضا بأخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .

ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه .

ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته فريعة بنت مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدتها .

وأمثال هذا أكثر من أن تحصر ، فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم هم ، خفي عليهم كثير من قضايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه مع ملازمتهم له ، وشدة حرصهم على الأخذ منه ، فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم .

فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفرق الصحابة في أقطار الدنيا ؟

وروى عنه الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها ؟

والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس بصحيح قطعا ; لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره .

وهو معذور في ترك العمل به ، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث ; ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ .

[ ص: 344 ] وقد يكون الإمام اطلع على الحديث ، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند .

ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه ، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ، ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى .

وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه ، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها إلى أسباب أخر كثيرة ، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص .

وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها - ظن باطل ، وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله .

فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ، ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة .

فالمتبع لهم حقيقة ، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئا .

أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة ، فهو مخالف لهم لا متبع لهم ، ودعواه اتباعهم كذب محض .

وأما القضية الثانية : فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ .

وإيضاحه : أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه ; لأنهم متبعون له فيجري عليهم ما جرى عليه .

وهذا ظن كاذب باطل بلا شك . لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاواهم .

فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل ، ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده .

وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله ، وأعرضوا عن تعلمهما [ ص: 345 ] إعراضا كليا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلة الوحي المنزل من الله .

فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم ؟

وهذا الفرق العظيم بينهم وبينهم ، يدل دلالة واضحة ، على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق .

وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل .

والذي يجب عليهم من تعلم ذلك هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به ، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم .

وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة ، سهلة التناول من الكتاب والسنة .

والحاصل أن المعرض عن كتاب الله ، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه ، مما أنزل الله ، وما سنه رسوله ، المقدم كلام الناس على كتاب الله ، وسنة رسوله ، لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ، ولم يقدم عليهما شيئا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة .

فأين هذا من هذا ؟


سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
التنبيه الثاني

اعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله ، متفقون على منع تقليدهم التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدعون أنهم أتباعهم .

ولو كانوا أتباعهم حقا لما خالفوهم في تقليدهم الذي منعوا منه ونهوا عنه .

قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي ، قال : حدثنا موسى بن إسحاق ، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : [ ص: 346 ] سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فمالك رحمه الله مع علمه وجلالته وفضله يعترف بالخطأ وينهى عن القول بما خالف الوحي من رأيه ، فمن كان مالكيا فليمتثل قول مالك ولا يخالفه بلا مستند .

وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه أيضا : أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن عمر بن لبابة ، قال : حدثنا مالك بن علي القرشي ، قال : أنبأنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، قال : دخلت على مالك فوجدته باكيا فسلمت عليه فرد علي ثم سكت عني يبكي ، فقلت له : يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك ؟ فقال لي : يا ابن قعنب ، إنا لله على ما فرط مني ، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط ، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي ، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

ومن المعلوم بالضرورة أن مالكا رحمه الله لا يسره ولا يرضيه تقديم رأيه هذا الذي يسترجع ويبكي ندما عليه ، ويتمنى لو ضرب بالسياط ولم يكن صدر منه ، على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

فليتق الله وليستحي من الله من يقدم مثل هذا الرأي على الكتاب والسنة زاعما أنه متبع مالكا في ذلك .

وهو مخالف فيه لمالك ، ومخالف فيه لله ورسوله ، ولأصحابه ولكل من يعتد به من أهل العلم .

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة .

فقال الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة ، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري ، ذكره البيهقي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 23-02-2023 12:50 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (505)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 347 إلى صـ 354






وقال إسماعيل بن عيسى المزني في أول مختصره : اختصرت هذا من علم الشافعي ، [ ص: 347 ] ومن معنى قوله ؛ لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره ؛ لينظر فيه لدينه ، ويحتاط فيه لنفسه إلى أن قال : وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ، ولا تقلد مالكا ، ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا .

وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال .

وقال بشر بن الوليد : قال أبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا .

وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب ، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله . انتهى محل الغرض منه .

ومما لا شك فيه أن الأئمة الأربعة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم في كل ما خالف كتابا أو سنة كما نقله عنهم أصحابهم ، كما هو مقرر في كتب الحنفية عن أبي حنيفة .

وكتب الشافعية عن الشافعي القائل : إذا صح الحديث فهو مذهبي .

وكتب المالكية ، والحنابلة عن مالك وأحمد رحمهم الله جميعا .

وكذلك كان غيرهم من أفاضل العلماء يمنعون من تقليدهم فيما لم يوافق الكتاب والسنة وقد يتحفظون منه ولا يرضون .

قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون ، قال : كان مالك بن أنس ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، ومحمد بن إبراهيم بن دينار ، وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما .

وإذا سأله محمد بن إبراهيم بن دينار وذووه لم يجبهم فقال له : يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما ، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا ؟ فقال : أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك ؟ قال : نعم ، فقال له : إني قد كبرت سني ورق عظمي ، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ، [ ص: 348 ] ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان ، إذا سمعا مني حقا قبلاه ، وإذا سمعا خطأ تركاه ، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه .

قال محمد بن حارث : هذا والله هو الدين الكامل ، والعقل الراجح ، لا كمن يأتي بالهذيان ، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن . انتهى منه .
التنبيه الثالث

اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع من يعتد به من أهل العلم ، أنه لا يجوز لأحد منهم أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ; لأن الحلال ما أحله الله ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه أو سنة رسوله ، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، أو سنة رسوله .

ولا يجوز البتة للمقلد أن يزيد على قوله : هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به .

أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقال تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا .

ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مرارا ، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة .

ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول : هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول على الله بغير علم قطعا .

فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] .

فدخوله في قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون كما [ ص: 349 ] ترى ، وهو داخل أيضا في عموم قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 169 ] .

وأما السنة ، فقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان . ح ، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا يحيى بن آدم ، حدثنا سفيان ، قال : أملاه علينا إملاء .

ح وحدثني عبد الله بن هاشم - واللفظ له - حدثني عبد الرحمن يعني ابن مهدي ، حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : " اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله " الحديث .

وفيه : " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .

وفيه النهي الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسبة حكم إلى الله ، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرءون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب ، قال : قال الربيع بن خيثم : إياكم أن يقول الرجل في شيء : إن الله حرم هذا أو نهى عنه ، فيقول الله : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه .

قال : أو يقول : إن الله أحل هذا وأمر به ، فيقول : كذبت لم أحله ولم آمر به .

وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام .

ما كانوا يجترئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نكره هذا ، ونرى هذا حسنا ، ونتقي هذا ، ولا نرى هذا .

[ ص: 350 ] وزاد عتيق بن يعقوب : ولا يقولون حلال وحرام .

أما سمعت قول الله عز وجل : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] .

الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله .

قال أبو عمر : معنى قول مالك هذا أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام والله أعلم . انتهى محل الغرض منه .

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام [ 16 \ 116 ] ما نصه : أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش ، قال : ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون وكانوا يستحبون .

وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام .

ولكن يقولون : إياكم وكذا وكذا . ولم أكن لأصنع هذا .

ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون البارئ تعالى صرح بذلك عنه .

وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إني أكره كذا .

وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى . انتهى محل الغرض منه .

وإذا كان مالك وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرءون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي : هذا حلال أو حرام .

فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي ؟

فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله ، وآثار السلف الصالح .

وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها ; لأنه تعالى لما قال : فجعلتم منه حراما وحلالا [ 10 \ 59 ] أتبع ذلك بقوله : قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون .

[ ص: 351 ] ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه ، فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليلا فليعتمد على إذن الله في ذلك .

ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله ، إذ لا واسطة بين الأمرين .

ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها .

فالذين يقولون من الجهلة المقلدين : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حكم الله ، ظنا منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما ، وأن ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا .

فهم كما ترى ، مع أن الإمام الذي قلدوه ، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرءوا عليه ; لأن علمه يمنعه من ذلك .

والله - جل وعلا - يقول : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب [ 39 \ 9 ] .
التنبيه الرابع

اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال .

وإيضاح ذلك : أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين ، لا يجوز فيه التقليد بحال ; لأن كل اجتهاد يخالف النص ، فهو اجتهاد باطل ، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد ; لأن نصوص الكتاب والسنة ، حاكمة على كل المجتهدين ، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان .

ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا إذ لا أسوة في غير الحق ، فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط .

ولا اجتهاد ، ولا تقليد فيما دل عليه نص ، من كتاب أو سنة - سالم من المعارض .

[ ص: 352 ] والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم ، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم .

وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه ، وهو قوله : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .

وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح .

وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع . ا هـ .

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والاتباع .

فقال أبو داود : سمعته يقول : الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير . انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : أما كون العمل بالوحي اتباعا لا تقليدا فهو أمر قطعي ، والآيات الدالة على تسميته اتباعا كثيرة جدا ; كقوله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .

وقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] .

وقوله تعالى : قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] .

وقوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .

وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] .

[ ص: 353 ] وقوله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] .

وقوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .

فالعمل بالوحي ، هو الاتباع كما دلت عليه الآيات .

ومن المعلوم الذي لا شك فيه ، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه ، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه .

فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن مواضع الاتباع ليست محلا أصلا للاجتهاد ولا للتقليد ، فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة ; لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنا من كان كما لا يخفى .

وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد ، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد .

فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط ، كما ترى .

والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه ، وأنه يصح علم حديث والعمل به ، وعلم آية والعمل بها .

ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد ، فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة ، ويعمل بكل ما علم من ذلك ، كما كان عليه أول هذه الأمة ، من القرون المشهود لها بالخير .
التنبيه الخامس

اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :

هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة ، وتقديمهما على آراء [ ص: 354 ] الرجال من التكليف بما لا يطاق ; لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما .

ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده ; لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئا غير ذلك .

فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئا من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا ; لأن أحكامه مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .

ونحن نقول : والله لقد ضيقتم واسعا . وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل ، ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين التقليد الأعمى للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جدا في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي .

وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضا كليا يتوارثه الأبناء عن الآباء ، والآباء عن الأجداد ، فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .

ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده ، بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .

ولكنا نقول : إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به ، فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضا كليا اكتفاء عنهما بغيرهما ، وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .

فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولا ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:26 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (506)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 355 إلى صـ 362





ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله ; لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين ، قال الله تعالى : [ ص: 355 ] حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 41 \ 1 - 5 ] .

فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وكنت تسمع ربك يقول : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] ، ويقول : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] .

ويقول كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .

فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ; لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .

وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :

أحدهما : ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح ، بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمدا ، وتقديم رأي الرجال عليه .

وهذا القسم منهم لا نعلم له عذرا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير ; لأن حقيقة ما هم عليه هو الإعراض عما أنزل الله عمدا مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة .

ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .

الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله ، وهو الذي ندعو إخواننا إليه .
التنبيه السادس

لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاما غير [ ص: 356 ] أحكام الاختيار .

فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا ، فهو في سعة من أمره فيه .

وقد استثنى الله - جل وعلا - حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه ، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات تحريما وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة ، فأخرجها من حكم التحريم .

قال تعالى في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم [ 6 \ 145 ] .

وقال في الأنعام أيضا : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .

وقال تعالى في النحل : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم [ 16 \ 115 ] .

وقال تعالى في البقرة : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم [ 2 \ 173 ] .

وقال تعالى في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى قوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ 5 \ 3 ] .

وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطرارا حقيقيا ، بحيث يكون لا قدرة له البتة ، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلا على الفهم ، أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم .

أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجا لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد .

[ ص: 357 ] أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة ; لأنه لا مندوحة له عنه .

أما القادر على التعلم المفرط فيه ، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي ، فهذا الذي ليس بمعذور .
التنبيه السابع

اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم .

وهو موالاتهم ، ومحبتهم ، وتعظيمهم ، وإجلالهم ، والثناء عليهم ، بما هم عليه من العلم والتقوى ، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم ، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق ، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها .

وأما المسائل التي لا نص فيها فالصواب النظر في اجتهادهم فيها ، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا ; لأنهم أكثر علما وتقوى منا .

ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضا الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

وقال : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " .

وحقيقة القول الفصل في الأئمة - رحمهم الله - أنهم من خيار علماء المسلمين ، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وما أخطئوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم معذورون في خطئهم فهم مأجورون على كل حال ، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك .

ولكن كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى .

فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما .
[ ص: 358 ] التنبيه الثامن

اعلم أن كلا من الأئمة أخذت عليه مسائل . قال بعض العلماء : إنه خالف فيها السنة ، وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله .

أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك ; لأنه أكثرهم رأيا .

ولكثرة المسائل التي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها .

وبعض المسائل التي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها ، وبعضها قد بلغته السنة فيها ، ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح منها ، كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال .

وحديث تغريب الزاني البكر ; لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احتراما للنصوص القرآنية في ظنه ; لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ ; لقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] .

فاحترم النص القرآني المتواتر ، فلم يرض نسخه بخبر آحاد سنده دون سنده ; لأن نسخ المتواتر بالآحاد عنده رفع للأقوى بالأضعف ، وذلك لا يصح .

وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد .

فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين :

إحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .

والثانية : أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد .

وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء ، ووافقوه في الثانية .

والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقادا جازما أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة .

أما الزيادة فيجب فيها التفصيل ، فإن كانت أثبتت حكما نفاه النص أو نفت حكما أثبته النص فهي نسخ .

[ ص: 359 ] وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئا سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخا لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية ، ورفعها ليس نسخا إجماعا .

وأما نسخ المتواتر بالآحاد ، فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه ، ولا وجه لمنعه البتة ، وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصول ; لأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عن المتواتر لا وجه لردها ، ولا تعارض البتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما ، لجواز صدق كل منهما في وقته .

فلو أخبرك مثلا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، بأن أخاك الغائب لم يزل غائبا ولم يأت منزله ; لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود ، ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الآن ، فهل يسوغ لك أن تقول له كذبت ، لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت ؟

ولو قلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون ، ولكن أخاك جاء بعد ذلك .

فالمتواتر في وقت نزوله صادق ، وخبر الآحاد الوارد بعده صادق أيضا ; لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن ، فحصر المحرمات مثلا في الأربع المذكورة في قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية [ 6 \ 145 ] صادق في ذلك الوقت ، لا يوجد محرم على طاعم يطعمه إلا تلك المحرمات الأربع .

فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ، ولا ذو الناب من السباع ، ولا الخمر ، ولا غير ذلك .

فإذا جاء بعد خبر آحاد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر ، فهل يسوغ لقائل أن يقول :

هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ 6 \ 145 ] ؟

ولو قال ذلك لقيل له : هذا الخبر الصحيح لا تناقضه الآية ، لأنه إنما أفاد حكما [ ص: 360 ] جديدا طارئا لم يكن مشروعا من قبل ، وأحكام الشريعة تتجدد شيئا فشيئا ، والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها .

فتبين أن زيادة حكم طارئ لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها .

وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالآحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة .

وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام ، وقصدنا مطلق المثال لما يقال : إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنة برأيه .

وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئا من ذلك ، إلا لشيء اعتقده مسوغا لذلك ، وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجبا لذلك شرعا .

ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي .

قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه : وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي .

وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي .

وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس .

ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم ، والحديث فيه ضعيف .

وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف .

وشرط في إقامة الجمعة المصر ، والحديث فيه كذلك .

وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة .

فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله ، وقول الإمام أحمد : وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين ; بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا . انتهى محل الغرض منه .

ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة ، وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها ، والسلام للخروج منها ، [ ص: 361 ] وقراءة الفاتحة فيها ، والنية في الوضوء ، والغسل ، إلى غير ذلك من مسائل كثيرة .

ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة .

بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلو أحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك .

وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك .

وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه .

وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشياء قال : إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : وقد ذكر يحيى بن سلام قال : سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة ، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قال مالك فيها برأيه ، قال : ولقد كتبت إليه في ذلك . انتهى محل الغرض منه .

ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له ، لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها .

فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث ، فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث .

ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي . والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولو بلغه لعمل به .

وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلا أقوى منه .

ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه - صيام ست من شوال بعد صوم رمضان .

قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف .

وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته ، [ ص: 362 ] وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء ، ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ، ورأوهم يعلمون ذلك . انتهى منه بلفظه .

وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ست من شوال عن أحد من السلف ، وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

ولا شك أنه لو بلغه الترغيب فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان يصومها ويأمر بصومها ، فضلا عن أن يقول بكراهتها .

وهو لا يشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرأف وأرحم بالأمة منه ; لأن الله وصفه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن بأنه رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .

فلو كان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولراعى المحذور الذي راعاه مالك .

ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ألغى المحذور المذكور وأهدره ، لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال .

كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها .

وعلى كل حال ، فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب .

وصيام الستة المذكورة ، وترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ثابت عنه .

قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، وعلي بن حجر جميعا عن إسماعيل ، قال ابن أيوب : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ; أنه حدثه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " انتهى منه بلفظه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:29 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (507)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 363 إلى صـ 370





وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من [ ص: 363 ] غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان ، لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه ، لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله : لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، ولو بلغه الحديث لعمل به ; لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحرصهم على العمل بسنته .

والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ، وصوم السنة المذكور رواه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه ، منهم ثوبان ، وجابر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار .

وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور ، ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه .

ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكا رحمه الله فيه السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إفراد صوم يوم الجمعة ، فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . انتهى منه بلفظه .

وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحدا من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة .

وأن ذلك حسن عنده ، وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه .

وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة وحده ، وأمره من صامه أن يصوم معه يوما غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناويا إفراده .

ولو بلغته السنة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمل بها وترك العمل بغيرها ; لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحده ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابرا رضي الله عنه : أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الجمعة ؟ قال : نعم . زاد غير أبي عاصم : يعني أن ينفرد بصومه .

حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن [ ص: 364 ] أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده " .

حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن شعبة ، ح وحدثني محمد ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : تريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " .

وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب : أن جويرية حدثته فأمرها ، فأفطرت ، انتهى من صحيح البخاري بلفظه .

وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر " سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ، ورب هذا البيت " .

وقال مسلم أيضا : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ، ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " .

وفي لفظ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " هذا لفظ مسلم في صحيحه .

ولا شك أن هذه الأحاديث لو بلغت مالكا ما خالفها ، فهو معذور في كونها لم تبلغه .

وقال النووي في شرح مسلم : وأما قول مالك في الموطأ : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه .

فهذا الذي قاله هو الذي رآه ، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو ، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره .

[ ص: 365 ] وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة ، فيتعين القول به ، ومالك معذور ، فإنه لم يبلغه .

قال الداودي من أصحاب مالك : لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه . انتهى منه .

وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ; لأن مالكا من أورع العلماء وأكثر الناس اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يدعها وهو عالم بها .

وقوله في هذا الحديث : " إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " أي كأن ينذر أحد صوم اليوم الذي يشفي الله فيه مريضه ، فوافق ذلك يوم الجمعة ; لأن صومه له لأجل النذر ، الذي لم يقصد بأصله تعيين يوم الجمعة .

وإنما النهي فيمن قصد بصومه نفس يوم الجمعة دون غيره .

والغرض عندنا إنما هو المثال لبعض الأحكام التي لم تبلغ مالكا فيها السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو بلغته لعمل بها .

ومعلوم أن هنالك بعضا من النصوص ترك مالك العمل به مع أنه بلغه ; لأنه يعتقد أن ما ترك النص من أجله أرجح من النص .

وهذا يحتاج فيه إلى مناقشات دقيقة بين الأدلة ، فقد يكون الحق في ذلك مع هذا الإمام تارة ومع غيره أخرى .

فقد ترك مالك العمل بحديث خيار المجلس مع أنه حديث متفق عليه ، وقد بلغ مالكا .

وقد حلف عبد الحميد الصائغ من المالكية بالمشي إلى مكة على أنه لا يفتي بثلاث . قالها مالك .

ومراده بالثلاث المذكورة - عدم القول بخيار المجلس هذا مع صحة الحديث فيه .

وجنسية القمح والشعير مع صحة الأحاديث الدالة على أنهما جنسان .

والتدمية البيضاء ، ولا شك أن مالكا بلغه حديث خيار المجلس هذا .

[ ص: 366 ] فقد روى في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " .

قال مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول به فيه . انتهى منه بلفظه .

مع أن مالكا لم يعمل بهذا الحديث الصحيح : وأشار في الموطأ إلى بعض الأسباب التي منعته من العمل به في قوله : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ، لأن خيار المجلس لم يحدد بحد معروف .

فصار القول به مانعا من انعقاد البيع إلى حد غير معروف .

وقد يكون المتعاقدان في سفينة في البحر لا يمكنهم التفرق بالأبدان ، وقد يكونان مسجونين في محل لا يمكنهما التفرق فيه .

وقد حمل مالك التفرق المذكور في الحديث على التفرق في الكلام ، وصيغة العقد ، قال : وقد أطلق التفرق على التفرق في الكلام دون الأبدان في قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته [ 4 \ 130 ] ، فالتفرق في الآية إنما هو بالتكلم بصيغة الطلاق لا بالأبدان .

وقوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة [ 98 \ 4 ] ، فالتفرق في الآية تفرق بالكلام والاعتقاد ، فلا يشترط أن يكون بالأبدان .

وحجج من احتج لمالك في عدم أخذه بحديث خيار المجلس هذا كثيرة معروفة .

منها ما هو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم [ 2 \ 282 ] ، وقوله : أوفوا بالعقود [ 5 \ 1 ] ، وقوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] .

ومنها ما هو بغير ذلك ، وليس غرضنا هنا بسط الحجج ومناقشتها ، وإنما غرضنا المثال ; لأن الإمام قد يترك نصا بلغه لاعتقاد أن ما ترك من أجله النص أرجح من نفس النص ، وأنه يجب على المسلم مراعاة المخرج والنجاة لنفسه فينظر في الأدلة ، ويعمل بأقواها وأقربها إلى رضا الله .

كما حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة ، لا يفتي بقول مالك في هذا .

[ ص: 367 ] مع أنه عالم مالكي ، لأنه رأى الأدلة واضحة وضوحا لا لبس فيه في أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان .

وقد صرح بذلك جماعة من الصحابة منهم ابن عمر راوي الحديث ، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة .

ولا شك أن المنصف إذا تأمل تأملا صادقا خاليا من التعصب عرف أن الحق هو ثبوت خيار المجلس ، وأن المراد بالتفرق التفرق في الأبدان لا بالكلام ; لأن معنى التفرق بالكلام هو حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري .

وكل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول ، فحمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا حمل له على تحصيل حاصل ، وهو كما ترى .

مع أن حمل الكلام على هذا المعنى يستلزم أن المراد بالمتبايعين في الحديث المتساومان ; لأنه لا يصدق عليهما اسم المتبايعين حقيقة إلا بعد حصول الإيجاب والقبول .

وحمل المتبايعين في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المتساومين اللذين لم ينعقد بينهما بيع خلاف الظاهر أيضا كما ترى .

وأما كون القمح والشعير جنسا واحدا ، فقد استدل له مالك ببعض الآثار التي ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .

قال في الموطأ : إنه بلغه أن سليمان بن يسار قال : فني علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله . انتهى منه بلفظه .

وفي الموطأ أيضا عن نافع عن سليمان بن يسار أنه أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فني علف دابته ، فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله . انتهى منه بلفظه .

وفي الموطأ أيضا : أن مالكا بلغه عن القاسم بن محمد عن ابن معيقيب الدوسي مثل [ ص: 368 ] ذلك . قال مالك : وهو الأمر عندنا . انتهى منه بلفظه .

فهذه الآثار هي عمدة مالك رحمه الله في كون القمح والشعير جنسا واحدا ، وعضد ذلك بتقارب منفعتهما .

والتحقيق الذي لا شك فيه أن القمح والشعير جنسان ، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تصح معارضتها البتة بمثل هذه الآثار المروية عمن ذكر .

وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه " انتهى منه بلفظه .

وهو صريح بأن القمح والشعير جنسان مختلفان ، كاختلافهما مع التمر والملح ، وأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس إن كان يدا بيد ، وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد " انتهى منه بلفظه .

وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه ، وفي آخره : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا .

قال المجد في المنتقى لما ساق هذا الحديث - ما نصه : وهو صريح في كون البر والشعير جنسين ، وما قاله صحيح كما ترى .

والأحاديث بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا طرفا منها في سورة البقرة ، والمقصود هنا بيان صراحة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القمح والشعير جنسان لا جنس واحد ، وأنهما لا يجوز ترك العمل بها مع صحتها ووضوحها ، ولا أن يقدم عليها أثر موقوف على سعد بن أبي وقاص ولا أثر موقوف على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، ولا أثر موقوف على ابن معيقيب .

واعلم أنه لا يصح الاستدلال لكون القمح والشعير جنسا واحدا بحديث معمر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم وغيره ، قال : كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث ، وذلك لأمرين : [ ص: 369 ] أحدهما أن معمرا المذكور قال في آخر الحديث : وكان طعامهم يومئذ الشعير ، فقد عين أن عرفهم المقارن للخطاب يخصص الطعام المذكور بالشعير .

والمقرر في أصول مالك : أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك :


والعرف حيث قارن الخطابا ودع ضمير البعض والأسبابا
الأمر الثاني : إن الاستدلال بالحديث المذكور على فرض اعتبار عمومه ، وعدم تخصيصه بالعرف المذكور ، يقتضي أن الطعام كله جنس واحد فيدخل التمر والملح لصدق الطعام عليهما ، وهذا لا قائل به كما ترى .

فالظاهر أن الإمام مالكا رحمه الله ومن وافقه من أهل العلم ، لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة المصرحة ، بأن القمح والشعير والتمر والملح أجناس .

وأن القمح يباع بالشعير كيف شاء المتبايعان إن كان يدا بيد .

وأما التدمية البيضاء فقول مالك فيها يظهر لنا قوته واتجاهه ، وإن خالف في ذلك بعض أصحابه وأكثر أهل العلم .

وقد بين وجه قول مالك فيها ابن عبد البر وابن العربي وغيرهما .

والمسائل التي قال بعض أهل العلم إن مالكا خالف فيها السنة المعروفة منها ما ذكرنا .

ومنها مسألة سجود الشكر وسجدات التلاوة في المفصل ، وعدم الجهر بآمين ، وعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ، وعدم قول الإمام : ربنا ولك الحمد ، وعدم ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر ، وترك السجدة الثانية في الحج ، وغير ذلك من المسائل .

وقد قدمنا أن بعض ما ترك مالك من النصوص قد بلغته فيه السنة ولكنه رأى غيرها أرجح منها ، وأن بعضها لم يبلغه ، وأن الحق قد يكون معه في بعض المسائل التي أخذت عليه ، وقد يكون مع غيره ، كما قال مالك نفسه رحمه الله : كل كلام فيه مقبول ومردود ، إلا كلام صاحب هذا القبر .

وهو تارة يقدم دليل القرآن المطلق أو العام على السنة التي هي أخبار آحاد ; لأن [ ص: 370 ] القرآن أقوى سندا وإن كانت السنة أظهر دلالة ، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة ; لأنه يقدم عموم حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] . على حديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان " الحديث ، وقدم عموم قوله تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ 7 \ 55 ] ، على الأحاديث الواردة بالجهر بآمين لأن التأمين دعاء ، والدعاء مأمور بإخفائه في الآية المذكورة .

فالآية أقوى سندا وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع . ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا .

وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضا في الثانية من سجدتي الحج لأن نص الآية الكريمة فيها كالصريح في أن المراد سجود الصلاة ، لأن الله يقول فيها : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم [ 22 \ 77 ] ، فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة .

والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] .

ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ 15 \ 98 ] .

قالوا : لأن معنى قوله : فسبح بحمد ربك أي : صل لربك متلبسا بحمده ، وكن من الساجدين في صلاتك .

ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج : ياأيها الذين آمنوا اركعوا الآية [ 22 \ 77 ] أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:33 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (508)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 371 إلى صـ 378




ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم ; لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه ، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة [ ص: 371 ] رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب تقديمهما على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة ، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك ، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضا الله .

وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله ، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه ، ومرادنا هنا التمثيل لذلك ، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعا ، وليس قصدنا الإكثار من ذلك .

وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجأ إيرادها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجو أن تكون موافقة لما أراد . وبالله التوفيق .

فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من الشعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان . وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر .

ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحوا لأنه إذا رئي الهلال فهو من رمضان وإلا فهو من شعبان .

فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطا لرمضان ، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر . ولكن صومه هو المقدم في المذهب . ولكنه مخالف لصريح النص في قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم " - صلى الله عليه وسلم .

قال في بلوغ المرام : ذكره البخاري تعليقا ووصله ، قال في سبل السلام : واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر ، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان ، والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه . ا هـ .

يعني بما في معناه قوله - صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " . متفق عليه ، ولمسلم " فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " وللبخاري : " فأكملوا العدة ثلاثين " .

وشبهة أحمد في قوله - صلى الله عليه وسلم : " فاقدروا له " بمعنى فضيقوا عليه كما في قوله [ ص: 372 ] تعالى : ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [ 65 \ 7 ] ، ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى " فاقدروا له ثلاثين " وقوله : " فأكملوا العدة ثلاثين " أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر ، ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله .

ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عائشة رضي الله عنها : " كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها " .

وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها " افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه والحجرات ليس فيه آنذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، فقلت : والله إنك لفي واد وأنا في واد " .

فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه فاغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحسس هل اغتسل أم لا
. إلخ .

ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة .

وشبهة الشافعي في ذلك في معنى : لامستم النساء من قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا [ 4 \ 43 ] ، ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله .

ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصا صريحا من كتاب أو سنة ، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر ، أو عدم بلوغ النص إليه ، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام .

وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال .
التنبيه التاسع

اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام [ ص: 373 ] يجب عليه أن يتنبه تنبها تاما للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقا ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وأنكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .

ويزيده بطلانا نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .

ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : كأقل الطهر ، يعني أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .

والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما ، وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .

والذي كان يقوله مالك : أن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام ، وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله .

والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن شاش المشهور ، أي مشهور مذهب مالك .

مع أن مالكا لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جدا في مذهب مالك وغيره .

ومثال استحسان المتأخرين ما لم يقله الإمام مما لا شك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء - ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .

قال : إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه . انتهى .

قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما [ ص: 374 ] يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب - أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح .

والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان - أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .

ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك .

فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم : إني صائم ، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد ، فتأملت كلامه فوجدته حقا ، وكأنني كنت نائما فأيقظني . انتهى بلفظه .

فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه .

ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك ، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج . والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الحج أو عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر .

فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز .

[ ص: 375 ] فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ، ولا إلحاق البتة إلا بجامع أو نفي فارق .

وكل من لم يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .

ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة ، فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ، ولا قول أحد ممن يقتدى به .

ومما لا نزاع فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] ، ورسالته - صلى الله عليه وسلم - هي أعظم نعمة على الخلق ، كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا [ 14 \ 28 ] ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه ، والتقول عليه بما لم يقله .

فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق .

وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .

ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم - ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .

ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض أو إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .

ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر ; ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى : [ ص: 376 ] الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] .

وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيا لصومه لا لجعل أيامه أعيادا يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] .

وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فافهم .

والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينها وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علما بكتاب الله وسنة رسوله .

ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلا أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباد وابن عاشر وأمثالهما .
التنبيه العاشر

اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرو الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - لا يجوز لمسلم يريد الحق والإنصاف أن يعتقدها ، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص ، والحكم فيها على الله بلا مستند ، وهو - جل وعلا - الذي يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .

وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي ، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا وانسد بابه ، وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهدا ولا يعلم أحدا من خلقه علما يمكن أن يكون به مجتهدا إلى ظهور المهدي المنتظر .

وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدا كائنا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة ، كما نص على هذه الدعوى حاكيا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله :


والمجمع اليوم عليه الأربعه وقفو غيرها الجميع منعه [ ص: 377 ] حتى يجيء الفاطم المجدد
دين الهدى لأنه مجتهد
ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر ; لأنه شريف .

وقوله : حتى يجيء ، حرف غاية ، والمغيا به منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله : وقفو غيرها الجميع منعه .

وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم ، بأنه لا يخلق مجتهدا قبل وجود المهدي المنتظر ، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة .

وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهدا قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى .

ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له ، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله :
والأرض لا عن قائم مجتهد تخلو إلى تزلزل القواعد
وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " الحديث . وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته .

ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وليست البتة من المقلدين التقليد الأعمى .

لأن الحق هو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ 4 \ 170 ] ، وقال في الأنعام : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] ، وقال في النمل : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] ، وقال في يونس : ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم [ 10 \ 108 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد البتة ، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي [ ص: 378 ] المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتا لا مطعن فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق فهو ضلال ، لأن الله - جل وعلا - يقول : فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون [ 10 \ 32 ] ، والعلم عند الله تعالى .
التنبيه الحادي عشر

اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة من المسلمين من أعظم المآسي والمصائب ، والدواهي التي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة .

ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام ; لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام .

ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصنا منيعا لهم من تأثير الغزو الفكري في عقائدهم ودينهم .

ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحصن بسنته .

ولذلك وجد الغزو الفكري طريقا إلى قلوب الناشئة من المسلمين ، ولو كان سلاحهم المضاد القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا .

ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس ، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل - لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .

وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين ، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم ، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحورا في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة ، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:36 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (509)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 379 إلى صـ 386



[ ص: 379 ] قوله تعالى : إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم

الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، قوم كفروا بعد إيمانهم .

وقال بعض العلماء : هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به .

وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه ، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم .

وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] ; لأن قوله : فلما جاءهم ما عرفوا مبين معنى قوله : من بعد ما تبين لهم الهدى ، وقوله : كفروا وصدوكم مبين معنى قوله : ارتدوا على أدبارهم .

وقال بعض العلماء : نزلت الآية المذكورة في المنافقين .

وقد بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى ، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيرا إلى علة ذلك : الشيطان سول لهم أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين ، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر .

قال الزمخشري : سول سهل لهم ركوب العظائم من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا ، وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني . انتهى .

[ ص: 380 ] وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم بطول الأعمار ; لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي .

وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان : قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل ، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان .

وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل ، ومنه قوله تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 183 ] ، وقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [ 3 \ 178 ] .

ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار ، كما قال تعالى : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] .

وقال تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى قوله : وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] .

وقال بعض العلماء : ضمير الفاعل في قوله : وأملى لهم على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى .

والمعنى : الشيطان سول لهم أي سهل لهم الكفر والمعاصي ، وزين ذلك وحسنه لهم ، والله - جل وعلا - أملى لهم : أي أمهلهم إمهال استدراج .

وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله ، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ 8 \ 48 ] ، وقوله تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [ 16 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجا : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 381 ] ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وحده من السبعة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام ، بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف ، فيه الوجهان المذكوران آنفا في فاعل : وأملى لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل .

وقد ذكرنا قريبا ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله في إملاء الله لهم : وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 45 ] ، كما تقدم قريبا .

والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر راجعة إلى قوله تعالى : الشيطان سول لهم وأملى لهم .

أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم : قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .

وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون .

والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل ، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .

وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة الشورى في الكلام على قوله [ ص: 382 ] تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك .

وبينا في سورة الشورى أيضا شدة كراهة الكفار لما نزل الله ، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] ، وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والله يعلم إسرارهم قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " أسرارهم " بفتح الهمزة ، جمع سر .

وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله : وأسررت لهم إسرارا [ 71 \ 9 ] ، وقد قالوا لهم ذلك سرا فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم أي : فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة ؟ أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وقوله في الأنعام : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون [ 6 \ 93 ] .

فقوله : باسطو أيديهم أي بالضرب المذكور .

والإشارة في قوله : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله : يضربون وجوههم ، أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب بأنهم اتبعوا ما أسخط الله أي أغضبه من الكفر به ، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله .

والإسخاط استجلاب السخط ، وهو الغضب هنا .

[ ص: 383 ] وقوله : وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله ; لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل ، فاستلزمت كراهة ما نزل كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل ، ومن أطاع كارهه ، فهو ككارهه .

وقوله : فأحبط أعمالهم أي أبطلها ، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحا تاما في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [ 17 \ 19 ] .

وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] .

واعلم أن هذه الآية الكريمة ، قد قال بعض العلماء : إنها نزلت في المنافقين .

وقال بعضهم : إنها نزلت في اليهود ، وإن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ، وهو عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك .

وبعضهم يقول : إن الذين اتبعوا ما أسخط الله هم اليهود حين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرفوه وكرهوا رضوانه ، وهو الإيمان به - صلى الله عليه وسلم .

والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها ، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله .

مسألة

اعلم أن كل مسلم ، يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات ، من سورة محمد وتدبرها ، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد ; لأن كثيرا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد .

لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن .

[ ص: 384 ] فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله : سنطيعكم في بعض الأمر ، فهو داخل في وعيد الآية .

وأحرى من ذلك من يقول لهم : سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله ، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .

وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ، وأنه محبط أعمالهم .

فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا : سنطيعكم في بعض الأمر .
قوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم

اللام في قوله " لنبلونكم " موطئة لقسم محذوف .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة عن عاصم بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة ، أعني لنبلونكم ، ونعلم ، ونبلو .

وقرأه شعبة عن عاصم بالمثناة التحتية .

وضمير الفاعل يعود إلى الله وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - جل وعلا - يبلو الناس أي يختبرهم بالتكاليف ، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم ، ومؤمنهم من كافرهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 \ 214 ] .

وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] .

وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 3 \ 142 ] .

وقوله تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ 9 \ 16 ] .

وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 29 \ 1 - 3 ] .

[ ص: 385 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة حتى نعلم المجاهدين [ 3 \ 179 ] .

وقد قدمنا إزالة الإشكال في نحوه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .

فقلنا في ذلك ما نصه : ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون .

وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله - جل وعلا : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] .

فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : " ليبتلي " - دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ; لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار .

وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه .

ومعنى إلا لنعلم أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك ، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس ، أما عالم السر والنجوى ، فهو عالم بكل ما سيكون ، كما لا يخفى . ا هـ .

قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : ( وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم ، فتأويله : حتى نعلم المجاهدين علم شهادة ، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة ، ونبلو أخباركم نختبرها ونظهرها ) انتهى محل الغرض منه .

وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : [ ص: 386 ] ( ولنبلونكم أيها المؤمنون بالقتل وجهاد أعداء الله حتى نعلم المجاهدين منكم ، يقول : حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه فيظهر ذلك لهم ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة فيه ، وأهل الإيمان من أهل النفاق ، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم من الكاذب ) انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وما ذكره من أن المراد بقوله حتى نعلم المجاهدين الآية : حتى يعلم حزبنا وأولياؤنا المجاهدين منكم والصابرين - له وجه ، وقد يرشد له قوله تعالى : ونبلو أخباركم أي نظهرها ونبرزها للناس .

وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب [ 3 \ 179 ] ; لأن المراد بميز الخبيث من الطيب ظهور ذلك للناس .

ولذا قال : وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 3 \ 179 ] ، فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب ، ولكن الله عرفكم بذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خبث وطيب .

والقول الأول وجيه أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم الظاهر أن " صدوا " في هذه الآية متعدية ، والمفعول محذوف ، أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون .

وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم [ 16 \ 97 ] أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول .

و " صدوا " هنا إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر ، فتكون كالتوكيد لقوله : كفروا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:43 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (510)
سُورَةُ الْفَتْحِ
صـ 387 إلى صـ 394


[ ص: 387 ] وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيسا ; لأن قوله : كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم .

وقوله : " وصدوا " على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق ، وهذا أرجح مما قبله .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وشاقوا الرسول أي خالفوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - مخالفة شديدة .

وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين . أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه - صلى الله عليه وسلم - لن يضروا الله بكفرهم شيئا ، لأنه غني لذاته الغنى المطلق .

والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم ، لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم ، كما قال تعالى : وسيحبط أعمالهم .

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله .

فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه ، وعدم تضرره بمعصيتهم - قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .

وقوله تعالى : إن تكفروا فإن الله غني عنكم [ 39 \ 7 ] .

وقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] .

وقوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض [ 10 \ 68 ] .

وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] .

وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به - قوله [ ص: 388 ] تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] .

وقوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] .

وقوله تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .

وقوله تعالى : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول .

قد قدمنا كثيرا جدا من الآيات المماثلة له قريبا في جملة كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن الآية [ 4 \ 82 ] ، [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من مات على الكفر لن يغفر الله له ، لأن النار وجبت له بموته على الكفر - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] .

وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 2 \ 161 - 162 ] .

وقوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] .

وقوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 217 ] .
قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم . [ ص: 389 ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين .

وقرأ حمزة وشعبة " إلى السلم " بكسر السين .

وقوله تعالى : فلا تهنوا أي لا تضعفوا وتذلوا ، ومنه قوله تعالى : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله [ 3 \ 146 ] .

وقوله تعالى : ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ 8 \ 18 ] ، أي مضعف كيدهم ، وقول زهير بن أبي سلمى :
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
وقوله تعالى : وأنتم الأعلون جملة حالية ، أي : فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم أي تبدءوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي والحال أنكم أنتم الأعلون ، أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم ، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون .

وهذا التفسير في قوله : وأنتم الأعلون هو الصواب .

وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده والله معكم لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب ، فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدؤهم بطلب الصلح والمهادنة .

وكقوله تعالى : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم [ 9 \ 14 ] .

ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون [ 4 \ 104 ] ; لأن قوله تعالى : وترجون من الله ما لا يرجون من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب .

[ ص: 390 ] وذلك كقوله هنا : وأنتم الأعلون وقوله : والله معكم أي بالنصر والإعانة والثواب .

واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى ، بل هما محكمتان ، وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى .

فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم إنما هو عن الابتداء بطلب السلم .

والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها ، كما هو صريح قوله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله الآية [ 8 \ 61 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة والله معكم قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] ، وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله .

وهو أن المعنى : لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد ، أي : وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة ، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئا من ثواب الأعمال جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا [ 49 \ 14 ] ، أي لا ينقصكم من ثوابها شيئا .

وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .

[ ص: 391 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ولن يتركم أصله من الوتر ، وهو الفرد .

فأصل قوله : " لن يتركم " لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها .
قوله تعالى : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم .

هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم [ 57 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولا يسألكم أموالكم . في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها أن المعنى : ولا يسألكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أموالكم أجرا على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة .

وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ 34 \ 47 ] .

وقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .

وقوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] ، وذكرنا بعض ذلك في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] .
قوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء . قد قدمنا الآيات الموضحة له قريبا في الكلام على قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى الآية [ 47 \ 32 ] .
[ ص: 392 ] قوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 133 ] .
[ ص: 393 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْفَتْحِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا .

التَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ .

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي تَهَيَّأَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِالْكُفَّارِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَيَّنُوا لَهُمْ مَحَاسِنَهُ ، فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ .

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَامَ سِتٍّ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ .

وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَ مَكَّةَ حِينَ نَقَضَ الْكُفَّارُ الْعَهْدَ ، كَانَ خُرُوجُهُ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ عَامَ ثَمَانٍ .

وَكَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ ، وَذَلِكَ يُوَضِّحُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ .

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْفَتْحِ هَذِهِ نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي طَرِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ .

وَلَفْظُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ : إِنَّا فَتَحْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ قَدْ مَضَى ، فَدَعْوَى أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِقُرْبِ سَنَتَيْنِ - خِلَافُ الظَّاهِرِ .

وَالْآيَةُ الَّتِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ دَلَّتْ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لَا عَلَى الْمُضِيِّ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الْآيَةَ [ 110 \ 1 ] .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ : [ ص: 394 ] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ الْآيَةَ [ 48 \ 2 ] .
قوله تعالى : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم .

ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الإيمان يزيد دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] ، وقوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا [ 74 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناه مرارا .

والحق الذي لا شك فيه أن الإيمان يزيد وينقص ، كما عليه أهل السنة والجماعة ، وقد دل عليه الوحي من الكتاب والسنة كما تقدم .
قوله تعالى : ولله جنود السماوات والأرض .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن له جنود السماوات والأرض ، وبين في المدثر أن جنوده هذه لا يعلمها إلا هو ، وذلك في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو [ 74 \ 31 ] .
قوله تعالى : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء .

أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله : ليدخل متعلقة بقوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] .

وإيضاح المعنى هو الذي أنزل السكينة ، أي السكون والطمأنينة إلى الحق في قلوب المؤمنين ، ليزدادوا بذلك إيمانا لأجل أن يدخلهم بالطمأنينة إلى الحق ، وازدياد الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار .

ومفهوم المخالفة في قوله : في قلوب المؤمنين أن قلوب غير المؤمنين ليست كذلك وهو كذلك ولذا كان جزاؤهم مخالفا لجزاء المؤمنين كما صرح تعالى بذلك في قوله : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:46 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (511)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 395 إلى صـ 402




[ ص: 395 ] وإيضاح المعنى أنه تعالى وفق المؤمنين بإنزال السكينة وازدياد الإيمان ، وأشقى غيرهم من المشركين والمنافقين فلم يوفقهم بذلك ليجازي كلا بمقتضى عمله .

وهذه الآية شبيهة في المعنى بقوله تعالى في آخر الأحزاب : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات [ 33 \ 73 ] .
قوله تعالى : وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه يجازي المشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات بثلاث عقوبات وهي غضبه ، ولعنته ، ونار جهنم .

وقد بين في بعض الآيات بعض نتائج هذه الأشياء الثلاثة ، كقوله في الغضب : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [ 20 \ 81 ] ، وقوله في اللعنة : ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [ 4 \ 52 ] ، وقوله في نار جهنم : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته [ 3 \ 192 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - شاهدا ومبشرا ونذيرا .

وقد بين تعالى أنه يبعثه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة شاهدا على أمته ، وأنه مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين . قال تعالى في شهادته - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على أمته : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] ، وقوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء [ 16 \ 89 ] .

فآية النساء وآية النحل المذكورتان الدالتان على شهادته - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على أمته تبينان آية الفتح هذه .

وما ذكرنا من أنه مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين أوضحه في قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .

[ ص: 396 ] وقد أوضحنا هذا في أول سورة الكهف ، وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - ذكره وزيادة في سورة الأحزاب في قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 45 - 46 ] .

وقوله هنا : إنا أرسلناك شاهدا حال مقدرة ، وقوله : ومبشرا ونذيرا كلاهما حال معطوف على حال .
قوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا .

أمر الله - جل وعلا - نبيه أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا [ 48 \ 11 ] أي لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به فلا نافع إلا هو ولا ضار إلا هو تعالى ، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده ولا منع نفع أراده .

وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأحزاب قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] .

وقوله تعالى في آخر يونس : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الآية [ 10 \ 107 ] .

وقوله في الأنعام : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] .

وقوله تعالى في المائدة : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] .

وقوله تعالى في فاطر : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له الآية [ 35 \ 2 ] .

وقوله تعالى في الملك : قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم [ 67 \ 28 ] .

[ ص: 397 ] وقد ذكرنا بعض الآيات الدالة على هذا في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة الآية [ 35 \ 2 ] . وفي سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا [ 46 \ 8 ] .
قوله تعالى : فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين . والسكينة تشمل الطمأنينة والسكون إلى الحق والثبات والشجاعة عند البأس .

وقد ذكر - جل وعلا - إنزاله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في براءة في قوله : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين [ 9 \ 26 ] ، وذكر إنزال سكينته على رسوله في قوله في براءة : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه الآية [ 9 \ 40 ] .

وذكر إنزاله سكينته على المؤمنين في قوله : فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم الآية [ 48 \ 18 ] .

وهذه الآيات كلها لم يبين فيها موضع إنزال السكينة ، وقد بين في هذه السورة الكريمة أن محل إنزال السكينة هو القلوب ، وذلك في قوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين الآية [ 48 \ 4 ] .
قوله تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة ، وسورة الصف ، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ، ولو كان المشركون يكرهونه ، فقال في الموضعين : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 9 \ 33 ] ، [ 61 - 9 ] .
قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] .

[ ص: 398 ] قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع .

قرأ هذا الحرف ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر " شطأه " بفتح الطاء ، والباقون من السبعة بسكون الطاء .

وقرأ عامة السبعة غير ابن ذكوان : فآزره بألف بعد الهمزة .

وقرأه ابن ذكوان عن عامر " فأزره " بلا ألف بعد الهمزة مجردا .

وقرأ عامة السبعة غير قنبل على سوقه بواو ساكنة بعد السين .

وقرأه قنبل عن ابن كثير بهمزة ساكنة بدلا من الواو ، وعنه ضم الهمزة بعد السين ، بعدها واو ساكنة .

وهذه الآية الكريمة قد بين الله فيها أنه ضرب المثل في الإنجيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم كالزرع يظهر في أول نباته رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها ، فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا في أول الإسلام في قلة وضعف ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة حتى بلغوا ما بلغوا .

وقوله تعالى : كزرع أخرج شطأه أي فراخه فنبت في جوانبه . وقوله : فآزره على قراءة الجمهور من المؤازرة ، بمعنى المعاونة والتقوية ، وقال بعض العلماء : فآزره أي ساواه في الطول ، وبكل واحد من المعنيين فسر قول امرئ القيس :
بمحنية قد آزر الصال نبتها مجر جيوش غانمين وخيب
وأما على قراءة ابن ذكوان فآزره بلا ألف ، فالمعنى شد أزره أي قواه .

ومنه قوله تعالى عن موسى : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري الآية [ 20 \ 29 - 31 ] ، وقوله : فاستغلظ أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا ، وقوله : فاستوى أي استتم وتكامل على سوقه أي على قصبه .

[ ص: 399 ] وما تضمنته الآية الكريمة من المثل المذكور في الإنجيل المضروب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم يكونون في مبدأ أمرهم في قلة وضعف ، ثم بعد ذلك يكثرون ويقوون - جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى كقوله : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [ 8 \ 26 ] .

وقوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ 3 \ 123 ] ، وقوله تعالى : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون الآية [ 5 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 400 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : لَا تُقَدِّمُوا فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :

الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ .

وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ ، وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِيهِمَا ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ " قَدَّمَ " بِمَعْنَى تَقَدَّمَ .

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ تَمَامُ الْعَشَرَةِ : " لَا تَقَدَّمُوا " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ ، وَأَصْلُهُ : لَا تَتَقَدَّمُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " الْمُتَعَدِّي ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ ، أَيْ : لَا تُقَدِّمُوا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَصْدُرُوا فِيهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " الْمُتَعَدِّي ، وَلَكِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى اللَّازِمِ ، وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْ وُقُوعِهَا عَلَى مَفْعُولِهَا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْفِعْلِ دُونَ وُقُوعِهِ عَلَى مَفْعُولٍ .

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [ 40 \ 68 ] ، أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَلَا يُرَادُ فِي ذَلِكَ وُقُوعُهُمَا عَلَى مَفْعُولٍ .

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ 39 \ 9 ] ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِالْعِلْمِ لَا يَسْتَوُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ .

وَلَا يُرَادُ هُنَا وُقُوعُ الْعِلْمِ عَلَى مَفْعُولٍ ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : لَا تُقَدِّمُوا لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْدِيمِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [ 4 \ 82 ] أَنَّ لَفْظَةَ : بَيْنَ يَدَيْهِ [ 2 \ 97 ] ، مَعْنَاهَا أَمَامَهُ ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ .

[ ص: 401 ] وَالْمَعْنَى لَا تَتَقَدَّمُوا أَمَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَتَقُولُوا فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَشْرِيعُ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ ، وَتَحْلِيلُ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ ، لِأَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ 42 \ 10 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ 18 \ 26 ] ، وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ 17 \ 9 ] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .

وَقَوْلُهُ : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَا تَقُولُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ ، عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .

سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أنه لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد تميم ، أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس ، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما فأنزل الله : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ذكره البخاري في صحيحه وغيره .

وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحترموه ويوقروه ، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، أي ينادونه باسمه : يا محمد ، يا أحمد ، كما ينادي بعضهم بعضا .

وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض ، كأن [ ص: 402 ] يقولوا : يا نبي الله أو يا رسول الله ونحو ذلك .

وقوله : أن تحبط أعمالكم أي لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم ، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم ، وأنتم لا تشعرون أي : لا تعلمون بذلك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه واحترامه جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [ 48 \ 9 ] ، على القول بأن الضمير في وتعزروه وتوقروه للنبي - صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ 24 \ 63 ] ، كما تقدم وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه [ 7 \ 157 ] ، وقوله هنا : ولا تجهروا له بالقول أي لا تنادوه باسمه : كـ : يا محمد .

وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير ، كقوله : ياأيها النبي [ 9 \ 73 ] ، ياأيها الرسول [ 5 \ 41 ] ، ياأيها المزمل [ 73 \ 1 ] ، ياأيها المدثر [ 74 \ 1 ] ، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم كقوله : وقلنا ياآدم [ 2 \ 35 ] ، وقوله : وناديناه أن ياإبراهيم [ 37 \ 104 ] ، وقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] ، قيل يانوح اهبط بسلام منا [ 11 \ 48 ] ، وقوله : قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس [ 7 \ 144 ] ، وقوله : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك [ 3 \ 55 ] ، وقوله : ياداود إنا جعلناك خليفة [ 38 \ 29 ] .

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب ، وإنما يذكر في غير ذلك كقوله : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [ 3 \ 144 ] ، وقوله : وآمنوا بما نزل على محمد [ 47 \ 2 ] ، وقوله : محمد رسول الله والذين معه [ 48 \ 29 ] .

وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه - صلى الله عليه وسلم - بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم ، وذلك في قوله تعالى : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ 49 \ 3 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:48 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (512)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 403 إلى صـ 410



[ ص: 403 ] وقال بعض العلماء في قوله : ولا تجهروا له بالقول أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض .

قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ، وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . انتهى محل الغرض منه .

وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر ، وقد قال القرطبي : إنه لا يحبط عمله بغير شعوره ، وظاهر الآية يرد عليه .

وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وقوله عز وجل أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " انتهى محل الغرض منه بلفظه .

ومعلوم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته كحرمته في أيام حياته ، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وهم في صخب ولغط . وأصواتهم مرتفعة ارتفاعا مزعجا كله لا يجوز ، ولا يليق ، وإقرارهم عليه من المنكر .

وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده - صلى الله عليه وسلم - وقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .
مسألتان

الأولى : اعلم أن عدم احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - المشعر بالغض منه ، أو تنقيصه - صلى الله عليه وسلم - والاستخفاف به أو الاستهزاء به - ردة عن الإسلام وكفر بالله .

وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت [ ص: 404 ] راحلته : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .

المسألة الثانية : وهي من أهم المسائل ، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته ، التي لا يجوز صرفها لغيره ، وبين حقوق خلقه كحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضع كل شيء في موضعه ، على ضوء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة .

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته - التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله .

فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده ، لأنه من خصائص الربوبية ، فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومرضاته ، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده - جل وعلا .

وقد بين - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى .

من أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل ، أعني قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى إلى قوله : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 59 - 64 ] .

فإنه - جل وعلا - قال في هذه الآيات الكريمات العظيمات : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون [ 27 \ 59 ] .

ثم بين خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده ، فقال : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] .

فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة ، التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله - من خصائص ربوبية الله ; [ ص: 405 ] ولذا قال تعالى بعدها : أإله مع الله يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به ، والجواب لا ; لأنه لا إله إلا الله وحده .

ثم قال تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] .

فهذه المذكورات أيضا ، التي هي جعل الأرض قرارا ، وجعل الأنهار خلالها ، وجعل الجبال الرواسي فيها ، وجعل الحاجز بين البحرين - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعد ذكرها أإله مع الله ؟ والجواب : لا .

فالاعتراف لله - جل وعلا - بأن خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات ونحو ذلك مما ذكر في الآيات من خصائص ربوبيته - جل وعلا - هو الحق ، وهو من طاعة الله ورسوله ، ومن تعظيم الله وتعظيم رسوله بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم الله .

ثم قال تعالى وهو محل الشاهد : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون [ 27 \ 62 ] .

فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا ، وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله قليلا ما تذكرون .

فتأمل قوله تعالى : أإله مع الله مع قوله : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء - تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجئوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين ، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية بينه وبين خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء وإنبات النبات ، ونصب الجبال وإجراء الأنهار ، لأنه - جل وعلا - ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد ، وأتبع جميعه بقوله : أإله مع الله .

فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله : أإله مع الله فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية .

ثم قال تعالى : أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 27 \ 63 ] .

[ ص: 406 ] فهذه المذكورات التي هي هدي الناس في ظلمات البر والبحر ، وإرسال الرياح بشرا ، أي مبشرات ، بين يدي رحمته التي هي المطر - من خصائص ربوبيته - جل وعلا .

ولذا قال تعالى : أإله مع الله ، ثم نزه - جل وعلا - نفسه عن أن يكون معه إله يستحق شيئا مما ذكر فقال - جل وعلا : تعالى الله عما يشركون .

ثم قال تعالى : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .

فهذه المذكورات التي هي بدء خلق الناس وإعادته يوم البعث ، ورزقه للناس من السماء بإنزال المطر ، ومن الأرض بإنبات النبات - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله .

ثم عجز - جل وعلا - كل من يدعي شيئا من ذلك كله لغير الله ، فقال آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .

وقد اتضح من هذه الآيات القرآنية أن إجابة المضطرين الداعين ، وكشف السوء عن المكروبين ، من خصائص الربوبية كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء ، وإنبات النبات ، والحجز بين البحرين إلى آخر ما ذكر .

وكون إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية ، كما أوضحه تعالى في هذه الآيات من سورة النمل - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده [ 10 \ 107 ] .

وقوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] .

وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له [ 35 \ 2 ] .

فعلينا معاشر المسلمين أن نتأمل هذه الآيات القرآنية ونعتقد ما تضمنته ونعمل به [ ص: 407 ] لنكون بذلك مطيعين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - معظمين لله ولرسوله ; لأن أعظم أنواع تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص العبادة لله - جل وعلا - وحده .

فإخلاص العبادة له - جل وعلا - وحده هو الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ويأمر به وقد قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقال تعالى : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين إلى قوله : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 11 - 15 ] .

واعلم أن الكفار في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون علما يقينا أن ما ذكر من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ، من خصائص الربوبية وكانوا إذا دهمتهم الكروب ، كإحاطة الأمواج بهم في البحر في وقت العواصف يخلصون الدعاء لله وحده ، لعلمهم أن كشف ذلك من خصائصه ، فإذا أنجاهم من الكرب رجعوا إلى الإشراك .

وقد بين الله - جل وعلا - هذا في آيات من كتابه كقوله تعالى : هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 22 - 23 ] .

وقوله تعالى : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية [ 6 \ 63 - 65 ] .

وقوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون [ 6 \ 40 ] .

وقوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 67 - 69 ] .

[ ص: 408 ] وقوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] .

وقوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد [ 31 \ 32 ] .

وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [ 17 \ 67 ] ، أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة فركب في البحر متوجها إلى الحبشة فجاءتهم ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده . فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره . اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد - صلى الله عليه وسلم - فلأجدنه رءوفا رحيما ، فخرجوا من البحر فخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه . انتهى .

وقد قدمنا هناك أن بعض المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من هؤلاء الكفار المذكورين ; لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله ، وبما ذكر تعلم أن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله - جل وعلا - كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ومحبة الصالحين ، كله من أعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله .

لأن صرف الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح - مستوجب سخط الله وسخط النبي - صلى الله عليه وسلم - وسخط كل متبع له بالحق .

ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه ، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء ، والله - جل وعلا - يقول : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 79 - 80 ] .

[ ص: 409 ] بل الذي كان يأمر به - صلى الله عليه وسلم - هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 3 \ 64 ] .

واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلا متدينا في زعمه مدعيا حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وهو يعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل الماء من السماء وأنبت به الحدائق ذات البهجة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا إلى آخر ما تضمنته الآيات المتقدمة ، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله المتعدين لحدود الله .

وقد علمت من الآيات المحكمات أنه لا فرق بين ذلك وبين إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين .

فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وإخلاص العبادة له ، وتعظيم نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به .

وألا نخالفه - صلى الله عليه وسلم - ولا نعصيه ، وألا نفعل شيئا يشعر بعدم التعظيم والاحترام ، كرفع الأصوات قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله ، ويعظموا نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم الموافق لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيما وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 123 - 124 ] .

واعلم أيضا رحمك الله : أنه لا فرق بين ما ذكرنا من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله ، كالحصول على الأولاد والأموال وسائر أنواع الخير .

[ ص: 410 ] فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضا من خصائص ربوبيته - جل وعلا - كما قال تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض [ 10 \ 31 ] وقال تعالى : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له [ 29 \ 17 ] وقال تعالى : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [ 42 \ 49 ] وقال تعالى : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات [ 16 \ 72 ] وقال تعالى : واسألوا الله من فضله [ 4 \ 32 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وفي الحديث : " إذا سألت فاسأل الله " .

وقد أثنى الله - جل وعلا - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [ 8 \ 9 ] ، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجئوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء ، فعلينا أن نتبع ولا نبتدع .

تنبيه

اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة ، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات فيخلص تقربه بذلك إلى الله ولا يصرف شيئا منه لغير الله كائنا ما كان .

والظاهر أن ذلك يشمل هيئات العبادة فلا ينبغي للمسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يضع يده اليمنى على اليسرى كهيئة المصلي ، لأن هيئة الصلاة داخلة في جملتها فينبغي أن تكون خالصة لله ، كما كان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيئاتها لله وحده .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .

نزلت هذه الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وقد أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق ليأتيهم بصدقات أموالهم فلما سمعوا به تلقوه فرحا به ، فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله ، فرجع إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله ، فقدم وفد منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بكذب الوليد ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي تدل على عدم تصديق الفاسق في خبره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:52 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (513)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 411 إلى صـ 418



[ ص: 411 ] وصرح تعالى في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق ، وذلك في قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق وعدم قبول خبره .

وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين :

الأول منهما : أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته ، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب - فإنه يجب فيه التثبت .

والثاني : هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل لأن قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا بدل بدليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لا يلزم التبين في نبئه على قراءة : فتبينوا . ولا التثبت على قراءة : فتثبتوا ، وهو كذلك .

وأما شهادة الفاسق فهي مردودة كما دلت عليه آية النور المذكورة آنفا .

وقد قدمنا معنى الفسق وأنواعه في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

وقوله : أن تصيبوا قوما أي لئلا تصيبوا قوما ، أو كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة ، أي لظنكم النبأ الذي جاء به الفاسق حقا فتصبحوا على ما فعلتم من إصابتكم للقوم المذكورين نادمين لظهور كذب الفاسق فيما أنبأ به عنهم ; لأنهم لو لم يتبينوا في نبأ الوليد عن بني المصطلق لعاملوهم معاملة المرتدين ؟ ولو فعلوا ذلك لندموا .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي : فتبينوا بالباء التحتية الموحدة بعدها مثناة تحتية مشددة ثم نون ، وقرأه حمزة والكسائي : " فتثبتوا " بالثاء المثلثة بعدها ياء تحتية موحدة مشددة ، ثم تاء مثناة فوقية .

والأول من التبين ، والثاني من التثبت .

ومعنى القراءتين واحد ، وهو الأمر بالتأني وعدم العجلة حتى تظهر الحقيقة فيما أنبأ به الفاسق .
[ ص: 412 ] قوله تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان - جاء موضحا في آيات كثيرة ، مصرح فيها بأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كقوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] .

وقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه [ 17 \ 97 ] .

وقوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] .

وقوله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 7 - 8 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، نرجو الله الرحيم الكريم أن يهدينا وألا يضلنا .
قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة .

هذه الأخوة التي أثبت الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة للمؤمنين بعضهم لبعض هي أخوة الدين لا النسب .

وقد بين تعالى أن الأخوة تكون في الدين في قوله تعالى : فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين [ 33 \ 5 ] .

وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] أن الأخوة الدينية أعظم وأقوى من الأخوة النسبية ، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . قوله : لا يسخر قوم من قوم أي لا يستخفوا ولا يستهزئوا بهم ، والعرب تقول : سخر منه بكسر الخاء ، يسخر بفتح الخاء على القياس ، إذا استهزأ به واستخف .

[ ص: 413 ] وقد نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس ، مبينا أن المسخور منه قد يكون خيرا من الساخر .

ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأكرم الأفضل ، واستهزاؤه به .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم [ 9 \ 79 ] .

وقد بين تعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من ضعاف المؤمنين في دار الدنيا ، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة ، كما قال تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] ، وقال تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] .

فلا ينبغي لمن رأى مسلما في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه ؛ لهذه الآيات التي ذكرنا .

قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم .

أي لا يلمز أحدكم أخاه كما تقدم إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

وقد أوعد الله - جل وعلا - الذين يلمزون الناس في قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة [ 104 \ 12 ] ، والهمزة كثير الهمز للناس ، واللمزة كثير اللمز .

قال بعض العلماء : الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقارا وازدراء ، واللمز باللسان ، وتدخل فيه الغيبة .

وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله : ولا يغتب بعضكم بعضا [ 49 \ 12 ] ، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه [ 49 \ 12 ] ، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه .
[ ص: 414 ] قوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه خلق الناس من ذكر وأنثى ، ولم يبين هنا كيفية خلقه للذكر والأنثى المذكورين ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتاب الله ، فبين أنه خلق ذلك الذكر الذي هو آدم من تراب ، وقد بين الأطوار التي مر بها ذلك التراب ، كصيرورته طينا لازبا وحمأ مسنونا وصلصالا كالفخار .

وبين أنه خلق تلك الأنثى التي هي حواء من ذلك الذكر الذي هو آدم فقال في سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] وقال تعالى في الأعراف : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ 7 \ 189 ] ، وقال تعالى في الزمر : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها [ 39 \ 6 ] .

وقد قدمنا أنه خلق نوع الإنسان على أربعة أنواع مختلفة :

الأول منها : خلقه لا من أنثى ولا من ذكر وهو آدم عليه السلام .

والثاني : خلقه من ذكر بدون أنثى وهو حواء .

والثالث : خلقه من أنثى بدون ذكر وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .

الرابع : خلقه من ذكر وأنثى وهو سائر الآدميين ، وهذا يدل على كمال قدرته - جل وعلا .

مسألة

قد دلت هذه الآيات القرآنية المذكورة على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستندا إلى وجود الرجل وفرعا عنه .

وهذا أمر كوني قدري من الله ، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه .

وقد جاء الشرع الكريم المنزل من الله ليعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي .

فجعل الرجل قائما عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شئونها كما قال تعالى : [ ص: 415 ] الرجال قوامون على النساء الآية [ 4 \ 34 ] .

فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق ؛ لأن الفوارق بين النوعين كونا وقدرا أولا ، وشرعا منزلا ثانيا - تمنع من ذلك منعا باتا .

ولقوة الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى ، صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر .

ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر ، لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم .

وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " .

وقد قدمنا هذا الحديث بسنده في سورة بني إسرائيل ، وبينا هناك أن من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون في كتاب الله ، فلو كانت الفوارق بين الذكر والأنثى يمكن تحطيمها وإزالتها لم يستوجب من أراد ذلك اللعن من الله ورسوله .

ولأجل تلك الفوارق العظيمة الكونية القدرية بين الذكر والأنثى ، فرق الله - جل وعلا - بينهما في الطلاق ، فجعله بيد الرجل دون المرأة ، وفي الميراث ، وفي نسبة الأولاد إليه .

وفي تعدد الزوجات دون الأزواج : صرح بأن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، فالله الذي خلقهما لا شك أنه أعلم بحقيقتهما ، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة .

وقد قال تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] ، أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى .

ولذلك وقعت امرأة عمران في مشكلة لما ولدت مريم ، كما قال تعالى عنها : فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى الآية [ 3 \ 36 ] فامرأة عمران تقول : وليس الذكر كالأنثى ، وهي صادقة في ذلك بلا شك .

[ ص: 416 ] والكفرة وأتباعهم يقولون : إن الذكر والأنثى سواء .

ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة وكذب هذه الموجبة .

وقد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وجه الحكمة في جعل الطلاق بيد الرجل وتفضيل الذكر على الأنثى في الميراث وتعدد الزوجات ، وكون الولد ينسب إلى الرجل ، وذكرنا طرفا من ذلك في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة [ 2 \ 228 ] ، وبينا أن الفوارق الطبيعية بينهما كون الذكورة شرفا وكمالا وقوة طبيعية خلقية ، وكون الأنوثة بعكس ذلك .

وبينا أن العقلاء جميعا مطبقون على الاعتراف بذلك ، وأن من أوضح الأدلة التي بينها القرآن على ذلك اتفاق العقلاء على أن الأنثى من حين نشأتها تحلى بأنواع الزينة من حلي وحلل ، وذلك لجبر النقص الجبلي الخلقي الذي هو الأنوثة كما قال الشاعر :


وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وقد بينا أن الله تعالى أوضح هذا بقوله : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، فأنكر على الكفار أنهم مع ادعاء الولد له تعالى جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما خلقة وجبلة وهو الأنثى .

ولذلك نشأت في الحلية من صغرها ، لتغطية النقص الذي هو الأنوثة وجبره بالزينة ، فهو في الخصام غير مبين .

لأن الأنثى لضعفها الخلقي الطبيعي لا تقدر أن تبين في الخصام إبانة الفحول الذكور ، إذا اهتضمت وظلمت لضعفها الطبيعي .

وإنكار الله تعالى على الكفار أنهم مع ادعائهم له الولد جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما - كثير في القرآن كقوله تعالى : أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون [ 37 \ 153 - 154 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

[ ص: 417 ] وأما الذكر فإنه لا ينشأ في الحلية ، لأن كمال ذكورته وشرفها وقوتها الطبيعية التي لا تحتاج معه إلى التزين بالحلية التي تحتاج إليه الأنثى ، لكماله بذكورته ونقصها بأنوثتها .

ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن الذكر والأنثى إذا تعاشرا المعاشرة البشرية الطبيعية التي لا بقاء للبشر دونها ، فإن المرأة تتأثر بذلك تأثرا طبعيا كونيا قدريا مانعا لها من مزاولة الأعمال كالحمل والنفاس وما ينشأ عن ذلك من الضعف والمرض والألم .

بخلاف الرجل فإنه لا يتأثر بشيء من ذلك ، ومع هذه الفوارق لا يتجرأ على القول بمساواتهما في جميع الميادين إلا مكابر في المحسوس ، فلا يدعو إلى المساواة بينهما إلا من أعمى الله بصيرته .

وقد قدمنا في الموضعين اللذين أشرنا لهما من هذا الكتاب المبارك ما يكفي المنصف ، فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .

لما كان قوله تعالى : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ 49 \ 13 ] ، يدل على استواء الناس في الأصل ; لأن أباهم واحد وأمهم واحدة وكان في ذلك أكبر زاجر عن التفاخر بالأنساب وتطاول بعض الناس على بعض ، بين تعالى أنه جعلهم شعوبا وقبائل لأجل أن يتعارفوا أي يعرف بعضهم بعضا ، ويتميز بعضهم عن بعض لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه .

وذلك يدل على أن كون بعضهم أفضل من بعض وأكرم منه إنما يكون بسبب آخر غير الأنساب .

وقد بين الله ذلك هنا بقوله : إن أكرمكم عند الله [ 49 \ 13 ] ، فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل ، ولقد صدق من قال :


فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وقد ذكروا أن سلمان رضي الله عنه كان يقول :

[ ص: 418 ]
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وهذه الآيات القرآنية ، تدل على أن دين الإسلام سماوي صحيح ، لا نظر فيه إلى الألوان ولا إلى العناصر ، ولا إلى الجهات ، وإنما المعتبر فيه تقوى الله - جل وعلا - وطاعته ، فأكرم الناس وأفضلهم أتقاهم لله ، ولا كرم ولا فضل لغير المتقي ، ولو كان رفيع النسب .

والشعوب جمع شعب ، وهو الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة .

فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل .

خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .

وسميت الشعوب ، لأن القبائل تتشعب منها . ا هـ .

ولم يذكر من هذه الست في القرآن إلا ثلاث : الشعوب ، والقبائل كما في هذه الآية ، والفصيلة في المعارج في قوله : وفصيلته التي تؤويه [ 70 \ 13 ] ، وقد قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات موضحا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

واعلم أن العرب قد تطلق بعض هذه الست على بعض كإطلاق البطن على القبيلة في قول الشاعر :


وإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر
كما قدمناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:54 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (514)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 419 إلى صـ 426




قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن هؤلاء الأعراب وهم أهل البادية من العرب [ ص: 419 ] قالوا آمنا ، وأن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ، وهذا يدل على نفي الإيمان عنهم وثبوت الإسلام لهم .

وذلك يستلزم أن الإيمان أخص من الإسلام لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .

وقد قدمنا مرارا أن مسمى الإيمان الشرعي الصحيح والإسلام الشرعي الصحيح - هو استسلام القلب بالاعتقاد واللسان بالإقرار ، والجوارح بالعمل ، فمؤداهما واحد كما يدل له قوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 - 36 ] .

وإذا كان ذلك كذلك فإنه يحتاج إلى بيان وجه الفرق بين الإيمان والإسلام في هذه الآية الكريمة ، لأن الله نفى عنهم الإيمان دون الإسلام ، ولذلك وجهان معروفان عند العلماء أظهرهما عندي أن الإيمان المنفي عنهم في هذه الآية هو مسماه الشرعي الصحيح ، والإسلام المثبت لهم فيها هو الإسلام اللغوي الذي هو الاستسلام والانقياد بالجوارح دون القلب .

وإنما ساغ إطلاق الحقيقة اللغوية هنا على الإسلام مع أن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية على الصحيح ، لأن الشرع الكريم جاء باعتبار الظاهر . وأن توكل كل السرائر إلى الله .

فانقياد الجوارح في الظاهر بالعمل واللسان بالإقرار يكتفى به شرعا ، وإن كان القلب منطويا على الكفر .

ولهذا ساغ إرادة الحقيقة اللغوية في قوله : ولكن قولوا أسلمنا ; لأن انقياد اللسان والجوارح في الظاهر إسلام لغوي مكتفى به شرعا عن التنقيب عن القلب .

وكل انقياد واستسلام وإذعان يسمى إسلاما لغة . ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل العدوي مسلم الجاهلية :


وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها
جميعا وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا [ ص: 420 ] وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الريح تصرف حالا فحالا
فالمراد بالإسلام في هذه الأبيات : الاستسلام والانقياد ، وإذا حمل الإسلام في قوله : ولكن قولوا أسلمنا انقدنا واستسلمنا بالألسنة والجوارح . فلا إشكال في الآية .

وعلى هذا القول فالأعراب المذكورون منافقون ، لأنهم مسلمون في الظاهر ، وهم كفار في الباطن .

الوجه الثاني : أن المراد بنفي الإيمان في قوله : لم تؤمنوا نفي كمال الإيمان ، لا نفيه من أصله .

وعليه فلا إشكال أيضا ، لأنهم مسلمون مع أن إيمانهم غير تام ، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص .

وإنما استظهرنا الوجه الأول ، وهو أن المراد بالإسلام معناه اللغوي دون الشرعي ، وأن الأعراب المذكورين كفار في الباطن وإن أسلموا في الظاهر ، لأن قوله - جل وعلا : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] ، يدل على ذلك دلالة كما ترى ، لأن قوله : يدخل فعل في سياق النفي وهو من صيغ العموم كما أوضحناه مرارا ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :


ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
فقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم : في معنى لا دخول للإيمان في قلوبكم .

والذين قالوا بالثاني . قالوا : إن المراد بنفي دخوله نفي كماله ، والأول أظهر كما ترى .

وقوله تعالى : في هذه الآية الكريمة : قالت الأعراب : المراد به بعض الأعراب ، وقد استظهرنا أنهم منافقون لدلالة القرآن على ذلك ، وهم من جنس الأعراب الذين قال الله فيهم : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر [ 9 \ 98 ] ، وإنما قلنا : إن المراد بعض الأعراب في هذه الآية ، لأن الله بين في موضع آخر أن منهم من ليس كذلك ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 421 ] ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
قوله تعالى : قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم . لما قال هؤلاء الأعراب : آمنا ، وأمر الله نبيه أن يكذبهم في قوله : قل لم تؤمنوا وقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أمر نبيهم أن يقول لهم بصيغة الإنكار : أتعلمون الله بدينكم وذلك بادعائكم أنكم مؤمنون والله لا يخفى عليه شيء من حالكم ، وهو عالم بأنكم لم تؤمنوا وعالم بكل ما في السماوات والأرض ، وعالم بكل شيء .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تقبيح تزكية النفس بالكذب جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
[ ص: 422 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ ق .

قَوْلُهُ تَعَالَى : ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ .

الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفِ فِي سُورَةِ ص ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا .
وقوله تعالى هنا : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد . قد قدمنا في سورة ص أن من المقسم عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق وأن رسالته حق ، كما دل عليه قوله في ص : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] ، وقد دل على ذلك قوله هنا : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقد قدمنا في " ص " أنه يدخل في المقسم عليه تكذيب الكفار في إنكارهم البعث ، ويدل عليه قوله هنا : فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ، والحاصل أن المقسم عليه في ص ، بقوله : والقرآن ذي الذكر [ 38 \ 1 ] ، وفي " ق " بقوله : والقرآن المجيد - محذوف وهو تكذيب الكفار في إنكارهم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنكارهم البعث ، وإنكارهم كون المعبود واحدا ، وقد بينا الآيات الدالة على ذلك في سورة ص ، وذكرنا هناك أن كون المقسم عليه في سورة ق هذه المحذوف يدخل فيه إنكارهم لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وتكذيبهم في إنكارهم للبعث بدليل قوله : فقال الكافرون هذا شيء عجيب وبينا وجه إيضاح ذلك بالآيات المذكورة هناك وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج .

الهمزة في قوله : أفلم تتعلق بمحذوف ، والفاء عاطفة عليه ، كما قدمنا مرارا أنه أظهر الوجهين ، وأنه أشار إليه في الخلاصة بقوله :

[ ص: 423 ] وحذف متبوع بدا هنا استبح والتقدير : أأعرضوا عن آيات الله فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج . أي ليس فيها من شقوق ولا تصدع ولا تفطر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تعظيم شأن كيفية بنائه تعالى للسماء وتزيينه لها وكونها لا تصدع ولا شقوق فيها جاء كله موضحا في آيات أخر كقوله - جل وعلا - في بنائه للسماء : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها [ 79 \ 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] ، وقوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] ، وقوله تعالى في أول الرعد : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش [ 13 \ 2 ] ، وقوله تعالى في لقمان : خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية [ 31 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وكقوله تعالى في تزيينه للسماء ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا الآية [ 41 \ 12 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [ 15 \ 6 ] ، وكقوله تعالى في حفظه للسماء من أن يكون فيها فروج أي شقوق : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] ، والفطور والفروج بمعنى واحد ، وهو الشقوق والصدوع . وقوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون [ 21 \ 32 ] .

أما إذا كان يوم القيامة فإن السماء تتشقق وتتفطر ، وتكون فيها الفروج كما قال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام [ 25 \ 25 ] ، وقال تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة [ 55 \ 37 ] ، وقال تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء الآية [ 69 \ 16 ] ، وقال تعالى : إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت [ 84 \ 1 - 2 ] ، وقال تعالى : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، وقال تعالى : يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقال تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت [ 77 \ 8 - 9 ] .
[ ص: 424 ] قوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه مد الأرض وألقى فيها الجبال الرواسي وأنبت فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ، وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين إلى قوله : لقوم يتفكرون ، وكقوله : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 10 - 11 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كل زوج بهيج أي من كل صنف حسن من أصناف النبات ، وقوله : تبصرة أي قدرنا الأرض وألقينا فيها الرواسي وأنبتنا فيها أصناف النبات الحسنة لأجل أن نبصر عبادنا كمال قدرتنا على البعث وعلى كل شيء وعلى استحقاقنا للعبادة دون غيرنا .
قوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج .

قوله : كذلك الخروج ، معناه أن الله تبارك وتعالى : يبين أن إحياء الأرض بعد موتها بإنبات النبات فيها بعد انعدامه واضمحلاله - دليل على بعث الناس بعد الموت بعد كونهم ترابا وعظاما ، فقوله : كذلك الخروج يعني أن خروج الناس أحياء من قبورهم بعد الموت كخروج النبات من الأرض بعد عدمه ، بجامع استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم ، وهذا أحد براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في صدر سورة البقرة وأول النحل وأول الجاثية ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد .

هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب ، أي يتحتم ويثبت في حقه ثبوتا لا يصح معه تخلفه عنه ، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل [ ص: 425 ] العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده ، لأنه قال : إنه لا يخلف وعده ولم يقل إنه لا يخلف وعيده ، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح ، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد ، وأن الشاعر قال :


وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
لا يصح بحال ، لأن وعيده تعالى للكفار حق ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل كما دل عليه قوله هنا : كل كذب الرسل فحق وعيد .

وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله : سها فسجد ، أي لعلة سهوه وسرق فقطعت يده ، أي لعلة سرقته ، ومنه قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق ووجب عليهم ، فدعوى جواز تخلفه باطلة بلا شك ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، والتحقيق : أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم .

وقوله تعالى في سورة " ص " إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ، وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين بتعذيبهم على كبائر الذنوب ، لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] ، وهذا في الحقيقة تجاوز من الله عن ذنوب عباده المؤمنين العاصين ، ولا إشكال في ذلك ، وقد أوضحنا هذا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] .
قوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد .

هذه الآية الكريمة من براهين البعث ، لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول لا شك في قدرته على إعادتهم وخلقهم مرة أخرى ; لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من البدء . والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا ، كقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] ، [ ص: 426 ] وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد أوضحنا الآيات الدالة على براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن ، كخلق الناس أولا ، وخلق السماوات والأرض وما فيهما وإحياء الأرض بعد موتها ، وغير ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في البقرة والنحل والحج والجاثية وغير ذلك ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .

قوله إذ : منصوب بقوله : أقرب ، أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه ، والمراد أن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال ، لأنه عالم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة ، كما أوضحه بقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، ومفعول التلقي في الفعل الذي هو يتلقى ، والوصف الذي هو المتلقيان محذوف تقديره : إذ يتلقى المتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان فيكتبانه عليه .

قال الزمخشري : والتلقي التلقن بالحفظ والكتابة ا هـ منه ، والمعنى واضح لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه ، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان ، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 16-03-2023 11:58 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (515)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 427 إلى صـ 434




[ ص: 427 ] والقعيد : قال بعضهم : معناه القاعد ، والأظهر أن معناه المقاعد ، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل ، كالجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المآكل ، والنديم بمعنى المنادم ، وقال بعضهم : القعيد هنا هو الملازم ، وكل ملازم دائما أو غالبا يقال له قعيد ، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي :

قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وأنشد له سيبويه في كتابه قول عمرو بن أحمر الباهلي :


رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :


نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :


فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
فقول ابن أحمر : كنت منه ووالدي بريئا أي كنت بريئا منه وكان والدي بريئا منه .

وقول ابن الخطيم : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض : أي نحن راضون وأنت راض .

وقول ضابئ بن الحارث : فإني وقيار بها لغريب : يعني : إني لغريب وقيار غريب ، وهذا أسلوب عربي معروف ، ودعوى أن قوله في الآية : قعيد هي الأولى أخرت وحذفت الثانية لدلالتها عليها لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه كما ترى ، لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول ، ولا دليل عليه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يلفظ من قول ، أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه ، أي إلا والحال أن عنده رقيبا ، أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء . عتيد : أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة [ ص: 428 ] يكتبون أعماله ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 - 29 ]

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ]

وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] ، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي هو عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات ، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : أمهله ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر ؟ وبعضهم يقول : يمهله سبع ساعات . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه :

اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه ، هل تكتبه الحفظة عليه أو لا ؟ فقال بعضهم : يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض ، وهذا هو ظاهر قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ; لأن قوله : " من قول " نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة " من " ، فهي نص صريح في العموم .

وقال بعض العلماء : لا يكتب من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب فالذين يقولون : لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، والذين يقولون : يكتب الجميع - متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب ، إلا أن بعضهم يقولون : لا يكتب أصلا ، وبعضهم يقولون : يكتب أولا ، ثم يمحى . وزعم بعضهم أن محو ذلك ، وإثبات ما فيه ثواب أو عقاب هو معنى قوله تعالى : [ ص: 429 ] يمحوا الله ما يشاء ويثبت الآية [ 13 \ 39 ] .

والذين قالوا : لا يكتب ما لا جزاء فيه . قالوا : إن في الآية نعتا محذوفا سوغ حذفه العلم به ، لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب ، وتقدير النعت المحذوف : ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء ، وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه - أسلوب عربي معروف ، وقدمنا أن منه قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي كل سفينة صحيحة لا عيب فيها بدليل قوله : فأردت أن أعيبها [ 18 \ 79 ] ، وقوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة [ 17 \ 58 ] ، أي قرية ظالمة بدليل قوله تعالى : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] ، وإن من شواهده قول المرقش الأكبر :


ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد
أي لها فرع فاحم وجيد طويل . وقول عبيد بن الأبرص :


من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل


أي قول فصل ، وفعل جميل ، ونائل جزل .
قوله تعالى : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ 27 \ 66 ] .
قوله تعالى : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد .

قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم يوم نقول بالنون الدالة على العظمة . وقرأه نافع وشعبة " يوم يقول " بالياء ، وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، واعلم أن الاستفهام في قوله : هل من مزيد فيه للعلماء قولان معروفان : الأول : أن الاستفهام إنكاري كقوله تعالى : هل يهلك إلا القوم الظالمون [ 6 \ 47 ] ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون ، وعلى هذا فمعنى هل من مزيد لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار ، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله كقوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 430 ] وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " يس " في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم [ 36 \ 7 ] ، لأن إقسامه تعالى في هذه الآية المدلول عليه بلام التوطئة في " لأملأن " على أنه يملأ جهنم من الجنة والناس - دليل على أنها لا بد أن تمتلئ ، ولذا قالوا : إن معنى هل من مزيد لا مزيد ، لأني قد امتلأت فليس في محل للمزيد .

وأما القول الآخر ، فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار : هل من مزيد ؟ هو طلبها للزيادة ، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط أي كفاني قد امتلأت ، وهذا الأخير هو الأصح ، ولما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن جهنم لا تزال تقول : هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط " ، لأن في هذا الحديث المتفق عليه التصريح بقولها : قط قط ، أي كفاني قد امتلأت ، وأن قولها قبل ذلك : هل من مزيد لطلب الزيادة ، وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات ، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة الأعراف والقتال . واعلم أن قول النار في هذه الآية : هل من مزيد - قول حقيقي ينطقها الله به ، فزعم بعض أهل العلم أنه كقول الحوض :


امتلأ الحوض فقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
وإن المراد بقولها ذلك هو ما يفهم من حالها خلاف التحقيق ، وقد أوضحنا ذلك بأدلته في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد .

قوله : " أزلفت " أي قربت ، وقوله : " غير بعيد " فيه معنى التوكيد لقوله : " أزلفت " سواء أعربت " غير بعيد " بأنها حال أو ظرف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إزلاف الجنة للمتقين جاء في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت [ 81 \ 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين [ 26 \ 90 - 91 ] .

[ ص: 431 ] قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية : غير بعيد ينظرون إليها قبل أن يدخلوها .
قوله تعالى : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد . قوله : لهم ما يشاءون فيها قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولدينا مزيد . قال بعض العلماء : المزيد النظر إلى وجه الله الكريم ، ويستأنس لذلك بقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، لأن الحسنى الجنة ، والزيادة النظر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 8 ] .
قوله تعالى : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ 7 \ 54 ] ، وبينا هناك أن الله أوضح ذلك في فصلت في قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - إلى قوله : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 9 - 12 ] ، وأوضحنا ذلك في سورة فصلت .

واللغوب : التعب والإعياء من العمل .
قوله تعالى : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقوله الكفار والتسبيح بحمده - جل وعلا - أطراف النهار ، قد ذكره الله في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 432 ] في أخريات طه : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى [ 20 \ 130 ] ، وأمره له بالتسبيح بعد أمره له بالصبر على أذى الكفار فيه - دليل على أن التسبيح يعينه الله به على الصبر المأمور به ، والصلاة داخلة في التسبيح المذكور كما قدمنا إيضاح ذلك ، وذكرنا فيه حديث نعيم بن همار في آخر الحجر في الكلام على قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ 15 \ 97 - 98 ] ، وبينا هنالك أن الله أمر بالاستعانة بالصبر وبالصلاة كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] .
قوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " يس " في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
قوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير .

قرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : " تشقق " بتشديد الشين بإدغام إحدى التاءين فيها ، وقرأ الباقون بتخفيف الشين لحذف إحدى التاءين ، وقوله تعالى : سراعا : جمع سريع ، وهو حال من الضمير المجرور في قوله : عنهم أي تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي وهو الملك الذي ينفخ في الصور ، ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الناس يوم البعث يخرجون من قبورهم مسرعين إلى المحشر قاصدين نحو الداعي ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] ، وقوله : ينسلون أي يسرعون ، وقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 - 8 ] ، فقوله : مهطعين : أي مسرعين مادي أعناقهم على الأصح ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " يس " في الكلام على قوله : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
[ ص: 433 ] قوله تعالى : وما أنت عليهم بجبار .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .
قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] .
[ ص: 434 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ .

أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ الرِّيَاحُ ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الذَّرْوَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرِّيَاحِ .

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [ 18 \ 45 ] ، وَمَعْنَى تَذْرُوهُ : تَرْفَعُهُ وَتُفَرِّقُهُ ، فَهِيَ تَذْرُو التُّرَابَ وَالْمَطَرَ وَغَيْرَهُمَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ :


وَمَنْهَلٍ آجِنٍ قَفْرٍ مَحَاضِرُهُ تَذْرُو الرِّيَاحُ عَلَى جَمَّاتِهِ الْبَعَرَا
وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ الذَّارِيَاتِ النِّسَاءُ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا : السَّحَابُ ، أَيِ الْمُزْنُ تَحْمِلُ وِقْرًا ثِقَلًا مِنَ الْمَاءِ .

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَصْرِيحُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِوَصْفِ السَّحَابِ بِالثِّقَالِ ، وَهُوَ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ ، وَذَلِكَ لِثِقَلِ السَّحَابَةِ بِوَقْرِ الْمَاءِ الَّذِي تَحْمِلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [ 13 \ 12 ] ، وَهُوَ جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا : السُّفُنُ تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ مِنَ النَّاسِ وَأَمْتِعَتِهُمْ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّ " الْحَامِلَاتِ وِقْرًا " الرِّيَاحُ أَيْضًا كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-03-2023 12:01 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (516)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 435 إلى صـ 442




وَدَلَالَةُ بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ وَاضِحَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ الرِّيَاحَ تَحْمِلُ السَّحَابَ الثِّقَالَ بِالْمَاءِ ، وَإِذَا كَانَتِ الرِّيَاحُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ السَّحَابَ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ، فَنِسْبَةُ حَمْلِ ذَلِكَ الْوِقْرِ إِلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى السَّحَابِ الَّتِي هِيَ مَحْمُولَةٌ لِلرِّيَاحِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ [ ص: 435 ] تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .

فَقَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ، أَيْ حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا ، فَالْإِقْلَالُ الْحَمْلُ ، وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّيحِ . وَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا هِيَ الرِّيَاحُ - ظَاهِرَةٌ كَمَا تَرَى ، وَيَصِحُّ شُمُولُ الْآيَةِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ هُوَ الْأَجْوَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ ، وَكَلَامَهُمْ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا .

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا : هِيَ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ مِنَ الْإِنَاثِ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَاتِ يُسْرًا : السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يُسْرًا ، أَيْ : جَرْيًا ذَا يُسْرٍ أَيْ سُهُولَةٍ .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا نَحْوَهُ مِرَارًا : أَيْ فَالْجَارِيَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُيَسَّرَةً مُسَخَّرًا لَهَا الْبَحْرٌ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ بِالْجَرْيِ عَلَى السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ [ 42 \ 32 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [ 69 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [ 22 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [ 45 \ 12 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

وَقِيلَ : الْجَارِيَاتُ الرِّيَاحُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا : هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُرْسِلُهَا اللَّهُ فِي شُئُونٍ وَأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمُقَسِّمَاتِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [ 79 \ 5 ] ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِتَسْخِيرِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِهْلَاكِ الْأُمَمِ ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ صَالِحٍ .

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ : " أَمْرًا " مَفْعُولٌ بِهِ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْمُقَسِّمَاتُ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ كَمَا [ ص: 436 ] هُنَا ، وَتَعْرِيفِهِ وَإِضَافَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [ 22 \ 5 ] ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّوْكِيدِ هُوَ شِدَّةُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ .

وَقَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ " مَا " فِيهِ مَوْصُولَةٌ ، وَالْعَائِدُ إِلَى الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، أَيْ : إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصَادِقٌ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ صِيغَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي " لَصَادِقٌ " بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ أَوِ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمَصْدُوقٌ فِيهِ لَا مَكْذُوبٌ بِهِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [ 69 \ 21 ] ، أَيْ مَرْضِيَّةٍ . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِدْقِ مَا يُوعَدُونَهُ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [ 3 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [ 6 \ 134 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [ 56 \ 3 ] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ ، أَيْ وَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ 24 \ 25 ] ، أَيْ جَزَاءَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [ 53 \ 40 - 41 ] .

وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الْكُفَّارِ ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ، قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ ظَنَّ عَدَمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَمُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ 23 \ 115 - 116 ] .

وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ 38 \ 27 ] ، فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ " ص " هَذِهِ : بَاطِلًا أَيْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ .
قوله تعالى : والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك .

[ ص: 437 ] قوله تعالى : ذات الحبك فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا ، فذهب بعض أهل العلم ، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك ، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق ، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك ، وهو جمع حبيكة أو حباك ، قالوا : ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك ، ومن هذا المعنى قول زهير :


مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق بضاحي مائة حبك
وقول الراجز :


كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك
وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك .

وقال بعض أهل العلم : " ذات الحبك " أي ذات الخلق الحسن المحكم ، وممن قال به - ابن عباس وعكرمة وقتادة .

وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 3 - 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وعلى هذا القول فالحبك مصدر ، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه ، تقول فيه العرب : حبكه حبكا بالفتح على القياس . والحبك بضمتين بمعناه .

وقال بعض العلماء : ذات الحبك : أي الزينة .

وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن ، وعلى هذا القول فالآية كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح [ 67 \ 5 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " ق " في الكلام على قوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها [ 50 \ 6 ] .

وقال بعض العلماء : ذات الحبك أي ذات الشدة ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] .

[ ص: 438 ] والعرب تسمي شدة الخلق حبكا ، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق : محبوك .

ومنه قول امرئ القيس :


قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر
والآية تشمل الجميع ، فكل الأقوال حق ، والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى : إنكم لفي قول مختلف ، أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشأن القرآن ، لأن بعضهم يقول : هو شعر ، وبعضهم يقول : سحر ، وبعضهم يقول : كهانة ، وبعضهم يقول : أساطير الأولين ، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق ، وبعضهم مكذب - خلاف التحقيق .

ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين - قوله تعالى في ق : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج [ 50 \ 5 ] ، أي مختلط ، وقال بعضهم : مختلف ، والمعنى واحد .

وقوله تعالى : يؤفك عنه من أفك أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري ، أن لفظة " عن " في الآية سببية كقوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي بسبب قولك ، ومن أجله ، والضمير المجرور بـ " عن " راجع إلى القول المختلف ، والمعنى : " يؤفك " أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله . " عنه " أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه . " من أفك " أي من سبقت له الشقاوة في الأزل ، فحرم الهدى وأفك عنه ، لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضا ويناقضه .

ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى ، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام ، الذي يقول فيه بعضهم : إن الرسول ساحر ، وبعضهم يقول شاعر ، وبعضهم يقول : كذاب - ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض ، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف ، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه .

وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم [ 37 \ 161 - 163 ] .

[ ص: 439 ] ومعنى هذه الآية أن دين الكفار ، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان ، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه " ما هم بفاتنين " أي ليسوا بمضلين عليه أحدا لظهور فساده وبطلانه " إلا من هو صال الجحيم " أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه ، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة .

وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله : يؤفك عنه راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن ، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن ، من أفك أي صرف عن الحق ، وحرم الهدى لشدة ظهور الحق في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن منزل من الله ، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى .

وقول من قال : يؤفك عنه ، أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك ، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه .

والذين قالوا هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل ، وعن الباطل إلى الحق ، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون .

لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله ، والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح . وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية .
قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون .

[ ص: 440 ] اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء ، فذهبت جماعة من أهل العلم أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء ، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر لهذا المعنى ، كقوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] .

وقوله تعالى : واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق [ 45 \ 5 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن .

وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده ، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا ، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق .

وقال بعض أهل العلم : معنى قوله : وفي السماء رزقكم أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة ، والله - جل وعلا - يدبر أمر الأرض من السماء ، كما قال تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه الآية [ 32 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وما توعدون " ما " في محل رفع ، عطف على قوله : رزقكم ، والمراد بما يوعدون ، قال بعض أهل العلم : الجنة ، لأن الجنة فوق السماوات ، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح ، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل :

وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور ، قال فيه : بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له - صلى الله عليه وسلم : " إلى أين يا أبا ليلى . قال : إلى الجنة ، قال : نعم إن شاء الله " .

وقال بعض أهل العلم : وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء ، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية ، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق .

وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع ، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية وفي السماء رزقكم وما توعدون [ ص: 441 ] فقال : ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ، فدخل خربة يمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن منه نية ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت .

ومن ذلك أيضا : ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية ، قال : وعن الأصمعي ، قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل علي ، فتلوت : والذاريات ، فلما بلغت قوله تعالى : وفي السماء رزقكم قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 23 ] ، فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين ، قائلا ثلاثا ، وخرجت معها نفسه . انتهى .
قوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما .

إلى آخر القصة ، قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم [ 15 \ 51 ] ، وفي سورة هود في القصة المذكورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم .

قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية [ 41 \ 16 ] .
[ ص: 442 ] قوله تعالى : فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون [ 41 \ 7 ] .
قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .

تنبيه :

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بنيناها بأيد ، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم ، لأن قوله : بأيد ليس جمع يد : وإنما الأيد القوة ، فوزن قوله هنا بأيد فعل ، ووزن الأيدي أفعل ، فالهمزة في قوله : بأيد في مكان الفاء ، والياء في مكان العين ، والدال في مكان اللام ، ولو كان قوله تعالى : بأيد جمع يد لكان وزنه أفعلا ، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء ، والدال في مكان العين ، والياء المحذوفة لكونه منقوصا هي اللام .

والأيد ، والآد في لغة العرب بمعنى القوة ، ورجل أيد قوي ، ومنه قوله تعالى : وأيدناه بروح القدس [ 2 \ 87 ] ، أي قويناه به ، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطا فاحشا ، والمعنى : والسماء بنيناها بقوة .
قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوما إلا قالوا ساحر أو مجنون ، ثم قال : أتواصوا به ، ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا فقال : بل هم قوم طاغون أي الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعا على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد في الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في الكفر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-03-2023 12:05 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (517)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 443 إلى صـ 450



[ ص: 443 ] وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا ، لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان ، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم .

وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] .
قوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم .

نفيه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة للوم عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه أدى الأمانة ونصح للأمة .

وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله تعالى : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة معلومة .
قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئا لحكم متعددة فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع ، فإنا نذكر بقية حكمه ، والآيات الدالة عليها ، وقد قدمنا أمثلة ذلك .

ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة ، فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير وهي رجاء انتفاع المذكر به ، لأنه تعالى قال هنا : وذكر ، ورتب عليه قوله : فإن الذكرى تنفع المؤمنين .

ومن حكم ذلك أيضا خروج المذكر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله : قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 134 ] .

ومن حكم ذلك أيضا النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه ; لأن الله تعالى يقول : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .

[ ص: 444 ] وقد بين هذه الحجة في آخر " طه " في قوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك [ 20 \ 134 ] .

وأشار لها في القصص في قوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .

وقد قدمنا هذه الحكم في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] .
قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .

اختلف العلماء في معنى قوله : ليعبدون ، فقال بعضهم : المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] ، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان .

وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم .

وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي : " فإن قتلوكم فاقتلوهم " ، من القتل لا من القتال ، وقد بينا هذا في مواضع متعددة ، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر :


فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد
فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي ، هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي .

وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 147 ] ، بدليل قوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .

وقال بعض العلماء : معنى قوله : إلا ليعبدون : أي " إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا [ ص: 445 ] أو كرها " ، لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه ، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ، ويدل له قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها [ 13 \ 15 ] ، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله - جل وعلا - وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعا وبعضهم يفعله كرها .

وعن مجاهد أنه قال : إلا ليعبدون : أي إلا ليعرفوني . واستدل بعضهم لهذا القول بقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، ونحو ذلك من الآيات وهو كثير في القرآن ، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

وقال بعض أهل العلم : وهو مروي عن مجاهد أيضا معنى قوله : إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره ، وعلى هذا القول : فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله : ليعبدون - إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر ، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله ، لا إرادة كونية قدرية ، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن ، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد إلى آخر السورة .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة إلا ليعبدون ، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ، ثم أجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله ، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا ، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم .

قال تعالى في أول سورة هود : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [ 11 \ 7 ] ، ثم بين الحكمة في ذلك فقال : ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .

[ ص: 446 ] وقال تعالى في أول سورة الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .

وقال تعالى في أول سورة الكهف : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .

فتصريحه - جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق ، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، يفسر قوله : ليعبدون . وخير ما يفسر به القرآن - القرآن .

ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا ، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وذلك في قوله تعالى في أول يونس : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] ، وقوله في النجم : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .

وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى ، أي مهملا ، لم يؤمر ولم ينه ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله ، قال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] .

والبراهين على البعث دالة على الجزاء ، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى ، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرا ذلك عليهم في قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] .
تنبيه :

اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما [ ص: 447 ] قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافا ، والواقع خلاف ذلك ; لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضا ، وإيضاح ذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء ، وأنه محيط بكل شيء علما ، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .

وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده ، كقوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] ، ولما قال : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده : الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] .

والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق - كثير جدا في القرآن ، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا الآية [ 25 \ 2 - 3 ] ، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .

وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس ، وذلك في قوله : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .

وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط الآية [ 10 \ 4 ] ، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافا مع أنها لا اختلاف بينها ، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده ، فقوله : لتعلموا أن الله على كل شيء قدير [ 65 \ 12 ] ، [ ص: 448 ] وقوله : اعبدوا ربكم الذي خلقكم [ 2 \ 21 ] راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله ، لأن من عرف الله أطاعه ووحده .

وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، فالتكليف بعد العلم ، والجزاء بعد التكليف ، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف ، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم ، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق ، ودل بعضها على أنها الابتلاء ، ودل بعضها على أنها الجزاء ، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه ، وبعضه مرتب على بعض .

وقد بينا معنى إلا ليعبدون في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] ، وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : ولذلك خلقهم أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم ، وفي قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس [ 7 \ 179 ] إرادة كونية قدرية ، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : إلا ليعبدون ، إرادة دينية شرعية .

وبينا هناك أيضا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسما إلى شقي وسعيد ، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم ، وقال تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، : وقال : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] .

والحاصل : أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك ، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية ، ثم إن الله - جل وعلا - يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة ، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس . وقوله : ولذلك خلقهم ، وبين قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية ، وهي ملازمة للأمر والرضا ، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما ، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المرادة منهم دينا ، ويريد ذلك كونا وقدرا من بعضهم دون بعض ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، [ ص: 449 ] فقوله : إلا ليطاع أي : فيما جاء به من عندنا ، لأنه مطلوب مراد من المكلفين شرعا ودينا ، وقوله : بإذن الله يدل على أنه لا يقع من ذلك إلا ما أراده الله كونا وقدرا ، والله - جل وعلا - يقول : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل ميسر لما خلق له " ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم [ 6 \ 14 ] .
قوله تعالى : فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون .

أصل الذنوب في لغة العرب الدلو ، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو ، فيأخذ هذا منه ملء دلو ، ويأخذ الآخر كذلك ، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب التي هي الدلو على النصيب . قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو :


لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
ويروى :
إنا إذا شاربنا شريب له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبى كان لنا القليب
ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي ، وقيل عبيد :


وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقول أبي ذؤيب :


لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
فالذنوب في البيتين النصيب ، ومعنى الآية الكريمة : فإن للذين ظلموا بتكذيب [ ص: 450 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوبا ، أي نصيبا من عذاب الله مثل ذنوب أصحابهم من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين [ 39 \ 50 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلا يستعجلون قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] ، وفي سورة مريم في الكلام على قوله : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بالويل من يوم القيامة لما ينالهم فيه من عذاب النار - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في " ص " : فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله في إبراهيم : وويل للكافرين من عذاب شديد [ 14 \ 2 ] ، وقوله في المرسلات : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقد قدمنا أن كلمة وويل ، قال فيها بعض أهل العلم : إنها مصدر لا فعل له من لفظه ، ومعناه الهلاك الشديد ، وقيل : هو واد في جهنم تستعيذ من حره ، والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg






ابوالوليد المسلم 17-03-2023 12:19 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (518)
سُورَةُ الطُّورِ .
صـ 451 إلى صـ 458


[ ص: 451 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الطُّورِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ .

هَذِهِ الْأَقْسَامُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْسَمَ بِبَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ ، وَأَقْسَمَ بِجَمِيعِهَا فِي آيَةٍ عَامَّةٍ لَهَا وَلِغَيْرِهَا .

أَمَّا الَّذِي أَقْسَمَ مِنْهَا إِقْسَامًا خَاصًّا فَهُوَ الطُّورُ ، وَالْكِتَابُ الْمَسْطُورُ ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّورِ فِي قَوْلِهِ : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [ 95 \ 21 ] .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَسْطُورَ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنَ الْإِقْسَامِ بِهِ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [ 43 \ 1 - 2 ] ، [ 44 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ 36 \ 1 - 2 ] ، وَقِيلَ : هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ ، وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ .

وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ : هُوَ السَّمَاءُ ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [ 51 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [ 85 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [ 91 \ 5 ] ، وَالرَّقُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ كُلُّ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ صَحِيفَةٍ وَغَيْرِهَا ، وَقِيلَ هُوَ الْجِلْدُ الْمُرَقَّقُ لِيُكْتَبَ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ : مَنْشُورٍ أَيْ مَبْسُوطٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [ 17 \ 13 ] ، وَقَوْلُهُ : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [ 74 \ 52 ] .

وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ : هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْرُوفُ فِي السَّمَاءِ الْمُسَمَّى بِالضُّرَاحِ بِضَمِّ الضَّادِ ، وَقِيلَ فِيهِ مَعْمُورٌ ، لِكَثْرَةِ مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ : " أَنَّهُ يَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَهَا " .

[ ص: 452 ] وَقَوْلُهُ : وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْجُورَ هُوَ الْمُوقَدُ نَارًا ، قَالُوا : وَسَيَضْطَرِمُ الْبَحْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا ، مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [ 40 \ 72 ] .

الْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْمَسْجُورَ بِمَعْنَى الْمَمْلُوءِ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوءٌ مَاءً ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَسْجُورِ عَلَى الْمَمْلُوءِ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :


فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعا مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا
فَقَوْلُهُ : مَسْجُورَةً أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً مَاءً ، وَقَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ :


إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورَةً تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ وَالسَّاسَمَا
وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَعْنَى الْمَسْجُورِ هُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [ 81 \ 6 ] ، وَأَمَّا الْآيَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي أَقْسَمَ فِيهَا تَعَالَى بِمَا يَشْمَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَغَيْرِهَا ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [ 69 \ 38 - 39 ] ، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ الذَّارِيَاتِ ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون .

الدع في لغة العرب : الدفع بقوة وعنف ، ومنه قوله تعالى : فذلك الذي يدع اليتيم ، أي يدفعه عن حقه بقوة وعنف ، وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين :

أحدهما : أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة .

والثاني : أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخا وتقريعا : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .

وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات أخر ، أما [ ص: 453 ] الأخير منهما ، وهو كونهم يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] ، وقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله في السجدة : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 32 \ 20 ] ، وقوله في سبأ : فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون [ 34 \ 42 ] ، وقوله تعالى في المرسلات : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأما الأول منهما وهو كونهم يدفعون إلى النار بقوة فقد ذكره الله - جل وعلا - في آيات من كتابه كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم [ 44 \ 47 ] ، أي جروه بقوة وعنف إلى وسط النار . والعتل في لغة العرب : الجر بعنف وقوة ، ومنه قول الفرزدق :


ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل
وقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [ 55 \ 41 ] ، أي تجمع الزبانية بين ناصية الواحد منهم ، أي مقدم شعر رأسه وقدمه ، ثم تدفعه في النار بقوة وشدة .

وقد بين - جل وعلا - أنهم أيضا يسحبون في النار على وجوههم في آيات من كتابه كقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] ، وقوله تعالى : الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 70 - 72 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة " يوم يدعون " - بدل من قوله " يومئذ " في قوله تعالى قبله : فويل يومئذ للمكذبين [ 52 \ 11 ] .
قوله تعالى : اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار معذبون في النار لا محالة ، سواء صبروا أو لم يصبروا ، فلا ينفعهم في ذلك صبر ولا جزع ، وقد أوضح هذا المعنى في قوله : قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص [ 14 \ 21 ] .
[ ص: 454 ] قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين . ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس ، وقد بين تعالى في آيات أخر أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم ، وذلك في قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين [ 74 \ 38 - 41 ] .

ومن المعلوم أن التخصيص بيان ، كما تقرر في الأصول .
قوله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون .

لم يذكر هنا شيء من صفات هذه الفاكهة ولا هذا اللحم إلا أنه مما يشتهون ، وقد بين صفات هذه الفاكهة في مواضع أخر كقوله تعالى : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] ، وبين أنها أنواع في مواضع أخر كقوله : ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 2 ] ، وقوله تعالى : أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون [ 37 \ 41 - 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ووصف اللحم المذكور بأنه من الطير ، والفاكهة بأنها مما يتخيرونه على غيره ، وذلك في قوله : وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 20 - 21 ] .
قوله تعالى : يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم .

قرأه ابن كثير وأبو عمرو : " لا لغو " بالبناء على الفتح ، " ولا تأثيم " كذلك لأنها " لا " التي لنفي الجنس فبنيت معها ، وهي إن كانت كذلك ؛ نص في العموم ، وقرأه الباقون من السبعة لا لغو فيها ولا تأثيم بالرفع والتنوين . لأن لا النافية للجنس إذا تكررت كما هنا جاز إعمالها وإهمالها ، والقراءتان في الآية فيهما المثال للوجهين ، وإعمالها كثير ، ومن شواهد إهمالها قراءة الجمهور في هذه الآية ، وقول الشاعر :


وما هجرتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل
وقوله : يتنازعون فيها كأسا : أي يتعاطون ، ويتناول بعضهم من بعض . " كأسا " أي خمرا ، فالتنازع يطلق لغة على كل تعاط وتناول ، فكل قوم يعطي بعضهم بعضا شيئا [ ص: 455 ] ويناوله إياه ، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب .

ومنه في الشراب قول الأخطل :


وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة السار
فقوله : نازعته طيب الراح : أي ناولته كئوس الخمر وناولنيها ، ومنه في الكلام قول امرئ القيس :


ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
والكأس تطلق على إناء الخمر ، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء ، وهي مؤنثة ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا لغو فيها ولا تأثيم يعني أن خمر الجنة التي يتعاطاها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، فخمر الآخرة لا لغو فيها ، واللغو كل كلام ساقط لا خير فيه ، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان ، لأنها لا تؤثر في عقولهم بخلاف خمر الدنيا ، فإنهم إن يشربوها سكروا وطاشت عقولهم ، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان ، وكل ذلك من اللغو .

والتأثيم : هو ما ينسب به فاعله إلى الإثم ، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها ، لأنها مباحة له ، فنعم بلذتها كما قال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين [ 47 \ 15 ] ، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثما بخلاف خمر الدنيا ، فشاربها يأثم بشربها ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] ، وقوله : لا فيها غول : أي ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا . ولا هم عنها ينزفون : أي لا يسكرون ، وكقوله تعالى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] ، [ ص: 456 ] وقوله : لا يصدعون أي لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها .

وقد أوضحنا معنى هذه الآيات في صفة خمر الآخرة ، وبينا أنها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، وذكرنا الشواهد العربية في ذلك في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] .
قوله تعالى : ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة يطوف عليهم " غلمان " جمع غلام ، أي خدم لهم ، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم [ 15 \ 53 ] .

ولم يبين هنا ما يطوفون عليهم به ، وذكر هنا حسنهم بقوله : كأنهم لؤلؤ مكنون في أصدافه ، لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه ، وقيل : " مكنون " أي مخزون لنفاسته ، لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن .

وبين تعالى في الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين [ 56 \ 17 - 18 ] ، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين ، وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله : يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب [ 76 \ 15 - 16 ] ، وقوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا [ 76 \ 15 - 16 ] .

والظاهر أن الفاعل المحذوف في قوله : ويطاف عليهم في آية الزخرف والإنسان المذكورتين هو الغلمان المذكورون في الطور والواقعة ، وذكر بعض صفات هؤلاء الغلمان في الإنسان في قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .
قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا ، وأن [ ص: 457 ] المسئول عنهم يقول للسائل : إنا كنا قبل أي في دار الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله ، ونحن بين أهلنا أحياء " فمن الله علينا " أي أكرمنا ، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم ، والسموم النار ولفحها ووهجها ، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام ، والجمع سمائم . ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :


أنامل لم تضرب على البهم بالضحى بهن ووجه لم تلحه السمائم
وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد ، ومنه قول الراجز :

اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه الفاء في قوله : فمن الله علينا تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة منه في الآخرة - يفهم من دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته : أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحا في غير هذا الموضوع . فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة ، وذلك في قوله : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور الآية [ 84 \ 10 - 14 ] .

وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله : إنه كان في أهله مسرورا علة لقوله : فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا .

والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف ، ويؤيد ذلك قوله بعده : إنه ظن أن لن يحور ؛ لأن معناه : ظن أن لن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة ، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب ، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء . وكون " لن يحور " بمعنى لن يرجع - معروف في كلام العرب ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي :

[ ص: 458 ]
أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فقوله : فلا تحوري ، أي فلا ترجعي .

وقول لبيد بن ربيعة العامري :


وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد ما هو ساطع
أي يرجع رمادا ، وقيل : يصير ، والمعنى واحد .

وقوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون الآية [ 56 \ 41 - 47 ] ، لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله : مترفين ، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله : أئذا متنا وكنا ترابا الآية - دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا ، وهو علة كونهم في سموم وحميم .

وقد قدمنا قريبا أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الآية - علة لقوله : في سموم وحميم الآية .

وقد ذكر - جل وعلا - أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة ، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه ، قال تعالى في المعارج : والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون إلى قوله : أولئك في جنات مكرمون الآيات [ 27 \ 35 ] ، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 57 - 61 ] ، وقد قال تعالى : والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] .

وقوله في آية الواقعة المذكورة : وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير ، كالشرك وإنكار البعث ، وقيل : المراد بالحنث حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





الساعة الآن : 01:22 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 894.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 892.81 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.20%)]