رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم نسيان النذر السؤال امرأة نذرت ونسيت نوع النذر الذي نذرته، ما هو السبيل لإبراء الذمة من هذا النذر؟ الجواب هذا النذر إذا كانت لا تعرف منه شيئا، ولا تتذكر منه شيئا، فالحكم أنها ليست بمكلفة، وليس هناك نذر أصلا حتى تعلمه وتعرفه ثم تلزم به، فلا إلزام بالمجهول، أما إذا كانت تعرف أصل النذر، وتقول: أنا نذرت نذر صدقة نذرت نذر صيام نذرت نذر صلاة، فإذا كانت تعرف أصل النذر، فتطالب بأقل ما يصدق عليه ذلك الأصل. فإذا قالت: أنا نذرت نذر صدقة، لكني لا أعلم بكم أتصدق، نقول لها: تصدقي بأقل ما يسمى صدقة، إذا قالت: نذرت أن أذبح ولا أتذكر هل نذرت أن أذبح شاة، أو بقرة، أو ناقة، نقول: تذبحين أقل ما يقوم به الذبح، وهو الشاة، فتأخذ بالأقل إذا كانت عرفت نوع النذر، ولم تستطع أن تحدد قدره، والله تعالى أعلم. حكم ترك الصلاة من الكبير العاجز السؤال امرأة كبيرة في السن ومريضة، ولا تستطيع أن تقوم عن السرير، ولا تتذكر أذكار الصلاة، وإذا علمت تنسى، فما الحكم فيما لو تركت الصلاة؟ الجواب إذا غيبت بالكلية، وأصبحت لا تعي؛ فإنها غير مكلفة، إنما تكون المرأة ويكون الرجل مكلفا إذا كان يعقل، أما إذا نسي، وأصبح عنده فقدان للذاكرة، أو أصبح مضيعا لا يستطيع أن يتذكر شيئا، وإذا صلى لا يعرف كيف يصلي، أو يصلي بعض الصلاة، ويتلاعب ويضيع بعضها، ونحو ذلك مما يدل على أنه لم يعد مدركا؛ فإنه لا تكليف عليه، والله تعالى أعلم. حكم الصلاة بدون وضوء نسيانا السؤال صليت الفجر بدون وضوء، ولم أتذكر إلا بعد صلاة العصر، فما هو الواجب علي؟ الجواب أما صلاة الفجر فإنها لا تصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، فيلزمك أن تعيد صلاة الفجر، وأما صلاة الظهر والعصر فلا تصح واحدة منهما إلا بعد أن تبرئ ذمتك من الفجر، لأن الترتيب مشترط؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] . فلا تصح الظهر وصلاة الفجر باطلة، بل عليك أن تصلي الظهر بعد الفجر، فيلزمك قضاء الفجر، ويلزمك قضاء الظهر والعصر مرتبة على الصفة الشرعية، وأنت مأجور على كل حال، والله تعالى أعلم. حكم الإفطار بدون عذر في صيام النافلة السؤال ما حكم من أفطر عمدا في صيام النافلة؟ الجواب إذا أفطر متعمدا في صيام النافلة فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه) ، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يزهد في الخير، بل عليه أن يكون حريصا على الطاعة والبر، وليعلم أنه إذا أفطر باختياره في النافلة فإنه قد حرم خيرا كثيرا؛ فإن هذا اليوم لا شك أنه لو وفق لصيامه كان أعظم لأجره وأرضى لربه سبحانه وتعالى. فمع كونه أميرا لنفسه، فالأفضل والأكمل أن لا يبطل عمله؛ لأن الله تعالى يقول: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] ، فالأفضل والأكمل أن يتم الطاعة، وأن يمضي فيها ما لم يجد طاعة أفضل منها، أو يجد خيرا أرضى لله عز وجل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (إني والله لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) ، فإذا كان هذا في اليمين، فكيف في الأمور التي هي دون ذلك، وليست بملزمة كإلزام اليمين، والله تعالى أعلم. العلة في جرد عروض التجارة وخرص النخل عند إخراج الزكاة السؤال النخل يقدر بالخرص، وعروض التجارة لا بد لها من جرد، وذلك في إخراج الزكاة، فهل هناك علة، أم أن الأمر تعبدي؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهناك فرق كبير بين النخل وبين عروض التجارة، فثمر النخل لا تستطيع أن تعرف قدره إلا إذا أخرجته من العرق، وإذا أخرجته من العرق فقد تريده تمرا، والوقت الذي يراد تقدير الزكاة فيه هو عند بدو الصلاح، وعند بدو الصلاح لا يمكن قطفه. فإذا متعذر أن تعرف الحقيقة لذلك الشيء الذي تريد زكاته، فلما تعذر أن تعرف قدر كيله انتقل إلى الخرص والتقدير، وهذا السنة به ثابتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى نخل خيبر قبل وفاته؛ لأنه جعل خيبر بينه وبين اليهود نصفين، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها. فكان يخرصها حتى يعرف ما الذي لهم، وما الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فاعتبر التقدير، والقاعدة أنه لا يصار إلى التخمين والتقدير عند القدرة على اليقين، فإذن القدرة على اليقين متعذرة فينتقل إلى غالب الظن، والشريعة تتعبد المكلفين بغالب الظن، فغلبة الظن في البصير الحاذق الخارص الذي له خبرة ومعرفة أنه يصيب. وهذا شيء رأيناه بأعيينا، والله إن الرجل كان يأتي إلى مزرعة الوالد رحمه الله، ويقول: هذه النخلة خرصها كذا، فما تزيد ولا تنقص بقدرة الله عز وجل، وتأتي بالرجلين لهما خبرة في خرص النخل أحدهما من جهة، والثاني من جهة، ويقفان تحت النخلة، ويقول الأول: هذه بين كذا وكذا، ويأتي الثاني لا يعلم ما الذي قاله الأول فيقدر قريبا مما قاله الأول، ويأتي الثالث ويقدر قريبا مما قدر الثاني، وهذا كله احتياطا من الوالد رحمه الله من أجل أن يعرف القدر ويحتاط بالأكثر، لكن الشاهد أنك تجد الثلاثة كلهم يتفقون، ولم يعلم أحد منهم بما قاله الآخر. هذه قدرة من الله سبحانه وتعالى جعلها في الإنسان، قد تجد الشخص منذ نعومة أظفاره وهو تحت الشجر، يعرف الثمر، ويعرف خرصه، ويعرف تقديره، فمن حيث الأصل فالخرص حجة ومعمول به، وقد أجازته الشريعة في الزكوات، وأجازته في تقدير الحقوق، وفي المساقاة، وفي المزابنة حينما أجاز بيع التمر على رءوس النخل يؤخذ بخرصه تمرا، كل هذا لأن الغالب فيه الصواب. أما بالنسبة لعروض التجارة فهي موجودة بين يديك، يمكن أن تقدرها، ويمكن أن تجري فيها الصاع، وتعرف قدرها كيلا، وتعرف قدرها وزنا. فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، فلا يمكننا أن نصير إلى الحدس والتخمين في عروض التجارة مع إمكان الجرد، ولذلك من الخطأ ما يفعله بعض التجار أنه يستثقل جرد المحل بأكمله، ووالله لو أنه أراد شيئا من مصالح تجارته لجرده قطعة قطعة، ولم يتعذر عليه ذلك، بل تجده يعرف القليل والكثير ويحسب ذلك حسابا دقيقا. ولكن إذا كان للطاعة وللبر وللخير فهذا شيء آخر، ولذلك لا ينبغي التساهل مع الناس في هذا، ولا ينبغي التلاعب بالفتوى، يجب على التاجر أن يجرد بضاعته. وهناك أمور نفسية نريد زرعها في التجار، التاجر إذا احتاج إلى يوم أو يومين أو ثلاثة أيام لجرد محله فلا يضره أن يغلق محله الثلاثة الأيام، ويشعر أنه في عبادة. وكما أنه يريد تجارة الدنيا فهناك تجارة للآخرة، فتصبح النفوس ليست معلقة طيلة أيام العام بالدنيا وأمور التجارة، يحس عنده العامل، ويحس عنده التجار، ويحس كل موظف عنده في هذه التجارة أن للشرع سلطانا على أموال الناس، وعندها يشعر الإنسان بتقوى الله عز وجل. وهذه أمور مهمة جدا، فليست القضية قضية زكاة وقدرها، فهذه وإن كانت مهمة، ولكن هناك قضية أهم وهي تقوى الله عز وجل {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج:37] ، فإذا شعر الناس أنهم يعاملون الله سبحانه وتعالى، وأنهم مع الله عز وجل، وأن التاجر يحاسب على الصغيرة والكبيرة لمعرفة حق الله الذي وجب عليه، فعندها تكون تقوى الله عز وجل. أما إذا أصبح يخمن، ويتلاعب بحق الله عز وجل، فهذا أمر لا شك أنه مخالف لشرع الله الذي أوجب عليه أن يعطي المسكين ومن سمى من أهل الزكاة، حقوقهم من ماله الذي استخلفه الله فيه، والله تعالى أعلم. مدى تعارض الصيام مع طلب العلم السؤال طالب علم عندما يصوم صيام نافلة فإنه يتعطل عن أمور منها طلب العلم، فهل يترك الصيام لكي يقوى على الطلب وقراءة القرآن، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ الجواب في الحقيقة بالنسبة للصيام، صيام النافلة نوعان: الصيام المقيد، كصوم الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر والأيام البيض على القول بأنهما نوعان من الصوم، هذه لا ترهق طالب العلم إرهاقا يشغله عن طلب العلم. فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في وصف هذه الأمور أنها تعيق عن طلب العلم، بل إنها تعين على طلب العلم، وليعلم طالب العلم أن سرور الدنيا وبهجتها، وأن أنسه كله في طلب العلم مقرون بالعبادة، وإذا أردت أن ترى طالب العلم في أكمل صوره وأجمل أحواله فانظر إليه في العلم والعمل. الصيام عمل بالعلم، وقيام الليل عمل بالعلم، وكثرة تلاوة القرآن عمل بالعلم، فينبغي على طالب العلم دائما أن لا يفرق بين علمه وعمله، فهما مقترنان، لكن إذا جاءت أحوال خاصة وأمور خاصة، فلا بأس بالنظر في الأولى منهما، وهذه المسائل أصبحت كثيرا ما تطرح، ويقعد فيها ويفصل، وهي مسائل واضحة لا تحتاج إلى إشكال. الصحابة رضوان الله عليهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذون من سنته وهديه وسمته ودله -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وهم في أعلى الدرجات في طلب العلم، وفي أعلى درجات التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا في صيام وقيام وجهاد في سبيل الله، لا في صيام وقيام فقط، بل وجهاد في سبيل الله في ساعة عسرة، ولذلك زكاهم الله عز وجل -لتلك الأمور- من فوق سبع سماوات، وأثنى عليهم، ورضي عنهم وأرضاهم سبحانه وتعالى. هذا كله ما ضرهم، بل جعلهم في أحسن الأحوال وأتمها وأكملها، ولن يسعنا إلا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفوس إذا جعلت بينها وبين العبادة والطاعة عوائق فإن الله سبحانه وتعالى يبتليها دائما، وخذها قاعدة، إذا نويت قيام الليل بعد سهر معقول في طلب العلم، ونمت على تلك النية وهيأت نفسك، فعند ذلك تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، ويأتيك التوفيق والسداد، وترشد وتصيب الخير من أمورك على أتم الوجوه وأكملها. والعكس بالعكس، فإذا تخاذل طالب العلم وقال: أنا إذا صمت لا أستطيع أن أحفظ، وأنا إذا قمت لا أستطيع أن أقوم، فإنه يختلق لنفسه أمورا قد يكون في عافية منها. فأحسن الظن بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد يقول: (يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيرا كان له) . والله إن أسعد أيام العمر في طلب العلم كانت الأيام التي يكون فيها الإنسان على أتم الوجوه وأكملها في قيام الليل وصيام النهار، ولن تجد والله في الصيام إعاقة، بل الصيام يعين على كل خير وبر، فلذلك قال عبد الله بن مسعود: (من سعادة العبد كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة العلماء) . فلا بد من اقتران العبادة بالعلم؛ فاجتهد رحمك الله في أن تصيب الخير على أتم الوجوه وأكملها مستعينا بالله، واثقا محسنا الظن بالله عز وجل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمورنا رشدا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تفسير قوله تعالى: (رب إني نذرت ... ) السؤال ما معنى قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررا} [آل عمران:35] ، هل هو من قبيل حبس الذرية على الطاعة والعبادة؟ الجواب ليس هو النذر على حقيقته المعروفة بحبس الذرية من كل وجه، إنما المراد بذلك الاصطفاء للطاعة والخير والبر، كما ذكره بعض أئمة التفسير رحمهم الله، والأصل أن الإنسان إذا رزق الذرية أن يجتهد في إصلاحها وإقامتها على طاعة الله عز وجل. فهي تعبر بما يكون من أمرها؛ أن هذه الذرية ستكون لله سبحانه وتعالى، ومن لازم ذلك العناية بتنشئتها على الخير، ومحبة الله ومرضاته، فكأنها التزمت بأنها تقوم بحق الله عز وجل في ولدها وذريتها، والله تعالى أعلم. حكم دخول الواقف ضمن من أوقف عليهم السؤال من أوقف وقفا للفقراء والمساكين، ثم أصبح الواقف فقيرا بعد سنوات، فهل يجوز له الارتفاق بهذا الوقف لدخوله ضمن هذا الوصف؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أوقف على غيره فإنه لا يدخل في ذلك الغير ولو تحققت فيه صفته، وقال بعض العلماء: إنه يمكن أن يدخل أحد من ذريته لكن هو لا يدخل، ومن حيث الأصل، الأورع أنه لا يدخل هو ولا ذريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني) . ووجه هذا الحكم أنه حينما قال: أوقفت هذه الدار على الفقراء، ولم يجعل له نصيبا ولا لذريته؛ فهم من ذلك أنه لا حظ له مطلقا سواء تحقق فيه هذا الوصف أو لم يتحقق. وبناء على ذلك فإن الأشبه والأولى أنه لا استحقاق له فيه، والله تعالى أعلم. حكم اقتطاع جزء من أرض موقوفة لمسجد لبناء سكن للإمام السؤال إذا أوقف شخص أرضا محددة لتكون مسجدا، فهل يجوز بناء مسكن للإمام والمؤذن داخل هذه الأرض أم أن جميع مساحتها تكون مسجدا؟ الجواب من حيث الأصل أن من أوقف الأرض كاملة للمسجد فإنها تبقى وقفا على المسجد؛ لأنه قصد أن تكون محلا للصلاة والعبادة، وإذا أراد أن يبني للإمام أو للمؤذن موضعا فلا بأس بذلك، فيخص قطعة من المسجد قبل أن يوقف كل المسجد، أو يقول في هذا المسجد: إن ثلثي أرضه مسجد، والثلث الثالث يكون نزلا للإمام، أو يكون مرافق تابعة للمسجد. فهذا من حق الواقف، أما من حيث الأصل فإنه إذا أوقف الكل فالكل وقف، ويبقى وقفا تاما شاملا لجميع الأرض، إلا أن بعض مشايخنا في الأزمنة المتأخرة -في حالة وجود الحاجة إلى قرب الإمام من المسجد-، يفتي أو يخفف في انتزاع قطعة من المسجد سكنا للإمام؛ لأن هذا يحقق المقصود من جماعة المسجد، وحصل نقاش في هذه المسألة بين بعض المشايخ المتأخرين رحمهم الله، وكان البعض يستمسك بالأصل وهو أن الأرض كلها وقف، ولا ينبغي صرف شيء منها إلى غير ذلك. وهذا لا شك أنه من حيث الأصل أقوى دليلا وألزم، والذين يفتون بجواز أن يقتطع منها جزء لإمام المسجد ونحو ذلك، فهذا مبني على شيء قرره بعض العلماء رحمهم الله، وهو أنه يجوز التعرض لبعض الوقف لاستصلاح كل الوقف. وهذه المسألة هي المسألة المشهورة: يجوز إتلاف بعض الوقف لاستبقاء باقيه، واستدلوا بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإنه كسر لوح السفينة حتى تنجو السفينة كاملة، فقالوا: إذا تعطلت مصالح الوقف وأصبح لا سبيل إلا أن يؤخذ شيء من الوقف فلا بأس بذلك. وألحق بهذه المسألة مسألة الإمام، قالوا: لأن الإمام إذا لم يكن قريبا من المسجد ستتعطل مصالح الإمامة، وهذا ليس على كل حال، أما في بعض الأحيان فنعم، وفي بعض الأحيان لا؛ لأن الفرض في الإمام أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يكون إماما إلا وهو يستشعر أنه محافظ على صلواته محافظ على حدوده. ولذلك إذا ارتبط الشخص بمهمة أو عمل تجده يحضر لها من مئات الكيلومترات؛ لأنه يشعر بالمسئولية ويشعر بالأمانة، فلا شك من حيث الأصل أن القول الأول أشبه وأقوى وأورع، وأنه إذا أوقفت كاملة فليس من حق أحد أن ينتزع منها شيئا إلا لما خصصت له، والأولى شراء قطعة أرض يبنى عليها منزل للإمام بجانب الأرض الموقوفة. ثم كان بعض مشايخنا الذين يمنعون من قطع جزء من الأرض ما دام أنها موقوفة كلها يقول: إنه لو قلنا بفتوى من يجيز إتلاف البعض لاستبقاء الكل فليست منطبقة على هذا من كل وجه؛ لأنه لا يكون ذلك إلا إذا كان المسجد في موضع لا يتأتى فيه سكن للإمام بجواره، وهذا ليس على كل حال. فإذا تحتاج المسألة إلى تحرير، أما كقاعدة وكأصل، فالأصل يقتضي أنه إذا أوقفت الأرض كاملة على مسجد أو مدرسة أو أي سبيل من سبل البر؛ فإن جميع الأرض مستحقة لهذا السبيل ولا يجوز صرفها عنه إلا في الأحوال المستثناة التي سيأتي إن شاء الله بيانها، والله تعالى أعلم. حكم التصرف في بعض الوقف لمصلحة الوقف السؤال رجل لديه إبل، وأوقف لبنها على الفقراء والمساكين، وعجزت ذريته من بعده عن نفقة هذه الإبل وإطعامها، فهل يبيعون شيئا من لبنها لشراء علفها وما فيه إصلاح لشأنها؟ الجواب في الحقيقة مسائل الوقف ينبغي أن يعلم أنها ألصق بالقضاء منها بالفتوى، لا بد من الرجوع إلى القاضي في مسائل الوقف؛ لأن الوقف أمره أضيق من غيره، والسبب في هذا ملكية الوقف، فالواقف نفسه لا يملك وقفه؛ لأنه بمجرد ما أوقف خرجت عن ملكيته، فيحتاج الأمر إلى حكم القاضي، فالقاضي له ولاية شرعية؛ فإذا نظر ووجد المصلحة في بيع شيء من الأوقاف فإنه يباع أو يصرف؛ فهذا أمر مرده إلى القضاء. أما من حيث الفتوى فهذا إذا لم يوجد القضاء، إذا أوقف غلتها أو ركوبها وظهرها، فالأصل أن يبقى الوقف على ما هو عليه، وعلى الوارث أن يبر مورثه وأن يحتسب الأجر ما أمكنه، إلا إذا وصل الأمر إلى شيء فوق طاقته، فيرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي يحكم بما يراه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (393) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [5] الوقف عقد من العقود اللازمة التي لا يجوز فسخها بأي حال من الأحوال لانتفاء الملكية عن الموقف، ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه وبحكم من القاضي، ولا يصرف ثمنه إلا فيما يشابه الموقوف ويماثله. أنواع العقود بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن من أهم الأحكام التي تتعلق بالوقف بيان لزومه، وأن من صدر منه الوقف على وجه صحيح معتبر شرعا فإنه ملزم بهذا الوقف، ولا يجوز له الرجوع عن هذا الوقف، ومن هنا شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان حكم عقد الوقف، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله يبحثون في العقود مسألة نوعية العقد، فهناك عقود إذا صدرت من المكلف فإنه يلزم بها شرعا، وليس له الخيار في الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني. من أمثلة ذلك: البيع والإجارة، فإذا باع شيئا وتم البيع على الوجه المعتبر، فليس من حق البائع أن يرجع، ولا من حق المشتري أن يرجع إلا إذا تراضى الطرفان، واتفقا على الرجوع برضا منهما. هذا النوع يوصف باللزوم، فحقيقة العقد اللازم عند العلماء: هو العقد الذي لا يملك فيه أحد الطرفين الرجوع عنه إلا برضا الطرف الثاني، وهناك نوع من العقود جائز، ويمكن لكل واحد من الطرفين أن يرجع ولو لم يرض الطرف الآخر، فلو نظرنا إلى بعض العقود التي سامحت فيها الشريعة كالهبة والعطية؛ فإنها ليست بلازمة ما لم تقبض، فلو قال له: وهبتك سيارتي، فقال: قبلت، فهذا يسمى عند العلماء عقد هبة، لكن إذا لم يعطه السيارة ولم يستلمها فله الحق في الرجوع، وسنبين هذه المسألة إن شاء الله. وفي الصدقة إذا قال: تصدقت عليك بمائة دينار، أو مائة ريال، أو بألف، وقال الآخر: قبلت. فهذا عقد صدقة، ولكن لو لم يعطه الصدقة، ولم يقبضها؛ فله الحق أن يرجع، وللطرف الثاني -المسكين، أو الموهوب له- الحق أن يقول: قبلت، ثم يقول: لا أريد، فليس بملزم بقبولها، ولا بقبول العطية. وهذا النوع يسمى: العقد الجائز، وجوازه للطرفين. وهناك عقود وسط بين هذين النوعين، تلزم أحد الطرفين ولا تلزم الطرف الآخر، كالجعل، وتقدم معنا أن رجلا لو قال: من وجد سيارتي الضائعة أعطيته ألف ريال، فإنه من حقه أن يرجع عن هذا الكلام الذي قاله، فلو قال شخص: قبلت فسأبحث لك عنها، فإن وجدتها فلي ألف ريال. فاتفق الطرفان ثم رجع الرجل الأول، أو رجع الرجل الثاني، كل منهما له حق الرجوع، ما لم يجد السيارة فيكون الطرف الجاعل ملزما بدفع الجعل، فتلزم الجعالة الجاعل دون المجعول له، فلو قال شخص هذه المقالة: من وجد سيارتي، أو إذا عالجت لي هذا الممسوس، وقرأت عليه ورقيته أعطيك ألفا؛ فإن من حقه أن يرجع عن هذا الجعل إذا اتفقا. لكن لو شرع الراقي وأمضى وقتا أو جهدا كما تقدم معنا؛ فإنه لا يملك الجاعل الرجوع إلا برضا الثاني ما لم يعطه حقه واستحقاقه في تعبه في الوقت الذي فات عليه ما بين العقد وما بين الفسخ. إذا هناك عقود تلزم الطرفين، وعقود تلزم أحد الطرفين دون الآخر، وعقود لا تلزم الطرفين ألبتة. هذا من حيث أنواع العقود. الوقف عقد لازم لا يجوز فسخه الوقف من العقود التي تلزم الواقف ولا يملك الرجوع عنه، فلو قال: أوقفت داري هذه على المساكين، فإنه إذا صدر الوقف على الوجه المعتبر لم يملك الواقف الرجوع عن وقفه، وليس من حقه أن يبطل هذا الوقف إذا تم صحيحا معتبرا شرعا. ولذلك قال المصنف: [والوقف عقد لازم] الوقف عقد، وقد تقدم أن العقد ربط أجزاء التصرف. وربط أجزاء التصرف يكون بالإيجاب والقبول، مثل: أوقفت داري عليك، فقال: قبلت، فهذا عقد وقف، فإذا تم عقد الوقف على الوجه المعتبر شرعا فإنه لازم، وقد أجمع العلماء من حيث الجملة على أن الوقف عقد لازم، والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه - عمر بن الخطاب رضي الله عنه- في قصته حينما أوقف بستانه بخيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن شئت حبست الأصل، وتصدقت بالثمرة، غير أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) . فإذا تأملت قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالصدقة التي خرجت منه، ونقل ملكيتها عنه، بدليل أنه لم يصحح بيعها بعد ذلك، ولا هبتها ولا أي تصرف فيها، فقال: (غير أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث) . فقوله: (لا يباع ولا يوهب) ، وهذا تصرف في الحياة، (ولا يورث) لما يكون بعد الموت، وبناء على ذلك فإنه ألزمه بما يصدر منه من الوقفية، فدل على أن عقد الوقف لازم. فالعلماء مجمعون على هذا، لكن هناك خلاف عند بعض أهل العلم رحمهم الله حيث قال: يجوز للواقف أن يرجع عن وقفه بشرطين: الشرط الأول: ألا يقضي قاض بهذا الوقف. والشرط الثاني: ألا يكون وصية بعد الموت. فإذا أوقف دارا أو مزرعة ولم يجعلها كوصية، وقبل أن ترفع إلى القاضي فيحكم بالوقفية، فإن من حقه أن يرجع، وهذا القول هو قول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ويحكيه العلماء -ولا أعرف له سندا صحيحا- عن علي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، لكن المشهور أن الذي خالف في هذه المسألة هو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أما جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله فإن الوقف عندهم لازم مطلقا، لا يملك الواقف الرجوع عنه. والذين قالوا: إنه من حقك أن ترجع عن الوقف ما لم يقض به القضاء، أو يكن وصية، استدلوا بحديث عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب الأذان رضي الله عنه وأرضاه أنه تصدق ببستان، ثم جعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: جعل النظر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالا: يا رسول الله إنه لا مال لنا، أو لا طعمة لنا إلا من هذا البستان، وقد تصدق به، فرد عليه الصلاة والسلام صدقته وجعلها لوالديه. وهذا الحديث رواه المحاملي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وقفية عبد الله بن زيد رضي الله عنه لمزرعته، فدل على أن الوقف ليس بلازم، وأن من حقك أن ترجع عن الوقف، ورد الجمهور بأن هذا الحديث على فرض صحته فيه إشكالان، الإشكال الأول أنه قال: تصدق، والرواية (جعله صدقة) ، والصدقة غير الوقف؛ لأن الصدقة قد تكون من الإنسان تبرعا لا يقصد به الوقفية بل يقصد فيه مطلق الهبة. والإشكال الثاني وهو الأقوى في الجواب أن الحديث نفسه فيه: (وجعل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فمعناه أنه جعل إمضاء هذه الصدقة على هذا الوقف مشروطا بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبته صدقة، ولم يبته وقفا؛ لأنه معلق على رضاه، وحينما اشتكى له والداه صرفه عليه الصلاة والسلام إلى والديه، ولذلك ورث البستان من بعد ذلك كما جاء في الرواية. هناك أجوبة أخرى لكن في الحقيقة لا يقوى هذا الحديث على معارضة الحديث الذي معنا. فإن قال قائل: إننا قدمنا أن لفظ (تصدقت) يعتبر من ألفاظ الوقف، فالجواب عنه: أن اللفظ جاء في الحديث وصفا ولم يأت وقفية، ولذلك قال: (جعلها صدقة) ، وفرق بين أن يكون من كلام عبد الله بن زيد (جعلتها صدقة) وبين أن يحكى أنه تصدق بها، فهناك فرق بين اللفظين، ومن هنا يقوى مذهب جماهير السلف والخلف أن الوقف لا يملك صاحبه الرجوع عنه، وأنه إذا صدر على الوجه المعتبر شرعا فإن العقد به لازم. قال رحمه الله: [والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه] فقوله رحمه الله: (لا يجوز فسخه) الفسخ: الإزالة، وقد تقدم معنا أن فسخ العقود إبطال لها، وأننا إذا حكمنا بفسخ البيع فقد أبطلناه، وإذا أبطلناه أوجب هذا الحكم أن نرد الثمن للمشتري، والمثمن للبائع، هذا بيناه فيما تقدم معنا في البيع. ولذلك قال رحمه الله: (والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه) : أي لا يجوز للقاضي أن يفسخ وقفا إذا ثبت على الوجه المعتبر، ولا يجوز للشخص نفسه أن يحكم بأن وقفه باطل، وأنه لا يعتد به، ما دام أن الوقف صحيح، ولا يجوز له أن يستحل من هذا الوقف ما لا يستحل من الأوقاف باسم أنه مفسوخ أو أنه باطل، كأن يقول: هذا الوقف أبطلته أو فسخته، أو مزرعتي التي أوقفتها رجعت عن وقفيتها أو أبطلت وقفيتها أو فسخت وقفيتها. وكل هذا شرطه أن يكون الوقف قد استجمع الصفات المعتبرة شرعا للحكم بصحته ولزومه واعتباره شرعا، كل هذا إذا ثبت في الوقف فلا يجوز فسخه، وإذا قيل: لا يجوز فسخه فمعناه أنه لو قضى قاض بأن هذا الوقف فاسد وفسخه، دون أن يكون عنده مبرر شرعي للفسخ؛ فإن قضاءه لاغ، والحكم به باطل ويأثم شرعا. وكذلك الواقف لو قال: مزرعتي التي أوقفتها أبطلت وقفيتها، فيا أبنائي خذوها أو اقسموها ميراثا، فإنه قد انتهك حدود الله، واستحل ما حرم الله عز وجل عليه، فقوله: (لا يجوز فسخه) ، أي لا يجوز الفسخ لا من الواقف، ولا من أي شخص. لكن هناك استثناءات في مسألة المناقلة في الوقف، وهذه مسألة مستثناة فنبين أن لها ضوابط، وأنها جائزة عند الضرورة والحاجة. حكم بيع الأوقاف قال المصنف رحمه الله: [ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه] قوله رحمه الله: (ولا يباع) أي: لا يجوز بيع الوقف، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر رضي الله عنه: (غير أنه لا يباع) ، وهذا الحديث نص صريح في تحريم بيع الوقف، وأن الوقف مؤبد لا يجوز لأحد أن يبيعه بعد صدور الوقفية، لكن إذا وجدت الحاجة والضرورة فهذه مسألة مستثناه، ولا تعارض هذا الأصل. ولذلك كالميتة فإنها محرمة، لكن إذا وجدت الضرورة حلت، وإباحتها وحلها عند الضرورة لا يقتضي أنها مباحة في الأصل. فقوله: (لا يباع) أي: لا يجوز بيعه، فلا يجوز بيع الأوقاف بإجماع العلماء رحمهم الله كما جاء في الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع) ، وفي رواية: (ولا يبتاع) ، أي لا تبيعه ولا تشتريه، إلا إذا قضى القاضي بجواز بيعه. وما دمنا أننا قد عرفنا أن الأثر قد دل على أن الوقف لا يباع، فما هو الدليل من جهة النظر ومن جهة الأصول؟ والجواب أن الوقف إذا حكمنا بصحته، فإنه تخلو يد الواقف عنه، أي: تزول ملكية الواقف له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غير أنه لا يباع ولا ويوهب ولا يورث) ، فجعل تصرفات المالك لاغية، فمعناه أنه لا يملك الوقف، وهذا مجمع عليه. فإذا اثبت أن ملكية الواقف قد زالت عن الوقف؛ فالبيع يشترط فيه الملكية، ولا يمكن أن يبيع شيئا لا يملكه، وأنت قد استدللت بالسنة على أن الواقف قد خلت يده من الملكية وعريت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه لا يصح أن يبيع الوقف، لكن يبيعه القاضي، وهذا الذي جعل العلماء دائما يقولون: إن الأوقاف لا يصح بيعها إلا بقضاء القاضي؛ لأنها ليست مملكة لشخص بعينه بحيث يكون هو الذي يملك، فالواقف قد أخرجها عن ملكيته. ولذلك يقولون: تخرج الملكية مؤبدا، أي: تخرج خروجا مؤبدا، فلا يملك أن ترجع إليه بعد فترة، ولذلك ذكرنا أن من قال: أوقفت داري هذه سنة، أنه لا يصح؛ لأنه سيعيد ملكيتها إليه، والوقف يخلي اليد عن الملكية ويعريها، فالسنة قاضية بهذا، فإذا أثبت أن السنة أخلت يد الواقف عن ملكية الوقف، فإنه لا يصح أن يبيعه؛ لأن شرط صحة البيع أن يملك البائع التصرف في البيع بملك أو ولاية. والسنة دلت على أن الواقف لا يملك، فصار بيع الوقف من الواقف دون وجه شرعي بيعا باطلا؛ لأنه بيع لما لا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام في السنن: (لا تبع ما ليس عندك) . وعلى هذا قالوا: لا بد من أن يقضي القاضي؛ لأن القاضي جعل في الشرع للنظر في الحقوق والأموال التي لا يعرف مالكها، فهو يتصرف بولاية عامة؛ لأن ولي الأمر فوض له النظر في مثل ذلك، فإذا كان وقفا لا مالك له، فإنه حينئذ يقضي بجواز بيعه بعد أن تتوفر الأسباب الداعية للحكم ببيعه. وقد قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه] (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فإذا كان الوقف لا يجوز بيعه؛ فهناك أحوال مستثناة يجوز فيها بيع الوقف، فقال رحمه الله: (إلا أن تتعطل منافعه) أي: يجوز بيع الوقف بشرط أن تتعطل المنافع، والمنافع: جمع منفعة، ومنافع الوقف مثل: السكنى فيه، ومثل: الثمرة من البستان. فتتعطل منفعة السكنى بأن تتهدم العمارة، وتتهدم الغرف الموقوفة للسكن بحيث تصبح غير صالحة للسكن ولا يمكن سكناها، أو تتعطل منافعها بأن يغرق المكان، ولا يمكن لأحد أن يسكن فيه، فحينئذ تعطلت المنافع، ولا يمكن أن ينتفع الموقوف عليه بهذا الوقف. وتتعطل منافع المزرعة بأن ينضب الماء، أي: يكون فيها ماء ثم تجف عيونها أو آبارها، أو تنقطع الموارد التي تغذيها بالماء، فيموت النخل، فحينئذ تعطلت منفعة البستان. فإذا تعطلت منافع الوقف دون أن يكون هناك تقصير أو تفريط من قبل الناظر، فالناظر للوقف مسئول أمام الله عز وجل عن رعاية مصالح الوقف والنظر فيه، وكل هذا أمانة في عنقه يحاسب عنها بين يدي الله عز وجل. فالواجب عليه أن يبذل كل الأسباب لبقاء الوقف، وأن ينصح للوقف، وتكون نصيحته للواقف، خاصة إذا سبله على وجوه الخير، وكان ميتا ينتظر الأجر والثواب، وينصح للموقوف عليهم كالفقراء والضعفاء والأيتام والأرامل والمحتاجين، وبالأخص إذا كانوا قرابة فإنهم أحوج إلى حصول هذه المنافع من الوقف. فإذا تعطلت المنافع دون تفريط منه؛ اشتكى إلى القاضي، ورفع الأمر إليه أن هذا الوقف قد تعطلت منافعه، ويخرج القاضي أناسا من أهل الخبرة، وذوي النظر للتأكد من صحة دعوى الناظر. فإذا ثبت أن الوقف قد تعطلت منافعه، فينظر: هل بالإمكان أن يتنازل عن جزء من هذا الوقف في مكان، بحيث يبيع قطعة منه ويبقي الباقي وقفا ويصلح به الباقي؛ فحينئذ يفعل، لأن بيع الجزء مقدم على بيع الكل، وبيع الأقل مقدم على بيع الأكثر. فالأصل عدم جواز بيع الوقف، فإذا أمكن أن يبقي الوقف في مكان، كأن تجف عيون البستان، ولكن يقول أهل الخبرة: إن هذه الجهة غزيرة بالمياه، وهي غير الجهة التي كانت فيها آبار الوقف الأولى، وتحتاج إلى حفر آبار، والوقف معطلة منافعه، فيحتاج أن يبيع قطعة من الوقف من أجل أن يحفر بثمنها آبارا، ويغذي بها ما بقي من البستان، فيفعل ذلك، ولا يجوز أن يحكم مباشرة بالبيع؛ لأن ما جاز للضرورة والحاجة يقدر بقدرها. فإذا أردنا أن نبيع الوقف ننظر: هل المصالح التي نريد تحقيقها وعود الوقف ذا منفعة تتحقق ببيع الكل أو ببيع الجزء، فإن كان ببيع الجزء وجب على القاضي أن يحكم ببيع الجزء الذي تتحقق به المصلحة، وتندرئ به المفسدة، ولا يقضي القاضي ولا يفتي المفتي بجواز بيع الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن بيعه فقال: (لا يباع) ، فإذا لا نبيع إلا إذا وجدت الحاجة، فلما كانت الحاجة يمكن تحقيقها ببيع الجزء لم نستبح بيع باقيه؛ لأنه باق على الأصل الموجب للتحريم. وهذا أمر في الحقيقة مهم جدا، ولا يتساهل في كل دعوى من الناظر أنه يباع الوقف. المسألة الثانية: إذا ادعى الناظر أنه يريد بيع الوقف؛ لأن المنفعة قليلة في هذا المكان، كثيرة في مكان آخر، فإذا كانت دعواه على هذا الوجه فإنه لا تلبى حاجته، ولا يجاب إلى طلبه ما دام الوقف له منفعة، ولو كانت المنفعة قليلة في زمان، فقد يأتي زمان تستعيد فيه هذه الأرض الموقوفة قيمتها ومنفعتها، فلا يجوز أن تباع؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب الناس في الأوقاف في كل زمان. من أمثلة ذلك: لو قلنا إن قلة المنفعة مثلا كانت عمائر تؤجر بمليون فأصبحت تؤجر بمائة ألف، لكن المائة ألف يمكن تحقيق الصدقات بها، وتطبيق الأمور التي اشترطها الواقف وذكرها، فنزلت المصلحة إلى العشر، وما دام الوقف باقيا، ونزل إلى العشر فإنا نبقيه على حاله، ولا نفتي بجواز بيعه، ولا يقضي القاضي بجواز بيعه لغيره؛ لأنه لو فتح هذا الباب؛ فيمكن أن يأتي شخص ويقول: إني ناظر على وقف فلان، أو مزرعة فلان، والتمر لا يأكله الناس اليوم، فأريد -مثلا- أن أغير هذا الوقف بوقف آخر لأن المنفعة أكثر؛ فليس للناظر أن يتدخل في مثل هذه المسائل، وليس لأحد أن يغير الوقف. فإنه قد تكون المزرعة في زمان ليست فيها تلك المنفعة العظيمة، ولكنها في أغلب الأزمنة ذات منفعة، فلا يجوز العبث في الأوقاف ببيعها إلا عند الضرورة الحقيقية، ولا يجارى فيها بأهواء الناس، ولا بدعواهم، بل الواجب أن يقتصر في هذه المسألة على الضرورة وعلى الحاجة، وأن يتحقق القاضي أن مصالح الوقف قد تعطلت، وأن هذا التعطل لا دخل للناظر فيه. فإن كان له دخل بأن تلاعب في الوقف فعطل منافعه، أو فعل أشياء أو أضر بأشياء من أجل أن يدعي أن الوقف قد تعطلت منافعه؛ فإنه يغرم ويلزمه ضمانها، ويعاد الوقف إلى حالته التي كان عليها، لأن يده على هذه الحال يد جناية. فالمقصود أنه لا يحكم ولا يفتى ولا يقضى بجواز بيع الأوقاف إلا عند الضرورة والحاجة على التفصيل الذي ذكرناه. قال المصنف رحمه الله: [ويصرف ثمنه في مثله] أي: إذا حكم بجواز بيعه، وقد عرفنا أنه لا يجوز بيع الوقف إلا عند الضرورة والحاجة، والضرورة والحاجة تكون عند أن تتعطل منافعه، فإن تعطلت منافعه، وحكم القاضي ببيعه وبيع؛ فإنه يصرف إلى مثله، فإن كانت مزرعة وجب على القاضي أن يشتري بثمنها مزرعة مثلها، وإذا كانت عمارة أوقفت رباطا للسكن ونحو ذلك، فإنه حينئذ يحكم القاضي بالانتقال إلى سكن يماثل السكن الذي يتحقق به شرط الواقف، مثل الوقف الأول الذي حكم بجواز بيعه. أحكام متعلقة بنقل أوقاف المسجد قال المصنف رحمه الله: [ولو أنه مسجد وآلته وما فضل عن حالته، جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء المسلمين] قوله رحمه الله: [ولو أنه مسجد] أي: ولو كان الوقف مسجدا. والمساجد أمرها عظيم، بل كل الأوقاف، بل ينبغي للمسلم وطالب العلم والعالم والمفتي والقاضي والناس جميعا أن يتصوروا أن الواقف لم يوقف ولم يتخل عن ماله غالبا إلا وهو يرجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وكثيرا ما تكون الأوقاف من أموات هم أحوج ما يكونون إلى الحسنة وإلى الثواب. وكان بعض العلماء حينما يذكر العقوق بعد الموت، يقول: من العقوق بعد الموت تعطيل أوقاف الوالدين والتلاعب أو التقصير أو الإهمال فيها، والناظر قد يكون رجلا صالحا، ولكنه مهمل، يهمل النظر في وقف والده الذي أوقفه على الضعفاء أو الفقراء، فالمسلم إذا تصدق بماله وقفا؛ فالغالب أنه يرجو الثواب، وأنه يريد الأجر عند الله سبحانه وتعالى. فالمساجد الحرص على الأجر فيها أكبر، ومن هنا لا يجوز أن يضيق على الواقف في استحقاقه لهذا الأجر وطلبه له، ويتمثل ذلك في أمور: أولها أنه إذا بنى مسجدا ينبغي المحافظة على هذا المسجد وبقائه على حاله، خاصة إذا أمكن أن يصلي فيه المصلي وأن تتحقق المصلحة المطلوبة من بنائه. والمسجد إن كان قويا متماسكا فلا يجوز لأحد أن يهدمه، ولا أن يفتي بتغييره حتى ولو وجد متبرع، إذا وجد المتبرع يصرف إلى مسجد آخر أحوج، وإلى مسجد لم يبن، كان العلماء رحمهم الله تحدث بينهم خلافات ونزاع، بل أعرف رسائل ألفت واطلعت على بعضها تتكلم عن سقف مسجد هل يبدل أو لا يبدل، لوجود مضرة معينة في السقف فهل هذه المضرة ترخص تغيير السقف أو لا ترخص؟ حتى إن الذي أفتى بجواز كشف هذا السقف يقيد أنه لا يجوز أن يباع شيء من هذا الخشب، ولا أن يتصرف فيه بالمناقلة إلا عند الضرورة والحاجة خوفا من الله سبحانه وتعالى ومراقبة لله عز وجل. فتجد المسجد مبنيا ولكن يقولون: مسجد قديم، وقد يكون مبنيا بناء مسلحا لكن يريدون أن يكون مبنيا بشكل فخم، وأن يكون مفروشا بالفراش الوثير، وأن يكون وأن يكون، فيهجم على حسنة الميت، وعلى حقه، ويهدم هذا المسجد ويبنى غيره. فالمساجد أمرها عظيم، ولا يمكن لأحد أن يفتي بهدم مسجد، ولا يمكن لأحد أن يستحل هدم المسجد إلا بفتوى وقضاء شرعي، ولا يملك كل أحد أن يهدم، لأنها أوقفت وسبلت، وخاصة إذا كان الذي أوقفها وبناها ميتا. ومن هنا حرم الشرع بناء مسجد جوار مسجد، وهو مسجد الضرار، وأفتى بعض العلماء أن الصلاة لا تصح في المسجد الثاني الذي يضيق به على المسجد الأول، وإذا أردنا أن نبني مسجدا كبيرا للجمعة وتضرر الناس يوم الجمعة فإن أمكن توسيع هذا المسجد بهدم جداره الأخير والزيادة فيه من آخره فلا بأس، ويمنع هدمه كله وبناؤه من جديد. كل هذا تعظيما لحدود الله ومحارمه، ولذلك وصف الله عز وجل تهديم المساجد بأنه من أعظم ما يكون انتهاكا لحرمته، فلا يجوز لأحد أن يقدم على تغيير مسجد أو هدمه أو التصرف فيه إلا بنظر شرعي صحيح من فتوى أو قضاء، ولا يجوز للمفتي ولا للقاضي أن يفتي أو يقضي إلا إذا وجدت الأسباب والضوابط الشرعية المعتبرة للحكم بمثل هذا. فإذا: المسجد لا يهدم ولا يتصرف في شيء من أوقافه إلا في حدود الضرورة والحاجة بحكم القاضي أو من له الأمر والنظر في هذا المسجد. وإذا كان المسجد ضيقا يوسع، ثم إذا وسع فلا يهدم أولا ثم يوسع، بل من الممكن أن يوسع بإضافة بناء لاحق له، فالمساجد ليست محلا للمفاخرة والمباهاة، بحيث لا بد أن تكون على الصورة الفلانية، أو الشكل الفلاني، بل إذا أوقفت فيجب أن تبقى على بنائها القديم حسنة للميت، وثوابا للميت؛ لأنه حتى الرمل الذي وضعه، والمال الذي أنفقه على هذا الشيء الذي شيده يثاب عليه مدة بقائه. وهذا أجر عظيم لا يرضى أن يضيع عليه هذا الأجر، فلو كان ميتا فإنه لا يرضى أن يأتي من يهدم مسجده، والحسنة جارية عليه من هذا المسجد. فإذا لا يهدم، وإذا احتيج إلى توسعته يفتى بقدر الضرورة والحاجة، مع الخوف من الله ومراقبة الله سبحانه وتعالى، والنظر الصحيح الذي ينبني على المصلحة. ثم إذا احتيج إلى هدمه بالكلية فهذه مسألة، وإذا احتيج إلى بيعه مسألة أخرى، فإذا تعطل المسجد بأن تهدم ولم يمكن تجديد سقفه، فإن تهدم سقفه وجدرانه مشيدة؛ فلا يجوز هدم جدرانه، وإن تهدم سقفه وأعمدته قائمة؛ لا يجوز هدم عموده؛ لأن هذا كله من الإفساد {والله لا يحب المفسدين} [المائدة:64] ، وهذا من الإسراف، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة المباهاة بالمساجد، فتجد أهل الحي يرغبون أن يجدد المسجد، وكأنهم ينافسون، وهذا حدث بسبب التساهل في الفتوى في هدم المسجد. فلا يجوز التلاعب بحقوق الناس في أوقافهم، وبالأخص في المساجد، بل ينبغي أن يقيد ذلك كما ذكرنا بالضرورة، فإن كان الضرر من سقفه، يغير السقف، إن كان تغيير السقف مع بقاء الأعمدة القديمة، فإنها تبقى وتجدد ولا يناقل بها، ولا يعوض عنها؛ لأنها موقوفة مسبلة على هذا المسجد، ليس ثم وجه صحيح يجيز بيعها. فإذا لا يهدم سقفه ولا يهدم شيء منه فضلا عن هدمه كله، إلا عند الضرورة والحاجة، فإن انهدم كله وتعطلت منفعة الصلاة فيه بالكلية واحتيج إلى بنائه؛ فإنه يبنى على أرضه كاملة، ولا يجوز أن ينتقص من هذه الأرض شيء لأنها موقوفة كلها مسجدا للصلاة فيه، فلا يجوز أن يغير فيه، ولا أن يبدل فيه؛ لأن الوقف للمسجد تام على الأرض كاملة، فينبغي أن تبقى وقفا كاملة دون أن يؤخذ منها أي شيء. أما الإضافة إليها فهذا شيء آخر، أما أن يؤخذ منها فلا؛ لأن الميت حينما أوقف أوقف كامل هذه القطعة، وليس هناك قضاء شرعي، ولا نظر شرعي يسوغ لأحد أن ينتقص من هذه القطعة شيئا. وهذه أمانة ومسئولية، والناظر إذا هدم المسجد فالواجب عليه أن يستكمل جميع قطعة المسجد وقفا مسبلا كما شاء واختار صاحب المسجد، ثم إذا بنيت وأعيدت فلا إشكال؛ لأن الأرض الموقوفة باقية كما هي، ولو أراد الزيادة فلا بأس، لكن لو كان المسجد في مكان واحتيج إلى بيع، ف السؤال هل تحدث حاجة لبيع المسجد؟ الجواب نعم، يمكن أن يقع هذا كما ذكره بعض من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومن أمثلته أن يكون المسجد في مكان، ويكون في هذا المكان أناس يرتحلون عنه، وهذا موجود حتى في زماننا، تكون هناك شركات تعمل في مكان، ثم فجأة تتغير أحوالها، وتصبح هذه الأمكنة مهجورة، وليس فيها من أحد، ولا يأتيها أحد، وفيها أرض موقوفة، فيرفع الناظر إلى القاضي، فيفتي القاضي ببيع هذه الأرض التي للمسجد، فتباع، وإذا بيعت يبحث عن مسجد يماثل هذا المسجد ويبنى، وتكون الأرض وقفا لهذا المسجد. وبعض العلماء يفصل، ويقول: حتى عند بيع الأرض، ينبغي أن تكون القيمة بكاملها للمسجد، فإذا بيعت الأرض الموقوفة مثلا بخمسمائة ألف فيجب أن يبني مسجد بخمسمائة ألف. وبعض العلماء يقول: إذا بيع المسجد المعطل نظر: فإن كانت القيمة للبناء والأرض فتقسم للأرض الجديدة ما بين الأرض والبناء، لأن الوقفية موزعة عليهما، وإن كان المسجد قد تهدم فالوقفية للأرض، فيجوز أن نأخذ من الغير تبرعا للبناء، فلا بأس بالمزاحمة. فائدة الخلاف: لو كان لقريب لي مسجد، ورفع إلى القاضي بأن هذا المسجد تهدم، فحكم القاضي بجواز بيع أرضه، فالذي بيع هو الأرض فقط، بيعت بنصف مليون مثلا، فأردت أن أبني المسجد، فجاء شخص وقال: بدل أن تشتري أرضا بمائتين وخمسين، وتبني بالمائتين وخمسين، اشتر أرضا بالخمسمائة، وأنا أبني هذه الأرض مسجدا، قالوا: يجوز لأن الأصل هو الأرض، وسعة الأرض أعظم ثوابا للميت، وأعظم مصلحة ونصيحة له، ففي هذه الحالة تشترى الأرض، ويفضل أن يوجد من يبنيها، ويكون الأجر للاثنين، لصاحب الأرض، ولصاحب البناء. ثم إذا نظرنا إلى وقفية المسجد، فالمال الذي يؤخذ من الأرض المباعة لا إشكال أنه يشترى به ويبنى، لكن هنا مسألة وهي التي أشار إليها المصنف في مسألة أجزاء المسجد، حينما تباع أرض الوقف فلا تباع عند انهدام المسجد بيعا مجردا عن الأرض إذا وجدت أنقاض موقوفة على المسجد يمكن بيعها واستغلالها. فمثلا: لو كان المسجد قد تهدم، ولكن هناك أعمدة وهناك مواد خام موجودة في الهدم يمكن استخراجها وبيعها، فتباع الأرض على حدة، وتباع هذه المواد على حدة، ولا يباع هكذا؛ لأن هذا يضيع حقوق الوقف، فإذا أفتي بجواز بيع الوقف لتعطل مصالحه؛ فينبغي أن ينظر في جميع المال الموقوف، الأرض وما عليها، ولو كان البناء مهدما ما دام أن هناك شيئا يمكن بيعه واستغلال ثمنه في المسجد الجديد، أو البناء المعوض عن الوقف الأصلي. بقي السؤال في مسألة التبرع لبناء المسجد: فالمال الذي يدفع لبناء المسجد، إذا تبرع شخص فقال: هذا نصف مليون لبناء هذا المسجد، فبني المسجد بأربعمائة ألف، أو بني المسجد وأنفق عليه وكمل تجهيزه بنصف المبلغ، فما حكم النصف الباقي؟ الحكم عند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه يصرف إلى مثله، السؤال: كلمة (إلى مثله) . إذا كان المال مدفوعا للبناء؛ يبحث عن بناء مسجد، وإذا كان المال الزائد للتجهيز يصرف في تجهيز المسجد بأن ينظر مسجد آخر محتاج إلى تجهيز، مثلا: لو قال: هذا مليون لبناء مسجد، الخمسمائة ألف لبنائه وتشييده، والخمسمائة الباقية يصرف نصفها مثلا لفراشه وإنارته وإضاءته إلخ، والنصف مثلا للمكيفات، فالذي زاد كائن من النصف الذي يتعلق بالثلاجات والمكيفات التي وضعت لمصلحة الرفق بالمصلين، وما دام أن المتصدق جزأ نفقته على مثل هذا الوجه، فيؤخذ هذا القدر الزائد، ويصرف في مثله في مسجد آخر، فلا يصرف في مسجد آخر في بنائه؛ لأن مصلحة هذا المال الموقوف محبوسة وموقوفة على شيء معين فيصرف إلى مثله من جنس المساجد. وبناء على ذلك، المناقلة يشترط فيها المثلية، سواء كانت مناقلة تامة كالانتقال من مسجد إلى مسجد، أو مناقلة غير تامة، وهي التي تكون في بعض أجزاء المسجد، فيتصرف ا يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة الصفات الواجب توفرها في ناظر الوقف السؤال ما هي صفات الناظر التي ينبغي أن يتصف بها؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: صفات الناظر تنقسم إلى قسمين، القسم الأول: أن يحدد الواقف صفات معينة، فيجب التقيد بها على شرط الواقف، قال مثلا: وأشترط أن يكون الناظر من ذريتي، وأن يكون أرشد الذرية، أو يكون أفقههم، أو يكون أحفظهم لكتاب الله، أو أعلمهم بالسنة، فإذا اشترط فيه شروطا، فنتقيد بهذه الشروط، ويلزم من يلي هذا الوقف -القاضي وغيره- أن يبحث عمن تتوفر فيه هذه الصفات، فهي صفات مقيدة من الواقف نفسه. فإذا: هذه الصفات يزاد فيها وينقص منها على حسب اشتراط الواقف، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوقف جعل النظارة لبنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها من بعده، فولي نظارة وقفه -بستانه بخيبر- في حياته، ثم صرف الوقفية من بعده إلى بنته، فهذا الصرف لم يشترط فيه ذكورة لأنها أنثى، وقيدها من بعده -لما صرف النظار من بعده إلى بنته- بشخص معين، فيجب التقيد، وهذا عمل من أعمال السلف، وسنة راشدة من فعل عمر رضي الله عنه، وأخذ العلماء منها دليلا على أن الواقف إذا اشترط شروطا في الناظر يجب العمل بها، ولا تسلم النظارة إلا لمن توفرت فيه هذه الشروط. أما إذا أطلق وقال: أوقفت هذه الدار للمساكين والفقراء، ولم يتكلم عن الناظر بأنه من ذريته أو من غيره، فحينئذ فالأصل حينئذ أن تكون النظارة للموقوف عليهم، وقد بينا أن نظارة الأوقاف للأشخاص الموقوف عليهم ما لم يكونوا جهات لا يمكن حصرها بحيث يتولون النظارة على الوقف. ففي هذه الحالة إذا اشتجروا ونظر القاضي أن يكون الوقف عند بعضهم دون البعض، فيمكن أن يقيدها القاضي ببعضهم دون بعض، وتعتبر مسائل تعيين الناظر في الأوقاف من مهمة القاضي، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله في كتاب أدب القضاء أن القاضي إذا عين في مكان فأول ما يبحث في الأوقاف، وينظر في النظار الذين عينوا ومن الذي يستحق أن يبقى في نظارته؟ لأنه ربما كان مستحقا في أيام القاضي الأول، لكنه لا يستحق في أيام القاضي الثاني، فتجد مثلا في كتاب أدب القاضي للإمام الماوردي، وكذلك أدب القاضي للصدر الشهيد الخصاف مع شرحه، أدب القاضي للسمناني، ونحوها من كتب القضاء كتبصرة الحكام لـ ابن فرحون ذكروا أن مسألة نظار الأوقاف راجعة إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى الأصلح فالأصلح. ولا شك أنه لا بد أن يكون عدلا مأمونا في دينه بحيث لا يكون معروفا بالخيانة، ولا يكون معروفا بالكذب، يكون ممن عرف بأمانته وديانته بعيدا عن الشدة في الوقف؛ لأن البعض يكون شديدا معروفا بالبخل، فهذا البخل يضر الضعفاء، ويضر الفقراء، ولربما إذا جاء يصرف أموال الوقف أجحف بهم، ولا يكون عنيفا يسب الناس ويشتمهم، فإذا كان الوقف على أيتام وأرامل وضعفة ربما نفرهم من الوقف، ونفرهم من الوصول إلى حقوقهم. ولا يكون معروفا بالمماطلة والتسويف؛ لأن هذا يؤخر عن أهل الحقوق حقوقهم، ولا يكون ضعيفا بحيث إذا جاءت مصالح الوقف لا يستطيع أن يدافع عن الوقف، ولا أن ينتزع حقوق الوقف فيما إذا اعتدي على الوقف. ولذلك كان عمر رضي الله عنه يشتكي إلى الله ويقول: اللهم إني أشتكي إليك ضعف الأمين وقوة الخائن. يعني إذا وليت إنسانا أمينا يكون ضعيفا ومتساهلا مع الناس، فكان يبعثهم من أجل جبي الزكاة، فالأمين المحافظ إذا ذهب وجاء أحد يشتكي له أخر وسوف، فتعطلت مصالح بيت المال، لكن إذا عين الشديد الذي ينتزع الأمور، ويحافظ على أخذها كاملة قد يكون خائنا. فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وقوة الخائن. ما يكون قوي إلا عنده نوع من التلاعب، وهذه من حكم الله سبحانه وتعالى، فلا كمال إلا له سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا أن تعيين النظار مما يوكل أمره إلى القاضي، فهو الذي ينظر إلى صلاحه في دينه، وصلاحه في أمانته، ولا يقف الأمر على قضية العدالة والأمانة؛ لأن الوقف قد يحتاج إلى قوة الشخصية، قد تجد شخصا قويا، والوقف في أوضاع يفتقر فيها إلى مثل هذا الشخص، أو قد تجد شخصا عمليا والوقف متهدم يحتاج إلى من يبنيه ويشيده. هذه الأمور كلها ترجع إلى دقة نظر القاضي وحكمته، وبعد نظره وحسن تصرفه، ولا شك أن القاضي الناصح لا يزال له معه من الله معين وظهير يسدده بإذن الله، ويوفقه، ويعينه على حسن الاختيار في مثل هذا، والله تعالى أعلم. حكم قراءة المسبوق في الركعة الأخيرة للتشهد الأخير مع الدعاء السؤال في الركعة الأخيرة وقبيل السلام هل يقرأ المسبوق التشهد الأخير ويدعو؟ الجواب في هذه المسألة وجهان مشهوران عند العلماء رحمهم الله: بعض العلماء يقول: إذا صلى المسبوق وراء الإمام اعتد بنفسه لا بالإمام؛ لأنه صلاته مع الإمام هي الأولى، وفي مثل هذه الحالة لا يتابعه في الباطن دون الظاهر، كالتشهد الكامل في الركعة الأخيرة لا يتابعه فيه كاملا؛ لأنه مخالفة في الأركان والواجبات وهو لم يجب عليه التشهد الأخير لأنه ليس في التشهد الأخير الذي هو ركن، والله أوجب عليه التشهد ركنا واحدا في الصلاة، ولم يوجب عليه أكثر من تشهد؛ لأنك لو قلت إنه يلزمه لصار عنده ركنان من التشهد الأخير، وهذا لا يقول به أحد من حيث الأصل؛ لأن الله فرض عليه ركنا واحدا من التشهد الأخير ولم يجعله عليه مكررا. فيتابع الإمام في الصورة، فإذا انتهى من التشهد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا عبده ورسوله، سكت وانتظر سلام الإمام واغتفر ما بينهما، كما لو طول الإمام في الثالثة والرابعة من الرباعية في غير الظهر التي ورد فيها النص بقراءة سورة الإخلاص فإنه يقتصر على السكوت؛ لأنه ليس ثم ذكر شرعي له في هذا الموضع. ومن أمثلتها أيضا: لو أنه صلى الجنازة، فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وطول الإمام في الصلاة فإنه يبقى ساكتا، فالسكوت أولى من الزيادة؛ لأنه إذا سكت عند التشهد التزم الأصل؛ لأنه تشهد قبل التشهد الذي فيه السلام، وكل تشهد قبل التشهد الذي فيه السلام لا دعاء فيه. هذا أصل شرعي أن التشهد الذي يسبق تشهد السلام لا دعاء فيه، فيبقى على هذا الأصل الشرعي، ويبقى ساكتا متابعة للإمام فلا يحكي التشهد كاملا، هذا وجه لبعض العلماء للأدلة التي ذكرنا وهو أقوى الوجهين. هناك وجه ثان يقول: يتابع الإمام في حال المتابعة ظاهرا وباطنا ويخالفه عند المفارقة. بناء على هذا القول يقول التشهد كاملا ويدعو وكأنه يريد أن يسلم، فإذا سلم الإمام توجه عليه الخطاب حينئذ بالانفصال، فصارت صلاته منفصلة حينئذ، لا قبل ذلك، فيلزمونه بالمتابعة في هذا. وهذا فيه إشكال؛ لأن الإلزام بالمتابعة بينه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا) ، فذكر الأركان والواجبات، ولم يذكر ما زاد عن الركن والواجب من السنن ونحوها، فحينئذ لا يتابع فيه. ولا بأس بسكوته، ولذلك لو قال: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وقال الدعاء المأثور وطول الإمام فإنه يبقى ساكتا، هذا كله سكوت لعذر، ولا يؤثر فيه شيء، ولذلك إذا سكت لم يضر؛ لأنه ليس بملزم بذكر، وإذا تكلم فإنه يحتمل أن يكون زائدا على الأصل، واتقاء الزيادة أولى من الوقوع فيها إذا شك في شرعيتها؛ لأن الاحتياط بها أولى، والله تعالى أعلم. حكم من توضأ ثم رأى نجاسة تحت أظفاره السؤال من توضأ ورأى تحت أظفاره نجاسات فهل يعيد الوضوء؟ الجواب بالنسبة للذي تحت الأظفار فيه تفصيل، إذا كان الموضع موضعا مما يغسل كما لو كان الجرم كبيرا وأخذ جزءا من الإصبع المأمور بغسله، فهذا لم يصح وضوءه؛ لأنه مطالب بإزالة ذلك مثلما يقع في العوازل، من يأخذ العوازل وأظافره طويلة، فإن العوازل يبقى لها قدر تحت الأظفار يغطي جزءا من رأس الإصبع المأمور بغسله كاملا هذا يؤثر في الوضوء كله، فيجب إزالة العازل والإعادة من الموضع الذي فيه العازل بشرط تحقق الموالاة. أما إذا كان الظفر وما تحته من نجاسة لا يمنع محلا للفرض فإن الوضوء صحيح؛ لأنه قد غسل ومسح ما أمر الله بغسله ومسحه، فحينئذ يزيل النجاسة ويغسل موضعها؛ لأنها ليست مؤثرة في وضوئه، والله تعالى أعلم. مسافر نوى العشاء قصرا ودخل مع جماعة يصلون المغرب في الركعة الثانية السؤال مسافر أراد أن يصلي العشاء قصرا، فدخل مع أناس يصلون المغرب وكانوا في الركعة الثانية، فصلى معهم هاتين الركعتين الأخيرتين بنية العشاء، فهل هذا الفعل صحيح؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فجمهور العلماء رحمهم الله -إلا وجها شاذا ضعيفا عند بعض أصحاب الشافعي - أنه لا تصح المغرب وراء العشاء، ولا العشاء وراء المغرب؛ لأن صورة الصلاتين مختلفة فلو كانت المغرب وراء العشاء فسيتعطل عن متابعة الإمام في الركعة الرابعة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وقال: (فلا تختلفوا عليه) ، وقد خالف الإمام وخالف النص وعارضه من هذا الوجه. أما لو كان مصليا للعشاء وراء المغرب فسيستحل الجلوس بعد الركعة الثالثة للتشهد الأخير للإمام، وهو يقصد صلاة رباعية، فإما أن يجلس فحينئذ يضيف جلوسا كاملا في موضع لم يأذن له الشرع أن يجلس فيه؛ لأن الثالثة والرابعة من العشاء لا جلوس بينهما، وإما أن يفارق الإمام فيحدث ما ذكرناه من أنه مفارق. ولذلك جمهور العلماء من السلف والخلف على عدم صحة اقتداء المغرب بالعشاء والعشاء بالمغرب، وعلى هذا فالصلاة باطلة والاقتداء غير صحيح ويلزم بإعادة الصلاة، والله تعالى أعلم. كيفية الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... ) وأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ، هل هذا قبل أن يخبر الله تعالى نبيه بالمغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهل يفهم من الحديث أن الذنوب هي التي تذهب الخشوع؟ الجواب هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وأبو هريرة أسلم في أواخر السنة السادسة عند فتح خيبر وقصة إسلامه مشهورة، و {إنا فتحنا لك فتحا} [الفتح:1] ، كانت بعد ذلك بزمان، فمن حيث الآية والحديث لا إشكال فيهما؛ لأنه حتى ولو فرض أن الحديث بعد إخباره، فالعلماء ذكروا أن الأحاديث التي ورد فيها سؤال المغفرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد منها تعليم الأمة، وبعضهم يقول: تكون درجة زائدة له، لأنه إذا استغفر المستغفر ربه وقد غفر الله له وليست عنده ذنوب بدل بالاستغفار درجات. فالاستغفار على كل حال مثاب عليه، فليس في هذا إشكال أبدا، سواء كان قبل المغفرة أو بعد المغفرة، فهذا ليس بمؤثر لأن قصد التعليم موجود، وزيادة الدرجة موجود، وأيا ما كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق خوفا من الله والتجاء إلى الله واعتصاما بالله سبحانه وتعالى. ولو وقع مثل ذلك بعد مغفرة الله له فإنه تعليم لكل عبد صالح أن لا يغتر بصلاحه، وأن يكون واثقا بالله سبحانه وتعالى كثير الذلة لله جل جلاله. فإذا كان أكرم الخلق على الله عز وجل يسأل المغفرة، ويختار لصديق الأمة لما سأله دعاء يدعو به في صلاته دعاء المغفرة فكيف بنا؟ وذلك لأنه إذا غفر الله للعبد ذنبه كفاه شر الدنيا والآخرة، كل البلاء من الذنب {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] ، فالشرور كلها من الذنوب، ولذلك لما وقف عليه الصلاة والسلام في الصلاة في هذا الحديث قال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ؛ لأنه يستقبل أعظم المواقف، وأجلها، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو موقف الصلاة. فعلم الأمة أن تدعو بهذا الدعاء؛ لأنه ربما وقف العبد في صلاته فحال بينه وبين الخشوع ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين قبول صلاته ذنب من الذنوب، وربما حال بينه وبين ساعة الإجابة وساعة القبول للصلاة ذنب من الذنوب، فيسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الخذلان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين أسباب الحرمان، ويسأل الله أن يباعد بينه وبين سبب الذلة والقلة والفاقة ودمار الدين والدنيا والآخرة وكل ذلك من الذنوب. فالذنب شره عظيم، وبلاؤه عظيم، ولما سأل صديق الأمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فإذا كان صديق الأمة يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فما بالنا ونحن أرباب الخطايا والذنوب، اللهم ارحمنا برحمتك. والإنسان إذا نظر إلى مثل هذه الأحاديث وجدها تحتاج إلى تأمل ووقفات، ودعاء الاستفتاح دعاء عظيم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه، حتى في خطبة الحاجة كان يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) ، فاستعاذ بالله من سبب الحرمان والخيبة والبلاء وهو الذنب. ونعوذ بالله: أي نلتجئ ونعتصم بالله عز وجل الذي لا عصمة ولا التجاء إلا إليه سبحانه وتعالى. من شرور أنفسنا: فالذنب كله شر وبلاء، فدعاؤه عليه الصلاة والسلام بمغفرة الذنب وسؤاله لله عز وجل تعليم للأمة، وكأنه ينبه على خطر الذنب وأنه ينبغي للأمة دائما أن تكون في استغفار، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية. وقل أن تجد إنسانا يكثر من الاستغفار إلا وجدته في رحمة، وإن كمل استغفاره كملت رحمة ربه له، فالمستغفر بلسانه ليس كالمستغفر بلسانه وقلبه، والمستغفر بلسانه وقلبه مستشعرا لعظمة ربه ليس كالذي يستشعر عظمة الله مع استشعاره لعظيم التفريط في جنب الله عز وجل، فيستغفر وهو يحس أنه مذنب، ويحس أنه ما كان له أن يعصي ربه، وأنه ينبغي أن ينيب إلى الله عز وجل من الذنوب والعصيان، ويسأل الله عز وجل العفو والمغفرة. فهذه كلها حالات من وفق لصلاح دينه ودنياه وآخرته، فهذا الدعاء دعاء عظيم (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ، والمشرق والمغرب لن يجتمعا، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهما المثل. فهذا الحديث كما ذكرنا إما أن يكون تعليما للأمة، أو يكون استغفارا حقيقيا، أو يجمع بين الأمرين: بين كونه عليه الصلاة والسلام تكون له بذلك درجة الاستغفار، ويكون تعليما لأمته صلوات الله وسلامه عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (394) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [1] باب الهبة والعطية باب من أبواب الفقه الإسلامي، وحري بالعبد المسلم أن يلم بأهم ما فيه من أحكام، وفي هذا الدرس بيان مشروعية الهبة من الكتاب والسنة، والمقاصد الشرعية من الهبة، وأركان الهبة، وأقسامها وشروطها وما تنعقد به الهبة. مشروعية الهبة والعطية من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله-: [باب الهبة والعطية] هذا الباب قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين فيه المسائل والأحكام التي تتعلق بالتبرعات، ولما كان الوقف نوعا من أنواع التبرع ناسب أن يذكر أحكام الهبة والعطية بعده، فمناسبة باب الهدية والعطية لباب الوقف من هذا الوجه ظاهرة. وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة والعطية، فالآيات التي وردت في استحباب الإحسان وبذله إلى الناس، والآيات التي دلت على الترغيب في المعروف، وإسداء الخير إلى الناس من حيث الأصل، تعتبر دالة على مشروعية الهبة والعطية، خاصة وأن الهبات والعطايا قد يراد بها وجه الله عز وجل حينما يهب المسلم لأخيه المسلم شيئا مما يملكه حتى تزداد المحبة بينهما، وتقوى أواصر الأخوة ووشائج الإسلام التي تربط بين المسلم وإخوانه، فتكون الهبة والعطية عبادة من هذا الوجه. وأما بالنسبة للسنة فقد دلت أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة، بل رغب عليه الصلاة والسلام فيها كما في حديث السنن عن أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا) . فقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث في الهدية وإعطاء المسلم لأخيه المسلم على سبيل المحبة، وبين حسن العاقبة في ذلك، وأنها تزيد من المحبة والألفة، وهذا مقصود شرعا، فكل ما يدعو إلى قوة المحبة بين المسلمين مندوب إليه وتحصيله مرغوب فيه. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (لو أهدي إلي كراعا لقبلت) ، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام حيث بين أنه لو كانت الهدية له عليه الصلاة والسلام كراعا لقبلها عليه الصلاة والسلام ولم يردها، وهذا يشير إلى أن الهدايا تختلف باختلاف الناس، فلا تحتقر الهدية، خاصة إذا جاءتك من الضعيف الفقير والذي ليس عنده طول ولا عنده مال، فتعلم أن المقصود هو التودد إليك والمحبة، فلا تكسر له خاطرا، بل تجبر بخاطره، وتقبل هديته، ولو كانت شيئا يسيرا، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ، وهذا يدل على فضل العطية والإحسان خاصة من الجار لجاره. حتى كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: يا ليت كل مسلم كلما مرت فترة أو مر زمان يسأل نفسه: هل قدم لجاره شيئا؟! كذلك أيضا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل الهدية حتى من الكافر، كما في قصة المقوقس. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح أنه أهدى إلى النجاشي رحمه الله، وتوفي النجاشي قبل أن تبلغه هدية النبي صلى الله عليه وسلم. لأجل هذا أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الهدية والعطية؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه دالة على مشروعيتها، بل قد جاء في صفته عليه الصلاة والسلام في الكتب السماوية أنه يقبل الهدية ويرد الصدقة. وقال العلماء رحمهم الله: إن الهدية مشروعة لما فيها من جلب المصالح ودرء المفاسد. أما المصالح التي تحققها الهدية فمن أعظمها أنها تزيد المحبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا) . وأما درء المفاسد فإنها تقطع سوء الظنون، وتزيل من النفوس الإحن والشحناء، وكذلك ربما أزالت الحسد وأطفأت ناره من القلب؛ لأن الإنسان إذا رأى أخاه في نعمة وحسده عليها، إذا بالمحسود يقدم هدية وعطية ويشارك ذلك الحاسد فيعطيه شيئا، فإن هذا يكسر قلبه، ويطفئ نار الحسد التي في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية. إضافة إلى أن الهدية إذا كانت إلى المحتاج والمسكين تكون قربة لله عز وجل وطاعة لله سبحانه وتعالى. الفرق بين الهبة والهدية والعطية يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] هناك فرق بين الهبة والعطية، يقال: وهب الشيء يهبه هبة إذا منحه للغير. والعطية في معنى الهبة؛ لكن العلماء رحمهم الله يفرقون بين الهبة والعطية، فهناك هبة وهناك هدية وهناك عطية، وهناك صدقة. فأما بالنسبة للهدية فهي الشيء الذي يحمله الإنسان للغير إكراما له وإجلالا، فإذا أعطى إنسان إنسانا شيئا وحمل الشيء إليه، فإن هذا هدية. لكن الهبة لا تحمل، يقول له: خذ هذا الشيء، أي: وهبته لك. فإذا: الهدية فيها معنى زائد عن الهبة، فالهبة من حيث الأصل تمليك، ويقصد بها تمليك الغير المال الذي يملكه الواهب على سبيل المعروف والإحسان، لا معاوضة فيه، فإذا وهبت الشيء وحملته للموهوب فهذا هو معنى الهدية، وأما إذا قلت له: خذ هذا الشيء، وارفع هذا الشيء، وهذا الشيء لك، فقد وهبته. وأما بالنسبة للعطية: فالعطية تكون لما بعد الموت، يهبه ويعطيه الشيء لما بعد موته، مسندا لما بعد موته. وأما بالنسبة للصدقة: فالهبة والهدية إذا أعطاها الإنسان غالبا ما تكون لحظوظ الدنيا، وقد يكون فيها معنى العبادة كما ذكرنا؛ لكن الصدقة تعطى وتبذل ويراد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويطلب المتصدق والمعطي ما عند الله عز وجل، بخلاف الهبة والهدية فإن الهدية قد يعطيها من باب كسب القلب، وهذا أمر قد يكون دنيويا، خاصة إذا كان يخشى شر الإنسان فأعطاه الهدية ونحو ذلك، فهذه كلها مقاصد دنيوية، لكن الصدقة تكون العطية فيها مرادا بها وجه الله سبحانه وتعالى، ويقصد منها التقرب إليه جل وعلا. أركان الهبة أما بالنسبة للأركان التي تقوم عليها الهبة، فإنها تقوم على أربعة أركان: الواهب، والموهوب له، والشيء الموهوب، والصيغة، هذه الأربعة أشياء إذا وجدت، وجدت الهبة. أما الواهب: فهو الشخص الذي يملك الشيء الموهوب، ويقوم ببذله وإعطائه للغير. ويشترط فيه: أن يكون جائز التصرف، وذلك يتحقق بملكيته للشيء الذي يريد هبته، ويأذن له الشرع بالبذل والهبة. وبناء على ذلك يكون: مالكا، حرا، رشيدا، بالغا، عاقلا. فإذا: لا بد من توفر هذه الشروط، فلا تصح الهبة من مجنون أو من صبي، أو من السفيه والمحجور عليه سواء كان لفلس أو غيره، ولا يصح أن يهب شيئا هو ملك لغيره، أو يهب شيئا ليس بملك له أصلا، أو لا تدخله الملكية، فإذا فعل ذلك فإنها لا تكون هبة، ولا تسري عليها أحكام الهبة. وأما بالنسبة للحرية فإن المملوك تقدم معنا أنه هو وما ملك ملك لسيده، إلا أن يأذن له السيد بالتصرف فهذا مستثنى. أما بالنسبة للشيء الموهوب: فيشترط فيه أن يكون مالا قابلا للتمليك. فقوله: (أن يكون مالا) يخرج ما ليس بمال ولا في حكم الأموال، ومن هنا لا تصح هبة أعضاء الآدمي، وهي مفرعة على هذا الأصل؛ لأن أعضاء الآدمي ليست فيها ملكية، إذ من شرط صحة الهبة والعطية أن يكون الواهب مالكا للشيء الذي يهبه. فلو قال قائل: إن الله عز وجل مكن الإنسان أن يستفيد من كليته أو يده أو رجله ونحو ذلك. نقول: إن هذا التمليك على سبيل الإذن والإباحة، والتمليك معنى زائد على الإذن والإباحة، وهناك فرق بين أن يؤذن للشخص بأن ينتفع بالشيء ويرتفق به، وبين أن يملك هذا الشيء بحيث يصح أن يبذله للغير. مثلا: المصالح العامة، كالمواقف ونحوها، هذه مأذون لك أن تنتفع بها شأنك شأن سائر الناس؛ لكن لا يصح أن تبيعها لغيرك؛ لأن الإذن بانتفاعك بها لا يستلزم ملكيتك لها، والله عز وجل أذن للمخلوق أن ينتفع بجسده وهو ليس بمالك له، ومما يدل على ذلك أنه لا يجوز له أن يبيع نفسه، فلو كان مالكا لنفسه لصح أن يبيع نفسه؛ وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن كل ما جاز بيعه جاز هبته. وبناء على ذلك: فالأعضاء ليست محلا للملكية، وإنما هي من خلق الله عز وجل الذي أذن للإنسان أن ينتفع بها. هذا مذهب من يقول بعدم صحة التبرع بالأعضاء، ويقيم هذا على هذا الأساس الذي دلت عليه الأصول الشرعية. ومما يقوي هذا: أن من يقول بالهبة وجواز هبة الأعضاء يقول: لا يجوز بيعها، وهذا تناقض؛ لأنه إذا أذن بالهبة فمعناه أن الهبة فرع على الملكية، ومن ملك شيئا جاز له أن يبيعه. وهناك مسألة مهمة وهي أنه حتى ولو قيل: إن الإنسان يملك أعضاءه فإن هناك فرقا بين الملكية والتمليك، فقد يكون الشيء ملكا للإنسان ولا يصح أن يملكه للغير، ومن أمثلة ذلك: أم الولد، فإن الجارية إذا ملكها الإنسان بتمليك الله عز وجل له، واشتراها وأصبحت ملكا شرعيا له، ووطئها وتسراها، فحملت وأنجبت وأصبحت أم ولد، فعلى القول بعدم صحة بيعها كما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها حينئذ ملك للإنسان لا يصح أن يملكها للغير، ولذلك قال: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3] ، وبالإجماع أنها ملك له، ولذلك تعتق عليه بعد موته. ومن هنا مذهب من قال بعدم صحة هبة الأعضاء يفرعها على الأصول المقررة في الشريعة: أنه لا تصح الهبة إلا لشيء يملكه الإنسان، فالواهب يشترط فيه أن يكون مالكا للشيء الذي يهبه، فلا يصح أن يهب مال غيره. أما الركن الثاني وهو الشيء الموهوب، فتشترط فيه شروط: أن يكون مالا كما ذكرنا، وأن يكون مملوكا للواهب أو مأذونا له بالتصرف فيه. وإذا قلنا: أن يكون مالا، خرج ما لا قيمة له في الشرع، كالميتة والخمر والخنزير والأصنام، فهذه الأشياء لا تصح هبتها، ولذلك لو أنه أخذ حيوانا محنطا غير مذكى فإنه نجس وميتة، فلو وهبه، فإن هذا ليس بمحل للهبة وليست بهبة شرعية. وأما الموهوب له فهو الطرف الثالث الذي تصرف الهبة إليه، وهذا الطرف يشمل الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والأمر في الموهوب له أوسع من الواهب. وأما بالنسبة للصيغة فهي: الإيجاب والقبول. الإيجاب قوله: وهبتك سيارتي أو داري أو أرضي. وأما القبول: أن يقول: قبلت الهبة، وسيأتي -إن شاء الله- بيانهما. ويحل محل الإيجاب والقبول ما دل عليهما، فإذا جرى العرف بالدلالة على الهبة مثل ما يجري مثلا في الزواج؛ يأتي الشخص بهدية ويحملها إلى صاحب الزواج أو الزوج ويعطيه هذه الهدية دون أن يتكلم، ويقبض الآخر هدية أخيه دون أن يقول الواهب: وهبتك، ويرد الموهوب له بقوله: قبلت هديتك، لكن جرى العرف أن هذا الفعل من المعاطاة دال على الهبة والهدية. ولا شك أنه ينبغي أن يراعى في الشيء الموهوب والهدية أن يكون معلوما، ولا تصح هبة الأشياء المجهولة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الشروط وبيانها. يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهبات والعطايا. تعريف الهبة والعطية قال -رحمه الله تعالى: [وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره] أي: الهبة والعطية. قوله: [التبرع] وهو بذل الشيء للغير، والتبرع لا يكون إلا في الشيء الذي لا مقابل له، فخرج بهذا القيد البيع؛ لأن البيع ليس بتبرع، وإنما معاوضة، فيعطيه داره لقاء مائة ألف، أو يعطيه سيارته بعشرة آلاف، فهو لم يتبرع له، ولم يعطها على سبيل الإحسان، وإنما أعطاه إياها على سبيل المعاوضة، وهذا النوع من العقود لا يدخل في الهبات والعطايا. قوله: [بتمليك ماله المعلوم] هذا محل التبرع، تبرع بماله المعلوم على سبيل التمليك، فخرج ما إذا تبرع بمنفعته على سبيل العارية والقرض. فالشخص -مثلا- إذا أعطى مائة ألف ريال لرجل دينا، فإنه تبرع له وتنازل له بإعطاء المبلغ مدة معلومة، فهو لم يتنازل له بالإعطاء على سبيل التمليك، وإنما أعطاه ذلك على أساس أن يرد عوضا عنه. والعارية: لو أنه أعطاه ماله -كسيارة- وقال له: خذ هذه السيارة شهرا، أو إني مسافر وهذه سيارتي تبقى عندك أسبوعا وأذنت لك أن تتصرف فيها أو تذهب بها. فلا يدخل هذا في باب الهدايا والعطايا. قوله: [الموجود] فخرج ما ليس بموجود، كأن يهبه ثمرة بستانه للسنة القادمة، أو يهبه ثمرة البستان سنين، أو يهبه ما تحمله هذه الدابة وليس فيها حمل، فهذه هبة لشيء غير موجود، فيشترط في صحة الهبة أن تكون في شيء موجود، والشيء الغير موجود لا تصح هبته. قوله: [في حياته] خرج بما بعد الموت -كما ذكرنا- العطايا والوصايا. قوله: [غيره] وهو الموهوب له: والغير هنا نكرة، يعني: يشمل كل ما عدا الإنسان الواهب، حتى ولو من ولده، فلو وهب بنته أو ابنه، فإنه داخل في الغير، ويشمل الصغير والكبير. فالهبة تصح في هذا كله، والغير يعتبر طرفا ثانيا عن الشخص نفسه. أقسام الهبة قوله: [فإن شرط فيها عوضا معلوما فبيع] الهبة تنقسم إلى قسمين: - إما أن يهب الإنسان الشيء ولا يريد عوضا عليه. - وإما أن يهب الشيء ويريد عليه العوض. فالنوع الأول: هو مطلق الهبة، يقال: هذه هبة، والنوع الثاني: يقال له: هبة الثواب. تقيد؛ لأنها مقصودة، ويراد منها أن يرد الموهوب له هذه الهبة. أما بالنسبة للنوع الأول فغالبا ما يكون من الكبير للصغير، كالأغنياء إذا وهبوا الفقراء، فإنها تكون هبة، والأمر فيها واضح، أن الغني إذا أعطى الفقير غالبا لا يريد شيئا منه في مقابل هذه الهبة، وهبة الوالد لولده ونحو ذلك، هذه كلها هبات مطلقة. لكن هبة الثواب أن يعطي الهدية يريد أحسن منها أو مثلها، وهذا النوع من الهبات حرمه الله عز وجل على نبيه، وذلك في قوله سبحانه: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر:6] أي: لا تهب الهبة تريد ما هو أكثر منها؛ لأن هذا هو شأن الضعفاء. وهذا النوع وهو هبة الثواب جائز، وشبه الإجماع منعقد عليه؛ لكنه محرم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الأشياء التي اختص النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمها، وغيره من سائر الأمة لا يدخل في هذا، وحرمه الله عز وجل على نبيه؛ لأنه فيها منقصة. وتعرف هبة الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف. بالشرط: يشترط عليه أن يرد عليه هديته، فيقول له: هذه السيارة هدية، فإن جاءتك سيارة من نوع كذا وكذا فهبها لي، هذه لها أحكام خاصة. العرف: يدل على هبة الثواب، ومن أمثلته: ما يجري في الزواج، وهذا موجود من القديم أن الشخص يأتي في زواج قريبه ويعطيه هدية بهذه المناسبة، وجرى العرف أنه إن تزوج الواهب فإن الموهوب له يرد له هديته. في هذه الحالة عموما، هبة الثواب: إما أن يعطيه مثلما أعطى، أو يعطيه أفضل مما أعطى، لكن لا يعطي الأقل. ومما يدل على هبة الثواب بالعرف: الهبة للعظماء والكبراء، إذا كانت من الضعفاء. فمثلا: إذا كان الإنسان غنيا ثريا وجاءه فقير وأعطاه هدية، فإنه واضح أنه يريد منه مكافأة، ويريد منه ردا لهذا الجميل والمعروف، فيكون حكمه حكم هبة الثواب. والسبب في التفريق: أن هبة الثواب فيها حقوق، وجرى العرف بأن فيها حقا للشخص الذي يهب، فلو امتنع الموهوب له وقال: لا. ما أرد، فإنه حينئذ يلزم، لأن لها حكما خاصا بخلاف الهبة العامة، فإذا كانت الهبة جرى العرف أنها ترد، تردها وتكافئ من وهبك وأعطاك؛ سواء كان ذلك للمناسبات مثل الزواجات ومثل المولود إذا ولد، يعطى والده. وفي الحقيقة: هي عادة طيبة ومحمودة؛ لأن الإنسان في زواجه قد لا ترضى نفسه أن يأخذ من الناس شيئا على سبيل الصدقة، ولا ترضى نفسه أن يطلب ويسأل الناس، فمثل هذه الهبات والهدايا تعينه وتساعده على الزواج وإعفاف نفسه، إضافة إلى أنها تزيد من المحبة بين الناس حتى ولو وقع من بعضهم تفريط فإنه تحت وجود وطأة هذه الأعراف يحس أنه مضطر إلى أن يحضر هذا الزواج والنكاح، وفي هذا أيضا تحقيق لمقصود الشرع من إجابة الوليمة والدعوة. فهبة الثواب لها حكم خاص، وسواء وقعت بالشرط أو بالعرف فإنها تكون في حكم البيع، وتكون هبة معاوضة، تتفرع عليها مسائل، سيأتي بيانها -إن شاء الله- عند تقرير المصنف -رحمه الله- أنها في حكم البيع. على كل حال الهبة تنقسم إلى هذين القسمين: الهبة المحضة، والهبة بقصد الثواب. وتعرف الهبة بقصد الثواب: إما بالشرط، وإما بالعرف. فإذا وقعت بالشرط فلا إشكال، يهبه ويشترط عليه الرد، وأما إذا كانت الهبة للثواب بالعرف فإنها تأخذ أيضا حكم البيع، أما إذا كانت هبة مطلقة فلا إشكال فيها. قوله: (فإن شرط فيها عوضا معلوما فبيع) العوض هو: المقابل، عاوض الشيء بالشيء إذا جعله مقابلا له. قال: وهبتك هذا العسل على أن تعطيني -مثلا- كتابك الفلاني أو على أن تعطيني كذا وكذا. وسمى شيئا معلوما، فحكمها حكم البيع. فائدة: كوننا نحكم أنها كالبيع: أنه لو وهبه سيارة واشترط عوضا لها شيئا آخر، فأعطاه ذلك الشيء ثم تبين أن السيارة الأولى معيبة، فهل يستحق الرد؟ هذه المسألة قال بعض العلماء: يستحقه. وهو الصحيح، أنها إن جرت مشارطة أو أخذت حكم البيع وظهر العيب، قال له: وهبتك ساعتي على أن تهبني ساعتك. فقال: خذ ساعتي. فصارت ساعة بساعة، ثم تبين أن إحدى الساعتين فيها عيب. فيستحق الرد. فإذا: إذا أخذت حكم البيع جرى عليها ما يجري على البيع من أحكام، ويكون فيها الخيار على القول واللزوم. فبيانه -رحمه الله- أن المشارطة فيها: للعوض المعلوم، ولذلك يشترط أن يكون العوض معلوما؛ لأن البيع لا يصح بالمجهول، كما تقدم. هبة المجهول قوله: [ولا يصح مجهولا إلا ما تعذر علمه] أي: ولا تصح هبة المجهول إلا ما تعذر علمه. فلو قال له: وهبتك شيئا، فإنها لا تصح، ولا تنعقد الهبة؛ لأننا لا ندري ما هو هذا الشيء، فلا بد أن تكون الهبة بالشيء المعلوم. إذا قال: وهبتك سيارتي هذه، فحينئذ يكون وهبه معينا، أو يهبه شيئا يصفه وصفا يخرجه عن الجهالة، ومن أمثلة ذلك: كانوا في القديم -مثلا- يقول أحدهم: وهبتك ما تنجبه جاريتي، فإن الذي تحمله الجارية وتضعه لا يدرى أذكر هو أو أنثى، أحي أو ميت، هذا مجهول. وكذلك لو قال له: وهبتك ما في بطن هذه الناقة، فإنه مجهول الوجود ومجهول السلامة ومجهول الصفات، فاجتمعت فيه الجهالة من كل هذه الأوجه. مجهول الوجود: لأنه قد تكون الناقة منتفخة البطن ليس فيها حمل، فيكون مرضا، وليس بحمل حقيقي. حتى لو تأكدنا أنه جنين، فإننا لا ندري أحي هو أو ميت. كذلك لا ندري هل يبقى حيا إلى الولادة. ثم إذا خرج حيا بعد أن تلد الناقة، فإننا لا ندري أكامل الصفات يخرج أو ناقصها. وبناء على ذلك: لا تصح الهبة على هذا الوجه. الأسئلة نصيحة للزوجة التي تتضجر من زوجها لطلبه العلم السؤال ما نصيحتكم للزوجة الملتزمة التي تتضجر من زوجها أثناء طلبه للعلم، وتتمنى لو لم تتزوج طالب علم وتقف أمامه عائقا في طلبه؟ الجواب لا -والله- ليست بملتزمة! فالملتزم بشرع الله هو المحب لله والمحب لطاعة الله والمحب لكل شيء يحبب في طاعة الله عز وجل، فلا توصف هذه بأنها ملتزمة صادقة في التزامها! وهل هناك أفضل وأكرم وأحب إلى الله بعد الأنبياء من العلماء العاملين؟! وهل هناك سبيل للعلم إلا بطلب العلم؟! فتضجرها من العلم وكراهتها له وقولها بلسانها أنها تتمنى أنها لم تتزوج طالب علم -نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان- ينافي التزامها. والمحروم من حرم الثواب: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يلقي لها بالا) . ما هو العلم؟! العلم: قال الله، قال رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا كانت قالت: يا ليتني لم أتزوج بعالم أو طالب علم، فإن هذا من أعظم العقوق من الزوجة لزوجها؛ لأن هذه الكلمة تخرج من المرأة ولا تدري ما الذي يترتب عليها، من تحقير ما أمر الله بتوقيره، وإذلال ما أمر الله بإعزازه، وتحطيم لنفسية طالب العلم؛ لأنها تدمره من خلال هذه الكراهية، ومن خلال هذه الكلمات القاسية التي ربما فتنته في دينه. فلا شك أنها كلمة عظيمة، وهذا الشأن في كل شيء فيه طاعة الله عز وجل ومرضاته. لا يجوز لأحد أن يقول مثل هذه الكلمات. فمثلا: لو كان عنده عامل يعمل ومحافظ على الصلوات، يقول: يا ليتني لم آت بك، كما يقول بعض من بلغنا عنهم من أصحاب المؤسسات الذين لهم مصالح دنيوية، إذا تخلف عمالهم في صلاة الجمعة أو الجماعة، وهو تخلف يسير ليس فيه تلاعب، أما التخلف الذي فيه تلاعب فينبغي أن نعلم أنه ليس من الصلاة، إنما هو من نفس العامل الذي ليست عنده أمانة يحفظ بها الوقت، ويأخذ الضرورة بقدر حاجتها وبقدر وقتها، فيقول: يا ليتني لم آت بهؤلاء العمال المسلمين. حتى يتمنى أن يكون جاء بعمال كافرين. اللهم إنا نعوذ بك من عمى البصيرة، فمن زاغ أزاغ الله قلبه والعياذ بالله، وهذا من الزيغ؛ أن يتهكم الإنسان من طلاب العلم من أولياء الله عز وجل، خاصة إذا عرفوا بالتمسك بالدين وبطاعة الله عز وجل أو نفع الله بهم الأمة وصلحت أحوالهم بالعلم، فهؤلاء ينبغي أن يكرموا وأن يجلوا وأن يعانوا على طلبهم للعلم، وأن تبذل كل الأسباب التي تثبت أقدامهم على هذا الطلب؛ لأن الله تعالى أمر نبيه فقال له: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام:52] ، ومن فوق سبع سماوات يعاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في طالب علم: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى} [عبس:1 - 3] ما جاء للدنيا إنما جاء لطلب العلم، فعاتب الله نبيه عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات في طالب علم، وعاتبه في مجلس واحد، فكيف بامرأة كلما دخل عليها زوجها تذمرت وإذا حضر مجالس العلم تسخطت وضاقت?! إن لذة الدنيا عاجلة فانية، ولو مكث الزوج عند قدمها، وأعطاها حقها وحقوقها واستمتعت به ما شاءت، فإنه لا خير في تلك الشهوة إذا لم يباركها الله عز وجل، ولا بركة في زواج ولا في شهوة ولا في لذة ما لم تكن بطاعة الله عز وجل، وكم من طالب علم يحبس عن أهله ويحبس عن ولده ويحبس عن حقوق أهله، ولكن الله يضع البركة له في عمره وفي وقته بما لم يخطر له على بال. فالله تولى هؤلاء، خاصة طلاب العلم الذين عرفوا بالصلاح والخير ومحبة العلم محبة صادقة؛ فلا يجوز لأحد أن يخذلهم، حتى في المجلس، بأن تأتي تجلس فتزاحمه أو تؤذيه، فربما يكون حجرة عثرة؛ لأنه بدل أن يأتي المجلس منشرح الصدر ينقبض من تصرفاتك، حتى ولو كان بأي شيء، ولو أن تزعجه في المجلس بأصوات (الجوال) ، أنا لا أبالغ، أقول هذا حقيقة، فأي إنسان كدر على طالب العلم، فسيسأله الله يوم القيامة عن ذلك؛ لأنه في روضة من رياض الجنة، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، ووجبت محبة الله لطلاب العلم الذين جلسوا له سبحانه وتعالى ومن أجله ومن أجل طاعته سبحانه وتعالى. فأمثال هؤلاء يكرمون ولا يهانون، ويعزون ولا يذلون، ويرفعون ولا يوضعون. فلا يجوز للمرأة أن تقول هذا الكلام، وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تستغفر الله عز وجل. وأوصي زوجا تجرؤ امرأته على التهكم بالعلم واحتقاره وأذية العلماء أن يوصيها أن تلتزم بالأدب وإلا طلقها وأبدله الله خيرا منها، فإن الله تعالى أنزل من فوق سبع سماوات آيات معلومة في المنافقين الذين استهزءوا بالقراء. فينبغي للإنسان أن يتقي أمثال هؤلاء. وطالب العلم الذي يجلس مع امرأة بهذا الشكل وهو يعظها ويذكرها بالله عز وجل ولم تتعظ بل زاد تمردها، وأصبح ديدنا لها، فإنه لن يستطيع أن يبقى على طلب العلم، ومسئوليات العلم بعد العلم أعظم من مسئولياته وهو طالب علم. فغدا ستخذله عن الدعوة إلى الله وعن الخطب والمحاضرات وعن التضحية للناس، وحينئذ تمحق بركة علمه إن أطاعها. فنسأل الله العظيم أن يهدينا إلى سواء السبيل. ثم هنا وصية أخيرة أختم بها: أنه لا يعني هذا أن نغفل جانب حقوق النساء، فعلى طالب العلم أن يكون دينا تقيا يؤدي حقوق أهله، فمع طلبه للعلم يوفر لها حاجتها ولا يحوجها لأحد حتى تكره طلبة العلم، وعليه أن يرتب وقته وينظمه. ففي بعض الأحيان يغفل الرجل عن امرأته إلى درجة أن تخشى على نفسها الحرام والفتنة، فحينئذ هو الذي يأثم، وعليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يحفظ للمرأة حقوقها، وأن يجمع بين طلبه للعلم وقيامه بحقوق أهله وولده. انظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني رجل في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان يتخلف عن نصف العلم؛ لأنه كان يشهد يوما، ويذهب إلى أهله وعمله في اليوم الثاني، وهذا لا يضر الإنسان شيئا؛ لأن هناك حقوقا لو ضيعها الإنسان فربما وقع في الفتنة، وضاع عليه علمه وعمله. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبيه محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم مخالعة الرجل لزوجته إذا لم يشترط عوضا السؤال إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع، فطلقها زوجها بغير شرط، فهل المهر للرجل أو للمرأة؟ الجواب الخلع له أحكام خاصة، إذا كانت المرأة التزمت بحل عصمة الزوجية عن طريق الخلع، يجب عليها رد المهر كاملا. وأما إذا طلقها الزوج بدون عوض وبدون خلع فلا يجب عليها أن تدفع شيئا. مثال الصورة الأولى: تقول له: لا أريدك، فيقول لها: خالعيني، فتقول: أدفع لك مهرك، فيطلقها عند القاضي. فهذه المسألة مسألة خلع، ترد له المهر كاملا. والطلاق في حال عدم المخالعة أن تقول له: طلقني. فيقول: لا أطلقك، فتقول: طلقني، فيطلقها، فلا يستحق شيئا؛ لأنه لم يقع بينهما ارتباط ومعاقدة على الخلع. وبناء على ذلك: فالزوج إذا طلق بمحض اختياره، أو تضرر من الزوجة فإنه لا مهر له. ولا يجوز للمرأة أن تسأل طلاقها من زوجها -نسأل الله السلامة والعافية- بدون عذر؛ لأن في هذا وعيدا شديدا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة عليها حرام، نسأل الله السلامة والعافية. فالمرأة تتقي الله عز وجل في ذلك وتبتعد عن هذه الأمور، وتطلب الخلع بالمعروف على الوجه الذي بينه الله عز وجل وبينته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. حكم دخول تكاليف الزواج ضمن المهر عند المخالعة السؤال هل تدخل تكاليف الزواج في المهر إذا خالعت المرأة؟ الجواب هذا ليس بصحيح، تكاليف الزواج لا تدخل في المهر، وهذا من أقبح ما يكون، أنهم في هذه العصور المتأخرة، يقولون: تكاليف الزواج، لأننا لم نعرف في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في قضاء الصحابة ولا في كتب أهل العلم من نص على أن تكاليف الزواج تدفع. تكاليف الزواج -وهذا معروف- تصل في بعض الأحيان إلى مائة ألف، وقد أخذ عوضها من الناس الذين دعاهم إلى الزواج عن طريق الهبات والهدايا، فكيف يأخذ تكاليف الزواج؟! والحق الشرعي الذي أثبته الله عز وجل في كتابه، وأثبته النبي صلى الله عليه وسلم في سنته أن المرأة لا تدفع له إلا مهرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، هذا حكم الله عز وجل، ولا جناح عليهما فيما افتدت به من زوجها. أما تكاليف الزواج فهذا مما لا أعرف له أصلا، لا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكل من نظر في الإجحاف الواقع على النساء بمطالبتهن بتكاليف الزواج لا يشك أن هذا تعطيل لشرع الله، فإن المرأة تتزوج في زماننا بما لا يقل عن مائة ألف في بعض الأحيان بسبب العزائم والولائم للنساء وللرجال، وقصور الأفراح وغير ذلك من الأمور الباهظة في الثمن التي تصل إلى مئات الألوف، وإذا قيل لها: ادفعي هذا المال، فإنها لن تستطيع أن تدفع ذلك. وبناء على ذلك: عطل شرع الله بخلاصها من زوجها، والشرع جعل لها الخلاص. وينبغي علينا أن نتأمل ونكون بعيدي النظر، فإن الزوج قد استمتع بها وأصابها واستحل فرجها، ولكن الله تكرما منه وتفضلا أعطاه المهر، ومع ذلك يطلب ما هو زائد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فلها المهر بما استحل من فرجها) ، فجعل المهر لقاء الاستمتاع، ولذلك كان السلف والعلماء يحددون للزوج أن يترك شيئا من المهر ولو كان من باب الكرم والفضل، حتى إن العلماء الذين أجازوا أخذ الزائد عن المهر -وأنا لا أرى جوازه- قالوا: هذا من صنيع اللئام، أما الكريم فلا يفعل هذا، ولا يقبل أن يأخذ فوق مهره ألبتة. لكن -مع هذا- ندعو أولياء النساء إذا كان الرجل تزوج امرأة ودفع لها مهرا، وعنده ضيق في المال، والمرأة لا تريده، ودخل عليها وتكلف بعض الأشياء، فالله عز وجل يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، فولي المرأة إذا نظر إلى أن بنته أو أخته تسببت في الضرر عليه فلا بأس أن يساعده بالمعروف ويقف معه، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فيقول له: يا أخي! هذا مهرك، وهذه عشرة آلاف مني أو عشرة آلاف منا أو نحو ذلك تقديرا لظروف الزوج، فهذا شيء آخر من باب الفضل والإحسان لا من باب الفرض والإلزام. والله تعالى أعلم. حكم جريان الربا في هبة الثواب السؤال هل يجري الربا في هبة الثواب حيث إنها مبادلة مال بمال؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن حيث الأصل إذا وقعت على صورة الصرف يجري فيها، وهكذا إذا كانت مبادلة بالمكيل والموزون، على الأصل الذي قررناه في باب الربا والصرف، فتجيء من هذا الوجه أخذا لأحكام البيع. فإذا حصل فيها ما يدل على الربا أخذت حكمه، وهذه ليست بعقود بيع؛ لكنها تئول إلى حكم البيع، ويجري فيها حكم الربا والبيع من الوجوه كلها على الأصل. ومن أمثلة ذلك: لو صالحه بعوض عن مال أقر به، وكان مما يدخله الصرف، وجب أن يكون يدا بيد، وأن يكون القبض في مجلس الصلح، ولا يكون هناك تأخير أو نسأ. والله تعالى أعلم. حكم صدقة الزوجة من مال زوجها السؤال الزوجة إذا أعطاها زوجها مالا للبيت والأبناء، فهل لها أن تتصدق من هذا المال أو تهديه دون إذن الزوج؟ الجواب المرأة الرشيدة إذا أعطاها زوجها المال عليها أن تتقي الله في نفسها وفي بيتها، فتبدأ أول ما تبدأ بمن تعول، ولا يجوز لها أن تخاطر بأولادها وببيت زوجها من حيث الأصل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) فإذا كانت النفقة على حدود الحاجة ولا يمكن التصدق معها، فلا يجوز للمرأة أن تتصدق، لما في ذلك من إضاعة الحق الواجب، وحينئذ يمنع ويحظر عليها البذل والمعروف. أما إذا كان المال في سعة وزيادة وفائض ويمكن أن تتصدق منه ولا يستضر الأولاد بذلك، فإنها تؤجر على ذلك إذا كان بالمعروف، وبشيء مقبول، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الخادم الأمين والرجل المؤتمن إذا تصدق بالمعروف أجر كأجر صاحب المال. فالمرأة الصالحة إذا أنفقت من مال زوجها تحتسب النفقة عند الله عز وجل لا رياء ولا سمعة ودون إضرار بحقوق البيت، فإنها مأجورة كزوجها. والله تعالى أعلم. وضع اليد على الوجه عند الأذان السؤال هل من السنة وضع اليد على الوجه عند الأذان؟ أثابكم الله. الجواب ليس هناك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على سنية وضع اليدين على الوجه أو إحدى اليدين على الوجه أثناء الأذان. والذي استحبه العلماء عملا بما في حديث السنن: أن يضع إصبعيه في أذنيه؛ لأنه أبلغ في قوة الصوت وبلوغه، وأكثر عونا له على ذلك. والله تعالى أعلم. حكم القصر والجمع في المطار الذي في داخل المدينة السؤال لو كان المطار في داخل المدينة، فهل يجوز للمسافر أن يقصر ويجمع؟ الجواب رخص السفر لا تستباح إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فإن كان الإنسان على سفر، ونوى السفر ولم يخرج من المدينة فليس بمسافر؛ لأن الضرب في الأرض الذي نص الله عز وجل عليه -وهو الأصل في السفر- يقتضي الظهور والخروج، فلا يوصف الإنسان بكونه ضاربا في الأرض، ولا بكونه مسافرا إلا إذا أسفر، والعرب تقول: أسفر إذا ظهر، ومنه قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأظهرته، وأسفر الصبح إذا بان ضوءه، كما قال تعالى: {والصبح إذا أسفر} [المدثر:34] . فإذا ثبت هذا فإنه لا يحكم بجواز الرخص المتعلقة بالسفر إلا بعد الخروج من آخر عمران المدينة، فلا يجوز أن يجمع ولا أن يقصر الصلاة إلا إذا تحقق هذا الشرط، فلو أذن المؤذن قبل أن يخرج من آخر عمران المدينة لزمته الصلاة أربع ركعات، ولزمته صلاة الظهر في وقتها، فلا يصح أن يؤخرها إلى وقت العصر جمعا؛ لأن رخصة الجمع لا يستبيحها المقيم في هذه المسألة؛ لأنه في حكم المقيم، وعلى هذا فلا بد أن يخرج من آخر العمران. وما ورد عن بعض السلف في مسألة الصيام أنهم كانوا يفطرون وهم في داخل المدينة، أجاب عنه الإمام ابن قدامة وغيره بأن هذا اختيار منهم واجتهاد؛ لكن جماهير السلف -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين والأئمة على أن رخص السفر لا تستباح إلا بعد الظهور والبروز. والله تعالى أعلم. حكم استعمال الزيت لتنعيم وتطويل الشعر السؤال ما حكم استعمال زيت فيه دواء لتنعيم الشعر للمرأة أو تطويله؟ الجواب لا بأس للمرأة أن تستعمل الدهون الطاهرة والمباحة لتسريح شعرها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجل شعره، وكما في حديث النسائي، قال عليه الصلاة والسلام: (اكتحلوا ... ) وهو حديث ضعيف؛ لكن هناك حديث أقوى منه في تسريح الشعر:: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم) أي عليه ألا يدهن كل يوم، ولا يسرح شعره كل يوم لما فيه من المبالغة في الترف. وإذا ثبت هذا، فمن حيث الأصل يجوز، والتي تحظر هي الدهون النجسة، المشتقة من الميتات، أو التي تكون من المخدرات كالحشيش، فإن زيوت الحشيش تؤثر في الشعر، تجعله ناعما، وهي محرمة، ونحوها من الزيوت المحظورة، لأنها مواد نجسة أو مخدرة، وكلها لا يجوز استعماله. إضافة إلى أن الأطباء ذكروا أن تسريح الشعر؛ لأن الجلد يمتص هذه الأشياء، ولذلك -والعياذ بالله- قد يسبب الإدمان في بعض الأحيان، كما ذكر لي بعض الأطباء أن زيت الحشيش ينفذ إلى الجسم، حتى إن بعض من يستعمله ويداوم لو تركه يوما من الأيام يصيبه الصداع، وتحدث له أعراض قريبة من أعراض الإدمان. فتتقى مثل هذه الأنواع من الزيوت والمستحضرات التي لا يجوز استعمالها ولا استخدامها. والله تعالى أعلم. حكم من دخل المسجد قبل أذان الفجر ولم يوتر ولا يتسع الوقت إلا لركعة واحدة السؤال إذا دخلت المسجد قبل صلاة الفجر ولم أوتر، فهل أصلي تحية المسجد أو الوتر، علما أن الوقت لا يتسع إلا لركعة واحدة؟ الجواب في هذه الحالة تصلي الوتر ركعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) ، فأمر من خشي الفجر أن يوتر، وبناء على ذلك: توتر. هنا سؤال: هل يكون الوتر مسقطا لركعتي التحية على القول بالتداخل؛ لأن بعض العلماء يرى أن مقصود الشرع ألا تجلس حتى تصلي، ولما كان أقل ما يصليه المكلف ركعتين من حيث الأصل العام استثنيت هذه الحالة؛ لأنه أمر بالوتر في هذه الحالة فيصلي، فيكون في هذه الحالة مخرجا على هذا الوجه. وكان بعض مشايخنا يقول: يصلي الوتر ثم إذا انتهى من وتره قام، وتكون جلسته الخفيفة من أجل السلام كجلسة الخطيب يوم الجمعة إذا جلس عند أذان المؤذن، لورود الإذن الشرعي به. بعض العلماء يقول في خطبة الجمعة: كل خطبة عن ركعة، فإذا خطب الخطبة الأولى وجلس صار كمن أدى ركعة وجلس طبعا. والإشكال في هذا أنه جلس قبل الخطبة؛ لكن بالنسبة للجلسة الثانية بعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين، ولذلك لا يتكلم فيهما وأمر بالإنصات، وترتبت عليها أحكام أشد من غيرها من الخطب الأخر، كخطبة العيد التي خفف فيها النبي صلى الله عليه وسلم ووسع فيها على الناس، لمن شاء أن ينصرف ولمن شاء أن يجلس. حكم من ترك الصلاة لمرض ثم مات السؤال والدي -رحمه الله- قبل أن يتوفى ترك صلاة عشرة فروض لمرضه، فقد نصح من قبل الأطباء بعدم الحركة، فما الحكم، مع العلم أنه كان محافظا على الصلاة ولا يتركها؟ أثابكم الله. الجواب الله المستعان! لا يجوز للمسلم أن يترك الصلاة، ولا يجوز له أن يخرجها عن وقتها إلا إذا أذن له شرعا بذلك، كما في حالة الجمع إذا كان ممن يرخص له أن يجمع بين الصلاتين وأخر الأولى إلى وقت الثانية، أما غير هؤلاء فلا يجوز لهم أن يؤخروا الصلاة عن وقتها، كما قال تعالى: {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون:4 - 5] ، توعدهم الله بـ (ويل) ، حتى قال بعض أئمة السلف: إنه واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، فما أضعف الإنسان أن يطيق عذاب الله عز وجل! فأمر الصلاة عظيم! لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، فضلا عن تركها بالكلية. أما بالنسبة للمريض: فإن أمكنه أن يصلي على حالته يصلي، في القيام والركوع والسجود، ويفعل أركان الصلاة، وأما إذا لم يمكنه فإنه يؤدي الصلاة على قدر طاقته، حتى ولو بالإيماء برأسه، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين -رضي الله عنه- لما ابتلي بالبواسير: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب، {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] ) . فعلى المرضى وعلى قرابة المرضى أن ينبهوهم أنهم إذا عجزوا عن أفعال الصلاة أنهم يصلون ولو بالإيماء، ولا يكلفهم الله عز وجل إلا ما في وسعهم. وأما بالنسبة للوالد فلا تملك إلا أن تدعو الله له؛ خاصة أنك لم تتبين هل صلى فعلا أو لا؛ لأن حكمك عليه بعدم الصلاة يحتاج أن يخبرك أنه لم يصل، فلربما كان المريض لا يتحرك ولا يتكلم، ولكنه يصلي في قرارة نفسه، ويعلم هذا الحكم، خاصة وأنه كان محافظا على الصلاة، ونسأل الله العظيم أن يجعل الأمر كذلك، أنه صلى ولم تستطع أن تحكم عليه بعدم الصلاة؛ لأنه كان ممنوعا من الحركة. أما إذا كان أخبرك بأمره، وكان يظن أن الصلاة ساقطة عنه لمكان المرض، فهذا جهل، ويجعل بعض العلماء مثل هذه المسألة من المسائل التي يستثنى ويعذر فيها للجهل، وحينئذ يكون الحكم فيه أن أمره إلى الله تعالى، ولا يلزم الورثة في هذا الأمر شيء؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، ولا يمكن أن تقضى عن الأموات. والله تعالى أعلم. كيفية الجمع بين قاعدة: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) وقاعدة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) السؤال كيف نجمع بين هاتين القاعدتين: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) و (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ؟ الجواب اختصارا: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أي: إذا نزلت آية في كتاب الله، أو حكم عليه الصلاة والسلام بحكم وكان في حادثة معينة، وجاء لفظ الآية ولفظ حكمه عليه الصلاة والسلام عاما فإن العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، الذي من أجله جاءت هذه الحادثة. فمثلا: قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196] ، هذه الآية الكريمة -كما في الصحيحين- نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى. ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أطعم فرقا بين ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة. هذا اللفظ الذي جاء في الآية الكريمة عام، {فمن كان منكم مريضا} [البقرة:196] ؛ ولكن السبب خاص؛ لأن كعب بن عجرة رضي الله عنه فرد من أفراد الأمة والحكم نزل له خاصا وبسببه. فنقول: العبرة بعموم اللفظ، أي: لفظ الآية، لا بخصوص سبببها. وهكذا قضية المرأة لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها رضي الله عنها وأرضاها، واشتكت إلى الله، فنزلت آية الظهار، فآيات الظهار وكفارة الظهار نزلت بسبب خاص وهي قضية ثعلبة رضي الله عنه لما ظاهر من امرأته؛ لكن لفظها عام، {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2] . فهذا عام ويأخذ حكم العموم، فـ (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . الخلاصة: هذه القاعدة الأولى تدل على أنه ينبغي علينا في التشريع أن نجعل الألفاظ العامة عامة للأمة، وتشمل جميع الأمة، إلا ما خصة الشرع وأخرجه من هذا العموم. {يا أيها الناس} [البقرة:21] ، {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:104] هذا كله من ألفاظ العموم، {من كان منكم} [البقرة:232] ، {وعلى الذين} [البقرة:184] هذه كلها عامة. وإذا نظرنا إلى هذه القاعدة، فإنه يشترط فيها طبعا أن يكون هناك لفظ عام، فإذا جاء اللفظ خاصا ومخاطبا به المكلف بنفسه فهذا شيء آخر. أما القاعدة الثانية: (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم) فهذا النوع -في الحقيقة- فعلا يشكل. (قضايا الأعيان): القضية التي وقعت لصحابي بعينه، أو صحابية بعينها، لا تصلح دليلا للعموم. لما وقعت قضية اليهودي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته له بالدرع بشهادة رجلين، وحكم بها، مع أن الله تعالى فرض علينا في الحقوق المالية وما في حكمها شهادة الرجلين من الرجال أو عن كل رجل امرأتان. فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل واحد؛ لكنها في قضية معينة، وهي قضية خزيمة بن ثابت وقال له: (ما الذي حملك على ذلك؟ قال: أصدقك في وحي السماء ولا أصدقك في درع!) أي: إذا كنت في وحي السماء أصدقك أفلا أصدقك في درع؟! فشهد له بذلك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. لكن هل كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم نجعل شهادته بشهادة رجلين؟ نقول: لا. (قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم). هنا يتنازع العلماء ويختلفون: هل هذا الحديث نجعله قضية عين أو نجعله عاما؟ ومن أمثلتها: مسألة رضاع الكبير. سالم مولى أبي حذيفة صحابي تربى عند أبي حذيفة وزوجته، ونشأ منذ الصغر عندهما، ولما كبر أصبح أجنبيا، وهو مولى من موالي أبي حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، فلما أخذت أبا حذيفة الحمية، جاءت زوجته تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (ما كنا نعد سالما إلا كواحد منا -يعني: كأولادنا- وإنه حدث ما ترى -أي: أنه أصبح أجنبيا- فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمسا تحرمي عليه) . هذا الحديث من العلماء من يقول فيه: قضية عين لا تصلح دليلا للعموم، فليس غير سالم مشاركا لـ سالم في هذا الحكم، فلا يصح للكبير أن يرتضع من امرأة. ومنهم من قال: لا. بل الحديث أصل في أن رضاع الكبير يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) ، فجعل المحرمية مركبة على الرضاع، والرضاع أثبت الشرع به المحرمية، فإذا ثبتت للصغير ثبتت للكبير؛ لأن النص اعتبرها للكبير. فعندي أصل أن الرضاع يوجب التحريم، كأنه يقول: جعلته محرما لك بالرضاع، وهذا يدل على أن العبرة بوصول اللبن، يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه كما أثر في الصغير سيؤثر في غيره. فكل من ارتضع من امرأة أو شرب لبن امرأة خمسا حرمت عليه. هذا رأي من يقول: إنها ليست بقضية عين؛ لأنه يرى أن العلة صالحة للتعميم. والذين توسطوا قالوا: قضية سالم فيها حرج ومشقة، وهناك أصل عام: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] ، قد جعل أمد الرضاعة في الحولين، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) أي: أن الرضاعة في الصغر، وقال: (ما أنشز العظم وأنبت اللحم) ، وهذه كلها أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بينت أن الرضاعة تنشز العظم وتنبت اللحم، وهذا يكون في الصغر لا في الكبر. إذا: كيف يجعلونها قضية عين؟ من فوائد المشايخ رحمة الله عليهم أنهم ضبطوا قضية العين أن يكون هناك أصل يعارضها، فالأصل عندنا أن الرضاعة للصغير، فلما جاءت الرضاعة للكبير على خلاف الأصل استثنيت وصارت قضية عين وما في حكمه، بحيث تقول: من كان مثل سالم فله أن يفعل مثل فعل سالم. وهذا -والله- تطمئن إليه النفس؛ لأن الكبير كابن الخال أو العم إذا نشأ في بيت خاله أو عمه، ويرى أن زوجة خاله أو عمه كأمه، ينشأ عنده شعور أنه ينظر لها بهذا المعنى، كأنها أمه وكأنه والده، فتبعد الفتنة. لكن لا يؤتى بشاب ويرتضع من شابة فإنه لا يؤمن أن يقعا في الحرام، ولذلك ينظر إلى مقتضى الشرع؛ أن المرأة تحرجت من كون هذا كواحد من أولادها، وأنه كان بينهم من الود والتواصل والإحسان لهذا الولد ووجود الحرج للزوج، فجاء حكم الله عز وجل رحمة وتيسيرا، فنقول: كل من نشأ في بيت وتربى فيه وهو ينظر إلى هذه المرأة كأم، وينظر إلى هذا الرجل كأب، كما يحدث في الأيتام وأبناء الجيران وأبناء العمومة والخئولة ونحوهم، فإنه يمكن أن يرتضع من هذه المرأة أو من بنت المرأة حتى يصير محرما لهذه المرأة؛ لأنه ينزلها منزلة الأم، فيتحاشى بناتها؛ لأنهن كأخوات له، والشعور والمعنى موجدان فيه. إذا نقول: هذه قضية عين. فانظر كيف يحدث الخلاف بين العلماء في قضية سالم لأنه قال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) . لكن كيف تطبق قاعدة (العبرة بعموم اللفظ ... ) ممن يقول بذلك في هذا الحديث؟ يقولون: لأن العلة دلت على التعميم، العلة هي وجود الرضاعة، كأنه يقول: المحرمية مرتبة على علة وهي الرضاع، وقد قال: (أرضعيه خمسا تحرمي عليه) ، فصارت جملة (تحرمي عليه) ، التي هي جملة حكمية، حكمت بالمحرمية لأنك أرضعتيه خمسا، وهذا كما ذكرنا يستوي فيه الصغير والكبير. كذلك أيضا الاشتراط في الحج والعمرة. ضباعة رضي الله عنها أرادت أن تحج وهي مريضة، والأصل يقتضي أن المريض لا يحل من إحرامه من حيث الأصل؛ لأنه تعالى قال: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} [البقرة:196] ، فأوجب الله على المريض الفدية، فكيف يكون المرض عذرا في الفسخ، والأصل يقتضي إتمام الحج والعمرة؛ لأن الله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196] ؟ فلما جاءت هذه المرأة وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) ذكرت في سؤالها أمرا لا يمكن اسقاطه، وهو قولها: (شاكية) معناه: أن عندها حالا يصعب معه الحج، ومع ذلك تجشمت الحج مع وجود هذا العذر، بخلاف الذي طرأ عليه المرض بعد الدخول في الإحرام وإلزام نفسه. فطائفة من العلماء توسطوا في هذا وقالوا: هذه قضية عين لا تصلح دليلا على العموم، كل امرأة جاءت تحج تقول: حبسني حابس. فإذا جاء عذرها ولت وتركت إحرامها لو كان هذا سائغا. وقضية ضباعة وقعت قبل الإحرام في ذي الحليفة؛ لأنها وقعت بالمدينة -وهذا بالإجماع- قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى ذي الحليفة؛ لأنه قال: (أهلي واشترطي) ، وقد خاطبته في المدينة تسأله: هل تحج أو لا تحج؟ ووقع هذا في حجة الوداع، فإذا كان قبل الحج قال لها: (أهلي واشترطي إن حبسك حابس) ولما جاء عليه الصلاة والسلام إلى الميقات - كما في الصحيح من حديث عائشة - قال: (أيها الناس! من أراد منك أن يهل بحج فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل) وما قال: فليشترط، مع أن الناس يحتاجون للشرط؛ لاحتمال أن يحدث طارئ، والمرأة قد يصيها العذر وقد يطرأ عليها شيء؛ ولكنه لم يذكر الشرط، فهمنا من هذا أن هناك معنى في كون المكلف يحرم بالحج أو بالعمرة مع أنه مريض ولا يتحمل صعوبة النص الذي يلزم بإتمام الحج أو العمرة على ما هو عليه. ونقول: الأصل في كل مسلم أن يتم حجه وعمرته لقوله تعالى: |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (395) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [2] من أحكام الهبة التي يجدر الإحاطة بها: معرفة ما تنعقد به، وما تصير به لازمة، وهل الإبراء من الدين يدخل في باب الهبة، وما هي الأشياء التي تجوز فيها الهبة، وغير ذلك من الأحكام، وكل ذلك موضح في هذا الدرس. ما تنعقد به الهبة والعطية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يتم بها عقد الهبة. فالهبة تارة تنعقد بالقول وتارة تنعقد بالفعل، وإذا وهب الإنسان شيئا وقبله أخوه المسلم؛ فقد تم عقد الهبة. فقال رحمه الله: [وتنعقد بالإيجاب والمعاطاة] الإيجاب هو قول الواهب: وهبتك سيارتي أو دابتي أو بيتي. والقبول قول الموهوب له: قبلت، رضيت، ونحو ذلك من الألفاظ. فإذا قال الواهب: وهبتك، وقلت أنت: قبلت، فقد تمت الهبة وتم عقدها. وحينئذ صرح المصنف -رحمه الله- بأن هذه الصيغة القولية تقتضي ثبوت عقد الهبة. وكما تنعقد الهبة بالأقوال تنعقد بالأفعال، فإذا جرى العرف بأن فعلا معينا يدل على الهبة؛ فإنه يحكم بثبوتها بذلك الفعل. ومن أمثلة ذلك: ما يقع في الهدايا والهبات في المناسبات، فقد جرى العرف أنه لو صارت للإنسان مناسبة من زواج أو غيره فجاء شخص بهدية وحملها معه ليلة زواجه ودفعها للشخص الذي له المناسبة دون أن يتكلم وأخذها الموهوب له دون أن يتكلم أيضا، فإن هذا الفعل تنعقد به الهبة، ويحصل القبض على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وتكون الهبة والهدية ملكا للموهوب والمعطى. إذا: عندنا قول، وعندنا فعل. قوله رحمه الله: (والمعاطاة) أي: تنعقد بالمعاطاة؛ وهذه هي الصيغة الفعلية، وقد بينا أن شيخ الإسلام -رحمه الله قرر في أكثر من موضع في مجموع الفتاوى وفي كتابه النفيس القواعد النورانية: أن الشريعة لا تلزمنا بألفاظ مخصوصة إلا فيما دل الشرع على التقيد فيه باللفظ المخصوص، ولا تلزمنا بصيغة القول إلا إذا دل الشرع على التقيد بالصيغة القولية، وأن الأصل أنه إذا جرى العرف بين المسلمين أن فعلا ما يدل على شيء من العقود فإنه يحكم بذلك الفعل. فإذا: مراده رحمه الله أننا لا نتقيد بالقول، فلو أن شخصا جاء وأعطى ساعة لأخيه المسلم في مناسبة، فقبضها الموهوب له دون أن يتكلم، ثم قال: أنا لم أقصد الهبة أو العطية، نقول: الدلائل والقرائن كلها دالة على الهبة والهدية، فتلزم بها؛ لأنها قد قبضت، وننزل الأفعال منزلة الأقوال، ولا نقيد الحكم بالقول؛ لأن العرف في الإسلام محتكم إليه، وقد ذكرنا غير مرة أن من قواعد الشريعة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وأجمع العلماء على العمل بها قولهم: (العادة محكمة) . فإذا: إذا جرى العرف بأن فعلا ما يدل على الهبة أو الهدية، وأن فيه ما يدل على القبول والرضا، فإنه يحكم بذلك ويعتد به. ما تصير به الهبة لازمة قال المصنف رحمه الله: [وتلزم بالقبض بإذن واهب إلا ما كان في يد متهب] . قوله: [وتلزم بالقبض] عندنا عقد الهبة والهدية والعطية، وعندنا اللزوم. الهبة والهدية من حيث الأصل تبرع وإحسان، والإنسان إذا أعطى هدية لأخيه المسلم أو وهبه شيئا فإنه في حكم المحسن، والله تعالى يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ؛ لكن هذا الإحسان نلزمه به، وتصبح العين الموهوبة ملكا للموهوب له بوصف شرعي أو بشرط أجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره والعمل به، وأنه يصير الهبة والهدية ملزمة. هذا الشرط هو القبض، فإذا خاطب إنسان غيره وقال: وهبتك سيارتي أو هذه الساعة أو هذا القلم، فقال الآخر: قبلت أو رضيت، فقد تم عقد الهبة والهدية. فلو أنه رجع عن هبته وقال: رجعت، أو طرأ عليه ظرف، فامتنع من إنفاذه، فإنه لا يلزم به؛ لأن الشرط المعتبر للإلزام حصول القبض، فإذا قبض الشيء الموهوب لزم، والأصل في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها: (يا بنية! إني كنت قد وهبتك عشرين وسقا جادا من أرضي بالغابة -وهي شمالي المدينة، وكان له فيها مزارع- فلو أنك قبضتها لكانت ملكا لك اليوم، أما وإنك لم تقبضيها فأنت اليوم وإخوتك فيها سواء) . هذا الخليفة الراشد سنته محتج بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على العمل بما دل عليه هذا الأثر، من حيث أن القبض يصير الهبة لازمة، فهو قد وهبها وأعطاها عشرين وسقا من التمر من مزرعته، ولكنها تأخرت في قبض هذه الهبة والعطية، فعندما حضرت أبا بكر الوفاة رجع عن هبته وأعطيته، فإذا حضرت الوفاة للشخص الواهب، ولم يتم قبض الهدية والهبة، فحينئذ يكون حكمها حكم التصرف بالتبرعات في مرض الموت، حكمها -كما سيأتينا ونبهنا غير مرة- أنها لا تصح إلا في حدود الثلث، فما زاد عن الثلث، فهذا يرجع فيه إلى الورثة، إن أجازوه وأمضوه فلا إشكال، وإلا فلا. إذا: أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يحكم بلزوم هبته وعطيته لأم المؤمنين رضي الله عنها إلا بالقبض، ولذلك قال لها: (لو أنك قبضتيه -وفي رواية: حزتيه - لكان ملكا لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك، فأنت وإخوتك فيه اليوم سواء) . فدل هذا على أن القبض معمول به، وقد حكى الإمام ابن قدامة وابن أبي هبيرة في الإفصاح وغيرهم من الأئمة والفقهاء الإجماع على أن الهبة تلزم بالقبض. وبين المصنف رحمه الله أن هناك مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الصيغة والعقد، والمرحلة الثانية: مرحلة القبض. فكل هبة صدرت من إنسان اشتملت على عقد وقبض حكمنا بلزومها. أما ما قبل ذلك فلا نحكم بلزومها، أي: إذا وقع العقد ولم يحصل القبض كأن يقول شخص لآخر: وهبتك كذا، فيرد عليه: رضيت، ولم يقبضها، فإنه لا يلزم الواهب بالهبة التي وعد بها أو تلفظ بها، ولو كانت حاضرة. فطالما لم تمتد يد الموهوب له، لقبضه بإذن الواهب فإنه لا يحكم بلزوم الهبة والهدية والعطية إلا بعد تحقق هذا الشرط. إذا: هناك عقد، وهناك قبض، وقد يجتمع الاثنان مع بعضهما، مثلما ذكرنا، كأن تأتي في مناسبة -زواج أو غيره- إلى أخيك ومعك الهدية أو الشيء الذي تريد أن تهبه، ولا تتكلم، فتعطيه إياها، فيجتمع الفعل في الدلالة على الصيغة، ويكون قبضه لذلك الشيء الموهوب ملزم للواهب لهبته. قبض الهبة صوره وأحكامه وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهب] القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيودا معينة وأطلقه؛ فإنه يرجع فيه إلى عرف الناس. فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يحكم به، ولذلك يقول العلماء: يرجع في القبض إلى العرف. فكل ما سماه العرف قبضا حكمنا بكونه قبضا. فمثلا: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذ لو لم يمكنه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟ لا يمكن، هذا مستحيل. فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء. فإذا مكنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض. والقبض -مثلا- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض. والقبض في الطعام يكون قبضا حقيقيا، فلو أنه وهبه صاعا فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض. ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوب بنفسه أو يقبضه وكيله نيابة عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نزل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل منزل منزلة الأصيل. يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته. ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضا. ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده. لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب. فالقبض له صورتان: - الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح. ويرمي مفاتيحها إليه. - أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه. فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر. لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب. إذا: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة. ويشترط أيضا أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثرا. قوله: [إلا ما كان في يد متهب] في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المتهب. مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان. فقال له: خذها. فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتكها، وهي في يده، فهل يستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له من كونه يقول له: خذها، وهبتكها. أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتكه. فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه. أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدة أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلت؟ فهل يشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك. فالأولى: تكون له يد على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع. فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه دارا يسكنها شهرا، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتها لك. فإنه يحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض. وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط. ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجا من الخلاف. فائدة الخلاف: لو أن رجلا مكن شخصا من عمارة ليسكنها شهرا ثم وهبه له، ثم توفي الواهب. فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويقبض الواهب عمارته ثم يقبض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه. أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طريان الموت بعد ذلك. قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه. الإبراء من الدين قوله: [ومن أبرأ غريمه من دينه] من أحب الطاعات إلى الله سبحانه وتعالى إدخال السرور على المسلم بتنفيس كربته وتفريج همه وغمه وقضاء دينه. والدين -كما لا يخفى- من أعظم البلايا وأشد الرزايا؛ لأن الإنسان يتحمل تبعة عظيمة من حقوق الناس، فهو ذل النهار وهم الليل، ومن تحمل حقوق الناس تنغصت حياته، وتنكد عيشه، ولربما شوش عليه ذلك حتى في صلاته وعبادته، حتى كان بعض العلماء يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ، يقول: الحديث عام، فقد تجد الرجل صالحا دينا خيرا؛ ولكنه يعاق عن كثير من الطاعات بتعلق نفسه بحقوق الناس، التي هي في رقبته، ومسئول عنها. فلا شك أن الإنسان يصيبه الهم والغم من تبعة الدين، فإذا أبرأه صاحب الدين؛ فإن ذلك من أعظم الإحسان وأفضله وأجزله ثوابا عند الله سبحانه وتعالى حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في من كان قبلكم رجل يدين الناس، وكان يقول لغلمانه ووكلائه: إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. قال: فلقي الله، فقال الله تعالى: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عنه) ، وهذا يدل على فضل التجاوز على المعسر، وخاصة إذا وجد الإنسان الصدق في هذا المعسر، وأنه أخذ المال لأنه احتاجه، مثل: أن يسكن هو وأهله، فاستدان من أجل أجرة السكن، أو من أجل طعامه وطعام أولاده. فالتخفيف عن أمثال هؤلاء والتوسعة عليهم وتفريج الكربة وإزالة الهم والغم عنهم بمسامحتهم وإبرائهم، من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها أجرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى، ومما يبارك الله به وبسببه في مال العبد، وهذا هو المال الصالح عند الرجل الصالح، الذي يتزكى ويرجو زكاة نفسه وماله بالتوسعة على إخوانه المسلمين. صيغ الإبراء من الدين ولا عبرة باللفظ بل يرجع إلى العرف؛ لأن الأعراف تختلف، وبعض الكلمات يستحي الواحد من ذكرها، فتكون صريحة عند العلماء؛ لكنها في العرف صعبة، فيختار لفظا مناسبا بالعرف، فكل ما دل على الإبراء وجرى العرف به؛ فإنه يحكم به ويعتد، كما سبق بيانه في الصيغة الفعلية. قوله: [برئت ذمته] أي: ذمة المديون. قوله: [ولو لم يقبل] هناك خلاف عند العلماء -رحمهم الله- في شخص لك عليه دين وقلت له: سامحتك وأبرأتك. فقال: لا. سأرد الدين. ثم توفي هذا الشخص. فإن قلنا: إن القبول شرط؛ فإنه حينئذ يخصم من تركته على قدر الدين، ويجب الوفاء؛ لأن ذمته مشغولة بهذا الدين. وإن قلنا: إن قبول المديون ليس شرطا، فحينئذ لزمه الإبراء، وقد سقط الدين، ولا يؤخذ من تركته بقدر دينه. فهذه فائدة الخلاف. فأشار رحمه الله بقوله: [ولو لم يقبل] إلى خلاف في المذهب، فبعض العلماء يقول: يشترط القبول؛ لأن من حقي ألا أقبل هذا الإبراء؛ لأنه ربما يكون غضاضة على الإنسان ومنقصة له، ولذلك يقولون: لا يمكن أن نلزمه بهذه الهبة؛ لأنه قد يحصل له غضاضة، فمن حقه أن يمتنع وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولا شك أنه إذا كان هناك مثل هذه المعاني يخشى من الإنسان الذي وهب أن يكون له غرض سيئ، أو يكون ممن يمن على الإنسان أو يشهر به فيقول: أعطيت فلانا، وفعلت مع فلان، وفلان استدان مني فسامحته، وفلان كان لي عليه دين ففعلت معه كذا، فمن حقك أن تدفع هذه الغضاضة. فالحقيقة: القول باشتراط القبول من القوة بمكان. وبعض العلماء يقول: لا يشترط القبول، وهو اختيار المصنف، لكن -في الحقيقة- قبول الإبراء إذا نظر إلى وجود الضرر فيه في بعض الأحوال فلا شك أن الأصل يقتضيه؛ لأن من الحق أني أخذت المال ملتزما برده، والعقد بيني وبينه على أن أرده، وهذا أكمل لكرامة الإنسان، وأصون لماء وجهه. فإذا مكن من هذا فلا شك أنه أحظ له. أما أن يقال: أنه لا يشترط، ويلزم بذلك، ثم يصبح الرجل يمتن عليه أو يؤذيه بذلك أو يستغله في أمور لا تحمد، فإن هذا يؤدي إلى المفاسد، والشريعة جاءت لدرء المفاسد، فاعتبار الأصل من هذا الوجه أقوى. صور الإبراء والإحلال من الدين قوله: [ومن أبرأ غريمه] يكون الإبراء على صورتين: الصورة الأولى: أن تجود نفسك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثوابا وأجرا؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدين شيئا؛ فإن هذا أعظم ثوابا. وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوما من الأيام. وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسرا أو محتاجا، وأعطيته دينا في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاما كاملا من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضا في الفترة التي يستغرقها مستقرضا، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثوابا، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون) . فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثوابا وأجرا. أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثوابا وأقل فضيلة من الأول. وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدين ويقول: إن وجدت سدادا فرده، وإذا لم تجد سدادا فإني مسامحك وأنت في حل. هذا يكون فيه معلقا بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل. حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلا وإحسانا على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحدا ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعت فيه إلا أيتاما وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة. قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه. وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق. لكن إذا كان أبرأه إبراء بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتك، فحينئذ إذا أبرأه ملك ماله، وحكم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه. وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدين السابق، ثم بعد أخذه للدين سامحه صاحب الدين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟ و الجواب أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالا من تبعة ذلك المال أو الدين. ما تجوز فيه الهبة فمثلا: يجوز أن يهب العقارات، كالأرضين والدور والمساكن والمزارع والمنقولات المباحة، مثل السيارات في زماننا والدواب والأطعمة والأكسية والأغذية، هذه كلها أعيان تباع وتجوز هبتها. مفهوم ذلك: أن ما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته. ومن أمثلة ذلك: الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقد صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم غداة فتح مكة يقول: (إن الله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) ، فهذه منصوص على تحريم بيعها، فلا تصح هبتها. فلو وهبه خمرا أو ميتة مثل الحيوانات المحنطة غير المذكاة ذكاة شرعية مما تشترط لها الذكاة، أو وهبه خنزيرا أو ما هو مصنع من الخنزير ومن شحومه، أو وهبه أصناما أو صورا مجسمة، فإنها لا تصح هبتها؛ لأن الشريعة نصت على أن هذه الأمور لا يجوز بيعها، وجمهرة العلماء نصوا على أن كل ما جاز بيعه جازت هبته. وبناء على ذلك: يشترط أن يكون مالكا لهذا الشيء الذي يهبه، وأن يكون الشرع قد أذن بالمناقلة فيه والملكية. ومن هنا يظهر الخطأ في قول من قال: يجوز التبرع بالأعضاء؛ ويحرم بيعها. فالأصل أنه كل ما جاز بيعه جازت هبته. فإذا قالوا: بأنه لا يجوز بيع الأعضاء؛ دل هذا على أنه لا يملكها، وإذا كان لا يملكها فإن أصل الهبة قائمة على الملكية. ومن هنا ضعف قول من يقول بجواز التبرع، من هذا الوجه؛ لأنه يرى أن الملكية ليست بثابتة، بدليل أنهم يقرون بعدم جواز بيعها، وإذا ثبت أن الملكية ليست بثابتة، فإنه لا يصح أن يهب الإنسان شيئا لا يملكه. ثم لو سلم فرضا أنها مملوكة للإنسان فهذا التمليك قاصر، ولذلك لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، فقد تملك الشيء ولا يجوز أن تعطيه للغير، كما في أم الولد، فإن المرأة ملك لسيدها ويطؤها وهي ملك يمينه، ولا يجوز له بيعها، فقد جاء في الحديث: (أنه لا يجوز بيع أمهات الأولاد) . ولذلك نص العلماء كالإمام النووي وغيره أن الشيء قد يكون ملكا غير قابل للتمليك وغير قابل للبذل بأن يملكه للغير. فالشاهد أن مسألة الهبة يشترط فيها أن تكون مما أذن الشرع وسلط المكلف على التصرف فيه بالبذل للغير، خاصة وأنه بذل بدون عوض. فيجوز هبة العقارات والمنقولات والمبيعات المباحة، ولا بأس بذلك. قوله: [وكلب يقتنى] أي: يجوز هبة الكلب الذي يقتنى مثل كلب الصيد والماشية والزرع، فهذه الأنواع الثلاثة من الكلاب -أكرمكم الله- أذن الشرع فيها بهذه المنافع، فإذا وهبها من أجل هذه المنافع صحت هبته، كما اختاره المصنف -رحمه الله- ونص عليه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة وقت الدعاء المستجاب للصائم السؤال للصائم دعوة مستجابة عند فطره، فمتى تكون هذه؟ هل قبل الفطر أو بعده؟ وجزاكم الله خيرا. الجواب عند الشيء قربه، ولو كان مراد الشرع ما بعد وجود الفطر، لقال: بعد أن يفطر؛ ولكنه خص ذلك بما قبل الفطر بالوقت اليسير، وهذا له نظائر في الشريعة، ولذلك تجد في الصلاة أن الدعاء قبل السلام مظنة الإجابة فيعطى العبد مسألته، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر وأدبار الصلوات المكتوبات) ، أدبار: ودبر الشيء منه. وكذلك الزكاة، فإنه إذا جاء ليزكي ويعطي الزكاة يستغفر له الإمام ويدعو، {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة:103] وهذا عند قبضها. ومعلوم أن القبض يسبق إنفاق الزكوات وصرفها للمستحقين، فلذلك تكون قبل تمام العبادة، كأنه وفى لله والله يوفي له، فإذا وفى لله وقام بحق الله على أتم الوجوه؛ رزق هذه الدعوة الصالحة. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه عند فطره، يعني: عند مقاربة الفطر، فينادي الله -عز وجل- ويدعوه، وقد ضمرت أحشاؤه وخوت أمعاؤه، يسأل ربه سبحانه بتلك الكلمات الطيبات المباركات، فيلهج بهن بخلوف أطيب عند الله من ريح المسك. فيسأل ربه قبل الإفطار مباشرة، فهذا من أفضل ما يكون، وهو الذي يدل عليه ظاهر الحديث، وتدل عليه النظائر. والله تعالى أعلم. دعوة المظلوم السؤال دعوة المظلوم مستجابة، فهل هذا إذا كانت على من ظلمه، أم أنها مستجابة حتى لو دعا لنفسه في وقت كونه مظلوما؟ الجواب دعوة المظلوم مستجابة، النص فيها صحيح صريح. ولذلك روى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) ، فدعوة المظلوم مستجابة إذا كانت على من ظلمه. وينبغي أن يكون دعاؤه في حدود مظلمته. ويشمل دعاء المظلوم على عدة أوجه: الوجه الأول: أن يسأل الله عز وجل أن يكفيه شر الظالم وأذيته، وهذه دعوة السلامة. فيقول: اللهم إني أدرأ بك في نحر فلان، وأعوذ بك من شره، أو يقول: اللهم اكفني شر فلان بما شئت، اللهم إن عبدك فلان قد ظلمني وأساء إلي أو انتهك عرضي أو أخذ مالي، اللهم اكفني ظلمه بما شئت، اللهم اقطع عني أذيته، واكفني شر بليته، ونحو ذلك من دعاء السلامة. فهذا الدعاء إذا دعاه الإنسان لا يذهب أجره، وليس فيه اعتداء على الظالم، وليس فيه نقصان لأجره؛ لأنه يكتب له أجر الأذية التي حصلت فيما مضى؛ لأنه لم يدع على من ظلمه، وإنما سأل الله أن ينجيه من هذا البلاء. أما النوع الثاني من دعاء المظلوم: فهو دعاء السلامة مع الدعاء على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده أو غير ذلك، فإذا دعا على الظالم فأيضا يفصل فيه: فتارة يدعو على الظالم دعوة يسأل ربه فيها ألا يسلطه على غيره، فيقول: اللهم إن عبدك قد ظلمني، أسألك اللهم أن تحول بينه وبين عبادك المسلمين فلا يظلمهم، أو أسألك اللهم أن تقطع دابر أذيته عن المسلمين، أو نحو ذلك من الدعاء الذي يقصد به كف شر الظالم عنه وعن المسلمين. فهذا عند بعض العلماء لاحق بالأول، ويقرنون حكمه بدعاء السلامة من هذا الوجه. لكن إذا دعا على الظالم في نفسه أو ماله أو ولده فلا يخلو من حالتين: فيقول مثلا: اللهم إن فلانا ظلمني فافعل به كذا وكذا، أو خذ منه كذا وكذا، أو أنزل به كذا وكذا، ففيه تفصيل: إما أن يدعو في حدود مظلمته، فهذا قد أخذ حقه بسؤال ربه على قدر مظلمته. وإما أن يدعو أكثر من حقه، فمثلا: لو جاء إنسان وظلمه وأخذ منه القلم، فقال: اللهم إني أسألك أن تعمي بصره، فأخذ البصر ليس كأخذ القلم، فليست هناك موافقة. وأما حينما يدعو عليه أو على ولده أو أهله، فهذا النوع من الدعاء يعتبره العلماء اعتداء. قالوا: وفي حكم هذا الدعاء على ولاة الأمر والعلماء؛ لأن الضرر إذا نزل بهم يتعدى إلى المسلمين، ويكون ضررهم عاما، فلو دعا على عالم، فإنه ربما ضر بإخوانه المسلمين وانقطع نفعه عن المسلمين، فهذا من الاعتداء. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطهور) . فدل هذا على أنه ممنوع منه، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يؤمن عليه من القصاص، وأخذ حقه منه. وفي حكم هذا: أن يدعو على ولده، ويقول: اللهم نكد عليه عيشه في أهله وولده وكذا وكذا، فهذا يرونه من الاعتداء. لكن بعض العلماء يقول: من حقه أن يدعو دعوة قاصمة لظهر الظالم إذا كانت هناك مظلمة يتعدى ضررها من الشخص بالتشهير به أو انتهاك عرضه. ومن أمثلة ذلك: فعل السلف الصالح رحمهم الله، فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كذب عليه أهل الكوفة وآذوه، وهذه هي سنة الله في الأخيار والصالحين، أنهم يتهمون ويقذفون وينتقصون حتى يبرئهم الله -جل جلاله- من فوق سبع سماوات. فـ سعد رضي الله عنه صحابي جليل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدته ورخائه، وكان سدس الإسلام يوم أسلم رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم، فداك أبي وأمي) من عظيم ما كان من شأنه في الإسلام، فهو أول من رمى في سبيل الله، وأول من جمع له النبي صلى الله عليه وسلم بين والديه. هذا الصحابي الجليل كذبوا عليه، حتى جاءوا إلى عمر وقالوا له: (إنه لا يحسن كيف يصلي) . انظروا -يا إخوان- وفي هذا العبرة لكل داعية وصالح وتقي! أنه إذا جاء الكلام فيه من ورائه فإنه يطعن في كل شيء، حتى في دينه في عقيدته، في منهجه، في فكره؛ لأن هناك أناس ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالناس، كما قال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان:20] ! رجل من أهل الكوفة يأتي إلى عمر ويقول له: هذا الرجل الذي وضعته لنا لا يعرف كيف يصلي. فقام عمر رضي الله عنه وأمر باستدعاء سعد إليه، وقطع هذه المسافة الشاسعة من الكوفة إلى المدينة من أجل ذلك، تصوروا كيف يطوي تلك المسافات الشاسعات وتمضي عليه ساعات الليل والنهار وهو في هم الظلم، حتى جاء إلى المدينة. فقام وفد الكوفة الظالم الجائر فقال قائلهم: (أما وقد سألتنا عن سعد، فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يحسن كيف يصلي بنا) . الله أكبر! هذا الصحابي الجليل يصل إلى هذا القدر! فقال سعد رضي الله عنه: (والله ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطول في الأوليين، وأخفف في الأخريين، اللهم إن كنت تعلم أن عبدك هذا قد كذب وفجر فيما قال، اللهم أطل عمره، وخذ بصره، وعرضه للفتن) ، ثلاث دعوات. فاستجيبت دعوته رضي الله عنه. فعمر الرجل فوق مائة سنة، وكف بصره والعياذ بالله، وأصبح يتغزل النساء في آخر عمره والعياذ بالله، فتقول له المرأة: (اتق الله وأنت كبير سن) . فيقول: (أصابتني دعوة الرجل الصالح) . واشتكت امرأة إلى عمر وتكذب على سعيد بن زيد رضي الله عنه حيث ادعت أنه ظلمها في بئرها. فقال سعيد: (اللهم إن كنت تعلم أنها كاذبة اللهم اجعل قبرها في بئرها) . فعمي بصرها -والعياذ بالله- فسقطت يوما من الأيام في البئر فماتت، فكان البئر قبرا لها. فهذه كلها نقم من الله سبحانه وتعالى. وفي بعض الأحيان يسلط على من يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى من حيث لا يحتسب، خاصة إذا لم يدع المظلوم، فإنه إذا لم يدع تولى الله سبحانه وتعالى أمره. حتى ذكروا عن بني إسرائيل من قصصهم المعتبرة: أن رجلا ظلم امرأة، فابتلي -نسأل الله السلامة والعافية- ببلية لم يدر لها علاج. فاشتكوا إلى حبر من أحبار اليهود، فقال لهم: ما شأنه؟ قالوا: ظلم فلانة. قال: اذهبوا إلى فلانة، واسألوها أن تسامحه. فامتنعت أن تسامحه. وكان قد ظلمها مظلمة عظيمة. فقال لهم: اذهبوا إليها، وأكثروا من ذكر سيئاته التي كان يفعلها بها حتى يثور غضبها وتتكلم. فصاروا يذكرون أذيته لها حتى دعت عليه، فذهبت البلية التي كانت على الرجل ونزلت به الدعوة التي دعت عليه بها، فخف البلاء أكثر من الأول. فقالوا له: كيف علمت ذلك؟ قال: لأنها سكتت، فتولى الله جل جلاله نصرتها، فلما أصابها الغيظ وانتصرت لنفسها، زال البلاء، وأصبحت مستشفية لغيظها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وأن يسلم منا، وأن يتوب علينا ويتجاوز، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبيه محمد. المفاضلة بني اتباع الجنازة وبين الجلوس في المسجد حتى طلوع الشمس السؤال أيهما أفضل بعد صلاة الفجر: أن أنتظر حتى طلوع الشمس كما جاء في الحديث، أم المشي في الجنازة إذا وافقت جنازة في صلاة الفجر؟ الجواب الجنازة تنقسم إلى قسمين: إذا كانت جنازة من يعظم حقه ويلزم بره كالوالدين ونحوهما، فلا إشكال؛ لأنها لازمة، ولا يفضل بين اللازم الواجب وبين المستحب المرغب. أما إذا كانت جنازة من عامة الناس، فحينئذ يكون السؤال مبنيا على التفضيل بين الحج والعمرة التامة التامة بالجلوس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق وصلاة الركعتين، وبين تشييع الجنازة، فإذا نظر إلى التشييع ونظر إلى الحج والعمرة وجد أن فضل الحج والعمرة أعظم من التشييع؛ لأن الحج والعمرة من جنس الأركان، وفضيلة الحج والعمرة لا يشك أنها من أعظم الفضائل وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله قال: (إيمان بالله، ثم حج مبرور) فذكر الحج المبرور بعد الإيمان بالله -عز وجل-. هذا الوجه، دائما إذا تعارضت عندك الفضائل في الطاعات ردها إلى الأصول، فالطاعة التي هي من جنس الأركان ليست كالطاعة التي هي من جنس المستحبات، والطاعة التي من جنس الواجبات ليست كالطاعة التي من جنس السنن والرغائب، وهكذا. هذه أصول عند العلماء تعرف عند ازدحام الفضائل، فجنس الحج والعمرة مقدم على جنس التشييع؛ لكن عند العلماء أصل آخر وهو أن الفضائل المتعدية ليست كالفضائل القاصرة، فتشييع الجنازة فيه فضيلة متعدية، وذلك من حصول الانتفاع للإنسان في نفسه والاتعاظ والاعتبار، وتعزيته للمصابين بمواساته لهم، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأى بدعة ونهى وزجر عنها، فإن هذه الفضائل متعدية وأجورها عظيمة، قد تقتضي تفضيل الشهود على الحج والعمرة. لكن يشكل على هذا أن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه، فإن هذا الذي ذكر إنما يقع في بعض الجنائز دون بعضها، فليس في كل جنازة منكر، ثم إن المنكرات تختلف درجاتها، ثم ليس هناك في كل جنازة يتمكن الإنسان من بعض الفضائل المتعدية بحيث يمكن أن يحكم بها، فقد تكون الجنازة ليس لها أقرباء، ويكون كغريب توفي وليس له أقرباء يعزون، ونحو ذلك. فهذا تفضيل نسبي، والتفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل من كل وجه. بناء على ذلك، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن بقاءه إلى طلوع الشمس أعظم في أجره -إن شاء الله تعالى- من حيث الأصول. لكن لا يمنع إذا وجدت جنائز فرادى فيها نسب تقتضي التفضيل من بعض الوجوه فإن هذا يقتضي تخصيص الحكم بها، وليس بعام من كل وجه. ولذلك -وهذه الفائدة مهمة جدا- في بعض الفتاوى تجد المفتي يفضل شيئا على شيء بالتفضيل النسبي؛ لأنه يشكل عليه، فيرى ويقول: ربما لو أنك شهدت الجنازة لفعلت وفعلت، فيحكم بالتفضيل، وهذا ينبغي التنبه له؛ لأن التفضيل النسبي لا يقتضي التفضيل المطلق. ومن هنا أبو بكر رضي الله عنه فضل على جميع الصحابة، مع أن بعض الصحابة خصوا ببعض المناقب والمزايا؛ لكن التفضيل النسبي لم يقتض تفضيلا مطلقا على أبي بكر رضي الله عنه، فقد قال لـ سعد: (ارم، فداك أبي وأمي) ، وخص حذيفة بن اليمان بأسرار المنافقين، حتى إن عمر احتاج أن يسأله، ويقول له: (أناشدك الله! أكنت فيمن سمى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال: لا. ولا أزكي بعدك أحدا) ، فهل هذا يعني أن حذيفة أفضل من عمر؟! نقول: هذا التفضيل نسبي. فالتفضيل النسبي وورود الشرع بفضيلة خاصة من وجه خاص لا يقتضي الحكم بالعموم. وهكذا في الفضائل هنا، فإنه إذا نظر إلى وجود بعض الفضائل في بعض الجنائز لا يقتضي تفضيل شهود الجنائز على فضيلة الحج والعمرة من كل وجه. والله تعالى أعلم. حكم منع الرجل زوجته من قضاء الصيام مخافة على جنينها السؤال امرأة حامل تريد قضاء ما فاتها من رمضان الماضي، وزوجها يمنعها خشية على جنينها، فهل له أن يمنعها أم لا؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا كانت المرأة حاملا، وغلب على ظنها أنها تضع حملها، وتطهر من نفاسها قبل دخول رمضان الثاني، فيجب عليها طاعة زوجها؛ لأن قضاء رمضان موسع وليس بمضيق، والدليل على ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيح: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان) ، فدل هذا على أن المرأة يجوز لها أن تؤخر القضاء إلى شعبان. وعلى هذا فلو غلب على ظنها أنها تضع الولد في رجب كأقصى مدة للحمل، وتطهر في شعبان -مثلا- في منتصفه، ويبقى منتصفه الآخر، فحينئذ تؤخر الصوم، ومن حق الزوج أن يمنعها، أما لو كانت في بداية حملها وغلب على ظنها أنه لا يمكنها أن تحصل شعبان للقضاء، فحينئذ فيه تفصيل: إن قال الأطباء: إن صومها يؤثر على الجنين، كان الحق مع زوجها. وإن قالوا: لا يؤثر الصوم على الجنين وجب عليها أن تقضي. وهذه من الصور التي ينتقل فيها رمضان من القضاء الموسع إلى القضاء المضيق، ويلزمها أن تعجل؛ لأنه غلب على ظنها أنها لا تتمكن من قضائه قبل رمضان الثاني إلا على هذا الوجه، و (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، فيفصل في هذه المسألة على هذا الوجه. والله تعالى أعلم. فضائل الذكر السؤال نرجو منكم بيان الفضائل المترتبة على الذكر، وما أثر ذلك على طالب العلم؟ الجواب ذكر الله سبحانه من أحب الطاعات، وأشرف القربات الموجبة لرفعة الدرجات، وغفران الذنوب والسيئات، وانشراح صدور المؤمنين والمؤمنات. ولو لم يكن في ذكر الله عز وجل إلا أن الله عظمه وأكبره من فوق سبع سماوات، فقال سبحانه وتعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت:45] . قال بعض العلماء: إنه أكبر من كل شيء؛ لأن توحيد الله سبحانه وتعالى قائم على ذكر الله، فهو مشتمل على أحب الأشياء وأعظمها زلفى عند الله سبحانه وتعالى وهو توحيد الله سبحانه، فالذاكر لله موحد لله عز وجل. وللذكر فضائل عظيمة: - منها: ما بين الإنسان ونفسه في أمور دينه. - ومنها: ما يرجع إلى أمور الدنيا. - ومنها: ما يرجع إلى أمور الآخرة. وقد تكلم العلماء رحمهم الله على كثير من الفضائل المترتبة على الذكر، وبينوها وهي مأخوذة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا يستطيع الإنسان أن يستوعب ذلك كله خاصة لضيق الوقت. فمن أعظم وأفضل ما يكون في الذكر: أن الله تعالى أخبر أنه يذكر من ذكره، قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة:152] ، فمن كان في بلاء وذكر الله -جل جلاله- وأثنى على الله بما هو أهله؛ جعل الله له من بلائه فرجا ومخرجا، ومن كان في ضيق وذكر الله جل جلاله مخلصا من قلبه وتوجه إلى الله بصدق وإخلاص؛ جعل الله ضيقه سعة عاجلا أو آجلا، فالله تعالى جعل مزية الذكر في ذكره لعبده، فقال: {فاذكروني أذكركم} [البقرة:152] سواء كان الإنسان في شدة أو رخاء، فإن كان في رخاء بارك الله رخاءه، فأصبحت نعمته واسعة عليه مباركا له فيها، سواء كانت نعمة مال أو ولد أو صحة أو علم أو غير ذلك من نعم الله جل جلاله. ومن أعظم فضائل الذكر المتعلقة بالدين: أنه الله جعله حرزا حصينا من الشيطان الرجيم، من الوساوس والخطرات المهلكات المرديات، فإذا تسلط الشيطان على الإنسان أهلكه، فإن آدم عليه السلام وسوس له الشيطان أن يأكل من الشجرة فحصل ما حصل له من البلاء، وهو في المرتبة الكريمة والمنزلة الشريفة العظيمة، فانظر -رحمك الله- إلى هلاك الإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته. فالإنسان إذا لم يتداركه الله برحمته سيهلكه الشيطان، وهذا كله بقدرة الله جل جلاله، فيحتاج إلى أن يستعصم بالله سبحانه وتعالى، ولذلك ترى الصالحين إذا أدمنوا ذكر الله، فأكثروا من تلاوة القرآن ومن التسبيح والتحميد والتكبير وذكر الله جل جلاله، وجدتهم في ثبات على الطاعة وقوة على الخير، وتجد النفس نشيطة على الإحسان والبر، راضية مرضيا عنها. لكن ما أن يغفل ولو كان من أصلح عباد الله إلا تسلط الشيطان عليه، فلربما هدم الشيطان بوساوسه ما سبق له من البنيان، ولربما استزله إلى شهوة أو شبهة، فأردته -والعياذ بالله- فختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية. فما أحوج الإنسان إلى الذكر حتى يستعصم بالله عز وجل من الشيطان. كذلك من فوائد الذكر: أن الإنسان ضعيف، ومن ضعفه أنه إذا توالت عليه هموم الدنيا وتكالبت عليه غمومها، فإن ذلك قد يفت من عزيمته ويكسر من قوة شوكته، فيحتاج إلى شيء يطمئن به قلبه، ولن يكون ذلك إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد:28] . يكون الإنسان في ضيق من أشد ما يكون الضيق وتجده من أضعف خلق الله؛ فقيرا وحيدا، وتجده في حالة قد يغلب على ظنك أنه لن ينجو؛ ولكن يستعصم بربه فيلهج لسانه بذكر الله ويلتجئ إلى الله ويحتمي بالله سبحانه وتعالى فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب. ذو النون -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وحيد فريد وهو في الظلمات، ومع ذلك أخرجه الله عز وجل بفضله ومنته من تلك الظلمة بالتوحيد والذكر. فالذكر طمأنينة للقلب، والإنسان إذا نزلت عليه كروب الدنيا وتشتت ذهنه وتفرقت نفسه هلك. وقد كان السلف يستدلون على النصر والتأييد بالثبات عند حصول الفواجع والقوارع، فإذا وجدت العبد إذا نزلت به المصائب والشدائد ثابت القلب قوي الجنان ذاكرا للرحمن مستعصما بالديان، فاعلم أنه منصور بإذن الله عز وجل؛ لأن السكينة تتنزل على قلبه، يثبت الله بها جنانه، ويسدد بها لسانه وبيانه، حتى ينجو من هلكته، ويعصمه ربه بعصمته. كذلك من فؤائد الذكر: أن الله سبحانه وتعالى يرفع به درجة العبد، وأحوج ما يكون الإنسان احتياجه إلى رفعة الدرجة! فالإنسان لو أنه بلغ الجنة وهو في درجاتها التي ليست بالعلى، أصابه الغم وخسر هذه الدنيا، إذ لم يصل إلى الدرجة العالية الكاملة، وهذا الخسران النفسي، وليس الخسران بالمعنى الأعم المطلق، إنما المراد به أنه يحس أنه مغبون، ولذلك سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن؛ لأنه ولو كان صالحا أصابه الغم، أنه لم يستكثر من الخير والبر؛ ولكن بذكر الله يدرك من فاته، ويسبق من بعده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) . المفردون: التالون لكتاب الله آناء الليل وآناء النهار. المفردون: المسبحون الحامدون المستغفرون المثنون على الله عز وجل بما هو أهله. كذلك أيضا: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط) . قالوا: إن انتظار الصلاة بعد الصلاة لا يكون إلا للذاكرين؛ لأن القلب معلق بذكر الله؛ والصلاة من أعظم الذكر. فإذا كان انتظارها وشغف القلب بها موجبا لرفع الدرجة، فكيف بمن كان دأبه على عمارة وقته وساعات ليله ونهاره بذكر الله عز وجل؟! وأيا ما كان فلا يزال ذاكر الله سبحانه وتعالى في عصمة من الله في أمور دينه ودنياه وآخرته، حتى يأتيه الموت وهو على طاعة من الطاعات، فيختم له بخاتمة السعداء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله) دخل الجنة). ولذلك يقول بعض العلماء: إن الإنسان إذا أكثر من تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، فالغالب أن يختم له على كتاب الله. وهذا مجرب، فكثيرا ما تجد حفاظ القرآن الذين يتلون كتاب الله آناء الليل وآناء النهار ما يختم لهم إلا بأحسن الخواتم، فإما أن تجده مصليا فيختم له وهو راكع أو يموت وهو ساجد، ووالله رأينا بأعيننا من خواتم السعداء من أمثال هؤلاء الذين يكثرون من ذكر الله عز وجل، والله عز وجل يعصمهم بعصمته ويحسن لهم الخاتمة بفضله ومنه. نسأل الله تعالى أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر الحظ والنصيب. ومن أفضل الذكر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى: - ذكر العلم بحفظ القرآن، ومدارسته ومذاكرته، والجلوس في مجالسه، والحث عليه دون سآمة أو ملل، وتقدير أهله من الأحياء والأموات، والترحم على الأموات، وذكرهم بالجميل، والدعاء لهم، والاستغفار لهم، كل هذا من ذكر الله عز وجل. ومن ترحم على علماء المسلمين وذكرهم بالخير، وسأل ربه أن يغفر لهم ذنوبهم وأن يرفع لهم درجاتهم؛ قيض الله له بعد موته من يفعل به كفعله أو أفضل من فعله. فيحرص الإنسان على هذا الخصلة العظيمة، خاصة طلاب العلم، فأحق من يكون من الذاكرين هم طلاب العلم، فإذا انتهى من مجالس الذكر قام يتلو القرآن، وإذا جلس بين الناس جلس مستغفرا مسبحا حامدا مهللا مكبرا لله سبحانه وتعالى، وبذلك يكون أمة وقدوة للناس. وجماع الخير كله أن يحرص الإنسان على ذكر الله عز وجل بالوارد الذي دلت عليه نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدع ما سوى ذلك، فإذا ذكر الله بالوارد عظم أجره وثقل ميزانه. والله تعالى أعلم. الوقت المفضل لأذكار المساء السؤال ما هو الوقت المفضل لأذكار المساء؟ أيكون بعد صلاة العصر أم بعد المغرب؟ الجواب هذا فيه تفصيل، ما ورد مقيدا من الأذكار يقيد، منه ما يكون بعد أذان المغرب بدخول الليل، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) ، فقوله: (في ليلة) لا يتحقق قبل أذان المغرب، وإنما يتحقق بعد أذان المغرب مباشرة؛ لأن الليل يدخل بعد الأذان. فهذا من أذكار المساء المقيدة بالغروب. وهكذا ما ورد من الأحاديث الأخر التي تكون بعد غروب الشمس، كقوله: (اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك، أسألك أن تغفر لي) ، فهذا مقيد. وما كان مقيدا بصلاة المغرب لا يصح قبل صلاة المغرب، ولا يصح قبل غروب الشمس، مثل: التهليل عشر مرات قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره، وقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) سبع مرات، قبل أن يثني رجله وقبل أن يكلم غيره. فهذا مقيد. أما بعد صلاة العصر، فالتهليل عشر مرات عقب الصلاة مباشرة؛ لثبوت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيهلل عشر مرات، مثل ما ذكرنا في صفة المغرب. ويبقى هذا الوقت ما بين العصر وما بين غروب الشمس وقتا لأذكار المساء: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا) ، وكذلك التسبيح وقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) مائة مرة، ناويا بها المساء؛ لأن المساء يكون بعد صلاة العصر، وهكذا (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وغيرها من الأذكار المطلقة في المساء تكون بعد صلاة العصر، ويمكن أن تكون قبل غروب الشمس. وأما ما ورد من تلاوة المعوذتين و (قل هو الله أحد) فإنه يكون بعد دخول المغرب في اختيار بعض العلماء رحمهم الله كما في حديث عبد الله بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل. قلت: ما أقول؟ قال: (( قل هو الله أحد )) والمعوذتين إذا أمسيت وأصبحت، تكفيك من كل شر). فهذا فضل عظيم؛ ولكن بعض أهل العلم استحبوا أن يكون بعد غروب الشمس وقبل الصلاة. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (396) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الهبة والعطية [3] مما يعزز ترابط الحياة الأسرية عدل الآباء والأمهات بين أولادهما في كلا الجانبين المادي والمعنوي، وقد دلت نصوص الشريعة على وجوب العدل والتسوية بين الأولاد في العطايا ونحوها. وهناك أحكام خاصة بهذه المسألة، منها: كيفية العدل بين الذكور والإناث، وحكم رجوع الوالد عن هبته لابنه، وغيرها من المسائل المذكورة هنا. الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: يجب التعديل في عطية أولاده على قدر إرثهم] . شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بعطية الأولاد، وقد وردت نصوص الشريعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام عطية الأولاد، وهذه المسألة تعتبر من أهم المسائل نظرا لعموم البلوى بها، وكثرة حاجة الناس إلى معرفة أحكامها، وقد جرت عادة العلماء والأئمة والفقهاء أن يذكروا أحكام هذه المسألة في كتب الحديث والفقه؛ ففي كتب الحديث تذكر في باب الهبة، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيان مسائلها في أحاديث الهبات، كما هو صنيع أئمة الحديث وأصحاب السنن رحمهم الله، وأما الفقهاء فإنهم يذكرون أحكامها ومسائلها في باب العطية والهبة. حكم رجوع الواهب عن هبته قال رحمه الله: (ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة) . يحرم على من وهب غيره أن يرجع في تلك الهبة، أما الدليل على التحريم فما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) ، وعند علماء الأصول رحمهم الله قواعد أو أسباب يستدل بها على التحريم، قالوا: ومما يدل على تحريم الشيء وصفه بأشنع الصفات التي لا تجيزها الشريعة ولا ترضى بها، فضرب المثل بالكلب -والعياذ بالله- من أسوأ ما يكون، وإذا كان ليس لنا مثل السوء فمعناه: أن من فعل هذا الفعل فليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس على شريعته، وليس على سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أكثر من خرج عن هديه وسنته بهذا الأسلوب، فهو بدل أن يقول: يحرم الرجوع في العطية، جاء بهذه الكلمات: (ليس لنا مثل السوء) . وهذا -كما يسميه العلماء- من الأساليب المؤثرة، وينبغي للداعية والواعظ والمعلم والموجه والمربي أن يختار بعض الكلمات المؤثرة، شريطة ألا تشتمل على الغرور، وألا تشتمل على الخروج عن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقول: أيها الناس! لا يجوز الرجوع في الهبة، أو يحرم الرجوع في الهبة، لكنه جاء بهذا الأسلوب النبوي الكريم: (ليس لنا مثل السوء) ، فاقشعرت الأبدان ووجلت القلوب ما هو مثل السوء الذي سيذكر؟ وما هو الفعل الذي استوجب أن يوصف بهذه الصفة المذمومة الممقوتة التي تنفر منها النفوس، ولا ترضاها الطباع السليمة؟ قال: (العائد في هبته كالكلب) ، فشبهه بالكلب، ثم قال: (يقيء ثم يأكل قيئه) ، فوصفه بهذه الصفة، يقول بعض العلماء: نستدل بصدر هذا الحديث على تحريم الرجوع، ونستدل بالتمثيل بقوله: (كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) وأكل الإنسان لقيئه فضلا عن الكلب محرم عليه؛ لأن القيء نجس، فإذا كان نجسا فمعناه: أن الرجوع اشتمل على محرم، وعلى هذا قالوا: لا يجوز للمسلم أن يرجع في هبته. ويرد السؤال ما هي الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا التحريم؟ يقال: إن هناك حكما عظيمة؛ لأن الشريعة شرعت الهبة كسبا لمودة القلوب، وإذا أعطى الهبة والعطية والهدية ورجع فيها؛ كان هذا من أبلغ ما يكون جرحا للنفوس وإيلاما لها، فإن الإنسان إذا فرح بالعطية ثم يفاجئ بصاحبها يقول: أعطني ما وهبتك؛ فقد أذله وأهانه، وربما أشعره أن قلبه قد تغير عليه بهذا، وأن منزلته قد سقطت، وأن هناك أمرا ما قد بلغه عنه استوجب تغيير الإحسان إلى الإساءة بأخذ هذه الهبة والعطية التي أعطاه إياها. ثم إن هذه الصفة ليست من صفات الكرام؛ بل هي من صفات اللئام، فإن اللئيم -والعياذ بالله- هو الذي يرجع في هبته؛ لأن الكريم لا يرجع في هبته أبدا، ويختار أن يموت ولا أن يقول لرجل: أعطني ما وهبتك، فالكريم لا يرضى بهذا؛ لأن النفوس الطيبة والمعادن الكريمة الأصيلة مجبولة على الرحمة، وإذا نظر إلى أن أخذ هذه الهبة سيجرح أخاه ويؤلمه؛ اختار أن يجرح بما ينزل عليه من المصائب والمتاعب، ولا أن يمس مشاعر أخيه، فيوصف بكونه راجعا في هبته وعطيته. وللسلف الصالح رحمهم الله قصص عجيبة في هذا، وللفضلاء والأخيار على مر العصور والدهور مواقف كريمة في هذا، فلا يرجع الكريم في عطيته، ولا يرجع في هبته، والمسلم الصالح إذا حدثته نفسه بالرجوع وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك وبين له أنه لا يجوز؛ فإنه لن يرجع مهما كلفه ذلك الأمر، ثم يرضى بالله عز وجل عوضا عن كل فائت. فمن استغنى بالله عز وجل ورضي بحكم الله واطمأن أن الله سيخلف عليه؛ فإن الله سيعود عليه بكل خير، وقد حدث بعض العلماء رحمهم الله فقال: ما وجدت أعجب من موقف أحسن فيه بصدقة أو هبة أو هدية، فيحدث عندي الظرف القاهر المؤلم، يقول: حتى لولدي، مع أنه يحل للوالد أن يرجع في هبته لولده، ولكنه يقول: مع ذلك كان من أعظم وأصعب المواقف علي، فأمتنع من الرجوع إلا وجدت خلف الله علي بأحسن الخلف، مما يعوضه علي في ديني أو دنياي أو أهلي أو مالي أو ولدي. فلذلك ينبغي على المسلم دائما أن يسمو بنفسه إلى الكمالات، وأن يربأ بنفسه عن هذه الأمور التي نفر منها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، وبين أنها ليست على سنته وهديه. وقد بين المصنف رحمه الله أنه لا يجوز الرجوع في الهبة ما لم يقبض الموهوب له الهبة، وقد بينا هذا بحيث لو قلت لشخص: سأعطيك عشرة أو مائة، وطرأت عندك ظروف جعلتك لا تستطيع أن تعطيه، وقد تقول له: إن شاء الله في السنة القادمة إذا أتيت إلي سأحل لك هذا الموضوع، وأنت تظن أن الأمور والأحوال طيبة، وقدر الله عز وجل أن تغيرت الظروف، فتشرح له ظروفك، والله عز وجل يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] ، فإذا طرأت عليك الظروف القاهرة التي لا تستطيع أن تمضي هبتك وهديتك، فما دام أنه لم يقبض؛ فمن حقك أن ترجع، ولا يملك هو الهبة إلا بقبضها، أما وقد قبض الهبة وأخذها؛ فإنه يحرم عليك الرجوع؛ لأنه يملكها بالقبض، كما قدمنا وبينا. حكم رجوع الأب عن هبته لولده قال رحمه الله: (إلا الأب) أي: إلا الأب فإن له الرجوع في عطيته لولده من ابن أو بنت، فلو أعطى الوالد ابنه سيارة ثم رجع عنها، أو أعطاه -مثلا- أرضا ثم رجع عنها؛ كان من حقه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث السنن: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد مع ولده) ، وفي رواية (إلا الأب مع ولده) ، وهذا الحديث حسنه غير واحد من العلماء، وهو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على أن من حق الوالد أن يرجع في عطيته مع أولاده. لكن ينبغي التنبيه على مسألة وهي: أن الوالد يجوز له الرجوع في عطيته لولده لعدة أمور: أولا: أن الولد مع الوالد كالشيء الواحد، وقد بين هذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين لما بلغه أن عليا يريد أن يتزوج ابنة أبي جهل، وفهم عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر فيه نوع من الإغاضة والأذية لبنته وله عليه الصلاة والسلام، فرقى المنبر وقال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله) . فالشاهد في قوله: (إنما فاطمة بضعة مني) ، والبضعة من الشيء القطعة منه، فإذا كان يريد أن يرجع فكأنه يرجع في ماله هو، ولذلك فلا يجوز للوالد أن يعطي زكاته لولده، ولا يجوز للولد أن يعطي زكاته لوالده؛ لأن الوالد والولد كالشيء الواحد، وإذا ثبت هذا فالأب دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه مستثنى، فمن حق الوالد أن يرجع. ثانيا: أن المحبة التي يكنها الابن لأبيه والبنت لأبيها لا يمكن أن تغيرها مثل هذه الأمور الدنيوية، خاصة مع عظيم الإحسان والفضل في سالف الزمن من الوالدين على الولد من النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة، التي لا يمكن أن يدخل معها الشك وسوء الظن، فانظر إلى حكمة الشريعة حينما تحرم الشيء لأسباب، فإذا زالت الأسباب؛ حكمت بحله. ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يجوز للأب أن يرجع في عطيته لابنه وبنته، ويكاد يكون الإجماع بين العلماء على ذلك. وهناك قول ضعيف وشاذ -خاصة أنه يخالف السنة، والحديث واضح في هذا- يقول: ليس من حق الوالد أن يرجع في عطيته لولده، ويفصل في المنع، لكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الرجوع، لكن السؤال هل الجد والأم ينزلان منزلة الأب؟ من حيث الأم فوجهان: الوجه الأول: بعض العلماء يقول: إن الأم تنزل منزلة الأب؛ لأن المعاني الموجودة في الأب موجودة في الأم، والمفاسد التي تخشى من الرجوع مدفوعة في الأم أكثر منها في الأب؛ لأن إحسان الأم أعظم من إحسان الأب، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها الأحق بحسن الصحبة، وحقها آكد وأوجب. الوجه الثاني: قال بعض العلماء: الأم ليست كالأب، كما هو رواية عن الإمام أحمد، ولذلك لما سئل عن هذه المسألة فرق بين الأب والأم، وبين أن للأب ولاية على ولده، والأم ليست لها ولاية على الولد، والفرق بين الوالد والوالدة في بعض الأمور التي نص الشرع على التفريق فيها بين الأب والأم يؤكد على أنه يملك الأب الرجوع دون الأم. ولكن من جهة النظر والمعنى يقوى قول من قال: إن الأم تنزل منزلة الأب. أما الجد فقد سماه الله أبا فقال: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78] ، وقال: {واتبعت ملة آبائي} [يوسف:38] ، فسمى الجد أبا، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحسن: (إن ابني هذا سيد) ، وهو ابن بنته، وهو عليه الصلاة والسلام جد له، فالجد ينزل منزلة الأب في كثير من أحكام الشريعة. وبناء على ذلك قال طائفة من العلماء رحمهم الله: الجد له الرجوع كما للأب أن يرجع. حكم أخذ الوالد من مال ولده قال رحمه الله: [وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه] قوله: (وله) أي: للأب. وقوله: (أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه) ، أما من حيث الحكم بجواز الأخذ من أموال الأولاد فالسنة ثابتة في هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه من حديث عائشة في السنن أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وفي حديث جابر -وقد اختلف في سنده وحسنه بعض العلماء- في قصة الولد مع والده في قضاء الدين قال: (أنت ومالك لأبيك) ، ونظرا لورود السنة بهذا؛ قالوا: للوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده، لكن بشرط ألا يكون هذا الأخذ فيه ضرر على الولد، وألا يكون الولد محتاجا لهذا المال المأخوذ. فالزائد عن حاجة الولد لا بأس للوالد بأخذه، فلو كان الولد عنده خمسون ريالا هي مصاريفه لطعامه وولده، وجاء الوالد يريد أن يأخذها، والولد محتاج إليها، فلا يقال: إن من حق الوالد أن يأخذها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ، وقد جعل إعالته لنفسه في هذا مقدمة على إعالة الغير. فإذا ثبت هذا فلا يأخذ ما يضره ويحتاج إليه، ويكون أخذ الوالد بالمعروف، فإذا قلنا: إنه يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده، فيأخذ بالمعروف، وهذا أصل في الشريعة أنها إذا أجازت أخذ الحق، فأخذه يكون بالمعروف، ولذلك هند رضي الله عنها لما اشتكت زوجها أنه قصر في نفقتها كما في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فللوالد أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره وما لا يحتاج إليه. ومن الأسباب التي يضع الله بها البركة في مال الإنسان، وليس هناك سبب بعد طاعة الله عز وجل وأداء حق المال من الزكوات والصدقات، ليس هناك أعظم من بر الوالدين، فالله يضع به البركة في المال، ويجعله سببا في حسن عاقبة الإنسان في ماله، ولا يأخذ الوالد من مال ولده إلا تأذن الله لذلك الولد بالخير والحسنى في ماله، مع ما ينتظره عند الله من عظيم الأجر. والقصص في هذا كثيرة، وقد ذكر عن بعض من نعرف من المتأخرين أنه كان من أغنى الناس، وكان إذا اشترى أرضا أو دارا أو شيئا وأعجب والده، جاء والده وقال: يا بني! اكتب هذا باسمي، فلا يمكن أن يراجعه بكلمة، بل يكتبه مباشرة باسمه، حتى وضع الله له البركة والخير، فأقر الله عينه في المال والولد، فما من شيء يبارك الله فيه مثل بر الوالدين. والأحوال في الإحسان للوالدين مختلفة، فالذي يعطي والديه قبل أن يسألاه، والذي يعطي الوالدين في أحلك وأشد الظروف، والذي يراقب الوالدين بحيث لا يجعلهما في حاجة إلى أحد بعد الله سبحانه وتعالى غيره، ويبادلهما بالعطية قبل أن يسألاه، فهذا من خير المنازل عند الله عز وجل، ولا يوفق لذلك إلا الموفق، حتى إن الإنسان يصل رحمه فينسأ له في أثره، ويزاد له في عمره، وهذا في الرحم، فما بالك ببر الوالدين! وقد ذكروا عن بعضهم أنه عمر فوق المائة والثلاثين سنة، حتى سقط حاجباه وهو متماسك ويمشي بقوته، لكنه لا يصبح حتى يذهب إلى آخر خيمة من قرابته ورحمه، وقبل أن يفطر الناس يسقيهم اللبن، فكان يقول: ما زالت الصدقة تبارك لنا في أعمارنا حتى مللنا العيش. فكيف ببر الوالدين! خاصة في حاجتهم إلى الطعام أو الكساء أو الدابة والسيارة والركوب، أو الخدمة أو العلاج والدواء، أو الحاجة إلى السفر لمصلحة ولقضاء حاجة، فلا يستوجب الإنسان الرحمة والخير من الله سبحانه وتعالى بشيء بعد توحيده مثل بر الوالدين. فإذا ثبت هذا فعلى الإنسان دائما أن يحرص على الكمالات، وأن يعلم أنه لا خير في هذا المال ما لم يتق الله عز وجل فيه، ومهما أعطي من الأموال فإن المال لا قيمة له إلا أن يكون في طاعة الله عز وجل، فيكون سببا في سعادة العبد، ومن ظن أن المال المحض سبب في سعادته حتى يمنع والده منه، ويصبح المال أعز عليه من والده؛ فهذا من شر المنازل عند الله، ولو كان المال سببا في السعادة لكان أسعد الناس قارون، الذي أوتي الكنوز التي كانت تنوء العصبة أولو القوة بحمل مفاتيح الخزائن التي كان فيها هذا المال والخير، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. فالمال لا يأتي بالسعادة إلا إذا ابتغي به وجه الله، فيأتي بسعادة الدين والدنيا والآخرة، فيتأذن الله سبحانه وتعالى لصاحبه برضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة والإحسان بالمال يحجب العبد عن سيئته المتقدمة والمتأخرة، ففي الصحيحين أنه قام عليه الصلاة والسلام في غزوة العسرة، فسأل الناس أن ينفقوا في سبيل الله، فجاء عثمان رضي الله عنه وصب الذهب، ثم قام عليه الصلاة والسلام مرة ثانية، فذهب عثمان مرة ثانية وصب الفضة في حجره، فأخذ عليه الصلاة والسلام يقلب الذهب والفضة ويقول: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) لا ما تقدم ولا ما تأخر. فانظر كيف وهب الله لـ عثمان المال فكان سببا في سعادته في الإنفاق في الجهاد، والجهاد بعد بر الوالدين، فإذا كان عثمان قد أنفق هذا المال في الجهاد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل البر مقدما على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) . فإذا أنفق ماله في بر والديه فأجره أعظم، ولا شك أن الوالد إذا نظرت ولمست منه الحاجة إلى المال والمساعدة والمعونة، فلا تقف مكتوف اليد، ومن أسوأ ما يكون أن الوالد يحتاج ويقف في مواقف عصيبة، فيأتي لولده ويذل نفسه لولده ويقول: يا بني! أنا محتاج إلى مال، أحتاج إلى كذا وكذا، فيقول: والله ما عندي يا أبت، والله يشهد من فوق سبع سموات أن عنده المال، وأن المال زائد عن حاجته. فهذا والله إذا أردت أن ترى محروما؛ فانظر إلى هذا المحروم من بر والديه، وهذا من العقوق إنسان قادر على أن يفرج كربة والده -بعد الله سبحانه وتعالى- أو والدته ويقف مكتوف اليد تحت إغراء نفس أمارة بالسوء، وشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء والمنكر، وزوجة تثبطه عن بر الوالدين وتخذله، وولد مجبنة مبخلة، يؤثر بذلك كله على الإحسان الوالدين وإسداء المعروف إليها، مع أن لهم على الإنسان دينا ما وفاه، وجميلا ما كافأه، فلا شك أن هذا من أعظم الحرمان. فالإنسان يحرص إذا كان يريد مراتب الكمالات أن يجعل لوالديه حظا من راتبه، ويجعل لوالديه حظا من الخير الذي يأتيه إذا جاءه، وقد كان البعض إذا جاءته أي هدية أول من يأخذ وأول من يقسم له وأول من يستمتع بهذه الهدية والداه، وهذا لا شك أنه من أعظم التوفيق من الله سبحانه وتعالى للعبد، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. حكم مساواة الذكر والأنثى في العطية قوله: (يجب التعديل) هذا الوجوب يشمل الوالدين الأب والأم. وقوله: (في عطية أولاده) الأولاد هنا يشمل الذكر والأنثى، فيسوي بين الذكر والأنثى، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن هناك فرق بين التسوية في مطلق العطية وبين التسوية في قدر العطية، فكما أعطى الذكر يعطي الأنثى، لكن القدر الذي أعطاه للذكر يكون مثل حظ الأنثيين؛ لأنها قسمة الله من فوق سبع سموات. ولذلك قال رحمه الله: (على قدر إرثهم) ، فجعل للذكر ضعف ما للأنثى، وهذا استحبه جماهير العلماء رحمهم الله والأئمة والسلف، ومنهم من قال: إنه هو الأصل؛ لأن العدل الذي قامت عليه السموات والأرض قسمة الله التي تولاها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه، وهو هنا تفضيل الذكر على الأنثى، ونصوص الكتاب والسنة كلها دالة على هذا. ولا يستطيع أحد أن يرد شيئا حكم الله به من فوق سبع سموات، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم خلق حواء من بعد ذلك من آدم، وفرق بين تكريم آدم بالنفخ بالروح وسجود الملائكة له وتشريفه وتكريمه بهذا الفضل العظيم، ثم جعل خلق الأنثى تبعا للذكر بقوله سبحانه: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، فهي تبع للرجل، وهي نصوص لا يمكن للإنسان أن يرد فيها حكم الله أو أمر الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، فلا يستطيع الفقير أن يقول: لم جعلني ربي فقيرا؟ ولا يستطيع الغني أن يقول: لم جعلني ربي أتعذب بغناي؟ فإن هذا حكم الله {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص:68] . فلذلك وجد التفضيل من حيث الخلق والقدرة وصفة الخلق، وكذلك من حيث التكاليف الشرعية، حتى جعل النبوة في الرجال ولم يجعلها في النساء، فالتفضيل من حيث الحقوق والواجبات والتكاليف لا يمكن لأحد أن يكابر فيها، والنصوص الشرعية واضحة فيه. وإذا ثبت هذا فالعدل أن يجعل ما للذكر ضعف ما للأنثى، هذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الأنثى تستحق أكثر مما أعطاها الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قسمة الله من فوق سبع سموات، وهذا حكمه، وهذا شرعه {والله يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد:41] و {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى علوا عظيما. فقوله رحمه الله: (على قدر إرثهم) إشارة إلى ما ذكرناه من أنه يجعل للذكر ضعف ما للأنثى. الواجب على من فضل بعض أولاده على بعض في العطية قال رحمه الله: [فإن فضل سوى برجوع أو زيادة] . الفاء للتفريع، فإذا علمت أنه يجب على الوالد أن يسوي بين أولاده في عطيتهم، فيعطي للذكر ضعف ما يعطيه للأنثى، فإنه إذا اختل ذلك فإنه يجب عليه أن يرجع إلى الأصل، فلو أعطى بعضهم ولم يعط البعض الآخر، قلنا له: يجب عليك أن تعطي من حرمت؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك العدل، فإما أن تعطي المحروم أو ترجع عن عطيتك لذلك الولد. مثال ذلك: رجل له ثلاثة من الأولاد، فأعطى أحدهم ولم يعط الآخرين، ولم تكن العطية لسبب خاص كما سيأتي، فأعطى أحدهم سيارة وهناك أخوان لم يعطهما شيئا، فنقول له: إما أن تعطي الأخوين سيارة مثل هذه السيارة في قيمتها وقدرها وصفاتها وفضلها، وإما أن تسحب السيارة التي أعطيتها لهذا المفضل، فإما أن تعطيهم جميعا أو تحرمهم جميعا. هذا هو ما نص عليه رحمه الله تحقيقا للأصل الذي أمر الله عز وجل به من العدل؛ لأن العدل لا يتحقق إلا بهذا، إما أن يعطيهم جميعا فيعدل ويسوي، أو يحرمهم جميعا فيعدل ويسوي. حكم إنفاذ عطية من لم يعدل إذا مات قال رحمه الله: [فإن مات قبله ثبتت] أي: فإن مات قبل أن يرجع، مثال ذلك: لو أن رجلا أعطى أحد أبنائه الذكور أرضا، ثم توفي قبل أن يعطي أخويه الباقيين مثلما أعطى أخاهم، فتوفي قبل أن يرجع وقبل أن يسوي ويعطي الآخرين مثله، فالسؤال حينئذ: إذا كان الذي أعطيت له الأرض قبضها وحازها وتمت الهبة؛ فحينئذ تثبت هذه الهبة، ويلقى هذا الوالد ربه بمظلمة الأخوين، فيلقى الله سبحانه وتعالى بهذا، فإن سامحه ولداه فهما مجزيان خيرا، والله يخلفهما خيرا، وإن أرادا حقهما؛ فإنه مسئول عن هذا الحق، إما أن يعطيهم جميعا أو يحرمهم جميعا. فإذا أدركته ساعته وقبضت روحه -نسأل الله السلامة والعافية- قبل العدل وقبل الرجوع، فإنه حينئذ تثبت العطية، ويملك هذا الولد ما أعطاه والده، والأفضل برا لوالده وإدراكا لحق أخويه أن يستسمح أخويه أو يرضيهما حتى لا تكون على والده تبعة ومسئولية مما فعل. أدلة وجوب التسوية في العطية بين الأولاد قال المصنف رحمه الله: (يجب التعديل في عطية أولاده) بين رحمه الله في هذه الجملة أنه يجب على الوالد أن يسوي ويعدل في عطيته لأولاده. قوله: (ويجب) الواجب: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه. وبناء على هذه العبارة فإنه يلزم الوالد إذا أعطى أحد أولاده أن يعطي البقية، والدليل على ذلك عدة نصوص وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسبب هذه النصوص ذهب طائفة من العلماء كما هو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وكذلك داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله برحمته الواسعة إلى أنه على الوالد والوالدة أن يعدلوا بين أولادهم، ولا يفضلوا بعض الأولاد على بعض، إلا في أحوال مستثناة ومسائل معينة سنذكرها إن شاء الله تعالى. والجمهور يقولون: لا يجب، إنما يستحب، والأفضل والأكمل إذا كان لك أولاد أن تسوي بينهم في العطية، لكنه ليس بلازم عليك. واستدل من قال بالوجوب بدليل الكتاب والسنة: أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90] ، والعدل يكون في رعية الإنسان، والأبناء والبنات رعية كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فيجب على الوالد أن يعدل بينهم؛ لأن الله أمر بهذا العدل، فلو فضل الوالد أحد أولاده على غيره من إخوانه وأخواته، فإن هذا ليس بالعدل. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: (إني لا أشهد على جور) ، فجعل تفضيل بعض الولد على بعض من الجور، والله يقول: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90] ، فإذا كان العدل واجبا مأمورا به فضده الجور والظلم، وهو منهي عنه شرعا، فإذا دلت السنة على أن تفضيل بعض الولد على بعض ليس من العدل؛ كان ذلك دليلا على أنه تجب المساواة في العطية بين الأولاد، كما هو مذهب من ذكرنا من العلماء رحمهم الله. أما الدليل الثاني: فحديث النعمان بن بشير رضي الله عنها، وله قصة ثابتة في الصحيحين؛ (أن أمه عمرة بنت رواحة رضي الله عنها سألت أباه أن يعطيه عطية، فأعطاه عطية، وقالت له: أشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق والده بشير رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يشهد على عطيته لولده، فقال صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم) ، وفي رواية: (أشهد على هذا غيري) ، وفي رواية: (سووا بين أولادكم) ، وفي رواية: (إني لا أشهد على جور) ، فهذا كله يدل دلالة واضحة على أنه يجب على الوالد أن يسوي في عطيته وهبته بين أولاده، وألا يفضل أحدا منهم على الآخرين. ومن خلال هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال هؤلاء الأئمة: يجب على الوالد أن يعدل، فهو واجب وفرض عليه، ثم إن العقل يدل على ما دل عليه النقل، فإن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد شرعت العطية زيادة في المحبة وطلبا للقربة والمودة، فإذا كانت العطية لبعض الولد دون بعض توجب الشحناء والبغضاء وإغارة صدور بعضهم على بعض، كان هذا من أعظم المفاسد والشرور؛ لأن من أعظم ما يكون من الشر قطيعة الرحم، وهي بذلك تقطع أواصر المحبة بين أولى الناس بالمحبة، فغن أولى الناس بالمحبة والألفة هم الإخوة والأخوات. وتشهد بهذا أيضا أصول الشريعة، كما في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته الأسباط {قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين} [يوسف:8] ، ولذلك قال الله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى} [يوسف:111] ، فالله عز وجل جعلها عبرة لكل والد مع ولده؛ نبهه بها على مشاعر أولاده، ونبهه على ما يكون في نفس ولده من الألم والشجى والحزن إذا فضل أخاه عليه، أو فضل أخته عليه. ومن هنا نقول: إن النقل والعقل دالان على وجوب التعديل وعدم جواز التفضيل، إلا إذا وجد المبرر الشرعي لذلك التفضيل. وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب، فهم يقولون: نحن نسلم بهذا الحديث، ونسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا) ، وهذا أمر، والأمر للوجوب، لكن لما جاءت زيادة في الرواية وهي ثابتة وصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ناقش بشيرا فقال له: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) أي: هل يسرك أن يكونوا بارين لك برا واحدا، فلا يمتنع بعضهم عن البر؟ قالوا: فالسؤال بمثابة التنبيه على العلة والتي من أجلها أمر بالمساواة، فالعلة هي كما أنه يحب أن يكونوا له في البر سواء، فينبغي أن تكون عطيته لهم سواء، وألا يفضل بعضهم على بعض، قالوا: فنصرف النص من ظاهره الموجب للوجوب إلى الندب والاستحباب. والقول بالوجوب -كما اختاره المصنف رحمه الله- هو أولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى، فيجب على الوالد والوالدة أن يسووا بين أولادهم في العطية، وألا يفضلوا أحدا على أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله من أشد الناس في هذا، فقد كانوا يسوون بين الأولاد حتى في القبلة، فلو قبل ولدا بجوار أخيه قبل أخاه معه، ولا يفضل ولدا على ولد، خشية أن يقع بينهم ما يكون موجبا لدخول الشيطان على القلوب فيفسدها ويقطع أواصر المحبة بين الأقارب. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم الرجوع في الشيء لاختلاف كونه دينا أو هبة السؤال رجل وهب والده مبلغا من المال، والآن يطالبه عند القضاء بإرجاع ماله، فلو أقر الوالد بأنه أخذ من ولده مالا، وحصل الخلاف في كونه هبة أو دينا فما الحكم؟ الجواب المخرج هو الصدق، قال أحدهم: يا بني! اصدق حيث تظن أن الصدق يضرك؛ فإنه لا يضرك بل ينفعك، ولا تكذب حيث تظن أن الكذب ينفعك؛ فإنه لا ينفعك بل يضرك. لكن لو رفع إلى القضاء وأقر أنه أخذ هذه الهبة وقبضها، فالقاضي يقضي بثبوت الهبة، وإذا ثبتت الهبة فلا يملك الرجوع فيها، على تفصيل عند العلماء، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي. وبعض العلماء يرى أن الهبة والهدية إذا أعطيت لزمت ولا يملك أحد الرجوع فيها؛ لأن النص فيها واضح، وبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم حرمة هذا الفعل، وبناء على ذلك قالوا: لا يملك أن يرجع، وقال بعض العلماء: له الحق أن يرجع ويأثم بالرجوع، لكن من حقه أن يأخذ المال، وهذا يختلف بحسب اختلاف ما يرجحه القاضي في هذه المسألة. والله تعالى أعلم. الفرق بين الإتمام والقضاء للمسبوق في الصلاة السؤال إذا أدركت الركعة الثالثة والرابعة مع الإمام، فهل تكون في حكم وهيئة الأولى والثانية بالنسبة لي من حيث قراءة الفاتحة وسورة؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: ما أدركت مع الإمام فاعتبره أول صلاتك، فإذا أدركت الركعتين الأخيرتين فتقرأ بعد الفاتحة سورة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ فيهما بعد الفاتحة سورة الإخلاص، وبعض العلماء يقول: بل صلاتك مع الإمام هي الأخيرة؛ لأنك ستقضي ما فاتك، والصحيح أنه إذا سلم الإمام فيتم ولا يقضي، وبناء على ذلك تكون صلاته مع الإمام هي الأولى. وعلى هذا فإن الأولى والأقوى أنه يعتبرها أول صلاته، فيقرأ الفاتحة ويقرأ بعدها سورة. والله تعالى أعلم. وجوب شكر الله تعالى على نعمه السؤال إذا كانت النعم تتوالى على العبد ولا يحدث لها شكرا، فهل هذا استدراج من الله؟ الجواب إن شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه من أعظم الأسباب التي توجب محبة الله للعبد، ولذلك أثنى الله من فوق سبع سماوات على عبده نوح، فقال: {إنه كان عبدا شكورا} [الإسراء:3] ، وأخبر سبحانه وتعالى عن عظيم فضل الشكر، وأنه من ذكره سبحانه وتعالى، ومن عبادته وطاعته وتوحيده، بل وأحب الله الشكر وأحب الشاكرين، وتأذن بالمزيد لأهله {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] ، وتأذن بوضع البركة لعبده، فما من عبد يشكر الله في نعمة إلا بارك الله له فيها. وأحب الله الشكر؛ لأنه إقرار واعتراف بفضله سبحانه، ومدح وثناء وتمجيد لله عز وجل، والله يحب المدح ويحب أن يثنى عليه سبحانه بالذي هو أهله، وهذا من حقوقه سبحانه على عباده، أنه يشكر سبحانه على ما أسدى وأولى، فالذي يشكر الله وحده يوقن ويؤمن بأن هذه النعمة والفضل كله لله سبحانه وتعالى، ومن أعظم مقامات العبودية أن يستشعر العبد نعمة الله جل جلاله عليه. ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس ما قال: انظروا كيف أصبحنا! انظروا كيف أصبحت المسافات البعيدة قريبة إلينا! أو تقدمنا أو تطورنا، أو كذا إنما رجف قلبه لله سبحانه وتعالى، وكان أول ما نطق به {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل:40] ، أي: ليس بحولي ولا بقوتي، ولكن بفضل الله وحده لا شريك له. فهنيئا ثم هنيئا لكل عبد شاكر، إذا دخل إلى بيته فرأى الأمن والأمان في أهله وولده قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل:40] اللهم لك الحمد، اللهم لك الشكر هنيئا لعبد إذا أنعم الله عليه بالعافية فنظر إلى مريض أو سقيم قال في قرارة قلبه وبلسانه مناجيا ربه: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل:40] ، هنيئا لعبد شاكر لن تمضي عليه طرفة عين إلا وهو متفكر متدبر في نعم الله وآلاء الله التي تترى عليه صباح مساء، فإن هذه المنن والنعم والخير هي رزق من الله وحده لا شريك له. والشكر طريق الخير والبركة للعبد في الدنيا والآخرة، وأسعد الناس في هذه الدنيا هو من شكر الله؛ لأن الله لا يعطي الشكر إلا لأصلح عباده، ولا تجد عبدا شكورا إلا وجدته صالحا؛ لأن الإنسان لا يعطى نعمة الله سبحانه وتعالى إلا بفضل من الله سبحانه وتعالى، والله أعلم حيث يضع فضله {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54] . ومن الشكر أن يشكر العبد ربه على أعظم النعم وأجلها وهي نعمة الإسلام، فنحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لبقر ولا قبر، ولم يجعلنا نعتقد فيما سواه سبحانه، بل جعل قلوبنا له وحده لا شريك له، فهذه أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده، وأعظم منة يمتن بها سبحانه علينا {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} [الحجرات:17] ، ولا نعمة فوق هذه النعمة، فمن أعظم الشكر أن تستشعر هذه النعمة العظيمة، وتقول: اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام. وقف عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه على الصفا فقال: اللهم إنك قلت في كتابك: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60] اللهم كما وهبتني نعمة الإسلام؛ فلا تسلبها مني حتى تتوفاني عليها وأنت عني راض. فانظر إلى هذا الصحابي الجليل لما أعظم نعمة الله عليه بالإسلام؛ شكر الله عليها، وانظروا إلى عباد القبور والأشجار والأحجار والأبقار {يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج:12 - 13] . وتصور لو أن الإنسان -والعياذ بالله- في بيئة تعكف على هذه الأصنام والأوثان، كيف سيكون حاله؟! فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وقد فضل الله هذه النعمة وزادها أن جعلك في خير الأديان وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، فجعلك من أتباع خير رسله وأفضل رسله، صلوات الله وسلامه عليه. ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فلم يعطك نعمة التوحيد فقط، بل وجعل شريعتك أفضل الشرائع التي تتبعها وتسير على نهجها وتهتدي بهدي نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فمن الشكر أن تستمسك بالسنة، وأن تستمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تمتثل لهذا الهدي، وأن تحب كل شيء يدعوك إليه، من العلماء العاملين والمتمسكين بالسنة من السلف الصالح لهذه الأمة والتابعين لهم بإحسان، فتحبهم وتشهد مجالسهم، وتدعو لهم بخير، شكرا لله على نعمه. ومن أعظم النعم التي أنعم الله عز وجل عليك بها: نعمة وجود الرغبة في العلم وطلب العلم وتيسير ذلك، فكم من مريض على الفراش أو على الأسرة يتمنى أن يجلس في مجالس العلم، وكم من جاهل في بادية أو جبل أو نجد أو وهد يتمنى أنه جالس بين يدي العالم، فقل: الحمد لله على فضله ومنه وكرمه أن يتصل سندك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق عالم أخذ العلم عن أهله، فإن هذه نعمة وفضل من الله سبحانه وتعالى. وكذلك أيضا من أعظم النعم التي تستوجب الشكر: نعمة الوالدين، والله يقول: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان:14] ، فجعل الله شكر الوالدين مقرونا بشكره سبحانه وتعالى، فكلما دخلت على والدك أو والدتك شكرت نعمتهما بعد نعمة الله عز وجل. ولذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما ربيتيني صغيرا، فتقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله كما بررتني كبيرا. فهكذا يكون الإنسان شاكرا لنعمة الله عز وجل عليه. ولذلك أثنى الله على خليله وحبه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، فقال سبحانه: {شاكرا لأنعمه} [النحل:121] ، فجعله أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين، لما أثنى عليه بثناء التوحيد، مع أنه إذا كان حنيفا ولم يكن من المشركين فالحنيفية قائمة على الشكر، ومع ذلك خص الله الشكر بقوله: {شاكرا لأنعمه} [النحل:121] . فالله سبحانه وتعالى جعل الخير كله في الشكر، فيشكر الإنسان ربه، ويعترف أن هذه النعمة من الله وحده لا شريك له، ويعتقد الفضل لأهل الفضل؛ كوالديه، ومن علمه، ومن أسدى إليه معروفا، كما إذا تولى رعايته وهو صغير، كأن ينشأ يتيما، وله أخ قام عليه أو قريب، فمثل هذه الأمور من نعم الدين والدنيا ينبغي شكرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله) أي: لم يشكر الله شكرا كاملا من لم يشكر الناس، فمن شكر الله أن يشكر الناس؛ لأن الله جعل الناس سببا من أسباب رحمته بعبده، فالله لا يحب نكران الجميل، وكفر النعمة، وجحد الفضل يجلس الإنسان مع والديه ثم يكفر نعمة الوالدين، أو يجلس مع قريبه الذي رباه وقام عليه أو أخوه الأكبر الذي أحسن إليه حتى إذا شب وكبر كأن لم يكن هناك إحسان أو فضل، نسأل الله السلامة والعافية. فمن أسوأ ما يكون من العبد كفره للنعمة ونكرانه للجميل، فلا يجوز للمسلم أن يكون بهذه المنزلة الممقوتة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) . وكذلك مع العلماء والأئمة والسلف الصالح نقرأ كتبهم ونتعلم وننال فضلهم، ثم بعد ذلك نجلس نسلب هؤلاء العلماء أو نتتبع سقطاتهم وأخطاءهم على سبيل التشنيع بهم، فهذا من كفران النعم، بل نقول: رحمهم الله برحمته الواسعة، وأجزل لهم المثوبة، ونذكرهم بالجميل، ونتحدث بفضلهم ونشيد بمآثرهم، اعترافا بفضلهم وطلبا لرحمة الله سبحانه وتعالى لهم. قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) ، وقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم مع علو منزلته ودرجته يذكر فضل خديجة بعد موتها، ومن أعظم الشكر أن تذكر فضل الإنسان بعد موته وذهابه، فذكر فضل خديجة رضي الله عنها يوما (فقالت عائشة رضي الله عنها: ألم يبدلك الله خيرا منها، ألم تكن عجوزا أبدلك الله خيرا منها، فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: لا والله) قسما أقسم به صلوات الله وسلامه عليه، وفاء وبرا وصدقا (لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها) ، وقد كان بعض العلماء يستدل به على أن خديجة أفضل من عائشة رضي الله عنها (لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني بنفسها ومالها، ما أبدلني الله خيرا منها) . كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه له زوجة قامت على حاله وشأنه، فلما كبر وكبرت؛ جاءه أحد المشايخ من زملائه وقال له: يا شيخ! هلا تزوجت الثانية، فقال: أما أنا فقد أصبحت من الحطمة، ولكن أين الوفاء؟ وحتى لو كانت لي قوة فأين الوفاء؟ وكيف أكسر خاطر زوجتي في آخر حياتي؟ وهذا لا يعني أن نترك التعدد، بل المراد حفظ العهد، فإنه رأى أن زوجته قد ينكسر قلبها وخاطرها بهذا، وقد رزقه الله الولد والذرية. فالشاهد: أن الإنسان يحفظ عهد الزوجة، ويحفظ عهد الأخ والأخت والابن، وكل من أسدى له معروفا يشكر معروفه بعد شكر فضل الله عز وجل عليه بالإحسان وذكر الجميل، وألا يكفر هذه النعمة، فيستبدلها بالإساءة ونحو ذلك، فهذا كله مما لا يحبه الله ويرضاه. ولذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم إمام وقدوة الشاكرين، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقام حتى تفطرت قدماه، فقالت له أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: (لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما حكم التداوي بما حرم الله عز وجل السؤال ما حكم التداوي بما حرم الله تعالى إذا استعمل كل طريقة للعلاج ولم تنفع، مثل التداوي بشحم الخنزير؟ الجواب اختصارا: لا يجوز التداوي بما حرم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله لم يجعل شفاء أمتي بما حرم عليها) ، ولذلك فلا يحوز التداوي بشحم الخنزير، ولا يجوز التداوي بأي شيء من الخنزير، وقال بعض العلماء: إنه يجوز التداوي به؛ لقوله سبحانه: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] ، لكن هذا محل نظر؛ لأن الحقيقة التي ينبغي أن يتنبه لها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جعل لكل داء دواء إلا الموت والهرم) ، فلم يجعل لهما دواء كما صح عنه عليه الصلاة والسلام. فإذا ثبت أن لكل داء دواء، فليعلم من يبحث عن الدواء أنه إذا لم يجد دواء فليس العيب في عدم وجدانه، إنما العيب أنه لم يجد طبيبا يعرف الدواء والداء، ولذلك فلا يرخص، وقد يستعجل بعض العلماء ويفتي بأنه مضطر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما أنزل من داء إلا وله دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، فأصبح الخطأ والتقصير في البحث ممن هو حاذق في علاج هذه الأمور. وكثير من الأمور كنا نمنع الناس منها، وهي محرمة، وإذا بنا نتفاجأ بعد مدة برجل يأتي ويقول: الحمد لله اتقيت الله فجعل الله لي فرجا ومخرجا، فإذا بي أجد علاجا في كذا، أو أجد دواء في كذا، فما اتقى الله عبد إلا جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل داء دواء، فالإنسان يحتسب، ويحرص على سؤال أهل الخبرة والعلماء بالطب الحاذقين به، فإن الله سبحانه وتعالى سيلهمه ما هو أنجع وأنفع لدائه وبلائه. والله تعالى أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه. حكم هدية الطالب لمعلمه أو الموظف لمديره السؤال أشكلت علي مسألة: ما حكم قبول الهدية من الطالب لمعلمه أو من الموظف لمديره؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن كان في عمل أو وظيفة، وقام بهذا العمل والوظيفة، فلا يجوز له أن يقبل من الناس شيئا، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام (أنه أرسل رجلا على الصدقات، فجاء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم وهذا لي -أي: هذه الصدقات وهذه هدايا خاصة بي- فقام عليه الصلاة والسلام خطيبا وقال: ما بالي أستعمل الرجل على مال الله عز وجل، ثم يأتي ويقول: هذا لكم وهذا لي، هلا قعد في بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا!) . فدل على أن هذه الهدية جاءت بسبب العمل، وجاءت بسبب المصلحة المتعلقة بجماعة المسلمين، ومن هنا عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين عليه الصلاة والسلام عدم استحقاقه؛ لأنها جاءت تابعة للعمل، وقد نص جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أنه لا يجوز للإنسان أن يقبل الهدية على عمله. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: (كانت الهدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، أما اليوم فإنها رشوة) ، يعني أنه كانت النفوس أولا طيبة وتعطي لله وفي الله، ولكن لما دخلت الدواخل وكثرت المصالح، وأصبح الإنسان يفعل الفعل وهو يجعل الدنيا أكبر همه -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يجعل الآخرة أكبر همه -إلا من رحم الله- خاف العبد الصالح وتورع من هذا. فالمعلم والموظف ومن في حكمهما لا يجوز لهم أن يأخذوا الهدية، إلا من شخص كان يهدي إليه قبل العمل والوظيفة، فإذا كان الشخص يهاديك من قبل فلا بأس بقبول هديته؛ لأنه لا يختلف الحال؛ لأن هذه الهدية لا شبهة فيها. وأيضا: لا يجوز لك أن تقبل دعوته الخاصة، بحكم أنه ليس الأمر موقوفا على الهدايا؛ بل قد يدعوك إلى وليمة خاصة، فإذا بالموظفين ومن تحته يصنعون الولائم ويتملقونه، وفي الحديث: (من أكل طعام قوم ذل لهم) ، فلو كان أضعف موظف عند الإنسان ودعاه إلى طعامه كسر عينه، ولم يستطع أن يقف في وجه يوما من الأيام؛ لأن النفوس مجبولة على الحياء ممن أحسن إليها، والورع والذي يخاف الله ويتقيه يبتعد عن هذه الأمور كلها. وللسلف الصالح رحمهم الله في ذلك أروع المواقف، حتى ذكروا عن هارون الرشيد رحمه الله برحمته الواسعة أنه دخل عليه قاض من قضاة السلف رحمهم الله فقال: أنا بالله ثم بأمير المؤمنين أناشدك الله أن تقبل كتابي. فقد كان قاضيا وإذا قبل الخليفة الكتاب فمعناه أنه قد أقاله من القضاء. فقال له هارون: لا أقبل حتى تقص لي السبب الذي من أجله امتنعت من القضاء. فقال: يا أمير المؤمنين! إني عرضت علي قضية من القضايا، فجاءني رجل عظيم غني ثري ومعه خصمه، قال: فنظرت في القضية فإذا بها تحتاج إلى تأمل ونظر، فلم أبت فيها، ووعدت الخصمين أن يعودا إلي بعد أيام، قال: فسمع الغني أني أحب التمر، فذهب واشترى وجمع تمرا من أنفس وأجود أنواع التمر، ثم فوجئت بكاتبي قد دخل علي بذلك التمر، فقلت له: ويحك ما هذا؟! قال: هذا من فلان بن فلان. فأمرت بجلد الكاتب وطردته، ورددت العطية إلى صاحبها، ووبخته وعزرته. قال: ثم لما حضر عندي الخصمان بعد هذا الفعل، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أن جلسا بين يدي -مع هذا الاحتياط- ما استويا في عيني. قال بعض العلماء: كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن معنى قوله: (ما استويا في عيني) أنه وجد أن هذا الغني لما تكلف المال واشترى ثم رده عليه أنه انكسر، فجاءه شيء من الرحمة، أو أنه ما زال حانقا غضبان على هذا الذي رشاه، وتوقع أنه يفعل مع غيره كفعله، ونظر إلى جرأته مع أنه عزره، لكن لا زال قلبه يحدثه أنه يستحق أكثر من ذلك، فلما جلسا في القضية لم يستطع أن يراهما بمنزلة واحدة، فسأله أن يعفيه من القضاء. هذه هي منزلة الورع، فقد كان السلف رحمهم الله يخافون خوفا شديدا من الهبات والهدايا والعطايا، والإنسان إذا أراد النجاة فيحرص كل الحرص على الأمانة، وإذا جاء إلى وظيفة أو عمل أو تدريس فلا يسأل الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى جزاءه، وهو الذي يتولى مكافأته {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل:96] ، وأنعم بالجزاء إذا كان من الله سبحانه وتعالى، وأنعم بالعطية إذا كانت من الله، وانظر إلى حالك حينما يأتيك مخلوق ضعيف يقدم لك عرضا من الدنيا، فتنظر إلى ما عند الله وما عند المخلوق، فتؤثر ما عند الله على ما عند المخلوق. وقد تكون في أمس الحاجة إلى هذا الشيء الذي يعرض عليك فترده، فيعوضك الله سبحانه وتعالى من حسن الخلف ما لم يخطر لك على بال، فليس هناك أعظم من مكافأة الله لعبده، وهذا شيء نقوله بألسنتنا، لكن يعرف لذة ذلك وطعمه وقدره من عرفه، فالمعاملة مع الله رابحة، ولا يظن الإنسان أنه إذا أصبح عفيفا في عمله أو وظيفته أو تدريسه فإنه سيخسر؛ فإن المعاملة مع الله عز وجل ليست فيها خسارة أبدا، فهم يرجون تجارة لن تبور، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله. قال بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أن الحسنة بعشرة أمثالها في أكثر من آية، وذكر أنها كمثل حبة من سنبل أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، قال: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة:261] ، قالوا: يضاعف بالتوحيد والإخلاص؛ لأن الشخص الذي تعرض عليه هدية غالية الثمن وهو فقير محتاج، ليس كالشخص الذي تعرض عليه هدية وهو غني غير محتاج، ولأن الشخص الذي تعرض عليه الهدية والرشوة من قوي قادر، ليس كالشخص الذي تعرض عليه وهو قوي قادر من ضعيف، فتحصل المضاعفة والفضل من الله سبحانه وتعالى على قدر البلاء. فإذا جاءك الطالب يريد أن يعطيك الهدية فلا يجوز لك أخذها، ولا يجوز للمدرس أن يقبل من طلابه عطية ولا هبة ولا هدية، وهذا -كما ذكرناه- نص عليه العلماء رحمهم الله لورود السنة به؛ لأنك تؤدي عملا واجبا عليك؛ ولأن فتح هذا الباب يفتح على الناس كثيرا من البلاء، فيحابي صاحب الهدية ويجامل، ولذلك يجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور نصيحة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولعامة المسلمين، فيما هو مربوط به من المصالح العامة للمسلمين. والله تعالى أعلم. كيفية العدل بين الزوجات مع الاختلاف في عدد الأولاد السؤال من كان له بيتان وأعطى كل بيت مصارفه التي يحتاجها، فهل هذا عدل أم أن العدل أن يساوي في العطية، كأن يخصص مبلغا متساويا بين البيتين، ولو لم يكن في البيتين نفس العدد من الأبناء؟ الجواب العدل بين الزوجات واجب شرعا، وأجمع العلماء رحمهم الله على وجوب العدل بين الزوجات، أما طريقة العدل فعندنا أصول، وعندنا فروع، فالزوجات أصول، والأولاد فروع، فالزوجة التي لا ولد لها لها حكم يخالف حكم الزوجة التي لها ولد، فإذا جاء يعطي فيقدر المبلغ للرأس الذي هو الأصل ويقدر مبلغا للأولاد، فإذا كان يعطي الزوجة مائتين على الرأس، والولد يقدر نفقته في كل شهر مثلا مائة إذا كان عنده مصاريف للدراسة، وإذا لم يكن عنده مصاريف قدرها بخمسين. فحينئذ الزوجة التي لا ولد لها يعطيها مائتين، والزوجة التي لها ولد يعطيها مائتين لها هي، ثم أولادها يفضل بينهم بحسب النفقات، فالولد الذي تصرف عليه أمه في ملبسه ومطعمه ودراسته ليس كالولد الذي يصرف عليه في مطعمه وملبسه فقط. هذا من حيث الأصل، فالأولاد يقدر نفقتهم في الطعام والشراب، ويعطي أمهم ذلك، فإذا كان يعطي الولد خمسين ريالا، وعندها ولدان، فيعطيها مائة ريال، فتصبح مائتين لها ومائة لأولادها، إذا هذه المرأة لها ثلاثمائة، والمرأة الثانية ليس لها ولد فيعطيها مائتين فقط، فيكون قد عدل بين الزوجات. فإن ولدت الثانية؛ فحينئذ ينظر إلى ولد هذه وإلى ولد هذه وما يحتاجه من النفقة، فإذا كان كل واحدة عند ولادتها يحتاج ولدها إلى ملبس أو علاج أو أي شيء، كان العدل بالعطية من جهة الأسباب والضرورة، فالتي عندها ولد ينفق عليه في ملبسه أو حضانته أو نحو ذلك، وإذا ولدت الثانية عاملها مثلما يعامل ولد الأولى، وهذا العدل لا نقول له من البداية يعطي هذه مثلما يعطي تلك؛ لأن هذه لها سبب خاص، فيعدل بين الزوجتين في حال الولادة، ويعطي هذه مثلما يعطي هذه. فحينئذ يكون قد عدل بينهن، وليس المراد أنه مثلا لو ولدت خديجة، وعائشة لم تلد، فأعطى خديجة خمسين، فنقول له: أعط عائشة خمسين، فهذا خطأ، ويخطئ فيه بعض طلاب العلم، فالأسباب الخاصة العدل فيها إذا طرأ مثلها عند الأخرى، فيكون عادلا بين زوجاته وأولاده في في الأصل وفيما يطرأ على الأصل، في الأصل من حيث النفقة كالطعام والشراب فيعطيهم مثل بعضهم ويسوي بينهم. لكن عند بعض العلماء خلاف في مسألة اختلاف الأماكن، فقد تكون امرأة في منطقة العيشة فيها رخيصة، وامرأة في منطقة العيشة فيها غالية، فيقولون: يجب عليه أن يعدل بإسكانهما معا في المكان الذي فيه عيشة رخيصة أو عيشة غالية، فإذا لم يتيسر له ذلك عامل في النفقة بحسب الحال، فيعطي لهذه التي في العيشة الغالية بما يتناسب مع حالها غنى وفقرا، على الأصل المقرر في النفقات، ويعطى تلك في العيشة الرخيصة بما يتناسب مع حالها، فمثلا: متوسط الحال في العيشة الغالية تكون نفقة الولد مائتين، والأعلى ثلاثمائة، والأدنى مائة، فأعطاها مائتين، وفي العيشة الدنيا يكون الأعلى مائة والأوسط خمسين والأدنى مثلا عشرين، فيعطيها خمسين، فيكون قد سوى في العطية بحسب البيئة وبحسب المكانة. وعلى هذا فإذا عدل واتقى الله سبحانه وتعالى فأعطى الزوجات وسوى بينهن في القدر والعطية، وأعطى عند الأسباب والموجبات؛ فإنه حينئذ يكون قد برئت ذمته وسلم إن شاء الله من التبعة. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (397) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف. فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا. وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق. قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده. فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) . وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف. الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطا، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا. كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما] . استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] . فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر. من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد. لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه. مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين. دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقف على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأبدلت الهمزة هاء. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يخص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد) ، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] ، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود:73] . فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} [طه:10] ، تطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه) : وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقف على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأنثى إذا طلقت أو مات عنها زوجها خشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طلقت أو أصبحت أرملة خوفا عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يخص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولا، فيجوز أن يعطيه ما لا يعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلا جعل للذكور حظا، وجعل للإناث حظا، فأوقف على الذكور دارا، وأوقف على الإناث مزرعة وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحا، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رملت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيدا بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زوجت ثم بعد ذلك طلقت، ويراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر. دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] . وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون. اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تطلق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] . فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد. فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا. دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين. اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة. إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم. اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن. إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) . فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين] . بقي السؤال لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلا لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف. إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه. [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يفضل فلو قال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، فقد فضل. قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني. إذا لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم ينجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف. حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول. اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شرع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بني، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذ يختص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذا فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرك، وهذا مقتض لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تطلق على القبيلة ويراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بني، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معا، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويتجوز فيه فيعم الذكر والأنثى. الوقف على جماعة يمكن حصرهم فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن. الأسئلة استخلاف المسبوق في الصلاة السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم. إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم. تعيين حصة لناظر الوقف السؤال لو عين الواقف ناظرا لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (398) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [4] من المسائل المتعلقة بالهبة والعطية: تصرف الوالد فيما وهبه لولده، سواء كان بعد رجوعه عن الهبة أو قبله، وسواء كان التصرف ببيع أو عتق أو إبراء، فكل حالة لها حكمها الشرعي، ويلحق بهذه المسألة حكم تصرف الوالد في مال ولده، وحكم مطالبة الولد لوالده بدينه ونحوه وهذه المسائل كلها مفصلة في هذه المادة. أنواع التصرفات المالية للوالد في مال ولده بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق برجوع الوالد في هبته إذا وهب أحد أولاده، وبينا أن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت بجواز رجوع الوالد في هبته، ومن أسباب هذا الرجوع، ومن الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا الرجوع: أن الأب يستدرك ظلمه لأولاده فيما لو أعطى بعضهم ومنع البعض، فأجازت الشريعة له الرجوع حتى يستدرك هذا، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منع والد النعمان بن بشير - وهو بشير - رضي الله عنه وأرضاه عن تخصيص بعض ولده بالعطية. ثم بعد ذلك بينا مسألة استحقاق الأب في مال ابنه، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صحت عنه السنة بمشروعية أخذ الوالد من مال ولده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) . وبينا أن في ذلك الخير الكثير للولد، وأن الله يضع البركة في مال الولد إذا أحسن إلى والده، فمكنه من ماله وأكل الوالد من ماله بالمعروف، فهذا من خير وأعظم ما يكون للولد برا لوالده. فقد بينا أن من حق الوالد أن يأكل من مال ولده، لكن يرد السؤال هل من حق الوالد أن يبيع أملاك ولده، وأن يتصرف فيها فيهبها للغير؟! أو إذا كان للولد دين على آخرين فأراد الوالد أن يسامحهم ويبرئهم من الديون نيابة عن ولده بدون إذن الولد هل له ذلك؟! و الجواب إن كان هناك إذن ووكالة من الولد فلا إشكال، وقد تقدم أن الوكالة موجبة للإذن وصحة التصرف في حدود ما أذن به الموكل لوكيله؛ لكن الكلام أن يأتي الوالد إلى مال ولده ويتصرف فيه بالبيع، أو يشتري بمال ولده شيئا، أو يبرئ مديونا، ونحو ذلك من التصرفات المالية والتي تكون بعوض وبدون عوض. فمن الممكن أن يتصرف الوالد في مال ولده بالعوض، كأن يبيع سيارة ولده بعشرة آلاف مثلا، فهذا تصرف بعقد فيه عوض، وقد يكون هذا أيضا في المنافع، ومن أمثلته: أن يكون للولد عمارة، فيقوم الوالد بتأجير عمارته، أو أن يكون له مزرعة فيؤجرها، فهل هذه التصرفات التي بعوض صحيحة أو غير صحيحة؟ النوع الثاني من التصرفات: تصرفات بدون عوض، مثل: الهبة، كأن رأى مالا لولده فأخذ منه وأعطاه لشخص آخر، وقال: هذا هبة أو هدية أو عطية. أو كأن يأتي شخص إلى والد صاحب المال فيقول له: إن له علي عشرة آلاف، وأنا ضائق الحال وفي شدة وكربة، أو قال: لك نصفها، أو ربعها، أو ثلثها، فالتصرف بإسقاط الدين كله أو أغلبه أو أقله تصرف بدون عوض؛ لأن الوالد لم يقبض عوضا لقاء هذا الشيء الذي تبرع به. وكما تكون التصرفات بدون عوض في الهبات تكون أيضا في العتق، وفي القديم كان يملك الرقيق، ويكون للولد أرقاء، فيقول الوالد لعبيد ولده: أنتم أحرار، أو يا فلان أعتقتك، أو أنت حر، ونحو ذلك. فأصبحت هناك نوعان من التصرفات: تصرفات بعوض، وتصرفات بدون عوض، فإن تصرف الوالد في مال ولده بما ذكرنا فإنه لا يخرج من حالتين: إما أن يقر الولد والده على تصرفه ويجيزه ويمضيه فلا إشكال، فحينئذ يمضي والتصرف معتبر؛ لأنه أشبه بما تقدم معنا في مسألة تصرف الفضولي، وبينا أن تصرف الفضولي يعتبر من العقود الموقوفة، والعقد الموقوف ينقسم إلى أقسام من حيث الصحة وعدمها، ومن حيث النفاذ وعدمه، وهذا الثاني منه العقد الموقوف والعقد النافذ. فالعقد الموقوف تبقيه حتى تسأل صاحب الحق: هل أنت راض بهذا التصرف أم لا؟ فإن أمضاه صح، وإلا فلا. والإشكال: إذا اعترض الولد على تصرف والده، فقال: لم آذن لك ببيع العمارة، وهذه العمارة أريدها، أو قال: لم آذن لك أن تسامحه في الدين، وأنا محتاج لهذا الدين، أو أن هذا الرجل لا يستحق أن يسامح، أو نحو ذلك، فإذا امتنع الولد من إمضاء تصرفات الوالد؛ فهل تصرفات الوالد صحيحة أم غير صحيحة؟ هذا ما شرع المصنف رحمه الله ببيانه، فأصبحت الأفكار مرتبة كالآتي: أولا: تكلم عن الهبات، وبين أحكامها، ثم دخل في نوع خاص من الهبات وهو هبة الوالد لولده، وبين أحكامها من حيث الاعتبار، ومن حيث الصحة، ومن حيث الرجوع. وبعد أن فرغ من هذا تكلم على مسألة جواز أخذ الوالد من مال ولده، وينبغي لطالب العلم أن يفرق بين مسألة جواز الأخذ من مال الولد، وبين التصرف في مال الولد. فجواز الأخذ كأن يأتي ويجد -مثلا- عشرة آلاف فيأخذ منها ألفا، أو يقول: يا بني أعطني نصف راتبك، أو ربع راتبك أو ألفين من راتبك ونحو ذلك، أو كأن تكون للولد مزرعة فيأتي ويأخذ من رطبها وثمارها ونحو ذلك، أو يكون الأخذ في المنافع، مثل أن تكون هناك سيارة للولد، فيركبها الوالد لقضاء مصالحه أو نحو ذلك، فهذه كلها بينا أنها جائزة، لكن مسألة التصرفات المرتبطة بالعقود، وذلك بأن يتولى الوالد عن ولده عقودا، فيمضي عقودا عن الولد، سواء كانت عقود معاوضات مالية من البيع والشراء، أو كانت عقود إرفاقات كالقرض والهبة ونحو ذلك. قال رحمه الله: [فإن تصرف في ماله] . قوله: (فإن تصرف) أي: الوالد، (في ماله) أي: في مال الولد، والتصرف في مال الولد كما ذكرنا: إما بعوض وإما بغير عوض. وقوله رحمه الله: (إن تصرف في ماله) أخرج غير الأموال، كأن يطلق زوجة الولد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، وقد بينا أحكام تطليق الوالد عن ولده، وفصلنا بين الصغير وغير الصغير، والمميز والذي لا يميز، لكن الكلام هنا في الأموال فقط. حكم تصرف الوالد فيما وهبه لولده قال رحمه الله: [ولو فيما وهبه له] . قوله: (ولو) هذه إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كان التصرف في مال كان الوالد قد وهبه لولده، مثال ذلك: قال: يا بني! هذه المزرعة وهبتها لك، وقد بينا أنه إذا قال: وهبتها؛ فلا تلزم الهبة إلا بالقبض، فإذا أخذ الولد هذه المزرعة وقبضها وتم القبض، وحكم بانتقال اليد فأصبحت المزرعة ملكا للولد، فحينئذ يرد السؤال لو أن الوالد يوما من الأيام جاء وتصرف فيما وهبه لولده، فما الحكم؟ و الجواب أن الوالد إذا تصرف فيما وهبه لولده لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصرف بعد الرجوع، فيقول: رجعت عن هبة بستاني، أو يفعل فعلا مع نيته أنه رجع، فقد بينا أنه يشرع للوالد أن يرجع في هبته، فإذا كان التصرف بعد الرجوع فلا إشكال في جواره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت للوالد الحق في الرجوع في هبته لولده. لكن الإشكال إذا تصرف فيما وهبه له قبل الرجوع، فقال رحمه الله: (ولو فيما وهبه له) ، فهناك قول بجواز التصرف مطلقا في كل ما وهبه له، وكأن هذا التصرف يعتبر رجوعا في الهبة، وهذه هي الحالة الثانية. وزيادة في الإيضاح عندنا صورتان: الصورة الأولى: أن يقول: هذه المزرعة هبة لك، فقال: قبلت، وقبض المزرعة، وحكمنا بلزوم الهبة، وكتب صكها باسم الولد، وفي يوم من الأيام قام الوالد فباع المزرعة التي وهبها. فإن كان قد قال: رجعت عن هبتي، وبعد أن قال: رجعت عن هبتي باعها، أو قال: يا بني! هذه المزرعة التي وهبتها لك أنا راجع عن هبتي، أو قال: أيها الإخوان -وهناك عنده شهود- اشهدوا أني رجعت عن هبتي المزرعة لولدي، وقد بعتها لفلان، فإن وقع فلا إشكال أنه وقع التصرف بالبيع بعد الرجوع في الهبة، والبيع صحيح، وتصبح المزرعة راجعة للوالد وسقط حق الولد. والدليل: أن السنة أثبتت أنه يحق للوالد أن يرجع عن هبته. الصورة الثانية: أن يقول: بعت هذه المزرعة. وكان قد وهبها لولده، ولم يثبت رجوعا لا بالقول ولا بالفعل المقترن بالنية، فحينئذ لا يصح هذا التصرف. أو قال: أوقفتها، فهذا تصرف بغير عوض، ولا يصح، أو قال: بدل أن يأخذها ولدي فلان قد وهبتها لفلان، للولد الآخر، فلا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعا قبل تصرفه في مال ولده الموهوب. تصرف الوالد فيما وهبه لولده بيعا أو عتقا أو إبراء قال رحمه الله: [ببيع أو عتق أو إبراء] . قوله: (ببيع) قلنا: التصرفات إما أن تكون بعوض وإما أن تكون بدون عوض، والذي بدون عوض إما أن يكون بين المخلوق والمخلوق، وإما أن يكون بين المخلوق والخالق. وقوله: (ببيع) هذا تصرف بعوض. وقوله: (أو عتق) هذا بدون عوض فيما بين المخلوق والخالق؛ لأنه يعتق لوجه الله. وقوله: (أو إبراء) تصرف بدون عوض فيما بين المخلوق والمخلوق، وانظر إلى دقة العلماء رحمهم الله، حينما قال المصنف: (ببيع) الفقيه يعرف أن المصنف لا يريد البيع وحده؛ بل يريد جميع عقود المعاوضات المالية التي تندرج تحت البيع، مثل: الإجارة، فلو سألك سائل وقال: والد وهب عمارة لولده، ثم لم يرجع عن هبته وأجرها قبل الرجوع، فما الحكم؟! فتقول: الإجارة باطلة، إلا إذا أجازها الولد، فهذا لا إشكال فيه، فهي باطلة إذا كان الولد امتنع منها. أو قال: وهب سيارة لولده ثم أجر هذه السيارة، فهذا تصرف بعوض وهو الإجارة، فتقول: لا يصح، ما دام أنه لم يثبت رجوعه، وتدرج جميع عقود المعاوضات تحت هذه الصورة، حتى ولو شارك -جعلها شركة- أو ضارب بها فجعلها قراضا، فأعطاه مالا ثم بعد ذلك أمر الغير أن يضارب به، فجميع تصرفات المعاوضات المالية إذا تصرف الوالد فيما وهبه لولده قبل الرجوع باطلة. وقوله: (أو عتق) كأن أعطاه عبيدا، ثم جاء وقال: هؤلاء العبيد أحرار لوجه الله، قبل أن يثبت رجوعا بالقول أو بالفعل المصحوب بالنية، فحينئذ نقول: هذا تصرف من الوالد فيما وهبه لولده، ولم يثبت رجوعه؛ فلا يصح هذا التصرف. أو يكون الولد نفسه يملك عبيدا، فجاء الوالد وقال: أنتم أحرار لوجه الله، أو قال: يا فلان -وكان من عبيد ولده- أنت حر أعتقتك كفارة عن ظهار أو قتل، أو غير ذلك مما يوجب العتق، فهذا كله لا يصح. وقوله: (أو إبراء) هذا فيما بين المخلوق والمخلوق، والإبراء: أن تبرئ المديون، والبراءة من الشيء توجب خلو التبعة والمسئولية عن الشخص من ذلك الشيء، فإذا قلت: أنا بريء من هذا الشيء، فحينئذ لست بمسئول عنه وليست عليك تبعة. ويستخدم الإبراء في الحقوق، وذلك أن كل شخص ثبت لك عليه حق؛ فإن ذمته تبقى مرهونة مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه، ولا يفك إلا بسداده أو تبرئة منك. فالإبراء أن تقول: أسقطت حقي، سامحتك عن الدين، عفوت عنك، أبرأتك، أبرأت ذمتك من الدين، ونحو ذلك من الإبراءات. فإذا أبرأ الوالد المديون لولده، فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الوالد قد أعطى مالا لولده فأقرضه الولد لشخص، مثلما يقع في بعض الأحيان بين الإخوة، كأن يعطي الوالد الأولاد جميعهم كل واحد عشرة آلاف ريال، فيستقرض زيد من محمد العشرة الآلاف التي له، فالعشرة آلاف في الأصل ملك للوالد وهبها لمحمد ولده، فلما استقرضها زيد من محمد أصبحت ذمة زيد مشغولة لأخيه محمد، فلو قال الوالد يوما من الأيام: يا زيد! دين محمد عليك أنت منه بريء، أو أبرأتك من هذا الدين، أو لا دين عليك، أو أسقطته، أو عفوت عنك، فهذا إبراء من الوالد في مال ولده الذي وهبه له ولم يثبت رجوعه عنه، فهذا الإبراء ساقط. الصورة الثانية: أن تكون العشرة آلاف ملكا لمحمد في الأصل، من ماله ولم يعطها له والده، فقام محمد وأعطاها دينا لشخص، فجاء الوالد وأبرأ ذلك الشخص، فقد قلنا: ليس من حقه إلا إذا أجاز ذلك محمد، ولا يصح هذا التصرف بالإبراء. والإبراءات لها باب واسع، حتى في مسألة القصاص، فلو جنى شخص على شخص فقطع يده، فقال المجني عليه: لا أريد القصاص لكن أريد نصف الدية؛ لأن اليد فيها نصف الدية، فجاء الوالد وقال: عفوت عنك هذا النصف، أو أسقطت عنك هذا النصف، أو عفوت عن دين ولدي، فلا يملك الوالد الإبراء، وليس من حقه أن يبرئ عن مال ولده. قال بعض العلماء: حتى ولو كان صغيرا؛ لأن الوالد يلي مال ولده بالمعروف، وفي الإبراءات والعفو إضرار بمصلحة الولد، ولذلك قلنا: لا يصح الإبراء. فلو عفا الوالد عن جان جنى على ولده فقطع يده، فقال الولد: أريد القصاص، أريد أن تقطع يده كما قطع يدي، أو تقطع أصبعه كما قطع أصبعي، أو تقطع رجله كما قطع رجلي، أو أي جناية يمكن فيها القصاص، فإذا ثبت حق الولد في هذه الجناية وجاء الوالد وقال: سامحت هذا الجاني، فليس ذلك من حقه؛ لأن الإبراء إنما يكون للولد وليس للوالد، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسائل في مسألة العفو عن الحقوق في الدماء والقصاص. لكن إذا كان الوالد هو ولي الدم، فقيل له: هل تريد القصاص أو الدية؟ فقال: أريد الدية وعفا عن القصاص، فهذا يصح، وإن قال: لا أريد دية ولا قصاص قد عفوت لوجه الله فيصح؛ لأنه ولي الدم، أما إذا كان ولي الجناية وولي الحق في الجناية حيا عاقلا له حق التصرف؛ فحينئذ لا يملك الوالد أن يدخل عليه وأن يتصرف بإسقاط حقه في الجناية. حكم أخذ الوالد ما وهبه لولده قبل الرجوع في هبته قال رحمه الله: [أو أراد أخذه قبل رجوعه] . أي: أراد أخذ المال الذي وهبه قبل أن يثبت رجوعه -كما قدمنا-، كأن يكون قد وهبه سيارة ثم قال: أريد السيارة التي أعطيتك إياها، وذلك قبل أن يثبت رجوعها بالقول أو بالفعل، فبعض العلماء يقول: إذا قال له: أعطني السيارة؛ صار هذا بمثابة الرجوع ويكفي، ولا يشترط أن يكون معه النية. وقوله: [أو تملكه بقول أو نية] . قلنا: الرجوع يثبت للواهب ملكية العين التي وهبها، فإذا قال: رجعت عن هبتي؛ رجعت الهبة ملكا له، أي: تثبت الملكية للواهب، وحينئذ إذا كان التصرف قبل ثبوت الملكية بالرجوع، لم يصح إلا أن يأذن الولد، وأما إذا ثبتت ملكيته أو ثبت رجوعه وتصرف بعد ذلك؛ صح البيع وثبت. والعلماء يضعون هذه المسائل لأهميتها، ولوقوع الخصومات فيها، كرجل -مثلا- وهب ابنه مزرعة، ثم باع هذه المزرعة في غيبة ولده لشخص ما، ثم توفي الوالد وجاء الشخص الذي اشترى يطالب بهذه المزرعة، فحينئذ القاضي إذا ثبتت ملكية الولد للمزرعة وثبتت الهبة؛ لا بد أن يثبت رجوع الوالد عن هبته، ولا يصحح هذا البيع إلا بعد ثبوت الرجوع، فهذه كلها مسائل يحتاج إليها خاصة إذا وقعت هناك استحقاقات، وأكثر ما تقع إذا توفي الوالد أو جن -نسأل الله السلامة والعافية-. وقوله رحمه الله: [وقبض معتبر] . كما ذكرنا: أنه يشترط في صحة الهبة وجود القبض، والقبض قلنا: مما ترك الشرع ضابطه للعرف، والقبض يختلف باختلاف الشيء، واختلاف العرف، واختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ما عده الناس قبضا وحيازة حكم بكونه قبضا وحيازة، كما يقال في الحرز في السرقات -كما سيأتينا في كتاب الجنايات-: أن حرز كل مال على حسب العرف، وهذا مما يدرجه العلماء رحمهم الله تحت القاعدة المشهورة: العادة محكمة. فقال المصنف: (قبض معتبر) ، وقد يكون هناك قبض غير معتبر، وهو الذي يكون بدون إذن الواهب، وقد بينا هذا، فالقبض المعتبر هو الذي أذن فيه الواهب، فإذا ثبتت الهبة وثبت القبض بإذن الواهب صحت وثبتت الهبة، وأصبح المال الموهوب ملكا للموهوب له. أما لو كان قبضا غير معتبر، كأن قال له: يا بني! وهبتك مزرعتي، فقال: يا أبتي! أعطني إياها، أعطني مفاتيح المزرعة حتى أتصرف فيها، فقال: انتظر إلى نهاية الأسبوع، ثم قبل نهاية الأسبوع توفي الوالد، فلا تثبت الهبة؛ لأنه لم يحدث فيها قبضا معتبرا. إذا: لابد أن يكون هناك قبض معتبر، كما جاء في الصحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين: (أي بنية! إني كنت قد نحلتك عشرين وسقا جادا، فلو أنك احتزتيه -وفي رواية: جديتيه- لكان ملكا لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك؛ فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) . فدل على اشتراط القبض، ومن هنا أجمع العلماء على أنه لا تثبت ملكية الهبة للموهوب له إلا بالقبض المعتبر. وقوله: [لم يصح بل بعده] . أي: لم يصح تصرف الوالد بما ذكر آنفا، لكن يصح إذا وقع بعد الرجوع حصول القبض المعتبر كما سيأتي. فإذا كان قد باع السيارة بعد أن أثبت رجوعه عن هبته لولده؛ فإنه يصح بيعه، ولو باع العمارة التي وهبها لولده بعد أن أشهد أو أثبت رجوعه عن هبتها؛ فحينئذ يصح بيعه وتصح إجارته ويصح سائر تصرفه؛ لأن المال رجع لملكه. حكم مطالبة الولد لوالده بدين أو نحوه قال رحمه الله: [وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه] . قوله: (وليس للولد) أي: ليس من حق الولد أن يطالب أباه بمال دينا كان أو غيره، إلا النفقة التي أوجبها الله عز وجل على الوالد لولده. وقد بين المصنف رحمه الله في هذه العبارة أنه لا يجوز للولد أن يطالب والده بالحقوق المالية التي تجري بينه وبين والده، ومن أمثلة ذلك: القرض، فلو أنه اقترض الوالد من الولد مالا، ثم تأخر الوالد في السداد، فقام الولد بمطالبة والده، قال المصنف: ليس للولد أن يطالب، وإذا قلت: ليس له، فيتفرع على هذا أنه لا يجوز، ويحكم بإثم الولد إذا فعل ذلك؛ لأن الله يقول: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة:83] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحسانا، وهذا من أبلغ ما يكون وصية حينما جاء بالمصدر (إحسانا) ، وكأنه يحتم على الولد أن يكون مع والده على سبيل الإحسان لا على سبيل الإساءة. ومن الإساءة أن يطالب والده بدين، ومن أعظم الإساءة أن يطالبه في القضاء أو يشتكيه أو يخاصمه، فهذا ليس من الإحسان في شيء، وليس من البر الذي أوصى الله به الأولين والآخرين، وحث عليه عباده أجمعين، حتى ولو كان الوالد من الكافرين، فقد أمر به وحتمه وقرنه بتوحيده سبحانه وتعالى تعظيما لشأن البر. ويشمل هذا المطالبة الفردية فيزعج والده، يقول: أعطني ديني، يا أبتي تأخرت! يا أبتي أعطني مالي! يا أبتي كذا فليس من حقه، حتى ولو تلطف في المطالبة فلا يطالبه: (أنت ومالك لأبيك) كما جاء في حديث السنن. وهذا كله مفرع على الأصل من أن الواجب على الولد أن يحسن إلى والده لا أن يسيء إليه. وأيضا: هناك حقوق للوالد على ولده، وإحسان لا يستطيع الولد أن يجازيه ويكافئه، إلا أن يجد والده رقيقا فيشتريه ويعتقه، فيفك رقبته من الرق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الإحسان الذي قام به الوالد على ولده منذ صغره، وهذا البذل الذي كان يبذله على ولده بدون حساب، لا يمكن أن يكافئه عليه، وليس من شرع الله عز وجل أن يقف يوما من الأيام يضيق على والده في حطام من الدنيا، فيقول له: أعطني الدين! يا أبتي تأخرت! يا أبتي سدد! يا أبتي أنا محتاج! فهذا كله -والعياذ بالله- من العقوق، ومما يوجب الله عز وجل بسببه محق البركة من المال، فإن هذا من كفران النعمة، والله تعالى قد أخبر في كتابه أنه يجازي كل كفور، فيسلبه بركة ماله، ولربما سلبه نعمة المال، فأصبح المال نقمة ووبالا عليه -نسأل الله السلامة والعافية-. والخلاصة: أن المطالبة غير جائزة، فتثبت أولا: أنه لا يجوز أن يطالبه لا فرديا ولا أمام الناس، وأمام الناس أشد وأعظم. ثانيا: تثبت أنه يأثم، فيحكم بإثمه إذا طالبه، وأن هذا من العقوق والأذية والإضرار. ثالثا: لو تقدم إلى القضاء وطالب والده بالمال؛ فإن دعواه تسقط؛ لأن الدعوى من أصلها غير ثابتة وغير معتبرة شرعا، فليس فيها استحقاق؛ إذ ليس للولد حق على والده أن يطالبه بمثل هذا. وقوله: (وليس للولد مطالبة أبيه) بعض العلماء يقول: ليس له مطالبة والديه، فيشمل الأب والأم، وحق الأم آكد، لكن بعض أهل العلم خص الأب لورود النص فيه؛ لأن الأب دائما يتكفل بالنفقات، ولا شك أن السنة بينت أن الأم لها حق أعظم من حق الوالد، قال كما جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فجعل حق الوالد بعد ثلاثة حقوق للأم. ولذلك قالوا: إنه لو توفي والداه وأراد أن يحج عنهما؛ بدأ بالأم قبل الأب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببرها، ولو تعارض حق الأم والأب؛ قدم حق الأم على حق الأب، وهذا لثبوت السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد ذلك فقال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، وهذا كله يدل على عظيم حقها، وعظيم ما لها من المعروف العظيم، فإذا أثبتت السنة للوالد شيئا وأمكن من حيث النظر في العلة إلحاق الأم؛ فإن الأم أولى به. لكن بعض العلماء يقول: إن هذه المسألة فيها خصوصية، وقد سبق التنبيه على هذا، وهي رواية عن الإمام أحمد، أنه جعل الرجوع للأب دون الأم، وقد بينا أن الصحيح أن الأم تملك الرجوع كما يملكه الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟) وهذه علة مشتركة بين الأم والأب. وقد بينا وجه هذه المسألة، حتى إن الظاهرية مع أنهم يتمسكون بظاهر النص قالوا: الأب والأم في هذا سواء، ونص على ذلك الإمام ابن حزم رحمه الله في المحلى. والشاهد من هذا: أن المصنف نص على الأب، والأم تلتحق به وتأخذ حكمه. وقوله: (بدين ونحوه) . كذلك الأم لا يجوز للولد أن يطالبها بدين نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن نقف هذا الموقف، أو يبتلينا وذريتنا بذلك، من يستطيع أن يقول لأمه ويطالبها بدين؟! قد يكون في بعض الأحيان لا يتحمل أن يرى أمه في ضائقة حتى يأتي ويجثو عند قدميها ويبذل ما يملك من ماله، كل هذا فداء لهذه الأم، فهو وماله فداء لهذه الأم الكريمة التي ربت وأحسنت، وقدمت الكثير الذي لا يمكن أن تجازى عليه إلا من الله سبحانه وتعالى، الذي يجزي الإحسان بأحسن منه. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي والدينا عنا أحسن ما جزى والدا عن ولده. وقوله: (بدين ونحوه) ونحوه مثل: الأروش التي تكون في الجنايات وغيرها، والمصنف رحمه الله ذكر الدين على الأصل، ويتبع هذا كل ما فيه استحقاق، فلا يطالب فيه الولد والده. فلو سكن الوالد في عمارة الولد؛ فلا يأتي ويقول له: ادفع أجرة هذا المسكن، أو ركب معه فيما يؤجره للناس فقال له: ادفع الأجرة مثلك مثل الناس، أو نحو ذلك، فلا يطالبه بدين ونحوه، أي: من الأشياء التي فيها استحقاقات. حكم حبس الوالد لنفقة ولده الواجبة عليه قال رحمه الله: [وحبسه عليها] . أي: أن يطلب من القاضي أن يحبسه، وهذا كما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها فإذا كان هناك أب ظالم مانع لنفقة ولده، وأصبح الولد يخشى على نفسه أن يقع في الحرام أو الآثام، فقال: يا أبتي -بالمعروف- أعطني حقي، فلم يمكنه من حقه، ثم قال له: يا أبتي! أعطني حقي، فسأله وحاول معه فلم يعطه حقه، فحينئذ له أن يشارعه إلى القضاء، وأن يطالب القاضي بحبسه حتى ينفق عليه بالمعروف. ومن حق الزوجة أيضا أن تشارع زوجها وتطلب من القاضي حبسه حتى ينفق عليها، وهذا كله من الحقوق الواجبة، فإن الحقوق الواجبة من النفقات تحكم الشريعة فيها، وإذا حكم القاضي بأن النفقة وجبت لفلان على فلان، فالواجب على من وجبت عليه النفقة وهو قادر على بذلها أن يبذلها، فإذا امتنع وطلبه القاضي فقال له: ادفع، وقال: ما أنا بدافع فمن حق القاضي أن يسجنه حتى يدفع الحق الواجب عليه، ويبذل لأولاده حقوقهم ويعطيهم ما فرض الله عليه إعطاءهم. فإذا طالب الولد القاضي بذلك كان من حقه؛ لأنه قد يصل إلى مقام الضرورة إذا لم يعط النفقة، وهكذا الزوجة من حقها أن تطالب ولو بسجن الزوج حتى يبرئ ذمته من الحق الواجب عليه. وتشدد الشريعة في النفقات يدل على عظمة وكمال هذه الشريعة، فالمشاكل التي تعج بها المجتمعات من السرقات والاعتداء على أموال الناس، كثير منها يقع بسبب إضاعة الحقوق كما ذكرنا. فإذا كان الذي يماطل منع ذا الحق حقه، فإن هذا قد يدفع الممنوع من حقه أن يلتمس وجوها محرمة، وسبلا مشبوهة، فيطلب الحرام، وقد يتعامل بالمعاملات المحرمة، فالشريعة تقفل هذه الأبواب، وقد تأتي إلى شخص يقع في حرام فتقول له: لم تفعل هذا؟! فيقول: أنا مضطر ليس عندي من حيلة، وقد تقع المرأة -والعياذ بالله- في الزنا، فيقال لها: لماذا؟ فتقول: لئلا يضيع أولادي. ولذلك شدد الشرع في هذا، وزجر كل من يمتنع من النفقات حتى ولو بالحبس، حتى ولو كان والدا فيسجن بحق ولده، ولا شك أن هذا من أكمل ما يكون في زجر الناس وإيقاف كل إنسان عند حدوده، وإلزاما لما فرض الله عليه مما يعود بالخير على الأفراد والمجتمعات. والوالد نفسه يأمن من الشر والبلاء من هذا، ولهذا فإن المجتمعات الغربية والمجتمعات الكافرة كثيرا ما يقع الاعتداء من الأولاد على الوالدين بسبب الظلم في الحقوق، سواء في حقوق النفقة وغيرها. وإنما نبهنا على هذا الأمر لأنه قد يستغرب الإنسان كيف يحبس الولد والده بسبب النفقة؟! وينبغي لكل طالب علم بل للناس عامة أن يعلموا علم اليقين أن أي حكم في شرع الله عز وجل وفي الفقه الإسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوة وفيه شدة، فلن تستطيع أن تدرك الحكم الموجودة فيه إلا إذا خالفت هذا الحكم ونظرت إلى الأسباب المترتبة على عكسه. ولذلك قد تجد الابن يعق والده، ولربما يقتله -والعياذ بالله- بسبب الدينار والدرهم، وقد وقع في بعض المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة- أن والدا كان ظالما بخيلا، فكان يهضم أولاده وزوجته، وقد فتح الله عليه من أموال الدنيا الشيء الكثير، فلما بلغ هذا البخيل الظالم لولده سكرات الموت، قام ولده وجثا على صدر أبيه، وانتزع دفتر الشيكات من صدره، فقال له: اذهب -نسأل الله السلامة والعافية- إلى كذا وكذا من غضب الله عز وجل، فلم يرحم والده في آخر عمره، ولم يرحم حالته تلك، وهي حالة تنكسر فيها القلوب القاسية وتلين فيها مما ترى، وليس شيء بعد الدين أعز من الوالدين، وبعدما أمر بتقديمه على الوالدين ليس هناك أحد أعز عليه من والديه. وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- حينما قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم) ، فهلاك الناس بالدنيا والمال، ولذلك لا ينبغي التساهل في هذا، فالشريعة تحكم بما يزجر؛ لأنه ربما يأتيك شخص بشبهة ويقول: كيف تأمر الشريعة ببر الوالدين، وتجيز للولد أن يحبس والده في النفقة؟! فقل: نعم، هذا أمر له تبعات وله آثار وله تداعيات مترتبة عليه، والشريعة دائما تنظر إلى العواقب، ولذلك قال الله عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء:82] ، ودبر الشيء: آخره، فإذا كنت تنظر إلى آخر الشيء فمعنى ذلك أنك قد أحطت بالشيء، وإذا بلغ النظر أنك استوعبت الشيء إلى أن وصلت إلى آخره فقد تم نظرك في هذا الشيء. فكل حكم مستنبط من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لقد أوتيت القرآن ومثله معه) تنظر إلى دبره وعواقبه وآثاره فيما لو عكس هذا الحكم من حيث السلب، وفيما لو حكمنا بهذا الحكم من جهة الإيجاب، فلا ترى حكما أتم من حكم الله عز وجل، ولا أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، ولقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ولقوم يدركون، ففيه الخير وكل الخير، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا حسن التدبر في شرعه وحكمه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم مطالبة الولد والده بنفقته الواجبة عليه قال رحمه الله: [إلا بنفقته الواجبة عليه] . قوله: (إلا) : استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج من اللفظ الذي سبق حالة النفقة، فالنفقة من حق الولد أن يطالب والده بها، ومن حقه أن يطالب الوالد بذلك ولو بالقضاء؛ لأن هذا يضر بالولد كثيرا؛ فالله عز وجل أوجب على الوالد أن ينفق على ولده، وفرض عليه ذلك، وإذا كان ملزما بذلك؛ فلا يجوز له أن يضيع حق الله في ولده، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: علوم الاجتماع كلها في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، فلا يمكن لمجتمع أن يسعد إلا بهذا الحديث. فلو أن كل من يعول قليلا أو كثيرا يقوم بحقوق الإعالة كما ينبغي لما حدثت مشكلة؛ لأن المشاكل كلها تقع بسبب تضييع حق الإعالة، سواء كانت زوجة أو أولادا، وحتى إنه يضيع من يعول بالسهر، فيضيع الإنسان حق زوجته، فيضيع حق أولاده في مراجعتهم ومذاكرتهم ومتابعتهم في دروسهم، وفي أصحابهم وقرنائهم، وكل المشاكل إنما نشأت من عدم القيام بحق من استرعاك الله عليهم، وحينما يقوم كل راع بحق رعيته تحل كل المشاكل، فما أبلغ قوله عليه الصلاة والسلام! وما أحسنه وما أجمله وما أجله وأكمله! (كفى بالمرء إثما) بمجرد أن تسمع هذه الكلمة إذا بالنفوس تقشعر والقلوب ترجف ومن الذي يتحمل أن يلقى الله بالإثم والوزر سواء كان في الدين أم في الدنيا؟! والإثم لا يزال سببا في هلاك الإنسان ودماره، حتى لربما تسبب في سوء خاتمته -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في أن يكون قبر الإنسان حفرة من حفر النار -والعياذ بالله-، ولربما تسبب في شقائه الأبدي بدخول نار جهنم خالدا مخلدا فيها بالإثم أو الشرك أو الكفر ونحو ذلك مما يوجب الخروج من الملة، فالإثم سبب كل بلاء وعناء، ولذلك قال تعالى: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] . هذا الإثم يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول) ، فالوالد جعل الله عليه حق النفقة لأولاده، وجعله قائما على بيته، يأمرهم بما أمر الله وينهاهم عما نهى الله عنه، فمن حقوقهم المادية: أن ينفق عليهم بالمعروف، فإذا امتنع الوالد مع القدرة على الإنفاق فحينئذ ظلم وجار، ومن حق الولد أن يقول له: يا أبتي! أعطني حق النفقة؛ لأن الولد لو لم يطالب والده بحقه لربما وقع في الحرام، ولربما تعرض للسرقة، ولربما تعرض للفواحش بسبب عدم وجود النفقة -عياذا بالله- والسنة دلت على هذا، ومن ذلك قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار، وفيهم الرجل الذي أراد الزنا بالمرأة فإنه لم يتمكن من الزنا إلا لما احتاجت إلى المال. وهذه حكم نبهت عليها الشريعة، ونبهت عليها السنة الغراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن من أعظم الإثم إضاعة من يعول، فإذا ضيع الوالد ولده ولم ينفق عليه، كان من حق الولد أن يطالب والده بالنفقة. وقوله: (إلا بنفقته الواجبة عليه) هناك نفقة واجبة ونفقة مستحبة، فإذا كان طعام الولد وشرابه وكسوته في حدود المائة، فلا مانع أن يزيد ويحسن إلى ولده، ومما يضع الله فيه البركة للإنسان، ويحسن به العاقبة في الأمور كلها دائما ألا يبقى على قدر الفرض الواجب الدائم؛ بل يسمو إلى الكمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرءا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى) . فإذا أراد أن ينفق على أولاده فالنفقة واجبة ومستحبة، والنفقة الواجبة التي يكون بها السداد ويحصل بها سد الحاجة والكفاية، والنفقة المستحبة إذا وسع الله عليك وسعت على ولدك. ولا يجلس الإنسان يدقق في ولده ويحاسبه على الصغير والكبير، قد تكون المحاسبة في حدود معقولة، لكن إذا رأى أن الله بسط عليه وأحسن إليه، فكما أحسن الله إليك تحسن، ولذلك قيل لـ قارون: {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77] . فتحسن إلى ولدك، ومن المجرب المعروف ما ذكره العلماء بالتجربة: أنك لن تجد رجلا في بيته يعامل زوجته وأولاده بالسماحة واليسر، ولا يشعرهم بالتضييق والعناء، سمحا إذا أعطى، وسمحا إذا أخذ، وسمحا إذا أمر، وسمحا إذا نهى، وسمحا إذا جاد؛ إلا وجدت أموره ميسرة مكفيا من الله سبحانه وتعالى، فكما تدين تدان، ومثلما عاملت الناس يعاملك الله، فلا تجد منه سبحانه إلا الرفق والإحسان والحلم؛ بل أضعاف أضعاف ما ترجوه. فالنفقة المستحبة: هي الفضل والزيادة على النفقة الواجبة. فلو أن والدا أعطى ولده المائة، وهي سد الحاجة والكفاية، والولد يريد أن يدرس ويريد الزيادة فقال: أريد مائة وعشرين، أو أريد مائة وخمسين، فإنه يطالب فوق المائة بالعشرين والخمسين، وهي في قدر المستحب وليس في قدر الواجب، فهذا ليس من حقه أن يطالب به، لكن إذا أراد أن يتفاهم مع والده على أن والده يكرمه ويزيده؛ فهذه شئون بين الولد ووالده، فيلاطفه ليحاول أن يعطيه القدر الزائد، فمثلا: ولد أعطاه والده مائة وهو يريد مائة وعشرين، فتلطف مع والده حتى يعطيه العشرين، وبحث عن أمور مؤثرة والمفاتيح التي تفك قفل والده، فهذا ليس بالمحرم. أما النفقة المستحبة فالأمر فيها واسع، فإن الإنسان إذا كان بينه وبين أحد ود ومحبة وأراد أن يوسع عليه، وكان بينهما من الأخوة، وبين الوالد وولده من الصفاء والنقاء ما يطلب فيه الولد الأكثر دون أن يعنت الوالد، فلا بأس بذلك. قال رحمه الله: [فإن له مطالبته بها] . أي: بالنفقة الواجبة. الأسئلة حكم استدانة الولد لتلبية متطلبات والده الضرورية السؤال أحيانا يطلب مني الوالد أكثر مما أطيق، كأن يطلب زيادة على ما أعطيه، ولا أجد قدرة على ذلك، فهل أستدين وألبي رغبته؟ الجواب هذا الحقيقة فيه تفصيل، فمن حيث الأصل لست بملزم، لكن هناك ظروف تطرأ على الوالد، وهذه الظروف صعبة؛ كعلاج ضروري، وهذا العلاج بخمسمائة ريال، وحدود النفقة التي تعطيها أنت للوالد مثلا مائتا ريال، لكن العلاج هو محتاج إليه الآن، ولو أنك استدنت الخمسمائة وفرجت -بعد الله- كربة أبيك، ثم استعنت بعد ذلك على سدادها من راتبك دون أن تقع في حرج وضيق، فهذا من أفضل وأكمل ما يكون، وتحتسب ذلك عند الله. فمن حيث الأفضل والأكمل أقول لك: لن تعدم من الله عز وجل الخير والبركة ما دمت بارا لوالدك، وأكمل ما يكون البر في الشدائد، أما من حيث الواجب فلا يجب عليك الشيء الزائد عن حاجتك، والزائد عن قدرتك، والذي لا تستطيع: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] . لكن كن على علم ويقين أن الله لن يضيعك، وأن الله سيفتح لك من أبواب البركة والخير ما لم يخطر لك على بال، فما وجدنا البر سيئ العاقبة أبدا؛ بل إن البار في أحسن الأحوال وأكمل ما يكون عليه المآل في الدنيا والآخرة، ولذلك تجد البار ما يسلك طريقا إلا سهله الله له، ولن يقرع بابا إلا فتحه الله في وجهه ميسرة أموره. وأنت إذا أخذت الأمر بالدقة وقلت: أنا لا أستطيع! أنا لا أريد! لا تحملني ما لا أطيق! وكفحته في وجهه، وأنت ترى ظرفا قاهرا وأمورا تحتاج منك أن تكون الابن الأكمل والأفضل، وأن تسمو بنفسك إلى معالي الأمور، وتحس عندها أن الله يسمعك، وأن الله يراك، وأن من أعظم ما يكون من الخير سرور تدخله على مسلم، فكيف بوالديك؟!! فإذا ألزمت نفسك الشدة وأنت متوكل على الله، مفوض أمرك إلى الله؛ فإن الله لن يخيبك، فسيفتح الله لك من اليسر والمعونة والتوفيق، ويربط على قلبك وييسر لك من أمرك ما لم يخطر لك على بال، والله حتى ولو أصبحت في ضيق لكن الله سيبارك لك في عيشك، وليقرن الله عينك عاجلا أو آجلا، وليجمعن الله لك بين حسن العاقبة من برك وحسن النظر في أهلك وولدك غدا، فمن بر والديه بره أبناؤه وبناته، وقر الله عينه بالبر حيا وميتا. فلا يظن الإنسان أنه إذا وقف عند الحدود الواجبة أنه يعدل عند الله المعونة إذا خاطر بماله ووقته لا؛ بل إن الله يعينه ويوفقه. وأيا ما كان فليس بفرض، ولكن الأفضل والأكمل أن تحتسب، ونسأل الله عز وجل أن يمدنا وإياكم بعونه وحوله، والله تعالى أعلم. تفسير قاعدة (العادة محكمة) السؤال نرجو منكم توضيح هذه القاعدة: العادة محكمة؟ الجواب العادة محكمة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي، وهي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، واليقين لا يزال بالشك، والعادة محكمة. والعادة مأخوذة من العود؛ لأن الإنسان إذا اعتاد شيئا رجع إليه مرة بعد مرة، ولذلك سمي العيد عيدا؛ لأنه يتكرر ويعود إليه الإنسان في كل عام مرتين. والمراد بالعادة: ما اعتاده أهل العرف الإسلامي، وعند العلماء ضوابط، فليس كل عادة في بلد يحتكم إليها، وليس كل شيء يعتاده الناس يحتكم إليه ويعمل به، فالشريعة جاءت بأشياء حكم فيها بأحكام معينة، وحددت هذه الأحكام، وفصلت فيها، فمثلا: بينت مقادير الزكوات، وفرضت على الناس أداءها، فبينت زمانها والأصناف التي تجب فيها، ومن تدفع إليه الزكاة، والأوقات التي تجب إلى آخره. لكن هناك أشياء أوجبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، وهناك أشياء دعت إليها واستحبتها وتركت تقديرها لأعراف المسلمين، والسبب في هذا: أن العقول جعلها الله نورا للناس، ولذلك جعل الله نور العقل ونور الوحي، فالشخص تكمل عليه نعمة الله إذا جمع بين نور الشرع ونور العقل الذي وهبه، كما قال تعالى: {نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [النور:35] . فالذي عنده عقل سليم لا يفعل إلا الشيء السليم؛ لأن العقل يعقل ويمنع عما لا يحمد، فالمسلم من حيث الأصل أن الناس في الأعراف الإسلامية في الغالب يعتادون أجمل الأشياء وأكملها وأحسنها، فإذا جئنا -مثلا- إلى عرف بلد إسلامي فوجدناهم اعتادوا أمرا، وهذا الأمر نحتاجه لتقدير حكم أو ضبط شيء أمر الشرع بضبطه بعرف الناس؛ رجعنا إليه، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وهذا يعتبر من خوارم المروءة، فإذا جئت تبحث ما هي المروءة تقول: المروءة أن يكون الإنسان في أكمل وأحسن الأحوال التي تليق به في خاصته، فالعالم له وضع، وطالب العلم له وضع، وعامة الناس لهم وضع. فمثلا: الأكل في المطعم أمام الناس، أو مثلا: الأكل في الشارع، فقد يأتي شخص ويأخذ طعامه ويضعه في فمه أمام الناس، فهذا لا يمكن أن يقبل من عالم أن يأتي أمام الناس ويأكل إلا في أمور مستثناة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب القدح أمام الصحابة، وأكل أمام الصحابة للتعليم في السفر، فهذه أمور مستثناة، لكن في داخل المدينة وبإمكانه أن يأكل في بيته، فيخرج طعامه أمام الناس في السوق أو في المجامع ويجلس أمامهم، فهذا يسقط المروءة، ومع أنه مباح وجائز، لكن الناس إذا رأوا هذا الشيء استهجنوه، وليس له حكم في الشريعة، فإن الشريعة لم تحرم علينا أن نأكل، فالأكل جائز، لكن الأكل أمام الناس بهذا الشكل أصله مباح: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فنقول: هذا مردود، ولا نقبله منك أيها العالم، ولا نقبله منك يا طالب العلم؛ لأن عادة المسلمين وعرفهم لا يقبلون هذا. ولو خرج إنسان بملابسه الداخلية، أو بملابس النوم، فهو أمر مباح، فإنه يجوز للشخص أن يخرج بالقميص، ولا بأس به، لكن في عرفنا وما اعتاده الناس أن هذا يزري بالإنسان، ولا شك أن هذا الشيء من خوارم المروءة. قالوا: لأن الإنسان الذي لا يبالي بالناس ليس عنده عقل، فكونه يخرج أمام الناس لابسا هذا اللبس الذي لا يليق إلا أن يلبسه داخل البيت، يدل على نقصان عقله، فانخرمت مروءته، لكن هذا الحكم ما أخذناه من نص من الكتاب والسنة، لكن أخذناه من أعراف المسلمين الكاملة الفاضلة. وإذا جاء شخص وجلس أمام الناس وهو -مثلا- من أعيان الناس وكبارهم، فيحتاج إلى أن يكون على وقار وعلى سمت وعلى جلالة قدر تليق به؛ كالعالم، وطالب العلم، فجلس يضحك ويفعل الأمور التي لا تليق به، ويتهكم ويستخف، أو يأتي بالنكت ويسخر من هذا ويضحك من هذا، ويمزح مع هذا، فماذا نعد هذا؟! تجد عامة الناس العاقل منهم ينظر إليه نظرة غريبة، مع أنه لم يفعل محرما، فاللهو مباح، والضحك مباح، لكن من مثله في هذا المكان بهذه الصفة لا يليق، فيعتبر خارما للمروءة، لكن لما حكمنا بكونه لا يليق ليس بنص من الكتاب ولا من السنة، ولكن من عرف المسلمين وعادتهم الكريمة التي جبلوا فيها على أحسن وأكمل وأفضل ما يكون عليه الناس، ولأن الله اختار لهم أفضل الأديان وأحسنها، فاختار لهم أحسن العادات. ومن هنا تتخرج مسألة لبس المرأة للقصير أمام النساء، فالذي يحدث من بعض من يلبس على الناس دينهم ومن أنصاف المتعلمين يقول: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، وعورة الرجل ما بين السرة والركبة، إذا تكشف المرأة ساقيها، ولها الحق أن تكشف عن صدرها وتلبس الملابس العارية؛ لأنها مباحة، ولا يوجد دليل على التحريم. فنقول: إن هذا الشيء من حيث الأصل العام أن عورة المرأة مع المرأة من جهة حد التحريم الأصلي، لكن لا يقتضي هذا الهجوم على عادات الناس ومكارم الأخلاق، وسل العادات الحميدة من النفوس الطيبة التي ألفت هذه العادات، وسن القدوة السيئة حتى يقتدى بها الغير والتي تفتح شرا على المجتمع، هذا هو الذي يعاتب عليه، وهذا الذي يمنع منه، فالمرأة التي تأتي كاشفة عن ساقيها ساقطة المروءة، سقطت عدالتها، وهذا ذكره العلماء، وبينوا أن الأمور المباحة إذا فعلت في العيان في الحفلات وفي مجامع الناس أوجبت سقوط المروءة، ودلت على نقصان عقل الإنسان، وقد تدل على نقصان دينه. وعندما تجد الشخص يأتي ويقول لهم: هذا الفعل ليس فيه شيء، واتركوا بناتنا يفعلن هذا الشيء، واتركوا نساءنا يفعلن! هذا إنسان يريد أن يهدم المجتمع، ويريد أن يقوض العادات الكريمة المستقيمة. والشاب الآن حينما يأتي وهو رجل فيأتي كاشفا عن فخذيه ويقول: هناك من العلماء من يقول: إن العورة هي السوءتان فقط، وأن الفخذ ليست بعورة، فيأتي أمام مجامع الناس لابسا هذا اللباس معتديا على حرمات المسلمين؛ لأن للمسلمين حرمة، فليس من حق أحد أن يكشف محاسنه فيفتن الغير بها؛ لأن هذا أمام الناس، ولو كان في بيته فهو حر في نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا كله: (الله أحق أن يستحيا منه) حتى مع كون الإنسان وحيدا، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! عورتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قالوا: يا رسول الله! أحدنا يكون خاليا، قال: الله أحق أن يستحيا منه) ، وقال في الحديث الصحيح: (إن معكم من لا يفارقونكم) ، وهم الملكان الكرام الكاتبون، الذين يعلمون ما تفعلون: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوهم وأكرموهم) . ثم الشاب الذي يأتي فيكشف عن فخذه لا ينبغي أن يسكت عليه الغير، فحينما تراه تأتي وتنصحه بالتي هي أحسن. وقد رأيت شابا ذات مرة بهذه الصفة فناديته وقلت: يا أخي! أولا: هذا الذي تفعله ليس من حقك شرعا، فليس من حقك شرعا أن تكشف شيئا مما يوجب الفتنة لغيرك. ثانيا: أنا أريد أن أسألك سؤالا: لما رأيتني بالثوب ورأيتني بهذا اللباس ناشدتك الله هل ترى في ثوبي عيبا؟ قال: لا. قلت: لبسك لهذا الشيء طعن في هذا الشيء، أنت في أمة كاملة وفي بلد قدوة للأمة كلها تنظر إليهم النظرة الفاضلة الكاملة، وتعتدي على مكارم العادات ومحاسن العادات! ومن ناحية شرعية: لا إشكال في كونه يقلد الغرب، وهذا سنأتي عليه، وقد بينته له بعد ذلك، وبينت له أن لبسك لهذا اللباس تبعا لغيرك يدل على انهزامك، وأنك تبع للغير، (من أحب قوما حشر معهم) وأنت خيرت بين لباسين: - لباس الكمال والفضيلة. - ولباس النقص والذي يقود إلى الرذيلة. فهل هناك عاقل يرضى لنفسه أن يلبس هذا اللباس؟! إن هذا اعتداء على قيم الناس. ثم الرجل الواحد والمرأة الواحدة التي تأتي في الحفلة وتلبس لباسا فيه نوع من الاشتهار، يدخل في لباس الشهرة، وقد جاء في الحديث: (ومن لبس لباس شهرة ألبسه الله ثوبا من نار) ، نسأل الله السلامة والعافية، ومن لبس لباس الشهرة شهر الله به في الدنيا والآخرة. فالحذر! والله لا ترضى المسلمة أنها تربت في بيت ترى فيه أمها كاشفة عن فخذيها، والمرأة التي تكشف عن فخذيها أمام بناتها وأمام المجتمع تسأل نفسها: لو أنها استفاقت يوما من الأيام وقد رأت أمها كاشفة فخذها هل ترضى ذلك لأمها؟! فكيف ترضاه لبناتها؟! فنحن لا ننظر إلى القدوة، مع أن القدوة لها أثر. إذا: (العادة محكمة) قاعدة صحيحة، ويرجع إليها في تقدير النفقات، فالنفقة الزوجية يرجع فيها إلى العادة، ونقول: إذا كنت غنيا تقدر بنفقة الغنى، وإذا كنت فقيرا تقدر بنفقة الفقر، وإذا كنت متوسطا بنفقة الوسط، والمهور يرجع فيها إلى مهر المثل، وهذا من الرجوع إلى القاعدة والاحتكام إلى العادة، وقس على ذلك. لكن الذي ينبه عليه: أنه لا يحتكم إلى العادة الخاطئة، ولذلك قالوا: لو تعارف الناس على أمر محرم انتشر بين المسلمين فأصبح عادة لم يرتبط به حكم شرعي، حتى قالوا: لو اعتادوا -مثلا- على حلق اللحى وأصبح عادة فإن هذا لا يحتكم إليه؛ لأن شرط العادة: أولا: أن تكون في المشروع، لا في الممنوع. ثانيا: أن تطرد اطرادا في أغلب الناس أو أكثر الناس، خاصة إذا شملت المجتمع كله، فهذا مما يحتكم إليه ويثبت العمل به. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. حكم تصرف الوالد في مال ابنه من الرضاعة الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرضاعة لا توجب ما ذكرناه من الحكم، ولذلك فليس من حق الوالد أن يتصرف بمال ولده من الرضاعة، فإنه يختص الحكم فيما يكون من النسب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) ، فجعل الحكم بالمحرمية، فدل على أن بقية الأحكام لا تأخذ فيها الرضاعة حكم النسب، والله تعالى أعلم. حكم أخذ الولد دينه لأبيه المتوفى من تركته السؤال إذا مات الأب وللابن عنده دين فهل يسقط أم يطالب إخوته أم يأخذه من التركة؟ الجواب هذا على ما تقدم، من حيث الأصل: أن الوالد إذا أخذ الدين من ولده وهو يريد سداده، فالمنبغي على الورثة ما دام أن هذا هو الأصل وهو المستصحب أن يسددوا عن والدهم، خاصة وأنه يكون فيه نوع من التفضيل، ويتحمل فيه الولد الذي دين تبعة ذلك الدين أكثر من غيره، فحينئذ يسدد له الدين، وأما إذا كان الوالد قد امتنع عن السداد مع القدرة، وفهم منه عدم إرادته للسداد، فلا إشكال، وحكمه حكم ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. متى تسقط نفقة الوالد على ولده السؤال النفقة تجب من الوالد لولده، فمتى يزول هذا الوجوب، هل بمجرد بلوغ الابن؟ الجواب إذا بلغ الولد وكان قادرا على الكسب، قادرا على أن يعول نفسه، ويقوم بكفايتها؛ سقطت النفقة عن الوالد، وحينئذ فلا يلزم الوالد بالنفقة على ولده، مثال ذلك: إذا بلغ ووجد وظيفة أو وجد عملا؛ فحينئذ تسقط النفقة عن الوالد ويقوم الولد بإعالة نفسه. أو كان الولد عنده قوة ويستطيع أن يعمل عملا أو يتكسب بالعمل المباح، فحينئذ يتكسب، وللوالد أن يقول له: اذهب وتكسب، فإذا قصر وامتنع من التكسب كان من حق الوالد أن يمتنع من النفقة عليه ما دام قادرا على الكسب، فالشريعة لا تدعو إلى البطالة، ولا تعين على البطالة. ومن هنا ننبه على أن من أفضل ما يكون للإنسان أن يربي الوالد ولده دائما على الكسب باليد؛ لأنه خلق الأنبياء الذين اختار الله لهم الكسب الطيب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أكلوا من كسب أيديهم، فداود كان في الحدادة يأكل من كسب يده، وكذلك يحيى وزكريا عليهم الصلاة والسلام، فهذا كله لا ينقص قدر الإنسان. والشاب الذي تجده يكدح ويتعب من أول شبابه، ويستفتح حياته بأن يكون متوكلا على الله، آخذا بالسبب؛ فإن الله يبارك له في صحته، ويبارك له في وقته، ويبارك له في ماله وكسبه، لكن إذا نشأ عالة على والده، يحمل والده النفقة، ولو كان الوالد راضيا بذلك، فإن هذا لا تحمد عقباه، وليس بالأكمل والأفضل. بل على الإنسان دائما أن يسعى في طلب المباح، وقد أخبرني الوالد رحمه الله: أن جدي كان يحفظهم القرآن من وقت الحر إلى طلوع الشمس، فكان يوقظهم من السحر، وكان رحمة الله عليه كثير التهجد والعبادة، حتى إن العمات الآن يقلن: لا يأتي قبل الفجر بساعة ونصف إلا وهن مستيقظات؛ لأنه عودهن من الصغر رحمة الله عليه. فمما كان من سيرته: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مع أولاده إلى الإشراق، وإذا أشرقت الشمس أخذ الألواح التي يحفظون بها -كانوا يكتبون القرآن فيجمعون بين حفظه بالكتابة والرسم والتلقي والسماع-، فإذا طلعت الشمس سحب هذه الألواح منهم وأمرهم أن يذهبوا لكسب العيش، فيذهبون، ومن المعروف أنهم كانوا في بادية، فيذهبون ويطلبون القوت، ولم تكن هناك أعمال لهم، فالذي يذهب يحتطب، والذي يذهب ويقوم على رعي الغنم ومراعي الإبل، المهم ألا يبقى عاجزا، وألا يبقى عالة. وقد كان عنده من الخدم ما يسد حاجته، لكن لابد أن يكدح كل شخص منهم ويلتمس رزقه، ولا يكون عالة على غيره، فهذا هو الأكمل والأفضل؛ أن يعود الوالد ولده، وإذا نشأ الشباب على هذا الشعور فإنهم سيجدون المال الطيب بالكسب المباح الذي ليس فيه شبهة ولا حرام، ويبارك الله لهم في أوقاتهم. ولذلك تجد الشاب الذي يتعود على البطالة وعلى والديه لم يهنأ له العيش، حتى إنك تجد الواحد منهم تصب في حجره عشرات الألوف وهو من أنكد الناس -نسأل الله العافية والسلامة- ومن أبأسهم حالا، وتجده في أشد ما يكون من الضيق والعناء. ولذلك ينبغي البعد عن هذه البطالة، وعلى الإنسان أن يبحث عن الكسب الطيب الذي يصون به نفسه وماء وجهه عن سؤال الناس أو الحاجة إلى الناس، قيل لـ إبراهيم بن أدهم -وهو من عباد الناس الصالحين وقد كان في البحر في سفينة، فأصابتهم الريح، فمالت السفينة وكادت أن تغرق، ثم نجاهم الله عز وجل، فقيل: (يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة وهذه الكربة؟ فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس) . فالذي لا يتعود على الكسب بيده، ولا يتعود على طلب رزقه، وسؤال الله المعونة، فإنه سيكون في أسوأ الأحوال، فليس هناك أشد من أن يقف الإنسان أمام الغير ليسأله حاجة من حوائج الدنيا، فنسأل الله العظيم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (399) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [1] لقد حفظ الشرع حقوق الورثة عندما منع الموصي من الوصية بما زاد على الثلث، وكذلك حجر المريض مرضا مخوفا من إعطاء أو هبة ما زاد عن ثلث ماله، وأما من مرض مرضا غير مخوف فتصرفه يعتبر تصرفا لازما صحيحا، سواء مات في ذلك المرض أو لم يمت، والضابط في معرفة المرض المخوف من غيره هو سؤال أهل الخبرة والأطباء المسلمين أصحاب الثقة والأمانة. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل في تصرفات المريض] . حكم تصرف المريض فيما زاد على الثلث والحكمة من ذلك كان الحديث فيما مضى عن أحكام الهبات والعطايا، وهو موصول بأحكام الأوقاف، وقد بينا الصلة بين البابين، وسبب ذكر العلماء رحمهم الله لباب العطية والهبة بعد باب الوقف. أما بالنسبة لتصرفات المريض، فالمراد بالمريض هنا: المريض مرض الموت من حيث الأصل، لكن العلماء رحمهم الله يذكرون أحكام تصرفات المريض عموما في هذا الموضع، وقد يسأل سائل فيقول: ما هي المناسبة في كون المصنف يذكر هذا الفصل في هذا الباب المتعلق بالهبات والعطايا؟ و الجواب أن الهبة والعطية تبرع محض، يعطيه الإنسان لغيره، وهذا التبرع المحض بينا أنه مشروع وجائز، ولكن هناك نوع من الناس منعت الشريعة الإسلامية تصرفه وعطيته وهبته في حد معين، فأجازت له أن يعطي ولكن بحدود، وأباحت له أن يهب ولكن بقيود، وهذا النوع هو المريض مرض الموت، والسبب في هذا: أن المريض مرض الموت تنظر الشريعة الإسلامية إلى حاجة ورثته إلى المال، ولو فتح المجال للتبرعات والهبات والصدقات مطلقا للإنسان عند حضور الأجل، وتصدق الناس بأموالهم جميعها؛ لأضروا بمصالح الورثة؛ وذلك لأن الإنسان يخاف إذا نزل به الموت أو نزلت به أماراته، وخاصة إذا أخبر من الأطباء أو أهل الخبرة أن الغالب أنه لن يسلم، فإذا انقطع رجاؤه من الحياة أقدم على نفسه، فأصبح مقبلا على آخرته وبذل ماله كله وتصدق به، والشريعة في هذه الحالة لا تنظر إلى جانب دون اعتبار جوانب أخر، فكما أن الميت والإنسان له حق في ماله، لكن ما دام أن هناك ورثة يرثونه من بعده، وهؤلاء الورثة قد يكونون ممن هم أوثق بالإنسان كوالديه وأولاده وزوجته فربما تعرضوا للضياع من بعده، فمنعت الشريعة من التصرف من المريض مرض الموت فيما زاد عن الثلث بالهبة والعطية والوصية ونحو ذلك، صيانة لحق الورثة. وقد يعترض معترض ويقول: المال مال الشخص سواء تصدق به أو وهبه أو أعطاه، فلماذا نمنعه؟ والجواب: أن الشخص إذا كان يرجو الله والدار الآخرة إذا تصرف بإعطائه للمال لم يخل من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تصرفه بالصدقات والهبات، فصدقته على أقربائه أفضل، وعطيته لأولاده وذريته من بعده أفضل والله يأجرك على كل درهم بل على كل خردلة تركتها لورثتك من بعدك، والصدقة على القريب أعظم ثوابا وأجزل عطاء وأحسن مئابا عند الله من غير القريب، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين في الصحيح: أنه كان عندها جارية تملكها، فأعتقت الجارية لله، فدخل عليها عليه الصلاة والسلام، فقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو أنك أعطيتها لأخوالك لكان أعظم لأجرك عند الله) . إذا: العطية للقريب أعظم من العطية لغير القريب. أيضا: أن القريب له حق واجب على الإنسان كأولاده وذريته، فهؤلاء يتضررون ببذل المال لغيرهم، فكيف يحسن الإنسان لمن هو بعيد ويترك ويضيع من هو أقرب؟! ومن هنا لما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدقته بماله، قال -بعد أن بين له حق نفسه-: (ثم أدناك أدناك) وقال: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ، فيدل هذا على أنه إذا كان الشخص في مرض الموت وأراد أن يتصدق بماله من أجل الإحسان إلى الناس، فإحسانه إلى الورثة أعظم، وهذا من حيث الاحتمال الأول، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حينما دخل على سعد رضي الله عنه وأرضاه، وكان سعد مريضا وخشي على نفسه أنه يموت فقال: (يا رسول الله! إن عندي مالا ولا وارث لي كما علمت إلا ابنة أفتصدق بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبنصفه؟ قال: لا. قال: فبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير) فقال: ثم بين عليه الصلاة والسلام العلة والسبب في كونه يمنعه أن يتصدق بجميع المال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر) أي: تترك ورثتك وأولادك من بعدك أغنياء عندهم مال؛ يكون لك في ذلك أجر؛ لكونك سترت عورتهم، وسددت خلتهم وحاجتهم ولم يخرجوا إلى الناس، فذلك خير لك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأنه قال: (خير) وخير نكرة شملت جميع الخير، مع أنه قد قال: أفأتصدق؟ فـ سعد رضي الله عنه يريد الصدقة، ويريد أن يقدم شيئا لآخرته، فقال له: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . إذا: هذا من جهة إذا كان قصده من التصرف في مرض الموت الإحسان والصدقة، فقد بينا أن إحسانه إلى الأقرباء أعظم وأفضل ثوابا من الإحسان إلى الغرباء، ومن هنا قال العلماء: من أراد أن يوقف أو يتصدق فالمنبغي عليه أن ينظر أول ما ينظر إلى قرابته؛ لأن الإحسان إلى الأقرباء أعظم، والبر بهم والصلة لهم أجزل ثوابا عند الله عز وجل من غيرهم. الحالة الثانية: أن يكون قصده غير حسن، كأن يرى أن هذا المال تعب فيه وشقي في جمعه، فلا يريد أن يبقى لورثته من بعده، فيريد أن يصرفه للغرباء حتى يحرمه الأقرباء، فهذا لا شك أنه عين الإساءة، ومثل هذا من حقك أن تحجر عليه وتمنعه؛ لأن الشريعة جاءت بالمصالح ولم تأت بالمفاسد، ولذلك عاملت بنقيض القصد؛ ولذلك من طلق زوجته من أجل أن يحرمها من الميراث في مرض الموت، ذهب بعض الصحابة إلى أنها تورث على رغم أنفه، وهذا كله من باب المعاملة بنقيض القصد؛ لأنه يريد غير شرع الله، ويريد تعطيل ما أعطى الله عز وجل ووهبه لعباده. إذا: إما أن يكون قصد المريض حسنا، فالإحسان إلى القريب أولى، وإما أن يكون سيئا فمنعه من إساءته أولى وأحرى. ومن هنا نجد -والعياذ بالله- في بلاد الكفر في الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر أن الرجل منهم يجلس سنوات آخر عمره لا يصله أحد من أقربائه -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا كان عنده الأموال الكثيرة ربما أوصى بها إلى الحيوانات -أكرمكم الله- وهذا من الانهيار الخلقي والدمار الداخلي الذي يعيشه أعداء الله؛ لأن الله كتب أن أموالهم يعذبون بها في الدنيا، وعلينا ألا نعجب لما هم فيه من النعيم والأموال؛ لأن الله سيجعلها زهقا لأنفسهم حتى في آخر حياتهم؛ فتزهق أنفسهم ويعذبون بأموالهم، يعذب بها المورث ومن يرثه، فيحرم من الابن ومن الملايين التي توصى -والعياذ بالله- ولعل بعضكم سمع القصص التي لا خير في سماعها أصلا، لكنها عبرة خير وعبرة لمن يعتبر، فهم يريدون أن ينتقموا من الورثة. إذا: هذا الاحتمال الثاني: أن يتصرف بماله عند مرض الموت بقصد حرمان الورثة وقطعهم من حقهم الذي أعطاهم الله من فوق سبع سماوات، فهذا تصرف إساءة، والشريعة جاءت بدرء المفاسد وجلب المصالح، وهذا بالنسبة للأصل العام. فالشريعة تدخلت في تصرف المريض مرض الموت في أمور تتعلق بحقوق الغير، فلم تمنع مطلقا؛ ولم تجز مطلقا بل جاءت بالعدل والوسطية، فأجازت له أن يتصرف بالمال، ولكن دون أن يضر بورثته، ودون أن يضر بمن يعول من بعده. قوله: (فصل في تصرفات المريض) في كتب الفقهاء رحمهم الله الباب ينقطع عما قبله، وقد يجتمع مع ما قبله في الأصل العام الذي هو الكتاب، فتقول مثلا: كتاب الصيام، باب ثبوت رمضان، ثم تقول: باب وجوب الصوم، باب السحور، باب الفطر، وكلها أجزاء وأبواب منفصلة، فالسحور غير الفطر؛ لكنه يندرج مع الفطر في أصل عام وهو الكتاب، لكن (الفصل) قسيم (الباب) ، ومعناه: أن مسائل الفصل أو قاعدة الفصل العامة مندرجة تحت الباب، ولما كانت عطية المريض داخلة تحت باب العطايا، قال المصنف رحمه الله: فصل في تصرفات المريض. وقوله: (تصرفات) جمع تصرف، يقال: صرف الشيء: بذله للغير، ومنه المصارفة؛ لأن الإنسان يجعل الشيء مبذولا لقاء الشيء، والمراد بالتصرف: التصرف في الشريعة الإسلامية، ويكون بالعقود ويشمل ذلك البيع والإجارة والرهن والهبة والوقف والعتق، وغيرها من التصرفات الأخرى. وقوله: (فصل في تصرفات المريض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحقوق المريض مرض الموت المركبة والمترتبة على أمواله، فإذا باع ماله ما حكم بيعه؟ وإذا أجر ما حكم إجارته؟ وإذا وهب ما حكم هبته؟ وإذا وصى فما حكم وصيته؟ كل هذا سيبينه رحمه الله في هذا الموضع. وقال: (تصرفات) بصيغة الجمع؛ لأنها أكثر من شيء، فهناك تصرف في المعاوضات، وهناك تصرف بالإرفاقات، والتصرف بالأنكحة والطلاق والخلع وغيرها من المسائل، لكن العلماء والفقهاء منهم من يستقل ومنهم من يستكثر، والمصنف رحمه الله جمع جملة لا بأس بها من المسائل والأحكام. وقوله: (المريض) ، ضد الصحيح، والمريض: هو السقيم، والمراد بالمرض: خروج البدن عن حد الاعتدال، فبدن الإنسان فيه طبائع، فإذا اعتدلت هذه الطبائع اعتدلت صحة الإنسان، وذكروا منها السوداء والصفراء والبلغم، فهذه إذا اعتدلت واستوت في جسم الإنسان، فصحته سليمة، لكن إذا اختلت انتابته الأسقام والأمراض والعلل. وسيذكر أحكام تصرفات المريض، سواء كان مرضا مخوفا، وهو المرض الذي يموت الإنسان منه غالبا، أو كان تصرفه في مرض غير مخوف، سواء مات في ذلك المرض أو لم يمت فيه. وفي هذا الموضع من عادة العلماء رحمهم الله أن يبينوا أنواع الأمراض -عافنا الله وإياكم من الأمراض والأسقام ظاهرها وباطنها- وفي الحقيقة: لسنا بحاجة إلى أن نصف هذه الأمراض؛ لأن المرد في هذه المسائل إلى الأطباء وأهل الخبرة، والأزمنة تختلف، وبعض الأمراض لا نستطيع أن نقول: إنه المرض الفلاني؛ لأنه في القديم كانت له أسماء وفي الحديث له أسماء أخرى؛ ولذلك ننبه على أننا سنعطي بعض القواعد والضوابط التي من خلالها يعمل بما ذكره المصنف رحمه الله من أحكام؛ لكن المرد في هذا كله من حيث الأصل إلى الأطباء، فالأطباء هم الذين يقررون هل هذا المرض مرض مخوف أو مرض غير مخوف؟ فإذا قال الأط حكم تصرف المريض مرضا غير مخوف قال رحمه الله تعالى: [من مرضه غير مخوف كوجع ضرس وعين وصداع يسير فتصرفه لازم كالصحيح ولو مات منه] . من حيث الأصل العام: المريض نمنعه من التصرف فيما زاد عن حدود الثلث، فلا يهب ما زاد عن الثلث، ولا يعتق -كما كان قديما- ما زاد عن الثلث، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه رد العتق في هذا) ، ولا يوقف في قول طائفة من العلماء بما زاد عن الثلث، ولو أوصى بوصية لوارث فقال: لفلان كذا وكذا، وهو وارث منه، فلا تصح هذه الوصية؛ لأنه لا وصية لوارث، ما لم يجزها الورثة، كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله في كتاب الوصايا. والحجر عليه يكون في حدود الثلث، فلو كانت عنده ثلاثة ملايين فمن حقه أن يهب أو يتصدق بالمليون أو ما دونه، وأما ما زاد على ذلك فإنه من حيث الأصل العام محجور عليه، والمراد بالحجر: المنع من التصرف، فلا ينفذ التصرف إلا برضا الورثة، فإذا تصدق بمليونين ومجموع ما تركه ثلاثة ملايين، فنقول: تنفذ صدقته في المليون، ثم نجمع ورثته ونسأل هؤلاء الورثة: ما رأيكم في المليون الزائد على الثلث الذي هو الثلث الثاني، هل أنتم راضون بإنفاذه أو لستم براضين؟ فإن أمضوه مضى ونفذ، وهناك قولان للعلماء: هل نعتبر الثلث الثاني الزائد على الثلث مبنيا على عطية المريض فيمضي من وقت العطية، فيكون حكمه حكم وقف العطية أنه مملوك لصاحبه، على التفصيل الذي سيأتي في الوصايا، أم أنها عطية مبتدأة؟ فبعض العلماء يقول: إذا رضي الورثة بإعطاء المليون الزائد فإنه في هذه الحالة تكون عطية منهم لا من الميت. إذا: المنع في حدود الثلث اعتبره العلماء نوعا من الحجر، ويختص بالثلث، فيخالف بقية أنواع الحجر الأخرى؛ لأن الحجر يشمل الثلث وغيره؛ كالحجر على المجنون أو الصبي أو المفلس، فهذا يكون حجرا تاما، لكن في المريض مرض الموت يكون حجرا في حدود الثلث، وأشار إلى ذلك بعض الفقهاء كالمالكية رحمهم الله فقالوا: الزوجة لا تجوز عطيتها ولا تنفذ فيما زاد عن الثلث كالمريض مرض الموت، والسبب في هذا: أن المرأة من حيث الأصل في الشريعة مخدرة محجبة بحجابها الذي جعله الله عز وجل طهرا لها، وصيانة لها، فلا تخالط الناس، ولا تبيع ولا تشتري، والغالب أنها تجهل هذه الأمور، فما كان هناك تبرج ولا خروج، تقول أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور) فما كان النساء يعرفن الخروج والولوج، بل كانت المرأة أجهل ما تكون في مخالطة الناس ومعرفتهم، من كثرة الحفاظ والطهر الذي كانت فيه هذه الأمة، والعفة التي صان الله عز وجل بها نساء الأمة، ولا زال صائنا سبحانه وتعالى لنساء الأمة بالتمسك بهذه المبادئ الكريمة. فالشاهد: أن المرأة كانت تجهل من خلال هذه الأمور، فبعض العلماء وهو قول شريح يرويه عن عمر بن الخطاب كما جاء في المصنف: (عهد إلي عمر ألا أجيز لامرأة عطيتها حتى تحول حولا أو تلد ولدا) ، يعني: بعد ما تحول الحول وتخالط الرجل وتعرف الأمور، فحينئذ تنفذ، لكن قبل ذلك كانوا يمنعونها؛ لأنها كانت تجهل هذه الأمور، فالمالكية يرون الحجر على المرأة في حدود الثلث، والصحيح هو مذهب الجمهور: أن المرأة ما دامت عاقلة رشيدة فإنها حرة في مالها، بشرط ألا تسرف ولا تبذخ، وأما القول الأول فهو قول مرجوح، وقد أشار إلى هذا القول المرجوح بعض العلماء بقوله: وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض الشاهد في قوله: (كذا مريض مات في ذاك المرض) ، إذا: في المرض المخوف سيكون الحجر في حدود الثلث، فأولا: نمنعه نمنعه من التصرف فيما زاد عن الثلث. وثانيا: نمنعه من التصرف بالهبة، أما لو باع واشترى وتعاطى بالمعاوضات فهذا شيء آخر من حيث الأصل، ولا اعتراض ما دام أنه عاقل رشيد يبيع ويشتري من حيث الأصل، لكن أن يصرف الهبات والعطايا وما يدخل الضرر على الورثة، فهذا فيه تفصيل سيذكره المصنف رحمه الله. أمثلة للمرض غير المخوف وقوله: (من مرضه غير مخوف كوجع ضرس) . أي: أن يكون المرض من جنس الأمراض التي لا يخاف منها على الإنسان أن يموت بسببها، فوجع الضرس لا يؤدي إلى الموت غالبا. وقوله: (وعين) . إذا آلمته العين مثل: التهابات الأعين، فإنها لا تؤدي إلى الموت، لكن ثبت في بعض الأحيان أنه قد يكون المرض مستحكما في الجسم وله أعراض ودلائل في مواضع أخر، فقد يكون الألم في جهة ومع الإنسان مرض قاتل، فيظن أن هذا من المرض اليسير، وهذا هو السبب الذي جعلنا نقول: نرجع إلى الأطباء وأهل الخبرة، فهم الذين يقررون أن هذا المرض مخوف أم لا. ووجع العين في الغالب أنه لا يؤدي إلى الموت. وقوله: (وصداع يسير) . أما الصداع المستحكم ففي بعض الأحيان -أعاذنا الله وإياكم- قد يكون دليلا على أمراض خبيثة، وقد يكون دليلا على أمراض أخرى تؤدي إلى الموت، وقد يكون دليلا على التسمم، وهذه أحوال مستثناة لا نريد أن ندخل في التفصيل؛ لأن الدخول في التفصيل يدخل الوسوسة على الناس، فبعض الأحيان إذا ذكرت بعض الأمور بعض الأعراض يصبح الشخص شاكا حتى في كل شيء، ولكن على الشخص أن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لطيف بعباده، لكن بالنسبة للأمراض وتحديدها فهو معروف عند الأطباء، فربما يكون المرض قاتلا وعلامته في مكان آخر، فقد يكون في الباطن ويأتيه صداع، لكن هذا كله يتوقف على قول الأطباء، وإلى الله المشتكى. وعلى العموم: الإنسان طبيب نفسه، والعادة جرت: أن الصداع يأتي من أشياء تافهة، مثل ضرب الهواء، وقد يأتي بسبب الجوع، وقد يأتي بسبب الإرهاق والتعب، فالأمر يسير، فليس كل صداع يفضي إلى الموت، لكن أيا ما كان قال المصنف رحمه الله: (وصداع يسير) ؛ لأن الغالب أن الصداع اليسير لا يكون مهلكا، أما إذا كان قويا مستفحلا وعرف فيما بعد أنه مرض خبيث، أو أنه تسمم وأقعده حتى توفي، فحينئذ يكون في حكم المريض مرض الموت. وتوضيح المسألة: لو أنه آلمه ضرسه، فتصدق بمائة ألف ريال في مشروع الخير، وشاء الله عز وجل بعد ساعتين أن توفي، والثابت أنه تصدق بالمائة الألف التي يملكها كلها ومعه وجع الضرس، فإن قلت: وجع الضرس مرض مخوف؛ فحينئذ لا ينفذ إلا في حدود ثلث المائة الألف، وأما الباقي فيوقف على إجازة الورثة. أما إذا قلت: إن وجع الضرس ليس بمخوف، وهذا هو المعتبر والمعمول به؛ فحينئذ تنفذ المائة الألف ولا حق للورثة فيها، ويكون قد مات قضاء وقدرا، والمائة الألف جاءت هبة من رجل صحيح سليم العقل تصح عطيته ونفذت على وجه بر وخير، فحينئذ تمضي صدقته ولا يعترض عليها، وإن آلمته إحدى عينيه -مثلا- وتصدق بما ذكرناه، ثم توفي بعد هذا الألم، ولم يقل الأطباء: إن هذا الألم متصل بعارض آخر أو بمرض آخر، فحينئذ نقول: وجع العينين ليس بمرض مخوف، وعطيته عطية صحيح نافذة في جميع المادة. وقوله: [فتصرفه لازم كالصحيح] . بمعنى: لو باع سيارته ومعه هذا المرض غير المخوف، أو وهب أو أجر؛ فتصرفه لازم وصحيح معتبر، فإذا تم القبض للهبة تمت الهبة ولزمته، وحينئذ لا يملك الورثة أن يعترضوا على هذا التصرف بإبطاله، وقوله: (كالصحيح) ، أي: أن حكمه حكم الصحيح، فهذه الأمراض والآلام لا توجب هلاكا ولا توجب تلفا غالبا؛ فحينئذ يكون تصرفه في حال ما ذكر تصرفا صحيحا معتبرا شرعا؛ لأنه ليس هناك مانع من صحة العقد، والأصل هو اللزوم إذا وقع مستوفيا للشروط، وقد باع ووهب وأوقف ورهن وتصرف بتصرفات في حال اكتمال رشده، فنعمل عقده ولا نهمله ولا نبطله؛ لأنه لا موجب للإنكال والإبطال، والمرض ليس بمرض مؤثر، فلا يوجب بطلان هبته وتصرفاته. حكم تصرف من مرض مرضا غير مخوف ومات منه قال رحمه الله: [ولو مات منه] . من أصابه المرض غير المخوف فله حالتان: الحالة الأولى: ألا يموت، بل يتصرف ثم تشفى عينه، أو يتصرف وبه صداع ثم يشفى من صداعه، فهذا بالإجماع لو أنه تصرف ورأسه يؤلمه بصداع يسير، أو تصرف ومعه ألم في عينيه، فوهب ماله كله، ثم بعد ذلك شفي، ثم رجع عليه مرض فمات، أو مات من ليلته بعد أن شفي واكتمل شفاؤه وعوفي، فإننا نقول: قد مات بسبب آخر، ومرضه الأول ليس بمخوف، وتصرفه صحيح كالصحيح، أي: أنه تصرف في حال السلامة، فيحكم بصحة تصرفه ونفوذه. الحالة الثانية: أن يموت بعد المرض، كأن يأتيه الصداع أو وجع الضرس أو ألم العين ثم يموت، فإذا جاءه الصداع أو وجع الضرس أو ألم العينين ثم اتصل إلى أن مات بعده، فللعلماء وجهان: الأول: جمهور العلماء على أن تصرفه صحيح، وأن الموت ليس بهذا المرض؛ لأن هذا المرض طبيعة وعادة لا يموت منه الإنسان، والله قد جعل العادة آية ودليلا وحجة، فما نجد أن الصداع اليسير يفضي إلى الموت، ولا نجد أن ألم العين يفضي إلى الموت عادة، لذلك سقط اعتباره، فقال المصنف: (ولو مات) . القول الثاني: يقول بعض العلماء: لو اتصل الموت بهذا المرض اليسير فإنه لا ينفذ تصرفه، والمصنف رحمه الله يريد أن يشير إلى القول الثاني، فالجمهور يقولون: من كان مرضه غير مخوف واتصل الموت بهذا المرض فمات بعده، فهبته صحيحة وتصرفه صحيح كالصحيح سواء بسواء. وهناك خلاف عند بعض الحنابلة رحمهم الله يقولون: إذا مات بعد ألم العين والمرض غير مخوف، واتصل هذا المرض بالموت، فإننا نعتبره في حكم المرض المخوف، وهذا القول مرجوح، والصحيح: أنه لا يعتبر في حكم مرض المخوف؛ لأن الحكم للغالب، والقاعدة تقول: (النادر لا حكم له) ولأننا بحكم التجربة والعادة قد نجزم بأن هذا الموت جاءه قضاء وقدرا بسبب آخر، لا أن ألم العينين ونحوها كان سببا في وفاته وموته. حكم تصرف المريض مرضا مخوفا قال رحمه الله: [وإن كان مخوفا كبرسام، وذات الجنب، ووجع قلب، ودوام قيام، ورعاف، وأول فالج، وآخر سل، والحمى المطبقة، والربع، وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف، ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق، لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها إن مات فيه، وإن عوفي فكصحيح] . قوله: (وإن كان مخوفا كبرسام) . هذه الأمراض القديمة كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يحب أن يفصل في أماراتها؛ لأنه لا بد أن يقدر أن هناك ضعيف النفس، وهناك المرأة ضعيفة النفس ربما تخيلت كل شيء يأتي أنه هذا الشيء، ولذلك كان من الحكمة ترك هذه التفصيلات. والبرسام نوع من الأمراض القاتلة -أعاذنا الله وإياكم- وهذا المرض موجود الآن، وله اسم خاص عند الأطباء، وهو يفضي إلى الهلاك غالبا، فإذا قال الأطباء: إن أمارات المرض الموجودة مع هذا المريض هي أمارات المرض الفلاني الذي هو البرسام -أعاذانا الله وإياكم- حكم العلماء رحمهم الله بكونه مرضا مخوفا؛ لأن هذا المرض الغالب أنه يفضي بصاحبه إلى الموت. وقوله: (وذات الجنب) . هو نوع من بعض الأمراض التي تفضي إلى الهلاك -نسأل الله السلامة- تلازم صاحبها والغالب أنها تفضي إلى هلاكه. وقوله: (ووجع قلب) . الآن يمكن أن نعتبر الإنسان عند القيام له بعمليات جراحية خطيرة أنه في حكم المريض مرض الموت، وبعض الأحيان تكون نجاته من هذه العمليات بنسب ضئيلة، وشفاؤه بعد العملية بنسب ضئيلة، والمهم: أنه يوجد عارض يؤثر في الجسد، والغالب أنه لا يسلم صاحبه، هذا هو الضابط، وأسماء الأمراض وتفصيلها هذا أمر يرجع إلى أهل الخبرة. ومن الممكن أن طريق الأطباء والعلماء يحكمون إذا اختلف الورثة وقالوا: هذا مرض مخوف، فيطالبون بالتقارير التي تثبت أنه مصاب بهذا المرض، والأمر -والحمد لله- الآن متيسر، والمستشفيات موجودة، والتحاليل والأجهزة بعدد لا يخطر للناس على بال، فلو أن الناس تفكروا في عظيم نعمة الله عليهم مما تيسر من وسائل الطب التي تكشف الأمراض لحارت عقولهم، وهذا لا شك أنه يستوجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلهج بالثناء على الله بما هو أهله، فإن الناس وصلوا إلى شيء لم يكن للخيال أن يتصوره، فمن كان يتصور أن القلب يفتح ويشق ويستخرج ما فيه من الأمراض ويعاد، وتداوى علله وتشوهاته الخلقية، وتوضع له العروق التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الساق، فتنقل هذه العروق وتوضع في قلب الإنسان إذا حصل عنده انسداد الشرايين من كان يتصور أن هذا يحدث؟! ولكن: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} [يس:83] ، وهذا يدل على عظمة الله جل جلاله، وعلى كرمه وحلمه ورحمته بهذا المخلوق وتكريمه لبني آدم، وهذه النعم من الله على العبد لا يشعر بها إلا القليل، وهذه النعم التي سخرها الله سبحانه وتعالى والمنن ما |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
جعلها الله سبحانه وتعالى إلا آية على توحيده وعظمته حتى يكون الإنسان شاكرا لأنعم ربه. إذا: كثير من الأمراض ومنها الانسداد في الشرايين، الغالب أنه يهلك إذا لم يسعف ويفك هذا الانسداد، فإذا كان عنده انسداد في شريان القلب، فيعني أنه مهدد بين العشية والضحى أن يأتيه قدر الله، فمثل هذه الأمراض الخطرة في القلب والتي يقول الأطباء: إنها خطرة والغالب عدم السلامة منها؛ فإنه يحكم بكونها أمراضا مخوفة. فليس كل مرض قلب أو ألمه يعد مرضا مخوفا؛ لأن شرب المشروبات الغازية -وهذا ثابت طبيا- يؤثر على القلب، ولربما تأتي بأعراض مثل أعراض الذبحة الصدرية أعاذنا الله وإياكم منها، وغالبا ليس هناك ذبحة صدريةولا أي شيء، إنما هي غازات تضغط على غشاء الإنسان فيظن أن قلبه فيه علة وما فيه علة، فمثل هذه الأمور لا بد فيها من الرجوع إلى الأطباء، ومن أهم ما كان يوصي به بعض الحكماء والعقلاء: أنه ليس هناك طبيب للإنسان مثل نفسه، فإذا وجدت أن نفسك تغيرت، فانظر فقد يكون طعامك قد تغير، فلو تغير طعامك تغيرت نفسيتك، ولو تغير جسدك تتغير طاقتك ويتغير وضعك، فالشاهد: أنه ليست كل أمارة أو علامة يحكم بكونها مرضا، ولا بد من الرجوع إلى الأطباء وأهل الخبرة في هذا. وقوله: (ودوام قيام) . هو استطلاق البطن أعاذنا الله وإياكم، فإذا استطلقت بطنه ولم تتماسك فإن الغالب في ذلك أنه يؤدي إلى الهلاك والموت إذا لم يتداركه الله برحمته، وقد تكون أمارة على مرض معد أو على مرض مهلك، فدوام استطلاق البطن يعتبر من الأمراض المخوفة. وقوله: (ورعاف) . أي: إذا نزح وكان رعافا شديدا؛ لأن هذا غالبا مرض مخوف؛ لأنه قد يكون الرعاف في بعض الأحيان بسبب الأمراض الدموية التي تكون في دم الإنسان، في صفائح الدم، وكذلك في حكم خروج الدم خروجه من داخل البدن، كالقرحة التي تكون في معدة الإنسان إذا انفجرت، أو استقاء الدم وكان في درجاته الأخيرة، فهذه غالبا مخوفة، لكن إذا كانت في بدايتها فيمكن أن يتدارك ولا يكون المرض مخوفا. وقوله: (وأول فالج وآخر سل) . كل هذه الأمراض مخوفة، والغالب أن الإنسان لا يسلم منها، حمانا الله وإياكم منها. وقوله: (والحمى المطبقة) . مثل: الملاريا، فالملاريا إذا استحكمت وتمكنت من إنسان فالغالب أنها تقتله، وإذا أطبقت على الإنسان وأصبح محموما وأثر عليه، فإنها غالبا ما تقتل الإنسان، إذا كانت مستحكمة ووصلت إلى درجاتها الخطيرة. وقوله: (والربع) . وهي الحمى التي تأتيه في اليوم الأول، ثم تمكث يومين ثم تأتي في اليوم الرابع. وبعض العلماء رحمهم الله كان يقول: سمعت بعض المشايخ سأل بعض الأطباء فقال: هي علامة على بعض الأمراض الخطرة في البدن -يعني: أنها ليست بذاتها- والغالب أن مثل هذه الأمراض تستحكم في الإنسان حتى تقتله. حكم التداوي عند طبيب كافر وقوله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان] . يشترط في الطبيبين أن يكونا من أهل الخبرة، فلا نسأل عن مرض في البطن طبيبين مختصين بالرأس، أو بأمراض الأنف والحنجرة، فيشترط فيهما الخبرة. وفي القديم ما كان هناك تخصص إلا في بعض الجرائح والوصائف، فقد كان هناك بعض التخصصات الطبية التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله في الطب النبوي، والجرائح: هي التي تطبب بالجراحة، والوصائف: هي التي تطبب بالوصف، وهذا كله تخصص، والآن كأنه خرج هذا عن مجال الطب، من حيث جعلت الصيدلة على حدة، وجعلت الكيمياء على حدة وجعلت مداواة الأبدان على حدة، فأي مرض نريد أن نحكم عليه فنرجع إلى أهل الاختصاص به، فإذا كان المرض مرض القلب -أعاذنا الله وإياكم- فنرجع إلى المتخصصين في القلب، فإذا شهد طبيبان عدلان مسلمان -كما ذكر المصنف- وحكما بكونه مخوفا، فقالا: هذا المرض الغالب أنه يموت منه، فحينئذ يكون مرضا مخوفا. وقوله: (مسلمان) هنا مسألة: وهي الإسلام في الطبيب، فبعض العلماء رحمهم الله يقول: لا تقبل في الأحكام والمسائل شهادة الطبيب الكافر؛ لأنه غير مأمون، فربما كذب؛ لأن الكافر قد كذب على الله بالشرك، وادعى أن لله ولدا، وأن الله ثالث ثلاثة فمن باب أولى أن يكذب على المخلوق، وقد وصف الله عز وجل من كان على الكفر بأنه عدو مبين للمسلمين، فالعدو لا يصدق لعدوه. ولكن هذا القول خالفه قول آخر وهو: أن الطبيب الكافر إذا عرفت منه الأمانة والانضباط وعدم الخيانة فإنه يؤمن بقوله، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العمل بقول الكافر، والاستعانة بالكافر إذا عرف أنه ناصح، ويدل على ذلك حديث عائشة في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط -وهو رجل من بني الديل- هاديا خريتا) ، فـ عبد الله بن أريقط كان يعرف الطرقات، فكان دليلا أخذه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، فلاحظ أنه كان بالإمكان لهذا الكافر، أن يذهب بهم إلى طريق معطش ويهكلان، وبالإمكان أن يذهب بهما إلى طريق يكشف من قريش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف فيه أمانة، وعرف أنه محل ثقة فوثق به، وهذا دليل على أن الكافر إذا عرف أنه ثقة فيعمل بقوله. كما أن عندنا حديثا ما ذكره الأئمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وممن فصل في هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله في أحكام الاستعانة بالكافر في أحكام أهل الذمة، وابن تيمية في الفتاوى المصرية، وكذلك جاء في مواضع في مجموع الفتاوى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، والإمام ابن القيم أشار إلى هذا حينما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين -بعد الله- بخزاعة على قريش، وكانت خزاعة على دين الشرك وعلى ملة الكفر، ولكنها كانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم، وبينها وبين جد النبي صلى الله عليه وسلم قصي بعض الحلف: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فكانت بين خزاعة وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة، وهذه المودة كانت عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يستقلها، فكانت خزاعة لا ترى قريشا تدبر أمرا مكيدة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أخبرته صلى الله عليه وسلم، فهذا استعاذة من كافر، لكن عرف من خزاعة النصح، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك أيضا مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألتنا كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان كافرا، ومع ذلك كان يأمرهم بالتداوي عنده والعمل بما يقوله لهم، فهذا كله يدل على جواز الاستعانة بالطبيب الكافر والعمل بقوله. لكن هناك من أئمة السلف وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، فقد كان للإمام أحمد طبيب يهودي، وكان يعمل بمشورة هذا اليهودي ويستطبه، ولكن لا يقبل قوله في الصلاة والعبادات كالصوم، فلو قال له: لا تصم، فما يقبل قوله حتى يتأكد من طبيب مسلم، ولو قال له مثلا: لا تركع أو لا تسجد، فإنه لا يثق به في أمور الديانة. ومن هنا فرق العلماء في قول الطبيب الكافر بين العبادة وأمور الديانة ومصلحة البدن، فيمكن أن تقبل لكن إذا قال لك: سجودك يؤثر على البصر، أو يؤثر على العملية في الظهر، فحينئذ عليه أن يستوثق بطبيب مسلم يمكن الرجوع إليه، لكن إذا عمت البلوى ولم يجد الإنسان إلا طبيبا كافرا فإنه يعمل بخيرهم، وهكذا بخير الكفار، فالكفار فيهم من هو خير من الآخر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد) ، وكان ملك الحبشة على دين الكفر، فامتدحه بما فيه من خير؛ لأنه لا يظلم الناس؛ ومثل هذه الأشياء قد توجد في الأطباء الكفار، فمن عرف بالنصح عمل بقوله واستثبت. أما لو فسد الزمان ولم يوجد طبيب عادل، فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن فرحون في تبصرة الحكام، والإمام ابن القيم رحمهم الله وغيرهم من الأئمة: أنه إذا تعذر وجود العدل عمل بشهادة أمثل الفساق، فإذا لم يوجد وتعذر وجود الطبيب العدل، فانظر إلى أحسن الأطباء الموجودين في نظرك والذي يمكن أن تؤثر عليه وتناشده أن ينصح لك، فتعمل بقوله وتثق بخبره. وجود الحاجة إلى الطبيب المسلم قال رحمه الله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان] . المسلمون بحاجة إلى الأطباء، وهذا يدل على أن تعلم الطب فيه خير كثير للإسلام والمسلمين؛ لأنه يحتاج إلى الطبيب المسلم، ومن هنا كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى. لأن الشريعة منها ما يتعلق بالباطن كأمور الاعتقادات، ومنها ما يتعلق بالظاهر كالصلوات والأذكار، فهذه لمصلحة الدين، وأما مصلحة الدنيا فللبدن؛ لأن البدن فيه دين ودنيا، فبقيت مصلحة الدنيا فصار ثلثا من هذا الوجه، فقال: ضيعوا ثلث العلم. وبعض العلماء يقولون: الطب نصف العلم؛ لأن العلم للدين والدنيا، فيرى أن الطب هو قوام الأجساد، ولا يمكن أن تقوم هذه الأرض ولا أن يسمح للعباد والبلاد إلا بصلاح أبدانهم، فأصبح نصف العلم من هذا الوجه، فهو -أي: علم الطب- علم عزيز وعلم شريف إذا حفظت فيه حدود الله عز وجل، وكان هدف الطبيب الإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله تعالى غفر لامرأة بغي من بغايا بني إسرائيل ذنوبها حينما سقت كلبا يلهث الثرى) ، فما بالك بالمريض المسلم الذي يعجز عن صلاته وعن طاعته لربه، والذي لا يكون البلاء مختصا به بل يشمله ويشمل أهله، فكيف بتفريج كربته! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ، ومن أراد أن ينظر إلى آثاره الحميدة فليتأمل حينما يكون الإنسان عاجزا عن شهود الجمعة والجماعات، وعن قراءة القرآن وذكر الله عز وجل، وحين يكون عاجزا عن مصالح دنياه، كيف إذا شوفي وعوفي بإذن الله ثم بفضل هذا الطبيب كم يكون لهذا الطبيب إذا حسنت نيته من الأجر والخير الكثير! فلا شك أنه من أفضل العلوم، فنحن بحاجة إلى الأطباء المسلمين الذين يسدون عجز الأمة في مثل هذا، فيرجع إلى قولهم، ويوثق بخبرهم وشهادتهم. فقوله: (وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف) . إذا قالا: إن هذا المرض مرض مخوف -كما ذكرنا- وشهدوا بأن هذا المرض مرض مخوف، لكن ينبغي أن ينبه إلى أن العمل بوجود الأمارات والعلامات الدالة على وجود المرض، فلا بد من وجود التحاليل والتقارير التي تثبت أنه مصاب بهذا المرض، فإذا ثبت ذلك حكم بكونه مريضا مرض الموت. الأسئلة حث طالب العلم على إعانة إخوانه في طلب العلم السؤال بعد الانتهاء من درس العالم أحب أن أجالس طالب علم لتدارس المسائل، فهل إذا رفضت الإجابة عن بعض المسائل طلبا مني أن يجتهد الزميل ويبحث، وليس السبب شيئا يتعلق بشيء في الصدر، فهل فعلي صحيح؟ الجواب هذا حسن، وأحسن منه أن تعطيه، هذا حسن أنك تقصد أن تشخذ همته؛ لأن هذا يدعو إلى التعب والجد والتحصيل، لكن لو أنك أخبرته أثابك الله على إخباره وتعليمه، ووضع الله البركة في علمك بقدر ما نشرت، ومن يضمن لك أن تبقى؟ ومن يضمن لك أنه ينال هذه المسألة؟ فلربما افترقتم افتراقا لا تلتقيان بعده أبدا، وحيل بينه وبين بلوغ هذه الفائدة، فنزلت به هذه النازلة وهو أشد ما يكون حاجة إليها، فيسألك الله عن ذلك، فأنت تبذل ما عندك. ومن أفضل ما وجدنا تضحية طالب العلم مع أخيه، فإن الشيطان يأتي بالدواخل حتى في الاختبارات، وبعضهم يقول: لا تعطه ملخصك، فهذا يعوده على الكسل والخمول لا، فقد تلي أمر أخيك المسلم فترفق به فيرفق الله بك، فإذا احتاج إليك في مسألة أو معضلة أو مشكلة أو نازلة، أو ملخص أو كتاب ورفقت به وأعطيته حاجته؛ فإن الله يرفق بك كما رفقت به: (وإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) ، وإني والله لأعرف من طلاب العلم من كان يكتب الملخصات حتى إنه في بعض الأحيان يصور لإخوانه ولا يأخذ على تصويرها شيئا، ويرجو بهذا أن ينال الأجر والثواب، وأن الله سيبارك له في علمه كما أسدى وأولى إلى إخوانه من الخير والمعروف، فلا يحرص طالب العلم على التضييق. ولذلك ينبغي أن الإنسان يوسع على الناس، فلا يأخذهم بالشدة، ولا يضيق عليهم، فالأكمل والأفضل أن تحتسب الأجر والثواب عند الله فتعلم أخاك، ولا شك أن شحذ الهمة لطلب العلم له أساليب أخرى، فلا يشحذ همة الشيء مثل الإخلاص لله جل وعلا، فإذا أردت أن تكون همتك صادقة فتعود على الإخلاص، فلا تجلس معه في مجلس إلا وتذكره بالله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل أن تنظر ماذا في قلبك وأن أنظر ما في قلبي ونحن في مجلس طلب العلم، وقد كان بعض السلف إذا قالوا لبعضهم: حدثنا، قال: حتى تأتي النية. فيراقبون أنفسهم في الإخلاص، فإذا أردته يجد ويجتهد فادعه إلى الإخلاص، وكذلك عليك أن تدعو له بظاهر الغيب أن الله يفتح عليه، وأن يرزقه الجد والإخلاص والاجتهاد في طلب العلم، وإذا أردته أن يجد ويجتهد فاسأله سؤال المذاكر. فهناك أساليب أخر، فلا تقتصر على أنك تبخل عليه وتمن عليه وتمنعه من التعليم والتوجيه، بل عليك أن تجد وتجتهد في ذلك لعل الله أن يبارك في علمك، وتأخذ بالأكمل والأفضل من الرفق بإخوانك، وهذه وصية في كل من ولاك الله أمره أن تكون على رفق به، فلا تأخذ بالشدة ولا تضيق عليه، ولو جاءك الشيطان يقول: هذا حزم. فقد يكون الأفضل في بعض الأحيان الحزم ولكن في حدود ضيقة، أما الأفضل والأكمل دائما فهو أن يرفق الإنسان بإخوانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمور أمتي شيئا فرفق بهم فاللهم ارفق به) ، حتى في مسألة التكبير إذا جاء إلى التشهد الأول، وقد حصلت مذاكرة بين بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في مسألة عندما يجلس الإمام في التشهد الأول ويقول: الله أكبر، فيشعر الناس أنها للجلوس، فكان بعض المشايخ رحمة الله عليهم يقول: عليه أن يقول: الله أكبر، تكبيرا واحدا لا مد فيه حتى يعودهم على حفظ الصلاة، فقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: أولا: أنا لا أشك غالبا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأثر تكبيره؛ لأنها طبيعة وسجية في الإنسان أنه يتأثر بحاله منتقلا. ثانيا: أن هذا ليس أمرا متعلقا بالتعبد، وإنما هو رفق بالتذكير، فإذا قال: الله أكبر بالمد، رفق بالناس وذكرهم؛ لأن فيهم مشغول البال، والمهموم والمغموم والمكروب، فإذا كان الله عز وجل قد شرع سجود السهو لما ينتابهم في صلاتهم، فهذا أمر لا يستطيع الإنسان أن يخالف الفطرة والسليقة، فالرفق بالناس دائما هو حال الكمال وهو الأفضل والأكمل. نسأل الله العظيم أن يرزقنا الرفق وأن يجعلنا من أهله، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. مسألة تفضيل صدقة الفقير على صدقة الغني السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الصدقة: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر) ، هل فيه دليل على أن صدقة المعسر أو المسكين أفضل من صدقة الموسر أو الغني؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فالصدقة النسبية وصدقة الأحوال لا تقتضي التفضيل من كل وجه، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى) ، أي: في عز شبابك، تخاف الفقر كما يقال: يخاف المستقبل، وتأمل الغنى أي: أنه يرجو أمورا صالحة في مستقبله، فإذا جاء -مثلا- يجمع مالا لزواجه، فلو أراد أن يتصدق لجاءه الشيطان وقال له: كيف تتزوج إذا تصدقت؟ فهو حينئذ يأمل شيئا من وراء جمع المال، فإذا تصدق مع وجود هذه الرغبات وهذه الشهوات، وآثر ما عند الله سبحانه وتعالى عظم أجره. أما إذا كان في آخر عمره، فهذه أشياء نسبية، فما فضل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من حال العبد ألبتة بين ما يكون من وزر السيئة وأجر الحسنة على أحوال العمر مفرقا على أحوال الأشخاص غنى وفقرا، وقوة وضعفا، وعزا وذلا، على حسب أحوال الإنسان كلها، ومنها الصدقة، فالصدقة في الأحوال لا تقتضي التفضيل من كل وجه، بمعنى: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تدارك شبابك؛ فإن الصدقة في الشباب والقوة والحاجة إلى المال أعظم من الصدقة في غير ذلك، وهذا لا يمنع أن الغني يتبوأ من رحمة الله ما لا يخطر له على بال، فهذا عثمان رضي الله عنه أغدق الله عليه من المال والخير وجعل الله يده يد بركة، فما اشترى شيئا إلا بورك له في صفقة يمينه، ومع ذلك كان أثرى الصحابة وأكثرهم صدقة، وجعل الله عز وجل صدقاته سببا في رحمة الله له. فوجود الغنى لا يمنع أن ينال الإنسان أجره وثوابه، فلو تصدق الإنسان وهو غني بالأموال الكثيرة، وستر العورات وفرج الكربات فله دعوات الناس، وله كذلك أجر تفريج الكربات التي فرجها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما جاءه الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور) . فهذا يدل على أن أهل الغنى يفوزون بالدرجات العلى، وأن الغنى يجعل الإنسان يفوز بالأجر الكثير، لكننا نبهنا على أن الصدقة تضاعف بحسب ما يكون من البلاء فيها، فبلاء الفقير في الصدقة أعظم من بلاء الغني، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سبق درهم مائة درهم) ، فرجل لا يملك إلا درهما فتصدق به، ورجل يملك المال الكثير فأخرج من عرض ماله مائة درهم، فالمائة درهم إذا قورنت بجوار عشرات الألوف من الدراهم فإنها لا تتساوي شيئا، والدرهم بجوار العشرة الدراهم يعتبر عشر المال، فإذا أخرجه فإنه يساوي شيئا كثيرا، وهذه مسألة نسبية، لكن لو أن غنيا تصدق بعشرة آلاف ريال، فهي يسيرة في ماله، لكن العشرة آلاف ريال فرجت كربة مكروب كان في أمس الحاجة إليها، فأجره عند الله عظيم: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام:132] ، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره. وهناك أمر لا بد من وضعه في الحسبان: وهو وجود الدعوات، ووجود الأمور التي تحتف بالصدقة؛ كالإخلاص والصدق والرغبة وعدم الغرور؛ والقبول من الله سبحانه وتعالى مقرون بمثل هذه الاعتبارات، ومن هنا قول بعض العلماء رحمهم الله وهو قول معتبر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (للعامل فيض مثل أجر خمسين) . فجعل أجر العامل في أيام الشدة -كأيامنا، نسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك- أو أيام الفتن الشديدة، كأجر خمسين رجلا، فإذا جاء الإنسان يتصدق، تكلمت عليه زوجته، وتكلم عليه أولاده، وجاءه الخوف أنه لا يستطيع أن يؤمن مستقبله كما يقولون، وجاءته الضائقة في دراسته وفي عمله ووظيفته من جهة أنه كان يريد سيارة يركبها، ويريد بيتا يسكنه، فهذه الأمور كلها التي آثار مرضاة الله عز وجل عليها في وجود مضاعفة الحسنات وجزيل الثواب على صدقته، فينال بها أضعاف أضعاف ما كان يؤمل مما لو تصدق في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فإن الرجل إذا تصدق في عهد الصحابة جزته أمه خيرا وجزاه أبوه خيرا، وأثنى عليه الناس وأحبوه وذكروه بالخير، أما اليوم فقل أن يجد من يعينه على الحق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تجدون على الحق أعوانا، ولا يجدون على الحق أعوانا) ، فجعل مضاعفة أجر العامل في أيام الصبر بأجر الخمسين لعدم وجود المعين على الحق. فدل على أن الجزاء والثواب يضاعف فيما يحيط به من البلاء والفتن، ومن هنا تكون صدقة الغني لها أجرها وصدقة الفقير لها أجرها، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (400) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف. فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا. وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق. قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده. فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) . وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف. الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطا، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا. كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما] . استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] . فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر. من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد. لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه. مسائل الوقف على الأولاد المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين. اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تطلق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] . فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد. فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا. لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي. دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين. اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة. إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن. إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) . فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات. حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول. دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] . وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون. الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلا- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضع فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن. الأسئلة استخلاف المسبوق في الصلاة السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. تعيين حصة لناظر الوقف السؤال لو عين الواقف ناظرا لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم. الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (401) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف. فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا. وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق. قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده. فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) . وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف. الوقف المطلق من أوقف لا يخلو إما أن يشترط، وإما أن يترك الشرط، فإذا اشترط في وقفه شروطا، وكانت هذه الشروط شرعية؛ وجب العمل بها والتقيد بما فيها، وقد بينا وجه ذلك وأنه يلزم ناظر الوقف بتنفيذ هذه الشروط، وصرف مستحقات الوقف على ضوء ما اشترطه الواقف. وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا. كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما] . استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] . فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر. من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد. لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه. مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين. اشتراك الذكر والأنثى فالعلماء كلهم متفقون على أن من قال: على ولدي أنه يشمل الذكور والإناث؛ لأن العرب عندما تطلق هذا اللفظ تريد به الإناث مع الذكور {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] . فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد. فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا. دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين. المسألة الثانية: إذا قال: وقفت على أولادي، وقلنا: إن البطن الثاني يستحق، يرد اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة. إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم. يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن. إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) . فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات. لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين] . بقي السؤال لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلا لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف. إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه. [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يفضل فلو قال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، فقد فضل. قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني. إذا لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم ينجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم [كما لو قال على ولد ولده وذريته لصلبه] يريد المصنف أن يشير إلى المسألة الخلافية وهي: هل إذا قال على ولدي. اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول. اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شرع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بني، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذ يختص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذا فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرك، وهذا مقتض لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تطلق على القبيلة ويراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بني، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معا، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويتجوز فيه فيعم الذكر والأنثى. دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] . وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون. دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقف على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأبدلت الهمزة هاء. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يخص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد) ، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] ، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود:73] . فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} [طه:10] ، تطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه) : وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقف على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأنثى إذا طلقت أو مات عنها زوجها خشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طلقت أو أصبحت أرملة خوفا عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يخص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولا، فيجوز أن يعطيه ما لا يعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلا جعل للذكور حظا، وجعل للإناث حظا، فأوقف على الذكور دارا، وأوقف على الإناث مزرعة وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحا، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رملت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيدا بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زوجت ثم بعد ذلك طلقت، ويراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر. الوقف على جماعة يمكن حصرهم فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن. الأسئلة تعيين حصة لناظر الوقف السؤال لو عين الواقف ناظرا لوقفه واتفق على عشر نتاجه من المزرعة، فهل هذا التصرف صحيح أم أنه مبني على الجهالة والغرر، إذ لا يعلم كم سيكون نتاج المزرعة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم. الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم. استخلاف المسبوق في الصلاة السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (402) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [4] من المسائل المتعلقة بالوقف التقييد والإطلاق، فعندما يطلق الواقف في وقفه فيلزم العمل بإطلاقه، وإن قيد وجب العمل بقيده، ومن المسائل التي يدخل فيها التقييد والإطلاق ما يتعلق بدخول الذكور والإناث، وكذلك دخول البطن الثاني من الأولاد مع البطن الأول، ودخول أهل البيت والقرابة والمساكين وغيرهم. وجوب العمل بشروط الواقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم وضد، ذلك واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك] قوله: (ويجب العمل بشرط الواقف) أي يجب على من تولى نظارة الوقف أن يعمل بالشرط الذي اشترطه الموقف. فالواقف إذا اشترط شروطا، أو وضع أمارات وعلامات معينة للاستحقاق في وقفيته؛ فالواجب العمل بذلك، ولا يجوز إخراج هذه الشروط ولا العبث بها، وذلك بإجماع العلماء رحمهم الله؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما كتب وصيته وفيها وقفيته لأرضه التي بخيبر جعل النظارة لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وأرضاها، ثم من بعدها للأرشد والعدل من الذرية، وجعل شروطا في صرف الوقف وعمل بها، وجرى العمل عند أئمة الإسلام وقضاة المسلمين على أن شروط الواقف ينبغي العمل بها، ولا يجوز تعطيلها، ولا تبديلها، ولا تغييرها، ولا تحريفها. ولذلك قال المصنف: (يجب) فعبر بالوجوب الذي يدل على إثم من خالفه، فلا يجوز أن يتصرف في هذه الشروط، إلا إذا قضى القاضي في أحوال مستثناة سيأتي إن شاء الله بيانها، أما من حيث الأصل فالواجب العمل بهذه الشروط وتنفيذها، والشروط تختلف من حيث الأصل، فالذي يوقف الأرض أو غيرها قد يشترط النظارة لشخص معين، وقد يشترط جهة معينة يصرف إليها الوقف، وقد يشترط في هذا الصرف صفات معينة. ثم إذا جعل الوقف لطائفة أو لجماعة، فإما أن يعمم وإما أن يخصص، وإما أن يطلق، وإما أن يقيد، ثم التقييد تارة يكون بالترتيب فيقول مثلا: على أولادي، ثم أولاد أولادي، ثم أولاد أولاد أولادي إلى أن ينقطع نسلي، أو إلى أن لا يبقى أحد من ذريتي، فهذا مستغرق لذريته، وربما يخرج هذا الوقف بالشرط عن ذريته إلى جهة أخرى فيقول: هذا الوقف لأولادي ثم أولاد أولادي، فإذا ماتوا فإلى الفقراء والمساكين من بعدهم، فيجعل الوقف بالنسبة لذريته للبطن الأول والثاني، ولا يجعل للثالث استحقاقا. وقد يجعل شرطا من جهة الصرف، فيخصه ببعض الذرية دون بعض، فيخصه بالذكور دون الإناث، أو العكس فيجعله للإناث دون الذكور يقول: داري هذه وقف على بناتي للمطلقات منهن، وهذا أثر عن الزبير ويحكى عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه أوقف داره على المطلقات ومن كانت أرملة من ذريته. فالشاهد من هذا أن شرط الوقف معمول به، والإجماع منعقد على أنه يجب على الناظر أن ينفذ هذه الشروط، ويجب على القاضي أن يلزم بها الناظر، وإذا ظهر من الناظر إخلال بهذه الشروط أو تغيير لها؛ فإن القاضي يلزمه شرعا بالعمل بهذه الشروط إلا في الأحوال المستثناة. ويجب على من ولي الوقف أن يعمل بشرط الواقف تعميما وتخصيصا، وتقييدا وإطلاقا، وترتيبا على الصفات، وعلى الأحوال، كل ذلك يجب أن يتقيد به وأن لا يغير ولا يبدل. قوله: [في جمع وتقديم] الجمع كأن يقول: أولادي، وأولاد أولادي، فإذا قال: أولادي وأولاد أولادي، فمذهب طائفة من العلماء أن البطن الأول والثاني يستوون، مثلا لو كان له ابنان زيد وعمرو، فتوفي زيد وبقي عمرو، فذرية زيد تستحق مع وجود عمهم؛ لأن الوقفية مشركة حيث جمع بين البطنين الأول والثاني. لكن إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فثم هنا فرق بها بين البطن الأول والبطن الثاني، وحينئذ ينبغي أن يركز على الشرط الذي اشترطه، ولا يجوز أن يأخذ أحدا من الدرجة الثانية مع وجود أحد من الدرجة التي قبلها. وهكذا لو جمع وقال: على أولادي. فهذا جمع يشمل الذكور والإناث والخناثى، حتى ولو كان فيهم خناثى فإنهم يستحقون من الوقف لأنهم أولاد له، والله سمى الولد للذكر والأنثى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فالولد في لغة العرب يشمل الذكر والأنثى، فجمع بين الذكر والأنثى فقال: على أولادي، لكن ممكن أن يقول: هذه الدار وقف على بناتي، فحينئذ فرق بين الذكر والأنثى، فجعل الاستحقاق للأنثى دون الذكر، فله أن يجمع وله أن يفرق. قوله: (وتقديم) : أي: كأن يقول على أولادي ثم أولاد أولادي، هذا ترتيب، وإذا جعل الوقف على الترتيب وجب التقيد بهذا الترتيب، فلا يعطى المؤخر مع وجود المقدم، أو مع وجود من هو أعلى منه مرتبة. قوله: [وضد ذلك] أي: ضد الجمع التفريق. قوله: [واعتبار وصف] أي: لو قال مثلا: للمريض من أولادي، أو الفقير، أو المطلقة من بناتي، أو قال على الفقراء على المساكين على طلبة العلم على الغرباء، هذه كلها أوصاف ينبغي أن يتقيد بها، ولا يجوز أن يغيرها الناظر، بل يصرف على هذا القيد الذي ذكره الواقف. قوله: [وعدمه] أي: عدم التقييد، كما لو قال: على أولادي، ولم يقيد لا بذكر ولا بأنثى. قوله: [وترتيب] أي: كذلك إذا لم يرتب فإنه في هذه الحالة يبقى الجميع على حد سواء، فإذا قال: أوقفت هذه المزرعة على أن تكون غلتها لأولادي والمساكين؛ فحينئذ جمع بين أولاده والمساكين، ولو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فحينئذ لا نعطي المساكين إلا إذا عدم أولاده. فإذا نعمل بالجمع والتفريق، ونعمل أيضا بالأوصاف وعدمها، فإذا جاءت خالية من الأوصاف فإننا نبقي الوقف على عمومه وشموله. فالمقصود من هذا أنه يلزم الناظر أن يتقيد بشرط الواقف على الصفة التي ذكرها في وقفيته. قوله: [ونظر] أي: هكذا النظارة، لو قال: نظارة هذا الوقف لي، فهذا شرط يستحقه وتكون له النظارة، فإذا قال: ثم للأرشد فالأرشد من أولادي، فحينئذ تكون للأرشد، أو قال: للأعلم من ذريتي، فحينئذ تكون للأعلم، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب كتابه في الوقف، جعل النظارة لابنته حفصة رضي الله عنها وأرضاها ثم للأرشد من ذريته. فهذا يدل على أن من حق الواقف أن يخص النظارة، وأن يجعلها لبعض الموقوف عليهم، سواء كانوا من الموقوف عليهم أو كانوا من غيرهم، فقد يقول: هذا البيت وقف على أولادي والناظر عمهم فلان، وقد يجعل رجلا أجنبيا فيقول: النظارة لفلان -وهو غريب وليس بقريب- ولذريته من بعده، فحينئذ تكون النظارة على الشرط الذي ذكره الواقف. قوله: [وغير ذلك] أي: (وغير ذلك) من الأمور التي يذكرها الواقف؛ لأنه إذا اشترط فله على ربه ما اشترط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ ضباعة رضي الله عنها: (أهلي واشترطي وقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، فإن لك على ربك ما اشترطت) . وهذا دليل على أن العبد إذا اشترط على ربه، وكان الشرط شرعيا فإن له ذلك الشرط، فإذا جعل الناظر شروطا في الوقف فإنه ينبغي التقيد بها، مثل أن يقسم الوقف أثلاثا، ويقول هذا الثلث أشترط أن يكون للقرابة بشرط أن يكونوا بحاجة، أو يكونوا أيتاما، أو تكون أرملة من النساء، ونحو ذلك من الأمور التي يضيفها الواقف. الوقف المطلق وإذا حصل الإخلال بما تقدم من التقييد؛ فإن الناظر يتحمل المسئولية، ويكون حينئذ ضامنا لكل ما يترتب على هذا الإخلال والصرف الذي لم يقع على الوجه المعتبر. بقي السؤال عن الحالة الثانية: وهي أن يصدر الوقف خاليا من الشروط، وهذه الحالة تعتبر حالة إطلاق، بمعنى أن ينص على الوقف دون أن يقيد، ودون أن يشترط؛ فالحكم حينئذ أنه يبقى المطلق على إطلاقه، ولا يمكننا أن نضيف قيودا، ولا أن نضيق واسعا، فإذا أطلق صاحب الوقف عملنا بإطلاقه؛ لكن هذا الإطلاق في بعض الأحيان تترتب عليه بعض المسائل. ومن هنا بين المصنف رحمه الله أنه إذا حصل الإطلاق عمل به، فلو قال: وقفت هذه المزرعة على أولادي. استوى في ذلك الغني والفقير، فنعطي أولاده، سواء كانوا من الأغنياء أم كانوا من الفقراء، كذلك يستوي ذكرهم وأنثاهم، فنعطي الذكر ونعطي الأنثى؛ لأنه سوى بينهم وشرك فقال: أولادي، فيستوي الذكور والإناث والخناثى فكلهم يدخلون في هذا، ويصرف لهم من مستحق الوقف. وهكذا إذا قال: وقفت هذه المزرعة وثمرتها تصرف على المساكين، فإننا نصرفها على كل من يصدق عليه أنه مسكين، سواء كان في غاية الصلاح كالصالحين، أو كان في المستوى العام لعموم المسلمين، بخلاف الحالات الأول فإنه إذا قال: وقفت داري على أولادي الذكور؛ تقيد الوقف بهم، ولو قال: وقفت داري على المطلقات من بناتي، فحينئذ يختص بالمطلقات، أو قال: أوقفت داري على أولادي الأفقه منهم، يقدم الأصلح أو يقدم الأرشد وهكذا. كيفية توزيع عطاء الوقف بين الأولاد إذا أطلق وقال: داري وقف على أولادي، فإنا نسوي بين الأولاد جميعا، حتى إن الولد الذي يكون من الصغار ولم يبلغ يدخل في هذا، بل بمجرد أن يولد يثبت استحقاقه في الوقف، ويكون له نصيبه، ويقسم الوقف بينهم بالسوية. فمثلا لو أن مزرعة أوقفها على أولاده، وفيها مثلا مائة صاع، وله من الولد خمسة، فإننا نقسم المائة صاع بين الخمسة بالسوية، لا نفضل الذكر على الأنثى، ولا نعطي الكبير دون الصغير، ولا نخص الصالح دون غيره، بل يستوي الجميع في هذا الاستحقاق؛ لأنه أطلق وقال: على أولادي. ومن هنا قال بعض العلماء: إنه لو قال: وقفت داري على أولادي، وأولاد أولادي، ونسلي إلى أن ينقطع أو على عقبي حتى ينقطع، فقد سوى بين الطبقات، فالبطن الثاني يدخل مع البطن الأول لأنه لم يرتب، فلو قال: أوقفت داري هذه على أولادي. فإنه لو كان له ولدان: محمد وعلي، وخلف محمد ثلاثة؛ فإن الثلاثة يقاسمون أباهم وعمهم؛ لأنه قال: أوقفت على أولادي؛ لكن في الحالات الأول التي سبقت الإشارة إليها يقول: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا يشارك البطن الثاني البطن الأول، وتختص القسمة بالبطن الأول دون الثاني؛ لكن إذا قال: أوقفت داري، أو مزرعتي على أولادي فإن انقطع نسلي أو انتهى عقبي فللمساكين، فحينئذ يستوي جميع أولاده كما سيأتي إن شاء الله في مسألة الولد وشموله للبطون، وسيذكرها المصنف رحمه الله. بين المصنف في هذه العبارة أن الإطلاق يخالف التقييد، وهذا كله عمل بما كان من الواقف، ويؤكد ما تقدم أننا ملزمون بما فعله الواقف، إن قيد أو اشترط وجب علينا الوقوف عند قيده وشرطه، وإن أطلق ولم يقيد فإننا نبقى على هذا الإطلاق، ويرد السؤال في مسألة من هذه المسائل، وهو: إذا أطلق وصعب علينا أن نشمل الجميع، فهل نخص البعض دون البعض؟ هذا سيأتي الكلام عليه، لكن القاعدة العامة أننا في التقييد نتقيد بما قيد، وفي الإطلاق نعمل بالمطلق على إطلاقه. قوله: [وضدهما] . استوى الغني والذكر مع ضدهما، يعني ضد الغني وهو الفقير، وضد الذكر وهو الأنثى، فالإناث من الولد ضد الذكور، فنسوي بينهم، ولا نفضل الذكور على الإناث. وهذا قول عامة أهل العلم رحمهم الله؛ أن من قال وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نقسم غلة المزرعة بين أولاده بالسوية، ولا نفضل الذكر على الأنثى، لكن استحب طائفة من السلف رحمهم الله، ونص عليه غير واحد من الأئمة وهو الحق إن شاء الله، أن يقسم بين أولاده بقسمة الله تبارك وتعالى، فيجعل حظ الذكر ضعف حظ الأنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القسمة من فوق سبع سماوات، وهي قسمة العدل الحكيم الخبير اللطيف الذي هو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، ولا أعدل من الله. وهذا لحكمة بالغة، فإن الله حمل الرجال المسئولية عن النساء، فالأصل في المرأة أن ترعى بيتها، وأن تقوم على ولدها، وأن تقر في قرارها، والعمل مخالف للأصل؛ لأن الله نص في كتابه فقال: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] . فالأصل في الخلقة والشرعة أن التعب للرجال، ولذلك قال: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} [طه:117] ، ولم يقل: (فتشقيا) ؛ لأن الرجل هو المسئول، وهو المتحمل لتبعة النفقة والقيام على المرأة، فإذا كان هذا هو الأصل فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحق في النفقة على الرجال، ولم يجعله على النساء. فتبين أن التبعات والأمور التي يتحملها الرجال أكثر من الأمور التي تتحملها النساء، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالله عز وجل جعل نصيب الرجل ضعف نصيب الأنثى، فإذا أراد أن يعطي ولده فإنه يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويقول مثلا: وقفت مزرعتي هذه على أولادي وللذكر مثل حظ الأنثيين، فيفضل بينهم بتفضيل الله عز وجل، والله سبحانه فضل جنس الرجال على جنس الإناث، ولذلك خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك خلق منه حواء، فجعل الرجل هو الأصل، وكل مؤمن مطالب بالتسليم، وينبغي أن يرضى بهذا الحكم وأن يذعن له، وأن يسلم بهذه القضية التي ليست مثار جدل أو نقاش. لأن هذا التفضيل حكم من الله، ولا يستطيع أحد أن يقول: لماذا خلقني الله قصيرا وخلق غيري طويلا؟ لماذا خلقني فقيرا وخلق غيري غنيا؟ فالله يفضل وله الحكمة التامة البالغة، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ففضل هذا الجنس على هذا الجنس. فنحن نفضل بتفضيل الله عز وجل، ولا يغض هذا ولا ينقص مكانة المؤمنة أبدا، بل عليها أن تسلم، فإذا أراد الوالد أن يوقف على هذا الوجه فإنه يعدل بين أولاده، ويجعل نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . ومن هنا كان مذهب طائفة من العلماء أن عطية الولد ضعف عطية الأنثى، وهذا لا شك أنه معتبر من حيث الأصول الشرعية. والمصنف رحمه الله يقول: إنه يستوي الذكر والغني وضدهما، يعني ضد الذكر وضد الغني، فيستوي غنيهم وفقيرهم، فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، وكان له ولدان أحدهما غني والثاني فقير، فإننا نعطي الغني مثلما نعطي الفقير، ونعطي الفقير مثلما نعطي الغني، ولا نفضل أحدهما على الآخر. من تكون له نظارة الوقف عند الإطلاق قال رحمه الله: [والنظر للموقوف عليه] من أوقف شيئا إما أن يجعل لنظارته شروطا يحددها ويبينها، فيقول: والنظارة لهذا الوقف للأرشد فالأرشد من أولادي، ففي هذه الحالة يستحق النظارة من توفر فيه شرط الرشد فيقدم الأرشد. لكن إذا أطلق وقال: هذه المزرعة وقف على أولاده وسكت، ولم يذكر لمن تكون النظارة، ولم يحدد من هو الناظر ولم يضع شروطا ولا صفات ولا أمارات معينة لمن نجعله ناظرا على وقفه، فإنه في هذه الحالة تكون النظارة للموقوف عليه. بمعنى أن الأشخاص الذين أوقف عليهم هذه المزرعة هم الذين لهم حق النظر؛ لأنهم هم القائمون على الوقف، وهم المالكون لثمرته، وهم الذين سيمحضون هذا الوقف النصيحة، فهم أولى وأحق بالنظر في مصالحه، وليس هناك أصلح من نظر الإنسان بنفسه فيما هو له؛ لأنه لا يغش نفسه غالبا؛ ولأنه سيحرص على ما فيه مصلحة نفسه، ومصلحة من معه. فلو أوقف الوالد على ولدين فالنظر لهما، لا يستبد أحدهما دون الآخر، ولا يتصرف أحدهما في الوقف دون إذن الآخر، فهما شركاء في هذا الاستحقاق؛ لكن لو أنهم اتفقوا على أن يفوضوا شخصا منهم، فقالوا نحن خمسة، وهذا الوقف يحتاج إلى شخص واحد متفرغ؛ فنحن وكلنا وفوضنا فلانا، فحينئذ يكون من فوضوه متصرفا أصالة عن نفسه، ووكالة عن غيره، فهو في هذه الحالة الذي له حق النظارة برضا الجميع واختيارهم. فالنظر للموقوف عليهم إن كانوا معينين فلا إشكال في ذلك، إذا كانوا معينين كقوله مثلا: أوقفت داري هذه على أولادي، وأولاده عشرة، تفاهموا فيما بينهم وجعلوا ناظرا، أو كان العشرة كلهم يديرون هذا الوقف ومصالح الوقف لا إشكال. لكن المشكلة إذا كان الموقوف علمه جهة من الجهات، كأن يقول: وقفت مزرعتي هذه على المساكين، فلا يمكن أن يكون كل المساكين نظراء على هذا الوقف، وذلك من الصعوبة بمكان، وقد يتعذر هذا، ففي هذه الحالة يختار القاضي بعضهم للقيام على مصلحة الوقف على التفصيل الذي ذكرناه. مسائل الوقف على الأولاد قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته؛ كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه] فقوله رحمه الله: (وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية) فيه مسائل: المسألة الأولى: إذا قال على ولدي. المسألة الثانية: إذا قال: على ولد فلان. المسألة الثالثة: إذا قال: على ولدي ثم على المساكين. اشتراك الذكر والأنثى فشرك سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى تحت مسمى الولد، فدل على أن الولد يشمل الذكور والإناث معا، وهكذا الخناثى فإن الخنثى المشكل يدخل في الولد. فإذا المسألة الأولى أنه إذا قال: على ولدي، فجميع أولاده وجميع نسله من الذكور والإناث داخلون في هذا، هذا كله في البطن الأول. والولد إما أن يكون من البطن الأول، وإما أن يكون من غيره، والبطن الأول هو الولد المباشر الذي هو ولدك مباشرة ذكرا كان أو أنثى، فالبطن الأول هو أول ما أنجب الإنسان، ويليه بعد ذلك البطن الثاني، وهو ابن الابن، وبنت البنت، وبنت الابن، وابن البنت، هذا البطن الثاني الذي بينك وبينه واسطة. وهذه الواسطة هي فرع من البطن الأول، إما ذكر وإما أنثى، يتمحض ذكورا أو يتمحض إناثا، أو يجمع بينهما، يتمحض ذكورا كابن ابنك، ويتمحض إناثا مثل بنت بنتك، ويجمع بينهما ابن البنت وبنت الابن، والبطن الثاني فيه التفصيل، فالبطن الأول لا إشكال أنه إذا قال: وقفت داري على ولدي أن الذكور والإناث داخلون، وأنهم مستوون في الاستحقاق كما قدمنا. دخول البطن الثاني وما بعده مع البطن الأول في الانتفاع بالوقف عند الإطلاق لكن البطن الثاني فيه تفصيل وفيه مسائل: المسألة الأول: هل إذا قال: وقفت على ولدي. يدخل البطن الثاني ومن بعده أو يختص بالبطن الأول؟ فمثلا: لو أن رجلا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي ثم على المساكين، فأولاده الذين هم من صلبه مباشرة لا إشكال أنهم مستحقون؛ لكن الإشكال: متى ننتقل للمساكين؟ هل قوله: (أولادي) يشمل جميع نسله حتى ينقطع، أو يختص بالبطن الأول ثم نحكم بانتقال الوقف وصيرورته إلى المساكين؟ لهذه المسألة وجهان عند العلماء، فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة فنص على أن ولد الولد يدخل في حكم الولد، وأن من قال: على أولادي. فإننا نلحق أولاد البطن الثاني بأولاد البطن الأول، ولا ينتقل للمساكين إلا إذا انقطع نسله أو انتهى عقبه. وهناك وجه ثان وقول ثان لبعض العلماء، يقول: إذا قال: وقفت على أولادي أو على ولدي ثم على المساكين؛ فإنه حينئذ ينتقل الوقف إلى المساكين بعد موت البطن الأول. وعلى هذا القول يكون قوله: (أولادي) خاص بالبطن الأول فقط، فلا نلحق أولاد الأولاد مكان الأولاد ولا ينزلون منزلتهم. والصحيح الأول، وهو أنه إذا قال: وقفت على ولدي فإنه يلتحق ولد الولد حتى ينقطع نسله وعقبه، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المساكين كما سبق، لكن كل هذا الخلاف محله ألا يأتي بقيد أو بعبارة تدل على أنه يريد ولد الولد، فإذا قال مثلا: على أولادي إلى أن ينقطع نسلي ثم على المساكين، أو يقول: على أولادي والمساكين من بعدهم إذا لم يوجدوا، أو على أولادي فإن انقطع عقبهم فللمساكين؛ فحينئذ لا إشكال، والإجماع منعقد على أننا ننزل الطبقة الثانية بعد الطبقة الأولى، وهكذا بالنسبة للطبقات. هذه المسألة الأولى، نخرج منها بخلاصة وهي أن من قال: وقفت على أولادي ثم على المساكين، أن الانتقال إلى المساكين لا يكون إلا بعد انتهاء الولد، بحيث ينقطع نسله وعقبه. وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، فإن وجدت قرينة فقول واحد أنه لا ينتقل إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل كقوله: على أولادي فإذا انقطع نسلهم فعلى المساكين. اشتراك البطن الثاني وما بعده مع الأول في الانتفاع بالوقف السؤال متى نحكم بدخول البطن الثاني مع البطن الأول؟ فلو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي ثم على المساكين؛ وقلنا إن البطن الثاني يستحق كما يستحق البطن الأول؛ لكن هل هو على الترتيب أو على التشريك؟ و الجواب أنه على التشريك وأنه إذا قال: وقفت مزرعتي هذه على أولادي، فإننا نلحق البطن الثاني بالأول، والبطن الثالث أيضا بهم، فجميعهم ولد له، فبمجرد ما يولد من البطن الثاني أو الثالث يستحق، وكل من يولد من هذه البطون مشترك في الاستحقاق؛ لأنه قال: (على أولادي) وقد سبق أن قلنا: فإن أطلق استوى الذكر والغني وضده، أي: يستوي الجميع في الاستحقاق. فائدة المسألة: لو كان له محمد وعبد الله -من البطن الأول- ثم زيد وعمرو من البطن الثاني -أولاد عبد الله- في هذه الحالة تقسم الثمرة بين الأربعة، وندخل البطن الثاني مع البطن الأول ولو ولد الساعة؛ لأنه شرك بين أولاده ولم يرتب، وأطلق في هذا التشريك، فنقول: البطن الثاني مشترك مع البطن الأول. فلو أن زيد بن عبد الله الذي هو البطن الثاني تزوج وخلف أحمد، فإن أحمد يشارك أعمامه، ويشارك عم أبيه وجده في القسمة. إذا: لا ننتظر للبطن الثاني في استحقاقه موت البطن الأول، ولا ننتظر للبطن الثالث في استحقاقه موت البطن الثاني؛ لأنه شرك وأطلق، فهؤلاء كلهم ينزلون منزلة واحدة. إذا لو قال: على أولادي ثم المساكين من بعدهم، فإننا نحكم بأن أولاده يستحقون: الذكر والأنثى، البطن الأول والبطن الثاني والثالث، فلا يختص ببطن دون آخر ما لم يقل: الأقرب فالأقرب، أو: البطن الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. فإذا قال بالترتيب، كأن يقول: وقفت على أولادي من البطن الأول، فإن مات منهم أحد نزل ولده منزلته، فحينئذ يكون أيضا دخول للبطن الثاني مع البطن الأول لكن بالترتيب، وبالشرط أنه ينزل منزلة والده، وحينئذ نقسم على القسمة الأصلية، فإذا كان له ثلاثة أولاد نقسمه على ثلاثة، وتصبح خطوط الإرث على الثلاثة هذه، وكل ورثة من بطن ينزلون منزلة أصلهم. وعلى هذا فلو قال لنا: وقفت على أولادي ثم المساكين، أو على ولدي فلان، مثلا شخص يكون عنده ذرية، ويريد أن يتصدق بالثلث على قريب، لما فيه من صلة الرحم، ولأن الصدقة عليه أعظم ثوابا، فقال: وقفت مزرعتي هذه -وهي تساوي الثلث- على ولد عمي صالح، فكل ذرية عمه صالح يدخلون في هذا الوقف، يستوي ذكورهم وإناثهم، هذا بالنسبة للبطن الأول، وبالنسبة للبطن الثاني فإنه يشارك البطن الأول، وكذلك البطن الثالث مثلما تقدم. اختصاص أولاد الذكور في البطن الثاني وما بعده دون أولاد الإناث يبقى السؤال في مسألة تشريك البطن ذكورا وإناثا، ففي البطن الأول يشرك بين الذكر والأنثى، وفي البطن الثاني يخص الاستحقاق بأولاد الذكور دون أولاد الإناث، مثلا: إذا كان له محمد، وعبد الله، وصالح، وفاطمة، فكلهم يشتركون ويقسم الاستحقاق على أربعة يستوي فيه الذكور والإناث. فإذا أنجبت فاطمة فإن أولادها لا يستحقون؛ لأن أولادها أولاد لغيره وليسوا ولدا له. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولذلك ينسب للرجل ولا ينسب للمرأة كما هو معلوم، فحينئذ يشرك بين الذكر والأنثى في الطبقة الأولى، ثم ينظر في الطبقة الثانية التي هي البطن الثاني إلى ذرية الذكور دون ذرية الإناث، ثم هذا البطن الثاني وهم أولاد محمد وعبد الله وصالح يستوي ذكورهم وإناثهم، لكن الأنثى منهم لو أنجبت بطنا ثالثا لا يكون له استحقاق في الوقف لأنه ليس من ولد الميت، إنما يختص ولده بالذكر والأنثى، وولد الذكر المحض. كما أنه في الميراث لا يرث ابن البنت إلا من جهة ذوي الأرحام، وهذه مسألة سيأتي تفصيلها إن شاء الله في كتاب الفرائض، فما جعل الله عز وجل لهم استحقاقا وإرثا، لا فرضا ولا تعصيبا من حيث الأصل، فابن البنت ابن لوالده الذي هو غريب عن الواقف، ولا يعتبر آخذا حكم ابن الابن. إذا المسألة الثانية أننا نجعل أولاده مستوين ذكورا وإناثا بالنسبة للبطن الأول، وفي البطن الثاني نعطي الوقف لذرية الذكور من البطن الأول، دون ذرية الإناث سواء كانوا ذكورا أو إناثا، فلو أن البنت أنجبت ابنا أو أنجبت بنتا فالحكم واحد؛ لأن ابن البنت ابنا للغير، ولو أنه ينسب إليه تجوزا أو مسامحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد) ، فهذا من باب المسامحة. وقال عليه الصلاة والسلام في النعمان بن مقرن رضي الله عنه: (ابن بنت القوم منهم) . فهذا كله مسامحة، لكن في حكم الله عز وجل في الاستحقاقات {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . ولذلك تجد نسبة هذا الولد من البنت إلى أصل ثان وهو أصل أبيه، ولا ينسب إلى والد أمه الذي هو الجد، فالذكور لهم حكم والإناث لهن حكم، وسلسلة النسبة والإضافة متعلقة في حكم الدنيا بالآباء دون الأمهات. لا ينتقل الوقف على الولد إلى المساكين بموت البطن الأول قال رحمه الله: [وإن وقف على ولده أو ولد غيره، ثم على المساكين] . بقي السؤال لو قال: على ولدي ثم المساكين، أو على أولادي ثم المساكين، كلمة (ثم) تقتضي الترتيب، فنحن لا نحكم بانتقال الوقف من ولده إلى المساكين إلا بعد انقطاع النسل والذرية، فإذا انقطعت ذريته، أو انقطع عقبه فإننا نحكم بأن الوقف قد صار إلى المساكين، أو قال: إلى الفقراء، أو قال: إلى طلبة العلم، أو غير ذلك، أو مثلا لبني عمي، فهذا ينتقل على حسب ما اشترط صاحب الوقف. إذا قال: على ولدي أو ولد فلان، فالمصنف رحمه الله أدخل مسألة ولد فلان، يعني أن الحكم لا يختص بولده هو، فلو قال: على ولد عمي صالح، فحينئذ ننظر إلى أولاد عمه صالح ونشرك بين البطن الأول والبطن الثاني، ونسوي بين الذكور والإناث في البطن الأول، ونلحق البطن الثاني بالبطن الأول إذا كان من ذرية الذكور دون الإناث على التفصيل الذي تقدم بيانه. [ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية] أي: ما لم يفضل فلو قال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، فقد فضل. قال: [ثم ولد بنيه دون بناته] هذا البطن الثاني. إذا لو قال: على ولده، وعنده محمد وعبد الله وصالح، لم ينجب من هؤلاء الثلاثة إلا محمد، فالذين أنجبهم محمد نسوي ذكورهم وإناثهم، لأنهم يدلون بذكر، لكن بالنسبة للأنثى من محمد فليس لذريتها ونفسها استحقاق في الوقف. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حالات تنزيل أفراد البطن الثاني مكان أفراد البطن الأول وعدم تنزيلهم اختص الحكم بالبطن الأول، أو يشمل البطن الأول والثاني، فقال: إنه لا فرق بين أن يقول: على أولادي، أو أولادي وأولاد أولادي. لكن في الغالب أنه إذا قال: على أولادي ثم أولاد أولادي، فحينئذ لا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. مثال: لو قال: هذه المزرعة وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. نقول: نشرك بين أولاده في البطن الأول، فلو جاء البطن الثاني يبقى محبوسا ولا يأخذ شيئا في الوقف حتى يموت البطن الأول كله، ولو مات واحد من البطن الأول ذكرا كان أو أنثى قسم نصيبه على البقية. ولو قال: مزرعتي هذه وقف على ولدي، ثم ولد ولدي، فلو كان له من الولد في الصلب ابنان ذكران فنقسم الوقف بينهما، ولو أنجب أحدهما ولم ينجب الآخر، أو أنجب الاثنان فلا ننظر في ذريتهما ولا ننظر في البطن الثاني؛ لأنه قال (ثم) ، فالبطن الأول هو المسئول عنه، والبطن الثاني غير مسئول عنه؛ لأنه لم يصل الاستحقاق إليهم. فلو توفي واحد من الولدين أخذ الثاني النصيب كاملا، فإذا توفي هذا الثاني من البطن الأول نزل الاستحقاق للبطن الثاني، واستحق أصحاب البطن الثاني بالتفصيل الذي ذكرناه في مسألة الذكور والإناث إذا كان عنده ذكور وإناث في البطن الأول. إذا: إذا قال: على ولدي ثم ولد ولدي، أو أولادي ثم أولاد أولادي، أو أولادي ثم الذين يلونهم، أو: ثم من بعدهم، فكل هذا ينبه على أنه لا ينزل البطن الثاني منزلة البطن الأول إلا بعد انتهاء وانقراض البطن الأول. اختصاص الذكور بالوقف عند قوله: (على بني أو بني فلان) قال رحمه الله: [ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم] فقوله رحمه الله: (ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم) بعد أن بين المصنف رحمه الله اللفظ الذي يقتضي العموم بقوله (أولادي) شرع فيما يقتضي التخصيص، فلو قال: على بني، أو أبنائي، أو على بناتي، فحينئذ يختص بالبنين إن نص عليهم، ويختص بالإناث إن سماهن. إذا فالابن لا يشمل الذكر والأنثى، وإنما يختص بالذكور دون الإناث، وعلى هذا مذهب العلماء قاطبة رحمهم الله. لكن لو قال: على بني فلان، أو على الفقراء من بني سلمة، أو من بني زياد، أو من بني عمرو، فلفظة (بني) هذه تطلق على القبيلة فيستوي ذكورها وإناثها؛ لأن العرف واللغة يقتضي ذلك، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرمي أنه جعل البنوة شاملة للذكور والإناث، تقول: هؤلاء من بني عبد الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الأنصار وجهينة ومزينة وغفار وأسلم وبنو عبد الله من غطفان) غطفان هي مطير الموجودة الآن، وبنو عبد الله فخذ منهم، وكانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أشبه بالقبيلة، قال: (وبنو عبد الله من غطفان موالي الله ورسوله) كما في الصحيح، فسماهم قال: (بنو عبد الله) وشرك، وهذا مقتض لتشريك الذكور والإناث؛ لأنهم أسلموا وكان لهم بلاء في الإسلام. فالبنوة تطلق على القبيلة ويراد بها العموم والشمول، فتشمل الذكور والإناث، تقول: بنو فلان فتشمل ذكورهم وإناثهم، إن قال: بنو عمي، بني، بنو خالي، بنو أخوالي، هذا كله يختص بالذكور، لا يشمل الذكور والإناث معا، لكن إذا قال: بنو فلان وهي قبيلة فإننا نحكم بالتشريك بين الذكور والإناث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان يختص بالذكور دون الإناث؛ لكنه يطلق ويتجوز فيه فيعم الذكر والأنثى. دخول الإناث في الوقف دون أولادهن إذا عنى الواقف ببني فلان القبيلة قال رحمه الله: [إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن] . وذلك على التفصيل السابق، أنه إذا شركت بين الذكور والإناث فتعتبر البطن الأول وتلغي ذرية الإناث من البطن الثاني بنفس التفصيل، ثم البطن الثاني تعطي الذكور والإناث مستويين، ثم تلغي البطن الثالث من بنات البطن الثاني، وهكذا يصبح الحكم مطردا في جميع البطون. دخول الذكور والإناث في الوقف على القرابة وأهل البيت والقوم قال رحمه الله: [والقرابة وأهل بيته وقومه يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه] أي: فإن قال: وقف على أقربائي وأهل بيتي، أو أهلي، أو وقف على المسكين من أهلي، أو على المحتاج من أهلي، فإنه يشمل الذكور والإناث. يقال إن أهل أصلها: آل، وهذا قول سيبويه من أئمة اللغة، وأبدلت الهمزة هاء. وأهل الإنسان، وآل الإنسان، وقرابة الإنسان تشمل فروعه من الأصول. وقومه كذلك، إن قال: للضعفاء، للفقراء، لطلبة العلم من قومي، فإنه يستوي فيه الذكور والإناث، إلا أن يخص، ولذلك قال: [يشمل الذكر والأنثى من أولاده] أي: لأن الآل لا تختص بالذكور دون الإناث، قال صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، والإجماع قائم على أن قوله: (آل محمد) ، شاملة للذكور والإناث، وأهل مثل آل، فلو قال: على أهل بيتي؛ فإنها تشمل الإناث، وفي حديث الكساء أنه عليه الصلاة والسلام جلل فاطمة رضي الله عنها وجعلها من أهل البيت، وهي من أهل بيته بالإجماع. فأهل بيت الإنسان وآله وقرابته يستوي فيهم الذكور والإناث، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73] ، فالخطاب متوجه لزوجة إبراهيم عليها السلام لما عجبت من أمر الله عز وجل فقيل لها: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود:73] . فأهل الإنسان تطلق على الزوجة {فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا} [طه:10] ، تطلق الأهل بمعنى البيت خاصة، سواء كان للزوجة وأولادها ومن هو قريب من ذلك كالخدم والحشم، وتطلق بمعنى العموم، ويقال: أهل الإنسان ومرادهم كل من يمت إليه بالقرابة والصلة. وقوله: (وأولاد أبيه) : وهم من يجتمعون معه في الأصول، فيشمل ذلك أعمامه وعماته الأشقاء، وهم الذين شاركوا أباه في أصليه، والعمة لأب، والعمة لأم من حيث الأصل، لكن بالنسبة لمن فوقهم يختص بالأصول وهو جد أبيه ومن علا. قال: [وجد أبيه] أي: جد أبيه، وجد جده، ونحو ذلك؛ لأنها كلها أصول وتدخل في آله وقرابته. قال رحمه الله: [وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عمل بها] يريد إناثه؛ كان يقول: بيتي وقف على المطلقة من بناتي، أو على المطلقة من ذريتي، أو على المطلقة من نسلي، أو وقف على المحتاجة من قرابتي، هذا يخص الإناث دون الذكور، فالذكر لا يستحق في هذه الحالة، ولا يدخل. وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه أوقف على الإناث من ذريته، وهذا قول لبعض العلماء، فيرى أنه يجوز تخصيص بعض الولد عند الموجب، وفي النفس منه شيء، لكن عمل به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويؤثر عن الزبير وابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عن الجميع أنه خشي على بناته فجعله للمطلقة والأرملة؛ لأن الذكر يستطيع أن يكافح، ولكن الأنثى إذا طلقت أو مات عنها زوجها خشي عليها. فيوقف على المحتاجة من ذريته إذا طلقت أو أصبحت أرملة خوفا عليها من العار، وهذا يجوزه بعض العلماء؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يخص الوالد بعض ولده للعوز والحاجة، مثل أن يكون ابنه -لا قدر الله- مشلولا، فيجوز أن يعطيه ما لا يعطي الصحيح، ولو كان ابنه طالب علم يحتاج إلى نفقة خاصة أعطاه نفقة طالب علم، فهذا التفضيل للسبب، فيرى أنه إذا فضل بعض ولده بالوقف عليهم لسبب، أو مثلا جعل للذكور حظا، وجعل للإناث حظا، فأوقف على الذكور دارا، وأوقف على الإناث مزرعة وعدل بينهم، فهذا له وجهه. الشاهد أنه إذا قيد بالأنثى؛ فإنه يعمل بتقييده، سواء كان ذلك بأمارة، أو كان صريحا، فقال: للمطلقة أو للأرملة إذا رملت، فإن قال: للمطلقة فإنه يكون مقيدا بالمطلقة ولا يشمل الكل، وإذا قال: للأرملة، أو قال: التي لا زوج لها، إذا قال: التي لا زوج لها فهذا أعم، لأنه يشمل الصغيرة التي لم تتزوج بعد، فمن حقها أن تسكن، ومن حقها أن تأكل من هذا الوقف، لكن إذا قال: للمطلقة؛ فلا بد أن تكون زوجت ثم بعد ذلك طلقت، ويراعى في هذا وجود الحاجة إلى الستر. الوقف على جماعة يمكن حصرهم قال رحمه الله: [وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي] وذلك كما لو قال: على ولدي، وولده -مثلا- عشرون، أو يبلغون الأربعين أو الخمسين؛ فحينئذ نقسم على الأربعين والخمسين لأنه أمكن حصرهم، لكن إذا قال: وقفت داري هذه على طلبة العلم أو: وقفت ثمرة بستاني هذا صدقة على المساكين، أو على الفقراء، وكان بموضع فيه حاجة وفيه عوز، ولا يمكن حصر الفقراء فيه. فقد عرفنا أنه إذا أطلق أطلقنا، وإذا قيد قيدنا، وعملنا بما يقول والتزمنا ما اشترطه الواقف فيما بينه وبين ربه، لكن الإشكال أننا في بعض الأحيان إذا أردنا أنا نعمم أو نعمل بالمطلق لا نستطيع استيعاب الكل، والأصل الشرعي يقتضي أنه يجب استيعاب الكل، فلو قال: على ولدي؛ فإنه يجب قسمة هذا الوقف على الولد، ولا يجوز تخصيص بعض الولد دون بعض، ومن هنا يكون الناظر آثما شرعا، وظالما معتديا لحدود الله إن حجب بعض الورثة وبعض المستحقين مع علمه باستحقاقهم، بل يجب عليه أن يسوي بين الجميع إذا سوى بينهم الواقف. فهذا الذي بينه وبين الله، فالواقف أخرج من ذمته هذا الوقف على هذا الوجه، وجعله مملكا -على القول بأن غلته مملوكة للموقف عليهم- لهؤلاء الذين سماهم، فلا يجوز حرمان بعضهم، وهذا تعد لحدود الله. لكن لو أن الجهة التي خصت بالوقف لا يمكن حصرها، ولو جئنا نحصر الفقراء والمساكين لم نستطع، مثل بلد فيها فقر شديد أو قال: على طلبة العلم، وطلاب العلم كثيرون جدا، فيجوز تخصيص بعضهم دون بعض، لكن يرجع في هذا إلى القاضي، ويجوز للناظر إذا عدم القاضي أن يجتهد ويتقي الله في اجتهاده. فمثلا إذا قال: أوقفت غلة هذا البستان على أولادي، ولا يمكن حصر أولاده؛ فقام الناظر بحصر المحتاجين فقدم المحتاجين على غير المحتاجين، فهذا تصرف حكيم، والقاضي لو كان مكانه لتصرف بذلك؛ لأنه إذا أصبح الوقف عاما للجميع ولا يمكن تعميم الجميع؛ والذين سيتضررون إن حرموا هم المحتاجون، فحينئذ نقول: لما كان الغني غير محتاج، ويصعب حصر الأغنياء مع الفقراء، قدم الفقراء على الأغنياء؛ لأن سبيلهم أعظم ثوابا وأعظم أجرا، فيعطون ويصرف لهم. ولو كان المحتاجون أيضا لا يمكن حصرهم، كالمحتاجين من طلبة العلم، وممكن أن يكون هناك طلبة علم في ثغر أعظم بلاء من غيرهم، فنقدم هؤلاء الذين هم أعظم بلاء، مثلا طالب العلم الذي له عشر سنوات في طلب العلم نقدمه على طالب العلم المبتدئ، وطالب العلم الذي ينضبط في الدروس نقدمه على طالب العلم الذي لا يأتي الدرس إلا في الأسبوع فيفضل بين المستحقين بتفضيل شرعي، ومبرر صحيح، ولا بأس بذلك؛ لأنه إذا تعذر حصر الكل صرف إلى الأولى فالأولى، كما قال المصنف رحمه الله: [وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم] أي: جاز أن يفضل بعضهم، أو الاقتصار على أحدهم، مع أنه من حيث الأصل يراعى شمولية الوقف للأكثر ما أمكن. الأسئلة تعيين حصة لناظر الوقف الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأفضل في ناظر الوقف أن يحتسب في نظارته وأن يأكل بالمعروف، وهذا هو المحفوظ في حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أنه جعل لمن ولي النظارة على وقفه أن يأكل بالمعروف غير متأثل ولا متمول، وقد تقدم معنا. لكن إذا جعل للناظر نصيبا، أو قال الناظر: أريد نصيبا، وكانت مصالح الوقف والأمور التي يلي نظارتها تحتاج منه إلى كلفة وعناء ومشقة، وربما تحبسه عن الرزق، وتحبسه عن مصالحه، فلا بأس أن يجعل القاضي له نصيبا، فإذا جعل له الواقف فلا إشكال، كأن قال الواقف: وقد جعلت عشر الوقف لمن ولي النظارة. وإذا ثبت أنه يأخذ العشر أو الربع أو الثمن أو الخمس أو ما سمى الواقف فالسؤال: هل هذا يعتبر جهالة؟ الواقع من حيث الأصل أن النسبة فيها نوع جهالة، فثمن الغلة أو ربع الغلة أو خمس المحصول، لا يشك أنه جهالة؛ لأنه وإن كان معلوم النسبة لكنه مجهول القدر، فإننا لا ندري كم سيكون الربع في هذه السنة؟ مثلا لو أجر الوقف بمليون، أو أن المصالح الموجودة في الوقف تدر المليون، عشرها مائة ألف، لكن تأتي السنة الثانية يكون عشرها مثلا عشرة آلاف ريال بحيث تكون المصالح كلها مائة ألف مثلا، ويكون عشرها عشرة آلاف، فإذا لا يمكن أن يعلم قدر هذا العشر. فبعض العلماء يجعله مخرجا على المساقاة ملحقا بها؛ لأن الشيء إذا تعذر الإجارة عليه في الغلة المعينة يصار إلى تحديد النسبة احتياجا، وبعضهم يقول: بل نقيسه على المساقاة والمزارعة والمضاربة، وهذا مسلك الحنابلة والشافعية رحمهم الله الذين يعتبرون أن المضاربة شركة، وأنها ليست بخارجة عن الأصل، ولكن الحنفية والمالكية كما تقدم معنا في باب الإجارات والمضاربة لا يصححون القياس على هذا الوجه، لكنه قد يغتفر بوجود الحاجة في مثل هذا، والله تعالى أعلم. لكن لا يشك أن السنة أولى، فمن يلي نظارة الوقف لا يقال: له العشر، ولا الربع، ولا الثمن، ولا الخمس، بل يقال له: أنه يأكل بالمعروف، هذا هو الذي فعله عمر، وقضى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أن القاضي حكم أنه يأخذ العشر فإنه يعمل به؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أنه قد اصطلح في هذا الزمان على أن يأخذ الناظر العشر، لكثرة الفساد، وقل أن يوجد المحتسب الذي يعمل في الوقف بدون أن يأخذ شيئا، ويأكل بالمعروف. ثم إذا وجد من يقول: أريد أن آكل بالمعروف؛ يصير المعروف منكرا، فيأخذ كل شيء ويقول: والله هذا ما فيه شيء، فكلما جاءت غلة أكلها، وقال: أنا الناظر، ويرى أن هذا هو المعروف. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) ، والدنيا فتنة، خاصة في الأوقات التي تكون غلات الأوقاف فيها كبيرة، لكن لو وضع العشر -وهذا ما يسمى بالمصلحة المرسلة- وألزم به، وأصبح يتابع في التسعة الأعشار متابعة دقيقة، ويعرف كيف أخذها وأين صرفها، فهذا يكون أكثر ضبطا في كثير من المسائل. لكن هذا كما ذكرنا اجتهاد، وله وجهه، وإذا قضى به القاضي عمل به على وفق ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. السؤال ترك والد لأولاده بيتا، فاحتاج البيت إلى إصلاح، فهل تدفع الأنثى نصف ما يدفعه الذكر؟ إصلاح الوقف من نصيب الموقوف عليهم كل على قدر نصيبه الجواب لاشك في هذا أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالأنثى تدفع في الخسارة نصف ما يدفعه الذكر، وتأخذ في الناتج نصف ما يأخذه الذكر، لا تظلم ولا تظلم، فكما أنها في الربح والناتج تأخذ نصفه، كذلك في الخسارة يلزمها في إصلاح البيت نصف ما يدفعه الذكر، فإذا احتيج لإصلاح البيت إلى ثلاثة آلاف، أو ثلاثين ألفا وهناك ذكر وأنثى فإن الذكر يدفع عشرين ألفا وتدفع الأنثى عشرة آلاف من الثلاثين ألفا، ويدفع الذكر ألفين وتدفع الأنثى ألفا إذا كان الإصلاح بثلاثة آلاف. فالذكر يدفع ضعف ما تدفعه الأنثى في حال الغرم، كما يأخذ ضعف ما تأخذه في حال الغنم، والقاعدة: (أن الغنم بالغرم والخراج بالضمان) ، والله تعالى أعلم. السؤال أشكلت علي مسألة، وهي تخصيص الوقف على البنات دون الأولاد أو العكس مع مسألة عدم الوصية للوارث. الجمع بين جواز الوقف على الوارث وعدم جواز الوصية لوارث الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالوصية شيء، والوقف شيء آخر، فالوقف منجز، والوصية موقوفة على الموت، والوقف لا رجعة فيه، والوصية يملك الإنسان الرجوع فيها ما لم يمت كما سيأتي تفصيله في باب الوصية. الوقف شيء والوصية شيء آخر، فالوقف يكون في الحياة، يقول: أوقفته على ولدي. ويسري في حياته، لكن نحن عندما نقول بالوقف، نقول: إنه يجوز أن يجعل للإناث، ويجعل للذكور؛ لكن بالعدل، لو أنه أوقف على الذكور، وأوقف على الإناث، وعدل بين الذكور والإناث فلا إشكال. فلو أن رجلا حصل له موجب ورأى بناته يطلقن ويتعرضن للأذية والإضرار فأوقف لهن، ونظر أن هذا من النصيحة والرعاية لولده، وحسن التفقد لهم، فذكوره بخير، وأبناؤه بخير، ولكن إناثه وبناته في ضيعة إذا لم يترك لهن مأوى يحفظهن، ولم يترك لهن بيتا يأوين إليه خاصة في الظروف التي تطرأ، فهذا له مبرر ويكون قد فعله لسبب شرعي ومصلحة معتبرة. وهذا يختاره الوالد وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، وعمل به طائفة من الصحابة، لكن نقول: يعدل، وإذا وجد الموجب للتفضيل من حيث الخوف، خاصة عند فساد الزمان، فهذا شيء يلقى الله عز وجل به. ويستقيم على مذهب من يقول: يجوز تفضيل بعض الولد على بعض عند وجود الموجب، والشريعة حينما تجعل الأنثى في هذه الحالة، إنما يدل ذلك على عظيم رعايتها للإناث، وعظيم إحسانها للمرأة، فالمرأة ينظر لها بطبيعتها الفطرية، ولا ينظر لها خارجا عن طبيعتها الفطرية، ومن أخرج المرأة عن طبيعتها الفطرية فقد كلفها ما لا تطيق، فإن قصد إكرامها فوالله لقد أهانها، وإن قصد الرحمة بها فقد عذبها، وإن قصد إعزازها فقد أذلها؛ لأنه لا كرامة، ولا عزة، ولا رفعة، ولا رحمة بالمرأة إلا من حيث شرع الله جل جلاله. فإذا نظر إلى أنها تحفظ من الضيعة إذا طلقت، أو أصبحت أرملة، أو أصبحت في حاجة، وقصد شرع الله عز وجل من حسن النصيحة لبناته، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إليهن: (ما من مسلم يكون له ثلاث من البنات فيحسن تأديبهن إلا كن له حجابا من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنتين؟ قال: واثنتين) فبين فضل حسن الرعاية للبنت. البنت تحتاج إلى رعاية أكثر مما يحتاجه الذكر، فإذا كان خص الأنثى بهذا، وفضلها بهذا، خاصة إذا نظر إلى أن أولاده كافحوا، وعندهم ما يسدهم ويكفيهم، فهذا وجه لبعض العلماء، ولكني لا أفتي به، أنا أقول: هذا وجه لبعض أهل العلم، وله سلف، وخاصة أن ابن الزبير والزبير نفسه حكي عنه هذا، واختاره بعض العلماء، لكن من تورع وتحفظ وترك الأمر لقسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وتركه ميراثا شرعيا؛ فلا شك أنه قد أصاب وأحسن، والله تعالى أعلم. استخلاف المسبوق في الصلاة السؤال إمام طرأ عليه عذر فقدم رجلا من خلفه وكان هذا المقدم مسبوقا بركعة، فكيف يصنع، خصوصا أن وراءه من أدرك الصلاة مع الإمام من بدايتها؟ الجواب هذا هو الفقه، خذوها قاعدة، الإمام عندنا فيه سنة وعندنا أصل، وكثير من المسائل تتفرع على السنة والأصل، والأصل العام مستنبط من السنة، لكن المراد بالسنة هنا الحديث الخاص: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) . أما الأصل فإنك مطالب بعدد من الركعات في الصلاة لا تزيد عليه ولا تنقص منه، فما الحكم إذا قدم مسبوقا؟ إذا فرضنا أنه مسبوق بركعة، في هذه الحالة يصلي ويتم الصلاة كفعل الإمام، فإذا بقيت له الركعة الباقية ثبت أهل المسجد يتشهدون، وقام لوحده، وأتم الركعة ثم تشهد، ومن هم خلفه يطولون في الدعاء والمسألة حتى ينتهي من الركعة، ثم يتشهد ثم يسلم بهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الخوف، ثبتت الطائفة الأولى وتشهدت، ثم أتم بالطائفة الثانية الركعة، ثم جلس يتشهد فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها، ثم تشهد بالطائفتين وسلم؛ عليه الصلاة والسلام. هذه أحوال طارئة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حال الخوف كانت عنده ركعات زائدة على ركعات المأمومين، ومن هنا أخذ العلماء أنه إذا اختل الأمر فاحتاج المأموم أن يزيد، أو احتاج الإمام أن يزيد، فحينئذ يترك الإمام على زيادته ويبقى المأموم معذورا. تخرجت على هذه مسألة ما إذا زاد الإمام، وأنت تعلم أنه في الخامسة تبقى في التشهد ولا تتابعه، ولا أعرف أحدا من أهل العلم يقول إنه إذا قام الإمام للخامسة قام المأموم وراءه، هذا لا يقول به إلا بعض المتأخرين ولا أدري من أين جاء به. والأصل يقتضي أن تبقى؛ لأن الله أمرك بأربع ركعات، ولم يأمرك بإحداث خامسة ولا سادسة، وأمرك بمتابعة إمام في الصلاة لا فيما هو خارج عن الصلاة، والخامسة ليست من الصلاة، وأنت تعتقدها خارجة من الصلاة، ولا يجوز لك أن تتعبد الله عز وجل بها، لذلك لا يجوز لك أن تأتم بإمام إلى قبلة غير القبلة التي تراها. وإذا كان هذا في الشرط فكيف في الركن؟ فإذا: من حيث الأصل الإمام تتابعه في الحدود الشرعية، فإذا زاد الخامسة معذورا لسهو، أو معذورا لنقص، ثبت متشهدا حتى يتم خامسته ثم تتابعه في التشهد. يبقى السؤال: لماذا لا تتم وتسلم؟ لو أتممت وسلمت لنفسك لا نقطعت عن الجماعة وفات أجر الجماعة؛ لأن الجماعة من التكبير إلى التسليم. ففائدة المسألة: أنك تثبت حتى تبقى فيسلم بك، ولذلك فهذان الأمران: الإحرام والتسليم، من سبق الإمام فيهما بطلت صلاته؛ لأنهما أعظم ما في الإمام من أركان، بخلاف بقية الأركان: فإذا ركع قبله رجع فتدارك، وإذا سجد قبله رجع، إلا إحرام وسلام، فإن سبق المأموم الإمام فيهما بطل اقتداؤه، أي: بطل كونه مأتما به. فالحاصل أن تبقى معه وتكون القاعدة المعروفة: ما جاز لعذر بطل بزواله، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. فهو مضطر إلى زيادة ركعة، وأنت تنفصل عنه بقدر الزيادة، فإذا أتم الركعة وجلس للتشهد تبقى وراءه، وترجع إلى الأصل وهو أنك ملزم بمتابعته، وليس عندك دليل يجيز لك أن تنفصل عنه وتتم وتتشهد؛ لكن إذا كان الأمر بالعكس، فمثلا لو كان الذين وراء الإمام جاءوا مسبوقين، فالحكم واضح وهو أنهم يتموا وراء الإمام، ثم إذا تشهد وسلم قاموا وأتموا ما سبقهم فيه الإمام وخليفته. وأما إذا جاء المأمومون كلهم مع بعض في الركعة الثالثة، والإمام حصل له عذر فقدم أحدهم، تابعوه متابعة كاملة لأن صلاته وصلاتهم واحدة، لكن يبقى الإشكال في الركعتين الأخيرتين، لأنه لو صلى وراء الإمام لجلس بعد الثالثة بالنسبة للإمام، لكن هنا لا يجلس بعد الثالثة، وإنما يقوم ويأتي بالركعتين الأخيرتين تامة، ويتابعه المأمومون. وفي هذه المسالة عشر مسائل مبسوطة، أعني مفرعة، لأنها تختلف في الرباعية والثنائية والثلاثية بحسب اختلاف السبق والتأخر عن الإمام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الهبة والعطية) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (403) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب تصرفات المريض من الهبة والعطية [2] من مرض مرضا مخوفا كالطاعون وغيره، فإن تصرفه بما زاد على الثلث غير صحيح، ولا ينفذ إلا بالثلث، ويلحق به إذا التحم الصفان، أو من حكم عليه بالقتل ونحوه، وإذا مرض مرضا مخوفا ثم عوفي فإن تصرفه صحيح ونافذ، ومن أصابه مرض مخوف لم يقعده على الفراش فتصرفه صحيح، سواء بعطية أو وصية، وهناك فرق بين العطية والوصية مبينة في هذه المادة. حكم هبة المطعون بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن وقع الطاعون ببلده، ومن أخذها الطلق لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها] . لا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للأحكام المترتبة على مرض الموت، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يبين الأمراض المخوفة، فقد تقدم بيان جملة منها، لكن هناك أشياء تقع وتكون عامة، وأشياء تقع وتكون خاصة، فما تقدم من المرض المخوف المتعلق بالإنسان نفسه في خاصته تقدم بيانه، لكن الكوارث العامة والأمور التي تنزل في البلد فتشمل أكثر أهله ونحو ذلك؛ كالأمراض الوبائية، فهذه تأخذ حكم المرض المخوف ولو كان الإنسان سالما منها، فلو نزل -والعياذ بالله- الطاعون في بلد، وهو نوع من الأمراض التي تنتهي بصاحبها إلى الموت -والعياذ بالله-، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان على من قبلنا عذابا ورجسا، كما جعله الله عز وجل على قوم فرعون، وجعله الله لهذه الأمة رحمة وشهادة، فأيما إنسان مات بالطاعون فإنه نوع من أنواع الشهادة، فالمطعون شهيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه. وهذا النوع من الوباء ذكر بعض العلماء أنه في هذه العصر الأشبه به مرض (الكوليرا) أعاذنا الله وإياكم منه ومن غيره، فهذا النوع من المرض يقول بعض العلماء: إنه هو الطاعون، ويحتاج الأمر إلى تحرير والرجوع إلى أهل الخبرة والأطباء. فالشاهد: أن هذا المرض إذا أصاب الإنسان فإنه يهلكه، وإذا وقع في بلد وفيه إنسان فالسنة أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بلدا فيه الطاعون، ولا أن يخرج من بلد فيه الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها) ، ولما أراد عمر رضي الله عنه دخول الشام لما وقع طاعون عمواس منع بهذا الحديث. والسبب في هذا: ما ذكر العلماء أن هذا النوع من المرض إذا كان الإنسان موجودا في البلد نفسه وخرج منه وسلم، ربما اعتقد أن خروجه هو الذي نجاه، وهذا يؤثر في عقيدة المسلم وفي توحيده وإيمانه بالله عز وجل، فالذي خلق الأسباب جعلها مؤثرة بقدرته جل وعلا، ولو شاء الله ألا تؤثر لما أثرت. ولذلك قال العلماء: إنه منع من الخروج من البلد حتى لا يعتقد المعتقد أن خروجه ينجيه، فيتعلق الناس بالأسباب دون أن يتعلقوا برب الأرباب، أو يشركوا بين الله وبين الأسباب -نسأل الله السلامة والعافية- والشريعة تحرص كل الحرص على أساس الدين، وعلى العقيدة التي عليها نجاة العبد وصلاح أمره في الدين والدنيا والآخرة. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) ، قيل المراد: أن يعتقد الإنسان أن العدوى تضر بنفسها، حتى إنك تجد الإنسان إذا مر على مزكوم أو على من به مرض من الأمراض المعدية يقطع ويجزم جزما تاما أنه إذا صافحه أو سلم عليه أو جلس إليه أو سمعه فإنه سيضره، ولا يكون عنده من التوحيد والإيمان واليقين ما يجعله يعتقد بالله سبحانه وتعالى أكثر وأعظم، ويجعل قدرة الله هي الأساس، وأن الله قادر على أن يجعله لا يصاب بشيء، فكم من أناس بروا بوالديهم وكان الوالد أو الوالدة مصابا بمرض معد، وبقوا معهم السنين، ومع ذلك ما أصابهم شيء؛ لأن الله لم يرد لهم ذلك. فالله سبحانه وحده هو القادر على كل شيء؛ ولذلك لما خرج القوم من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة:243] ، لأنهم ظنوا أن خروجهم هو الذي سينجيهم من بلاء الله عز وجل وقدره، فإذا اعتقد الإنسان في السبب اعتقادا مؤثرا في عقيدته فإن هذا أمر خطير، فالطاعون إذا وقع في بلد فلا يجوز الخروج منه ولا الدخول إليه؛ لأنه إذا دخل ربما اعتقد أن دخوله هو الذي أفضى به إلى الإصابة بهذا البلاء. وأيضا: فيه جمع بين السبب وبين المسبب، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لهذه الأسباب تأثيرا، ولذلك فالنار الأصل أنها تحرق، ولكن جبار السموات والأرض الذي أطت له وذلت لم يأذن لها أن تحرق إبراهيم؛ بل جعلها الله بردا وسلاما عليه، فالله على كل شيء قدير، وهذا النوع من الأمراض الغالب فيه الهلاك، وأنه إذا أصيب به الإنسان فإنه لا ينجو، وإذا ثبت في الغالب أنه مرض فتاك أو مهلك أو مخوف، فإن القاعدة في الشريعة تقول: (إن الغالب كالمحقق) ، وإن أحكام الشريعة تناط بالشيء الغالب، والنادر لا حكم له، والغالب في الأمراض المعدية أنها إذا وقعت في بلد فإنها تنتشر، فكل من في هذا البلد الغالب في سنة الله عز وجل وبقدرته جل جلاله أنهم يصابون به بحكم المخالطة والمداخلة، وبحكم الهواء الذي ينقل، وهذا كله بأمر الله عز وجل وقدره، فلو وقع الطاعون في بلد وفيه رجل، وبعد وقوع الطاعون تبرع بمائة ألف، وماله كله يعادل مائتي ألف، فمعنى ذلك أنه تبرع بنصف ماله، فنصحح تبرعه في حدود الثلث؛ لأننا حكمنا بكونه في حكم المريض مرض الموت، وهذا بالنسبة لمن وقع الطاعون في بلده وغلب على الظن أنه يصاب في هذا البلد. وهكذا بالنسبة لبقية الأمراض المهلكة المعدية التي يغلب على الظن أن صاحبها لا ينجو وأنها تنتشر وتفتك بالجماعات، وبالقرى والمدن إذا وقعت فيها، فإنها تعتبر في حكم المرض المخوف، وتأخذ أحكاما على التفصيل الذي تقدم. حكم تصرف من أخذها الطلق وقوله: [ومن أخذها الطلق] . أي: المرأة إذا أخذها الطلق عند الولادة، فإذا حضرها الولاد فإنها تكون بين الموت والحياة، وهذه هي أشد الساعات، وقد بين الله جل جلاله لعبده عظيم فضل أمه عليه حينما قص ما تعانيه الأم في قصة عيسى عليه السلام مع أمه، وانظر كيف كان اختيار الله سبحانه وتعالى، فإن عيسى كلمة الله وروح منه، ومع ذلك قال الله تعالى عن أمه: {فأجاءها المخاض إلى جذع} [مريم:23] ، (فأجاءها) أي: ألجأها واضطرها: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} [مريم:23] ، فهذا يدل على عظم ما تعانيه الأم، فإذا كان هذا العبد الصالح الذي هو كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم وفي الحفظ الإلهي الكامل التام، ومع ذلك تقول أمه: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} [مريم:23] فكل مسلم يقرأ هذه الآية ويتدبر ويتفكر ما الذي عانته الوالدة تجاهه، ولذلك جعل الله حق الأم أعظم من حق الأب، وجعل فضلها على الولد أعظم من فضل الأب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صاحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فجعل له الحق بعد حق الوالدة مكررا دالا على فضلها وعظيم ما عانته تجاه ولدها. فإذا ثبت هذا: فإن الطلق قد تنجو المرأة فيه وقد تهلك، واختلف العلماء في مسألة الحمل والولادة وما بعد الولادة: متى يحكم بكون المرأة في حكم الحالة الخطيرة التي لا يصح فيها تبرعها فيما زاد عن الثلث، وتأخذ الأحكام المتقدمة في مرض الموت؟ فبعض العلماء يقول: إذا حملت المرأة ومضى على حملها ستة أشهر، فإنها تدخل في حكم المريض مرض الموت، وهي بين السلامة وبين الهلاك، وبين النجاة وبين الموت، فإذا تم لحملها هذا القدر حكمنا بكونها في حكم مريض مرض الموت، وفائدة هذا القول: أنها لو حملت وبعد ستة أشهر من حملها وتمام الحمل أعطت شخصا أو تبرعت بمائة ألف، وهذه المائة ألف تعادل مالها كله أو نصفه، أو تعادل ما هو أكثر من الثلث، فإذا قلنا: إنها في حكم المريض مرض الموت، فنرد هذه العطية إلى الثلث إن ماتت، وتكون في حكم المريض مرض الموت، وإن قلنا: إنها ليست في حكم المريض مرض الموت؛ صحت ونفذت ومضى تبرعها. القول الثاني يقول: ليست العبرة بتمام الحمل ستة أشهر، وإنما العبرة بابتداء الطلق، وهذا القول هو الذي اختاره جمع من المحققين، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره وصححه، وبينوا أنه هو الأولى بالصواب: أن العبرة ليست بالحمل، وإنما العبرة بحال الولادة إذا أخذها الطلق، فإذا ابتدأ معها الطلق فإنه حينئذ يحكم بكونها في حكم المريض مرض الموت، فلو أنها في هذه الحالة وصت أو أعطت ووهبت فحكمها حكم المريض مرض الموت، وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، أي أن العبرة بحالة الولادة، وعلى هذا درج المصنف رحمه الله. فإذا وضعت الولد وبقي طلق من باقي المشيمة، ولم تكتمل ولادتها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت؛ لأن الأمر مخوف في هذه الحالة، وكذلك أيضا إذا أصابها نزيف بعد الولادة وكان نزيفا خطيرا يخشى عليه هلاكها، فتكون في حكم المريض مرض الموت، وهذا نص عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره من الأئمة، وبينوا أن المراة إذا وضعت ولدها وتعرضت بسبب الوضع إلى أمور يخشى معها على نفسها، فإنها تكون في حكم المريض مرض الموت. وقوله رحمه الله: (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء) . أي: لا يلزم تبرع أحد هؤلاء لوارثه بشيء، فهناك حكمان: الحكم الأول: متعلق بالوصية، والحكم الثانية: متعلق بالعطية. أما الحكم الذي يتعلق بالوصية: فإذا قلت: إن هذه الأحوال يكون الإنسان فيها في حكم المريض مرض الموت، فإنه تسري عليه أحكام الوصية، فلا تصح وصيته لوارث، فلو وصت المرأة في هذه الحالة لابنتها الوارثة فإنه لا تصح وصيتها ابتداء، وإنما تورث على إجازة الورثة كما سيأتي؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بالوصية، ثم نسخ هذا الحكم بعد نزول آيات المواريث، فأعطى الله جل جلاله لكل ذي حق حقه من التركة، وتولى قسمتها من فوق سبع سماوات، وبين نصيب البنين والبنات وغيرهم من سائر القرابات، فأعطى كل ذي حق حقه من التركة، وفصل في حكم ما يتركه الإنسان من بعد موته من المال. وبعد بيان المواريث بين صلى الله عليه وسلم أنه: (لا وصية لوارث) ، فمنع من الوصية للوارث وأجاز الوصية لغير الوارث، فدل هذا على أن الإنسان إذا كان قد كتب وصيته، أو عهد بها إلى أشخاص يأخذونها من بعده، وفي الوصية: أعطوا ابني فلانا كذا وكذا، أو زوجوا ولدي بخمسين ألفا أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، فهذه وصية لوارث لا تصح إلا إذا أجاز الورثة كما سيأتي، فيقال لبقية الورثة: هل تجيزون وصية أبيكم؟ فإن قالوا: نعم. فإنها تمضي، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة وبيان كلام العلماء رحمهم الله في كتاب الوصايا، وهل الوصية باطلة في أصلها أم أنها موقوفة؟ وعلى كل حال: إذا قلنا: إنها باطلة فلها حكم، وإذا قلنا: إنها موقوفة على إجازة الورثة فلها حكم ثان، فبين رحمه الله أنه لا تصح وصيته كل من كان مريضا بهذه الأمراض المخوفة أو هذه الحالات المخوفة، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث. ويتلخص مما سبق: أن هناك أمراضا وهناك أحوالا، فالأمراض يرد فيها القول إلى أهل الخبرة والأطباء، ونسأل الأطباء: ما هي الأمراض المخوفة؟ ويسأل كل طبيب في تخصصه الذي عرف ضبطه فيه وإلمامه به، وأما بالنسبة للأحوال، فقد ذكر المصنف منها حالة الطاعون، ويلتحق بهذه الحالة أحوال في مسائل منها: أحوال تلحق بمن كان مرضه مخوفا وتأخذ حكمه في التصرف بالمال ومما يلتحق بمسألة من مرض مرضا مخوفا: مسألة التحام الصفين وتقابل المتقاتلين، فإذا وقع القتال بين المسلمين والكافرين، وتقابل الصفان والتحم الجيشان، فإذا ابتدأ القتال فيحكم على أهل المعركة من المسلمين أنهم في حكم المريض مرض الموت، فلا تصح وصيتهم لوارث، ولا تنفذ عطيتهم فيما زاد عن الثلث؛ لأن هذه الحالة الغالب فيها عدم السلامة، وقل أن يخرج الإنسان منها سالما. وفي حكم ذلك: من كان محكوما عليه بالقتل، كرجل قتل رجلا ظلما وعدوانا فحكم عليه بالقصاص، وإذا حكم عليه بالقصاص ومضى الحكم وتم وثبت عند القاضي وحكم به، فمذهب طائفة من العلماء أنه بحكم المريض مرض الموت، فلا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث. وكذلك أيضا يدخل في حكم هذه المسألة: أحوال الخوف التي تقع في وسائل النقل، فمثلا: ركوب البحر، فذكر العلماء رحمهم الله في القديم ركوب البحر، فإذا كان البحر ساكنا فلا إشكال والغالب السلامة، وأما إذا هاج البحر وماج وجاءت ريح عاصف، وأصبحوا في حالة الخوف والكرب، فإنهم حينئذ يحكم بكونهم في حكم المريض مرض الموت، فلو أن شخصا في تلك الحالة قال: مالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي كله في سبيل الله، أو أوصيت بمالي إلى فلان، أو أعطيت ولدي فلانا، فحينئذ لا يصح تصرفه في العطية فيما زاد عن الثلث، ولا تصح وصيته لوارث، هذا إذا كان البحر في حالة الهيجان. وكذلك أيضا من الأحوال التي تلتحق بما سبق: إذا تعرض المركوب -كطائرة أو سيارة أو قطار- إذا تعرض إلى حالة من حالات الخوف أو الهلاك الغالبة، فإنها تلتحق بما ذكره العلماء رحمهم الله في القديم من كون الإنسان في حكم المريض مرض الموت. حكم تصرف من أصيب بالجروح وحوادث السير وحوادث السيارات -نسأل الله السلامة والعافية- بعض إصاباتها قد تذهب عقل الإنسان وتمييزه وإدراكه، وحينئذ فلا يصح تصرفه، وأما إذا كان عنده الإدراك والعقل، وشعوره معه، فإنه يحكم بصحة وصيته، ولكن يسري عليها ما يسري على وصية المريض، وكذلك عطيته تصح ويكون حكمها حكم عطية المريض مرض الموت، هذا إذا كانت الإصابة قد أثرت فيه أثرا الغالب أنه يموت بسببه. أما الدليل على كوننا نحكم بأن وصيته وعهده صحيح وتصرفه صحيح مع أن الغالب أنه سيهلك وسيموت: فهو أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيح: أنه لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- وحمل إلى بيته، ثم جاء من يعالجه ويداويه وأمر بسقيه اللبن فخرج اللبن مع الجرح وعلم أنه ميت، فلما علم ذلك وصى رضي الله عنه وأرضاه وعمل الصحابة بوصيته؛ فدل هذا على أن الطعن أو الإصابة أو الحادث أو إصابة الحادث إذا كان الغالب أنها تهلك الإنسان، لكن شعوره معه وإدراكه معه، فإنه يحكم بصحة تصرفاته، ولكن تبقى هذه التصرفات في حكم تصرفات المريض مرض الموت. أما لو أنه غيب وأصبح يخلط مثلما يقع -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الإصابات في الرأس التي تذهب العقل، وقد يأتي معها نزيف في الدماغ أو نحو ذلك، ويصبح عند الإنسان خلط وعدم ضبط، فمثل هذا لا يصح تصرفه، ويعتبر في حكم المجنون، ويحجر عليه، ولا تصح منه هبة ألبتة، بمعنى: لا نحكم بصحة هبته، فلو قال مثلا: تصدقوا وأعطوا الفقراء والمساكين، والأطباء يقولون: إن هذه الإصابة قد أثرت في عقله وأصبح لا يميز، فإنه قد تقدم معنا أن المجنون محجور عليه وأنه لا ينفذ تبرعه، وحينئذ ينتقل المال كله للورثة. هذا بالنسبة لمسالة الإصابات، لكنها إذا كانت الإصابة خطيرة والغالب أن صاحبها يهلك، فإنها تكون في حكم مرض الموت بلا إشكال عند العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله تعالى: (ولا بما فوق الثلث) . أي: ولا تصح عطيته بما فوق الثلث، فإذا كان عنده ثلاث مائة ألف وأصابته هذه الأمراض المخوفة، أو تعرض لهذه الحالات التي نحكم فيها بكونه في حكم مرض الموت فإنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد عن الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد رضي الله عنه لما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبثلثيه؟ قال: لا. قال: فبالنصف؟ قال: لا. قال: فبالثلث، قال: الثلث والثلث كثير) ، فبين صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا حظ له فيما زاد عن الثلث، وأنه لا يجوز له أن يجاوز هذا الثلث إلزاما، لكن لو رضي الورثة وطابت خواطرهم بذلك فحينئذ لا إشكال؛ لأن الحق لهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، فكل عطية أعطاها ومرضه مرض مخوف فإننا ننظر في قدرها من رأس المال والتركة، فإن عادلت ثلث ماله أو أقل صحت ونفذت، وإن كانت فوق ذلك فإنها تصح في الثلث ويبقى ما زاد عن الثلث موقوفا على إجازة الورثة. وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها) استثناء، أي: إلا إذا أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، وقد جاء ذلك مرفوعا في الأثر: (إلا أن يجيز ذلك الورثة) ، فإذا أجاز الورثة فإنهم يجيزون أمرين: الأمر الأول: أن يجيزوا وصيته للوارث، فلو أنه قال: أعطوا ولدي محمدا مائة ألف من تركتي، لكن محمد وارث، فحينئذ نقول: لا يجوز له أن يوصي لوارث، ثم نسأل بقية الورثة: هل تجيزون وصيته لأخيكم؟ فإن قالوا: نعم، أجزنا وصية أبينا لأخينا، فحينئذ تمضي، ولكن هل تعتبر عطية مبتدأة أو تعتبر عطية ماضية كانت موقوفة ثم نفذت؟ فنبني على ذلك فروعا سيأتي بيانها -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا. الأمر الثاني: أن يجيزوا وصيته بما زاد عن الثلث، فإن أجازوها مضنت ونفذت، وإلا فلا. حكم تصرف من مرض مرضا مخوفا ثم عوفي منه وقوله: [إن مات منه] . أي: إن مات من الطاعون، فهذا شرط، لكن لو أنه جاء الطاعون في بلده وأوصى أو أعطى ثلاثمائة ألف في سبيل الخير، وهذه الثلاثمائة ألف تعادل ماله كله، ثم ارتفع الطاعون عن بلده ومات بعد ارتفاعه بأسبوع أو بشهر بسبب غير الطاعون، فعند ذلك عطيته صحيحة؛ لأن اعتبار الطاعون مبني على الغالب، لكن إذا زال الطاعون وارتفع فحققنا أن ذلك الظن قد بان خطؤه، ولا نحكم بظنة كونه في حكم المريض مرض الموت؛ لأنه سلم وتبين أنه من الناجين، مع أن سنة الله عز وجل أن القليل من يسلم ومن ينجو لكن الله جعله من القليل، فلما اختلط من ينجو ومن لا ينجو، وذلك لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ بقينا في الحكم الغالب أنه لا ينجو وقلنا: لا يجوز تصرفه، فإن ارتفع الطاعون وسلم منه ثم مات بسبب آخر كحادث سيارة، أو مات بسكتة قلبية أو بمرض آخر، فحينئذ نصحح عطيته حينما أعطى وهو في حال الغالب أنه يهلك، لكنه لما ارتفع هذا الحال ولم يصب بسوء؛ فلم يكن له أي تأثير على عطيته، فتنفذ الثلاثمائة ألف وتصح عطيته؛ لأنه أعطاها وتبين أنه في حكم السالم لا في حكم المريض، فقوله: (إن مات منه) ، هذا شرط بأن يقع الموت بهذا السبب الغالب تأثيره. وقوله: [وإن عوفي كصحيح] . إن عوفي تماما من السل أو من الفالج أو مما تقدم من أمراض مخوفة فإن عطيته التي أعطاها تكون صحيحة. أما إذا كان معه مرض -لا قدر الله- يخشى عليه من الهلاك فنوقف العطية ونقول لصاحب العطية: انتظر، فإن مات من هذا المرض فليس لك ما زاد عن الثلث؛ لأن هناك استحقاقا للورثة، ولك شريك مستحق، فلا يجوز أن تنفرد بهذه العطية كاملة ما دام أنها زائدة عن الثلث، وإن لم يمت فحقك يأتيك وتأخذ العطية كاملة، وبناء على ذلك: الأمراض المخوفة إذا كان الإنسان مصابا بها فنحجر على ماله ونمنع تصرفاته فيما زاد عن الثلث؛ لأن الغالب أنه يهلك في هذه الأمراض المخوفة، فإن شفي من هذا المرض المخوف، وسلمه الله عز وجل منه، فإننا نحكم بكونه في حكم الصحيح وعطيته نافذة، ولا يقيد بالثلث فيما كان من هباته وصدقاته وعطاياه. تصرف المريض مرضا مخوفا لم يقعده على الفراش قال رحمه الله: [ومن امتد مرضه بجذام أو سل أو فالج ولم يقطعه بفراش فمن كل ماله والعكس بالعكس] . قوله: (ومن امتد مرضه بجذام أو سل أو فالج) . هذه الأمراض يصاحبها على حالتين: الحالة الأولى: إما أن تقعده عن الفراش وتمنعه من الخروج لقضاء حوائجه، فحينئذ لا إشكال أنه في حكم المريض مرض الموت، وأما إذا كان يذهب ويأتي ويقضي أموره ويفعل ما يفعله الصحيح، إلا أنها تؤثر في صحته بعض الشيء، فهذا لا تأثير له فعطيته نافذة وحكمه حكم الصحيح. إذا: العبرة فيما ذكر من الأمراض -كالفالج والجذام- أن هذه الأمراض كلها إذا لم تعق صاحبها وتحبسه في بيته فإنها لا تؤثر، ومثل ذلك: الهرم وكبر السن، فالكبير في سنه يضعف في أحواله ويضعف في أموره، ولا يستطيع أن يقضي مصالحه كما يقضيها من هو شاب جلد، فحينئذ لا نقول: إن الهرم يجعله في حكم المريض مرض الموت ولا يصح تصرفه فيما زاد عن الثلث، بل إنه يعامل معاملة الصحيح، والأمراض كذلك، فإن كان معه هذه الأمراض كالفالج والجذام -نسأل الله السلامة والعافية- ولم تقعده فإنه يكون في حكم الصحيح، لكن إذا أقعدته وألزمته الفراش ثم مات وامتدت إلى الموت، فيعتبر صاحبها في حكم المريض مرض الموت منذ أن أقعدته، كما إذا أدخل المستشفى ثم لزم المستشفى حتى توفاه الله، فإن كانت عطيته قبل دخوله وكان يذهب ويقضي مصالحه قبل الدخول، مع أنه قرر الأطباء أنه مصاب بهذا المرض، فمثلا: قرر الأطباء أنه مصاب في بداية محرم، فأعطى عطية وهو يذهب ويأتي ويقوم بمصالحه، فأعطى عطية، ثم بعد فترة أقعدته على الفراش فأعطى عطية ثانية، فالعبرة في عطيته الثانية بالثلث، وأما عطيته الأولى فإنها ماضية تامة. وقوله: (ولم يقطعه بفراش) . وهكذا بالنسبة للهرم وكبير السن، إذا أقعده هرمه ولزم الفراش فإنه يصح تصرفه في الثلث فما دونه، ويكون حكمه حكم المريض مرض الموت. وقوله: (فمن كل ماله والعكس بالعكس) . أي: من امتد مرضه ولم يقطعه بفراشه، بمعنى: أنه لم يعقده، فعكسه من أقعده على الفراش، فإنه يوجب الحكم بكونه في حكم المريض مرض الموت إذا امتد به ومات بسبب ذلك المرض. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
العبرة في الثلث الموصى به أو المعطى عند الموت قال رحمه الله: [ويعتبر الثلث عند موته] . إذا ثبت ما تقدم أن العبرة بالحالة الموجبة لحكمنا بكون الإنسان في حكم المريض مرض الموت، وبينا الأمراض والأحوال التي توجب الحكم على الشخص في ذلك، وما الذي يترتب على هذا الحكم، وأنه لا يصح تبرعه فيما زاد عن الثلث ولا تصح وصيته لوارث، فيبقى السؤال هذا الثلث، هل العبرة فيه بالوقت الذي وصى أو أعطى فيه أم بوقت الموت؟ وفائدة هذا الخلاف: أنه ربما يكون الشخص -مثلا- عنده مائة ألف ريال، فيوصي بهذه المائة الألف ريال في أول محرم وهو مريض مرض الموت، فإذا كان مريضا مرض الموت وأصابه المرض في أول محرم وأعطى مائة ألف هبة أو عطية أو صدقة فما الحكم؟ نقول: إنه في حكم المريض مرض الموت، فلا ينفذ إلا ثلثها، هذا من حيث الأصل؛ لكن لو أنه توفي في الخامس عشر من محرم وقبل وفاته بأسبوع وهب مائة ألف، ثم توفي فورث مائتي ألف، فأصبح مجموع تركته عند الوفاة ثلاثمائة ألف، وأصل تركته عند العطية مائة ألف، فهل العبرة بوقت العطية أم العبرة بوقت الموت؟ العبرة بالموت، فإن كان الوقت الذي مات فيه تعادل عطيته الثلث فما دون صحت، ولو كانت قبل أكثر، والعكس بالعكس، فلو أنه أعطى مائة ألف وقد دخل المستشفى -مثلا- في بداية محرم، وحكم الأطباء أن هذا المرض مرض مخوف وأنه لا ينجو إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فلما أدخل المستشفى كانت تركته تعادل ثلاثمائة ألف، فقال لأولاده: هذه مائة ألف ريال، اجعلوها في المساجد وفي سبل الخير والبر، إذا: وصيته في حدود الثلث، ولا إشكال فيها، والمائة ألف تعادل الثلث من الثلاثمائة ألف، فلما مرض وأدخل المستشفى احتاج إلى علاج بمائة ألف، فأصبحت تركته ناقصة فلما توفي في منتصف محرم إذا تركته مائتا ألف، فهل العبرة بوقت ما أوصى ووقت ما أعطى وتصدق ووهب، أم العبرة بوقت الموت؟ بين رحمه الله أن العبرة بالوقت الثاني وهو الأخير، وألا ننظر إليه قبل ذلك فقرا ولا غنى، فإن العبرة بوقت الموت، فإن كان المال الذي وصى به أو أعطاه معادلا للثلث في ذلك الوقت حكمنا بكونه صحيحا، وإن نقص أو زاد على التفصيل الذي ذكرنا. الفرق بين الوصية والعطية شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية، وفي الحقيقة أن هذا الفصل -تصرفات المريض- هو وسط بين العطية وبين الوصية؛ ولذلك تتداخل أحكام الوصية والعطية، ويحتاج المصنف إلى بيان الأمور التي يفرق فيها بين الوصية والعطية. فالوصية: عهد من الميت لورثته أو لمن يقيم على وصيته من بعد موته، فهي إسناد لما بعد موته، كقوله: إذا مت فابنوا لي مسجدا، أو احفروا بئرا، أو افعلوا كذا وكذا من الأمور التي يرجو بها الثواب والأجر بعد موته، فهذه هي الوصية، فإذا وقعت من الإنسان بعطية أو بمال، فإن كانت من شخص واحد فلا إشكال، لكنه لو أعطى ثلاثة أشخاص، كأن أعطى محمدا وزيدا وعمرا، فوصى لمحمد بمائة ألف، ثم بعد يوم وصى لزيد بمائة، ثم بعد يوم وصى لعمرو بمائة، فهذه ثلاثمائة ألف ريال أوصى بها، وكانت تركته مثلا تسعمائة ألف ريال، إذا: هي في حدود الثلث ولا إشكال، لكن عند موته أصبحت تركته -مثلا- أربعمائة ألف ريال، فنقصت فلم تعادل الثلث أو نقصت عن الثلث، فما الحكم؟ ننظر إلى المال الذي خلفه عند موته ونأخذ ثلثه ونقسمه أثلاثا، لمحمد الثلث، ولزيد مثله، ولعمرو مثله، فننظر نسبة ما وصى به لكل واحد ويسوى بينهم، فيسوى بين المتقدم وبين المتأخر، فعلى هذا الوصية يشرك فيها بين الأوصياء، فنقدم متى وصى لزيد ومتى وصى لمحمد، فمحمد متقدم ثم بعده زيد ثم بعده عمرو، في الوصية: لا تنظر إلى التاريخ فتقدم من هو مقدم ونؤخر من هو مؤخر، فلا يجتمع الكل عند الموت؛ لأن الوصية في الأصل لا ينتقل الاستحقاق فيها إلا بعد موت الشخص، فهي مسندة لما بعد الموت، فما قبل الموت يكون قد قدم هذا أو أخر هذا فلا تأثير له؛ لأنهم عند الموت اشتركوا جميعا في كونهم موصى إليهم. قال رحمه الله: [ويبدأ بالأول فالأول في العطية] . العطية عكس الوصية، فمثلا: لو أن الذي حدث في الوصية حدث في العطية، ففي الوصية قال: إذا أنا مت فأعطوا محمدا مائة ألف، وبعد يوم قال: إذا أنا مت فأعطوا زيدا مائة ألف، وقال لعمرو مثل ذلك، لكن في العطية جاء قبل وفاته أو في مرض الموت وقال: يا محمد! خذ مائة ألف من مالي، (خذه) هذه حالة ما أسندها إلى بعد الموت، بل قال: خذ، أو أعطوا محمدا مائة ألف من مالي، وهذا الكلام وقع في أول النهار، وبعد ساعة دخل عليه زيد، فقال: أعطوا زيدا مائة ألف من مالي، ثم بعد ساعة دخل عليه عمرو فقال أيضا: أعطوا عمرا مائة ألف من مالي، فهذه عطية لثلاثة أشخاص، ولكنها لم تقع في وقت واحد، فحينئذ يقدم المقدم ويؤخر المؤخر، فلو أنه كان في وقت قوله: (أعطوا) ، تعادل الثلاثمائة ألف ثلث ماله، ثم تأخروا في القبض ولم يقبضوها حتى أصبح ماله -مثلا- ثلاثمائة ألف، فحينئذ لا تستطيع أن تعطي كل واحد منهم مائة ألف، وأصبح الثلث مائة ألف، فهل تقسم الثلث بينهم؟ الجواب لا، في العطية نبدأ بالمقدم، وهو أول من أعطاه، فحينئذ يعطى المائة الألف، وأما الآخران فلا شيء لهم؛ لأنه زائد عن الثلث، فهذا بالنسبة لمسالة التسوية في الوصية والمفاضلة في العطية. والسبب في هذا: أن الموجب -يسمونه العلماء: الموجب أو السبب- يختلف في الوصية والعطية، فالعطية تلزم بالقبول وعقدها معتبر، فإذا قال: أعطيتك مائة ألف، وقال الآخر: قبلت، فحينئذ تم العقد، والعقد الأول مقدم على العقد الثاني، بمعنى: أن العطية الأولى والعدة بها مقدمة على العدة الثانية وهكذا الثانية بالنسبة للثالثة بخلاف الوصية، أما الوصية فإنها موقوفة على الموت، فإذا كان الإنسان حيا فإنه لا يحل لأحد استحقاق المال، فهؤلاء الثلاثة كانوا كلهم في حال حياته ولو قبل موته بلحظة كلهم في كونهم موصى إليهم، فهم جميعا مشتركون، بخلاف العطية، فالعطية لا تنتظر الموت، بل العطية مباشرة؛ لأنه لم يعلقها على موت ولم يعلقها على شرط، وعلى هذا فإنه يقدم في العطية الأول فالأول. وأما في الوصية فيسوى بينهم ويشرك، على خلاف بين العلماء في قضية التشريك، فبعضهم يقول: على قدر حصته، بمعنى: ينظر إلى نسبة المبلغ الذي أعطاه مع شركائه كما ذكرنا، فإذا كانوا متساوين في المبالغ، فيعطى كل واحد منهم الثلث إذا كانوا ثلاثة -أي: ثلث الثلث- وأما إذا قال: أعطوا محمدا -مثلا- خمسمائة ألف، وأعطوا زيدا مائتين وخمسين ألفا، وأعطوا عمرا مائتين وخمسين ألفا، فعند ذلك نعطي الأول سهمين منها -وهو النصف- ونعطي الثاني ربع الثلث، ونعطي الثالث ربع الثلث، وهذا إذا كان يفاضل بينهم، فحينئذ النسبة بين الخمسمائة والمائتين والخمسين للآخرين نسبة النصف، فمجموع عطيته مليون، فلو ترك قدرا لا يعادل ثلثه المليون، بل يكون الثلث نصف مليون، فإذا كان قد أعطى محمدا خمسمائة وأعطى زيدا مائتين وخمسين وعمرا مائتين وخمسين، فإذا كان الثلث خمسمائة ألف فيعطي مائتين وخمسين لمحمد ومائة وخمسة وعشرين لكل واحد من الآخرين، وهذا بالنسبة للقسمة عند المفاضلة في الوصايا إذا ضاقت عن الثلث. وقد تقدم في المجلس الماضي أن الوصية تخالف العطية في جملة من المسائل، وذكرنا بعض هذه المسائل التي أشار إليها المصنف رحمه الله، ثم شرع في بيان مسألة من هذه المسائل التي تخالف فيها الوصية العطية، وهي: أنه لا يملك الرجوع في العطية، بخلاف الوصية. فلو أن مريضا مرض الموت أعطى عطية وقبلها المعطى، وحكم بلزومها، فإنه لا يملك المريض الرجوع فيها، ولا يحق للورثة أن يطالبوا المعطى بما أعطاه مورثهم؛ لأنها أصبحت لازمة، وحينئذ تكون ملكا للذي أعطي، فلو أعطاه سيارة مثلا، أو أعطاه أرضا، أو أعطاه نقودا، وحكم بلزوم العطية؛ فإنه حينئذ لا يملك صاحب العطية الرجوع فيها، وهكذا ورثته ليس من حقهم أن يطالبوا بنقض هذه العطية ورد المال إليهم. قال رحمه الله: [ولا يملك الرجوع فيها] . أي: بخلاف الوصية، فإن الوصية من حقك أن تبدل فيها وتغير؛ لأن الوصية تصرف لما بعد الموت، وحينئذ من حقك أن تغير في هذا التصرف، وقد وسع الله على عباده في تغيير الوصية، فلو كانت الوصية لا يملك الإنسان الرجوع فيها لحصل في ذلك من الضرر والمفاسد على العباد شيء كثير. فقد يوصي الإنسان بشيء بناء على أن أولاده صغار، ثم يتغير الحال فيصبح أولاده كبارا، وقد يوصي لشخص يعرفه بالأمانة والديانة والاستقامة والصلاح وحسن النظر في الأمور، ثم يتغير حاله فيكبر سنه، أو تأتيه ظروف تغير من حاله بحيث يكون من الصالح لورثته من بعده وذريته ألا يليهم مثل هذا، وبناء على ذلك وسع الله عز وجل على عباده في الوصية، وجعل لهم حق الرجوع فيها والتغيير والتبديل، ولذلك قال بعض الأئمة رحمهم الله: إن الله رحم العباد بجواز التغيير في الوصية، فلولا ذلك لما أقدم أحد على الوصية خوفا من أن يلزم بشيء لا يملك الرجوع فيه من بعد. فالشاهد: أن الوصية والعطية بينهما خلاف، فالعطية لا يملك الرجوع فيها، والوصية يملك الرجوع فيها، ولا شك أن الإلزام بالعطية مستقيم مع مقاصد الشريعة العامة وأصولها التي تعتبر العطية بمصالحها المترتبة عليها. بخلاف الوصية فإن الحكم يختلف فيها، ولذلك جاز الرجوع فيها. الأمر الثاني: أن الوصية معلقة على الموت، فالتصرف فيها بعد الموت كما ذكرنا، فأنت لست بملزم بشيء، ويجوز لك فسخها، فما دام أنه لم يقع الموت فمن حقك أن تغير وتبدل، وتقدم وتؤخر، فلا حرج عليك في ذلك. فمثلا: لو أنه أوصى أن يعطى ربع ماله إلى قريب، ثم نظر في هذا القريب فوجد أموره قد تحسنت، كأن كان فقيرا حينما كتب الوصية، وكان محتاجا حينما كتبت له الوصية، ثم بعد سنة أو سنتين -والوصية موجودة- تغير حال هذا القريب فأصبح أغنى حتى من الموصي، فحينئذ يتدارك الموصي، وينظر من هو أحوج منه، ولربما كان ورثته وذريته أحوج، فيبطل الوصية ولا يوصي لأحد، ويبقي المال لورثته؛ لأنه يرى في ذلك أنه أعظم لأجره وأحسن عاقبة لذريته وولده. فمن حقه أن يبدل ويغير، ويقدم ويؤخر في الوصية كما ذكرنا؛ لوجود المصالح المترتبة على هذا التغيير؛ ولأن الناس بحاجة إليه، فوسع الله على عباده في ذلك. وقوله: [ويعتبر القبول لها عند وجودها] . أي: ويعتبر القبول للعطية عند وجودها، فإذا قال له: أعطيتك سيارتي، أو أعطيتك أرضي، وكانت دون الثلث في مرض الموت، وقال: قبلت، فإنه إذا قال: قبلت، تمت الصيغة بإيجابها وقبولها، وحينئذ يكون له ما أعطي؛ لأنه قبل في حياة المعطي، فلابد أن يكون القبول حين العطية، بخلاف الوصية، فالوصية يمكن أن يتأخر قبولها إلى ما بعد الموت؛ لأنها في الأصل مسندة ومضافة، والتصرف فيها معتبر لما بعد الموت، فأعطي كل عقد من هذين العقدين حقه. وقوله: [ويثبت الملك إذا] . أي: ويثبت الملك للمعطى، وقوله: (إذا) : التنوين عوض عن كلمة، أي: إذا قبله، أي: إذا قبل فإنه يثبت له الملك حينئذ، وأما إذا لم يقبل فحينئذ تلغى العطية لأنها متوقفة على قبول المعطى. وقوله: [والوصية بخلاف ذلك] . أي: أنها ضد العطية في الأحكام التي ذكرت، وبناء على ذلك: لا تكون الوصية كالعطية، فيسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ولكن يراعى الأقدم فالأقدم في العطية، ولا يملك الرجوع في العطية، ويملك الرجوع في الوصية. الأسئلة مسألة إعتاق ثلث العبيد السؤال بناء على أن الرقاب من الأموال، هل من أعتق عبيده يرد هذا العتق إلى الثلث أم أن العتق أقوى؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالرقاب هي من الأموال، وإذا وصى فيجزأ عبيده ويقرع بينهم وينظر في الثلث مما يقرع بينهم، وهذا فيه قضاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق عبيده ولا مال عنده غيرهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وجزأهم أثلاثا وأقرع بينهم، فمن خرجت قرعته عتق ومن لم تخرج قرعته فإنه لا يصح عتقه؛ لأن المال الذي أعتق منه هذا السيد ليس بملك له؛ لأن الزائد عن الثلث يصبح ملكا للورثة، فإذا أعتق ما زاد عن الثلث من عبيده ومواليه فإنه قد أعتق في مال غيره، كما لو أعتق عبد غيره ومولى غيره فإنه لا يصح عتقه، والله تعالى أعلم. السؤال هل يجوز أن نضع صدقة جارية للوالد من التركة قبل تقسيمها دون رضا الورثة؟ حكم جعل صدقة جارية من تركة الميت قبل تقسيمها الجواب هذه مسألة مهمة، وهي أن بعض الورثة تغلبهم العاطفة ويحدثون في تصرفاتهم بعد وفاة الميت أمورا غير شرعية، ومن ذلك: أنهم يأخذون من المال ويصرفون منه بنية صالحة على سبيل الإحسان إلى الميت، وهذا لا يجوز إلا بإذن الورثة، فالمال للورثة، وينبغي استئذان الورثة، فإذا أذن الجميع وكان الصرف الذي صرفوه مشروعا وأذن الله به، فإنه لا إشكال في جوازه واعتباره، وتكون عطية من الورثة وبرا منهم لوالديهم. أما أن يأتي شخص ويأخذ من تركة الشخص مالا ويقول: نعطيه لطلاب العلم، أو للفقراء أو للمساكين، أو ننفقه في بناء المساجد دون استئذان من الورثة، فهذا غير صحيح ولا يلزم مثل هذا، بل يرد المال إلى أهله الورثة ويستأذنون، ولا ينفذ هذا التصرف؛ لأن مالكه الحقيقي لم يأذن به، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه، وإذا وقع شيء بين الورثة باتفاق منهم أن يبنوا مسجدا أو يبروا والدهم شيئا من البر والخيرات، فهذا من بر الوالدين، ومما يضع الله فيه البركة للورثة في مالهم الموروث من ميتهم ومورثهم. لكن هنا مسألة نحب أن ننبه عليها وهي: أن بعض الإخوة يحرج أخواته وأقرباءه في الصدقة، فيأتي -مثلا- عند قسمة المال ويقول: يا إخوان! نريد أن نخرج مائة ألف صدقة عن والدنا، أو نريد أن نخرج كذا وكذا عن والدنا، فحينئذ كل من الورثة عندما يقال له مثل ذلك الكلام فإنه يستحي ويجامل، وهذا الحياء والمجاملة يقتضي أنه قد نزع منه المال بدون طيبة نفس منه، فعلى كل أخ كبير أو وصي قائم على مال أن يتقي الله عز وجل في حقوق الورثة، والذي أوصي به أن ينظر -أولا- إلى حال الورثة، فقد تكون هناك الأخت المديونة المعسرة، وقد تكون عندها ظروف في أولادها وأطفالها أحوج من أي صدقة، وصرف هذا المال إليهم أفضل من إعطائه لأي قريب، وترك مال أبيهم وأمهم وجد الأولاد لهم يكون أجره للوالد الذي ترك أعظم من الصدقة للغريب، وهذا أمر لا يدركه الكثير، بمعنى: أن العاطفة تغلب على البعض فيقول: نتصدق به، ولماذا نتركه لأولاده؟ وكأنهم يظنون أن المال لو بقي للأولاد فإنه لا أجر فيه، والصحيح هو العكس، فبقاء المال لإخوانك وأخواتك من والدك ووالدتك أعظم أجرا لهما من الصدقة به لغيرهم؛ لأنه صدقة من الوالد على فلذة كبده وعلى قريبه، وخاصة إذا كانت أختك معسرة أو محتاجة، أو أولادها بحاجة، أو هناك زوجة محتاجة وتريد أن تتجمل معها، وتريد أن تحسن إليها وتكفيها حاجتها. فهذا أمر ينبغي التنبه له، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على مثل هذه الأمور، لوقوع مظالم كثيرة وخاصة في ميراث النساء، فقد يخرجون النساء مع أنه قد يكون عند البنت من الذرية والأطفال والنسل من هو أحوج إلى إرثها؛ فعلى هذا ينبغي التنبيه على أن الواجب على الوصي أو من يقوم على توزيع التركة ألا يحرج إخوانه. والحل الأمثل: أن يقولوا: إن هذا المال تركه والدنا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليتصدق الصدقة الخفية التي هي أقرب للتقوى وأعظم للأجر، فينوي كل شخص بماله ويتصدق به على والده، أو يقول: يا إخواني! هذا مال تركه لكم أبوكم، فلا تنسوا فضل الوالد عليكم فتصدقوا عنه واذكروا والدكم بالصدقة؛ لأنه شرع التصدق عن الميت، كما في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا تصدق الابن عن أبيه غيبا دون أن يعلم إخوانه ودون أن يطلعوا على أنه أخرج من مال أبيه مالا، فهذا أتقى لله وأعظم أجرا، وينبغي تقديم الأقارب على غيرهم، فإن الصدقة عليهم أعظم والثواب فيهم أتم وأكمل، والله تعالى أعلم. أفضلية الصلاة داخل الحجر السؤال هل هناك أي ثواب خاص لصلاة النفل داخل الحجر؟ الجواب الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى داخل البيت) ، فإن تيسر للإنسان أن يصلي داخل البيت فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وفيه تأس بالسنة، وإن تعذر عليه وصلى في الحجر فهذا نوع من التأسي والاقتداء، وله فضل بالاهتداء برسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك: أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي داخل البيت، فمنعها وأمرها أن تصلي في الحجر، وجعل الحجر من البيت، كما في الحديث الصحيح، على الخلاف في القدر الذي تركته ما بين ثلاثة أذرع وزيادة، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن صلاتها داخل الحجر كصلاتها في البيت، وقلنا: إن الإنسان يشرع له التأسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت لتيسر ذلك، فإن لم يتيسر لك فـ عائشة لم يتيسر لها، لأنهم ذكروا عدة علل منها: أنه يقع زحام من الرجال للنساء داخل البيت، فإذا كان البيت مفتوحا فالأفضل أن يترك الحجر للنساء لوجود مجال للرجال أن يصلوا، فيترك الحجر للنساء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة، لكن إذا قفل البيت وما تيسر الدخول إلا في أوقات معينة؛ لأن هذا راجع إلى سادن البيت، وهذا حق من حقوقه، وهو أمر شرعي وله أصل في الشريعة، فإذا فتح البيت وأمكن للإنسان أن يصلي في داخله متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس، ولكنه ليس بواجب ولا لازم، إنما له أجر لمتابعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ويدخل إلى البيت ويرقى حتى يدخل داخل البيت -حيث أنه كان الباب مرتفعا كما هو موجود الآن- فيصعد إليه ويتكلف الدخول إليه ليس هذا إلا لمعنى. وعلى هذا: فإن تسير له ذلك فالحمد لله، وإن لم يتيسر له وصلى في الحجر فهو على خير، وفيه نوع من التأسي؛ لأنه لم يستطع الصلاة في داخل البيت، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أن تصلي في الحجر عند تعذر دخولها إلى البيت، وهذا أصل عام، والله تعالى أعلم. رطوبة فرج المرأة السؤال السائل الذي يخرج من المرأة أثناء الحمل هل هو ناقض من نواقض الوضوء؟ الجواب السائل الخارج من فرج المرأة أو ما يسمى برطوبة فرج المرأة له حكم النجاسة على أصح قولي العلماء رحمهم الله. وهذا السائل فيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته ولم تنزل لا غسل عليه ولا عليها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طرق على أحد الأنصار، فخرج الأنصاري فجأة وكان ملما بأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك) ، وفي رواية: (لتغسل ما أصابك منها) ، فأمره إذا لم يقع الإنزال أن يغسل العضو؛ لأنه حكم بنجاسة ذلك السائل؛ لقوله: (لتغسل ما أصابك منها) ، والذي أصابه منها رطوبة الفرج. فهذه المسألة مسألة واضحة، فالسنة فيها واضحة، ولا تحتاج إلى كلام طبيب ولا غيره؛ لأن هناك مسائل شرعية الحكم فيها واضح ليس فيها أي إشكال. فقوله: (لتغسل ما أصابك منها) لا يصيبه منها إلا الرطوبة التي جعلها الله عز وجل مثل المذي في الرجل، وهذا شيء ذكره العلماء رحمهم الله المتقدمون وأشاروا إليه، أن رطوبة فرج المرأة بالنسبة للمرأة كالمذي بالنسبة للرجل، ويكون عند شدة الشهوة وزيادتها، وكل هذه الأمور واضحة لا لبس فيها، لا من جهة الأثر ولا من جهة النظر، فالقول بكونها نجسة لا إشكال فيه، وإذا ثبت كونها نجسة فحكمها حكم النجاسة، فاجتمع حينئذ خروجها من الفرج ووصف الخارج، وإذا اجتمع المخرج والخارج وصفا مؤثرا حكم بانتقاض الوضوء، وحينئذ تكون كالبول، فنقول: يجب الوضوء من رطوبة الفرج؛ لأنها سائل نجس أوجب الشرع في نصوص السنة الثابتة وجوب الوضوء من كل سائل نجس خارج من الفرج، بدليل المذي والبول والودي ودم الاستحاضة، فكلها سائلة، ودم الاستحاضة ليس ببول ولا غائط، لكنه سائل نجس خارج من الموضع. فعلى كل حال: إذا ثبت المخرج والخارج وكان الخارج نجسا فإن هذا يؤثر؛ لأن مسألة انتقاض الوضوء فيها تفصيل عند العلماء: هل نعتبر المخرج ولا نلتفت للخارج؟ أو نعتبر الخارج ولا نلتفت للمخرج، أو نعتبر الأمرين؟ فإذا قلت: أعتبر الخارج ولا أعتبر المخرج، فحينئذ تقول: العبرة عندي بالنجاسة، فالمخرج ليس له تأثير، فلو خرج حصى أو خرج دود من القبل، وهذا الخارج طاهر -كالحصى- فحينئذ لا ينتقض الوضوء، وإذا خرج النجس وهو الدم من غير المخرج كالرعاف فينتقض الوضوء، وهذا مسلك الحنفية والحنابلة، ولذلك أوجب الحنابلة رحمهم الله الوضوء من الدم الكثيف إذا خرج من سائر البدن، فأوجبوه من الرعاف وأوجبوه من الحجامة؛ لأنه سائل نجس خارج من البدن، فلم يلتفتوا إلى مخرجه ولكن التفتوا إلى الخارج. وهناك مذهب آخر يقول: الثابت عندنا بالمخرج لا بالخارج، فكل شيء خرج من المخرج أثر، ولا عبرة بنوعية الخارج؛ وبناء على ذلك وفي زماننا لو أدخل المنظار أو أدخلت آلة الكشف من القبل أو الدبر ثم أخرجت، نقضت الوضوء؛ لأنها خرجت من المخرج، والعبرة عندهم بالمخرج لا بالخارج، فسواء كان الخارج طاهرا أو نجسا فإن العبرة عندنا بالمخرج. ودليل من ينظر إلى أن العبرة بالخارج لا بالمخرج: أن القيء قد أوجبت الشريعة الوضوء منه، كما في حديث ثوبان: (قاء فتوضأ) ، مع أنه لم يخرج من المخرج بل خرج من الفم، والفم ليس بمخرج نجس، لكنه لما كان القي نجسا أثر في الحكم، فدل على أن مناط الحكم هو الخارج النجس وليس المحل، وبناء على ذلك قالوا بانتقاض الوضوء منه واعتدوا بالخارج لا بالمخرج. وأما الذين يرون العبرة بهما على تفصيل، فيعتبر مذهبهم من أقوى المذاهب؛ لأن الشريعة تشهد بالمخرج وتشهد بالخارج، لكن مسألة القيء وكونه ينقض الوضوء أجاب الأولون عنها وقالوا: إن الشريعة أوجبت الوضوء من القيء؛ لأنه نجس، لكنه نجس من الموضع الذي هو المعدة، فاستوى خروجه من الأعلى أو من الأدنى، وأيضا القيء لا يعتبر مؤثرا -وهذا بإجماعهم كلهم- إلا إذا استحال الطعام وتغير، قالوا: فإذا استحال الطعام وتغير كان في حكم الفضلة التي يستوي خروجها من أعلى البدن، أو من أسفل البدن، فنظروا إليه فضلة ولم ينظروا إليه في مسألة كونه نجسا، وقالوا: الدليل على هذا: أننا لو نظرنا إلى القيء لم يستحكم فيه التغير كالقلس أو لم يؤثر فيه تأثيرا قويا لا نحكم بانتقاض الوضوء به، ويؤكد هذا أنه لو فتحت في المعدة فتحة وكانت تحت السرة وخرج منها خارج، حكمنا بانتقاض وضوئه؛ فدل على تأثير المادة نفسها من الموضع وليس كونها نجسة أو طاهرة، وهذا المسلك فيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، وفيه خلاف مشهور بين جهابذة أهل العلم رحمهم الله. أما مسألة الرطوبة وخروجها من الفرج فلا إشكال في قوة تأثير هذا النوع من الخارج ونقض الطهارة به، فإذا أصبح مسترسلا فحينئذ نقول للمرأة: عليها أن تضع القطن، فإذا كان يغلب القطن فإنها تشد الفرج، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة، وعندنا السنة واضحة، ومسائل التخفيف واضحة، فلو قال قائل: كيف تنقضون الوضوء وكيف تحملون النساء مسألة الوضوء كل دقيقة؟ قلنا: ما دام أنه نجس وينقض الوضوء فهذا لا يفصل بالمشقة؛ لأن عندنا المستحاضة أنه إذا غلبها رجعت إلى التخفيف، فجمعت جمع تأخير إن شاءت، أو جمعا صوريا إن شاءت، وإن شاءت توضأت بدخول وقت كل صلاة وصلت الفرض، وهذا ليس فيه مشقة، بدليل أن الشريعة قد حكمت بذلك في المستحاضة، فما الفرق بين المستحاضة التي غلبها الدم وبين التي معها رطوبة الفرج؟ لا فرق بينهما، فهذه أخرجت فضلة نجسة وهذه أخرجت فضلة نجسة، فوجب الحكم بالتخفيف في هذه كما وجب الحكم بالتخفيف لهذه ولا فرق بينهما، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (404) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [1] شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيتها واستحبابها، وقد كانت في البداية واجبة، ثم نسخ وجوبها وبقي استحبابها لغير الوارث، ويختلف حكمها باختلاف الحقوق الواجبة على الموصي، فقد تكون الحقوق لله تعالى وقد تكون للمخلوقين، ولها صفة معلومة يذكرها العلماء في بابها. تعريف الوصية ومشروعيتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول رحمه الله تعالى: [كتاب الوصايا] الوصايا: جمع وصية، وهي: عهد بالتصرف مسندا لما بعد الموت. وقد عبر رحمه الله بالكتاب؛ لأن هذه الأحكام والمسائل ليست مبنية على ما تقدم؛ بل إنها منفصلة عن الأبواب والكتب السابقة. ونظرا لاختصاص هذا العهد بجملة من المسائل والأحكام أفرده العلماء رحمهم الله بكتاب مخصوص، فقالوا: كتاب الوصايا. وأصل الوصية: الوصل، يقال: وصى بالشيء ووصى الشيء إذا وصله. والوصية في الأصل: عهد من الإنسان للغير، وقد تكون بالأموال وقد تكون بغير الأموال، وفي اصطلاح العلماء: هي التصرف في الشيء بما بعد الموت، أو التصرف بالشيء مسندا لما بعد الموت. فخرج بذلك التصرف في حال الحياة. وهذا الكتاب يبين العلماء رحمهم الله فيه مشروعية الوصية للإنسان، وما يجوز له أن يوصي به، ولمن يوصى، وما يترتب على الوصية من الآثار والأحكام والمسائل. يقول المصنف رحمه الله: (كتاب الوصايا) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصايا. وقد جمعها المصنف رحمه الله لاختلاف أنواعها، فهناك وصية مشروعة، وهناك وصية ممنوعة، وهناك وصية موقوفة، وكل من المشروعة والممنوعة والموقوفة تشتمل على عدد من الأنواع من الوصايا؛ فلذلك جمعها المصنف رحمه الله إشارة إلى تعدد أنواعها واختلافها. ولقد شرع الله عز وجل الوصية في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية وجوازها، قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة:180] . مشروعية الوصية بالكتاب والسنة والإجماع فقد كانت الوصية مفروضة في أول التشريع، والله عز وجل جعل الوصية للإنسان، يوصي لأقربائه؛ سواء كانوا أصولا كالوالدين، أو فروعا كالأولاد، أو ما يتصل بذلك من القرابة والحواشي. فكان الأمر في أول الإسلام أن المريض مرض الموت يصرف ماله إلى قرابته، فيقول: أعطوا فلانا كذا وكذا، وأعطوا فلانا كذا وكذا من قرابته، فيبدأ بوالديه، ثم الأقرب فالأقرب، ولم تكن هناك مواريث، فكان كل يوصي لقرابته بما يراه. ثم إن الله تعالى تولى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات، فلم يكلها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فنسخت فرضية الوصية، وبقي استحبابها لغير الوارث، وتكون هذه الآية: {كتب عليكم} [البقرة:180] ، أي: فرض، ثم قال الله في خاتمتها: {حقا على المتقين} [البقرة:180] . وهذا يدل على الوجوب واللزوم، لكن هذه الآية منسوخة حكما لا تلاوة، فهي مما بقيت تلاوته، ونسخ حكمه، فهي محكمة تلاوة لا حكما. وقد بين الله سبحانه وتعالى في آيات المواريث في مواضع عديدة من الكتاب استحقاق كل وارث؛ سواء كان من ذوي الفروض من الأصول أو من الفروع، وبينت السنة أيضا أحكام العصبات وما يستحقون في الإرث. وبعد هذا البيان للفرائض نسخت فرضية الوصية، وبقيت على الاستحباب بالنسبة لغير الوارث. وأما السنة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الوصية، لكن السنة فصلت في حكم الوصية: فالشخص لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون عليه حقوق لله عز وجل، أو لعباده، أو لهما معا. الحالة الثانية: أن لا تكون عليه حقوق. فإن كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، أو لعباده أو لهما؛ فإن الوصية فرض عليه، فيكتب الوصية ويبين حق كل ذي حق، وقدر ذلك الحق الذي وجب عليه؛ وذلك كشخص حضرته الوفاة وعليه كفارات، فيكتب في وصيته أن عليه إطعام ستين مسكينا من كفارة ظهار مثلا إذا كان لم يستطع الصوم، ولم يستطع العتق، أو جماع في نهار رمضان، أو يكتب إن عليه دما واجبا جبرانا لواجب في حج، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق، فيكتب في وصيته ما هو حق عليه لله سبحانه وتعالى. والوصية فرض عليه في هذه الحالة؛ لأنه يجب عليه الوفاء بحق الله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما كان الوفاء بهذا الحق متوقفا على أن يعهد إلى ورثته من بعده أن يقوموا بأداء هذه الكفارات وإيصالها إلى أهلها؛ وجبت عليه الوصية بهذا. إذا: الوصية بالحقوق لله سبحانه وتعالى واجبة؛ لأنه وسيلة للقيام بالواجب. وكذلك إذا كان عليه حقوق للناس، مثل ديون لأشخاص، فإنه يكتب في وصيته أن فلان ابن فلان علي كذا وكذا، أو في ذمتي كذا وكذا، ويبين في وصيته اسم ذلك الشخص كاملا وعنوانه، خاصة إذا خشي التباسه بغيره، أو صعبت معرفته إلا عن طريق ذلك، فيجب عليه بيانه. كذلك أيضا تجب عليه الوصية في غير الأموال. الشاهد: أن السنة بينت أن الوصية لها حالتان: فإذا كانت هناك حقوق وواجبات مالية على العبد، فالوصية واجبة عليه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) . فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم لزوم ووجوب الوصية، لكن إذا كان هناك شيء، بمعنى: إذا تعلقت ذمته بحقوق للناس، أو بحقوق لله عز وجل، فليس من حقه أن يضيع هذه الحقوق، أو يتعاطى أسباب تضييعها بالتفريط في الوصية. وأما إذا كان الإنسان خلوا من الحقوق والواجبات التي لله عز جل وللناس، وذمته بريئة من هذا كله، فقد تكون الوصية واجبة عليه من حقوق غير مالية، مثل أن يكون عنده أولاده، وهؤلاء الأولاد دون البلوغ، ولا شك أن الإنسان عرضة للموت في لحظاته فضلا عن دقائقه، فضلا عن ساعات عمره، فضلا عن أيامه، فهو عرضة للموت بين العشية والضحى، فالواجب عليه إذا كانت عنده ذرية ضعيفة، كالقصار والأولاد الصغار، أن يكتب وصية يعهد فيها إلى شخص يثق بدينه وأمانته وعقله وحسن نظره في أمر ذريته من بعده؛ لأن هذا من النصيحة للولد، وأعظم الحقوق بعد حقوق الوالدين حقوق الأولاد؛ لأن الله حمل العبد مسئوليتهم، وألزمه أمانتهم، فالواجب عليه أن لا يدخر وسعا إذا علم أمرا فيه صلاح دينهم أو دنياهم أو آخرتهم أو مجموع ذلك كله إلا ووصى به، فيوصي بذريته الضعيفة، كما أمر الله سبحانه وتعالى وأشار إلى ذلك بقوله: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] . فوصى الله سبحانه وتعالى من ابتلي بالذرية الضعيفة؛ كالأيتام والقصار من بعده، والنساء -ولو كن بالغات فهن يحتجن من يزوجهن ومن ينظر في أمورهن ومصالحهن- أن يكتب وصيته إلى من يثق بدينه وأمانته وعقله من قرابته، فيبدأ بالأقرباء لأنهم أستر وأكثر حفظا للعرض، وأكثر حفظا للسر، فإذا لم يجد في القرابة من تتوفر فيه الصفات وتبرأ به الذمة، عهد إلى من يثق به من إخوانه المسلمين. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الوصية، وقد فعل ذلك أئمة السلف وخيار الناس من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقد وصى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ووصى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصى التابعون لهم بإحسان، والأئمة، ولذلك فلا يشك في مشروعية الوصية، وأنها من أعظم الخير الذي يسديه الإنسان لأهله وولده من بعد موته. صفة الوصية ينبغي على المسلم إذا أراد الوصية أن يبدأ بحمد الله عز وجل والثناء عليه، سواء كانت مكتوبة، أو ملقاة، فيبدأ أولا بذكر اسم الله عز وجل، كما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما حكاه عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يبدءون وصاياهم ببسم الله الرحمن الرحيم. وهذا أصل عند العلماء: أن الأمور التي فيها تذكير بالله عز وجل، وذكر لله سبحانه، تستفتح باسمه؛ لأن اسم الله مبارك، كما قال تعالى: {تبارك اسم ربك} [الرحمن:78] ، فاسم الله فيه البركة والخير، وما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، فليس هناك أبرك من اسم الله عز وجل. فيبدأ وصيته ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم يحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهله، ثم يبدأ بأعظم الوصايا وأجلها وهي الوصية بتوحيد الله عز وجل، كما أخبر الله عن أنبيائه وصفوته من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فقد وصى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بنيهم أن لا يشركوا بالله شيئا، وأن يفردوا الله بالعبادة، وأن يقوموا بحق الله عز وجل، وأعظم تلك الحقوق توحيده سبحانه وتعالى. فيوصي أولاده بتوحيد الله أولا، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والقيام بحقوقه الواجبة من إقامة الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وغيرها من فرائض الإسلام، فيجمل أو يفصل تفصيلا مناسبا لا إطالة فيه. ثم بعد الوصية بحق الله عز وجل يبدأ بالأهم فالأهم من أموره؛ فيبدأ أول ما يوصي به بعد ذلك أن يوصي بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه على وفق السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحذر ذريته من البدعة والحدث، وإحداث الأمور التي لم يأذن الله عز وجل بها في تغسيله، أو تكفينه، أو الصلاة عليه، أو تشييعه، أو دفنه، فيحذرهم من البدع في ذلك كله، ويأمرهم بما أمر الله ورسوله به، ويذكرهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم بالرجوع إلى العلماء ومن يوثق بدينه وعلمه؛ لكي يقوم بذلك على وجهه المعتبر. ثم بعد ذلك يوصي بما يتبع ذلك من العزاء وغيره من الأمور، ألا يحدث فيها شيء من البدع، ويوصيهم بالصبر واحتسابه عند الله عز وجل، وأن في الله خلفا من كل فائت، فالله عوض للعبد من كل ما يفوته من الدنيا وما فيها، ومن كانت سلوته بالله عز وجل جبر كسره، وأعظم أجره، وأخلف عليه بأحسن الخلف سبحانه وتعالى، ويوصيهم بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في المصائب من الاسترجاع وسؤال الله الخلف، وهو حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين. ثم بعد ذلك يوصيهم بحقوق القرابة التي هي أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل، فيوصهم ببر الوالدين، فإن كان والدا وصاهم ببره من بعد موته؛ بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له، وسؤال الله عز وجل أن يفسح له في قبره، وأن يحسن له فيما يكون من آجل أمره. ويوصيهم ببر والدتهم إن بقيت من بعده، فيوصيهم بوالدتهم خيرا، وفاء لزوجه وحفظا لحقها، وكذلك أيضا يوصيهم ببعضهم خيرا إن كانوا إخوة؛ أن يحفظوا حقوق الأخوة، وأن يجتمعوا ولا يفترقوا، وأن يتواصلوا ولا يقطع بعضهم بعضا، وأن يتقوا الله عز وجل في بعضهم فيحسنوا ولا يسيئوا. كذلك أيضا يوصيهم بأضعفهم، فيوصي الذكور بالإناث خيرا؛ لأن المرأة ضعيفة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حقها فقال عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم) ، فيوصي الذكور بأخواتهم خيرا؛ أن يحسنوا إليهن، وأن يكونوا على أحسن ما يكون الأخ لأخته، خاصة أن الأنثى بعد فقد الوالد تشعر بفراغ كبير، وعجز عظيم، فإنها تفقد حنانا عظيما، والله عز وجل إذا أراد بها خيرا بارك لها في أخيها، فكم من أخ مبارك قام على إخوانه مقام والده! فيوصي الإخوان بأخواتهم خيرا، ويذكرهم بصلتهم وزيارتهم وتفقد أحوالهم من بعد موته، ودائما يكون الأخ حافظا لهذه الوصية حتى ولو لم يوص بها الوالد، فإن للأخت على أخيها حقا عظيما، وتحتاج إليه ولو كانت مزوجة؛ بل قد تكون الأخت بعد زواجها أحوج ما تكون إلى عطف أخيها وبره وصلته، أكثر مما لو كانت غير ذات زوج. فتحتاج إلى أن تستشيره، وتحتاج إلى معونته ومواساته، وتحتاج إلى كلمة منه تثبتها في همومها وغمومها، فهذا مما يوصى به -حقوق الإخوان والأخوات- ويوصي الأخوات بإخوانهن خيرا كذلك. ثم ينظر إلى الأمور التي يحتاج إليها من بعد موته، فيوصيهم أن لا تفرق الدنيا بينهم خاصة في أمور الإرث؛ فيوصي الذكور بحفظ حقوق الإناث، ويوصي القوي أن يحفظ حق الضعيف، وأن يتقي الله جل جلاله في حقوق إخوانه القصار كالأيتام والضعفة، فلا يأكل أموالهم بناء على أنهم صغار ويقول: إذا كبروا أعطيهم المال، فهذا من التفريط؛ لأنه لا يأمن أن تتغير أموره، ولا يأمن الفقر، فيحفظ أموالهم كاملة تامة غير منقوصة، ويحرص على حسن النظر فيها إذا كانت المتاجرة بها فيها خير ومصلحة، ويوصيهم بحفظ حق العاجز والمحتاج، مثل المتخلف في عقله، أو الذي فيه سفه في تصرفه، فيوصي بعضهم ببعض خيرا على هذا الوجه. ويفضل أن يجعل أحدهم قائما عليهم، ويكون كالخليفة من بعده في ولده، وبالأخص إذا كان أكبرهم سنا، فإن الأكبر له حق على الأصغر وهو مقدم عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه لما أراد حويصة أن يتكلم قال عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر) ، فيقدم الكبير إذا كان أكثر عقلا، وأكثر نظرا، وأكثر رحمة وشفقة. وينظر إذا كان الكبير ليس بهذه المثابة، وعلم أن أصغر أولاده، أو الأوسط، أو أحدهم ممن هو أصغر منه أكثر ديانة، وتقوى لله عز وجل، وحفظا للحقوق، فإنه يجعل العهد إليه، ويسلي من هو أكبر؛ فيعتذر له بالتي هي أحسن، ويقول له قبل موته: إني كنت سأوصي إليك، ولكن يعتذر إذا استطاع حتى ولو بالتورية، ويقول: أراك مشغولا، ولا أريد أن أحملك، أو نحو ذلك، مما يكون فيه جبر لخاطره، وإطفاء لنار الفتنة أن يوغر صدره على أخيه. فيوصي بالأرشد فالأرشد من أولاده، والأتقى لله عز وجل؛ لأن التقي يخاف الله عز وجل، ويرجع إلى العلماء حتى يسعى في فكاك نفسه من النار، فيحرص على أن يولي أمرهم من يخاف الله عز وجل ويتقيه فيه. وإذا كانت هناك أمور يحتاجها، مثل أن يتصدق بصدقات أو هبات فيسمي هذه الصدقات، ويقول: أخرجوا من مالي كذا وكذا في سبيل البر، أو في سبيل الخيرات، أو أخرجوا من مالي كذا وكذا إفطارا للصائمين، أو أضحية، أو نحو ذلك من الوصايا التي يجعلها من بعد موته في حدود الثلث فما دونه كما سيأتي. كذلك أيضا إذا أراد الوصية ينتبه لحقوق الناس، فيوصي أولاده بالأقرباء من الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فيوصيهم بالقرابة خيرا، ويوصيهم بأهل وده ومحبته من بعد موته، أن يوصلوا ولا يقطعوا، وأن يحسن إليهم ويبروا ويكرموا؛ إنفاذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ببر الوالدين في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) . فإذا كان له إخوان وأصدقاء فيهم حاجة، وهو غني ثري وترك لورثته مالا، وكان يتفقد إخوانه وأصدقاءه بالمال، فيوصي أولاده أن يتفقدوا هؤلاء الإخوان والخلان؛ لأن هذا من حفظ العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) ، فإذا كانت بينك وبين أخيك محبة ومودة ولو مجلسا واحدا جلسته معه على ذكر الله وطاعة الله فأحببته في الله، فإنه يربطه بك حق عظيم. فهذا من حفظ العهد، أن توصي بإخوانك وأصدقائك وخلانك أن يزاروا، فربما زارهم ابن من أبنائك ففرج الله به كرباتهم، فكان سببا في الترحم عليك والدعاء لك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) ؛ لأنه إذا جاء الابن بعد وفاة أبيه لزيارة صديقه تذكر الصديق ما كان عليه صديقه من المحبة، ولربما بكى فخشع قلبه فترحم عليه، ولربما سامحه في حقوقه التي هي عليه، فهذا كله فيه خير كثير للميت. ولم تأت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم به من فراغ، فيحرص على وصيتهم بأصدقائه وإخوانه، ووصيتهم بالجيران، وغير ذلك مما وصى الله به من الأعمال الصالحة. فإذا كانت الوصية مستجمعة للخير أعظم الله الأجر للموصي، وكتب ثوابه، وختم له بخاتمة الحسنى؛ لأنه عمل صالح من بعد موته يأجره الله عليه، فكم من أبناء وبنات صلحت أحوالهم بالوصايا! فالوصايا لها وقع بليغ في القلوب والنفوس. ومما وقع أن رجلا كان له أولاد، وكانوا على أشر ما أنت راء من الفرقة والعداوة والتقاطع والتهاجر، فكتب وصيته، فأوصاهم بتقوى الله عز وجل، وذكرهم بحقوق الأخوة من بعد موته، فلما مرض مرض الموت اجتمعوا عنده، وأمرهم أن يقرءوا وصيته من بعده، فلما توفي تأثروا جميعا، وانكسرت قلوبهم، فلما فتحوا وصيته وقرءوها بكوا جميعا، وأقبل بعضهم على بعض، وسامح بعضهم بعضا، وكانوا على خير ما يكون الأخ مع أخيه، فالله يكتب له ثواب إصلاح ولده من بعده، فالوصايا لها أثر عظيم في القلوب. ويستحب أن تقرأ الوصية قبل تجهيزه وتكفينه؛ لأنه ربما كانت فيها أمور كأن يوصي لشخص معين أن يغسله، كأن يكون عالما، أو طالب علم، فيحسن تغسيله على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما وصى بشيء يخرج عنه، أو حق يؤدى عنه، فهذا كله فيه احتياط، وهو كونها تقرأ قبل تجهيزه وقبل الصلاة عليه؛ لأنهم إذا فعلوا ما فيها آجره الله وأعظم ثوابه. والوصية إذا جمعت هذا الخير الكثير؛ لا شك أنها تحقق الهدف الذي من أجله شرعت، فالله عز وجل فتح أبواب رحمته لعباده، ولم يجعل الإحسان للعبد في حال حياته فقط؛ بل جعل له أبواب الخير بعد موته من صدقات فيوصي بها مثل الأوقاف، فإذا رأى من المصلحة أن يكون هناك وقف أوقف، ووصى من يراه صالحا بالنظارة وعهد به إليه، كما فعل الخلفاء الراشدون كـ عمر رضي الله عنه وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا استجمعت الوصية هذه المقاصد ا اختيار الكلمات الجامعة النافعة في الوصية فيحرص الإنسان على الوصية، ولا يقول: قد أثقل أو أطول عليهم، فقد تكون مقاصد الوصية وكلماتها لها أبلغ الأثر، واختيار العبارات المؤثرة، فإن الورثة ينظرون إلى هذا الكتاب وهذه الوصية أنه بقية مما ترك والدهم، وينظرون إلى كلماته كلمات ميت إلى أحياء، ويحسون وهم يقرءون الوصية أنها من والدهم، وأن والدهم مشفق في هذه الكلمات، فتقع في نفوسهم موقعا بليغا وتؤثر أثرا عظيما. فإذا اخترت لها جوامع مقاصد الإسلام العظيمة فقد أعذرت إلى الله عز وجل، وأيضا حركتهم للخير، فقد تجد الرجل العاقل الحكيم يقول كلمة في وصيته فيفتح بها -بفضل الله- أبواب الخير لذريته، فيقول في وصيته مثلا: أوصي أولادي بمحبة العلماء والرجوع إلى العلماء، فيمكن أن تكون هذه الوصية سببا في سعادة ولده في الدنيا والآخرة؛ لأنه لما ربطهم بأهل العلم، ووصاهم بأهل العلم، فقد وصاهم بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم. وتجد الآخر يقول: أوصيهم بلزوم السنة ومحبتها، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيصبح الولد كلما سمع شيئا فيه سنة وهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على تطبيقه واتباعه ولزومه. والكلمات الجامعة والوصايا العظيمة المؤثرة البليغة هي التي تصل إلى المراد {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، ولذلك فإن الله عز وجل اختار للمواعظ وللوصايا ما يؤثر، وقال في الوصية في الذرية الضعيفة: {فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] . ولن يكون القول سديدا إلا إذا وافق الحق، وسدد صاحبه، فأصبح لسانه يقول ما قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، ويوصي بما وصى به الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويقرأ المسلم وصايا السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ويهتدي بهذا الهدي المبارك. أمور ينبغي توفرها في الوصية وينبغي للمسلم أن تكون وصيته جاهزة، فلا يبيت إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه، وينبغي عليه أن يحتاط في هذه الوصية، فيشهد عليها عدلين إذا كانت فيها حقوق؛ لأن هذا يثبت الوصية، ويعين على وصول الحق إلى أهله، وإذا كتبت فتكون بخط واضح ومقروء. كذلك أيضا يضعها في مكان أمين بحيث إذا احتيج إليها بعد وفاته يعرف مكانها، فيقول: يا أولادي! وصيتي في هذا المكان، أو في هذا الدرج، أو مكتوبة عند رأسي، فإذا توفيت فخذوا هذه الوصية، وليس المراد أن يضعها تحت رأسه كما يفعل البعض؛ لأنه قد يكون فيها ذكر الله عز وجل وأسمائه وآياته، إنما عند رأسه يعني قريبة منه، ولأن الإنسان إذا توفي في نومه يبحث عن الأشياء القريبة منه فتوجد وصيته، وهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون قريبة منه، ولذلك يحرص الوالد، وتحرص الوالدة، ويحرص كل مسلم على وضع الوصية في مكان تحفظ فيه. كذلك أيضا في بعض الأحوال خاصة إذا كان الشخص عنده مال وافتتن بكثرة المال، وافتتنت ذريته، ويكون في أولاده -لا قدر الله- من فيه جرأة على تغيير الوصية، أو التلاعب فيها، فينبغي أن يحتاط. فإذا علم أن هناك من ورثته من يتلاعب ويغير في الوصية؛ كتب الوصية وعهد بها إلى قريب من أقربائه، أو إلى رجل أمين، ويجعل الوصية عنده إذا خاف من أولاده أن يتلاعبوا في الوصية، أو يضيعوا، كما يكون في بعض الأحيان فقد يعتدي الذكور على حقوق الإناث، فيحتاط بذلك، أو يعلم أن الكبار لا يرضون بوصيته للصغير، فيحتاط بكتابة الوصية وإعطائها من يحفظها، بحيث إذا احتاج ولده إليها من بعد موته فتكون محفوظة، إلى غير ذلك من الأمور التي يتحقق بها المقصود في الوصايا. وإذا اتقى العبد ربه جعل له من أمره يسرا، فشرح صدره، ويسر أمره، ورزقه التوفيق والسداد في أموره كلها. الأسئلة حكم التصدق عند الموت بثلث المال السؤال التصدق بثلث المال عند الموت، هل هو مندوب إليه ومن السنة، وهل ورد فيه فضل خاص؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمريض مرض الموت أن يتصدق بثلث ماله، وقال: (الثلث والثلث كثير) ، لكن هذا على سبيل الإباحة، ثم يفصل في الناس، فإذا كان الشخص غنيا، وماله كثير، وهناك أقرباء لا يرثونه، وهم محتاجون، فإنه حينئذ يستحب له أن يوصي لمثل هؤلاء؛ لما فيه من الصلة والبر، ولأنه لا يضر ورثته. أما لو كان قليل المال، أو المال الذي يتركه ليس بذاك، أو ترك مالا ولكن ترك عيالا كثيرين، وهم محتاجون لهذا المال، فحينئذ يبدأ بأقربائه، فيترك ورثته على غنى أفضل من أن يتصدق، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فمن أفضل ما تصدق به الإنسان بعد موته أن يترك ورثته أغنياء لا يحتاجون إلى الناس؛ فإن من أعظم البلاء والكرب حاجة الإنسان إلى الغير. فنسأل الله العظيم أن لا يجعل لنا ولا لكم إلى لئيم حاجة، فالذل والفاقة تكسر الإنسان، ولربما كذب الصادق وخان الأمين بسبب الفقر والعياذ بالله! والفقر قد يهلك الإنسان، وقد يجره إلى ما لا تحمد عقباه، فيعد ولا يفي، ويقول ولا يصدق، وكل ذلك تحت الضرورة، وتحت وطأة الفقر وشدته. فلذلك لو ترك الورثة على غنى وكفاف، وعدم حاجة، فلا شك أن هذا أفضل، أما إذا كان المال كثيرا، وهناك قرابة محتاجون، ولا شك أنه إذا أوصى لهم يجبر كسرهم، ويكون له فيه أجر كثير، فحينئذ يستحب له أن يوصي، ويكون له في ذلك الأجر من الصلة والبر، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم شراء الكفن وجهاز الموت حال الحياة السؤال إن في كتابة الوصية تذكير العبد برحيله من الدنيا، فهل من السنة أيضا أن يشتري أكفانه ويضعها عنده، وكذا ما يحتاج إليه من الجهاز للموت؟ الجواب هذا الأمر في الحقيقة فيه تفصيل: فإن كان الشخص يخاف من المال الحرام، ومن الكفن بمال حرام؛ فإنه يحتاط، وله الحق أن يوصي، ولذلك وصى أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه في كفنه ألا يكون فيه مال فيه شبهة، فإذا كان الإنسان يخاف من المال الحرام، أو هناك أقرباء له، وأعمالهم مشبوهة، وتجارتهم فيها حرام، وفيها كسب حرام، واحتاط فاشترى كفنه، فلا شك أن هذا فيه خير كثير له، وفيه سلامة له وعافية، فمثل هذا لا بأس به. وأما إذا كان الأمر على سعة فالأمر فيه على سعته، فلا داعي أن يضيق على نفسه، أو يعين له كفنا معينا، لكن ليس هناك من بأس، وقد أثر حتى عن بعض السلف الصالح رحمهم الله في قضية الكفن أنهم اختاروا لأنفسهم أكفانهم وألزموا بها، ولا بأس في ذلك، لكن المعول أن يكون كسب الكفن من حلال لا من حرام، والله تعالى أعلم. حكم وضع المحتدة للصبغة أو الإثمد على العينين للضرورة السؤال امرأة توفي عنها زوجها، وهي تشتكي عينيها، فهل يجوز أن تضع فيها صبغة أو إثمدا يسكن هذا الألم، مع أنها كبيرة في السن؟ الجواب الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الزينة بالنسبة للمرأة المحتدة، ولما اخبرته المرأة أن ابنتها تشتكي عينيها قالت: (أفنضمدها بالصبر؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا) ، ومنعها من ذلك؛ لأنه فيه زيادة التجمل، واغتفر بعض العلماء الدواء الذي لا زينة فيه، فإذا تيسرت القطرة التي لا زينة فيها فلا إشكال؛ لأنه يوجد البديل الذي لا زينة فيه، وأما إذا كان الدواء يشتمل على تزين، ويوجد هناك دواء لا زينة فيه، فلا شك أنه يتعين ما لا زينة فيه، ومن هنا وجود القطرات التي يمكن وضعها والتداوي بها تغني عن مثل هذا، والله تعالى أعلم. الوصية بكتب العلم ووقفها السؤال هل الكتب لطالب العلم تعتبر من الأموال فلا يزاد عن الثلث فيما لو أراد أن يوقفها على طلاب العلم ونحو ذلك؟ الجواب أما من حيث الأصل فالكتب أموال، وتأخذ حكم التركة، فلو ترك كتبا من بعده فتقيم هذه الكتب، فلو كانت بستة آلاف وأوصى بثلثها؛ فإن وصيته تنفذ في الثلث، ولا تنفذ فيما زاد إلا بإذن الورثة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما الكتب فإنها مال، ومن أفضل المال وأطيبه. لكن بالنسبة لقضية وقفية الكتب ينبغي أن يكون الإنسان بعيد النظر في الوصية، فإذا كانت الوصية بكتب فينبغي أن يضع في حسبانه أن الكتب تحتاج إلى أماكن توضع فيها، وتحتاج إلى قيم يقوم عليها، وهذا أمر يحتاج إلى احتياط، فلا يحمل الورثة ما لا يطيقون من بعد موته، ولا يلزمهم بشيء يعلم أنهم لا يقومون به، أو لا يستطيعون القيام به فيدخل عليهم الإثم، ولا ينصح لهم. فإذا كانت الكتب يمكن وقفيتها، ووضعها في أوقاف عامة، مثل المدارس التي يحتاج فيها إلى وجود المكتبات، أو الجامعات والمكتبات العامة، فهو أفضل، والمهم أنه يحتاط ويضع في حسبانه الأمور اللازمة لوقفية المكتبات، ولا يحرج ورثته، ويحملهم ما لا يطيقون، الأمر الذي قد يفضي بهم إلى الإثم والعقوبة، والله تعالى أعلم. السؤال من تذكر أنه لم يصل صلاة الفجر، وهو قد صلى العشاء، فهل يعيد صلاة الفجر فقط أم يعيد من صلاة الفجر إلى العشاء على الترتيب؟ حكم من نسي صلاة الفجر إلى ما بعد العشاء الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: فقالت طائفة من أهل العلم: يجب الترتيب، ولا تصح العشاء إذا لم يصل المغرب، وبناء على هذا القول: يلزمه أن يعيد الفجر ثم الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهذا القول هو الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] ، فنص سبحانه على تأقيت الصلاة، والتأقيت هو التحديد. وبناء على ذلك: لا تصح الظهر إلا بعد الفجر، ولا تصح العصر إلا بعد الظهر، ولا تصح المغرب إلا بعد العصر، ولا تصح العشاء إلا بعد المغرب، كما رتبها الله عز وجل. وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أنه لما شغل يوم الخندق -قبل شرعية صلاة الخوف- عن الصلوات، ففاتته صلاة العصر؛ صلى العصر ثم المغرب ثم العشاء، فراعى الترتيب عليه الصلاة والسلام، مع أن الوقت الذي صلى فيه كان محتاجا إلى تدارك وقت المغرب؛ لأنه أتاه عمر رضي الله عنه وقد غربت الشمس فقال: (يا رسول الله! والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان ... ) . يقول: (حتى كادت الشمس تغرب) ، ومعناه: أنه بعدها صلاها غابت الشمس مباشرة، فاحسب حساب وضوئه وصلاته للعصر -أعني عمر - ثم مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا بنا إلى بطحان) . ومن يعرف المدينة يعرف أن الثغر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يناضل فيه المشركين، ويرميهم بالنبل، بعيد عن بطحان، فهناك مسافة بين الجبهة التي كان فيها الرمي وبين بطحان بما لا يقل عن ربع ساعة تقريبا، إذا نزل الإنسان من طرف الثغر الذي كان يرامي ويراشق فيه المشركين -صلوات الله وسلامه عليه- وهو سفح جبل سلع الشمالي الغربي، فنزل عليه الصلاة والسلام وقال: (قوموا بنا إلى بطحان) ، فنزل إلى بطحان، وتوضأ من بطحان ثم صلى، قال الراوي: (فصلى العصر والمغرب والعشاء) . فلا شك أنه كان محتاجا إلى تدارك وقت المغرب؛ لأن أقل ما فيه أنه سيدرك آخر وقت المغرب؛ فكونه عليه الصلاة والسلام يبدأ بالعصر قبل المغرب، مع أن المغرب يخشى فواتها، يدل على لزوم الترتيب، وهذا هو الأصل، وهو القول الصحيح إن شاء الله في هذه المسألة، أن من نسي صلاة فإنه يعيدها ويعيد ما بعدها من الصلوات؛ لأنه لا تصح صلاة إلا وهي مرتبة على التي قبلها. وهناك قول يغتفر الترتيب ويصحح الصلاة البعدية إذا نسي القبلية، فيصلي القبلية ولو صلى بعدها الصلوات، والصحيح ما ذكرناه، والله تعالى أعلم. السنة في التعزية السؤال ما هي السنة في التعزية والجلوس لها؟ الجواب أولا: تعزية المسلم لأخيه المسلم جبر لخاطره، ومواساة له في مصابه، يثبت الله بها قلبه، ويسدد بها لسانه، ويشرح بها صدره، فكم من كلمات طيبات مباركات من المؤمنين والمؤمنات، في الحوادث والملمات، دفعت عن أهلها هموما وغموما، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فالمسلم يحتاج إلى تعزية أخيه ومواساته. وخاصة في حال فقد العزيز من والد أو والدة أو أخ أو أخت أو ابن أو بنت، فيواسي المسلم أخاه المسلم، فيذكره بما عليه السنة في المصيبة من الاسترجاع، وسؤال الله عز وجل حسن الخلف، وحسن العوض. ويذكره بأن الله سبحانه وتعالى فيه عوض عن كل فائت، فلو زالت الدنيا عن العبد، فإن الله تعالى إذا تأذن له بحسن الخلف سيعوضه خيرا منها عاجلا أو آجلا، وكم من مصائب وكوارث ومتاعب عادت على أهلها بكل خير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فأول ما ينبغي عليه أن يثبت قلب أخيه. ثانيا: إذا جاء في التعزية يراقب حال أخيه فإن رآه على سنة ثبته عليها، وإن رأى منه خطأ أو تقصيرا أو بدعة أو ضلالة ذكره بالله، ونصحه، فأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وحذره من معصية الله عز وجل في عزائه من إحداث القراء وإحداث البدع في البيوت، والمبالغة في وضع الكراسي ووضع الأنوار على البيوت، مما قد يكون في بعض الأحيان من أموال اليتامى والقصار، ففيه اعتداء على الأموال التي أمر الله بحفظها لأهلها، أو الإتيان بالقراء أو الذبائح، أو إطعام أهل العزاء، ونحو ذلك من الأمور المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي أحدثها الناس بمحض أهوائهم، وجارى بعضهم بعضا محاباة. فينبغي تذكير الناس في مثل هذا، وينبغي على طلاب العلم أن ينصحوا، وعلى أئمة المساجد أن يذكروا، فكلمة الحق منهم غالبا مسموعة، وألا يجامل الناس في مثل هذا، فإذا كان المبتدع لم يجامل في بدعته، ولم يخف منك، فينبغي عليك وأنت على الحق وعلى السنة ألا تجامل، وألا تخاف منه؛ بل تبدي له الحق وتقول له: يا أخي! هذا لا يجوز، وهذا فيه اعتداء على السنة. ولو أن العزاء يذكر فيه الناس بعضهم بعضا بالسنة، ويحذر بعضهم بعضا من البدعة؛ لأحييت سنن المرسلين ولأميتت بدع المضلين، ولكن السكوت على مثل هذه المنكرات، ومجاراة الناس فيها، كل ذلك جرأ أهل الباطل على باطلهم، فلا ينبغي لطلاب العلم، ولا للأخيار ولا للصالحين أن يسكتوا عن مثل هذا. وكذلك يسن في التعزية أن يتفقد الإنسان ما يحتاج إليه الميت بعد موته؛ فإذا كانت هناك أمور يوصي ورثته بها مما فيه خير في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم فإنه يأمرهم بها. وليس هناك لفظ معين في العزاء، فكل شيء قاله مما يجبر به كسر أخيه المسلم فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الناس بكلمة معينة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب) ، فهذا وقع قبل موت الغلام، كما هو معلوم ومعروف من سياق القصة، قاله لأنها أرسلت إليه أن اشهد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (فمرها فلتصبر ولتحتسب) . فهذا ليس بإلزام بلفظ العزاء، لكن لو قاله الإنسان لأخيه فهو على سنة وخير؛ لأنه لفظ يتضمن المعاني المقصودة: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب) ، وهذا شيء طيب، وكلام مناسب، يناسب الصدمة ويناسب الحال؛ لكن لا نستطيع أن نفرضه على الناس، ونقول: لا يقول أحد عند العزاء إلا هذا، بحيث لو جاء أحد يقول لأخيه: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، فنقول له: هذا بدعة. ولو كان هناك لفظ مخصوص لما سكت الكتاب والسنة عنه؛ لكن لما ترك الناس لما يكون فيه جبر للخاطر، ومواساة له، فكل كلام تقوله تجبر به خاطر أخيك، وتجبر به كسره؛ فإنه مما فيه الخير له ومن البر والصلة، وأنت مأجور عليه. وإذا اخترت الوارد -كما ذكرنا- فهذا أفضل، لكنه ليس بلازم وفرض على الإنسان أن يقوله، وأيا ما كان فينبغي الحرص على السنة، وأمر الناس بها، ودلالتهم عليها في التعزية وغيرها، والأمور التي يفعلها الناس مما يكون منها في مقام العبادات يتوقف فيه على الوارد، وما يكون منها خارجا عن العبادات فإنهم لا يلزمون بما ليس بلازم. فإذا أراد أن يعزي القرابة فيبدأ بكبيرهم وذي الحق منهم، ويبدأ بمن هو أعظم مصيبة؛ كأولاد الميت ونحو ذلك، يبدأ بهم لأن الحق لهم آكد، وقد جاء لحق فيبدأ به، قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث عتبان حينما قال له: (إني أريدك أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان أتخذه مصلى) فلما دخل البيت -بيت عتبان -، كان أول ما كلمه قال: (أين تحب أن أصلي لك؟) . فقالوا: إن في هذا الحديث دليلا على أن من جاء لأمر فيبدأ به قبل كل شيء، وكان عتبان قد ذبح وأعد طعاما، وصنع طعاما، فقبل أن يطعم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه بدأ بالشيء الذي جاء من أجله. فلما كان المقصود هو التعزية وجاء من أجل التعزية، فإنه يبدأ بأحق الناس بالتعزية، وهم أقرباؤه كالوالدين، والمرأة تبدأ بالوالدة، وأولاد الميت، فيبدأ بذي الحق، ثم بعد ذلك الأقرب فالأقرب. وما يحدث من الناس في بعض الأحيان أنك ترى الكبير يرتب بعضهم بعضا، فيقف الكبير ثم من بعده الصغير، فإن هذا قد اغتفره العلماء والمشايخ، وقد أدركنا أهل العلم لا ينكرون في مثل هذا؛ لأنك لا تستطيع أن تأتي بين أمة على القبر في بعض الأحيان يصلون إلى ألف شخص فتظل تبحث عن قرابة الميت. فلابد أن تعرف قرابة الميت، فحينما يصطفون ويعرف كبيرهم، ويعرف ذو الحق منهم، فهذا أمر وسع فيه العلماء، وما أدركنا أحدا من مشايخنا رحمة الله عليهم يشدد في هذا؛ لأنهم لا يقصدون به العبادة، ولا يقصد به شيء معين للتعبديات. لكن من البدعة والحدث وضع الأيدي على الأكتف، فإن هذا شيء ليس له أصل، بل تسلم عليه وتصافحه، فالمصافحة هي السنة، وتأمره بالصبر واحتساب الأجر، وكذلك تعزي أكثرهم ألما، ومن ترى فيه الحزن أكثر تشد عليه وتذكره أكثر، فهذا أمر ينبغي مراعاته أثناء العزاء. أما كونهم يجتمعون في بيت الميت فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعدون الجلوس في بيت الميت من النياحة، وهذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان الناس قليلين، ويمكن أن تعزي الرجل وتراه في المسجد. ولكن في زماننا توسع العلماء رحمهم الله من المتأخرين في مسألة حضورهم في بيت واحد؛ لأن ذلك أرفق على الناس، ومن الصعوبة بمكان -خاصة في الأزمنة المتأخرة- أن تنتقل بين عشرة أو عشرين بيتا -وهم قرابة الميت- في مدينة واحدة، وهذا لا شك أن فيه صعوبة عليهم، فإذا اجتمعوا في بيت أكبرهم، أو في بيت القريب الأقرب، وجاء الناس وعزوهم جميعهم في مكان واحد، فهذا لا بأس به، وقد خفف فيه بعض العلماء. ولكن الجلوس لغير الحاجة، مثلما يقع من بعض الناس من الإتيان إلى أهل الميت وإطالة الجلوس عندهم، كل هذا من البدع والمحدثات، ولا شك أنه يترتب عليه ضرر لقرابة الميت، والمنبغي هو التخفيف عليهم والتوسعة عليهم. وكذلك إحضار الطعام، والتكلف في الولائم، كل هذه من الأمور التي أحدثها الناس، إلا ما وردت به السنة عند الصدمة الأولى من صنع الطعام في اليوم الأول، فإن وافق الموت ظهرا صنع لهم طعام الغداء، وفي الحقيقة الذي يظهر هو جواز صنع طعام الغداء، أما طعام العشاء ففي النفس منه شيء، ويكون ذلك مرة واحدة؛ لأنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاما) ؛ لأن الإنسان يطعم في يومه. والذي يظهر أنه في حدود الحاجة كالغداء، وأما أن يصنع الغداء ثم العشاء ثم الغداء في اليوم الثاني ثم العشاء، ويرتبون على ذلك ثلاثة أيام، فإن هذا من البدع والحدث، وما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك شدد الناس على أنفسهم، وضيقوا على أنفسهم في هذا، فكلفوها ما لا تطيق من الذبائح والولائم. نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة، وأن يعيذنا من البدعة، والله تعالى أعلم. حكم من ماتت وعليها صيام قضاء وصيام نذر السؤال امرأة كانت إذا حاضت لا تقضي الصيام، وكانت لا تصوم أيضا، وعندما كبرت ندمت، وقالت: يا رب إن أبقيتني حية لأصومن ستة أشهر، فصامت منها شهرين ونصف، فما الحكم؟ الجواب إذا نذر المؤمن أو المؤمنة شيئا، وكان في ملكه ذلك الشيء؛ لزمه الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، فأمر عليه الصلاة والسلام الناذر إذا كان نذره نذر طاعة أن يفي بنذره، فدل على لزوم النذر إذا التزمه الإنسان. وإذا عجزت المرأة عن إتمام الصوم، ولم تستطع ذلك؛ فإنه لا وفاء في نذر لا يملكه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عتق فيما لا يملك، ولا نذر فيما لا يملك) ، فإذا كان يتعذر عليها الصوم، أو حصل ما علقت عليه النذر بعد عجزها عن الصوم؛ فإنه يسقط عنها الصوم، وحينئذ يرى بعض العلماء أنه يسقط كلية، وبعضهم يرى أنه يلزمها أن تكفر؛ لأن نذرها انعقد. ولا شك أنها إذا عجزت بالكلية، أو وافق وقت الوفاء عجزا كليا فإنه يسقط النذر على ظاهر السنة التي ذكرنا. أما بالنسبة للصوم الذي تركته حينما كانت تحيض، فالصوم الذي تركته يجب عليها قضاؤه، وهو مقدم على نذرها، فتبدأ أول شيء بالصوم الذي فرضه الله عز وجل عليها وتبرئ ذمتها منه. وأما الجهل فليس لها فيه عذر؛ لأن هذا مما يمكن السؤال عنه، والعذر بالجهل يكون في أحوال مخصوصة، ومسائل ضيقة جدا، أما شخص يأتي في ركن من أركان الإسلام، أو في أمر من أمور دينه فرض عليه أن يسأل عنه ويتعلمه، ثم لا يسأل ولا يتعلم، ثم يقول: كنت جاهلا؛ ثم نعذره بالجهل أبدا. وذلك مثل شخص يأتي للحج والعمرة، فيفعل ما يشاء في عمرته، ويفعل ما يشاء في حجه، ثم يقول: لم أكن أعلم، فلا يقبل من ذلك؛ فإن الله قد فرض عليه أن يتعلم، وفرض عليه أن يسأل، وفرض عليه أن يرجع إلى أهل العلم: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] ، فيقصر في الرجوع ثم نعطيه الرخصة، حاشا وكلا! ومثل هذا ليس بمعذور؛ بل هو مفرط، ومن فرط ألزم بعاقبة تفريطه، ومثل هذه المرأة تلزم بقضاء ما كان عليها من الصوم، وإن لم تستطعه تحديدا بنت على تقديرها، وحسبت كم أيام عادتها، ثم بعد ذلك تحسب السنوات التي كان عليها صيام من رمضان فيها، فتقضيها جميعها، والله تعالى أعلم. من يقدم في الطاعة من الوالدين؟ السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي: (أمك ثم أمك) ، يشكل علي هذا الحديث أني إذا دخلت على الوالدين فلا أدري من أبدأ بالسلام، وكذا لو اتصلت بالهاتف لا أدري من أطلب منهما، وأخشى لو ابتدأت بالأم أن أجرح الوالد، أو أن يشعر أن في ذلك انتقاصا له، فما الحل لهذا الإشكال؟ الجواب من حيث الأصل حق الأم أعظم من حق الأب، وهذا لا إشكال فيه، ولذلك اختار جمع من العلماء أنه لو مات والداه ولم يحجا وأراد أن يحج عنهما، فيبدأ بالأم قبل الأب؛ لعظيم حقها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لما سأله الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) . فجعل حقه بعد حقها مرتبا ثلاثا، وعظم حقها بالتكرار ثلاثا، ولذلك جعلوا لها من الحق أضعاف ما للوالد، والواقع يصدق ذلك؛ فإنها حملته وهنا على وهن، وتحملت في حمله ووضعه وإرضاعه وفصاله ما لم يتحمله الأب، فعظم الله عز وجل حقها، فالأم أحق من هذا الوجه. لكن ولاية الأب على البيت، وولايته على الأسرة، قد يكون هذا خاصا، بمعنى: أنك إذا دخلت في مكان فتنظر إلى ذي الحق، فالوالد في البيت حقه أقوى من حق الأم من جهة الولاية، ولذلك جعل الله الولاية للرجل على أهله، قال عليه الصلاة والسلام: (الرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته) ، أي: مسئول عن زوجته وأولاده؛ لأن الله جعل المرأة تبعا للرجل تقوم على شأنه، كما قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] ، فالرجل له حق الولاية، ومن دخل في مجلس، أو دخل في مكان ابتدأ بذي الحق. ولذلك إذا دخلت في مجلس؛ فالسنة أن تبدأ بذي الحق فتسلم عليه، وكذلك في الطعام والشراب تبدأ بذي الحق أولا؛ لأن إكرامه واجب، وحقه آكد، ثم تأخذ عن يمينه، فتجمع بين الفرض والسنة، أما أن يأخذ الإنسان مثلا بحديث خاص في قوله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك) ، فهذا من ناحية الإحسان والبر والقيام والرعاية، لكن في الدخول في المجالس يبدأ بذي الحق، ولذلك ابتدئ به عليه الصلاة والسلام في المجالس، وكان يبتدأ بالتحية، وبالإجلال والإكرام صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن له حقا. فإذا كان في مجلس فيه الوالد فحقه في الولاية آكد، وهذا الحق بالمناسبة، فإذا جئت إلى مجلس وسألت: من الذي يبدأ به السلام؟ فإنك تبدأ بمن له الولاية في المجلس، فإن كان مجلس علم فالولاية للعالم، وإن كان مجلس ولاية وسلطة، فتبدأ بصاحب تلك الولاية والسلطة، وإذا كان في مجلس سفر مثلا لثلاثة ركب فأكثر، وعليهم شخص هو المسئول عنهم، فالولاية له. وقد أعطى الإسلام كل شي حقه، فتبدأ بذي الولاية، وتشرفه وتكرمه، وتقدمه على غيره، ثم بعد ذلك تسلم على الأم، وتأخذ بخاطرها، وتبرها كما أمرك الله عز وجل ببرها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (405) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [2] الوصية قبل الموت تتنوع بحسب حالها، فقد تكون الوصية واجبة إذا كانت متعلقة بحق لله أو بحقوق للمخلوقين واجب، وقد تكون مستحبة إذا قصد بها سبل الخير، وقد تكون محرمة إذا كانت تأمر بعقوق أو بقطيعة رحم، أو أن يصرف بعض المال في دعم أفعال محرمة أو مبتدعة، وقد تكون مكروهة. ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، والأفضل أن يوصى بأقل من الثلث، فإن كان ولابد فالثلث والثلث كثير. أنواع الوصايا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [يسن لمن ترك خيرا] . شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بالوصية، فابتدأ بمسألة حكم الوصية، فبين رحمه الله أن من السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصي المسلم وتكون وصيته بعد موته، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عبر المصنف رحمه الله بقوله: (يسن) ، ومعنى ذلك: أن الوصية ليست بواجبة، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، أن الوصية تعتريها عدة أحكام؛ فتارة تكون واجبة لازمة، وتارة تكون مندوبة مستحبة، وتارة تكون محرمة ممنوعة، وتارة تكون مكروهة يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها. فهذه أربعة أحكام تتعلق بالوصية، لكن الأصل العام أنها مسنونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن لأمته سنن الهدى، ومن ذلك الوصية التي يكتبها المسلم، فيأمر فيها بما أمر الله، أو ينهى فيها عما نهى الله عز وجل عنه، أو يجمع بين الأمرين. الوصية الواجبة أما كونها واجبة: فإن أي شخص تعلقت به حقوق لله عز وجل أو لعباده، فإنه يجب عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذه الحقوق، والدليل على ذلك: أن الله فرض علينا أداء هذه الحقوق والواجبات، فقال سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] ، فلو كانت عند الإنسان حقوق ومظالم للناس، ولا طريق للوصول إلى أدائها إلى أهلها والتحلل منها إلا بالوصية؛ صارت الوصية واجبة. ومن أمثلة ذلك: لو استدان شخص مبلغا من المال وكتب عليه صاحب المبلغ سندا وأشهد فلا إشكال؛ لأن صاحب الحق محفوظ حقه بوجود البينة. لكن لو أنه يحبك وتحبه وبينكما مودة، وحصل شيء من الاستحياء أو الثقة، فلم تكتبا، فاطمأن إليك؛ فالواجب عليك أن تكتب في وصيتك أن لفلان علي مبلغا من المال؛ لأنك لو لم تكتب ذلك لأدى إلى ضياع حقه وحرمانه مما له عليك، والله قد أمرك بأداء هذه الأمانة، وأداء هذا الواجب متوقف على الوصية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إذا: كل شخص عليه حق لله أو حق للمخلوق، فينبغي عليه أن يكتب وصيته، وأن ينبه على هذا الحق؛ صيانة لحقوق الناس، وأداء للأمانات ووفاء بها. أما حقوق الله تعالى فتشمل الكفارات، كأن تكون عليه كفارات، أو تكون عليه فدية في حج أو عمرة، كما لو وقع في بعض المحظورات ولزمته الفدية ولم يؤدها؛ فالواجب عليه ألا يبيت إلا وقد كتب في وصيته أن عليه فدية من كذا وكذا، أو عليه كفارة كذا وكذا، أو عليه صيام، على القول بأن الولي يصوم عن وليه إذا كان صيام نذر أو كان صيام كفارة، فإذا كان صياما عن قضاء فيكتب هذا وينبه عليه؛ لأن الله فرض عليه أن يقوم بحقه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) . فمن كانت عليه حقوق لله عز وجل؛ من صيام، أو وجب عليه الحج ولكنه قصر في ذلك مع قدرته واستطاعته؛ فالواجب أن يخرج من تركته وماله ما يحج به عنه، أو يقوم بعض ورثته بذلك مجزيا من الله بأعظم الجزاء وأحسنه، وهذا بالنسبة لحقوق الله عز وجل. أما حقوق المخلوقين: فمثل الدين، والودائع والأمانات، كأن تكون استعرت كتابا من أخيك، فالواجب أن تكتب في وصيتك، وأن تنبه على هذا الكتاب والحق الذي لأخيك المسلم، حتى لا يضيع؛ لأنك لو لم تكتب ذلك ولم تنبه عليه لربما ضاع هذا الحق، ولربما ضم الكتاب إلى كتبك، فإذا استعار طالب العلم كتابا فينبه أو يكتب في وصيته أن الكتاب الفلاني لفلان، وكذلك لو استعار شيئا من أخيه؛ كالأدوات والآلات ونحو ذلك من الأشياء التي هي حقوق للناس؛ فالواجب أن يكتب ذلك في وصيته، وينبه عليه إذا توقف أداؤه على مثل هذا. إذا: فالوصية واجبة إذا كانت بحق لله أو حق للمخلوقين ويدخل في هذا الوصية بالأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه، فإذا كان يعلم أن ورثته من بعده قد يقعون في بعض المحرمات والأمور التي لا ترضي الله عز وجل؛ فعليه أن يكتب في وصيته أنني أوصيكم بتحري السنة في تغسيلي وتكفيني وتجهيزي والصلاة علي، وإذا كان يعلم أنهم سيبالغون في البكاء فيوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ، وقال بعض العلماء: إن هذا في حالة علم الميت أنه سيبكى عليه ويبالغ في البكاء حتى يوصل إلى الحد المحرم، فسكت على ذلك ولم ينه عنه. إذا: لابد أن تشتمل الوصية على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فمتى ما توقف إحقاق الحق وإبطال الباطل على ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يكتب الوصية بذلك فإنها واجبة، وهكذا إذا علم حقوقا بين الناس، كأن يعلم أن هناك حقا لفلان على فلان، فيكتب ذلك وينبه على ذلك. المهم أن الوصية تكون واجبة إذا توقف عليها أداء الحقوق وردها لأهلها وأصحابها. الوصية المستحبة ثانيا: تكون الوصية مستحبة إذا قصد الإنسان منها سبل الخير، وطلب بها مرضاة الله سبحانه وتعالى في الأمور غير الواجبة عليه، مثل أن يوصي بالصدقات، أو يوقف شيئا من أملاكه، أو يوصي بعمل بر من بعد موته غير واجب عليه، فإذا وصى بمثل هذا؛ فإن الوصية تكون أفضل وأعظم استحبابا وأجرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى عندما تكون لأقرباء الإنسان الذين لا يرثون، فيوصي -مثلا- لعمه، أو لخاله، أو لأولاد عمه، أو لأولاد خاله، ويوصي لخالته، ولعمته، عندما يعلم أن هناك زيادة في المال، وأن العم والعمة والخال الخالة وجميع آله وقرابته محتاجون للمال لقضاء دين أو تفريج كربة؛ فيكتب في وصيته: أن أخرجوا من مالي مبلغ كذا لعمي، أو اجعلوا المبلغ الفلاني لأعمامي، أو اجعلوه لإخواني الذين لا يرثون؛ لأنه قد يكون عنده أبناء يحجبون الإخوة، فهو يريد أن يصل إخوانه وأخواته، ويعلم أن أخته مديونة، أو أن أخاه مديون، فأراد أن يفرج كربته؛ فأوصى أن يقضى دين أخيه، أو يقضى دين أخته، أو يوصي وصية عامة ويقول -إذا أحب أن يوصي بالثلث-: ثلث مالي يتصدق به على أقربائي في قضاء ديونهم، أو يكون ثلث مالي لأيتام أخي، أو يكون ربع مالي من بعد موتي لأيتام أختي، ونحو ذلك من الوصايا التي يقصد بها البر وطاعة الله سبحانه وتعالى. فأفضل الصلة عندما تكون للرحم، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل الرحم تتساوى مراتبها من حيث العموم فكل ما كان للرحم فله فضله من دون تفصيل أم أن هناك تفصيلا؟ فاختار بعض الأئمة وبعض المحققين رحمهم الله أن الوصية المستحبة تتفاوت درجاتها ومراتبها بحسب تفاوت القرابة والرحم، فأول من تقدم القرابة من جهة النسب، ثم يليهم القرابة من جهة الرضاعة، ثم يليهم القرابة من جهة المصاهرة، ثم الولاء. فأما بالنسبة للقرابة من جهة النسب فقالوا: تقدم المحارم على غير المحارم، فمثلا: وصيته لعمه وعمته أفضل من وصيته لابن عمه وابن عمته؛ لأن المحرمية في العم والعمة، فإذا وصت لعمها أو وصى لعمته؛ فإن العم والعمة من المحارم، فالوصية لهم أفضل وأعظم أجرا عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله جعل مرتبتهم مقدمة على مرتبة غيرهم. كذلك أيضا لو كان له أبناء عم، وبعضهم أقرب من بعض، فمثلا: ابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأب، وابن العم الشقيق الوصية له أفضل من ابن العم لأم ونحو ذلك، فالقرابة من جهة النسب تتفاوت مراتبهم. والذي اختاره جمع من العلماء: أن الوصية للأرحام الذين يكونون من الذكور والإناث أفضل وأعظم ثوابا عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك جعل الشرع لهم من الحق ما لم يجعله لغيرهم، وقال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال:75] ، فقدموا الرحم - أي: المحرمية- من هذا الوجه. ثم يأتي بعد القرابة الوصية للأقرباء من جهة الرضاعة، كأمه التي أرضعته -سواء كانت محتاجة أو غير محتاجة- ويوصي لأقربائه من جهة الرضاعة؛ كأمه وأخته وعمته من الرضاعة، ونحو ذلك من القرابات من جهة الرضاعة، ويقدم محارمه على غيرهم، وتكون صلة وبرا يعظم من الله عز وجل أجرها وثوابها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الرضاعة، وأن لها حقا على المسلم، ولما خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، وقاتل هوازن، وغنم الغنائم، اتقى الله فيهم ورعى الرحم، فلم يقسم غنائم حنين مباشرة، وكان صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يكلموه حتى لا تسبى ذراريهم، ولا تقسم أموالهم شفقة عليهم منه صلوات الله وسلامه عليه، وحفظا للرضاعة من حليمة السعدية التي أرضعته صلوات الله وسلامه عليه. فلما ذهب إلى الطائف وفتحها وبعد رجوعه ونزوله بالجعرانة قسم صلى الله عليه وسلم الغنائم، فلما قسمها تألمت هوازن، وجاءه عليه الصلاة والسلام وفدها، وقام خطيبهم وقال له: يا رسول الله! إن اللاتي بالحظائر ما هن إلا عماتك وخالاتك من الرضاعة، فتأثر عليه الصلاة والسلام أثرا بليغا، وقال له عباس بن مرداس السلمي في أبياته المشهورة والتي منها: امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إلى غير ذلك مما كان من الأبيات التي ذكرته حق الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم) ، وقالت الأنصار مثل ذلك، وهذا كله يدل على حفظه صلى الله عليه وسلم لحق الرضاعة. فالمرضعة والأقرباء من جهة الرضاعة يوصلون بالوصية، وتكون الوصية مستحبة في حقهم؛ لأنهم لا يرثون. ثم بعد الرضاعة القرابة من جهة المصاهرة، فلو لم يكن له أقرباء لا من جهة النسب، ولا من جهة الرضاعة؛ فحينئذ ينظر إلى أصهاره، وهم أقرباؤه من جهة زوجته أو زوجة والده أو زوجة ولده؛ فهؤلاء يصلهم لتكون رحما وصلة يرجو ثوابها من الله سبحانه وتعالى. هذا بالنسبة للوصية المستحبة التي تكون لغير الوارث، وتكون صلة وبرا للأقرباء، وهي أفضل وأعظم ما تكون أجرا وثوابا من الله سبحانه وتعالى، وقد قرر العلماء أن الوصية للأقرباء أعظم أجرا من الوصية لغير الأقرباء؛ لثبوت النصوص بذلك، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنه وقالت: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة -أي: أعتقتها لوجه الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) . مع أن العتق أمره عظيم، وإذا أعتق الإنسان فإنه يعتق بكل عضو من المعتق عضو منه من النار، ومع هذا يقول لها (لو أنك أعطيتها أخوالك) أي: لو أبقيتها على العتق ووصلت بها القرابة لكان أعظم لأجرك عند الله سبحانه وتعالى. الوصية المحرمة ثالثا: وقد تكون الوصية محرمة، وهذا هو النوع الثالث من الأحكام المتعلقة بالوصية، وتكون الوصية محرمة إذا اشتملت على حرام، وقد مثل العلماء لذلك بأن يوصي لكنيسة، أو يوصي بنسخ التوراة أو الإنجيل أو الكتب المحرفة، أو الكتب التي تشتمل على الضلالات والبدع والأهواء التي تضل الناس وتخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فمثل هذه لا ترضي الله ولا ترضي رسوله عليه الصلاة والسلام. وكذلك إذا وصى بحرام؛ كأن يغضب الأخ على أخيه فيقول: لا يشهد فلان جنازتي، ولا يحضر تغسيلي ولا تكفيني، ولا يفعل كذا ولا كذا فهذه قطيعة للرحم، وأمر بمعصية، وأمر بما لا يحبه الله ولا يرضاه، فإن الله يحب من القريب أن يشهد قريبه، ويترحم عليه، ويدعو له، والأقرباء أبلغ شفقة من غيرهم، فإذا وصى أنه لا يدخل بيته ولا يشهد تغسيله ولا يحضر جنازته، فهذه من القطيعة، وقد يكون هذا بين الوالد وولده والعياذ بالله! فهذه -نسأل الله السلامة والعافية- من الوصايا المحرمة. حتى ذكر العلماء رحمهم الله أن الوصية المحرمة من علامات سوء الخاتمة -والعياذ بالله- للإنسان؛ لأنه يختم ديوانه وعمله -والعياذ بالله- بالقطيعة وبعقوق الوالدين وبالمظلمة، وإذا ختم له بعقوق الوالدين أو عقوق الأولاد أو قطيعة الرحم؛ فإن هذه كبائر توجب دخول النار ما لم يغفر الله الذنب، فيختم له بخاتمة سيئة تكون سببا في دخوله النار تعذيبا إذا كان من الموحدين، ثم يخرج منها بفضل الله وهو أرحم الراحمين، وهذا ممن يعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب في بعض العمل إذا لم يكن مخلدا في النار فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها مطهرا من ذنب كبير. وهذا هو أحد الأوجه عند العلماء رحمهم الله في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة) ، فيكون عبدا صالحا ثم يغضب على ولده أو على قريبه، ثم يكتب هذه الوصية الجائرة الظالمة التي تشتمل على عقوق أو تشتمل على قطيعة، فيختم له -والعياذ بالله- بهذه الخاتمة السيئة، نسأل الله السلامة والعافية. فلا يجوز أن يوصي بالمحرمات، فإذا وصى بمثل هذه الوصايا فهي وصية باطلة، ولا يجوز للورثة أن يطيعوا، ولا يجوز حتى للقريب أن يطيع قريبه في قطيعة الرحم، ولو قالت الأم: لا تزر خالك، أو لا تزر عمك، أو لا تزر قريبك؛ فلا تطاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الطاعة في المعروف) ، وهذا ليس بمعروف، ولأن الله أمرك بصلة الرحم، وغيرك نهاك عنها؛ فتقدم أمر الله على سائر الأوامر، وطاعة الله على سائر الطاعات، فلذلك لا تنفذ مثل هذه الوصايا، ولا يجوز العمل بها. الوصية المكروهة رابعا: وقد تكون الوصية مكروهة، مثل أن يكون الشخص قليل المال وورثته محتاجون لهذا المال فيوصي بصدقة، فإن هذه الصدقة تضيق على ورثته في الإرث، فمثلا: لو كان الورثة محتاجين لهذا المال، أو كان عنده ولد، والولد مديون مكروب، وترك ألفا أو ألفين قد لا تفي بسداد دينه، فجاء ووصى بثلثها، فهذا يضيق على ولده ويضيق على وارثه إلى درجة أنه قد لا ينتفع النفع المرجو من التركة، فحينئذ كره العلماء رحمهم الله مثل هذه الوصية، وبينوا أن الوصية في حق الفقير أو قليل المال مكروهة إذا كانت تضيق على الورثة وتوجب لهم ما ذكرنا من الحرج. هذا بالنسبة لأحوال الوصية الواجبة، والمندوبة المستحبة، والمحرمة، والمكروهة، فما عدا ذلك من حيث الأصل العام فالوصية سنة، أي: سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع لهذه الأمة سنن الهدى، وذلك بأقواله وأفعاله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، التي جعلها الله أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، فلا أكمل من هديه بأمي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. اختلاف العلماء في حكم الوصية الخير: هو المال الكثير كما فسره المصنف رحمه الله. وقوله: (المال) لا يشترط السيولة، إنما المال كل شيء له قيمة، فلو لم يترك نقودا، وإنما ترك (عمائر) ، فلو ترك عشر عمائر فهي مال، وإن لم يترك أي ريال في محفظته أو في رصيده، فهو يعتبر ممن ترك خيرا، فلا يشترط أن تكون هناك سيولة بالنقد، إنما العبرة بقيمة المال؛ سواء كان من الأعيان أو من غيرها. فقوله: (يسن لمن ترك خيرا) أي: من بعد وفاته، ولذلك العبرة بما يكون في حال مرض الموت ويغلب على ظنه أنه يموت فيه، فلو أنه وصى وهو غني ميسور، ثم أصابته أمراض، أو جاءت كربات أو نكبات على أمواله فخسر؛ فالعبرة بحاله عند مرض الموت لا عندما كتب الوصية. وقوله: (لمن ترك خيرا) أي: ينظر في حال مرضه للموت ودنو الأجل، فلو كتب وصيته قبل موته بسنة أو قبل موته بشهور، فإن هذا لا يعتد به؛ لأن العبرة بحاله عند موته، أو بما هو قريب من موته؛ وذلك لأن هذا سيؤثر على مصالح الورثة، والعبرة في المال الكثير والخير الكثير بما يكون سابقا للأجل لا بما قبل ذلك، فالورثة ماذا يستفيدون لو كان قبل وفاته بسنة عنده ملايين الأموال، ولما حضرته المنية لم يكن عنده إلا يسير من المال؛ فالعبرة بما يؤول إليه الأمر وينتهي إليه الحال، فقوله رحمه الله (لمن ترك خيرا) أي: بعد وفاته، وغلب على ظنه أنه سيكون بعد وفاته. والخير كما قال: (المال الكثير) وهذا تأس بالكتاب؛ لأن الله نص على الوصية وألزم بها إذا ترك خيرا. وقوله رحمه الله: (يسن) فيه رد على من يقول: إن الوصية واجبة، فقد ذهب بعض السلف كـ الزهري وأبي مجلد رحمة الله عليهما إلى أن الوصية واجبة، سواء كان الإنسان عليه حقوق أو لم تكن عليه حقوق، فيجب عليه أن يوصي، والأصل أنهم استدلوا بظاهر قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين} [البقرة:180] ، و (كتب) بمعنى: فرض، وهذا القول عارضه قول جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. وهو قول طائفة من السلف كـ إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهم من الأئمة -رحمة الله على الجميع- بأن الوصية ليست بواجبة من حيث الأصل. وهناك قول ثالث في المسألة يقول: الوصية واجبة لأقربائك الذين لا يرثون، وهذا هو قول الظاهرية، وهو قول بعض السلف كـ مسروق صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورحم الله الجميع، وكذلك قال به طاوس بن كيسان وقتادة من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، يقولون: إن الوصية واجبة للقريب الذي لا يرث، فمن كان عنده قريب لا يرث فيجب أن يكتب في وصيته له شيئا، ويرون أن الآية منسوخة بالنسبة للوارثين، وتبقى محكمة في غير الوارث: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية} [البقرة:180] قالوا: (كتب) بمعنى: فرض، فنسخ الله ذلك في أهل المواريث، فبقي الأقرباء الذين لا يرثون؛ فيجب عليك أن توصي لهم. والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو: أن الوصية ليست بواجبة، والدليل على ذلك حديث ابن عباس الصحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، وقد اختلف في الجملة الأولى هل هي مدرجة أو من كلامه صلى الله عليه وسلم؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) يدل من حيث الأصل على أن آية المواريث التي نزلت في سورة النساء وغيرها قد نسخت فرضية الوصية، فلم تكن هناك مواريث في أول الإسلام، وإنما الشخص يوصي ويكتب: أعطوا فلانا، وأعطوا فلانة، فيتولى قسمة تركته قبل موته، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى قسمة المواريث من فوق سبع سماوات: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] ، والكلالة: هي أن يموت الرجل وليس له والد ولا مولود، قال الناظم: ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة لا والد يبقى ولا مولود انقطع الآباء والجدود فاستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقال الله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] ، فتولى جبار السموات والأرض قسمتها من فوق سبع سماوات قسمة العدل، فأعطى كل ذي حقه. فإذا كانت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قسمت الحقوق، وأعطت كل ذي حق حقه؛ فحينئذ ليس من حق أحد أن يقول: إن هناك من الأقارب من له حق يجب عليك أن توصي له؛ لأنه لو كان هناك لبين الله تعالى كيف يقسم للأقارب الذين لا يرثون، وبناء على ذلك: فلا يعتبر القول بأنها محكمة في الأقارب الذين لا يرثون صحيحا من هذا الوجه. والذي يترجح: أن الوصية ليست بواجبة عليك إلا في الأحوال التي يتوقف عليها أداء حق الله عز وجل، أو إيصال حقوق الناس إليهم، على التفصيل الذي ذكرناه، وهذا القول هو قول الجمهور بقوة دليل السنة، على أن آية الوصية منسوخة وليست بمحكمة. ومما يقوي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ، فهذا يدل على أن الوصية لو كانت واجبة لسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وترك آية الوصية دالة على اللزوم؛ لكنه لما بين أن الوصية تكون واجبة في مثل هذه الحالة؛ دل على أن الأصل عدم وجوبها، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: (يسن لمن ترك) : أي للشخص الذي ترك، سواء كان رجلا أو امرأة، وسيأتي من هو الذي يوصي، وما هي الشروط المعتبرة في الأوصياء. ضابط المال الكثير قال رحمه الله: [وهو المال الكثير] . الكثير: وصف للمال، وكيف نعرف أن هذا المال كثير أو أنه ليس بكثير؟ هذا يرجع فيه إلى العرف، وتجري في ذلك القاعدة المشهورة: العادة محكمة، فإذا كان العرف أن هذا المبلغ الذي تركه يعتبر كثيرا فهو كثير، فلو نظرنا قبل خمسين سنة فربما كانت العشرة ريالا تعتبر من المال الكثير جدا، والعشرة الريال ربما تعادل الآن أكثر من مائة ألف، مما يشتري بها الإنسان من رخص الأشياء وعزة المال وقلته وندرته، لكن اليوم لو كانت تركته مائة أو ألف ريال فقد تكون قليلة، فيرجع إلى العرف، وقد بين الله تعالى في كتابه وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم أن عرف المسلمين محتكم إليه، ولذلك ردت كثير من القضايا والمسائل والأحكام والتقديرات إلى الأعراف، فما دل عرف المسلمين أو عرف الميت على أنه كثير فهو كثير، وما دل العرف على أنه قليل فهو قليل. القدر الذي يوصى به من المال قال رحمه الله تعالى: [أن يوصي بالخمس، ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا] . قوله: (أن يوصي بالخمس) : إذا كانت الوصية مسنونة، ومستحب للإنسان أن يوصي، فما هو القدر الذي يوصي به؟ من حيث الأصل: فإن الإجماع قائم على أنه لا يجوز للشخص أن يوصي فوق الثلث؛ لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يوصى فوق الثلث، كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فإنه لما مرض بمكة، ودخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني لا وارث لي إلا ابنة -أي: ليس لي وارث إلا ابنة واحدة- وعندي مال كثير، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قال: أفأوصي بثلثيه؟ قال: لا. قال: فبنصفه؟ قال: لا. قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . ثم قال له قولته المشهورة: (اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) ، فقد كان سعد يظن أن أجله قد حضر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا) فاستجيبت دعوته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فشفي سعد، ثم قال: (لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) ، فرفع لواء الجهاد في سبيل الله؛ فأعلى الله به كلمته، وكبت به أعداءه، وكان على يديه من الفتوح والخيرات على الإسلام والمسلمين ما الله به عليم، نسأل الله العظيم أن يجزيه بخير الجزاء وأعظمه وأسناه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك أن تعمر -فمد له في عمره رضي الله عنه وأرضاه- فينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون) . ثم قال: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم خاسرين، لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وهذا الحديث المشهور قد اشتمل على بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وجملة من المسائل والأحكام، منها: مسألة الوصية، فإنه يعتبر قاعدة عند العلماء في باب الوصية. ولذلك قال له: (الثلث والثلث كثير) ، فلما قال: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا) ، وهذا يقتضي التحريم والمنع، فلما قال: (بالثلثين؟ قال: لا) ، وهذا يقتضي التحريم ومنع الوصية بالثلثين. (فبنصفه؟ قال: لا)، وهذا يقتضي التحريم والمنع أيضا، ثم قال له: (بالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، فسن عليه الصلاة والسلام الثلث من حيث الحد الأعلى. فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للموصي أن يجاوز الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم) ، فهذه رحمة من الله عز وجل بالإنسان أنه يتصدق ويوصي في حدود الثلث ولا يزيد، فيصل رحمه، ويكون له من الأجر والخير في تلك الصلة، فيتدارك بعض الأعمال الصالحة، ولا يزيد على الثلث. لكن السؤال هل يوصي بالثلث كاملا أو ينقص من الثلث؟ وإذا أنقص من الثلث فهل يقارب الثلث أو يبتعد عن الثلث؟ لكل ذلك تفصيل عند العلماء، فمن أهل العلم من قال: يوصي بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه البيهقي: (الثلث وسط، لا نقص فيه ولا شطط) . فقول عمر رضي الله عنه: (الثلث وسط لا نقص فيه) ؛ بحيث إن الإنسان عندما ينقص من الثلث تقل حسناته وأجره، وقوله رضي الله عنه: (ولا شطط) ؛ لأنه ليس فيه تضييق على الورثة؛ فقد ترك للورثة ثلثي ماله؛ فحينئذ كان عدلا. وقال بعض العلماء: إنه يغض من الثلث، أي: ينقص منه ولا يبلغ الثلث على الأفضل، وكلهم متفقون على جواز الوصية بالثلث، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنها ماضية وصيته؛ لكن الإشكال: هل الأفضل أن تستغرق الثلث كاملا فتتصدق وتعمل الأعمال الصالحة وتبقى لك صدقات جارية بعد موتك، أم أن الأفضل أن تحد وتنقص من الثلث؟ قلنا: إن بعض السلف يرى أنه يستغرق الثلث، فيتدارك به الأعمال الصالحة، وقد تبقى أشياء، مثل: أن يحفر آبارا، وقد يبني مساجد، وقد يشيد أربطة ينتفع بها الفقراء والضعفاء، فتبقى له حسنات جارية من بعد موته، وهذا لا شك أن فيه تداركا لكثير من الخير، وقال بعض السلف: لا يصل إلى الثلث. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الثلث والثلث كثير) ، فقوله: (لو أن الناس غضوا) أي: لا يصلون إلى الثلث، بل يغضون منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) . ومذهب أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة أن المستحب هو الخمس، ولذلك وصى أبو بكر رضي الله عنه -مع أنه كان له مال- بخمس ماله، وقال في وصيته المشهورة: (إني رضيت بما رضي الله لنفسه) يقصد قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال:41] ، فقال: (رضيت بما رضي الله لنفسه) ، وهو الخمس، فجعل الوصية في الخمس. وكذلك علي رضي الله عنه قال: (من أوصى بالسدس أحب إلي من الربع، ومن أوصى بالربع أحب إلي ممن أوصى بالثلث) ، وهم يريدون من ذلك أن يكون للورثة الحظ الأكثر. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعه لـ سعد بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فهم يرون أن المال الذي يترك للورثة فيه صدقة على الورثة، والصدقة على القريب أعظم أجرا من الصدقة على الغريب، وعلى هذا قالوا: إنه يفضل ألا يبلغ الثلث، وألا يصل إلى الثلث؛ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) . |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة حكم تخصيص بعض الورثة ببعض الميراث السؤال سائل لديه أبناء معاقون، وآخر لديه بنت لم تتزوج، فهل إذا ملكوا دارا أو شقة يحتاج فيه أيضا إلى إذن الورثة، أم أن عذرهم هذا شفيع لهم؟ الجواب السؤال فيه بعض الغموض، هو يقول: إن هناك ورثة معاقين، وإن هناك بنتا لم تتزوج لآخر؛ فهل إذا ملكوا شقة أو (عمارة) لابد من إذن الورثة؟ فهل مقصوده كونه يعطي أولاده المعاقين، أو يوصي لأولاده المعاقين بالشقق أو العمائر، بمعنى: أن يملكهم إياها شفقة عليهم لوجود الإعاقة؟ في الحقيقة الحكم واحد، والقاعدة في عدم جواز الوصية للوارث شاملة للوارث المحتاج ولغير المحتاج، فمثلا: لو كانوا ثلاثة أبناء وواحد من الأبناء معاق، فأحب الوالد أن يخص هذا المعاق بشيء ويوصي له بشيء خاص؛ فإنه لا وصية لوارث، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والدليل: أن الحديث عام لم يفصل بين وارث معاق وغير معاق، أو وارث محتاج أو غير محتاج، فيبقى العام على عمومه، وهذا من حيث الأصل عند العلماء بلا خلاف، وهو أنه لا وصية لوارث بدون تفصيل، لكن لو أنه نظر إلى أنه بحاجة إلى شيء معين، وأحب أن يخصه بهذا الشيء المعين، فلا بأس أن يرضي إخوانه، فيقول لإخوانه: أنتم تعلمون حاجة أخيكم، وتعلمون اضطراره، فأنا أوصي له بكذا وكذا، فأخذ رضاهم، فلا بأس بهذا، وهو -إن شاء الله- مأجور على ذلك؛ لأن هذا من الرحمة، لكن من حيث الحكم الشرعي ليس من حقه أن يخص بعض الورثة بشيء دون وجود إذن الورثة جميعا في ذلك. تبقى مسألة تمليكهم شقة أو (عمارة) : بالنسبة لتمليك الشقق قد أبدينا عليه ملاحظة، بمعنى: أنه لا يصح لشخص أن يبيع شقة من عمارة، وقد فصلنا في هذا فيما تقدم من الدروس، وبينا أنه إذا أراد الشخص أن يدخل شريكا لصاحب العمارة فيقول له: أشتري نصف العمارة، أو ربعها أو ثلثها، أما شقة من العمارة فلا، وبينا أن السبب في ذلك أنه إذا نظرنا إلى أصول الشريعة فنجد أن من ملك أرضا ملك باطنها وظاهرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أراضين) ، فجعل باطن الشيء تابعا للشيء، فإذا جاء يملك شقة وقلنا أنه يملك الشقة، فمعناه: أنه يملك الشقة وما تحتها من حيث الأصل العام، ولذلك صح الطواف في الدور الثاني ونزل منزلة الدور الأول، فإن من ملك أرضا ملك سماءها، وصح للمعتكف أن يصعد إلى سطح المسجد الحرام ولا يبطل اعتكافه ما دام أنه من داخل المسجد؛ لأن هذا كله في حكم الأرض نفسها، وتابع للأرض نفسها. فإذا جئنا نقول: إنه يملك الشقة فقط التي في الدور الثاني، فيبقى السؤال الآن بالنسبة للدور الأول والثالث والرابع والخامس، فكل شخص يملك فيه شقة، ولو كانت العمارة من أربعة أدوار، فلمن تكون السطوح؟ قالوا: ملك للمالك الأصلي، والمالك الأصلي سيبني شقة، ثم يبني في الدور الخامس والسادس والسابع إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى ويقول: أنا مالك للسطوح، فيفعل فيه ما يشاء؛ لأنه لا يعتد ولا يرى أن من ملك أرضا ملك سماءها بالنسبة لأصحاب الشقق، وحينئذ يحدث الغرر، ووجه الغرر: أنه اشترى شقة، وهذه الشقة باقية ببقاء العمارة، فقد تنهدم العمارة بعد سنة أو بعد عشرين سنة، وقد تنهدم بعد ثلاثين سنة، فهو ملك مؤقت مثل المستأجر، كأنه ملكها مدة بقائها، وملكية البيع لا تقتضي هذا؛ بل ملكية البيع تنصب على ذاتها، فتكون مالكا للأرض، ومن دخل في عمارة بالبيع الشرعي المعروف، فيدخل مالكا لربعها أو لنصفها أو لثلثها. ويصح أن يقول شخص: عندي عمارة ثلاثة أدوار، ومن أراد أن يشتري مني ثلث هذه العمارة فليدفع مائة ألف؛ فيصبح عندي شريكا في الثلث وأعطيه شقة من الشقق، وهذه يسمونها: (قسمة المهايأة) ، فهذه جائزة، والشريعة -والحمد لله- لم تضيق على الناس، لكن لا ندخل في عقود لا يعرفها المسلمون، بل استحدثت عليهم، وقد تدخل عليهم اللبس، فمثلا: افرض أنه في يوم من الأيام أراد صاحب العمارة أن يهدمها، فقال لأصحاب الشقق: اخرجوا، فبأي تعليل شرعي تمنعه؟ فقد يقول: الأرض أرضي، فتقول: نحن نملك الشقق، فيقول: لكن أنا أريد أن أهدم هذه العمارة وأبني أرضي؛ لأني أملك الأرض الأساسية، ولأنك أبحت له أن يبني الدور الأعلى والذي أعلاه؛ لأنه مالك للأرض وما عليها. إذا: فكيف تجعل صاحب الشقة يملك فقط هذه الشقة من العمارة؟ فالغرر في هذا واضح، ولذلك لا يعرف المسلمون مثل هذا البيع، ولا يعرف هذا البيع في بلاد المسلمين قبل خمسين سنة تقريبا، إنما طرأ قريبا ودخل على المسلمين، وهو من البيوع التي فيها الإشكال الذي ذكرناه، لكن أن تدخل مع مالك العمارة بالملك الشرعي الذي تتحمل فيه مسئولية العمارة، وتأخذ ربح العمارة سواء بسواء مثل أخيك، وعلى قدر حصتك من الملكية، فهذا هو الصحيح، أما أن تدخل على وجه فيه غرر، فهذا لا يجوز. فإذا قال له: أملك شقة، فلا، وإنما يملكه جزءا من العمارة، ويقول: وهبت له نصف العمارة أو ربعها أو ثلثها، ويعطي قدرا من العمارة وتقدر العمارة، فإذا بلغت الثلث فحكمها حكم الوصية بالثلث، وإذا كانت أكثر من الثلث فتصح فيما نقص، وتبطل فيما زاد عن الثلث، والله تعالى أعلم. حكم من عليه أقساط شهرية ويريد أن يوصي السؤال إذا كانت علي حقوق مالية تشتمل على أقساط شهرية، فهل تتغير كتابة الوصية في نهاية كل شهر؟ الجواب من حيث الأصل يمكن للشخص أن يقول: المؤسسة الفلانية لها علي مائة ألف، أو لها علي سيارة مقسطة بقسط كذا وكذا، فيسأل عما بقي من الأقساط، وهذا يكفي إن كان من أحلت عليه صادقا. وينبغي للشخص الذي عليه أقساط أن يحتفظ بالأوراق التي تثبت دفعا؛ لأن هذا يحفظ حقوق الورثة، ويحفظ لهم المال من بعد موته ولا يغرر بهم، حتى يعرفوا ما الذي له وما الذي عليه، والله تعالى أعلم. السؤال إذا توضأ الجنب وأراد أن ينام فهل له أن يقرأ أذكار النوم المتضمنة لآيات من القرآن؟ حكم قراءة الجنب للقرآن الكريم الجواب الجنب لا يقرأ القرآن، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا الأدلة على أن الجنب لا يقرأ القرآن، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحجزه عن القرآن وجود الجنابة، وعلى هذا أشرنا إلى الحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده، وهو من أقوى ما ورد شاهدا لرواية: (كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة) ، وهذا الشاهد قواه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وأثبتوا أن الجنابة تمنع من قراءة القرآن، ويقوي هذا ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الرجل، وكان قد قضى حاجته، فسلم عليه عليه الصلاة والسلام، فاستدار إلى الجدار وضرب بكفيه فتيمم، ثم رد السلام وقال: (إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله) ، فإذا كان هذا في الحدث الأصغر فمن باب أولى الحدث الأكبر. وأيا ما كان فإن الجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن، لكن إذا كان الجنب أو الحائض يخشى الضرر، مثل: أن يخشى السحر أو العين، وضاق عليه الوقت ودخل عليه وقت المغرب أو دخل عليه وقت الفجر وعليه جنابة، وخشي أن يبتلى؛ فقد رخص بعض العلماء في قراءة المعوذات خوفا من السحر، وفي هذه الحالة: الأفضل له أن يتيمم ويخرج من الإشكال ثم يقرأ القرآن، فهذا أكمل وأفضل، وأما أذكار النوم فما كان منها من غير القرآن فإنها تقرأ، سواء كان على الإنسان جنابة أم لا، وأما ما كان من القرآن كقراءة آية الكرسي ونحوها، فلا بد فيه من الطهارة، والله تعالى أعلم. حكم تأخير دفن الجنازة ليصلي عليها من لم يصل السؤال من صلى على جنازة ثم تبعها، وقبل أن تدفن أراد من لم يدرك الصلاة أن يصلي عليها، فهل يجوز له أن يصلي معهم مرة ثانية؟ الجواب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حضرت الجنازة دفنها مباشرة، وهذا هو المحفوظ من هديه، ولذلك إذا صلي عليها مع الجماعة فمن أدرك فالحمد لله، ومن لم يدرك فلا حاجة إلى تأخير دفنها؛ لأن هذا من تأخير الجنازة لمصلحة الحي، والميت من مصلحته المبادرة. وهذه سنة تخفى على الكثير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (أسرعوا بالجنازة) ، وهي إذا كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، فأي تأخير فإنه حجز لها عن الفضل وحجز لها عن الخير، فلا يجوز في هذه الحالة أن يعتدى على الميت بتأخيره لمصلحة الحي. وقد يقول قائل: إنه سيدعي له ويترحم عليه، فنقول: إن هذا متدارك بالدعاء له حتى بعد دفنه، فليس الأمر موقوفا على الصلاة عليه فقط؛ لأن الصلاة عليه قصدت للدعاء، وقد حصل هذا المقصود وتحقق بصلاة الجماعة، خاصة إذا كان في الحرمين أو نحو ذلك، فكلما جيء بجنازة قبل دفنها توضع ثم يقال: من لم يصل فليصل ونحو ذلك، فهذا فيه تكلف. والذي يظهر من ظاهر السنة أننا مطالبون بالإسراع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة) ، فهذا أمر يقتضي المبادرة والتعجل، وحق الميت في هذا ينبغي حفظه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله) . ومن هنا وصى أهل العلم رحمهم الله بأنه لا يجوز تأخير الجنائز، وهذا أمر تساهل فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، فينبغي المبادرة بالجنائز والإسراع بها، وهذا فضل للميت وخير له، وقد صح عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن الله كشف له الغيب، وبين أن الجنازة تصيح وتقول: قدموني قدموني إذا كان صالحة، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا ذلك القائل: قدموني قدموني؛ لما يرجو من رحمة الله والخير، ونقول: الدعاء له متدارك بعد دفنه، خاصة وأن هناك قولا -وإن كان مرجوحا- بجواز الصلاة عليه بعد الدفن، والله تعالى أعلم. معنى قول العلماء: (قياس مع الفارق) السؤال نرجو من فضيلتكم توضيح قول الفقهاء رحمهم الله: (قياس مع الفارق) ؟ الجواب القياس دليل شرعي، وهذا الدليل الشرعي لا يجوز لأحد أن يستخدمه إلا إذا علم ضوابط الشريعة فيه، فالسلف والعلماء والأئمة أكثر من عشرة قرون قد قعدوا هذا الدليل الشرعي، وبينوا ضوابطه، فلا يجوز لأي شخص أن يستخدم هذا النوع من الأدلة إلا وهو يعرف أركانه وشروط، أي: الأركان المعتبرة للعمل به وإثباته، فلا يأتي أحد فيقيس شيئا على شيء دون علم ومعرفة؛ لأنه قد يحلل ما حرم الله، وقد يحرم ما أحل الله، والرأي قد يكون مزلة للإنسان إذا لم يحسنه؛ لأن الرأي سلاح ذو حدين، فإما أن يكون سببا في بناء الشرع وتميز أحكامه ومعرفتها والوصول إلى الحق في المسائل المشكلة، وإما أن يكون العكس والعياذ بالله! ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه المشهور الذي كتبه لـ أبي موسى الأشعري، وهو من أعظم كتب الفقه، وقد اشتمل على قواعد مهمة للفقيه، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله شرحه في أكثر من مائة صفحة، وهو كتاب عمر رضي الله عنه الذي قال فيه: (اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بأمثالها) ، فبدأ بالمعرفة، فتحتاج إلى أن تعرف ما هو الأصل؟ وما هي العلة التي تربط بين الأصل والفرع؟ وتعرف الحكم المستنبط والذي تتوصل إليه، والذي من أجله أثبت القياس. والقياس يقوم على أربعة أركان: 1 - فرع مختلف فيه. 2 - وأصل متفق عليه بين الطرفين. 3 - وحكم لذلك الأصل. 4 - وعلة تربط بين الفرع وبين الأصل. فمثلا: نقول: لا يجوز التفاضل في الأرز كما لا يجوز في التمر، بجامع الكيل عند الحنفية، والقوت والادخار عند المالكية، والطعم عند الشافعية، والطعم مع الكيل أو الوزن على رواية عند الحنابلة رحمهم الله، أو الطعم على الرواية الثانية، أو الكيل على الرواية الثالثة، فهذا القياس قد ألحقت الأرز بالتمر فقلت: لا يجوز أن يباع الرز بالأرز متفاضلا، ويجري فيه الربا مثل التمر والشعير؛ لأنك ترى أن الأرز والشعير لا فرق بينهما من حيث القياس. إذا: الفرع هو الأرز؛ لأنه لم يرد فيه نص لا في الكتاب ولا في السنة، والأصل المتفق عليه هو التمر؛ بأنه لا يجوز بيع التمر بالتمر متفاضلا، والحكم: هو عدم جواز التفاضل، والعلة: ما ذكرناه في المذاهب الأربعة مفصلة، وفي هذه الحالة يجري القياس. ويشترط في الأصل الذي تقيس عليه من الشروط: ألا يكون معدولا به عن سنن القياس؛ فلابد أن يكون صالحا لأن يقاس عليه غيره، فإذا كان معدولا به عن سنن القياس فلا يصح، فمثلا: المرأة إذا قذفها زوجها -والعياذ بالله- بالزنا فإنه يلاعنها إذا لم تكن له بينة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، وذلك في حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية رضي الله عنه امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) ، فاشتكى هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه نزل فيك وفي صاحبتك قرآن) ، فجاءت فتلاعنا، فالرجل مع زوجته إذا قذفها فإنهما يتلاعنان، لكن لو أن أخا قذف أخاه والعياذ بالله، فهل يجري بينهما اللعان؟ فلو جاء شخص يجهل ضوابط القياس فقال: يجري اللعان بين الأخ وأخيه كما يجري بين الزوج وزوجته، بجامع وجود القرابة في كل؛ فنقول: هذا قياس فاسد؛ لأن الأصل معدول به عن سنن القياس. إذا: هناك شروط وضوابط في الأقيسة، فمثلا: إذا كانت الجوارب خفيفة، وقد كان الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الجوارب سميكة، فنزلت الجوارب السميكة منزلة الخف؛ لأنه مثله في الوصف وقريب منه، حتى إنهم ربما يواصلون عليه المشي ولا يسترون أقدامهم، حتى إنهم يلفون التساخين لأجل الوقاية من الحجارة، ولا تكون كذلك إذا كانت رقيقة، فإذا كان الأمر كذلك، فلو جاء أحد يقيس فقال مثلا: يجوز المسح على الخفيف من الجوارب كما يجوز المسح على الخفين، فنقول: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الخف يمكن مواصلة المشي عليه، وهو ساتر للرجل بخلاف هذا الشفاف الرقيق، ولأن الخف في الأصل رخصة عدل بها عن الأصل الذي هو غسل الرجلين، وهذه الرخصة ينبغي أن تتقيد بما ورد وثبت في السنة، والمحفوظ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هو الخف، والجورب الثخين، ولذلك جاء في رواية السنن: (الجورب المنعل) ، أي: الذي يكون في أسفله جلد، فإذا ثبت هذا، ثم إذا جاء أحد يقيس -وأعني: عند من لا يرى المسح على الخفيف- فنقول: إن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الثخين في حكم الخف، ولذلك جاز المسح على الجوارب لأنها في حكم الخفاف، فلا يجوز قياس الخفيف عليها، وهذا كله قياس مع الفارق، فتثبت الفارق بينهما؛ فإذا أثبت الفارق قدحت في القياس. والقياس مع الفارق يسميه العلماء: قادح من قوادح القياس، وهذا القياس الذي أثبته العلماء كدليل وحجة يعترض عليه، ويقدح فيه من أربعة عشر وجها، منها: فساد الاعتبار، والقلب، والنقض، ومنها: أن يقال: هذا قياس مع الفارق، فتثبت أن هناك فرقا بين الأصل وبين الفرع، وتضعف إلحاق الفرع بالأصل من هذا الوجه. فالقياس مع الفارق قادح من قوادح القياس الأربعة عشر، وإذا سلم الخصم أن هذا الفارق مؤثر فحينئذ يبطل قياسه، أو يلزم بدليل آخر بدلا عنه، والله تعالى أعلم. جدة الزوجة محرم للزوج السؤال هل يكون زوج المرأة محرما لجدة تلك المرأة من أبيها، أي: هل يدل قوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23] على ذلك؟ الجواب نعم، أم الزوجة من جهة أبيها ومن جهة أمها أم لها، ولذلك تعتبر محرما له، وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23] يشمل الأم المباشرة والأم بواسطة، سواء تمحضت بالإناث كأم الأم، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب، فجدة الزوجة سواء كانت من جهة أمها -وهي الجدة التي تمحضت بالإناث وهي أم أم الزوجة- أو كانت جدتها من جهة أبيها؛ كأم أبيها أو أم أبي أمها، فإنها محرم؛ لأنها في حكم الأم؛ للعموم الذي ذكرناه بنص الآية الكريمة، والله تعالى أعلم. تخصيص شعبان بكثرة الصيام السؤال هل ورد فضل للصيام في شهر شعبان سواء كله أو بعضه؟ الجواب لم يرد في شعبان دليل على تخصيصه بالصيام من جهة الفضل، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم ويكثر في شعبان من أجل التقوي على رمضان، وليس المراد من هذا خصوص الشهر، ولا يراد به الاعتقاد في الشهر، وإنما يراد به التقوي على رمضان، ولا يخفى أن من دخل عليه رمضان، ولم يكن قد صام شيئا من شعبان؛ فإنه يضعف في أول رمضان، وقد يتعب في الأيام الأول من رمضان، وينهك بدنه؛ لأنه لم يألف الصوم، ولم يتعود عليه قبل دخول رمضان، فإذا أراد أن يكون قويا في رمضان، ويتقوى على صيامه؛ فالأفضل ألا يبالغ في صيام شعبان، ولا يترك -أيضا- صيام شعبان؛ لأنه إذا بالغ في صيام شعبان فإن رمضان سيدخل عليه وهو منهك، فيؤذيه الصوم، فيكون قد اشتغل بالنافلة عن الفرض، وإذا ترك صيام شعبان كلية دخل عليه رمضان فأضعفه بالصوم، ولذلك فإن من يعتاد الصيام في شعبان إذا دخل عليه اليوم الأول فلا يصدع رأسه، ولا ينهك بدنه، ولا تخور قواه، لكن بعض الناس ممن لا يألف الصوم ربما سقط من بعد صلاة الظهر، وإذا به لا يتحرك، وقد لا يستطيع أن يصلي العصر من شدة ما يأتيه من وطأة الصوم عليه. فالمقصود من صيام شعبان هو التقوي على صيام رمضان، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نهي عن الصيام بعد منتصف شعبان؛ لحديث العلاء بن عبد الرحمن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصوم بعد منتصف شعبان) ؛ لأنه إذا انتصف شعبان وبالغ في الصوم أنهكه عن رمضان، ولما نهى عن الصوم بعد المنتصف، كأنه يحبب الصوم قبل المنتصف، وهذا مفهوم مخالفة، فإذا صام بعد منتصف شعبان، وبالغ في الصيام؛ ضعف عن رمضان. ونقول: إنه يفصل في ذلك: فمن كان الصوم لا يضعفه فيجوز له الصوم، ليتقوى به على رمضان، ويدل على ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) . وهذا أصح من حديث النهي عن الصوم بعد منتصف شعبان، فلما نهى عن ذلك وقال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) نبه على أنه يجوز تقدمه بصوم أربعة أيام أو خمسة، وذلك من باب التقوي على رمضان، وهذا أمر يخفى على الكثير، حتى في بعض الخلافات التي وقعت بين العلماء رحمهم الله في هذه المسألة أن صوم شعبان لا يراد لذاته، وإنما يراد به التقوي على رمضان، بحيث إذا دخل عليه وقد ألفت نفسه الصوم قوي عليه في فريضته، ولم يبالغ في ذلك إلى درجة ينهك بسببها في صيام رمضان الفريضة، والله تعالى أعلم. وصايا مهمة لمن يحضر الدروس العلمية السؤال نود منكم نصيحة لمن يضع سيارته خلف سيارات يريد أصحابها الخروج فلا يستطيعون بسبب تلك السيارة، ونريد نصيحة أخرى لمن يؤذي المسلمين أثناء الدرس بفتح نغمات التلفون أو بالكلام؟ الجواب لا يجوز للمسلم أن يتسبب في الإضرار بأخيه، وأوصي كل طالب علم، وأحرج عليه بالله عز وجل -لما وجدنا من الأذية في الدروس، وإزعاج بعض العوام وتشويشهم- أنه إذا أوقف سيارته ألا يوقفها وهي مقفلة على أحد، ولو أن يضعها على بعد كيلو من المسجد، فلا يحضر مجلسي أحد قد آذى أحدا بقفل سيارته على إخوانه، وهذا أمر قد تكرر أكثر من مرة، سواء في درس جدة أو في درس مكة أو غيره من الدروس، فرجائي للإخوة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وأن يتقوا الله في إخوانهم، وقد حدث في بعض الدروس أن كان بعض الجيران عنده مريض، واحتاج إلى إسعافه، فلم يستطع، لأن أحدهم أقفل بسيارته على سيارة صاحب المريض. وبعضهم يأتي وكلما وجد سيارة ظنها سيارة طالب مثله، فيقفل عليها، فهذا لا ينبغي أبدا، فإذا أردت أن توقف سيارتك فلا تقفل على أحد وإلا حملت الإثم والوزر، وخاصة إن كنت طالب علم أو كنت منتسبا للعلم. الأمر الثاني: مما كثرت الشكوى فيه: قضية الجوالات وأصوات البيجرات أثناء الدروس، فأناشدكم الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ألا يجلس أحد في مجلس علم -وأخص مجلسي- وقد فتح جواله، فإذا أراد أن يجلس ويغلق الجرس فليجلس، أما أن يجلس ومعه جواله وقد فتح جرسه، فلا آذن له، والله يشهد على ذلك، وأشهد الله أنه مؤذ لإخوانه ومضر بهم، سواء كان ذلك عن طريق فتح الجرس فيزعج من حوله -وهذه الأجراس تعرفون أن كثيرا منها موسيقية وذات نغمات لا تليق في بيت الله عز وجل- أو كان ذلك عن طريق التكلم والتحدث أثناء الدرس، وهذا قد تكرر أكثر من مرة، وقد بعث لي الإخوة رسائل في درس جدة ومكة، أنه بلغ ببعضهم أنه يتكلم أثناء الدرس وداخل الحلقة، وما رأيت ذلك، لكن لا أشك أنه ظالم لإخوانه؛ لأنه إذا أراد أن يكلم أحدا فليخرج من الحلقة، والأغرب من هذا أن البعض يخرج ويتخطى الرقاب ثم يرجع مرة ثانية، ولا أرى له شرعا أن يعود إلى المكان. وعليه: فالذي يريد أن يتصل ويكلم الناس فليجعل كلامه في الخارج، وليبتعد عن الحلقة، فهذا مكان علم، ومكان تتلى فيه آيات الله والحكمة، وليحمد الله المسلم أن الله شرفه وكرمه بسماع آيات التنزيل والأحكام، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى يغبط عليها، فهذه الثواني والدقائق إن كانت عندك قليلة فإنها عند الله ليست بالقليلة، بل هي التي تكفر فيها السيئات، وترفع فيها الدرجات، وكفى الإنسان لغط الدنيا وهمومها، ألا يستطيع أن يصبر ساعة في ذكر الله جل جلاله؟ والبعض قد يأخذ معه جواله وبيجره إلى الصلاة، فيزعج ويشغل فلا يعرف كيف صلى، نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلوب أنت أثناء الصلاة في آخرتك، فالإنسان يقضي الساعات كلها في أمور الدنيا، أفلا يستطيع أن يصبر نفسه دقائق؟! فالصلوات لا تبلغ بعض الأحيان ربع ساعة، أفلا يستطيع أن يغلق جواله؟! وهل الذي يتصل عليه أعز عليه من ربه الذي يلقاه ويستقبله ويذكره ويمجده ويثني عليه بالذي هو أهله سبحانه وتعالى؟! إن ذلك كله بسبب قسوة القلب والعياذ بالله! ولا أشك أن هذه من الفتن التي فتحت على الناس حتى شغلوا في موقفهم بين يدي الله جل جلاله. فينبغي على الإنسان أن يكون منتبها لهذه الأمور، فبمجرد أن آتي إلى المسجد أغلق جوالي، أو أفتح جوالي وأتركه في السيارة وليتصل من أراد، ثم إذا رجعت رجعت إلى دنياي، لكن إذا دخلت في آخرتي مقبلا على ربي فليس هناك أي شيء يشغلني عن الله جل جلاله، ولأن الشخص إذا اتصل عليه أحد في الصلاة، فإنه يتشوش ويقول في نفسه: من هذا الذي اتصل؟ أهي الزوجة أم الأهل أم غيرهم؟ أمور كلها تدخل على الإنسان الوساوس وتشغله عن ذكر الله عز وجل. فهذا أمر قد كثرت فيه الشكاوي، ولذلك أعود وأكرر: إني أحرج بالله على كل شخص يحضر مجلسنا ألا يتسبب في أذية إخوانه، سواء عن طريق البيجرات أو عن طريق الجوالات، ولينصح بعضكم بعضا. وإذا حضر إلى الدرس فهذا درس علم ومجلس علم، يذكر فيه الله جل جلاله، ويبتعد الإنسان عن أي شيء يزعج إخوانه أو يؤذيهم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد عظم أذية المسلم إلى درجة أنه أسقط صلاة الجماعة عمن أكل ثوما، وهذا الثوم رائحة فقط، فإذا جئت لتصلي وتقف بين يدي الله شوش عليك في الرائحة؛ فكيف وأنت تستمع حكما شرعيا تنتظره أمم من طالب العلم؟ فالأمر ليس بالسهل، الأمر تتقطع له القلوب حرقة، وقد كنا نرى من مشايخنا من يسقط طالب العلم من عينه لمجرد غلطة يذيعها أثناء درسه وحضوره مجلس العلم. ربما أثناء اتصال الجوال يكون إخوانك متجهة أفهامهم وأنظارهم لمسألة، فقطعتهم وحرمتهم منها، أليس هذا ظلم؟ أليس هذا جور؟ أليس هذا اعتداء لحدود الله عز وجل؟ وهذه المسألة قد تكون من أهم المسائل، وقد تكون معضلة من المعضلات، فقد جاء طالب العلم ربما من عشرات الكيلو مترات من أجل (قال الله وقال رسوله) ، فأنصت وأصغى وأحضر قلبه، حتى إذا أراد أن يصل إلى النتيجة جاء هذا الاتصال وقطعه عنها، فمن الذي يسأل أمام الله عن هذا؟ وأي ضرر يحصل للإنسان في مثل هذا؟ وإذا كان الشخص لا يعظم مثل هذا، فإننا والله نعظم حدود الله ونعظم شعائره، وعندنا الكلمة من العلم تساوي شيئا كثيرا، وعندنا الحكم الشرعي كبير جدا؛ لأن هذا العلم هو الذي رفعنا على رءوس الناس بفضل الله سبحانه وتعالى، وهو الذي رقينا به المنابر، وهو الذي نلنا به الخير والسعادة والبركة؛ فكل قليل منه عندنا كثير وكبير جدا، فلا نستخف بمثل هذا. فإذا جاء أحد ومعه جواله وبيجره فليحتط، ولا يتسبب في أذية إخوانه، فالأمر ليس بالسهولة مثلما يظن البعض، وينبغي علينا أن نتواصى بالحق، وأن يزجر بعضنا بعضا، فالشخص الذي يفعل هذا لا يفوتك، وقل له بعد الصلاة: يا أخي! اتق الله، فهذا لا يجوز، وهذا من الاعتداء على حدود الله عز وجل، فيأتمر المسلم بما أمر الله، وينهى أخاه عما حرم الله عز وجل من أذيته والإضرار به. والأمر أيضا عند النساء: قضية الأطفال، وإزعاج طالبات العلم بهم، وقد تكررت الشكوى من النساء، حتى إن بعض النسوة قد ناشدنني فقلن: اتق الله فينا، فإننا نحضر من مسافات بعيدة، ونريد هذه الساعة في الأسبوع لسماع الذكر وسماع الأحكام، ونحن أحوج ما نكون، فيأتي الأطفال ويشوشن علينا، ولربما يصل الأمر إلى تدليل الأطفال وعبثهم ولعبهم على مرأى ومسمع من والدتهم، وهذا لا يجوز. فلا يجوز ترك الأطفال -سواء عند الرجال أو عند النساء- بطريقة تشوش على طلاب العلم، فهذه بيوت الله، وليخش والد الطفل أن يدعى على طفله دعوة تكون سببا في شقائه؛ لأن بعض الناس لا يتمالك نفسه، وقد يأخذه القهر لأنه يأتي من عشرات الكيلو مترات للعلم الذي يريد أن يفني له عمره وحياته، ويضحي له بالغالي والرخيص، فيأتي من يشوش عليه سواء ممن يعقل أو لا يعقل. فعلى المرأة أن تحفظ أطفالها، وإذا غلب على ظنها أن حضور الأطفال يشوش على أخواتها فلتتقي الله عز وجل، ولتخف منه سبحانه وتعالى، ولتجلس في بيتها وتسمع الشريط، أما أن تأتي إلى بيت الله عز وجل بأطفالها، وتزعج من حضر من طالبات العلم، وتسبب في ضياع تركيزهن وضبطهن للعلم، ونحن أحوج ما نكون إلى طالبة علم تضبط هذا الدين وتقوم بحقوقه، فهذا لا يجوز، فأوصي أخواتي بأن يراعين ذلك، وأن يتقي الله بعضنا في بعض، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل، والله تعالى أعلم. وأختم هذا الدرس بوصيتكم بما وصى الله به المسلم تجاه أخيه المسلم: بأن يعينه وأن يناصره وأن يؤازره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . فكم من مسلم دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، فجعل الله سعادته في دعوته، فقال الملك: آمين، ولك مثله، وكم من كربة ونكبة وفاجعة فرجت عن مسلم بفضل الله ثم بدعوة أخ له صادق بظهر الغيب! فأعظم الله أجر الداعي، وأحسن العاقبة لمن دعي له، وإن إخوانك في الشيشان يعانون كربا وبلاء عظيما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فقد شردوا، وأخرجوا من ديارهم،، وفرق بين الوالدة وأولادها، وبين الأخ وأخيه، وعانوا من البلاء ما الله به عليم عندما طرقتهم أبواب البرد في مكان هو من أشد أرض الله عز وجل بردا وزمهريرا! فلا يعلم ما الذي يكابدون ويجدون من كيد وحقد أعداء الإسلام والمسلمين على هذا الدين إلا الله سبحانه وتعالى، فما أحوجهم منكم إلى النصرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وهذا أصل شرعي، وهو: أن الله فرض على المسلم أن ينصر أخاه المسلم. وإن مما ينصر به المسلم الدعاء، ولا يستهين المسلم بالدعاء، فإن الله تعالى قد زلزل عروش الظالمين وشتت شملهم أجمعين بدعوة المظلومين، والله يرفع دعوة المظلوم ويقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) . فاضرعوا إلى جبار السموات والأرض، وابتهلوا لهم بخالص الدعاء، خاصة في مظان الإجابة من الأسحار وبين الأذان والإقامة بقلوب خاشعة متجهة إلى الله سبحانه وتعالى، بل بكل ما يستطيع المسلم من خشوع وإخبات وإنابة، فيستجمع بها ما يكون سببا في قبول دعوته نصيحة لإخوانه المسلمين. وعلى الأئمة أن يضرعوا إلى الله بالدعاء في القنوت، فيقنتوا ويستحضروا الخشوع، ويستحضروا عظمة الله جل جلاله، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والله على كل شيء قدير، ولا يعجز الله شيء أبدا، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وما أهون الكافر على ربه! وما أهون العبد على ربه إذا أراد أخذه! وإن أخذ الله أليم شديد، فاضرعوا إلى الله بالدعاء، وابتهلوا بسؤال الله سبحانه وتعالى حتى يفرج |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (406) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [3] من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن الوصية بأكثر من الثلث أو تخصيص بعض الورثة بشيء من المال لا يجوز إلا بموافقة الورثة. ومنها: أنه يكره للفقير أن يوصي بشيء من ماله وعنده ورثة محتاجون، ومنها من مات ولا وارث له، فهل يوصي بماله كله أم أنه يقتصر على الثلث؟ ومسألة تزاحم الوصايا، وغيرها من المسائل التي فصل فيها الشيخ هنا. حكم الوصية بما زاد على الثلث بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، فتصح تنفيذا] . بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن الوصية لا تصح فيما زاد على الثلث، وقد بينا أن الأصل في هذه المسألة حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ومن هنا أخذ العلماء دليلا على أنه لا يملك الإنسان في وصيته ما زاد على الثلث، وإذا فعل ذلك فإنه يطالب الورثة بالإذن أو الامتناع، فإن شاءوا امتنعوا فتلغى الوصية فيما زاد على الثلث، وإن شاءوا وافقوا فتمضي، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أن الذي يملكه الإنسان في صدقته ووصاياه في حدود الثلث. وفي هذا حكمة من الله عظيمة؛ لأن الإنسان إذا حضره الأجل عظم خوفه من الآخرة، وانكشفت له حقائق الأمور، وزال عنه اللهو والغرور، وأصبح مقبلا على آخرته، فعندها لو مكن الله الإنسان من جميع ماله لتصدق بجميع ماله؛ لأنه يريد أن يفتدي من عذاب الله عز وجل، وأن يسلم من تبعات الأموال التي جمعها، والخيرات التي حصلها؛ فإذا وقف على آخر الدنيا فإنه يغلب مصلحة نفسه على مصلحة ورثته، ولو فتح هذا الباب لما أبقى ميت لورثته شيئا، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، أي: عند الوفاة، حتى تكون من وصية الإنسان لآخرته يستصلح بها ما فسد، ويتدارك بها ما فات؛ فيصل بها رحمه، ويجعل بها صدقة جارية عليه بعد موته، فهذا من الخير والرحمة التي جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين. قال رحمه الله: (ولا تجوز بأكثر من الثلث) أي: لا تصح الوصية في الشيء الزائد على الثلث، فالثلث نستخرجه من جميع ما تركه الميت؛ سواء كان من النقود أو من غيرها، فمثلا: لو كان قد ترك سيولة من النقد ما يقارب مائة ألف، وترك (عمائر) وأراضي وعقارات وأمورا أخرى، ففي هذه الحالة لو قال: أوصيت بمائتي ألف، فالسيولة تعادل المائتي ألف، فإننا لا نقول: إنه قد أوصى بكل ماله، وإنما ننظر كم قيمة العقارات التي تركها والسيارات التي كان يملكها، ولو كان عنده أطعمة في بيته، مثل أكياس الأرز التي للتجارة، ونحوها، فإذا كانت تجارات ونحوها فإنها تقوم وتنظر قيمتها، ثم ينظر المبلغ الذي وصى به هل يعادل ثلث جميع التركة أو لا يعادلها؟ فلو أننا وجدنا العقارات تساوي مليونا، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فلا شك أن المائتين نافذة؛ لأنها دون الثلث، فتصح وصيته وتمضي، ولكن إذا كانت العقارات مجموعها يعادل مائة ألف، كأن يكون مجموع ما عنده من الأراضي -مثلا- أربع قطع، وكل قطعة تساوي خمسة وعشرين ألفا، فهذه مائة ألف، ثم هو قد أوصى بمائتي ألف، فالمائتان تعادل ثلثي التركة، فحينئذ تصح في المائة، وتبقى المائة الزائدة ويسأل عنها الورثة: هل يمضونها أم لا؟ وينبغي أن يكون إمضاء الورثة بدون إحراج، فبعض الورثة قد يضايق بعضا في إنفاذ وصية الوالد والوالدة فيما زاد على الثلث، وهذا أمر لا ينبغي؛ لأن الذي يخرج بوجه الحياء وبالإكراه لا خير فيه، وربما أن هذا المال إذا أخذه الإنسان على هذا الوجه فقد يكون منزوع البركة، فتأتي العاقبة الوخيمة لمن أخذه من صاحبه بدون رضاه ولا بطيب نفس منه. فينبغي ألا يضايق بعض الورثة بعضا في هذا، فيقول مثلا: إن الوالدة قد وصت بالمائة ألف لكي نخرجها، وفي ذلك إضرار، فقد يكون بعض الورثة مديونا، وقد يكون معسرا، وقد يكون عنده من العيال والضعفة ما يجعله يحتاج إلى أن يأخذ من الإرث حتى يواسيهم، أو يصلح من شئونهم، فينبغي النظر في مثل هذه الأمور، وعدم تغليب العواطف على الأمور الشرعية المقررة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المواريث والفرائض التي قسمها الله من فوق سبع سماوات أمرها عظيم، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تصل الحقوق إلى أهلها. وقد تترك الوالدة -مثلا- حليا، وهذا الحلي في بعض الأحيان يعادل أربعين ألفا، وفي بعض الأحيان يعادل مائة ألف، وبعض النساء قد يعادل حليها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، فتجد بعض الورثة يقول: نأخذ حليها ونتصدق به، فلا ينبغي هذا؛ بل ينبغي وضع الأمور في نصابها، ومعرفة ما الذي خلفه الميت، وما الذي ينفذ من وصاياه إلزاما، وما الذي ينفذ اختيارا، أي: باختيار الورثة وموافقتهم، وينبغي الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم في مثل هذا، وعدم تغليب العواطف في هذه الأشياء؛ حتى يكون الإنسان على السنن، وتكون طاعته لله عز وجل على بصيرة ونور. وقوله: (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا (قوله: (إلا) استثناء أي: إلا أن يجيز الورثة ما زاد عن الثلث، فنسأل الورثة ونقول: هذا الزائد عن الثلث هل نمضيه أو لا نمضيه؟ فمثلا: لو كان الثلث مائة ألف، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فحينئذ نسأل الورثة عن المائة الزائدة؛ لأن الوصية تصح في المائة الأولى، وتبقى المائة الثانية موقوفة على إجازة الورثة، فإذا سألنا الورثة فإن جوابهم لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتفقوا. توقف إمضاء الوصية بما زاد على الثلث على قبول الورثة الحالة الثانية: أن يختلفوا. وإذا اتفقوا فإما أن يتفقوا على الإمضاء، وإما أن يتفقوا على الإلغاء، فإذا اتفقوا على الإمضاء، وقالوا: رضينا ما وصى به والدنا، أو ما وصت به الوالدة، فحينئذ تمضي المائتان، وتنفذ الوصية في المبلغ كاملا، في المائة الأولى استحقاقا للميت، والمائة الثانية إما تنفيذا وإما ابتداء. وأما إذا اتفقوا على إلغاء الوصية، كأن يكون الورثة فقراء ضعفاء، ووالدهم ترك لهم مائتي ألف، وتصدق بما زاد على الثلث فقال: نصف مالي صدقة، أو أوصي أن نصف مالي يتصدق به، فنسأل الورثة فيما زاد: هل توافقون؟ فإن قالوا: نحن أحوج، ونريد هذا المال، ولا نريد إمضاء هذا الزائد على الثلث، فنقول: هذا من حقكم، ولا تثريب عليكم، وهذا ليس بعقوق للوالدين، فلا يظن أحد أن هذا عقوق، ولو كان عقوقا لما أمر الله به، ولما أحله من فوق سبع سماوات، ولكن قد ينظر الوالد شيئا لحظ نفسه، وأيضا الوارث ينظر لحظ نفسه، فالوالد ينظر إليه تطوعا وتفضلا، والوارث يراه لحظ نفسه واجبا وإلزاما؛ فلو كان -مثلا- أحد أولاده عليه ديون أو حقوق، ورأى أن والده أوصى لغيره، فلو أنه أمضى وصيته فيما زاد على الثلث لتضرر هو فيما يكون من استحقاقه من الإرث، فعند ذلك من حقه أن يقول: لا أمضيها، تقديما لحقوق أولاده؛ لأن الأولاد لهم حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول) ، فجعل بعد النفس من يعول، ففي هذه الحالة إذا اتفقوا على الإمضاء أو اتفقوا على الإلغاء فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يختلفوا، فيقول بعضهم: نمضي، ويقول بعضهم: لا نمضي. فمثلا: لو أنه ترك ابنا وبنتا، فوصى بما زاد على الثلث، ثم سألنا الابن والبنت، فقالت البنت: أنا أجيز ما أمضاه والدي، وقال الابن: لا أجيز، فحينئذ تنفذ بقدر ثلث ما زاد على الثلث؛ لأن الزائد على الثلث استحقاق للابن والبنت، والابن له مثل حظ الأنثيين، فمعنى ذلك: أن للابن سهمين فيما زاد على الثلث، وللبنت سهم واحد فيما زاد على الثلث، فإن أمضت البنت مضى ثلث ما زاد على الثلث، وإن أمضى الذكر مضى ثلثا ما زاد على الثلث. فلو كان الذي زاد على الثلث ثلاثة آلاف ريال، فسألنا البنت فقالت: أمضوه، وقال الولد: أنا محتاج، فحينئذ نمضي ألفا ونبقي ألفين، فصحت في الألف والتغت في الألفين. وعلى هذا فإنه ينظر إلى نصيب كل وارث، فإن اختلفوا فيصح في استحقاق كل ذي حق بقدر نصيبه من ذلك الزائد على الثلث. توقف إمضاء الوصية بما زاد عن الثلث على قبول الورثة وقوله: (ولا لوارث بشيء) . فلا يصح أن يوصي لوارثه بشيء، فلو خص بعض الورثة وقال: أوصي بأن يعطى فلان من أولادي الثلث أو الربع، أو يعطى مائة ألف من التركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم هذا ومنعه، حيث قال: (لا وصية لوارث) ، وجاء في حديث ابن عباس -وقد سبقت الإشارة إليه- إلا أن العلماء اختلفوا في قوله: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) ، فهذا يدل على أن الوارث لا يوصى له. والعبرة بالوارث هو ما يكون بعد الموت، فإذا كان غير وارث حين الوصية، ثم أصبح وارثا بعد الموت، أو كان وارثا حال الوصية ثم أصبح غير وارث عند موته، فهذا كل سيأتي بيانه إن شاء الله. أما من حيث الأصل فلا يجوز للميت أن يوصي لمن يرثه، سواء كان من الذكور أو من الإناث، وفي هذا حكمة عظيمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه من التركة، فينبغي أن لا تترك القسمة؛ لأنها هي العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. فإذا جاء يوصي وقال: بناتي، أو أبنائي أريد أن أزيدهم، فكأنه يستدرك على الشرع، ولذلك قطع من هذا ومنع. كما أن الوصية للوارث توغر صدور الورثة بعضهم على بعض، وتوغر صدورهم أيضا على مورثهم، سواء كان من الرجال أو من الإناث، كما حرم الله عز وجل تخصيص بعض الورثة بالعطية دون بعضهم كما تقدم معنا. توقف إمضاء الوصية للوارث على إجازة الورثة وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذا) قوله: (إلا) استثناء، والاستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، (إلا بإجازة الورثة لها) وإجازة الورثة لأمرين: الأمر الأول: لما زاد على الثلث، وقد تقدم بيانه. الأمر الثاني: إذا خص بعض الورثة بشيء ما، كأن يكون واحد من أبنائه معاقا ويحتاج إلى المال أكثر، فخصه بشيء، فقال: سيارتي، أو بيتي الفلاني، أو عمارتي الفلانية لهذا الابن المعاق، أو نظر إلى ابنته ولها أطفال، ولها وضع معين، وأراد أن يستسمح الورثة، فوافقوا في حياته أو بعد موته؛ فإن هذا يمضي ولا إشكال فيه؛ لأن الحق حقهم، وإذا كان الحق لهم، فإنهم كما يملكون بذله يملكون إمضاء وصية والدهم أو وصية والدتهم إذا وصى أحدهما بذلك. وقوله: (تنفيذا) إذا وصى لوارث واتفق الورثة على إمضاء الوصية، أو وصى بما زاد على الثلث واتفق الورثة على إمضاء هذا الزائد، فهل هذا الذي أمضوه يعتبر ابتداء أو تنفيذا؟ بعض العلماء يقول: إذا أمضى الورثة وصية مورثهم للوارث، فهذا تنفيذ للوصية، وإذا كان تنفيذا؛ فحينئذ إذا وقع القبول من الموصى إليه في زمان، ثم أجاز الورثة بعد ذلك، كأن أجازوا مثلا بعد شهر أو شهرين؛ فإن قلنا: إنه تنفيذ، وخلال الشهر والشهرين أجرت الدار، وهذه الدار إجارتها بألف أو ألفين، أو أجرت السيارة أو أجرت الدابة، وحصل منها دخل، فإن قلت: إجازة الورثة تعتبر تنفيذا لما وصى به الميت؛ فحينئذ الأجرة مستحقة لمن أوصي له، والذي وصي له يستحق هذه الأجرة؛ لأن ملكيته تثبت بمجرد أن يجيزوا، فتثبت بقبوله -كما سنبينه إن شاء الله- إذا قبل بعد الموت، فلو حصل قبوله في أول شهر محرم، فقالوا: إن أباك قد وصى بهذه السيارة لك، فقال: قبلت -أي: جاءه بعد وفاة والده- وحصل هذا في أول محرم، ثم حصل للورثة ما حصل من أخذ وعطاء، فرتبوا أمورهم، فلما جاءوا إلى وصية وارثه قالوا: إن والدكم أوصى بهذه السيارة فهل تجيزون ذلك؟ فقالوا: نجيز، وهذا حدث بعد شهرين، فخلال هذين الشهرين لو حصل زيادة في الشيء الذي وصي به أو نماء؛ فإنه يكون في ملك هذا الشخص الذي وصي له. الفرق بين التنفيذ والابتداء في إجازة الوصية للوارث أو ما زاد على الثلث وأما إذا قلنا: إنها ابتداء، فحينئذ يستحق الورثة الأجرة لما بين إجازتهم وبين قبوله؛ فإنها تكون في ملكهم، ولا تكون في ملك من وصي له. وقوله: (إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت) بعض العلماء يقول: إذا أخذ رضا الورثة في حياته فإنه يكون هذا مسقطا للإثم من ناحية تخصيص بعض الورثة، لكن الوصية أصلا لا تنفذ ولا تعتبر -كما سيأتي- إلا بالموت، وعلى هذا فإنه لا بد أن يكون قبول الورثة وإجازتهم بعد موت المورث الذي وصى، فعليه إذا وقعت الإجازة من الورثة على هذا الوجه بعد موت مورثهم، بأن اتفقوا، أو قال بعضهم بإجازتها وامتنع البعض؛ صحت بحسب الحال الذي ذكرناه، فإما أن تصح كلا إذا كان الجميع قد وافقوا، وإما أن تصح بالجزء الذي وافق صاحبه. قال رحمه الله: [وتكره وصية فقير وارثه محتاج] تقدم معنا أن الوصية تعتريها الأحكام التكليفية، فقد تكون محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، أو مندوبة، وبينا هذه الصور كلها وأدلة كل صورة، وهنا يقول المصنف: (تكره) أي: تكره الوصية من الشخص الفقير، والفقر والغنى أمر عرفي، فيرجع في ذلك إلى العرف، فلو كانت عنده خمسة آلاف ريال، والعرف يقول: من عنده خمسة آلاف ريال فهو في حكم الفقير، فهو فقير، فمثله يكره له أن يوصي؛ بشرط أن يكون له وارث محتاج. كراهة وصية الفقير الذي وارثه محتاج إذا: لابد من أمرين: أولا: أن يكون المال الذي يتركه قليلا، بحيث يوصف معه بالفقر والحاجة. ثانيا: أن يكون وارثه محتاجا إلى هذا المال. فإذا تحقق الشرطان فالوصية مكروهة، وبعض العلماء يقول: إنها خلاف الأولى، وبعضهم يقول: مكروهة، وقد اختلف علماء الأصول: هل خلاف الأولى يعتبر مكروها أم لا؟ أما كونها خلاف الأولى، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بالدليل الصحيح، فإن ميمونة رضي الله عنها أخذت جارية من جواريها فأعتقتها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (يا رسول الله! هل شعرت أني أعتقت فلانة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنك أعطيتها لأخوالك لكان أعظم لأجرك) ، مع أن الإنسان إذا أعتق لوجه الله عتق كل عضو منه بما أعتق، حتى ينجو من النار بهذا العتق، إذا وقع على الوجه المقبول عند الله سبحانه وتعالى، خالصا لوجهه الكريم، ومع هذا يقول لها: لو أبقيتها على الرق ووهبتها لأخوالك فوصلت بها الرحم؛ لكان أعظم لأجرك. فجعل العتق خلاف الأولى، ووجه ذلك أنها تصدقت على غريب، مع وجود حاجة القريب. وبناء عليه: أخذ العلماء أن البداءة بالغريب مع وجود حاجة القريب خلاف الأولى، وهل خلاف الأولى مكروه؟ حينئذ ترد المسألة الأصولية التي ذكرناها، لكن بعض العلماء يقول: إن الورثة قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تأكد الأمر في حقهم بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، فهو فقير، والمال ليس بذاك، ومعناه: أنه إذا لم يترك لأولاده هذا المال، فالغالب أن أولاده سيحتاجون، وعلى ذلك قالوا: إنه يكره، ولا شك أن القول بالكراهة له وجهه وله قوته؛ لأنه لا شك يضيق على الورثة، ويجحف بهم، وعلى ذلك تكون صدقته على الورثة خيرا له من أن يعطي المال للغريب، ولو كان ذلك الغريب محتاجا؛ بل إن تركه للمال نوع من الإحسان ونوع من الصلة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلة يبدأ بها الإنسان بأدنى الناس منه، ولذلك قال: (ثم أدناك أدناك) ، وعلى هذا فيبدأ بورثته قبل أن يبدأ بالناس. حكم الوصية بجميع المال لمن لا وارث له قال رحمه الله: [وتجوز بالكل لمن لا وارث له] . يرد هنا السؤال لو أن شخصا ليس له وارث، وأراد أن يوصي صدقة وبرا بجميع ماله، فهل يصح ذلك وتمضي صدقته، أم أنها لا تصح وصيته إلا في حدود الثلث؟ في المسألة قولان للعلماء: قال بعض العلماء: إنه إذا أوصى بماله كله وليس له وارث، مثل: شخص أسلم وقرابته كلهم كفار، وليس له من وارث، ثم حضرته المنية وعنده أموال، فقال: جميع أموالي من بعدي تكون في بناء المساجد، أو في تشييد الأربطة، وغير ذلك من أعمال البر والإحسان، وهذه الوصية قد شملت جميع المال، فقال أصحاب هذا القول: إذا وصى بجميع ماله ولا وارث له صحت وصيته، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا القول مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يرى أنه إذا وصى بجميع ماله فله ذلك، فهو أحق الناس بماله. وأيضا: أكدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة هي وجود الورثة حين قال: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، قالوا: فجعل هذا بمثابة التعليل للأمر. وخالف هذا القول طائفة من أهل العلم، وهو القول الثاني في المسألة فقالوا: تصح في الثلث، والزائد على الثلث يرد إلى بيت مال المسلمين، وهذا القول اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أولا: أن من لا وارث له فوارثه بيت مال المسلمين. ثانيا: أن بيت مال المسلمين هو الذي يكفنه لو لم يترك مالا، فلو أنه لم يترك مالا فمن أين سيكفن؟ ومن أين سيقام على مئونة تجهيزه وحوائجه إلا من بيت مال المسلمين، فكما أن المسلمين غرموا؛ فكذلك يغنمون في حال وصيته على هذا الوجه، فقالوا: يرجع الثلثان إلى بيت مال المسلمين ردا. ويكون هذا أيضا فيه إحسان إلى عموم المسلمين، فالإحسان به مقدم على الإحسان إلى بعضهم، وهذا القول الثاني من القوة بمكان؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، جاء من باب الوصف، ولم يجئ من باب التقييد بالحكم، بمعنى: أنه إذا لم يكن لك ورثة فإنه يجوز لك أن تفعل بمالك ما شئت. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال له سعد: (يا رسول الله! لي مال كثير ولا وارث لي إلا ابنة، أفأتصدق بمالي كله؟) ، فلو كان الأمر فيه سعة في حالة عدم وجود الوارث؛ لضيق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر في حدود عدم الإضرار بالابنة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرد إلى الثلث. وأكد أصحاب القول الثاني هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) ، فدل على أن الذي يملكه هو الثلث، وحينئذ إذا تصدق وليس له وارث بما زاد على الثلث فقد تصدق بما لا يملكه؛ لأن المال في هذه الحالة يكون ردا إلى بيت مال المسلمين، فكما أنه إذا زاد على الثلث في حال وجود الوارث دخل في ملك الغير، فكذلك في حال صدقته بجميع ماله ولا وارث له دخل على بيت مال المسلمين، فتكون وصيته في حدود الثلث إعمالا للأصل؛ لأن الحديث الذي ذكرناه: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) من حيث المنطوق أقوى من حديث: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) لأنه ربما يكون بمثابة الوصف -كما ذكرنا- لا من باب التقييد بالعلة. مسألة تزاحم الوصايا قال رحمه الله: [وإن لم يف الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط] بعد أن بين لنا ما الذي يشرع من جهة المقدار، وهو أن يكون في حدود الثلث؛ بين حكم ما زاد على الثلث، وحكم ما نقص عن الثلث أنه ماض، فورد السؤال لو أن شخصا وصى وازدحمت الأشياء التي وصى بها، وأصبح الثلث لا يسعها، فوصى بمبلغ معين لشخص، ثم بمبلغ ثان لشخص آخر من قرابته غير الوارثين، فأصبح ما وصى به زائدا على الثلث، فازدحم الشخصان وللتوضيح أكثر: شخص توفي وترك تسعة آلاف ريال -مثلا- فمعنى ذلك: أن ثلث التركة هو ثلاثة آلاف ريال، وفي وصيته قال: أعطوا محمدا -الذي هو المحتاج- ألفين، وأعطوا صالحا -المحتاج الثاني- ألفين، فأصبح مجموع ما يعطاه الشخصان يعادل أربعة آلاف ريال، والثلث ثلاثة آلاف ريال، فكيف نقسم الثلاثة آلاف ريال على أربعة آلاف ريال؟ بين المصنف رحمه الله أنها تكون بالقسط، وهذه المسألة في الحقيقة فيها تفصيل: ازدحام الوصايا مع كونها متساوية أولا: إذا ازدحمت الوصايا، فلا تخلو إما أن تكون مستوية أو أن تكون مختلفة، وازدحام الوصايا المستوية مثل أن تكون في حقوق واجبة، أو في أمور مستحقة استوت من جهة الاستحقاق. فمثلا: لو أن رجلا وصى أن يحج عنه، والحج كان واجبا عليه فماطل وتأخر، فوصى أن يخرج من ماله ما يحج به عنه، وأيضا وصى بكفارات، وهذه الكفارات عدلها -مثلا- ألف ريال، والحج عنه يكون بألف ريال، والثلث ألف ريال، فحينئذ لا يمكن للألف ريال التي هي ثلث ماله أن تستوعب الوصية بالحقين، والحق الأول واجب، والحق الثاني واجب كذلك، فازدحم حقان واجبان لله عز وجل. ازدحام الوصايا مع كونها مختلفة الحالة الثانية: أن يكون الازدحام عند الاختلاف، مثل أن يوصي بحق واجب كالحج، ويوصي بمستحب، فيقول مثلا: أخرجوا من الثلث ما يحج به عني حجة فريضة، وأخرجوا من الثلث عشرة آلاف ريال لفلان صدقة مني عليه، فعندما جئنا ونظرنا وإذا بثلثه لا يمكن أن يحج عنه وتخرج العشر آلاف ريال، أي: لا يستوعب الأمرين، فوجدنا أن الحج عنه فريضة واجبة لازمة، والعشرة آلاف صدقة مستحبة، فازدحمت الوصيتان إحداهما واجبة والثانية مستحبة. وهذه كلها تعرف عند العلماء بمسائل الازدحام في الوصية، فإذا ازدحمت الوصايا وكانت كلها واجبة؛ فمذهب بعض العلماء رحمهم الله أنه ينظر إلى صفة الوجوب من حيث اللزوم، مثل الحج في لزومه وفرضيته آكد من غيره. وبعض العلماء يقول: لا ينظر إلى مثل هذا، وإنما تقدم الكفارات لأنها دين، والحج لا يجب مع الدين، بمعنى: أن الحج يسقط مع الدين، فإذا كان الشخص مديونا فالحج يسقط، فحينئذ حقوق الكفارات الواجبة عليه مقدمة على الحج؛ لأنه لو كان حيا وأراد أن يسأل لقلنا له: أد الكفارات الواجبة عليك ثم حج؛ لأن الحج لا يجب على من عليه دين، فقدمت الكفارات والنذور والأيمان من هذا الوجه، وهذا القول عند النظر والتأمل أقوى. أما بالنسبة لازدحام الواجب مع المستحب والمندوب فلا إشكال، فلو أنه وصى بالحج وبالصدقة، حججنا عنه ثم نتصدق بما بقي. فمثلا: لو كان الحج عنه بألفي ريال، ووصى بعشرة آلاف ريال لرجل صدقة، فلنفرض أن الثلث ثمانية آلاف ريال فنخرج منه ألفين للحج عنه، وندفع الستة آلاف الباقية للشخص الذي وصى له، ويكون له ما فضل عن الواجب، فتكون المستحبات استحقاقها في الوصية عند الازدحام مع الواجبات فيما فضل وزاد. هذا بالنسبة لازدحامها، أما في حال الاجتماع بالاستواء مثل: المستحبات، فلو كانت وصاياه كلها مستحبة، كأن يقول: أعطوا محمدا ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا زيدا ثلاثة آلاف ريال، وأعطوا عمرا ثلاثة آلاف ريال، فهذه تسعة آلاف ريال، وثلث التركة ثلاثة آلاف ريال، فكيف تقسم ثلاثة آلاف على تسعة؟ في هذه الحالة ننظر إلى سهم كل واحد منهم من أصل مسألة في مجموع الوصايا، فإذا وصى لكل واحد من الثلاثة بثلاثة آلاف ريال، فمعناه: أن نصيبهم مستو، فتنظر إلى عدد رءوسهم وهم ثلاثة، فتعطي كل واحد منهم ثلث الثلث، وهذا هو معنى: بالقسط وبالحساب. وعلى هذا: ننظر إلى الرءوس واستحقاقها بنسبة المال الذي وصى به، فلو اختلفت فقال: أعطوا محمدا ألفين وزيدا ألفا وعمرا ألفا، فحينئذ تكون متفاوتة؛ لكن بين الألفين والألف تناسب، فتكون مقسومة على أربعة، فيصبح لمحمد نصف الثلث، ولزيد ربع الثلث، ولعمر الربع الآخر، فلو كان الثلث يعادل أربعة آلاف ريال، فنقول في هذه الحالة: يمضي نصف الثلث لمحمد -وهي الألفان- ثم لزيد ألف ولعمر ألف؛ لأنها تعادل ربع الثلث. ومسألة أن تجزئ بالأقساط هي مسألة مفرعة على مسألة العول في الفرائض، ومسألة العول في الفرائض حكي فيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل في ذلك قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة لما توفيت وقد تركت أختين وزوجا، فالزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فأصبح لا يمكنك أن تعطي نصف التركة للزوج؛ لأنك إذا أعطيته النصف بقي النصف، ولو أعطيت الأختين الثلثين بقي الثلث، والزوج يريد النصف، فحينئذ ماذا يفعل؟ لما وقعت هذه الحادثة في زمان عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم وشاورهم في هذا الأمر، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به النازلة يبدأ بأفاضل الصحابة والسابقين للإسلام، ويقدم المهاجرين، ثم الأنصار، ثم يشاور عموم الناس بعد ذلك، ولا يشاور قبل أهل العلم أحدا أبدا، فيبدأ أولا بأهل العلم فيشاورهم، فإن وجد عندهم حلا أمضاه؛ لأنهم هم أمناء الأمة، وأعلم بدين الله وشرعه، وهم أتقى لله وأقرب إلى الإخلاص، والبصيرة فيهم نافذة بتوفيق الله سبحانه وتعالى لهم. فشاور رضي الله عنه فقهاء الصحابة وأجلاءهم، وكان فيهم الزبير رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمير المؤمنين! ما أرى هذه المسألة إلا كرجل توفي وعليه دين عشرة وترك أقل من ذلك، فننظر نصيب كل واحد من أصلها) . ومراده بذلك: أننا ننظر إلى ما تركه الميت ويجزأ، ويكون النقص داخلا على كل شخص بقدر سهمه، فإذا كان الثلثان مع النصف فتعول المسألة إلى سبعة، فبدلا من أن نقسمها على ستة نقسمها على سبعة، وحينئذ يكون للأختين الثلثان أربعة، ويكون للزوج النصف ثلاثة، ويقسم النصيب فينقص صاحب النصف بقدر مناسب لصاحب الثلثين، ويدخل النقص على الجميع بقدر السهم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه وتفصيله في كتاب الفرائض. وهذه المسألة عندما وقعت بين الصحابة صارت أصلا عند العلماء في النماء والفضل إذا ترك التركات والمال، وصارت أصلا -أيضا- في العد والنقص، ففي هذه الحالة لو ازدحمت الوصايا وعين وقال: لفلان ألفان، والثاني له ألفان، والثالث له ألفان، وترك ثلاثة آلاف، فحينئذ ندخل النقص على كل واحد بقدر حصته من أصل المسألة، وهذا شبه إجماع بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وقد فرع العلماء رحمهم الله عليها مسائل الازدحام. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم من كان وارثا أو غير وارث قبل الوصية ثم تغير حاله قال رحمه الله: [وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث؛ صحت، والعكس بالعكس] . قوله: (إن أوصى لوارث) نستطيع أن نمثل لهذه المسألة بمثال يكون أصلا لغيره، فمثلا: الأخ لا يرث مع وجود الابن الذكر؛ لأن كلا منهما يرث بالعصبة، فعصبة الأخوة بعد البنوة. فإذا أردت أن تجعله في حال الوصية وارثا، وتجعله عند الموت غير وارث، فتجعل الرجل بدون ابن، ثم يوصي لأخ، فحينئذ الأخ وارث، فإذا ولد له الولد صار غير وارث عند الموت، فإذا وصى لأخ على أنه وارث، مع أنه كان وارثا أثناء الوصية، ثم ولد له ابن ذكر، وتوفي، فقد أصبح الوارث -وهو الأخ- غير وارث بعد الموت، فتصح الوصية؛ لأن العبرة في الوصية بما بعد الموت، ولذلك يستطيع أن يلغيها ويستطيع أن يرجع فيها، ولا عبرة بالقبول قبل الموت، وكل شيء موقوف فيها على ما بعد الموت، فنحن لا ننظر إلى ما كان عليه هذا الشخص، وهو أن الأخ قبل الموت وأثناء كتابة الوصية أو التلفظ بها كان وارثا، لكن المهم هو ما كان عند الموت، فلما توفي الرجل إذا به قد أصبح غير وارث، ويكون هذا عند حال الشك، فتكون زوجته مثلا حاملا فيوصي، فإذا كانت أنثى فالأخ له الباقي؛ لأنه عصبة، وإذا كان ذكرا، فحينئذ ليس للأخ من شيء. وفي بعض الأحيان الأفضل للأخ أن يكون ذكرا، وبعض الأحيان يكون العكس، فمثلا: قد يكون وارثا ويوصي له، مثل الأخ، فقد يكون غير وارث ثم يصبح وارثا، فقال: أعطوا أخي فلانا عشرة آلاف ريال من ثلثي وصية، وعنده ولد ذكر، فالأخ غير وارث مع وجود الولد الذكر، فأخذ الموصي بالسنة فوصى لقريب لا يرث، فشاء الله أن تكون منية الابن الذكر قبل أبيه، فتوفي بحادث وجاء الخبر لوالده فمات، فحينئذ الأخ الذي لم يكن وارثا أصبح وارثا؛ لأنه لما توفي الابن في هذه الحالة تقدمت درجة الأخوة، وأصبح الأخ في هذه الحالة من الوارثين، لكنه عند الوصية كان غير وارث، فالعبرة بما بعد الموت، فحينئذ تكون وصية لوارث، وعلى هذا فيكون الحكم واحدا؛ لأنه من حيث الأصل هو الذي وصي له، وهو الذي يرث المال، بمعنى: هو الذي يوصي له، وهو الذي يكون مسئولا عما زاد إذا لم يترك غيره. وقوله: (والعكس بالعكس) . أي: إن كان غير وارث فأصبح وارثا، أو وارثا ثم أصبح غير وارث، فالحكم بما بعد الموت، ولا تأثير لما تقدم على ذلك. قال رحمه الله: [ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال لا قبله] . الإيجاب والقبول من أركان الوصية الوصية لها أركان وهي: الموصي، والموصى إليه: وهو الوصي، والموصى به: وهو الشيء أو محل الوصية، والصيغة. فهذه أربعة أركان للوصية: فالشخص الذي يوصي، والشخص الذي يوصى إليه، والمحل الذي يوصي به (الشيء الذي يوصي به) والصيغة. والصيغة: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب بالنسبة للميت الذي كان حيا حينما وصى، ويشترط فيه شروط سيأتي إن شاء الله بيانها، والذي يوصى إليه أيضا يشترط فيه شروط لابد من توفرها، فلا بد من وجود الصيغة من هذا الشخص الذي وصى. إذا: هي الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموصي، والقبول من الوصي أو الموصى إليه، وإذا وقع الإيجاب فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون الإيجاب باللفظ. الثاني: أن يكون بغير اللفظ. فالإيجاب يكون صريحا إذا كان باللفظ، مثل قوله: وصيت بعشرة آلاف لفلان، فهذا لفظ صريح، ويعتبر إيجابا واضحا في الدلالة ليس فيه أي احتمال. والألفاظ الضمنية التي تدل على الوصية ضمنا ما جرى به العرف من الألفاظ المعروفة، كقوله: أعطوا فلانا من ثلثي كذا وكذا، فنعتبرها وصية، رغم أنه ما قال: وصية مني، بل قال: أعطوا فلانا، لكن (أعطوا) تدل ضمنا على أنه يريد الوصية، فهذا هو اللفظ الصريح واللفظ غير الصريح. وهناك أمور أخرى تدل على الوصية من الأفعال، مثل الكتابة، فلو كتب وصيته وأشهد عليها عدلين صحت الوصية، لو كان أخرس لا يتكلم لكن عنده إشارة مفهومة ومعروفة؛ فالإشارة في هذا تنزل منزلة العبارة، أو كان يسمع ولكنه لا يستطيع الكلام، فقيل له: هل تريد أن توصي؟ فأشار برأسه أن نعم، فقيل له: السنة ألا تزيد على الثلث، فهل تريد أن توصي بالثلث كله؟ فهز رأسه بنعم، أو قال: لا، فقيل له: الخمس مثلا، فأشار بنعم، فهذه إشارات ليس فيها لفظ فتعتبر من الصيغة الدالة على الوصية، فالإيجاب يكون من الوصي، والقبول يكون من الشخص الذي وصى إليه. ومن حيث الأصل عند العلماء رحمهم الله لا بد من وجود الصيغة؛ لأنها ركن الوصية، وإذا وقعت الصيغة يكون الإيجاب فيها والقبول. والعقود تنقسم إلى قسمين: هناك عقود يشترط فيها أن يقع القبول بعد الإيجاب مباشرة، بحيث لو دخل بين الإيجاب والقبول أي فاصل مؤثر فإنه يسقط الإيجاب ولا يعتد بذلك القبول، مثل: البيع، والإجارة، والصرف، والسلم، والنكاح. فلو قال شخص لشخص: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف، فسكت ولم يجب، ولم يفعل أي فعل دال على القبول، ثم ذهب إلى الغرفة ورجع، وبعد أن افترقا قال: قبلت، فهذا الفاصل يقطع الإيجاب الأول، ولا يصح العقد بهذا، فلابد من إيجاب جديد؛ لأن القبول وقع متراخيا مع وجود فاصل مؤثر، والفاصل يكون بالأقوال ويكون بالأفعال. ولو قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فقال له: كيف حالك؟ عساك طيب، فتكلم بكلام أجنبي، فهذا الكلام الأجنبي يخرج الإيجاب؛ لأنه لو كان قابلا لقال مباشرة: قبلت، فلما قال: كيف حالك؟ كيف فلان؟ كيف الوالد؟ كيف مريضك؟ فمعناه: أنه خرج بالكلية، وأعرض عن الإيجاب، فسقط الإيجاب ولم يعتبر. إذا: العقود تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عقود لابد فيها من وجود القبول مترتبا على الإيجاب بدون فاصل. القسم الثاني: عقود يغتفر فيها الفاصل. ومن العقود التي يغتفر فيها الفاصل: عقد الوصية، فإذا قال: أعطوا فلانا عشرة آلاف ريال -من ثلث ماله- فهذه وصية، وفلان مسافر، وتوفي الرجل، ولم يأت إلا بعد عشر سنوات، فقيل له: يا فلان! إن فلانا قد وصى لك بعشرة آلاف من ثلثه، فقال: قبلت، فهنا صحت الوصية ونفذت، مع أن القبول كان بعد فاصل طويل جدا، فلو طال الزمان فإنه يصح القبول. إذا: القبول في الوصية لا يشترط فيه أن يكون تابعا للإيجاب، وهو ما يسمى بالقبول المنجز، فالوصية تخرج من القبول المنجز، لكن النكاح والبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها من العقود لابد أن يكون القبول فيها منجزا. وقوله: (ويعتبر القبول بعد الموت) القبول إما أن يقع في حياة الموصي، وإما أن يقع بعد موته، فإذا وقع في حياته فلا عبرة به؛ لأن الوصية لا تكون لازمة على الميت ويجب تنفيذها إلا بعد وفاته، أما قبل وفاته فإنه يستطيع أن يرجع عنها أو أن يبدل أو يغير فيها، وعلى هذا فإن العبرة بموت الموصي، فالقبول لا بد أن يكون بعد الوفاة، فإذا قال: قبلت، وكان ذلك بعد وفاته؛ صحت الوصية إذا كانت على الوجه المعتبر. وقوله: (وإن طال (، أي: وإن طال الزمان الفاصل بين الإيجاب والقبول. حكم سكوت الموصى له عن قبول الوصية ورفضها لكن هنا مسألة وهي: لو أن شخصا وصى لشخص فقال: أعطوا فلانا عشرة آلاف ريال من ثلث مالي، ثم توفي الرجل الذي وصى، فجئنا إلى الموصى له وقلنا له: إن فلانا وصى لك بعشرة آلاف من الثلث، فلم يقل: نعم، أو قبلت، أو رضيت، ولم يقل: لا أقبل، فلم يقبل ولم ينف؛ بل سكت، أما إذا قبل فإننا نعطيه وتنفذ الوصية بالشروط التي ذكرناها، وإذا لم يقبل فحينئذ نرد المال للورثة ويقسم كإرث؛ لأننا لا نستطيع أن نجبر أحدا على أخذ المال، لكن لو سكت، فلم نعرف قبوله من رفضه، فهل يجبر على أن يقبل أم لا يجبر؟ قال بعض العلماء: إذا امتنع حكمنا بأنه لا يريد، ونرد المال إلى الورثة، فيكون امتناعه عن الرد وعن الإجابة موجبا للحكم عليه، كما يقول الشافعية والحنابلة رحمهم الله، ويعتبرونه موجبا لصرف المال للورثة، فيرد المال؛ لأنه لو كان قابلا لقال: قبلت، فيقولون: نعتبر دلالة الحال كدلالة المقال؛ لأنه لو كان راضيا لقال: قبلت، فكونه لم يقبل ولم ينص على القبول؛ فإن في هذه دلالة على أنه لا يريد، وحنيئذ يرد المال إلى الورثة ويقسم عليهم. وقوله: (لا قبله (، أي: لا قبل الموت. قال رحمه الله: [ويثبت الملك به عقب الموت] قوله: (ويثبت الملك -والملك والملك- به) أي: بالقبول، بشرط أن يكون عقب الموت، ويكون الملك بعد موت الموصي، فتثبت ملكية العقار وملكية النقد والأثمان على ما هو معلوم في الوصايا. ثبات ملكية الموصى به بالقبول بعد الموت وإذا ثبتت الملكية بعد القبول فتتفرع المسألة التي ذكرناها، وهي: أن المدة التي ذكرناها فاصلة، فبعض العلماء يقول: المال لا يستحق نماءه من وصي له، فلو مرض مثلا فقال: أعطوا فلانا ناقتي الفلانية وصية من الثلث، فحددها وقال: الناقة الفلانية تعطى من ثلث مالي لفلان، والناقة في مرض موت الموصي كانت حاملا ثم وضعت، ثم بعد وضعها مباشرة توفي الرجل، وقبل من وصي له، فإذا جئنا ونظرنا إلى وقت الوصية، فلو قلنا: يثبت الملك بمجرد ما وصى، فما دام أنه قبل الوصية فلنرجع إلى الزمان الذي تلفظ به الموصي، فيكون بذلك ولد الناقة تابعا للناقة، ومن ثم سيملكه، فقال المصنف: (يثبت الملك به) ، أي: بالقبول بعد الموت لا قبله، وحينئذ لا يستحق هذا النماء المنفصل، وإنما يكون للورثة، فيكون ولد الناقة ملكا للورثة؛ لأنه مستحق على مال مورثهم. السؤال لو لم يكن للمورث إلا ابنا من الرضاعة، فهل يرث أم للمورث أن يوصي له بماله؟ الأسئلة حكم الوراثة بالرضاعة والوصية لهم الجواب الابن من الرضاعة ليس له ميراث، فليس هو من الوارثين بإجماع العلماء رحمهم الله، فالرضاعة لا توجب الميراث، وبناء على ذلك يجوز أن يوصي له، وعند العلماء رحمهم الله أن الشخص إذا أراد أن يوصي لغير الوارث فيبدأ بالأقرباء الذين لا يرثون، فأخوه من النسب مقدم على أخيه من الرضاعة، فلا يذهب ويوصي بثلث ماله لإخوانه من الرضاعة وإخوانه من النسب موجودون؛ لأن الإخوة من النسب إذا لم يكونوا وارثين؛ فإن الأجر فيهم أعظم والصلة بهم أبر؛ فيبدأ بهم. ثم بعد النسب تأتي الرضاعة، وبعدها المصاهرة والرحم، فيوصي لقرابته من جهة الرضاعة، كأمه من الرضاعة، وأخته من الرضاعة، وبنته من الرضاعة، وابنه من الرضاعة، فيوصي لهم ويراعي قربهم، وهذا لا شك أن الله عز وجل يثيبه عليه، ثم المصاهرة، والمصاهرة مثل أن يوصي لأم زوجته، ووالد زوجته، وذي الرحم منه، فيصل رحمه، فهذا مما يكون فيه الأجر والمثوبة. قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها) ، فهذا نوع من الرحم، فقرابة الزوجة ذو رحم منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما) يقصد: مصر؛ لأن لهم رحما من جهة إسماعيل؛ لأن أمه هاجر، ولهم رحم من جهة مارية؛ لأن ابنها إبراهيم؛ فهذا يدل على أن القرابة من جهة الزوجة لهم حق، وإذا أراد الإنسان أن يصلهم فإنه يراعي مرتبهم في الصلة، ولا شك أن الله يأجره على ذلك، والله تعالى أعلم. مسألة رفض الموصى له للوصية السؤال أشكل علي في مسألة رفض الموصى له أخذ الوصية أنها ترجع إلى الورثة، ولم نصرفها في وجوه البر، خصوصا أن نية المورث في بذل الخير وأنه أراد الصدقة؟ الجواب أشققت عن قلبه؟! بعض الأحيان قد يوصي لشخص محاباة، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص من باب المكافأة له على معروف بينه وبينه، وبعض الأحيان قد يوصي لشخص لدفع ضرره عن أولاده وذريته من بعده. وأيا ما كان السبب، فغير مسلم أن نقول: إن هذا متعين أن قصده البر والصلة، فليس كل الناس يوصي لأشخاص معينين وقصده البر والصلة، وعلى هذا فالحكم الشرعي أن من أوصى لمعين وفات المعين؛ فاتت الوصية بفواته، على تفصيل عند العلماء في مسألة ما يشترط له القبض وما لا يشترط له القبض؛ لكن الكلام إذا لم يقع القبول وتوفي ولم يمكن إنفاذ الوصية، ففي هذه الحالة يرجع المال إلى الورثة، فهم أحق به وأولى، والله تعالى أعلم. السؤال أدركت الإمام بعد فراغه من قراءة الفاتحة وقبيل التأمين، فهل إذا أمن أؤمن معه، أم أن التأمين يكون لمن أدرك الفاتحة؟ يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك موضع التأمين الجواب يشرع التأمين لمن أدرك موضع التأمين، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا قال: {ولا الضالين} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين) ، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتأمين لكل من حضر موضع التأمين، وعليه فإنه يلزم المأموم بالتأمين إذا أدرك هذا الموضع، والله تعالى أعلم. السؤال إذا غلب على ظن الوالد أن أبناءه سيصرفون الإرث فيما لا يرضي الله، فهل له أن يوصي بأكثر من الثلث؟ حكم حرمان الوالد لأبنائه من الميراث الجواب باب الوصية باب عظيم، وفيه أمور مهمة جدا، والناس مأمورون بشرائع هي سنن الهدى، قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عليهم إلا أن يلتزموها، ويسيروا على نهجها، ويتركوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا أمر من يوصي ألا يتجاوز هذا الحد، وعليه أن يلتزم بذلك وألا يجتهد، وما يدريه فلعل هؤلاء الذين ينظر إليهم أنهم فاسدون أن يكونوا من خيار عباد الله الصالحين بعد موته، فكم من أناس كانوا على ضلال ثم اهتدوا بعد موت والدهم أو بعد موت والدتهم! وكم من أناس فجعوا بموت الأقرباء فأصبحوا من الأخيار والسعداء: {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء:19] قالوا: ومن هذا أن تأتي المصيبة لعبد فيقلب الله حاله من حال الشقاء إلى حال السعداء، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يتدارك بها عبده. وقد ترى الرجل كأسوأ ما أنت راء في عقوق الوالدين وقطيعة الرحم، فما أن يموت والده حتى يتفطر قلبه ويكون من أرحم أولاده به بعد موته، وقد يكون الولد من أبر الناس بوالده في حال حياته، ثم يفتح الله عليه الدنيا بعد موت أبيه، أو يفتح الله عليه من الفتن فينشغل بأولاده وزوجته، حتى إنه لربما مر عليه اليوم والأسبوع وربما الشهر لا يذكر والده برحمة أو دعوة إلا قليلا، مع أنه كان من أبر الناس بوالده في حياته. فالأمور لا يعملها إلا الله سبحانه وتعالى، فالله وحده هو المطلع على السرائر وعلى الضمائر، وهو الذي قدر كل شيء وفصله: {وكل شيء فصلناه تفصيلا} [الإسراء:12] ، فمسألة أن الإنسان يرى أولاده عصاة اليوم؛ فيريد أن يوصي بالمال كله حتى لا يعصوا الله تعالى به، فهذه أمور منوطة بالغيب، ولذلك فما عليه إلا أن يلتزم الأصل الشرعي، وهو الالتزام بالثلث، وما زاد على الثلث فلا يجاوزه؛ التزاما بالشرع، وتسليما لحكم الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم. السؤال في قوله تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:17 - 18] هل يشترط قضاء وقت الليل بالصلاة للدخول في هذا الوصف؟ ولو عكف طالب العلم معظم الليل على طلب العلم فهل يدخل في هذا الوصف؟ فضل قيام الليل الجواب هذه الآية الكريمة اشتملت على خصلة جليلة عظيمة جعلها الله للأنبياء والأخيار والصالحين، فما من عبد يفتح الله عليه باب قيام الليل إلا فتح له أبواب الرحمات، فهو شأن الصالحين، ودأب أولياء الله المتقين، كما ذكر الله في كتابه المبين، حتى إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يبين عظيم منزلة قيام الليل، وأنه مفتاح كل خير للعبد، أول ما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في صبيحة الوحي بقوله: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} [المزمل:1 - 2] ، وهذا يدل على أن قيام الليل فيه أمور عظيمة تكون سببا في سعادة العبد في دنياه وآخرته. لقد جعل الله عز وجل في قيام الليل سداد اللسان، وإذا استقام اللسان استقامت الجوارح والأركان، قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] . وجعل الله قيام الليل سببا في هبات الآخرة، مع أنه سبب في صلاح دين العبد في دنياه، فإنه سبب في هبات الله ونعمه وخيره للعبد في الآخرة: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء:79] ، فجعل الله المقام المحمود مقرونا بقيام الليل، وهذا يدل على عظيم ما في قيام الليل، حتى إن بعض العلماء يقول: عجبت من الليل كيف جعل الله عز وجل فيه هذه الخيرات العظيمة! حتى إن فرضية الصلاة والإلزام بها وتقديرها وبيانها الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام جعل ذلك كله في الليل، فقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} [الإسراء:1] ، وجعل الآيات العظيمة لنبيه عليه الصلاة والسلام في ذلك الليل، فأري عليه الصلاة والسلام من الآيات ما امتلأ قلبه بها إيمانا وتوحيدا لله جل جلاله، فالله أعلم حينما أصبح رسول الهدى بذلك الإيمان واليقين بعد أن أري آيات الله العظيمة، وكل ذلك جعله الله عز وجل في الليل. ومن ذلك قال العلماء: إن قيام الليل من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال بعد الطاعات والمكتوبات قال: (وركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الآخرة) ، فهذا يدل على فضل قيام الليل. لكن ما ورد في آية الذاريات من قوله: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] ثناء من الله عز وجل بذكر خاص بعد عام، والخاص هو الاستغفار؛ لأن قيام الليل يقوم على الذكر عموما، ومن أشرفه وأفضله: كثرة تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتمجيد والتوحيد لله عز وجل بالثناء عليه بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، ومن ذلك: الاستغفار، فجعل الله عز وجل الاستغفار سببا في الرحمة: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] ، فهذا الوقت استحب العلماء رحمهم الله فيه لمن أصابه أن يكثر فيه من الاستغفار، وأن يسأل الله عز وجل فيه العفو والمغفرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختاره فينزل الله فيه جل وعلا نزولا يليق بجلاله وعظمته وكماله، ويبسط لعباده الخير والرحمة، ينزل نزولا حقيقيا يليق بجلاله وكماله وعظمته، فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) علم سبحانه شدة حاجة عباده وفاقتهم إليه؛ فجعل لهم هذا الوقت المبارك للرحمة والعفو والمغفرة، والله أعلم في تلك الساعة كم من رقاب عتقت! وكم من ذنوب غفرت! وكم من درجات رفعت! وكم من فضائل ونوائل ورحمات أبوابها فتحت! فقيام الليل باب من أبواب الرحمة، وعلى العبد أن يحرص على السحر والاستغفار فيه، ولذلك سهام الليل في الأسحار، فما من عبد يدعو دعوته في السحر ويلازم دعاء السحر إلا شرح الله صدره. وقد كان العلماء رحمهم الله والأئمة يوصون أهل الذنوب والذين كانوا في بداية هدايتهم وصلاحهم بلزوم الأسحار بكثرة الدعاء والاستغفار فيها، وهكذا من تغير حاله فضاقت عليه الدنيا، وأصابه الكرب والهم والغم، فليلزم الأسحار؛ لأنها ساعات رحمة؛ لثبوت السنة والخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتعرض لنفحات الله ورحماته التي يرحم بها عباده. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لنا من ذلك أوفر حظ ونصيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (407) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - كتاب الوصايا [4] من المسائل المتعلقة بالوصايا: أن من قبل الوصية ثم ردها لم يصح هذا الرد، ومنها أنه يجوز للموصي أن يتراجع عن وصيته، وتراجعه قد يكون باللفظ وقد يكون بالفعل، ومنها أنه يجب على الورثة إخراج الحقوق والواجبات التي في ذمة الميت قبل القسمة؛ لأن نفس الميت معلقة بتلك الحقوق، وينبغي على المسلم أن يبتعد عن الاستدانة قدر المستطاع؛ وذلك لأن أمر الدين عظيم، ومن استدان وهو يريد قضاء دينه أدى الله عنه. حكم قبول الوصية ثم ردها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن قبلها ثم ردها لم يصح الرد] بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن من وقع منه قبول الوصية، وتم هذا القبول بعد وفاة الموصي؛ فإنه حينئذ لا يصح رده لها، ولا رجوعه عن ذلك القبول، والسبب في ذلك: أنه إذا أوصى شخص إلى شخص آخر بوصية، فقبلها على الوجه المعتبر؛ فإن ملكيته تثبت لتلك الوصية. فلو قال زيد من الناس: أوصيت لعمر بعشرة آلاف، ثم قال عمرو لما أخبر أن زيدا توفي وأوصى له بعشرة آلاف: قبلت، فإذا قال: قبلت بعد وفاة الموصي، فقد ثبتت ملكية العشرة آلاف له، فإذا قال بعد ذلك: رجعت عن القبول؛ فقد رجع عما يملك، ورجوع الإنسان عما يملكه لا يعتد به، فلو أن شخصا يملك بيتا فقال: هذا البيت لي، وليس المراد به على وجه الإقرار، وإنما المراد أنه يريد أن يخرج ملكيته عنه لا على وجه الهبة ولا على وجه الصدقة ولكن هكذا، فإنه لا يصح رجوع المالك عن الملكية بعد ثبوتها على الوجه المعتبر. وحينئذ نقول: إن قبولك بعد وفاة الموصي يثبت ملكيتك لهذا الشيء الذي وصي به إليك، وحينئذ إما أن تتصدق به، أو تهبه، أو تتصرف فيه، أما الرجوع فلا يعتد به، وهذا كما ذكرنا شبه قول جماهير العلماء رحمهم الله، أن الرجوع بعد ثبوت الملكية ليس من حقه. وهناك من العلماء من قال: له أن يرجع؛ لأن الإنسان حر في نفسه، فله أن يختار في وقت يرى من المصلحة أن يقبل، وله أن يختار الرد في وقت يرى من المصلحة أن يرده. جواز رجوع الموصي في وصيته حال حياته قال رحمه الله: [ويجوز الرجوع في الوصية] . يقول المصنف رحمه الله: (ويجوز) أي: يباح للمسلم إذا وصى بوصية أن يرجع عنها، وذلك لأن الإجماع منعقد على أن الوصية ليست بعقد لازم في أول الحال، وقد تقدم معنا أن العقود منها ما هو لازم، ومنها ما هو جائز، والذي يوصف باللزوم إما أن يكون لازما للطرفين، إما أن يكون لازما لأحد الطرفين، وقد بينا هذا وفصلناه في مقدمات البيوع، وعند الكلام على باب الخيار. والوصية في الأصل أنها عقد جائز في حق أحد الطرفين، لازم في حق الآخر؛ لأن الموصي من حقه أن يغير ويقدم ويؤخر ويبدل في وصيته ما لم يمت، وهذا حق من حقوقه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو ضيق على الإنسان في وصيته لما أمكنه أن يتدارك كثيرا من المصالح، ولما أمكنه أن يدرأ عن نفسه كثيرا من المفاسد، ولو أن الشريعة ضيقت على الموصي أن يرجع عن وصيته لتحاشى الناس الوصية؛ لأنهم يعلمون أن أي وصية يقومون بها سيلزمون بها. وحينئذ كان من رحمة الله تبارك وتعالى ولطفه بعباده كما قال العلماء: أن يسر على المسلم في رجوعه في وصيته، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، على حسب اختلاف الأوقات والأزمنة والأحوال، فلربما كان في وقت يرى من المصلحة أن يوصي لغير الوارث، فيوصي بثلث ماله أو بربعه إلى قرابة له لا يرثون، ثم يشاء الله أن تكثر ذريته وتتغير الأحوال، وحينئذ تكون ذريته أحوج ما تكون إلى هذا المال، فيكون من المصلحة أن يلغي الوصية بالثلث، وأن يلغي الوصية بالربع، وأن يلغي الوصية لغير الوارث، وأن يقدم ورثته الذين هم أحوج، وهذا لا شك أن فيه رحمة من الله وتوسعة على العباد. وممن أشار إلى هذا القرافي في كتابه (الذخيرة) ، فقد بين أن الله تعالى تدارك عباده برحمته حينما وسع عليهم في الرجوع عن الوصية، فلو لم يملك الإنسان الرجوع عن الوصية لصارت الوصية محل ضرر على الناس من جهة، ولتحاشي الناس الوصية من جهة أخرى. قال: (يجوز) أي: يباح، فمن أوصى وصية ورأى من المصلحة أن يلغيها ويكتب غيرها، أو يلغي بعضها ويثبت بعضها؛ فالأمر عائد إليه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وفيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في السنن، أثبت مشروعية الرجوع عن الوصية. والرجوع يكون بالقول، ويكون بالفعل، والرجوع بالقول يكون صريحا ويكون ضمنيا، فالرجوع القولي الصريح كقوله: رجعت عن وصيتي، وكذلك أيضا ما يدل على إلغائها: أبطلت وصيتي، وألغيت وصيتي، ولا تنفذوا وصيتي، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أنه قد رجع عما وصى به، فإذا قال ذلك فإن الوصية تبطل. الرجوع عن الوصية بالقول وأما الرجوع الضمني: فكأن يقول: يا محمد! أوصيت لك بهذه السيارة، ثم قال بعد ساعة، أو بعد يوم أو شهر: يا أولادي! السيارة بيعوها وسددوا بها ديني، فعلمنا أنه لا يريد تنفيذ الوصية الأولى، وإنما يريد أن يرجع عنها حينما جعلها في سداد الحقوق، فعلى هذا: إذا رجع صراحة، أو رجع ضمنا، كما ذكرنا في التصرفات كالبيع أو الهبة، فمثلا: كان قد وصى ببيت، وقال: هذا البيت يعطى لابن عمي فلان، وابن عمه ليس من الورثة، فوصى لغير وارث، ثم شاء الله عز وجل أن قال لهم بعد ذلك بزمان قصير أو طويل: هذا البيت بيعوه ثم افعلوا بثمنه كذا وكذا -خلافا لما أوصى به أولا- فنعلم أن هذا التصرف يدل على أنه قد رجع عن الوصية الأولى وألغاها. الرجوع عن الوصية بالفعل وأما الرجوع الفعلي فمثل أن يتصرف بالفعل، فبدلا من أن يبيع بالقول يتصرف بالمعاطاة، فمثلا يقول: يا محمد! هذا الكتاب وصية مني لك بعد موتي، ثم جاءه شخص بعد ذلك وقال له: يا فلان! بعني هذا الكتاب بهذه المائة، فأعطاه الكتاب مناولة وقبض المائة، فتصرفه ببيع المعاطاة يوجب إلغاء الوصية. وهكذا لو فعل فعلا استنفذ ما وصى به، كأن يكون الموصى به طعاما، ثم أكله أو أعطاه أولاده ليأكلوه، أو تصرف فيه بالفعل؛ فإن هذا الفعل يوجب إلغاء الوصية الأولى، واعتبار الفعل الثاني سواء كان وصية أو كان غير ذلك. إذا: بين المصنف رحمه الله أنه يجوز الرجوع، وقال: (يجوز) ، فلا يجب ولا يحرم ولا يكره، فهذا الأمر إليك، فمتى ما رأيت المصلحة أن تقدم في الوصية أو تؤخر فيها فإن ذلك راجع إليك، سواء وجد السبب للرجوع أو لم يوجد؛ فالإجماع قائم على أن من حقك أن تغير في وصيتك، سواء وجد سبب يقتضي هذا التغيير أو لم يوجد سبب. لكن ينبغي لمن أراد أن يرجع عن وصيته أن يحتاط، فعندنا وصية منسوخة ووصية متأخرة ناسخة، فالوصية المنسوخة إذا كانت موثقة في القضاء، أو موثقة بحكم قاض، أو موثقة بشهود، أو مكتوبة، فينبغي على من يرجع أن يحتاط في الرجوع فيشهد شاهدين عدلين، فيوثق هذا الرجوع كما وثق الوصية، وألا يعرض حقوق الورثة للضياع حينما لا يحتاط بتوثيق الرجوع، أو الدلالة عليه على وجه معتبر بحيث يرجع إليه بعد وفاته. الوصية المعلقة بشرط قال رحمه الله: [وإن قال: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم في حياته فله، وبعدها لعمرو] . إن قال: (إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو) هذه وصية معلقة، كأن يقول مثلا: إن قدم زيد إن ذهب عمرو إن حصل كذا وكذا إن افتقر فلان فأعطوه، وإلا أعطوا فلانا، المهم أن هذه الوصية المعلقة مبنية على شرط، وينبغي علينا أن نتقيد بهذا الشرط. فإذا قال: إن قدم زيد فله، أي: قد أوصيت له بما أوصيت به لعمرو، كأن يكون عنده عشرة آلاف ريال، وزيد هو ابن عمه القريب، وعمرو ابن عمه البعيد، فأراد أن يوصي للأقرب ثم الأقرب، فقال: هذا المال لزيد بشرط أن يقدم قبل وفاته، فإذا لم يقدم قبل وفاته قال: فإنه لعمرو، وهذا هو معنى قوله: (إن قدم زيد فله) (له) : بمعنى يملك، والوصية التي وصيت بها لعمرو من عقار ومن منقول له، أي: لزيد، فزيد لا يملك هذا الموصى به إلا إذا تحقق الشرط وهو: قدومه قبل الوفاة، كما أخبر: إن قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو، أيا كان هذا الشيء الذي وصى به. فقوله: (إن قدم زيد) أي: قبل وفاته؛ وهذا أمر واضح بأنه يرتب القدوم على أساس أنه يقدم قبل وفاته، فإن توفي ولم يقدم زيد؛ سقط استحقاق زيد وبقيت الوصية على ما هي عليه. وبناء على ذلك: يفصل في هذه المسألة فنقول: إنه من حيث الأصل أراد المصنف بهذا التمثيل أن يبين أن الوصية المعلقة ينبغي علينا أن نتقيد بشروطها وبالتعليق الوارد فيها، كأن يقول: إن قدم زيد إن جاء الغد وقدم زيد إن انتهى الشهر إن انتصف الشهر إن جاءت الجمعة إن غابت الشمس، فهذه كلها وصايا معلقة، فتعلق بالزمان، أو بالمكان، أو بالأفعال، فأي شيء اشترطه الموصي، وكان شرطا معتبرا خاليا من الغرر والإبهام والجهالة، فإنه محتكم إليه؛ لأن من حق الموصي أن يوصي مطلقا، ومن حقه أن يوصي مقيدا، فمن حقه أن يقول: وصيت لعمرو بعشرة آلاف، ولا يعلق ولا يقيد ولا يشترط؛ ومن حقه أن يقول: وصيت لزيد بعشرة آلاف بشرط ألا يقدم عمرو قبل وفاتي، أو ألا يكون فلان محتاجا؛ لأنه في بعض الأحيان تجده يقول: هذه عشرة آلاف ريال تعطى لبني عمي من بني فلان إذا كانوا محتاجين وإلا فتعطى لبني فلان. فمعنى ذلك: أننا نصرفها إلى الأول الموصى إليه بشرط تحقق وجود الحاجة، ونصرفها إلى الثاني متى ما تخلف الشرط في الأول، وهذا أمر معتبر، أي: أنه يجب علينا أن نتقيد بشروط الموصي. ومناسبة هذه المسألة: أنه ذكرها بعد الرجوع، وهذا فيه نوع من اللطف، وهو أن الرجوع تارة يكون رجوعا مطلقا، مثل أن يقول: وصيت لعمرو، ثم يقول: ألغوا الوصية، فهذا رجوع مطلق، وتارة يكون رجوعا بقيد؛ لأنه حينما قال: إن قدم زيد فله ما وصيت لعمرو؛ معناه: أنه رجع عن وصيته لعمرو بشرط قدوم زيد، فصار رجوعا معلقا. فبعد أن فرغ -وهذا من دقته رحمة الله عليه- من الرجوع المطلق، شرع في الرجوع المعلق، وإلا فالأصل أن مسائل الأشياء التي يوصي بها -المعلقات- سيأتي بيانها والإشارة إليها. قال رحمه الله: [ويخرج الواجب من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] قوله: (يخرج الواجب) ، أي: يجب على ورثة الميت أن يتقوا الله عز وجل في مورثهم، فيخرجوا من ماله الحقوق الواجبة، سواء كانت لله عز وجل، أو كانت للمخلوقين، فهم مسئولون أمام الله عز وجل عن إخراج هذا الحق، فالأصل يقتضي أننا نبدأ أولا بمئونة التجهيز، فيجهز، ويغسل، ويكفن، ويحمل، ويصلى عليه، ويدفن، وكل هذه الأمور إذا احتاجت إلى مئونة، فتكون من مئونة التجهيز. وجوب سداد الحقوق التي على الميت بعد موته ومن أهل العلم من قال: يقضى الدين قبل مئونة التجهيز، وهذا لا شك -إن تيسر- أنه من أبر البر للوالدين، ومن أعظم الصلة للقريب، ومن أفضل ما يقدم للميت؛ أن تبرأ ذمته وتقضى الحقوق عنه قبل أن يغسل وقبل أن يفعل به شيء؛ حتى إذا ترحم الناس عليه وسألوا الله له المغفرة يكون خالصا من حقوق الناس وبريئا من عهدهم، فهذا لا شك أنه من أفضل ما يكون؛ أن يقضى الدين، ويبادر به مبادرة تامة. فإذا قضي ابتدئ بعد قضاء الدين بمئونة التجهيز على القول الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك إذا لم يقض الدين وابتدئ بمئونة التجهيز، فينظر في أصحاب الحقوق وأصحاب الديون، وتسدد هذه الديون كاملة، ولا يجوز للورثة أن يؤخروا سداد الدين؛ لأن كل من مات حلت ديونه حتى ولو كان الدين على أقساط لعدة سنوات؛ لأن القاعدة تقول: إن من مات حلت ديونه، فلو أن شخصا اقترض مائة ألف على أن يكون سدادها على عشر سنوات، ثم توفي في السنة الأولى، فهنا تصبح المائة ألف حالة عليه، أي: يجب أن تسدد فورا، والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينة) أي: مرهونة به، نسأل الله السلامة والعافية، وكذلك بين نص الكتاب، فقال تعالى: {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12] {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11] {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:12] ، فقدم سبحانه وتعالى الدين والوصية على قسمة التركات وإعطاء الوارثين حقوقهم، فالواجب أن يبدأ بسداد الدين؛ لأن أمر الدين عظيم، فإذا جهز الميت نظر في ديونه العامة والخاصة، وديونه فيما بينه وبين الله عز وجل، وديونه التي بينه وبين العباد. فديونه التي بينه وبين الله تبارك وتعالى مثل أن يكون عليه دم واجب لفوات واجب في حجه، أو عليه فدية أو كفارة ظهار، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة على الميت لله سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) . |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم تأخير سداد ديون الميت لمصلحة الورثة وبالنسبة للديون، قد يكون التعجيل بقضائها في بعض الأحيان يتضمن بعض الضرر على الورثة، مثل: كساد السوق، ورخص الأسعار، فمثلا: لو أن الميت توفي وعنده (عمارة) ، حتى ولو كان يسكنها أولاده، وليس عندهم سكن غيرها، فإنه يجب أن يسدد دينه ولو أن تباع (العمارة) ؛ لأن هذا ماله، ونفسه معلقة ومرهونة بدينه، وهو قد قام بإسكان وستر ورثته ومن يعول مدة حياته، فإذا وفى لهم فالواجب أن يوفوا له بعد موته، فلا تعطل ديونه وتبقى نفسه معلقة مرهونة بالدين، وقد ترك وفاء لهذا الدين. وأعجب من هذا وأعظم ظلما للميت حينما يكون الميت قد ترك سدادا، مثل أن يكون عنده مزارع وأرض وسيارات، ولكن الورثة يؤخرون ذلك من أجل كساد السوق حتى يفضل لهم فضل من الإرث! فهذا من الظلم للميت. فيجب أن يبادر بسداد دين الميت، ولا يجوز تأخير سداد الدين؛ لأن المال هو مال الميت، ولا يجوز أن يحبس الحق عن صاحبه، والميت محتاج أن تبرأ ذمته. وقد اختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن معلقة بدينه) ، فقال بعضهم: مرهونة: بمعنى: محبوسة؛ لأن الرهن في أصل اللغة: الحبس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] ، فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، ورهينة بمعنى: مرهونة محبوسة. وقال بعض العلماء في تفسير هذا الحديث إن معنى ذلك: أنه لا ينعم حتى يقضى عنه الدين، فيحبس عن النعيم حتى يقضى عنه الدين، وإلا فما معنى (نفس المؤمن مرهونة) ؛ لأن الحبس إما حبس عن النعيم، أو حبس فيه عذاب، وإذا كان الحبس فيه عذاب فهذا الأمر أعظم، نسأل الله السلامة والعافية. فالأمر جد خطير، فلا ينبغي التساهل في حقوق الموتى من قضاء ديونهم، وهذا يحتم على كل شخص أن يتدارك الحقوق الواجبة عليه، فيحتاط، فإذا علم من ورثته من يوثق بدينه وأمانته أسند إليه وبين له الحقوق وكتبها، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وخاصة إذا كان هناك أمر يحتاج إلى أمين وثقة يقوم عليه. السبب في وجوب سداد الحقوق التي على الميت والسبب في تشديد الشريعة في هذا الأمر ونص العلماء رحمهم الله على أهمية قضاء الديون: لما فيها من حقوق العباد، فإن حقوق الناس والخلق مبنية على المشاحة والمقاصة، وإن من الظلم أن يكون الإنسان قادرا على سداد ديونه، ويؤخر الناس في سدادها. قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يبيح لومه وعرضه) ، يعني: أن من امتنع عن سداد حقوق الناس فإنه ظالم، فإذا كان الميت قد ترك سدادا وامتنع ورثته من السداد، فقد أصبح الظلم من جهتين: ظلم لأصحاب الحقوق بتأخيرها، وظلم للميت حينما ترهن نفسه وتعلق. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء) ، ثم نزل عليه الوحي فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الدين سارني به جبريل آنفا) ، فالشهيد الذي له المنزلة والمكانة، وهو الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من الفتان، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، ويزمل في ثيابه حتى تشهد له دماؤه وجراحه كما قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: (زملوهم في ثيابهم، فإني شفيع لهم وشهيد بين يدي الله) . فهذه المنزلة العظيمة التي تبوأها الشهيد حتى أمن من عذاب القبر، لم يفك عنه حقوق الناس. فالواجب أن يحتاط الإنسان، وألا يدخل في الدين إلا من حاجة ماسة، وإذا دخل في الدين سأل الله المعونة. نصيحة لمن أراد أن يستدين وإذا أراد الإنسان أن يقترض شيئا فعليه بأمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يقترض إلا من حاجة شديدة ماسة، فإن من نزلت به فاقة وحاجة فردها إلى الله عز وجل، أوشك الله له بالفرج العاجل، فجعل الله قليله كثيرا، ويسيره عظيما، وبارك له، ومن يصبر يصبره الله. وإذا ضاقت عليه الأمور لحاجة ماسة، مثل: طعام الأولاد والأهل، أو لشقة يستأجرها، أو يستدين لشراء سيارة من أجل نقلهم، وقد يكون عدم وجود هذه السيارة زيادة دين، فهذه حوائج يضطر إليها الإنسان فتبيح له الدين، وتبيح له المسألة، وإذا لم توجد حاجة ماسة فليتق الدين؛ فإن الدين في الحقيقة تبعة ومسئولية وبلاء على العبد، ولذلك قال بعض السلف في الدين: (هم الليل وذل النهار) . وهذا إبراهيم بن أدهم حينما ركب البحر، فهاج البحر، وجاءت أمواج عظيمة حتى كادوا أن يغرقوا، فقيل له: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ فقال: إنما الشدة الحاجة إلى الناس. نسأل الله العظيم بوجهه الكريم ألا يجعل لنا ولكم إلى لئيم حاجة، وأن يجعل لنا ولكم الغنى به سبحانه والفقر إليه. فالمقصود: أن الإنسان يصبر قدر المستطاع، فإذا ضاقت عليه الأمور ووجدت الحاجة، فيطلب دينه ممن يعرف منه السماحة وحسن النفس وطيبها، ومن لا يضيق بالاستدانة منه؛ لأن مثل هذا حري به أن يسامح، وحري به أن يوسع عليه، فلا يضيق على نفسه مع وجود السعة، فإذا وجد غنيا كريما طيبا، وفيه الخير، ويحب معونة الناس؛ عرض عليه أمره، أما إذا كان الإنسان الذي يريد أن يسأله ويطلب منه -حتى لو كان قريبا- يعلم أنه سيضيق عليه، فالأفضل أن لا يضيق عليه؛ لأن المال الذي في الدين يبارك لصاحبه إذا أخذه على الوجه الحسن، ويضع الله فيه البركة، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم من كان سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى، فلابد أن يكون الإنسان سمحا، فلا يضيق على الناس في الدين، ولا يحرج أحدا بذلك ما أمكنه. الأمر الثاني الذي ينبغي توفره: حسن النية، فينوي في قرارة قلبه أن يرد هذا المال عاجلا أو آجلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) ، أي: في نيته وقرارة قلبه، والله يشهد ومطلع عليه أنه أخذها ليسدد عند وجود اليسر والسعة، ومن أخذها يريد إتلافها، أو أن يتلاعب بها، فكما أخذ دينا وقضى دينا جاء إلى دين آخر، ثم أخذ من فلان وفلان وأخذ يتلاعب، وهو يعلم أنه لن يستطيع السداد، ويعلم أنه يستطيع أن يضيق على فلان مع أنه غني فيماطله ويؤخره حتى ييأس من حقه، ثم ينفلت من التبعة، لكنه لن ينفلت من عقوبة الله جل جلاله، ولو كان صاحب الحق غنيا، فالحق حق، ولذلك أمر الله بالشهادة العادلة ولو كانت على فقير: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} [النساء:135] ، فلو كان الذي له الحق غنيا فلا تقل: إن هذا فقير، وقد استدان وهو ضعيف، وهذا غني، لا، فما دام أنه أخذ حقا فليرده إلى صاحبه، سواء كان غنيا أو فقيرا، فلا يجوز أن يأخذ أموال الناس وهو يريد إتلافها. فمن يأخذ الأموال تلو الأموال وهو يعلم من قرارة قلبه أنه لن يسدد، بل أصبحت عادة له، فمن فعل ذلك فإن الله يفتح عليه باب الاستدراج حتى لا يبالي به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك ينزع الله البركة من المال الذي يأخذه، ولربما جعل الله حتفه ونقمته عليه في الذي أخذ، فيبني (عمارة) فتكون سببا في شقائه ومرضه، أو يأخذ سيارة فيكون فيها حتفه ونهايته والعياذ بالله، أو حتف ولد من أولاده، أو حتف عزيز عليه؛ لأنه كما يضر بالناس يضر الله به. فالنية مهمة جدا، فلا يأخذ الإنسان الدين إلا من وجود حاجة وضرورة، ولا يأخذ إلا وفي نيته وفي قرارة قلبه أن يقضيه، ثم يستعين بالله عز وجل على قضاء دينه بأمرين أعظمهما وأجلهما: كثرة الدعاء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من غلبة الدين وقهر الرجال، فيستعيذ بالله من غلبة الدين، ثم يبادر بالسداد ولو كان عنده ريال واحد من عشرة آلاف، فكلما تيسر له السداد قليلا كان أو كثيرا فليسدد، فإن هذا من أفضل وأبرك ما يكون في سداد الديون؛ لأن مثل هذا حري أن يعينه الله عز وجل، ويفتح له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب. وعلى كل حال: الدين أمره عظيم، حتى إنهم قالوا: إن الإنسان قد يؤذى في عبادته وخشوعه وصلاته وطاعته بسبب حقوق الناس، فتجد الرجل أخشع ما يكون قلبا، فإذا وقع في الدين تغير حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه) أي: مرهونة بدينه، ولم يفرق بين الحياة والموت، وهذا الذي جعل بعض العلماء يتحاشى الدين ولا يحبه ولا يرضاه، حتى إنه يخشى أن يؤثر على صلاحه واستقامته؛ لأن صاحب الحق إذا طلب حقه أجحف بالإنسان، وشوش عليه في عبادته، وآذاه وأضره. وأيا ما كان فالدين جائز ومشروع، فهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم قد استدان، وإن كان بعض العلماء قد اعتذر فقال: رسول الأمة صلى الله عليه وسلم نيطت به حقوق، والناس كلهم يعولون عليه صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما يوجد في الفضلاء والكبراء، كشيخ القبيلة أو أميرها، فغالبا أنه يدخل في الشفاعات، ويواسي المعدومين والمحتاجين، فمثل هؤلاء غالبا يقعون في الدين؛ لكن لهم من الله عز وجل المعونة؛ لأنهم أخذوا الدنيا معونة على الدين، فما دام أنهم لا يريدون بها جاها ولا سمعة ولا فخرا، وإنما يفعلون ذلك رحمة بالناس، فمن رحم حري أن يرحمه الله عز وجل، وأن يبارك له في رزقه، وأن ييسر له من أمره. تيسير الله قضاء دين المحسنين ولقد جعل الله عز وجل للغارمين الذين يتحملون الديون، وهم رؤساء العشائر من الكبار الذين لهم مكانة، وأهل العلم وأهل الفضل الذين تأتيهم حوائج الناس دائما، وكذلك أهل الكرم، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعتذروا، والكريم في بعض الأحيان يفضل أن يموت ولا أن يعتذر لصاحب الحاجة، وهذا شيء وضعه الله في القلوب، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ثلاثة لهم علي فضل، وذكر منهم: رجل نزلت به حاجة فاختارني من بين الناس) ، أي: جاء إلي من بين الناس ووقف علي وسألني هذه الحاجة. فلا شك أنه لم يوجد ولن يوجد رجل عرف برحمة الناس -وكان ذلك بحسن نية- فضاق عليه الأمر إلا ووسعه الله عز وجل، وهذا شيء لا يخطر على بال، وقد رأينا من العلماء والفضلاء وأهل الفضل العجب في هذا. ولذلك فلن تجد إنسانا كريم النفس يستدين إلا تكفل الله عز وجل برزقه، فنحن حينما ذكرنا مسألة الدين، قد يكون بعض الناس فيه رحمة، وأفضل ما يكون الكرم والإحسان في رجل عطوف شفوق رحيم بذوي رحمه، فتجده دائما ينظر إلى أخواته المحتاجات وإخوانه وقرابته المحتاجين، وينظر إلى العجزة وكبار السن من قرابته؛ فيستدين لهم ويتحمل عنهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يجعل لمثل هذا من الفرج ما لم يخطر له على بال. وهذا رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت في دين أهمه وأغمه -وكان من أفضل الناس في جماعته إحسانا وكرما، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن الصالحين الأخيار رحمه الله، نحسبه ولا نزكي على الله أحدا- يقول: إنه ضاق عليه الأمر في مبلغ كبير، حتى وقف عليه صاحب المبلغ وآذاه وسبه وشتمه؛ لأنه تأخر عليه، وقد وعده أكثر من مرة أن يفي فلم يستطع، يقول: فنزلت إلى بيت الله، فطفت فيه -وقد كان رجلا معروفا بمواساة المحتاجين، وهذا شيء أدركته عليه، وقد كان من أعجب ما رأيت من الرجال، تجد بيته بيت الأيتام والأرامل والمحتاجين، لا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت من صلاحه رحمه الله- يقول: وأنزلت حاجتي بالله سبحانه وتعالى، فوالله إني عند المقام أصلي ركعتي الطواف، وإذا برجل ثري غني موفق جاء وصلى بجواري، قال: فسلم علي وتبسم في وجهي وناولني كيسا، فإذا فيه ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أردته!! فمن أنزل حاجته بالله عز وجل فإن الله لا يخيبه، وما من أحد أحسن إلى الناس وضيع الله إحسانه أبدا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. ومن غريب ما رأيت في هذا: أن الوالد رحمه الله كان لا يمسك المال، ولا يبالي بالدنيا أقبلت أو أدبرت، وهذا شيء شهدته ورأيته فيه رحمه الله، وأشهد أمام الله أني رأيت فيه من الكرم والإحسان إلى الضعفة والمساكين ما الله به عليم، فمما حدث: أنه جاء في مرض موته رحمه الله، وكان عندنا عمال قد احتاجوا إلى مبلغ من المال، وقد كان رحمه الله يعطي الأجير أجره قبل نهاية الشهر، وقد كانت وفاته رحمه الله في آخر شهر جمادى -أي: قرابة الرابع والعشرين- فاحتاج العمال إلى المال، فجئت إليه وقلت له: إنهم يحتاجون إلى مبلغ كذا وكذا، وكان هذا بعد صلاة العصر في اليوم الذي سبق وفاته، فتألم وتغير وجهه، وقال: ليس عندي الآن شيء، لكني أرجو من الله ألا يضيق علي أمرا إلا وسعه. والله ما زاد على هذه الكلمة، وأشهد بالله العظيم أنه ما إن انتهى من الكلمة إلا والباب يقرع، فإذا بأحد أبناء العم من القرابة جاء لزيارة الوالد، وقد كان عليه دين لوالدي -وقد توفي والدي وله على الناس ما لا يقل عن ثلاثة ملايين، وما وقفنا على أحد نسأله دينا للوالد، ولا نعلم ذلك أبدا من قبل، وفي آخر حياته كان يقول له بعض الناس: ألك حقوق على الناس؟ فيقول: حياتي كلها ما وقفت على رجل أقول له: أد ديني، أبعد أن شابت لحيتي وابيض شعري أفعل ذلك؟ فالشاهد: أنه جاء هذا القريب -انظر إلى تقدير الله عز وجل- ولو واجه الوالد لما قبل منه المال، لكن الوالد كان مريضا، فأدخلته في غرفة الضيوف، فجاء وقال لي: أريد أن أسلم على الوالد -وكان مريضا جدا إذ كانت عليه الحمى رحمه الله، وذلك في اليوم الذي سبق وفاته- فقلت له: لا يستطيع الآن أن يقابلك، ولو أنك عدت بعد العشاء أو في وقت آخر، فقال لي: سلم عليه وأعطه هذه الرسالة، وكنت لا أدري ما الذي بداخلها -انظر إلى تقدير الله عز وجل- فلو أنه جاء إلى الوالد وأعطاه المبلغ لغضب عليه ورفض قبوله، وأنا أعرف أنه إذا أعان أحدا فلا يأخذ منه بعد ذلك ما أعطاه إياه، ولو وسع الله عليه، رحمة الله عليه- فالشاهد: أنه أعطاني هذا الظرف، وأقسم بالله العظيم أن المبلغ الذي فيه هو راتب العمال الثلاثة، لا يزيد ولا ينقص، فجلست مع الوالد وقلت له: فلان يسلم عليك، ويقول: هذه الأمانة التي أخذها منك، فتغير وجهه وقال: أمانة ماذا؟ ففتحتها فإذا فيها المبلغ الذي يعادل ألفين وأربع مائة، وهي تعادل حقوق الثلاثة العمال. وهذا من أعجب ما رأيت؛ لأن كلمته لما قال: أرجو من الله ألا يضيق علي شيئا إلا وسعه، فالدين إذا لم يسد به حوائج المحتاجين، ويواسي به المكروبين، ويقف به مع الضعفة والمحتاجين، فلاشك أن الأولى الابتعاد عنه ما لم يضطر الإنسان إلى ذلك. وأما في هذا الزمان فلا شك أن الأمر أضيق، فقد كان أهل الفضل وأهل الكرم وأهل المال -من قبل- يحبون أهل العلم وطلاب العلم، ويواسونهم، لكن اليوم قل أن تجد من يكرم أهل العلم، وقل أن تجد من يقف عليه طالب العلم في حاجة لأحد إلا أذله وأهانه، ولاشك أن الله يأجر طالب العلم على هذا، لكن قد تكون النفس عزيزة، فتربأ بالإنسان أن يقف هذا الموقف مخافة أن يكون في ذلك تبعة عليه أمام الله سبحانه وتعالى. فقد تغير الزمان وفسد، إلا من رحم ربي، وإن كان -والحمد لله- لا يزال هناك بعض أهل الخير، لكن الأمور قد تغيرت، وقد كان أهل العلم معروفين بهذا، وقصة الأوزاعي في ذلك مشهورة، كل هذا تحملوا فيه حقوق الناس، وأيا ما كان فالإنسان عليه أن يبتعد عن الدين ما لم يحتج إليه. وقد كانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله تتدين وتستدين كثيرا، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، فكانت تعول على أن الله لا يخيبها، ولم يخيبها ربها سبحانه، فقد قضيت ديونها، وكفيت حاجتها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغنينا من فضله، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه. ولقد بين المصنف رحمه الله أنه يبدأ بالدين وبالحقوق الواجبة، وينبغي على طالب العلم أن ينتبه إلى أن المسألة التي ذكرناها حينما قلنا: أن يكون الذي وصى به من الواجبات، أو يكون من المستحبات، بمعنى: أن يكون الدين ضمن الوصية، فيجعل في وصيته من الثلث، كأن يقول: اقضوا ديني من الثلث، وحجوا عني من الثلث، وتصدقوا بكذا وكذا من الثلث، فلما جئنا نقضي الدين وجدناه سبعة آلاف ريال، ووجدنا -مثلا- أن الحج عنه بألف ريال، ووجدنا الذي وصى به أربعة آلاف ريال، فأصبح المجموع اثني عشر ألفا، وكان ثلث ماله عشرة آلاف ريال، وهذه مسألة التقديم، فنقدم الدين، ونقدم الحج، ثم نتصدق بنصف الأربعة آلاف تتمة للعشرة آلاف ريال، فمسألة التقديم هذه لا تشكل على طالب العلم؛ لأن الحقوق الواجبة يجب سدادها سواء وصى أو لم يوص، وإنما أدخلناها في الثلث أولا إذا نص على أنها تكون ضمن الثلث، فيقول: اقضوا الدين من الثلث، وحجوا عني من الثلث، واعتمروا عني من الثلث، وأدوا ثلاث فديات من الثلث، فيجعلها حقوقا واجبة. فحينئذ ينظر فيها على التفصيل الذي ذكرناه في مسألة الثلث، وأما من حيث الأصل فلا إشكال أن الذي يجب هو المبادرة بسداد الدين، سواء وصى أو لم يوص. قال رحمه الله: [ويخرج الواجب كله من دين وحج وغيره] . إخراج الواجب من مال الميت وإن لم يوص به (من): بيانية، كقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة:1] ، فـ (من) هنا بيانية، وقد بين المصنف رحمه الله أن من الواجب الدين، وأن من الواجب الحج، فمثل للدين بحقوق العباد، ومثل للحج بحق الله عز وجل، ومن مات ولم يحج حج عنه وليه. ويجب أن يستأجر عنه إذا كان الولي لا يريد أن يحج، أو لا يتيسر له الحج، فيستأجر من يحج عنه، وتدفع له مئونة الحج، ونفقة الحج ذهابا وإيابا. ثم إما أن يحدد موضعا، فيقول له: حج عني من المدينة، فعند ذلك يجب أن يلتزم بوصيته، وإما أن يكون قد توفي أثناء الحج ولم يكن قد فعل الواجبات، فيوصي أن يكمل عنه، فيكمل من الموضع، ويكون إحرامه من الموضع الذي توفي فيه، وإما أن يطلق، فإذا أطلق قال بعض العلماء: إذا وجب عليه الحج وقصر حتى توفي فيجب الإحرام من الموضع الذي هو فيه؛ لأن الوكيل منزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فلا يصح أن نقول لرجل من أهل جدة: حج عنه، فيحرم من جدة؛ لأنه وجب عليه وتعين عليه أن يحرم من المدينة، وهو الميقات الأبعد، فلا يحرم من ميقات أدنى إذا وجب عليه من الأبعد، وهذه مسألة صحيحة تشهد الأصول الشرعية بصحتها؛ لأن النائب عن الإنسان في الحج قائم مقامه، وعلى هذا يجب أن يحج عنه من الموضع الذي وجب عليه الحج وقصر فيه؛ لأن ذمته مشغولة بالحج على هذا الوجه. وعلى كل حال: يجب أداء الحج عن الميت إذا ترك، سواء وصى أو لم يوص، وعلم وارثه بذلك. قال رحمه الله: [من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به] . أي: الواجب، فإذا كان الحج حج نافلة، فيحج من الثلث، ولا يحج من أصل المال، وينبغي أن تفرق بين أمرين: فالحقوق والواجبات والديون تقضى قبل قسمة المال، أو التركة عموما، فهي في رأس المال، لكن بالنسبة للوصايا والصدقات، وما خصص شيئا داخل الثلث، فهذه يتقيد فيها بالثلث، فينظر فيها بعد الانتهاء من الوجبات، وهذا هو الفرق بين الأمرين، فبين رحمه الله أنه يقضى الواجب من كل تركته، ويبدأ به؛ لورود النص في كتاب الله عز وجل بالأمر بكتابة الوصية والدين على قسمة المواريث. قال رحمه الله: [فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي؛ بدئ به] . وذلك لأن الثلث في الحقيقة يؤخر من حيث الأصل، أي: يؤخر على الدين الواجب، فإذا أدخل الواجب في الثلث بدئ به، وكونه واجبا ثم جعله في الثلث لا يسقط ذلك مرتبته؛ بل يبدأ به، وهذا هو مراد المصنف. فمثلا: الميت عليه دين عشرة آلاف ريال، فقال: لصالح علي عشرة آلاف ريال، أدوها من الثلث، فيبدأ بها، ولا يقال: إنها وصية في الثلث فتوفر، بل يبدأ بها؛ لأن الدين الواجب يبدأ به قبل قسمة المواريث، وعلى ذلك فتقدم، وكونها واجبة، وكونه يجعلها في الثلث، لا يقتضي تأخيرها عن مرتبة الوجوب كما ذكرنا. تزاحم الحقوق الواجبة مع المستحبة في الوصية قال رحمه الله: [فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع وإلا سقط] قوله: (فإن بقي شيء) بمعنى: إذا كان قد وصى بقضاء الدين من الثلث، ووصى بأشياء من الثلث، فإنه سيحدث ازدحام بين الدين وبين الصدقات والهبات، فلو قال: اقضوا ديني من الثلث، ووصيت لمحمد ابن عمي بعشرة آلاف ريال، ثم وجدنا الثلث عشرين ألفا، والدين الذي عليه خمسة عشر ألف ريال، فمعنى ذلك: أننا سنعطي ابن عمه خمسة آلاف، فسقط ما زاد على الثلث، ونعتبر الدين مقدما، فهذا أول شيء نقوم به؛ لأنه واجب، ثم بعد ذلك تعطى الوصية؛ لأن الاحتمال الذي جعل أهل العلم ينصون على هذه المسألة: أنه قد يقول قائل: فلننقل الحقوق الواجبة إلى أصل التركة، ونبقي الثلث حتى ننفذ الوصايا، فنقول: هذا لا يصح، فما دام أنه أدخل الدين ضمن وصيته بالثلث فيجب التقيد بذلك، ثم يعطى المستحب والنوافل بعد الواجب، فصارت المسألة راجعة إلى المسألة التي ذكرناها، وهو أنه لا يعطى المستحب مع وجود ما هو أوجب وآكد منه، فرجعت إلى الأصل وهو: البداءة بالواجبات قبل المستحبات والصدقات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، نافعا يوم لقائه العظيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (408) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الموصى له يشرع لمن ترك ذرية ضعفاء وخشي عليهم بعد موته، أن يختار شخصا مسلما عاقلا بالغا حرا عدلا، ويوصي إليه ليقوم بأمرهم، وبتفريق الأموال حسب الوصية، ويجوز للمرأة أن تكون وصية على اليتامى وعلى الأموال. كما أن الوصية تصح لكل من يصح أن يملك، حتى وإن كان حملا تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لملك من الملائكة أو لحيوان أو لميت؛ لأنه لا يصح تملكهم. مشروعية الوصية بالذرية إلى من يقوم عليهم ويرعاهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وعلى أفضل رسله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى له] . شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ركن من أركان الوصية، وهو الشخص الذي يوصى له ويعهد إليه، والوصية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالوصية بالأموال. القسم الثاني: يتعلق بالوصية بالأيتام والضعفة الذين يخلفهم الإنسان من وراء ظهره، كقرابته الذين يحتاجون إلى رعاية وعناية. فأما بالنسبة للأموال، فيوصى للشخص أن يأخذ ذلك المال، ويوصى للشخص أن يقوم بتفريق الأموال، ولابد في هذا الوصي -الذي أقيم لتفريق الأموال أو لرعاية اليتامى والقيام على حقوقهم والإحسان إليهم من بعد أبيهم- أن تتوفر فيه أمور، ومن خلال هذه الأمور يمكن أن تتحقق المصالح التي من أجلها شرع الله الوصية، وكذلك تندرئ المفاسد والشرور التي شرع الله الوصية لدرئها ودفعها، والله سبحانه وتعالى ما ترك خيرا إلا ودل عباده عليه، وما ترك شرا إلا وحذرهم منه. والأصل في الوصية للأشخاص الذين يقومون برعاية اليتامى وبتفريق الأموال ممن يوثق بدينه وأمانته قول الله تبارك وتعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9] ، فبينت هذه الآية الكريمة أن على كل مسلم حضره الموت، أو كان في عافية ولكنه يخشى أن يدهم عليه الأجل -وليس هناك أحد يضمن عمره- أن يتقي الله في هؤلاء اليتامى. والإنسان لا يضمن -ولو كان في عز شبابه واكتمال صحته وعافيته- أن ينزل به أمر الله في ليل أو نهار، ولذلك من ولد له فليتق الله في مولوده ولو كان صغيرا؛ لأنه لا يضمن أن يعيش له، فأمر الله تبارك وتعالى من خشي على ذريته من بعده: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم} [النساء:9] ، فوصف الذرية بأنها ضعيفة، ووصف الشخص بأنه يخاف، إذا: تكون الذرية ضعيفة إذا كانت من اليتامى، سواء كانوا ذكورا أو كانوا إناثا، واليتم في الأنثى أشد منه في الذكر، فلذلك قال تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا} [النساء:9] أي: أولادا ضعافا، بخلاف ما إذا كان هؤلاء الأولاد عندهم إخوة كبار، وهم بالغون وفيهم أمانة، فيمكنهم أن يقوموا مقام الآباء، ويسدوا مسده في رعاية إخوانهم القصار واليتامى. فأولا: أن تكون الذرية ضعيفة لا تملك لنفسها حولا ولا قوة. ثانيا: أن يخشى هذا الرجل على هذه الذرية، وفي بعض الأحيان تكون الخشية بسبب عدم وجود قريب يقوم عليهم، فيخشى على أموالهم أن تؤكل، ويخشى على حقوقهم أن تضيع؛ بل ربما خشي على أعراضهم أن تنتهك، وهذا لاشك أنه يتأكد خاصة عند فساد الزمان وتغير الناس. بل قد يخشى الإنسان من أقرب الناس منه، فكم من عم وكم من أخ أكل أموال قرابته! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء أعمامهم على أموالهم! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء إخوانهم على تلك الأموال! فإذا كان الأب يعلم أن ابنه الأكبر أو أن أبناءه الكبار فيهم قسوة، وفيهم جرأة على حدود الله عز وجل، أو كراهية لإخوانهم القصار؛ فعليه أن ينتقل حتى ولو لشخص أجنبي غريب يأمنه. شروط يجب توافرها في الوصي ولا بد أن تتوفر في هذا الشخص الأمور التي ينبغي مراعاتها في كل من يقوم بهذه الولايات؛ من جهة الدين ومن جهة الدنيا، فهناك أمور من جهة دينية، وهناك أمور من جهة دنيوية. أما من أوصي إليه بالقيام على اليتامى ونحوهم، فمن الأمور التي تشترط فيه من ناحية دينية: أولا: الإسلام، فلو أنه لم يجد في أبنائه الكبار من يحسن النظر لليتامى من أولاده، ووجد أخاه، ولكن أخاه كافر، فلا يجوز أن يقيم الكافر وصيا على الأيتام المسلمين، بأي حال من الأحوال؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، والذي يوصي إلى الكفار قد جعل السبيل للكافر على المسلم بالولاية عليه، وقال سبحانه وتعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران:118] ، وما عرف أحد بعدو مثل تعريف الله جل جلاله لعباده المؤمنين بأعدائهم، ولذلك يقول في كتابه: {والله أعلم بأعدائكم} [النساء:45] . فبين سبحانه وتعالى أن الكافر لا يراعي مصلحة المسلم مهما كان الأمر، إلا إذا كان هناك ضرر أكبر، أو كان هناك خديعة أو مكر، والله عز وجل {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] . فلن تجد أصدق منه حديثا، ولا أصدق منه قيلا، ولا أصدق منه حكما، ولذلك قال تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} [التوبة:10] ، والإل: هو القرابة، والذمة: هي العهد، فالكافر لا يرقب في المؤمن إلا ولا ذمة، إلا إذا كانت له مصالح، فعندها يخاف من المصلحة أن تفوت، لا مراعاة للإل ولا للذمة، فليس عندهم عهد ولا ذمة، فالمقصود: أن الله تعالى لم يجعل للكافر على المؤمن ولاية لهذه النصوص. ولما ولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه كاتبا له نصرانيا -وكان بالشام- لأنه لم يجد في المسلمين من يحسن له الكتابة وتنظيم الكتابة، فعهد بذلك إلى نصراني من أهل الشام، فبلغ عمر ما فعله، فكتب إليه بهذه الآية: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم} [آل عمران:118] ، فقوله تعالى: {ودوا ما عنتم} [آل عمران:118] أي: ودوا عنتكم، وهذا يدل على أنه لا خير فيهم، فلا يجوز أن يكون الكافر وصيا على الأيتام، ولا قائما على شئونهم؛ لهذه النصوص. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يعلا عليه) ، واليتيم المسلم كالمسلم؛ لأن هذا عند العلماء مقعد على القاعدة المشهورة التي ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه: قواعد الأحكام، التي هي: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) ، فأيتام المسلمين محكوم بإسلامهم تبعا لوالديهم. الشرط الثاني: العقل، فلا يعهد لأولاده وأيتامه وذريته من بعده ولا يوصي لشخص مجنون؛ لأن المجنون لا يحسن النظر لنفسه فضلا على أن ينظر في مصلحة غيره؛ ولأن الشريعة الإسلامية إنما جعلت الوصية على اليتامى من أجل طلب مصالحهم ودرء الشرور -بإذن الله- عنهم، وهذا لا يمكن أن يتحقق بمن فقد العقل، حتى لو كان جنونه متقطعا فإنه لا يقام وصيا؛ لأنه لا يؤمن منه الضرر. الشرط الثالث: أن يكون بالغا؛ لأن الصبي لا يحسن النظر، وفيه كذلك قصور، قال تعالى في كتابه: {الذين لم يبلغوا الحلم} [النور:58] ، فبين أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم دون العقل والتمييز والإدراك للأمور، فلو أقيم صبي وصيا على يتامى، أو وصيا على أموال في تفريقها؛ فإنه لا يحسن النظر، ولربما خدع وضحك عليه لنقص عقله. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) أي: حتى يكتمل عقله ويحسن النظر بفضل الله عز وجل، ثم بهذا العقل الذي يميز فيه بين الأمور صالحها وضارها. الشرط الرابع: أن يكون حرا؛ لأن العبد المملوك بين الله تعالى أنه مشغول بخدمة سيده؛ ولأنه لا ولاية له على نفسه، فكيف يلي على غيره؟ الشرط الخامس -في الوصي الذي يوصى إليه بالقيام على أمور اليتامى-: أن يكون من أهل العدالة، والعدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم. العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالعدل هو الذي استقام على طاعة الله تبارك وتعالى، والتزم شرائعه، وفعل ما أمره الله به، وترك ما حرم الله عليه، والفاسق هو من يرتكب الكبائر -ولو كبيرة واحدة- أو يصر على صغيرة حتى تصل إلى مقام الكبيرة، فمثل هذا يقولون: كما أنه ضيع حق الله بفسقه؛ فإنه سيضيع حقوق اليتامى؛ لأن أصل الفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت قشرتها، والفاسق سمي فاسقا لأنه قد خرج عن طاعة الله عز وجل، فإن خرج خروجا كليا -والعياذ بالله- بالكفر فهذا فسق الكفر، وإن خرج خروجا لا يخرجه عن الملة، فهذا فسق العصيان الذي لا يوصل الإنسان إلى حد الكفر. فمثل هذا الذي يفعل الكبائر وفيه فسق لا يؤمن أن يضيع حقوق اليتامى ويتلاعب بها، فربما قبل الرشوة، فباع أموال اليتامى بثمن بخس، أو باعها حين يكون البيع ضررا على اليتامى، أو يشتري حيث يكون الشراء ضررا على اليتامى. فالمقصود: أنه بفسقه فيه تهتك وفيه تساهل، فلا يؤمن منه أن يضيع حقوق هؤلاء اليتامى، وحينئذ يكون مقصود الشرع تحقيق المصالح، فتكون ولايته مضيعة لمقصود الشرع. هذا من جهة الأمور التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يوصى إليه. وهناك أمور تستحب في الموصي، وينبغي لمن يوصي أن ينظر إلى الأكمل والأفضل؛ ومن هذه الشروط المستحبة: أولا: ألا يخرج عن القرابة، فإذا أراد أن يوصي لأيتامه فيبدأ بأقرب الناس إليه، ممن يحسن النظر؛ لأن القريب في الغالب فيه شفقة القرابة، ويخاف من الله جل وعلا أكثر؛ لأن القرابة تدعو إلى الشفقة وإلى الرحمة، فإذا كان هناك من أقربائه من يمكن أن يقوم بالنظر في عياله وأولاده وأيتامه من بعده، فلا يعدل إلى الغريب، ولا ينتقل إلى الأجنبي، ولأنه ربما احتاج الوصي أن يخاطب أمهم، ولربما احتاج أن يختلط باليتامى، فعندما يكون من الأقربين يكون ذلك أخف على أولاده وأيتامه وأجبر لقلوبهم، بخلاف ما إذا كان أجنبيا فإنه يكون أدعى إلى التهم، ويكون في ذلك من التضييق والعنت ما الله به عليم، فيبدأ بالأقرباء قبل الغرباء. أمور يستحب توافرها في الموصي ثانيا: من أهم ما ينبغي أن ينتبه له بعد هذه الشروط الدينية هو مراعاة الأمور الدنيوية المهمة التي من أهمها: حسن النظر في الأمور؛ فإن الله عز وجل فضل الناس بالعقول، وفضلهم بحسن النظر، فهذا العقل هو الذي ارتقى الإنسان به من مستوى البهيمية إلى مستوى الآدمية والتكريم من الله جل وعلا، وهو نور من الله سبحانه وتعالى تنكشف به حقائق الأمور، فيميز الإنسان بهذا العقل بين الصالح وبين الضار، ولذلك تجد من فقد عقله بسكر أو جنون -والعياذ بالله- يكون حاله في بعض الأحيان أردأ من حال الطفل، ولربما ذهب ورمى بنفسه في النار، مع أن البهيمة إذا رأت النار فرت منها، ولكنه ربما جاء في حال سكره وحال ذهاب عقله -والعياذ بالله- فيرمي بنفسه، ولربما قتل نفسه والعياذ بالله، فالعقل من أتم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على العبد بعد نعمة الدين، ولذلك وصف الله الدين مع العقل بأنه نور على نور. فإذا جاء الإنسان يوصي بقرابته وأوليائه إلى شخص فعليه أن ينتبه لهذه الجوانب المهمة من اكتمال العقل، فقد يكون عاقلا ولكنه غير مكتمل العقل، فينظر إلى الشخص الذي عرف بسداد الرأي، فمثلا: إذا كان الذي يريد أن يوصي غنيا ثريا، فينبغي أن يتنبه إلى جانب حفظ المال وتنميته، فإذا وجد الشخص المعروف بحسن النظر في تنمية الأموال واستثمارها عهد إليه بالقيام على أمواله؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى ذلك، وهذا أكمل وأفضل، فيحفظ المال وينمو، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . فندب إلى أن يكون الولي ممن يحسن النظر في استثمار الأموال وحسن رعايتها، وهذه المرتبة مرتبة الأحسن والأكمل، أما إذا لم يجد الموصي من يحسن تنمية أموال أيتامه؛ فليبحث عن الشخص الذي عرف بالحيطة والحذر والخوف في حفظ الأشياء، وله أن يختبره حتى يعلم أمانته وحفظه، حتى إذا لقي الله جل جلاله ووقف بين يدي الله وأبناؤه خصومه فيمن ولاهم عليه يقول: رضيت لهم ما أرضاه لنفسي. فعليه أن ينظر وكأنه يتيم من هؤلاء اليتامى، فينظر الذي يرضى في حفظه ورعايته لهذه الأموال، سواء كان من القرابة أو من غيرهم. فالإنسان عندما لا يجد من يحسن الاستثمار، أو وجد رجلا يستثمر الأموال ولكنه يخاطر في استثماراته، ووجد شخصا غيره لا يستثمر، لكنه إذا أمسك شيئا حفظه حتى يؤديه على أتم وجوه؛ فحينئذ تجتنب جانب المخاطرة، وتعهد بأبنائك إلى من عرف بالحفظ، فالحفظ حسن والاستثمار أحسن، لكن حينما كان الاستثمار فيه مخاطرة وصاحبه لا يعرف بالحذر، فتعدل إلى من يعرف بالحفظ؛ لأن المسلم لا يخاطر لنفسه، فكذلك لأيتامه الذين أمر بالنظر في مصالحهم. كذلك أيضا عليه أن يبحث في الأمور الدنيوية من ناحية أخلاق الرجل في دينه وحسن معاملته؛ لأن أيتامه من بعده ربما احتاجوا أن يدخلوا على هذا الرجل المرة بعد المرة، وقد يكون الرجل فظا غليظا، فقد تجده يحسن حفظ الأموال أو استثمارها، لكن أخلاقه شرسة ومعاملته سيئة؛ فيعيش اليتيم تحت القهر، فلا يستطيع أن يبث حاجته وأن يبث حزنه، ولا يستطيع أن يسأل حاجته، أو أن يصل إلى ماله وماله بين يديه، فلا ينبغي أن يولي عليهم من عرف بالشدة والأذية والتضييق، وإنما يراعي فيه الأخلاق الطيبة، والتواضع والإلف والحلم والرحمة، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، وحسن النظر في أيتامه وأولاده من بعده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحتاطون في هذا الأمر كثيرا. ويجوز أن تولى المرأة، فإذا كانت زوجة الإنسان معروفة بالصلاح والأمانة، ومعروفة بالرعاية والضبط التام لأموال اليتامى، وكذلك برعايتها؛ عهد إليها؛ لأن المرأة -على أصح أقوال العلماء- يجوز أن تلي وأن يوصى إليها برعاية الأيتام، وكذلك بحفظ المال وتفريقه، والدليل على ذلك فعل السلف، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تولت أمور أيتام أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه توفي قبلها، فوليت أمور أيتامه من بعده؛ فكانت هي التي تقوم على شئونهم وترعى أحوالهم. حكم وصية الرجل إلى المرأة بالقيام على الأيتام والأموال وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه -كما في الصحيحين- أنه عهد بالوقف الذي أوقفه بخيبر -وقد تقدم معنا- وأوصى أن تكون بنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها هي التي تليه على الوقف. فدل ذلك على أنه يجوز أن يوصى بتفريق الأموال إلى المرأة، قياسا على فعل عمر في الوقف، وبرعاية الأيتام نصا في خبر أم المؤمنين عائشة، حيث وقع فعل هذا بحضور الصحابة وبعلمهم رضي الله عنهم ولم ينكر عليها ذلك، وهي من فقهاء الصحابة رضي الله عنها وأرضاها. وقد شدد في هذا بعض السلف، فكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله لا يرى أن يوصى للمرأة، والصحيح: أنه يجوز ويصح أن يوصي للمرأة، وخاصة إذا عرفت بالأمانة والحفظ وحسن الرعاية والتدبير لأموال أيتامه من بعده. اشتراط كون الموصى له يصح تملكه يقول رحمه الله: [باب الموصى له] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالشخص الذي يوصى له، فيعهد إليه برعاية أيتام أو تفريق مال، أو يوصى له مباشرة بأن يقال: أعطوا محمدا عشرة آلاف، أو أعطوه الثلث، أو نحو ذلك، فإنه يشمل هذا ويشمل هذا، فهناك يكون موصى له، وأيضا يعتبر وصيا من جهة كونه قائما بالرعاية للمال والأيتام. قال رحمه الله: [تصح لمن يصح تملكه] . إذا وصى بمال فلابد أن يكون الشخص الذي يوصى له ممن يصح تملكه للمال، فإن كان ممن لا يصح تملكه للمال؛ كالمعدوم، كأن يقول: أعطوا ابن فلان، ولم يولد له بعد، وليس هناك حمل تحقق وجوده، فهذا غير موجود. وكذلك أيضا بين أنه لا بد أن يكون ممن يصح تملكه، فيوصى للشخص الذي يكون أهلا للولاية على المال، وكذلك استحقاقه. فأما إذا كان لا يصح تملكه للمال؛ مثل الحربي، فلو وصى بماله لحربي فلا يصح تملكه للمال، ولا تجوز الوصية له؛ لأن أموال الكفار ملك للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) . فدل هذا على أن الحربي -أي: المحارب للمسلمين من الكفار إذا لم يفعل ذلك، فمعناه أنه لم يسلم، وأنه باق على محاربته للمسلمين؛ وحينئذ لا استحقاق له في المال، فلو قال: وصيت لأخي فلان بعشرة آلاف، وكان أخوه حربيا كافرا، لم يصح؛ لأنه ليس له يد على ذلك المال؛ لأن الشريعة رفعت يد الكافر عن ماله إذا كان محاربا. وقوله: (تصح) أي: الوصية (لمن) أي: للشخص الذي (يصح تملكه) ، فلو قال مثلا: وصيت لبهيمة، فإنه لا يصح تملكها، وكذلك أيضا لو قال: وصيت لملك من الملائكة، فلا يصح تملك هؤلاء؛ لكن إذا وصى لشخص معين يصح تملكه صحت الوصية؛ لأن الوصية يراد منها إيصال الحق إلى شخص، سواء كان ذلك على سبيل الصلة والبر، أو على سبيل المحاباة وكسب المودة، وهذا المعنى لا يتحقق فيمن لا يصح تملكه، كالبيهمة، والملك، والحربي، ونحوهم. وظاهره العموم كما ذكر المصنف، فيشمل الذكر والأنثى، ويشمل الصغير والكبير، فيصح أن يوصي بماله لصغير فيقول مثلا: ثلث مالي وصية لذلك الولد، ولو كان دون البلوغ، وهكذا لو وصى لحمل تحقق وجوده فإنه يصح تملكه. فعلى هذا لا بد أن يكون الشخص الذي يوصى له ممن يصح تملكه، ويشمل ذلك الرجال والنساء كما ذكرنا. قال رحمه الله: [ولعبده بمشاع كثلث] . حكم الوصية بالمال للعبد أي: وتصح الوصية لعبده بمشاع كثلث، كأن يقول: ثلث مالي لعبدي فلان، وذكر العبد هنا؛ لأن الإشكال في العبد أنه بعد وفاة سيده يكون ملكا للورثة، فإذا وصى له فإن جميع ما يوصى به لهذا الرقيق سيكون إلى الورثة، فصارت الوصية في ظاهرها لغير وارث وفي حقيقتها أنها لوارث، ومن هنا يذكر العلماء مسألة الرقيق من هذا الوجه، ومرادهم التمثيل على وصية في ظاهرها للغير ولكنها في حقيقتها آيلة إلى الورثة. لكن إذا قال: وصيت بثلث مالي لفلان، من أرقائه وعبيده، أو قال: أوصيت أن يعتق فلان من ثلثي ونحو ذلك، فحينئذ ينظر، فإذا استغرق الثلث الذي وصى به قيمة العبد فهو حر، فلو كانت قيمته تسعة آلاف ريال، وكان قد ترك سبعة وعشرين ألفا، فالثلث تسعة آلاف، فحينئذ يعتق من هذا الثلث، وأما إذا كان زائدا فحينئذ يعتق ويملك ما زاد، فلو قال: وصيت بثلثي لمحمد -وهو من عبيده- والثلث تسعة آلاف، وقيمة الرقيق ثلاثة آلاف؛ عتق بالثلاثة وملك ستة آلاف؛ لأنه تكون له يد على المال، وحينئذ يعتق ويملك. قال رحمه الله: [ويعتق منه بقدره ويأخذ الفاضل] . قوله: (ويأخذ الفاضل) الفاضل هو الزائد، يقال: فضل الشيء إذا زاد، ومنه فضل الإنسان، إذا كان محافظا على الطاعة؛ لأن الطاعة والبر إذا كانت غير واجبة فهي فضل وزيادة على الواجب. قال رحمه الله: [وبمائة أو معين لا تصح له] . فإن عين وقال: بمائة درهم، أو أوصيت له بألف، فهذه المائة أو الألف ستعود إلى الرقيق وليست في رقبته، وإنما تعود ملكا له، وبمجرد ما تقع يده على ذلك المال سينتقل إلى ورثة الموصي، فكأنه يوصي إلى ورثته؛ لأن الرقيق لا يملك، والدليل على أنه لا يملك قوله تعالى: {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل:75] ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) ، فأخلى يد الرقيق عن الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك. وعلى هذا فلو وصى له بمعين -كمائة أو ألف أو ألفين- فهذا المعين بمجرد أن تحكم بصحة الوصية سيدخل إلى ملكية العبد، والعبد وما ملك سيكون لسيده، فهو في الحقيقة سيؤول إلى وصية لوارث، بخلاف ما ذكرناه في مسألة المشاع والثلث. صحة الوصية بحمل أو لحمل تحقق وجوده قال رحمه الله تعالى: [وتصح بحمل ولحمل تحقق وجوده] . قوله: (وتصح بحمل) ، أي: إذا وصى بحمل جاريته؛ لأن الحمل يكون من الرقيق تبعا لأمه. أو يكون الحمل حمل ناقة أو حمل شاة، فقال: ما في بطن هذه الشاة -والحمل موجود- يعطى لمحمد أو يعطى لعلي، فهذه وصية منه بهذا الحمل، فتصح الوصية بحمل. وقوله: (ولحمل تحقق وجوده قبلها) ، أي: قبل الوصية، فالضمير عائد للوصية، إذا: يشترط أن يتحقق من وجود الحمل قبل الوصية حتى تصح الوصية؛ لأنه إذا لم يتحقق من وجود الحمل قبل الوصية كانت لمعدوم، ولا تصح حينئذ الوصية من هذا الوجه، فإذا وصى لحمل كأن يكون -مثلا- ولد أخيه، أو أخته، فيقول مثلا: وصيت بألف ريال تعطى لحمل فلانة، فيشترط في هذا الحمل أن يتحقق من وجوده حتى تصح الوصية، وقد يوصي للحمل لأنه سيكون يتيما، كأن توفي أخوه وزوجته حامل، فأحب أن يصل أولاد إخوانه من اليتامى، فقال: أوصي بثلث مالي لحمل فلانة، يقصد زوجة أخيه. إذا أوصى أن يحج عنه بمال يكفي لأكثر من حجة قال رحمه الله: [وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف؛ صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد] . الإنسان إذا وصى بالحج أو بالعمرة، فإما أن يكونا واجبين عليه، وإما أن يكونا غير واجبين، فإن كانا واجبين فلا إشكال، فإنها ستخرج سواء وصى أو لم يوص؛ لأن دين الله أحق أن يقضى؛ ولكن إذا وصى وقال: حجوا عني، فإن حدد مالا فقال: هذه العشرة آلاف يحج بها عني، أو ثلث مالي يحج به عني، فحينئذ نأخذ هذا الثلث كاملا نحجج عنه، فإذا حججنا عنه لم يخل من حالتين: فإما أن يكفي الثلث، وإما أن لا يكفي. فإن كان الثلث كافيا فعلى ضربين: إما أن يكفي ويزيد، وإما أن يكفي ولا يزيد. فإن كان يكفي ولا يزيد فلا إشكال، مثال ذلك: لو أنه قال: خذوا من مالي ألف ريال وحجوا بها عني، ثم جئنا لشخص وقلنا له: أتحج عن فلان؟ قال: نعم، فنظرنا في مئونة الحج وكلفته فإذا هي ألف ريال؛ فحينئذ وصى بمال يكفي للحج ولا يزيد، فحينئذ لا إشكال. الحالة الثانية: أن يكفي ويزيد، فإذا كفى المال وزيادة؛ حج عنه بالأصل، ثم كرر الحج سنوات حتى ينفد المال كله؛ لأن هذا المال شبه الموقوف على هذه الطاعة، فيحجج بهذا المال عنه. لكن الإشكال إذا كان المال يكفي لأربع حجج، فهل تكون هذه الأربع الحجج متتابعة، بحيث نحج عنه في أربع سنوات، أو يمكن أن يستأجر أربعة أشخاص في حجة واحدة؟ هذا فيه تفصيل عند بعض العلماء، فبعض العلماء يقول: لا يحج عن الميت إلا حجة واحدة؛ لأن البدل آخذ حكم مبدله، كما أنه لا يمكن أن يأتي بحجتين في عام واحد؛ فكذلك لا يصح أن يحجج عنه حجتين في عام واحد؛ ولأننا لو فتحنا هذا الباب في باب النوافل لصح أن يأتي هو بحج ويستأجر الغير معه ليحج أيضا عنه، على القول بجواز التنفل عن الحي مع القدرة، وهذا من حيث النظر صحيح، ومن حيث الأصل أيضا له وجهه. وبعض العلماء يقول: بل يمكن أن يحجج عنه أربعا أو خمسا في زمان واحد على حسبه، فمثلا: لو ترك خمسة آلاف، وكل ألف ريال تكفي لحجة عنه، فبعض العلماء يقول: أستأجر خمسة أشخاص؛ وذلك لأنني لا أضمن في العام القادم أن تكون الحجة بألف، وقالوا: إنه يجوز في الأموات بعد موتهم ما لا يجوز للإنسان في حال حياته، فيخفف في هذا من هذا الوجه. وأيا ما كان فكلا القولين له وجهه، وما ذكرناه من أنه لا يجمع بين الحجتين في عام واحد له قوة. هذا بالنسبة إذا كانت تكفي وزيادة، والحكم الذي يهمنا أنه ما دام قد قال: ثلث مالي يصرف في الحج، أو هذه الألف يحج بها عني، فإن هذا المال كله ينفق في الحج، ولا نقتصر على حجة واحدة إلا إذا قال: خذوا من ثلث مالي حجة واحدة؛ أو عمرة واحدة، فحينئذ يقتصر على ما طلب وسأل، ويصرف من المال بقدره. أما إذا كان لا يكفي أن يحج عنه، فبعض العلماء يقول: إنه ينظر إلى أقرب الأماكن؛ لأنه لا يمكن أن يحج عنه من بلده ومن مكانه، ويمكن أن ينظر إلى أقرب الأماكن، كأن يستأجر شخص من أهل مكة ويحج عنه، أو ينظر ممن يرضى بالقليل ويقوم بالحج عنه، وأيا ما كان فإن المال الذي عين للحج مصروف في ذلك الحج، إلا إذا تعذر الوجود وتعذر من يحج عنه، فحينئذ ينتظر حتى يتمكن من صرف ذلك المال في الحج. وقوله: (صرف من ثلثه مئونة حجة بعد أخرى حتى ينفد) ، أي: حتى ينفذ الثلث؛ لأنه لم يخص حجة واحدة، ولا عمرة واحدة، لكنه لو خص وقال: يحج عني حجة واحدة، أو يحج عني السنة القادمة، أو يحج عني حجتين، فحدد وعين، فيتعين الحكم ويختص الحكم بما عين من أجله، أما إذا كان قد أطلق فإننا نستنفد الثلث كاملا، ولو شمل ذلك عشر حجج، لكن على التفصيل الذي ذكرناه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم الوصية للملائكة أو للبهائم أو للميت قال رحمه الله: [ولا تصح لملك وبهيمة وميت] . فلا تصح الوصية لملك، كأن يقول مثلا: هذه الألف لجبريل، فلا تصح الوصية، وهذا من الأمور المبتدعة التي يفعلها أهل الجهل، مثلما يقول بعضهم: وهبت ثواب قراءتي وصلاتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يقال له: أنت وصلاتك وعبادتك كلها في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى جعل له أجر الأمة كلها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له أجره) ، فذلك تحصيل حاصل. وقد قرر الأئمة رحمهم الله أن هذا من الأمور المستحدثة على المسلمين، فالثواب حاصل، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأرفع من أن تتصدق عليه بحسنة ذكر أو طاعة، فمقامه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أجل وأكرم عليه الصلاة والسلام. فالمقصود من هذا: أنه لا يوصى لملك، ولا لبهيمة، فمثلها لا يملك؛ لأنه يتعذر هذا الإيصال، وهكذا إذا كانت لمبهم، كقوله: أوصي لرجل؛ قال طائفة من العلماء: لا تصح؛ لأنه لا يمكن الإيصال، فمن هو هذا الرجل؟ لا يمكن تعيينه، ففي هذه الحالة يتعذر الإيصال إلى الملك، والمبهم يتعذر التعيين ما لم يعين هو، والأصل يقتضي أن تكون الوصية واضحة، وأن تكون بينة معلومة. وقوله: (وبهيمة) ، كقوله: أوصي لبهيمة، مثلما يقع عند أهل الكفر والعياذ بالله، فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، ويوصي بملايينه لكلبه، نسأل الله السلامة والعافية! وصدق الله جل جلاله حيث يقول: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان:44] ، فبمجرد ما يخرج الإنسان عن الدين ويترك شرع ربه؛ فإنه ينزل إلى مستوى أحط من البهيمة: {إن هم إلا كالأنعام} [الفرقان:44] ، وليس هذا فقط: {بل هم أضل سبيلا} [الفرقان:44] ، فهم أضل سبيلا وأضل فكرا، وهل من عنده عقل يوصي لبهيمة؟! فالكلب عندهم -أكرمكم الله- أحب وأكرم من صلة القرابة؛ لأنها مجتمعات مدمرة منحطة، ولو مدحت وأثني عليها ووضعت في السماء، لكن هذا كله خلاف الحقيقة، ولذلك من أراد الحقيقة والجوهر فلينظر إلى عظمة هذا الدين، وعظمة هذا الإسلام الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو العز والكرامة. فالوصية للكلاب وللبهائم لا يفعلها إلا إنسان ليس عنده عقل، ولو وصى لبهيمة لم تصح، والوصية للكلاب ولدور الكلاب ولدور الحيوانات لا تصح. لكن في بعض الأحيان يقول بعض العلماء: إذا جعل قدرا من بستان أو من طعام عنده صدقة على بهائم المسلمين، أو علفا لدواب المسلمين، أو علفا لدواب الجهاد في سبيل الله ونحو ذلك، فهذا اغتفره العلماء رحمهم الله، وله وجهه. لكن أن نقول: هذه العشرة آلاف أعطوها الكلب الفلاني، أو ضعوها في رصيده -والعياذ بالله- في البنك، فهذا لا يصح في شريعة الله عز وجل، والشريعة قد أعطت كل ذي حق حقه. ولذلك يصرف المال في وجهه، لكن عند العلماء إشكال فيما إذا وصى مثل هذه الوصايا، فهل تبطل الوصية من أصلها، أم أنه ينظر إلى جهة يمكن أن تصحح بها الوصية، فتصرف لضعفة المسلمين ولفقرائهم؟ نقول: هذا فيه تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله باختلاف أنواع الوصايا، ومن أمثلتها: الوصية إلى ما لا نفع فيه، أو الوصية إلى ما فيه ضرر، فلا تجوز الوصية إلى دور فيها محرمات، فهل تبطل الوصية من أصلها أو تصرف، فبدلا من أن تذهب إلى دور المحرمات تذهب إلى دور المساجد وإلى دور العلم؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا وصي بها -مثلا- إلى طوائف ضالة، أو إلى ملل أو نحل، كأن: وصى بماله -والعياذ بالله- في المساهمة في بناء الكنائس، أو طبع التوراة أو الإنجيل، فلا تصح؛ لأنها وصية بضلال، فيقولون: إنه قد يكون جاهلا ويظن أن الطاعة في مثل هذا، فننظر إلى الطاعة الحقيقية فنصحح وصيته؛ لأن القاعدة: أن الإعمال أولى من الإهمال. ومن أهل العلم من قال: تبطل الوصية من أصلها ولا تصحح، فعند العلماء هذا التفصيل في هذه المسألة. وهكذا لو وصى لميت فلا يصح؛ لأن الوصية يشترط فيها القبول، والميت يتعذر منه القبول. قال رحمه الله: [فإن وصى لحي وميت يعلم موته فالكل للحي] . حكم من وصى لحي وميت يعلم موته أو يجهله إذا وصى الموصي فقال: هذه عشرة آلاف من ثلثي، تعطون زيدا خمسة آلاف وعمرا خمسة آلاف، وهو يعلم أن زيدا قد مات، فحينئذ لا تصح لزيد؛ لكن هل يأخذ عمرو الخمسة أم العشرة كاملة؟ قال بعض العلماء كما اختاره المصنف: تصرف العشرة آلاف كلها لعمرو؛ لأنه لما كان يعلم أن زيدا قد مات فكأنه يقول: اصرفوها كلها لعمرو. ولكن هذا فيه نظر، والأقوى ما ذكره بعض العلماء: أنه إذا كان يعلم موته، فنبقى على الأصل مادام ميتا؛ لأنه ربما كان يعلم موته ونسي -ذهل أو غفل- فتكون كالوصية للميت الذي لا يعلم موته، ولأنه عين وحدد، والمعين لا يصرف إلى غيره؛ لأن فائدة التعيين الحصر والقصر بذلك الذي سمى، فلما كان الذي سماه وعينه ممن تبطل الوصية بالنسبة له، بطلت في حقه، وبقيت في حق غيره صحيحة. قال رحمه الله: [وإن جهل فالنصف] . قوله: (وإن جهل) أي: جهل موته، يعني فلا يدري هل هو حي أم ميت، فقال لهم: أعطوا زيدا خمسة آلاف وعمرا خمسة آلاف، ولا يدري هل زيد حي أو ميت، ثم تبين أن زيدا كان ميتا؛ فحينئذ يصرف النصف لعمرو، فالمصنف يختار التفصيل. والصحيح: أنه لا تفصيل، فالنصف لعمرو في كلتا المسألتين، أي: هو لعمرو في حال علمه بموت زيد لاحتمال أن يكون نسي، ولعمرو في حال عدم علمه أو جهله بالحال أو شكه في حياته؛ لأنه قد عين، وفائدة التعيين صرف الحق لمن عين له. حكم من وصى بماله لابنيه وأجنبي قال رحمه الله: [وإن وصى بماله لابنيه وأجنبي، فردا وصيته فله التسع] . من المعلوم أنه إذا وصى بالمال كله فلا يصح إلا في حدود الثلث، فمعنى ذلك: أن الوصية باطلة في الثلثين وصحيحة في الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد: (أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا) ، فدل على أن المال كله لا تصح الوصية به إلا في حدود الثلث، فإذا صحت في حدود الثلث فهنا قد سمى المصنف ثلاث جهات، الجهتان الأوليان: ابناه زيد وعمرو مثلا، والجهة الثالثة: الأجنبي، وليكن عليا، فزيد وعمرو يستحقان ثلثي الثلث، والأجنبي -الذي هو علي- يستحق ثلث الثلث؛ لأن الوصية بطلت في الثلثين وصحت في الثلث. فمثلا: لو كان عندك تسعة آلاف ريال، وأوصيت بجميع التسعة آلاف ريال لهؤلاء الثلاثة، فنقول: ليس من حقك أن تعتدي على حقوق الورثة وتوصي بالتسعة آلاف كاملة، بل تصح وصيتك في ثلاث آلاف، وتبطل في ستة آلاف، والستة آلاف تقسم ميراثا شرعيا حكم الله سبحانه وتعالى به من فوق سبع سماوات، ويعطى كل ذي حق حقه. وابناه من الوارثين، يعني: ابناه ذكرا في الثلث الذي سنصحح الوصية به، فابناه زيد وعمرو لما كانا ابنين له فلا وصية لوارث؛ فبطلت أيضا في الابنين، ولا يستحقان إلا أن يجيز الورثة، وتبقى الوصية لعلي الأجنبي، فيستحق ألف ريال، والألف ريال بالنسبة للتسعة آلاف ريال -التي هي أصل المال- هو التسع، فقال رحمه الله: (صحت في التسع) أي: أعطي علي -الأجنبي- تسع ماله؛ لأنها لم تصح في الثلثين؛ لأنها زيادة على القدر الذي أباحه الله في الوصية، ولم تصح في زيد وعمرو وهما ابناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، فبقيت ثلاثة آلاف قسمت بين الابنين والأجنبي، فبطلت في حق الابنين، وذلك بألفين، وصحت في حق الأجنبي، وذلك بألف ريال، وهي تعادل تسع ماله. الأسئلة السؤال هل يشرع أن يوصي الشخص أن يدفن ببلد ما، أو مكان معين، وإذا شق ذلك على الورثة فهل لابد من إنفاذ الوصية؟ حكم الوصية بالدفن في مكان معين الجواب لا بأس أن يوصي بدفنه في مكان معين أو في بلد معين، ما دام أنه في ذلك البلد، وفي هذا تفصيل. فإذا كان -مثلا- في نفس البلد، وليس هناك حرج ولا مشقة على الورثة في تنفيذ وصيته، فلا بأس، وقد أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم وصوا في دفنهم، فتارة يوصي بأن يدفن في مكان لا يعلم به أحد؛ كالرجل الصالح والعالم يخاف الفتنة، أو كان بين أناس يعظمونه وهو يخاف الفتنة، فيأمر أن يغيب في مكان لا يطلع عليه أحد، كأن يخاف -نسأل الله السلامة والعافية- أن يغلوا فيه، كما أثر عن علي رضي الله عنه أنه وصى أن يدفن في داره بالكوفة، فدفن ليلا وغيب قبره؛ لأنه كان هناك من يعتقد -والعياذ بالله- أنه إله، ويعظمونه، فخاف من عبادته وتعظيمه. فإذا وجدت مقاصد شرعية بالتعيين فلا بأس، ومثل أن يكون في موضع يعلم أن هذا الموضع عرضة للسيل، وأن قبره قد يكشف، فقال: إذا أنا مت فادفنوني في موضع كذا، أو في المقبرة الفلانية. أو يكون هناك مقبرة تدفن على السنة، ومقبرة لا تراعي السنة، فيقول: ادفنوني في المقبرة التي تراعي السنة، أو يكون هناك مقبرة فيها لحد ومقبرة فيها شق، فيختار ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام من مقبرة اللحد، فيقول: إذا أنا مت فأوصي أن يكون دفني في القبور التي فيها لحد، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، وهذا من حق الإنسان، وهو من الوصية المشروعة. لكن التكلف في الانتقال من بلد إلى بلد، هذا لا يجوز؛ لتعطيل الميت من أجله، ولذلك ثبت في حديث شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) . فتعطيل الجنائز وتأخيرها من أجل نقلها ونحو ذلك لا ينبغي، وقد يصل إلى درجة الحرمة، خاصة إذا أدى إلى تعفن الميت وتفسخه وتضرر من يحمله، وتأذي المصلين عليه في المسجد، فهذه أمور لا بد أن توضع في البال، وأعظم من هذا أن يشق، ثم بعد ذلك يحنط من أجل يظل فترة طويلة. فكل هذه الأمور ينبغي اتقاؤها والبعد عنها؛ لأنها مخالفة لشرع الله؛ لما فيها من الاعتداء على حرمة المسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند ابن ماجة أنه قال: (كسر عظم المؤمن ميتا مثل كسره حيا) ، أي: في الإثم، فللميت حرمة، ولا يجوز تعطيل الجنائز حتى يحضر ولده، أو يحضر فلان أو فلان، مجاملة له أو عاطفة، فالميت إذا مات فإنه يسرع بتجهيزه وتكفينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (أسرعوا بالجنازة) ، فهذا أمر يقتضي المبادرة، لكن لو وجدت حالات ضرورية تؤدي إلى تأخير دفنه، مثل أن يراد أن يعرف سبب وفاته، أو وجدت أمور مهمة لابد من الاطلاع عليها في سبب وفاته، فهذه أحوال استثنائية تؤخر بقدر الضرورة والحاجة. وعلى كل حال: التوسع في هذا الأمر وتأخير الجنائز من أجل نقلها إلى أماكن أخر بوصية أو غيرها لا تشرع عند تأثر جثة الميت، وهذا -كما ذكرنا- مخالف للأصل الذي دلت عليه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. حكم دفع صداق الزوجة المتبقي بعد موت الزوج السؤال هل بقية الصداق للزوجة يعتبر دينا يجب سداده مباشرة؟ الجواب هذا حق لازم يجب دفعه ويعتبر دينا، فإنه إذا مات الزوج فإنه وذمته مرهونة لزوجته حتى يؤدي مهرها كاملا. وهنا مسألة مهمة في السؤال وهي: أن من مات حلت ديونه، وهذه قاعدة مهمة، فلو كان عليه أقساط من البنك مؤخرة، أو كان عليه أقساط لمن يدينه مؤجلة، فقد حلت ديونه، أي: يجب سدادها فورا؛ لأن روحه تبقى مرهونة، قال صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ، والمرهون هو: المحبوس، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] أي: محبوسة، وقال بعض العلماء: محبوسة عن النعيم حتى يؤدى عنه الدين، ولذلك قال أبو قتادة رضي الله عنه لما توفي الأنصاري وعليه ديناران -كما في الصحيح- قال: (فلم يزل يلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ فقلت: نعم. فقال: الآن بردت جلدته) ، مع أن أبا قتادة رضي الله عنه قد تحمل عنه الدين. وبعض الورثة يقول: أنا أتحمل عن والدي، وكأنه يظن أنه قد انتقلت الذمة إليه، مع أنه لا تبرأ ذمة الميت حتى يؤدى دينه حقيقة؛ لأن أبا قتادة تحمل، وقال: هما علي يا رسول الله! ثم كان يسأله عن قضائه، فلما، قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (الآن بردت جلدته) ، وهذا يدل على عظم أمر الدين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين، سارني به جبريل آنفا) . فالمهر دين، ويجب على الزوج أن يسدده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) ، فإذا قال لها: صداقك نصفه معجل ونصفه بعد سنة أو بعد سنتين، أو إذا أنا مت، فهذا يجب الوفاء به عند أجله، ولا يجوز التأخير، خاصة إذا كان قادرا على السداد؛ لأنه ظلم، وما دام أن المرأة قد أعطته حقه فينبغي عليه أن يعطيها حقها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) ، فإذا كان هذا بين البهائم فكيف يكون بين الآدميين؟! وهذه حقوق لا يجوز التساهل فيها. وكذلك ينبغي أن ينبه على الورثة أن كل شخص من القرابة له دين على الميت والقريب، فالأفضل والأكمل أن يأخذوا الدين ويعطوه للقريب، ولا يحرجوه بقولهم: أتسامح الميت أم لا؟ فكل إنسان قد يستحي، والمرأة قد تجامل، لكن عليك أن تعطيها مالها في يدها، وتعطيها إرثها واستحقاقها كاملا، ثم هي أدرى، فقد تسامح، وقد يكون فضلها في أخذ هذا المال والتصدق به على أقرباء أولى من زوجها، فهي أدرى بمالها، وهذا حق من حقوقها، فلا ينبغي التضييق على الزوجات في ذلك، ولا منعهن مما جعل الله لهن، والله تعالى أعلم. حكم إحرام المقيم بمكة للعمرة من بيته السؤال إذا أحرم المقيم للعمرة من بيته ولم يخرج إلى الحل، فما حكم عمرته؟ الجواب العمرة صحيحة إذا قام بها على وجهها، ولكن عليه دم؛ لأن ميقات المكي أن يخرج في العمرة إلى الحل، وأن يجمع بين الحل والحرم؛ لأنه في الحج يجمع بين الحل والحرم، ولذلك صح في الحج أن يحرم من بيته، وأما بالنسبة للعمرة فلا يحرم إلا من الحل، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها: (لما سألته صلى الله عليه وسلم أن تحرم بعمرة، فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من الحل) ، وهذا واضح الدلالة؛ لأن عائشة رضي الله عنها أنشأت العمرة بمكة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) . أولا: هذه الزيادة مختلف في كونها مرفوعة أو موقوفة؛ لكن حديث عائشة مرفوع، فيقدم المرفوع الذي لا شك في رفعه على المختلف في رفعه. ثانيا: قوله: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) عام مخصص؛ لأن حديث عائشة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس متقدم على حديث عائشة، ولذلك يؤخذ بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه بتخصيص العموم في قوله إذا صح مرفوعا: (حتى إن أهل مكة يهلون من مكة) ، فـ عائشة لا نستطيع أن نقول بأنها آفاقية؛ لأن بعضهم يقول: إذا كان المكي آفاقيا فإنه يخرج إلى الحل، وإذا كان من أهل مكة فلا يخرج، وفي الحقيقة: أن هذه التفصيلات لا نعرف لها أصلا. ولذلك أوصي كل طالب -خاصة في هذا الزمان، وأشدد عليه في الوصية- أنه إذا كان يريد أن يتقي الله ويأخذ علما بحق على منهج السلف؛ فعليه أن يعرف كل قول يقال به الآن هل هو قول قال به أئمة العلم أم لا؟ ولا نريد من أحد ممن ينتسب إلى العلم -سواء في زماننا أو من المتأخرين- أن يأتينا بشيء من عنده، فالعلم هو الأثر والاتباع، وهذا هو السير على منهج السلف الصحيح، وإذا جاء أحد يتكلم في فهم حديث فنقول له: هل هذا الفهم فهم منك أنت باجتهادك ونظرك، والأمة منذ أربعة عشر قرنا لم تفهم؟ فحينئذ هذا لك، وتتولى تبعته أمام الله سبحانه وتعالى، وهو خروج عن سواد الأمة الأعظم. ولذلك كان بعض العلماء يقول: إذا اختلف العلماء في فهم النص على قولين، ومضت على ذلك القرون المفضلة، فإنه لا يجوز استحداث فهم جديد خارج عن هذا الفهم؛ لأنه لا يعقل أن القرون المفضلة كلها تقول: إما كذا أو كذا، ويأتي هذا ويفهم فهما آخر، ولا شك أن هذا هو سبيل المؤمنين، فإذا مضت القرون المفضلة كلها على هذا السبيل فقد استبان أن الحق إما في هذا أو في هذا، فإذا جاء يحدث قولا ثالثا خرج به عن سواد الأمة، سواء كان من متأخري المتأخرين أو من متقدمي المتأخرين، ونحن أمة يرتبط أولها بآخرها، قديمها جديد، وجديدها قديم، بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نريد جديدا من عندنا. والمشكلة: أنه ليس عندنا ضبط للأصول، ولا ضبط لقواعد الفهم؛ لأن أبسط ما ينبغي أن يكون في الإنسان الذي يجتهد -وهو ليس بالبصير بالقاعدة التي يدل عليها الشاهد- هو الورع. فإذا كان الشخص ليس عنده ورع إلى درجة أن يأتي ويجتهد، فهذه مصيبة، فأساس الاجتهاد الحق هو الورع، ولذلك لا تجد أحدا من أئمة الاجتهاد ودواوين العلم السابقين الذين فتح عليهم في فهم الاجتهاد إلا وقد قام علمه على الورع، وانظر إلى أئمة الإسلام، تجدهم أئمة في الورع، وبهذا استقامت أمور الفهم لهم؛ لأن من تورع فتح الله عليه، ومن قال فيما لا علم له: الله أعلم؛ ورثه علم ما لم يعلم، وفتح الله عليه {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء:113] . فالإنسان الذي يأتي بالأفهام من عنده، ويأتي ويخترع في الأحاديث، ويجلس طلاب العلم يتناقشون في أحاديث ويأتون فيها بأفهام جديدة، وكل يوم يأتينا فهم جديد، فبعض طلاب العلم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا يا أخي! من هذا الذي يقول؟ ومن هذا الذي نصب نفسه ليتكلم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! كان بعض العلماء يقول: (حق على من يفسر كلام الله أو يؤول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقل نفسه بين الجنة والنار) ، نريد الشيء الذي قاله العلماء، نريد شيئا مبنيا على أصل صحيح وحجة ومحجة تلقى الله عز وجل بها راضيا مرضيا عنك، أما أن نأتي بأفهام وحجج جديدة لا أصل لها، فهذا لا ينبغي. أما حديث عائشة فهو واضح، ودلالته واضحة، حيث إنها أنشأت عمرتها من مكة، ولا أعرف أحدا من أهل العلم من المتقدمين يقول: إن هذا خاص بـ عائشة. وأقولها من الآن: على كل طالب -والطالب خاصة الذي يدرس في الفقه، والذي يريد أن يعلم الناس- أن يتقي الله عز وجل ويعرف كل قول -حتى ولو كان مني- هل قال به أحد من أهل العلم ممن مضى وعنده دليل وحجة أم لا؟ وهذا هو العلم، وهذا الذي يوصى به طلبة العلم، وهذه هي النصيحة لله ولدينه وشرعه، من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تكون الأفهام واضحة، فلا يشوش على علم السلف بعلم الخلف الذي لا أصل له، ولا يشوش على هذه المحجة الواضحة التي ورثتها الأمة جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل، واجتهادات العلماء تحتاج إلى من يضبطها فضلا عن أن نأتي أيضا باجتهادات وآراء جديدة، واليوم يجتهد البعض في مسائل واضحة في الأحكام، وغدا -والعياذ بالله- قد يدخلون في العقيدة وفي صميم الدين، فيحدثون ما لم يكن عليه أئمة الإسلام فيضلوا ويضلوا، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا من الزلل. الضابط في الترويح يوم العيد السؤال ما هو الضابط في الترويح على الأهل والقرابة في أيام الأعياد والمناسبات؟ الجواب إن الله تبارك وتعالى جعل يومي عيد الفطر والأضحى يومين من أيام الإسلام، وعيدين لأهل هذه الملة، وجعلهما يوم فرحة وسرور، يوسع المسلم فيهما على نفسه وعلى أهله وولده، وعلى إخوانه المسلمين، حتى شرع الله زكاة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته) ، فهذا يدل على أن المقصود هو التوسعة؛ حتى يشهد الناس الفرح والسرور المأذون به شرعا في هذا اليوم المبارك الذي أتموا فيه ركنا من أركان الدين، ووفقهم الله عز وجل لصيام هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه، وشكرا لله عز وجل على توفيقه لهم على قيام ما استطاعوا أن يقوموه من هذا الشهر المبارك، فالفرحة والسرور أول ما تنبغي أن تكون فرحة بنعمة الله، وأن تكون فرحة برحمة الله التي هي أحق أن يفرح بها وأن يفرح فيها. وهذه الفرحة تكون حينما يستشعر الإنسان كيف مضت عليه هذه الثلاثون يوما؛ فيفرح أن الله وفقه لصيامه، ولو شاء الله جل جلاله لأصابه المرض فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله لأصابته فتنة في دينه فما استطاع أن يصوم، ولو شاء الله جل جلاله أن يبتليه في هذه العبادة بشيء يفسد عليه أجره، ويحبط عليه عمله، لما أعجز الله عن ذلك شيء. إذا: يحس الإنسان أن الله وفقه لهذا الخير في ثلاثين يوم أو تسعة وعشرين يوما؛ فيكون به في فرحة وغبطة أن الله استكمل له شهره، فيسأل الله عز وجل ويحسن الظن بالله أن يكمل له أجره، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فإذا به يصبح يوم العيد فرحا مسرورا بنعمة الله؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن الدين والتوفيق للدين لا يعطيه إلا لمن أحب، والله أعلم حيث يجعل هذه البركات والخير؛ لأن الإسلام كله بركة، ولذلك وصف الله القرآن بأنه مبارك، فمن التزم أوامره وسار على نهجه فقد أصاب بركة الإسلام وخيره وطهره وعفته. فإذا أصبح في يوم العيد، أصبح وقلبه معلق بالله جل جلاله، مليء بالفرح والسرور، فهذا أول ما ينبغي، فإذا استقر هذا الفرح في القلب وجب عليه أن يشكر، فلهج لسانه بالذكر والشكر، فقال بملء قلبه ولسانه: الله أكبر {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة:185] . هذه هي الفرحة الأولى التي دل عليها كتاب الله من فوق سبع سماوات، وهي أن يمتلئ قلبك بتوحيده والبراءة من الحول والقوة، وسؤال الله جل جلاله أن يجعل هذا الشهر في ميزان حسناتك فتلقاه أمامك، فإذا بالله جل جلاله يضاعف أجر الصوم، حتى قال الله جل جلاله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) . فإذا شعر الإنسان أنه سيثاب ويكافأ من الله؛ فرح فرحا شديدا برحمة الله جل جلاله بعد فرحه بتوفيق الله، ولذلك شرع الله التكبير إكبارا له سبحانه، وشرع التكبير بمجرد مغيب شمس آخر يوم من رمضان، فيقول المسلم: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) شكرا لله وثناء عليه وتمجيدا له وإعظاما لنعمته. فإذا شكر الله عز وجل وابتدأ بتوحيد الله؛ فتح الله عليه بركات ذلك اليوم وخيره وطهره. ومن أعظم الفرحة في يوم العيد: فرحة الاجتماع، فقد شرع الله عز وجل الاجتماع في هذا اليوم بصلاة العيد، حتى إن المرأة الحائض والمرأة ذات الخدر التي أمر بسترها ولزومها لبيتها تخرج إلى صلاة عيد الفطر، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، وقال: (أما الحيض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين) ، فيشهدن الخير في هذا اليوم المبارك. فالضوابط كلها منحصرة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيتذكر المسلم وهو خارج لصلاة عيد الفطر كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لم يخرج مختالا ولا فخورا، ولا أشرا ولا بطرا، ولا غرورا، إنما خرج لله وفي الله، خرج خاشعا متخشعا متذللا لربه سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، وخرج -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- حين بدا حاجب الشمس، فما وصل إلى المصلى إلا وقد ارتفعت الشمس، فابتدأ أولا بالصلاة -عليه الصلاة والسلام- ثم بعد ذلك خطب فذكر الناس ووعظهم، وأمر النساء بالصدقة، ثم أذن للأمة بكل ما فيه توسعة وخير ما لم يكن من الحرام، أو فيه إسراف في المباح، وهذا هو شرع الله، فشرع الله هو الوسطية، ولما قال الله تعالى: {وكلوا واشربوا} [الأعراف:31] نقلنا من تعذيب النفوس بالجوع والعطش والرهبنة، وقال: {ولا تسرفوا} [الأعراف:31] ، ثم منعنا وحجزنا عن الغلو في ذلك، كما هو عمل أهل الترف. فنحن نقول: افرحوا، فليس يوم العيد بيوم حزن ولا نكد ولا نحس؛ بل يفرح المسلم؛ ولكن يفرح برحمة الله عز وجل وبنعمته، ولا يغلو في فرحه إلى الوقوع في المحرمات. لقد وسع عليه الصلاة والسلام، ومن دلائل توسيعه: أنه لما رأى أهل الحبشة وهم يلعبون بالسلاح في داخل المسجد فما أنكر عليهم ذلك، رغم أنه المسجد الذي شعت منه أنوار الرسالة، والذي تفجرت فيه ينابيع الحكمة، وهو المسجد الذي دوت في جنباته آيات التنزيل، وهو الذي كانت فيه مواقف الصدق -قولا وعملا واعتقادا- من تلك الأمة المصطفاة المجتباة، هذا المسجد المطهر المشرف المكرم الذي شرفه الله، وجعل الصلاة فيه بألف صلاة، وإذا بهم يلعبون فيه!! فانظر إلى عزة الإسلام وإلى مرونته المنضبطة، وليست مرونة منفلتة، فيوم الفرحة يوم فرحة، ويوم الشدة يوم شدة، ويوم العبادة يوم عبادة. أصبح عليه الصلاة والسلام يوم العيد والأحباش يعلبون بالحراب، وبالأمس كان البكاء والخشوع والخضوع والاستكانة والتهجد بين يدي الله جل جلاله يا لعظمة هذا الدين! دين مرن منضبط في مرونته، ليس بدين لعب، ولا دين عبادة برهبانية يجلس الإنسان فيها دهره كله وهو لازم معتكفه. إنها أيام مضت، وعشر ليال انقضت، هي مدرسة لأولي العزائم الصادقة والنفوس الأبية المؤمنة المستجيبة لله جل جلاله، حتى إن قائدها وخيرها صلوات الله وسلامه عليه كان يدخل في المعتكف من أجل أن يتفرغ لعبادة ربه سبحانه وتعالى، ويصبح يوم العيد وإذا بالناس يلعبون في المسجد: المسجد بالأمس مليء بالعبادة واليوم يلعبون فيه! فجاء عمر ليحصبهم، فنهاه وزجره، وقال: (هذا يوم عيدنا) ، يوم عيد للإسلام والمسلمين، ويوم فرحة لأولياء الله الذين ظمئت أحشاؤهم، وجاعت أمعاؤهم، وتفطرت أقدامهم وهم منتصبون في جوف الليل بين يدي الله جل جلاله ركعا وسجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا. فإذا بذلك المسجد يصبح محلا للفرح والسرور؛ لكنه فرح منضبط، فلا يستطيع أحد أن يتهم هذا الدين بالتضييق، ولا يستطيع أحد أن يطعن في هذا الدين؛ وإذا برسول الأمة عندما رأى أهل الحبشة يأذن لهم، ولم ينقم عليهم ذلك. ولا يقف الأمر عند هذا؛ بل عندما دخل بيته فإذا بحبه وزوجه عائشة رضي الله عنها وأرضاها تسأله أن تنظر إليهم، فما منعها من النظر، ولا قال لها: لا تنظري، فما منعها من شيء يدخل السرور عليها، وهذا بشرط أمن الفتنة؛ لأن الحبشة كانت الفتنة فيهم مأمونة، ولا ينبغي لأحد أن يقول: يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال، ويستدل بهذا الحديث؛ لأن قوله ذلك يصبح غلوا في الفرح لتفرح المرأة ولكن بشرط ألا يكون هذا الفرح فتنة للأهل والولد؛ لأن في ذلك مخالفة لشرع الله، وهذه الحواجز والقيود يقصد بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. فقامت تنظر، وما قال لها: أنا رسول الأمة، وانتظري حتى يأتي أخوك ويقف لك، لم يقل لها ذلك، بل وقف عليه الصلاة والسلام على قدميه رسول الأمة صلى الله عليه وسلم الذي وقف بين يدي الله جل جلاله راكعا ساجدا يبتغي فضلا من ربه ورضوانا، ويشتري رحمة ربه بإدخال السرور على أهله بالوقوف على قدميه الشريفتين، وقف عليه الصلاة والسلام، ووقفت من ورائه، تقول رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من ورائه) ، وهذه هي الحشمة والعفاف، فقد كانت رضي الله عنها على حشمة وعفاف، فكانت تفرح أيضا، ويدل هذا على أن المرأة تفرح لكن بشرط أن تكون محتشمة، عفيفة، رزانا، حصانا، متحفظة. فقالت رضي الله عنها: (وأنا أنظر إليهم من خلفه) ، وما قالت: أنظر من خلف الباب، بل من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فإن المرأة المؤمنة بدلا من أن تذهب إلى الفرح بغيبة محرمها، عليها أن تبحث عن محرمها حتى يصونها ويحفظها، وهذه أم المؤمنين رضي الله عنها تحرص على ذلك. ثم تقول رضي الله عنها: (فيقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد. فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد) ، ثم تقول رضي الله عنها وأرضاها: (فاقدروا قدر الصبية الجهلاء) ، ومعناه: أنها أخذت -كما يقولون- راحتها واستجمام قلبها، وفي هذا دليل على أمور: أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في الفرحة، فدل هذا على أن من السنة في يوم العيد أن تحدث فرحة لأهلك، ومن الفرحة: أن تأخذهم إلى مكان تتسع وتنشرح فيه صدورهم، والمؤمن دائما يكون عاقلا، وقد كان من مشايخنا وأهل الفضل والعلماء في بعض الأحيان يدخلون السرور حتى بطريق غير مباشر، فالزوجة إذا كانت تستحي من زوجها وتألف ولدها، فيأمر ولدها أن يأخذها، فعليك دائما أن تحرص على إدخال السرور عليهم؛ لأنك إذا وسعت على أهلك وسع الله عليك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة على بيوت المسلمين حينما وقف عليه الصلاة والسلام. ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالتوسعة بفضول النظر؛ لأن اللعب من الفضول، والنظر إلى اللعب من الفضول فأذن بذلك؛ لكنه بشرط أمن الفتنة والمحافظة. ثالثا: وهذه وقفة تحتاج إلى أن نتأملها ف |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (409) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الموصى به تجوز الوصية بما يعجز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق ونحوه، وتجوز بالمعدوم والمجهول، كالصيد ونحوه مما فيه منفعة من جهة معينة، وتبطل الوصية بتلف الشيء الموصى به، ولا يعدل عنه إلى غيره. أحكام ومسائل متعلقة بالشيء الموصى به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الموصى به] . شرع المصنف رحمه الله في هذا الباب في بيان ما يتعلق بالشيء الموصى به، ويعتبر هذا الشيء ركنا من أركان الوصية؛ لأن الإنسان يعهد بالشيء إلى غيره، وهذا الشيء منه ما تصح الوصية به، ومنه ما لا تصح الوصية به. فنظرا لاختلاف حكم الشرع فيه؛ ناسب أن يعقد المصنف رحمه الله له بابا مستقلا، فيبين ما هي الشروط التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يوصى به، ومن عادة الشريعة أنها تفرق في محل العقود، فالموصى به محل للوصية، كما أن الشيء المبيع محل لعقد البيع، والشيء المؤجر محل للإجارة، والشيء الموهوب محل للهبة. فتارة تشدد الشريعة في الأشياء التي هي محل للعقود، وتشترط شروطا لابد من توفرها للحكم بصحة عقودها، وهذا التشدد من الشريعة قصدت به حفظ الحقوق للناس، فلا تقصد به تضييقا عليهم، ولا تعسيرا في تشريعاتها لهم، وإنما قصدت حفظ الحقوق، فالشيء المبيع له شروط، والشيء المؤجر له شروط، والشيء الموهوب، والشيء الموصى به، كل ذلك له شروط معينة. فتارة تكون الشروط قوية -كما ذكرنا- وتارة تكون خفيفة، والموصى به أمره خفيف، والشرع يخفف في شروطه، والعلماء رحمهم الله يبينون جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الشيء الموصى به، ويظهر من خلال هذا البيان أن الشريعة قصدت التوسعة، والسبب في هذا: أن يعلم طالب العلم أن الشيء الموصى به في الغالب أشبه بالهبة، والشخص إذا وهب الشيء فهو محسن متفضل، والله تعالى يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91] . فلك أن توصي بالقليل، ولك أن توصي بالكثير، ما دام أنه دون الحد الذي حده الشرع، ولك أن تزيد عن هذا الحد إذا سامح أصحاب الحق -وهم الورثة- فأجازوا وصيتك. والمقصود: أن الشيء الذي يوصى به تارة يكون مأذونا بالوصية به، وتارة يكون غير مأذون به. فهنا يتكلم العلماء رحمهم الله على الأشياء التي يكون من حق الإنسان أن يوصي بها، فإذا تضمنت الوصية بالشيء ما يقصده الشرع من حصول المحبة، وحصول البر والإحسان والصلة والرفق، أجازت الشريعة الوصية، وإذا تضمن الشيء الموصى به ما يكون وسيلة لحرام، أو يكون وسيلة إلى غرض يهدم أصول الشريعة أو يعارضها؛ فحينئذ لا تجوز الوصية، فلو وصى بكتب محرمة، ككتب السحر، وكتب الضلالات التي فيها الأمور التي تؤثر في العقيدة وتضل الناس، فلا تجوز الوصية؛ لأن هذا شيء موصى به محرم. كذلك لو وصى بآلات اللهو التي لم يأذن بها الشرع فإنه يتضمن معارضة الشرع؛ ولو قالت الشريعة: تجوز الوصية بذلك، لتناقضت، فكيف تقول: إنها آلات محرمة، ثم تجيز الوصية بها؟ فلابد من أن يكون المحل الذي ترد عليه الوصية مأذونا به شرعا، ولأجل التفريق بين ما يحل وما يحرم وما يباح؛ فإنه لا بد من بيان المسائل والأحكام التي سيعرج المصنف رحمه الله في بيانها. يقول رحمه الله: (باب الموصى به) ، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالشيء الذي يجوز أن يوصى به، والشيء لا يجوز أن يوصى به. حكم الوصية بما يعجز عن تسليمه قال رحمه الله: [تصح بما يعجز عن تسلميه؛ كآبق وطير في الهواء، وبالمعدوم، كما يحمل حيوانه وشجرته أبدا أو مدة معينة، فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية] . قوله: (تصح بما يعجز عن تسليمه) ، الشيء المعجوز عن تسليمه يصح في بعض الأحيان أن تتعامل وتتعاقد به، كما في الوصية هنا، ولا يصح في بعض الأحيان التعامل به، فلو كان الشيء المعجوز عن تسليمه مباعا؛ لم يصح البيع. والمقصود بالمعجوز عن تسليمه: عجز عن الشيء إذا لم يستطع، ومعنى ذلك: أنك توصي بشيء أنت عاجز عن دفعه وإيصاله للموصى له، ويعجز من يقوم مقامك من الورثة عن إيصاله إلى الموصى له. وقوله: (كآبق) أي: مثل العبد إذا أبق وشرد عن سيده، ولم يستطع معرفة مكانه، أو لم يستطع أخذه؛ فحينئذ يكون معجوزا عن تسليمه، فصاحبه المالك له يعجز عن تسليمه، وإذا وصى بعبد آبق، أو بعير شارد، وهم يمثلون بهذه الأمثلة لأنها كانت في زمانهم، كما إذا شرد البعير، أو شردت البقرة، أو شردت الشاة؛ فحينئذ يصعب أن يحصل الإنسان عليه في الغالب، فإذا لم يستطع أن يجده فإنه لن يستطع تسليمه للغير، فهو معجوز عن تسليمه. فكل شيء فقد ولم يستطع صاحبه أن يعرف مكانه، أو عرف مكانه ولكنه لا يستطيع أخذه، مثل: المغصوب ونحوه؛ فإنه معجوز عن تسليمه، فهذا النوع من الأشياء لا يجوز أن تتعامل به في عقود المعاوضات. فلا تجيز لك الشريعة أن تبيع شيئا معجوزا عن تسليمه، ولكن تجيز لك أن توصي به وما الفرق بين الأمرين؟ لأنه في البيع إذا اشترى منك إنسان شيئا ضائعا منك؛ كساعة مفقودة، أو بعير شارد، أو دابة فرت منك، أو طير طار منك، كان عندك ثم طار؛ فإنه في هذه الحالة تغرر به؛ لأنه يحتمل أن يأخذ ذلك الشيء ويحتمل ألا يأخذه، والغالب أنه لا يأخذه، فأصبحت آخذا لمال أخيك بدون حق. وهذه العلة أشارت إليها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها) ، ثم علل عليه الصلاة والسلام وقال كما تقدم معنا في البيع: (أرأيت إن منع الله الثمرة) أي: أخبرني، لو بعت هذا الشيء المعجوز عن تسليمه ولم يستطع من اشتراه منك أن يصل إليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام (فبم تستحل مال أخيك؟) أي: بأي حق تأخذ الخمسمائة ريال التي دفعها لك أخوك المسلم لقاء ذلك البعير، فإذا أصبح غير مستطيع الوصول إلى البعير، كان أخذك لهذه الخمسمائة من أكل المال بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فبم تستحل مال أخيك؟) . وهذا يدل على أن الشريعة في المعاوضات تريد إيصال كل عوض إلى صاحبه، وهذا هو ما قرره الأئمة رحمهم الله، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله في بيع المعدوم كلام نفيس في مجموع الفتاوى، بين أن العدل أن يعطى كل ذي حق حقه في المعاوضات. فمن اشترى شيئا لقاء شيء فإنه ينبغي أن يمكن من ذلك الشيء الذي اشتراه؛ فإذا لم يمكن منه فقد ظلم؛ لأنه أعطى غيره ولم يأخذ منه، وهو إنما أعطى الغير ليأخذ؛ فالبائع أعطى السلعة من أجل أن يأخذ الثمن، والمشتري أعطى الثمن من أجل أن يأخذ السلعة؛ فإذا ظلم أحدهما الآخر فأخذ منه ولم يعط، فقد أكل ماله بالباطل، وهذا هو الذي جعل الأمر يختلف بين الوصية وبين البيع، وحينئذ في الوصية حينما يقول الشخص: أوصيت ببعيري الشارد لمحمد، فهذه الوصية ليس لها عوض يقابلها، أي: لم يدفع محمد مالا إلى الميت الذي وصى، وإنما تفضل الميت وتبرع وأحسن وأفضل حينما قال: هذا البعير الشارد أعطوه محمدا، فإن حصل محمد على البعير الشارد فقد تحقق المقصود والموصي له أجره، وإن لم يحصل فلا ضرر عليه؛ لأنه لم يدفع شيئا في مقابل هذا البعير. ومن هنا صحت الوصية بالمجهول، وصحت بالمعدوم، وصحت بالمعجوز عن تسليمه؛ لأنه لا غرر في ذلك، فتصح الوصية بالبعير الشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، فلو أن سمكة كان يملكها ثم سقطت في الماء فوهبها، صحت؛ لأن هذا كله لا غرر فيه على الموصى له. وقوله: (وطير في الهواء) الطير في الهواء -طبعا- يصعب الوصول إليه، ولكن أيا ما كان فالوصية تخالف البيع؛ لأن الوصية لا عوض فيها، والبيع فيه عوض. وقوله: [وبالمعدوم] كالذي تحمل أمته، أو الذي تحمل نخله؛ فالذي تحمل أمته أو جاريته قد يكون أثناء الوصية غير موجود، لكنه يوجد بعد ذلك، فحينئذ يكون ملكا للموصى له، ولو قال: ثمرة بستاني السنة القادمة، فهنا ثمرة البستان معدومة الآن. حكم الوصية بالمعدوم والمعدوم: هو غير الموجود والذي يرجى حدوثه، وقد لا يحدث أصلا؛ لكنه معدوم، فالنخل له زمان يكون الثمر موجودا فيه، وزمان لا يوجد فيه الثمر، فلو جاء الموصي في الزمان الذي ليس فيه ثمر -والذي يسمونه مرحلة السكون، وهي تقارب شهرين يسكن فيها النخل فلا طلع فيه ولا ثمر، والشهران هذان اللذان هما بين الجداد جد النخل وبين الطلع- فلو وصى فيهما فقال: ثلث ثمر البستان السنة القادمة؛ فأثناء الوصية يكون معدوما، أي: غير موجود؛ فحينئذ تصح، والذي يخرجه البستان يعطى منه النصيب الذي وصى به. وقوله: (كما يحمل حيوانه وشجرته أبدا) . أي: كالذي يحمل حيوانه، مثلما ذكرنا في الناقة والبقرة والشاة والشجر والنخيل، كأن يقول: نخل البستان، أو يكون عنده عنب؛ فيقول: ثم العنب للسنة القادمة أوصيت به لفلان، أو أوصيت به لأبناء عمومتي، أو نحو ذلك، يختص بها من سمى في وصيته؛ فإنه يصح. وقوله: (أو مدة معينة) . سواء كان مطلقا أو مقيدا أو مدة معينة، فيقول: أوصيت بثمرة بستاني هذه السنة، أو أوصيت بثمرة بستاني لمدة سنتين لمحمد، أو ثلاث سنوات لأرحامي أو قرابتي، أو نحو ذلك. وقوله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية) . الفاء: للتفريع، وذلك من دقة العلماء رحمهم الله، وهم يذكرون الأمثلة من باب ترتيب الأفكار في الذهن، وهذا يعين طالب العلم على فهم المسائل، ويعين المفتي على الإفتاء، ويعين القاضي على القضاء، فعند العلماء أصول، وعندهم فروع مترتبة على هذه الأصول، ولذلك قسمت المسائل في الأبواب والفصول حتى تركز وتنتبه لها، فالأبواب الرئيسية تعتبر أصولا، ثم الفصول مبنية على هذه الأصول، ثم قد يكون في داخل الفصل والباب أصل وفرع. فأول ما تبحث في مشروعية الشيء، أي: في إذن الشرع به، فإذا ثبت هذا الشيء، فتقول: ما الذي ينبني أو يترتب على ثبوته؟ فإنه هنا عندما قال: ثمرة بستاني للسنة القادمة لمحمد، ويقتضي عقلا إما أن يحمل البستان وإما ألا يحمل، فالفاء هنا للتفريع. فيريد أن يبين حالة عدم خروج الثمرة؛ لأن السؤال الذي يحتاجه من يستفتي ويقضى به في القضاء هو في حالة عدم وجود شيء، فقد يأتي الموصى إليه ويطالب الورثة ببديل، ويقول: ما دام أن الوصية ثابتة، ولي عند الموصي هذا الشيء الذي وصى به؛ فإنني لم أجد شيئا؛ لأن الثمرة لم تخرج، ولذلك أطالبكم ببدل وعوض عنه من ماله. فنقول في هذه الحالة كما يقول المصنف رحمه الله: (فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية) ، فلا شيء له، وهذا لا شك أنه عين العدل والإنصاف، حيث وصى بثمرة بستانه، فإذا لم يخرج من البستان شيء فلا شيء له؛ لأن هذا مترتب على وجود شيء من البستان، أما إذا لو يوجد شيء فلا شيء له. حكم الوصية بكلب الصيد ونحوه قال رحمه الله: [وتصح بكلب صيد ونحوه] . بين المصنف رحمه الله أنه يجوز ويصح للمسلم أن يوصي بشيء معدوم وبشيء معجوز عن تسليمه، ولكن إذا كان الشيء الموصى به فيه منفعة، وهذه المنفعة مأذون بها في أحوال ضيقة وخاصة؛ فإنه لا يصح إلا الذي أذن به الشرع، مثال ذلك: الكلب، فإن الكلب -أكرمكم الله- منه ما حرم الشرع، ومنه ما أذن بمنافعه، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نوع من الكلاب، وحرم اتخاذ الكلاب مطلقا في الأصل، ثم خصص واستثنى عليه الصلاة والسلام ثلاثة أنواع من الكلاب: كلب الصيد، وكلب الحراسة في الماشية والزرع. فهذا الذي استثناه عليه الصلاة والسلام هو الذي يجوز للمسلم أن يتخذه من الكلاب، فله أن يتخذ كلبا من أجل الصيد، أو يتخذ كلبا من أجل أن يحرس زرعه وحرثه وما يكون في بستانه، ويتخذ كلبا لحراسة الماشية من الذئب ونحوه، فهذا الذي أذن به الشرع يجوز أن يوصي به إذا كانت فيه هذه المنفعة، وهي منفعة الصيد، ولذلك قال: (بكلب صيد) ، حتى يفهم أن كلب الحرث والماشية كذلك؛ فإذا وصى بكلب الحرث والماشية صحت الوصية؛ فلا يفهم منه كلب الصيد فقط؛ لأن الحاجة في الحرث والماشية أشد من الصيد، وهذا من دقة المصنف حيث إنه ينبه بالأدنى على الأعلى. فلما قال: (كلب صيد) شمل ذلك كلب الحرث وكلب الماشية، والإذن بكلب الصيد -من ناحية فقهية- أقوى من الإذن بكلب الحرث والماشية؛ لأن الإذن بكلب الصيد جاء نصا في القرآن، حيث قال الله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4] ، والإذن بكلب الماشية والزرع جاء بالسنة في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح: (من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية) . فهذا نوع من التمثيل قصد به المصنف أن يبين أن كل شيء فيه منفعة وأصله محرم -أي: فيه أشياء محرمة ومنافع مباحة- فإنه تجوز الوصية به إذا كان للشيء المباح. وقد ذكر هذه المسألة وفصل فيها الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وذكر من ذلك: الوصية بالطبل وبالدف، وكذلك بآلات اللهو، وبين أن الأشياء المحرمة مطلقة التحريم لا تجوز الوصية بها مطلقا، فلو وصى بآلات محرمة فلا تصح الوصية، وهي باطلة، ولو وصى بخمر أو ميتة أو خنزير فإنها لا تصح الوصية، لكن لو وصى بدف حلت وصحت الوصية، وهي وصية مأذون بها شرعا، والدف حلال لمن وصي له؛ لأن الشرع أذن به في النكاح. فهذا عند العلماء رحمهم الله أصل في المنافع، فبعد أن وصى بالذوات، شرع في بيان المنافع، فكل ما كانت فيه منفعة مباحة وصى صاحبه قبل موته بمنافعه إلى شخص؛ أعطي هذه المنافع ومكن منها. فمثلا: البيت فيه منفعة السكن، والسيارة فيها منفعة الركوب، والفندق فيه منفعة السكن أيضا، ونحو ذلك، فهذه الأشياء لو أعطيت منافعها مدة معلومة لشخص معين، أو وصي بها مدة معلومة؛ صحت الوصية تلك المدة، ومكن من أخذ حقه منها، بناء على وصية الميت المالك لذلك الشيء. قال رحمه الله: [وبزيت متنجس] . حم الوصية بالزيت المتنجس هناك الزيت النجس والزيت المتنجس، فالزيت النجس: هو النجس بعينه، ولا يمكن بحال أن تطهره، فلو جئنا وأخذنا زيتا مستخرجا من شحوم الميتة ومن أدهانها، فإنه نجس، ونجاسته عينية، ولو صببت عليه ماء الدنيا كله لما طهره، ولو طبخته فإنه لا يطهر أيضا؛ لأنه نجس بعينه. والمتنجس: هو الشيء الذي يكون في أصله طاهرا ودخلت عليه النجاسة، فتقول: هذا ثوب متنجس، أي: دخلت عليه النجاسة ويقبل التطهير. فهناك فرق بين النجس وبين المتنجس، فما كان من الأشياء المتنجسة ويمكن تطهيره فإنه يجوز بيعه، فمثلا: لو كان الثوب متنجسا صح بيعه، لكن لو كان زيتا نجسا لم يصح بيعه ولا شراؤه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ -أي: أدهانها والزيوت المستخلصة منها والسمن ونحوه- فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الميتة فجملوا شحومها ثم أذابوها فباعوها؛ فاستحلوا ما حرم الله عليهم بأدنى الحيل) . فهذا يدل على أن النجس بعينه لا يجوز بيعه، ولذلك جاءت الرواية الأخرى: (لا، هو حرام) أي: لا يجوز الانتفاع بالأدهان النجسة بأعيانها؛ لأنه لا يمكن تطهيرها، لكن لو كان عند إنسان زيت زيتون وقع فيه بول، أو اختلط بنجاسة، فعند العلماء خلاف: إذا تنجس الزيت فهل تكون نجاسته نجاسة ممازجة أم نجاسة مجاورة؟ وهذا قد سبق الكلام عليه في باب بيع الزيت. فحينئذ: لو كان الزيت متنجسا لا نجسا بعينه؛ فقال -مثلا-: زيت الزيتون هذا الذي وقعت فيه نجاسة وصيت به لمحمد، أو وصيت به لزيد، صحت الوصية؛ لأنه يمكن تطهير هذا الزيت؛ إما بالطبخ وإما بالغسل، وقد قلنا: يغسل الزيت بأن تزيد ماء على النجاسة الواقعة فيه بما يخالط هذه النجاسة ويذهب عينها. والدليل على ذلك: حديث الأعرابي، فإنه لما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب عليه ذنوب من ماء، وهذا الذنوب أكثر من البول، فدل ذلك على أن النجاسة إذا ورد عليه الماء الطهور الأكثر منها طهرها، فالزيت المتنجس عندما يقع فيه البول فإنه لا يمازجه ممازجة تامة، وحينئذ يبقى منفصلا عنه، وتجد طبقة البول منفصلة عن طبقة الزيت؛ لأن الزيت والسمن لا يقبلانها؛ ففي هذه الحالة يصب عليه الماء، فيختلط الماء بالبول، ويصبح بكثرته مكاثرا له، ويحكم بطهارة ذلك النجس، وحينئذ يحكم بطهارة الزيت، ويصح الانتفاع به أكلا وشربا ودهانا، كما سبق بيانه في كتاب البيع. وقوله: [وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تجز الورثة] . فإذا كان وصى بالزيت، أو وصى بالكلب، أو وصى بالأشياء التي ذكرناها من المعدومات والمعجوز عن تسليمها، وكانت تعادل الثلث؛ فإنه يأخذها كاملة. وإن كانت دون الثلث؛ فإنه يأخذ ما يعادل الثلث من المال كله من ذلك الشيء الذي وصى به، فيكون له ثلثه. وقال بعض العلماء: له ثلث المعين، فإذا قال: هذا المعين لفلان؛ فإنه حينئذ يشاركه الورثة في ثلثيه، ولكن العمل بما ذكرناه، أنه يستحقه كاملا إن كان ذلك الشيء دون الثلث، وقد اختار المصنف رحمه الله ما ذكرناه من أنه يقتطع ثلث الموصى به، وقد بينا أن الصحيح أنه يقتطعه كاملا إذا كان يعادل الثلث فأقل. وقوله: [ولو كثر المال إن لم تجز الورثة] . (ولو) إشارة إلى الخلاف، وإذا أجازت الورثة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ما زاد عن الثلث إذا أجازه الورثة فإنه نافذ، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في حكم من وصى بما هو أكثر من الثلث، بأن وصيته تصح وتمضي إذا أجاز الورثة؛ لأن الحق لهم، وهل يكون ذلك تنفيذا للوصية أو يكون عطية مستأنفة؟ بينا هذه المسألة وبينا أقوال العلماء رحمهم الله فيها. حكم الوصية بالمجهول قال رحمه الله: [وتصح بمجهول كعبد وشاة] . أي: وتصح الوصية بمجهول، فلو أن رجلا عنده سيارات فقال: وصيت بسيارة من سياراتي لمحمد، أو وصيت بعبد من عبيدي، أو بشاة من غنمي، أو بناقة من إبلي ونحو ذلك، فإذا وصى بمجهول فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول: بعبد من عبيدي. والحالة الثاني: أن يقول: بعبد. ونمثل بما هو موجود الآن، فإن قال: وصيت بعمارة من عماراتي إلى خال أولادي، ولنفرض أن عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة تعادل مليون ريال، فإنه: يعطى عمارة من هذه العمارات الثلاث، وهنا يختلف العلماء، فإذا كانت العمائر متفاوتة، ففيها العمائر الغالية الجيدة، وفيها العمائر التي هي دون ذلك؛ فعند ذلك يأخذ أقل ما يصدق عليه أنه عمارة منها، أي: أقلها ثمنا وأقلها قيمة مما يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه وصى بعمارة من عماراته، واليقين أن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: بعمارة من عماراتي، فأقل ما يصدق عليه أنها عمارة يعطاها، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ومنهم أئمة الحنابلة رحمهم الله. وخالف بعض الفقهاء كبعض أصحاب الإمام الشافعي فقالوا: يعطى أحسن العمائر، فيبحث عن أفضلها وأغلاها ثمنا وأجودها ثم يعطى ذلك. والصحيح: أنه ينظر إلى أقل ما يصدق عليه أنه عمارة، كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الأصل أنها ملك للورثة، فلما قال: عمارة من عماراتي، فهذا الوصف يصدق على أقل عمارة، فهي عمارة من عماراته، فلو كان يريد الأجود للزمه أن يقول: أفضلها وأحسنها؛ لأنه وصف زائد عن الاستحقاق، فكان الواجب ذكره، فلما لم يذكره فهمنا أنه يريد أقل ما يصدق عليه أنه عمارة. وهذا من جهة الألفاظ، ولذلك لو أن شخصا قال: إذا نجح ولدي فلله علي أن أطعم مسكينا، فإذا قال ذلك ولم يحدد، فنقول له: أطعم أقل ما يصدق عليه أنه إطعام، وهذا في الاستحقاقات، فعلى هذا نقول: إنه يعطى أقل هذه العمائر مما يصدق عليه الوصف الذي ذكره في الوصية. وفي الحالة الثانية إذا قال: أوصيت بعمارة لفلان، فإذا لم يكن عنده عمائر، فلا إشكال أنه يؤخذ من ماله ما يكفي لشراء أقل ما يصدق عليه أنه عمارة في عرفنا، فمثلا: لو وجدنا أن العمارة في عرفنا تصدق على دورين، أو على ثلاثة أدوار، فنشتريها بحسب العرف. فننظر إذا كانت قيمة هذه العمارة مثلا خمسمائة ألف، والذي ترك ثلاثة ملايين، فهي إذا هي دون الثلث، فيشترى له عمارة بخمسمائة ألف ويعطاها، لكن لو قال في هذه الحالة: أوصيت بعمارة، وعنده عمائر، وعنده سيولة، فهل نعطي الموصى له من العمائر التي يملكها الشخص، أم أن الورثة يشترون له عمارة من الخارج؟ والسبب في هذا: أنه ربما تكون عنده ثلاث عمائر، وكل عمارة بمليون، مع أنه لو اشتريت له عمارة من الخارج فستكون قيمتها مائة ألف، فمن مصلحة الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، فقال بعض العلماء: ما دام أنه قال: أوصيت بعمارة، وسكت، ولم يبين أنها من عمائره؛ فحينئذ من حق الورثة أن يشتروا له عمارة من الخارج، ويكون حينئذ قد برئت الذمة، ويستحق هذا الشيء الذي يصدق عليه أنه عمارة؛ لأنه لو كان يريد من عمائره لقال: بعمارة من عمائري. وعلى هذا تدخل مسألة السيارة، ومسألة المزرعة، فإذا كان يملك مزارع فحينئذ من حق الورثة صرفه عن مزارعه بشراء مزرعة؛ لأن الوصية تصح بذلك. قالوا: لأنه لو أراد مزرعته لقال بمزرعة من مزارعي، وبسيارة من سياراتي، وبعمارة من عمائري، فلما قال: بسيارة، أو أرض، أو بكتاب، أو بمزرعة، فحينئذ أقل ما يصدق عليه هذا الوصف يشترى ويعطاه. قال رحمه الله: [ويعطي ما يقع عليه الاسم العرفي] . اعتبار العرف في الوصية بالمجهول هناك ثلاثة أنواع من الحقائق، يسميها العلماء: الحقائق: النوع الأول: الحقيقة اللغوية. النوع الثاني: الحقيقة العرفية. النوع الثالث: الحقيقة الشرعية. فالحقيقة اللغوية: هي التي تعارف عليها واصطلح عليها أهل اللغة، واللسان العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، على خلاف في مسألة الاحتجاج بصدر الإسلام في الشواهد والأشعار، وإن كان الصحيح أنه يعتبر من الحقائق اللغوية ويعمل بها. وهذه الحقائق، والمسميات اللغوية، قد تكون في بعض الأحيان أعم من المسميات الشرعية، فمثلا: الصلاة، فالصلاة في لسان العرب تشمل الدعاء، وتشمل الرحمة، وتشمل البركة، ثم جاءت الشريعة -وهذه هي حقيقة شرعية- وأطلقت الصلاة على عبادة مخصوصة، وإن كانت الشريعة تستعمل في بعض الأحيان الصلاة بالمعنى العام الذي هو الدعاء، كقول كعب بن عجرة رضي الله عنه: (كم أجعل لك من صلاتي؟) يعني: من دعائي. وقد تأتي بمعنى الرحمة: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب:56] ؛ لأن الصلاة من الله على نبيه عليه الصلاة والسلام رحمته له عليه الصلاة والسلام. فالشاهد: أنه إذا استعملت الصلاة بمعنى الرحمة، أو البركة، أو الدعاء، فهذه حقيقة لغوية وإطلاق لغوي، وإذا استعملت الصلاة بمعنى العبادة المعروفة ذات الركوع والسجود، المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم بنية التقرب إلى الله عز وجل؛ فهذا لا إشكال أنه حقيقة شرعية. ومثلا: الوضوء، فالوضوء في لغة العرب: غسل الشيء، تقول: توضأت؛ إذا غسلت يديك، وإذا أردت الحقيقة الشرعية تقول: توضأ، وقصدك: غسل ومسح الأعضاء التي أمر المسلم بغسلها ومسحها، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الجنب لما سئل هل ينام وهو جنب؟ فقال لـ عمر: (توضأ واغسل ذكرك ثم نم) . فهل نحمل قوله: (توضأ) على الحقيقة اللغوية ونقول: مراد النبي صلى الله عليه وسلم غسل مواضع الأذى وغسل الفرج؟ أم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء المعروف الخاص بالأعضاء؟ وهذا من تعارض الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية. أيضا: يتعارض العرف مع الحقيقة اللغوية كما تتعارض الشرعية، فمثلا: لو أن شخصا قال: والله لا آكل اللحم -والفقيه وطالب العلم لا بد أن يفهم هذه الحقائق ومدلولاتها، وما الذي يقدم منها- فهل معنى ذلك: أننا نحرم عليه لحم الإبل والبقر والغنم والطيور والأسماك والصيد وكل ما يصدق عليه أنه لحم في لغة العرب؟ أم أننا نخصص التحريم، ونقول له: يحرم عليك اللحم التي تأكله في عرفك وبيئتك؟ لأنه لو قال: نحن في بيئتنا لا نأكل إلا لحم الدجاج، وإذا قصد الدجاج فحينئذ لا إشكال، لكن لو قال: والله لا آكل اللحم، فهل نصرفه إلى ما يتعارف عليه، أو نصرفه إلى الحقيقة اللغوية؟ هذه كلها مباحث ومسائل يبحثها العلماء رحمهم الله ويتعرضون لها؛ لأنها تتصل بأحكام شرعية مهمة. وكذلك هنا الذي وصى، فإن قال: أوصيت بمزرعة لمحمد، وقد يكون ثريا، وهناك مزارع بمليون، ومزارع بنصف مليون، ومزارع بمائة ألف، فهل نقول: العبرة به هو أم العبرة بعرفه وبيئته وما يصدق عليه أنه مزرعة؟ نقول: العبرة بالعرف والبيئة، فنشتري له أقل ما يصدق عليه أنه مزرعة. وكذلك لو قال: أوصيت لمحمد بسيارة، وهذا الغني الثري لو أراد أن يشتري سيارة لنفسه لاشترى بمائتي ألف، فهل معنى ذلك: أن الورثة يطالبون بشراء سيارة ذات القيمة الغالية بناء على الشخص الموصي؟ نقول: لا، وهذا الذي قصده المصنف في عرفه. مسألة ثانية: لما قال بالعرف، فالعبرة بعرف الموصي، لأنك تجد السيارات في بعض الدول تشترى -مثلا- بخمسة آلاف ريال، وفي بعض الدول تشترى بعشرة آلاف، وفي دول أخرى بمائة ألف، وفي بعضها بأكثر، فنقول: العبرة بعرف الموصي، أي: بيئته التي هو فيها، ومدينته التي هو فيها، فأقل ما يصدق عليه أنه سيارة، فتشترى له، وتتم الوصية على هذا الوجه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
إذا أوصى بثلث ماله ثم طرأ مال جديد قال رحمه الله: [وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالا ولو دية دخل في الوصية] . يقول رحمه الله: (وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالا) أي: طرأ المال بعد الوصية، وهذا هو المراد بالاستحداث، وصورة المسألة ومثالها: شخص وصى بمليون، وهو يملك مليونين، فالمليون يعادل النصف، فاستحدث مالا، أي: طرأ مال بعد الوصية، فأصبح يملك ستة ملايين، فأصبح المليون دون الثلث، فإذا حدث شيء بعد الوصية وعند الموت، كان الذي أوصى به دون الثلث، ونفذت الوصية ومضت، وفائدة هذه المسألة أيضا في النسب والتقديرات، فإنه لم يوص بمبلغ معين -وفي الصورة الأولى أوصى بمبلغ معين- فاستحدث مالا في الأنصبة، وهذا مراد المصنف، كأن يقول: أوصيت بثلث مالي، وهو يملك ستة ملايين، فمعناه: أنه سيكون للموصى له مليونان، والمليونان تعادلان ثلث الستة ملايين، وبعدما انتهت الوصية ملك -مثلا- ستة ملايين أخرى، فحينئذ تنتقل الوصية من المليونين إلى أربعة ملايين، فالنسب تدخل في المستحدثات، فكلما حدث من زيادة فإن النسبة تدخل عليه؛ لأنه قال: بثلث مالي. والعبرة بماله عند وفاته، والعكس بالعكس، فلو حدث نقص فإنه حينئذ يؤثر، فلو قال مثلا: أوصيت بثلث مالي، وكان يملك ستة ملايين، فقلنا: الأصل أن الموصى له يأخذ مليونين، ثم حدث انكسار وعجز، فأصبح يملك ثلاثة ملايين؛ فإنه يعطى مليونا واحدا، فيحتمل الغرم والغنم. مسألة دخول الدية في الإرث والوصية وقوله رحمه الله: (ولو دية) (لو) : إشارة إلى خلاف مذهبي، فإن للعلماء في الدية خلاف، والصحيح: لو أن شخصا وصى وقال مثلا: وصيت بثلث مالي لمحمد، ومحمد هذا من قرابته غير الوارثين، ثم قتل خطأ -الذي هو الموصي- فمعنى ذلك: أنه سيرتفع نصيبه بالدية، فهل تدخل الدية في الإرث أو لا تدخل؟ الذي عليه العمل عند الأئمة والعلماء أن الدية موروثة وتدخل في الإرث، ولذلك قال الإمام أبو عبد الله إمام أهل السنة رحمه الله أحمد بن حنبل: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في الإرث) ، يعني: أنها تدخل في الميراث. فالمرأة ترث من دية زوجها، ويرث الزوج من دية زوجته، فالدية تابعة للإرث، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة الإسلام. وعلى هذا فقوله: (ولو دية) إشارة إلى خلاف، فبعض العلماء يقول: إن الدية لا يدخل فيها الوصية، ولا ترفع نصيب الموصى له؛ لأن الدية -مثلا- لو كانت مائة ألف لرفعت نصيب الموصى له. فلو قال مثلا: وصيت بثلث مالي، وعنده عشرون ألف ريال؛ فثلث المال سيكون دون السبعة آلاف بكسر؛ لكن لو أدخلنا الدية، والدية مائة ألف، فسيكون ثلث ماله أربعين ألفا، فيأخذ أربعين ألفا؛ لأنه يصبح الذي تركه الموصي مائة وعشرين ألفا، مائة من الدية، والعشرين من أصل المال، فيصبح تاركا لمائة وعشرين، فيأخذ ثلثها وهو أربعون ألفا، وعلى كل حال: فإن الوصية تدخل وتحتسب من الدية، والدية تورث. قال رحمه الله: [ومن أوصي له بمعين فتلف بطلت] . بطلان الوصية بتلف المعين الموصى بها عند العلماء: المعين والموصوف في الذمة، وهذا من أروع ما تميزت به هذه الشريعة الإسلامية، التي جاءت بتشريعات وأحكام ومسائل وافية شاملة عامة كاملة، وهذا من أعجب ما يكون، أن الشريعة دخلت حتى في تفصيلات العقود، فتفرق بين التعيين والوصف في الذمة. والعلماء يقسمون الأشياء في العقود إلى: معين، وموصوف في الذمة. فأنت إذا بعت، أو أجرت، أو وهبت، فإما أن يقع عقدك على معين، أو موصوف في الذمة، فالمعين كأن تقول له: بعني بهذه العشرة، فهذا معين، فلو تلفت العشرة فسد البيع، ولا يقام غيره إذا كان المبيع على معين يفوت بفواته، هذا إذا تم التعاقد على معين يفوت بفواته، وفي الإجارة على مركوب معين، فلو قال: استأجر امرأة لترضع طفلا معينا، ثم أصيب هذا الطفل بمرض وتعذر إرضاعه؛ انفسخت الإجارة. وكذلك لو استأجر دارا وقال: أؤجرك هذه العمارة، وهذه كلها معينات، وبناء على ذلك: لو جئت تشتري كتابا، وقلت له: بكم تبيعني هذا الكتاب؟ فقال: بعشرة ريال، ثم دفعت العشرة الريال وخرجت من المكتبة فوجدت الكتاب قد طمست منه صفحة أو صفحتان، فرجعت إليه، وقلت له: هذا الكتاب فيه صفحة مطموسة أو صفحتان، وهذا عيب يؤثر، فرد لي العشرة، فقال: لن أرد العشرة ولكن سأعطيك بدلا منه؛ فهنا ليس من حقه أن يعطيك بدلا منه؛ لأن البيع وقع على معين يفوت بفواته، لكن لو قلت له: أعطني نسخة من بداية المجتهد، أو من زاد المستنقع، فقال لك: بعشرة ريال، فجاءك بنسخة ووجدت فيها عيبا، ولو كانت كلها مطموسة الصفحات، فقلت له: أعطني العشرة، فهنا لا تملك إلزامه؛ لأن البيع كان على موصوف في الذمة، ومن حقه أن يأتي ببديل عن الذي اشتريته. إذا: العقود إما أن تكون على شيء معين يفوت العقد بفواته، وإما أن تكون على موصوف في الذمة. وهنا في الوصية يبحث العلماء في محل الوصية في المعين والموصوف، فحينما يقول: أوصيت بعمارة، وذكر أوصافها، فهذا وصف يصدق على كل عمارة تتحقق فيها هذه الأوصاف التي ذكرها الموصي، أما لو قال: وصيت بهذه السيارة، وهذه السيارة دون الثلث، ثم شاء الله عز وجل عندما توفي أن تلفت السيارة؛ فعند ذلك تبطل الوصية، وإن قال: وصيت بهذه الشاة، فلما توفي ماتت الشاة، فحينئذ تبطل الوصية؛ لأنه يستحيل تنفيذ الوصية؛ فحينئذ تبطل وتفوت بفواته، وهذا هو معنى قوله: (بمعين) . وهذه المسألة قد حكي الإجماع عليها، وممن حكى الإجماع عليها الإمام ابن المنذر رحمه الله، ونقل هذا عن الإمام ابن قدامة رحمه الله، وغيرهم من الأئمة، حيث قال: أجمع كل من نحفظ عنه العلم -يعني: من الأئمة والعلماء رحمهم الله جميعا برحمته الواسعة- أن الوصية بالمعين إذا تلف فاتت بفواته. أي: يحكم ببطلانها. قال رحمه الله: [وإن أتلف المال غيره فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة] . يعني: إذا وصى بسيارة لمعين صحت الوصية، وإذا تلفت هذه السيارة فاتت الوصية بفواتها. وفائدة هذه المسألة الأولى التي ذكرنا فيها الإجماع: أنه لو تلفت السيارة وقال الموصى له: أريد بدلا عنها؛ لأن الميت وصى لي، وقد تلفت السيارة، فأعطوني بدلا عنها؛ لم يكن من حقه ذلك؛ لأنه وصى له بمعين فات بفواته. والعكس: فلو وصى له بسيارة، وكانت السيارة دون الثلث أثناء الوصية، ثم لما توفي الموصي أو قبل وفاة الموصي، وهناك أموال غير السيارة، فشاء الله عز وجل أنه توفي عن مزرعة والسيارة، فالسيارة قيمتها تعادل الثلث من المال، فمثلا: قيمة المزرعة مائة ألف، والسيارة قيمتها خمسون ألفا، فالسيارة تعادل ثلث المال، فعند ذلك صحت الوصية ومضت؛ لكن أراد الله عز وجل أن احترقت المزرعة أو تلفت، فأصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال، أو تلفت بالكلية فلم تساو شيئا، فأصبح حينئذ لا يوجد إلا السيارة، فحينئذ يكون له ثلثها، ولا يدخل عليه الضرر -من حيث الأصل-، لكن لا يؤثر فوات المال من غيره على الموصى به، فلا يفوت الوصية كلها؛ لأن تلف غيرها ليس تلفا لها بعينها، وحينئذ تبقى الوصية في المعين كما هي. الأسئلة علة إذن الشرع بالرجوع في الوصية دون الهبة السؤال أشكل علي أن الوصية تشابه الهبة في وجوه وتختلف في وجوه أخرى؛ فمثلا: يجوز الرجوع في الوصية، ولا يجوز في الهبة، فما توضيح ذلك؟ الجواب الوصية يجوز الرجوع فيها لحكم وأسرار عظيمة، وقد نبه العلماء رحمهم الله على جملة من هذه الحكم ومنهم: الإمام القرافي في كتابه النفيس: الذخيرة. ومن أعظم هذه الحكم: أولا: أن الشريعة لما أذنت بالرجوع في الوصية فتحت باب الوصية، وشجعت الناس على أن يوصوا؛ لأن الإنسان لو علم أنه لا يملك أن يرجع في وصيته لخاف من الوصية؛ لأنها ستكون إلزاما، ولا يستطيع أن يعدل أو أن يبدل أو يغير. ثانيا: أن الوصية مترتبة على الموت، فهي تصرف مضاف إلى ما بعد الموت، والإنسان لا يعلم متى أجله، وكم من مريض مد الله في عمره فعاش أكثر من الصحيح! وكم من صحيح اغتر بحاله فمات في طرفة عين! فالآجال لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يضمن الإنسان أن يمد له في عمره، وينسأ له في أجله، وأيضا: لا يضمن أن يأتيه الأجل فجأة، فجمعت الشريعة بين الاثنين: خوف إتيان الموت فجأة، فتكتب الوصية بناء على هذه الحالة. وإن مد في العمر وطرأت أمور، فمثلا: قد أوصي لأجنبي وليس عندي أحد من أولادي، ثم يشاء الله أن يأتيني بولد، فأغير وأبدل تلافيا لما جد وطرأ، فهذا عين الحكمة، وعين العدل، وعين المصلحة، فقد جاءت الوصية على الصفة التي تحقق الهدف منها. وقد يوصي الإنسان وليس عنده أولاد، ثم بعد ذلك يطرأ له أولاد، وقد يوصي بالقليل وعنده أولاد، ثم بعد ذلك قد يموت أولاده قبله، ففتحت الشريعة باب الرجوع تحقيقا للمصالح ودرءا للمفاسد، وتداركا لما يمكن أن يفوت لو حكم بعدم الرجوع. هذا بالنسبة لإذن الشريعة بالرجوع في الوصية. وقد منعت الشريعة من الرجوع في الهبة، وهذا ما يقوله العلماء: أن الشريعة تجمع بين المتضادين في حكم، وتفرق بين المتماثلين في حكم، فهنا منعت من الرجوع في الهبة وأجازته في الوصية؛ لأن المقصود من الوصية: إيصال الحقوق إلى أهلها، وحصول البر للموصين بها من الأجر والمثوبة والصلة، فهو بوصيته إذا أمكنه الرجوع تتحقق هذه المصالح، أما في الهبة فالأصل في مشروعية الهبة إنما هو طلب المحبة والمودة والصلة بين الناس، ويدل على هذا: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) ، فالمقصود من الهبة: حصول المحبة والألفة وتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين؛ فإذا حصل الرجوع وقعت الضغينة والشحناء، وتقطعت أواصر المحبة، وهذا عكس ما تريده الشريعة من الهبة، فيصبح الرجوع على العكس تماما، ولذلك ما سمح بالرجوع عن الهبة إلا في حالة خاصة، وهي رجوع الوالد في هبته لولده؛ لأن المقصود من الهبة الصلة والبر، فحينما يأتي الوالد ويعطي بعض ولده ويحرم البعض، فحينئذ يحصل عكس المقصود؛ فأذن الشرع هنا بالرجوع. أما الرجوع لغير الوالد مع ولده، مثل أن يهب صديقه ويرجع، فإن ذلك يؤدي إلى أن يحقد عليه صديقه أو يتألم، وعلى الأقل -وليس بالقليل- أن صديقه يقول: لابد أن فلانا قد تغير قلبه نحوي، ثم تحدث القطيعة. لكن الوالد مع ولده لو أعطى ولدا وحرم الآخر؛ فإن الواجب عليه: أن يعدل، فصارت الهبة هنا لا تحقق البر والصلة، وإنما تحقق الشحناء بين الأبناء بعضهم على بعض، وجاء الأمر بعكس ما هو موجود في الهبة نفسها، فجاءت الهبة مصادمة للشريعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا المعنى في حديث النعمان: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) ، وفي رواية: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، فجعل الهبة لبعض الولد دون البعض ظلما وجورا لا يحقق العدل، فأمره بالرجوع، والأمر قد جاء ضمنا بأن هذا جور، والجور لا يجوز، فمعنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (جور) أي: ارجع عن هبتك. وقد جاء في الحديث الآخر في السنن: (لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده) ، فأذن للوالد أن يرجع في هبته؛ لأن هذا الرجوع يحقق العدل بين الأبناء، ويوجب المحبة، ويزيل الشحناء وحقد بعضهم على بعض، ولذلك قال: (أشهد على هذا غيري؛ فإني لا أشهد على جور) ، فأجاز الرجوع في حال ومنع الرجوع في حال، وكل ذلك مبني على تحقيق مقاصد الشريعة من حصول العدل. وهذا مما يقوي مسلك أئمة الإسلام رحمهم الله وجمهور الفقهاء من أن الشريعة تراعي المعاني، وليس الألفاظ فقط، فما جاءت الشريعة بالألفاظ فقط، وإنما جاءت بمعان مضمونة مضمنة، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) . فالمقصود: أن الشريعة أجازت الرجوع في الوصية، تحقيقا للمصالح، ودرءا للمفاسد، وطلبا لما يراد من شرعية الوصية، وهو تدارك ما فات، والوصول إلى الخير والبر والإحسان فيما يقصد منه البر والإحسان وصلة الرحم، إذا قصد صلة الرحم ونحو ذلك. وأيضا: ربما أوصيت لشخص وهو فقير، ثم عند الموت صار غنيا، وربما أوصيت لشخص مديون، ثم قضي دينه فأصبح غير محتاج للوصية، فالإذن بالرجوع عنها هو تحقيق للمصالح ودرء للمفاسد. وأما الرجوع عن الهبة فإنه يوجب الشحناء، ويزيل المحبة، ويفسد الإخاء؛ ولذلك جاز الرجوع في الوصية، وحرم الرجوع هنا، ولله الأمر فيهما، وصدق الله جل جلاله إذ يقول في كتابه {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] ، والله تعالى أعلم. متى يحكم على المسألة بأنها من قول الجمهور السؤال في الحكم على مسألة بأنها من قول جمهور العلماء: ما هو أقل عدد يطلق عليه هذا اللفظ؟ الجواب المسائل الخلافية تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن يكون الخلاف بين الأئمة أنفسهم، أي: الأئمة الأربعة، ويضاف إليهم مذهب الظاهرية. القسم الثاني: أن يكون الخلاف بين أتباع الأئمة، بمعنى: أن المسألة جدت وطرأت، فليس لأئمة المذاهب فيها قول. القسم الثالث: أن يكون الخلاف بين بعض الأئمة، وليس هنا نص عن الأئمة، وإنما خالف أصحاب الإمام فيها. وتوضيح ذلك: إذا كان الخلاف بين الأربعة فالثلاثة جمهور والواحد خارج عنهم، فلا يعتبر من الجمهور، فإذا قيل: وهذه المسألة تصح على قول الجمهور خلافا للإمام أبي حنيفة، فتعلم أن الثلاثة يقولون بهذه المسألة، وإذا قيل: تصح هذه المسألة في قول الجمهور إلا الشافعي، فتفهم أن الذي خالف إنما هو الإمام الشافعي رحمه الله. إذا: الجمهور يطلق على الثلاثة، ولا يطلق على اثنين في مقابل اثنين، فلو كانت المسألة -مثلا- بين الشافعي وأحمد من جهة، والإمام مالك وأبي حنيفة من جهة أخرى، فلا يقال فيها جمهور. هذا بالنسبة للخلاف بين الأئمة، وبعض العلماء يعتبر المسألة فيها جمهور إذا تكافأ اثنان في مقابل اثنين، وانسحب أحد أصحاب الاثنين مع الطرف الثاني، فإذا كان أصحاب الإمام أبي حنيفة لا يوافقون إمامهم ويرجحون المذهب الشافعي والحنبلي؛ فيقال لمذهب الشافعية: جمهور؛ لكنه لا يخلو من نظر، وقد يعبر به في بعض الأحيان عند بعض طلاب العلم الذين عندهم دقة وعناية، أو يستشهد بهؤلاء تعزيزا للقول فيقال في الترجيح: حتى إن أصحاب الإمام أبي حنيفة يميلون إلى كذا. هذا بالنسبة لمسألة الخلاف بين الأئمة الأربعة أنفسهم، فإذا وقع الخلاف بين أصحاب الأئمة الأربعة فنفس المسألة كما تقدم، فإذا قيل: وبه يقول الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهذا خلاف الأئمة أنفسهم، وإذا قيل: وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فلا يستلزم أن يكون هناك نص للإمام، فينتبه طالب العلم، إذا قيل: وهو قول الإمام أبي حنيفة ومالك، فالمسألة عن الإمام نفسه، وهي مسألة في القرون المفضلة، وإذا قيل: وهو قول الحنفية؛ فهذا لا يستلزم أن تكون في القرون المفضلة، بل ربما طرأت أو وجدت بعد القرون المفضلة. وعلى كل حال: فإذا كان الثلاثة من المذاهب في مقابل واحد فهم جمهور، وإما إذا كان بعض الخلاف منوعا، كما لو لم يكن هناك نص عن الإمام مالك في المسألة، ولا عن الإمام الشافعي، وهناك نص عن الإمام أبي حنيفة وأحمد، فيقع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وأحمد مع أصحاب الشافعي ومالك، فإذا انسحب أصحاب أحدهما إلى أحد القولين فهي جمهورية، فتقول: وهو قول الإمام أحمد وأبي حنيفة وأصحاب الشافعي؛ فحينئذ تصير جمهورية، ويكون قول المالكية قولا منفردا إذا اختاروا خلاف هؤلاء الثلاثة. وعلى كل حال: ينبغي التورع في نسبة هذه المذاهب، ولا يتناول أحد نسبة الأقوال إلى المذاهب إلا إذا درس الفقه على أئمة وعلماء لهم يد وباع في مثل هذا، ولا يقتصر على قراءة الكتب، والنسبة أمر يحتاج إلى التنبيه إليه؛ فإن الأوهام تقع في نسبة الأقوال للأئمة ونسبة الأقوال لأصحاب المذاهب، ولذلك من أصعب ما يمر على المفتي إذا كان يخاف الله عز وجل تحرير قول على مذهب. فمن أصعب ما يقال أن يقال لك: ما قول الشافعية أو الحنابلة؟ فإنك تسأل أمام الله عز وجل عن مذهبهم كاملا، وهذا شيء تشيب فيه رءوس أئمة المذاهب أنفسهم، فضلا عن إنسان لم يحصل، فلا بد أن يكون على علم بالمصطلحات التي هي داخل المذاهب، وأن يكون على علم بالطرق والمناهج التي توصل بها إلى المذهب، من ناحية قواعده وأصول المذهب. فهذا أمر يحتاج إلى دراسة معمقة، وهو الذي يسمى: الاجتهاد المذهبي؛ لأن الاجتهاد إما أن يكون مذهبيا داخل المذهب؛ فمثلا: شيخ الإسلام رحمه الله تجده يقول: (وهذه المسألة أصول الإمام أحمد تقتضي فيها الجواز) ، فلم يقل: إن الإمام أحمد يقول: إنها تجوز، بل قال: (أصول الإمام أحمد) . وفي بعض الأحيان يقول: وهذه المسألة تجري على قول أصحاب الإمام أحمد، ففرق بين الإمام وبين الأصحاب؛ لأنه عايش الفقه، وبدأ فيه بالمذهب دون تعصب، وبالدليل، تقرؤه وتضبطه، ثم بعد ذلك تنظر في دليله، ثم بعد ذلك تنظر فيمن خالفه، وتتحرى الحق والصواب حتى تصل إلى ما هو أقرب وأوفق لشرع الله عز وجل وصراطه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وأن يرزقنا محبته والعلم به والعمل به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. حكم الزواج بزوجة أبي الزوجة بعد وفاته السؤال زوجتي مات أبوها، فأريد أن أجمع شمل عائلتها، فهل لي أن أتزوج زوجة أبي الزوجة؟ الجواب في الأصل: أنه يجوز أن يتزوج الإنسان زوجة أبي زوجته إذا لم تكن أما لهذه الزوجة كما هو معلوم؛ لأنها أجنبية، فلو كان عند زيد -مثلا- زوجتان إحداهما لها بنات، والتي لها بنات تزوج شخص إحدى بناتها؛ فإن الزوجة الثانية ليست بمحرم له، فلا يجوز له أن يصافحها، ولا يجوز له أن يختلي بها، ويجوز له أن يتزوجها بعد وفاة زوجها، ولكن الله المستعان! لقد كانت ضرة لأمها ثم تأتي بها ضرة عليها هي! وقد يختلف هذا الأمر باختلاف البيئات والأعراف، ولكن الله المستعان! تجمع لها بين مصيبتين، إلا إذا كان تأخذ بثأر أمها فإن هذا ممكن؛ لأنها قد تكون هي أقل سنا، لكن على كل حال: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر بواد حول واديها أما من حيث الجواز فيجوز ولا بأس، لكن يتقى ما تنشأ عنه المشاكل، فإذا كان ذلك يتسبب في أضرار؛ لأن أم الزوجة ستتأثر، ولا شك أن أم الزوجة إذا أخذت ضرتها مع بنتها، فهذا من أشد ما يكون عليها، إلا إذا كان قد ماتت وصفا الجو، فهذا أمر آخر، أما أم الزوجة فلا يطاق خلافها وشرها، فهذا يفتح باب مشاكل للإنسان. وهذه الأمور كان الناس كبار السن يوجهون أبناءهم، لكن الله المستعان! اليوم قد يأتي الواحد ويغلب عاطفة في جانب ويغفل جوانب أخرى مهمة. وعلى كل حال: فحكم الشريعة: الجواز، لكن تحذر من حصول المشاكل؛ لأن هذا يفتح بابا للمشاكل، وأول ما قد تأتي المشاكل مع أمها. أما إذا كانت أم الزوجة حية، فهذا في الحقيقة في النفس منه شيء؛ لأن الغالب أنه سيجرح الرحم، وسيجرح أم الزوجة. إلا أن الأصل في ذلك هو الجواز، والأعراف والبيئات تختلف، فإذا كان الإنسان غلب على ظنه أن في هذا مصلحة، وأن هذا يعين على الخير والبر، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك ويحبه، والله تعالى أعلم. الفتور بعد العبادة السؤال عند الانتهاء من العبادة ومضي زمانها وأيامها يأتيني إرهاق وفتور في العبادة، فكيف أتخلص من هذا الفتور، خصوصا أني أخشى أن هذا من علامات عدم القبول؟ الجواب الله المستعان! نسأل الله ألا يحرمنا من فضله، وألا يحول بيننا وبين بره بسبب ما يكون من معاصينا، وهناك أمر مهم جدا، ولعل هذا السؤال متصل بأحب الشهور إلى الله، وهو شهر الصيام والقيام، والإنسان بعد رمضان لاشك أنه سيجد نوعا من الضعف على الطاعة أكثر مما كان في رمضان، والسبب في هذا واضح. فينبغي أن يعلم كل مسلم أن الشهور التي فضلها الله عز وجل وكرمها واصطفاها واجتباها مثل شهر رمضان أن فيها من البركة والخير ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله، ولذلك ينادى: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، وهذا يدل على أن الموسم موسم رحمة، ولذلك شتان ما بين يوم العيد وآخر أيام رمضان، ولا يظهر الفرق إلا إذا بدأ الإنسان بالابتعاد أكثر فأكثر، وذلك كالشخص الذي يكون قريبا من الجنة وقريبا من رحمة، وقريبا من مكان مؤنس تنشرح فيه الصدور وتطمئن فيه القلوب، فلا يحس بلوعة هذا الفراق إلا إذا تباعد عنه أكثر فأكثر. وأرجو أن لا يجعلها الله دليلا على عدم القبول، فليس هناك أرحم من ربك بك، والله أكرم وأحلم سبحانه وتعالى من أن يخيب عبده، وخاصة إذا وفقه للصيام، ووفقه لقدر ما يستطيع من القيام. لكن بالنسبة للفتور: فإن هذا الزمان زمان صعب، والفتن فيه كثيرة، والمحن فيه كثيرة، ولا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله وحده لا شريك له، فوالله أنه لا يستطيع أحد أن يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان -الذي بعد فيه عن عصر نبيه صلى الله عليه وسلم وعن سنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه- إلا الله. لقد كان الإنسان إذا خرج من بيته إلى بيت من بيوت الله جل جلاله وجد حلق الذكر، ووجد الذاكرين، ووجد المساجد ممتلئة بالمصلين والخاشعين قبل الأذان بساعات. والآن ربما جاء ودخل المسجد وهو في آخر ركعة أو في التشهد، ويرى الناس أفواجا يقدمون إلى الصلاة، هذا إذا وجد من يصلي، وهذا في الصلاة التي هي عماد الدين، والتي شأنها في الإسلام لا يخفى، ناهيك عن الطاعات والقربات الأخرى. ولو أراد الإنسان أن يتصدق بماله لوجد من يخذله، ووجد من يسفهه، ووجد من يثرب عليه، وكأنه فعل ما لا يمكن فعله من الأمور المحرمة العظيمة، فتجد الشخص تطمع نفسه أن يوقف بيتا بعد موته، أو يوصي بشيء من خصال البر والرحمة، وإذا بالنفوس الضعيفة والمفتونة تتكالب عليه من كل حدب وصوب، تلومه وتوبخه، وتثرب عليه، وقد تجده منطلقا إلى مجلس من مجالس الذكر وإلى طاعة من الطاعات، وإلى خير يريده لآخرته، أو علم ينتفع به ويتزود به إلى لقاء ربه، فإذا بأم تثبطه، أو والد يخذله، أو صديق يسفهه، وإذا به يجد من يصفه بالنقص وبالجهل بالأمور، وأن عليه أن ينطلق في الدنيا، وأن يؤمن مستقبله. إلى غير ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله. فلا يعلم مقدار غربة المسلم في هذا الزمان إلا الله، وكلما ارتقت درجته وصار إماما يصلي بالناس، فإذا بهذا يأتيه ويقول له: طول صلاتك فقد تلذذنا بالقرآن، ثم يأتيه إنسان ويقول له: يا هذا أرهقتنا وأتعبتا وأزعجتنا، ثم يأتيه الثالث ويقول له: في كل يوم وأنت تدرس، وفي كل يوم تلقي كلمة! ويأتيه الرابع ويقول له: أنت تقول كذا وتفعل كذا، فإذا بها أمور تشيب منها الرءوس، وإذا به يقبل على الإمامة بنفس منشرحة وصدر منشرح للخير والذكر والبر؛ فيجد من العوائق والعلائق ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله. هذا في مسجده؛ فضلا عن بيته وأهله، فقد يخرج من بيته من أجل أن ينفع أبناء المسلمين خطيبا أو مدرسا أو معلما في بيت من بيوت الله أو محاضرا، فإذا بزوجته تشتكي وتقول: أضعت أوقاتنا، وضيعت أبناءك، وفعلت وفعلت، وإذا بإخوانه يقولون له: تعرض نفسك للأسفار. وهكذا. فتجد غربة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله، ولكن طوبى ثم طوبى لمن نصب وجهه لله، وأنس بالله إذا استوحش ممن يوحشه في سبيل طاعة وبر يرجو بها رحمة الله جل جلاله، فطوبى لمن سمت نفسه وتعلق قلبه بربه، فلم يبال بمن يخذله، فإذا سمع قول المخذلين والمثبطين ارتقت روحه إلى رحمة أرحم الراحمين، فوجد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح ما يجعله يحتقر نفسه وهو في ذرى العلياء من الكمال والفضل والطاعة لله جل جلاله. هذه كلها فتن تثبط الإنسان عن الطاعة والخير، فإذا كان في موسم الخير كان الأمر أهون، وكان الشر أقصر، ولكن إذا ابتعد عن زمان الطاعة والخير والبر تكالبت عليه هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، فهذا الزمان زمان غربة، ولا يمكن للإنسان أن يعلم ذلك إلا إذا قرأ الكتاب والسنة وتفحص، وأعرف الناس بغربة هذا الزمان هم العلماء وأهل العلم الذين كشفوا دلائل الكتاب والسنة، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحاح الآثار والأخبار، فانكشفت لهم حقائق الأمور. وعلى كل واحد يلتزم بدين الله عز وجل أن يكون قويا في التزامه، فلا يثبطه ولا يخذله شيء أبدا؛ لأنه ليس بينك وبين الجنة إلا الجد والاجتهاد في العمل الصالح بعد توفيق الله، وهذان أمران إذا حزتهما فقد أصبت الجنة وفزت برحمة الله عز وجل، فعليك بالجد والاجتهاد في طاعة الله عز وجل حتى لا تبالي بأحد لا مادحا ولا ذاما. وأكمل ما يكون للعبد الموفق السعيد الذي يريد الله به خيرا في خاتمته أنه يكره من مدحه أكثر ممن يذمه، وهذه الهمة الصادقة التي يتجه بها العبد إلى الله جل جلاله قلبا وقالبا، وليس لنا إلا الله جل جلاله، فلا تلتفت إلى موسم، ولا إلى وقت ولا إلى زمان. فلا يكن الإنسان ممن يعرف ربه فقط في رمضان، وإذا ابتعد عن مواسم الخير أصابه التثبيط أبدا، بل كن قوي الشكيمة والعزيمة. وأنبه على أمر أيضا: وهو أنه لو وقع الإنسان في حضيض المعاصي، ثم يكون من أشد الناس التزاما وطاعة، فقد تأتيه فتنة من الفتن. فهذا زمان غريب، وينبغي علينا أن نعلم ونعلم الناس أنه إذا كان الإنسان في زمان الغربة فليعلم أنه سيلاقي في الفتن أكثر ممن يسير على الشوك، ولكن الموفق لا يبالي، فنحن لسنا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين، ولا في القرون المفضلة؛ بل نحن في عصر القابض على دينه كالقابض على جمر، وإن لم يكن هذا الزمان فلست أدري أي زمان يكون هو! فحينئذ مهما وقع الإنسان في فتن من ضعف الطاعة، مثلما ذكر أن الإنسان قد تضعف طاعته، أو حتى لو وقع في معصية؛ فعليه أن يوجه وجهه إلى الله ويشمر عن ساعد الجد بالتوبة النصوح ولا يبالي؛ لأن الشيطان يخذل الإنسان دائما. فإذا كنت في رمضان في خشوع وخضوع وإنابة واستكانة لله جل وعلا، ابتلاك الله عز وجل، فتسلط عليك الشيطان فجاءك وقال لك: أنت كذا أنت كذا، حتى تضعف همة الخير؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان تكون قوته في روحه ونفسه. فإذا جاء الشيطان وقال: لو تقبل الله طاعتك في الصيام لكنت الآن من قوامي الليل وصوامي النهار، فأنت الآن لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار، فعندها قل: اخسأ عدو الله، فإن الله الذي أرجو رحمته في رمضان أرجوه في شعبان وفي شوال وفي كل زمان، والله الذي أرجو رحمته لو سجدت له حتى تقبض روحي ما وفيت شيئا من حقه، وكل ذلك من فضله، ولو كان من الإنسان ما كان من الطاعة فالفضل كله لله، وقل: اللهم إن قصر عملي فإني أرجو رحمتك، وكم من عبد رجا رحمة الله جل جلاله ففاز بدرجات لم يفز بها من جد واجتهد بذلك؛ لأن هذا الشعور هو التعلق بالله سبحانه وتعالى. فتستمسك بالذي أوحي إليك، ولو حصل منك ما حصل من الفتن والشهوات وغيرها، فربما تجد العبد من أصلح خلق الله، أو طالب علم، ربما تحدث منه فتنة فيتسلط عليه الشيطان بقوله: لو كنت طالب علم بحق لما وقعت في هذه الفتن، ولو كنت طالب علم لعصمك الله من هذه الفتن. حتى يسيء ظنه بالله؛ لأن أهم شيء يتوصل إليه عدو الله هو إساءة ظنك بالله. ولذلك تجد في بعض الطائعين من الانتكاسة ما لا تجده عند المجرمين -والعياذ بالله- في بعض الأحيان بسب هذا الشعور؛ لأن الشيطان يعلم أن قوام المسلم في حسن ظنه بالله وكمال اعتقاده في الله، فإذا أصاب هذه الروح الزاكية المتعلقة بربها بالشكوك وإساءة الظن بالله عز وجل؛ فإنه -والعياذ بالله- سيهوي به إلى أسفل سافلين، ولكن لا تبال ولا تهتم ولا تغتم لشيء إلا لرحمة ربك: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) . فتستمسك بالذي أوحي إليك، وتعظ على الخير والطاعة والبر، فإن وجدت خيرا حمدت الله، وإن وجدت طاعة وبرا ذكرت الله وشكرته، وإن تكالبت عليك الفتن عن يمينك وشمالك، ومن أمامك ومن وراء ظهرك، ومن فوقك ومن تحتك، فاستعن بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ووجه وجهك للذي فطر السموات والأرض، وقل: اللهم ليس لي من أحد سواك، اللهم كما أرجوك طائعا فإنه عظم رجائي فيك مذنبا، وإنه لا يخيب من رجاك، ولا يحرم من سألك، وترجو رحمة الله، وتتملق لله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإذا بالسيئات تبدل حسنات، ومن صدق مع الله صدق الله معه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا ويصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من فتن المفتونين، ومن ضلال المضلين، اللهم اهدنا ولا تضلنا، وارحمنا ولا تعذبنا، وسامحنا ولا تؤاخذنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، نسألك أن تجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (410) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب الوصية بالأنصباء والأجزاء إذا أوصى المورث لشخص بمثل نصيب أحد الورثة وعينه فعند ذلك يعطى الموصى له مثل نصيب ذلك الوارث المعين، وإن لم يعينه أعطي الموصى له مثل أقل الورثة نصيبا، وإن وصى بسهم من المال للموصى له؛ أعطي الموصى له السدس، وإن وصى بجزء من المال أو شيء أو حظ؛ أعطي الموصى له ما يصدق عليه أنه مال. معنى الأنصباء والأجزاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوصية بالأنصباء والأجزاء] . الأنصباء: جمع نصيب، ونصيب الإنسان حظه المقدر، والمراد هنا: ما قدره الله تبارك وتعالى للوارثين، فقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإعطاء الوارثين حقوقهم، فأعطى الله جل جلاله كل ذي حق حقه من التركة، وجعل هذا الإعطاء مقدرا بمقادير معينة، أو يكون تعصيبا ينال الإنسان به ما فضل عن أصحاب المواريث، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض. فالمراد هنا بقوله: (بالأنصباء) : نصيب الوارث، وقوله: (الأجزاء) : جمع جزء، وجزء الشيء بعضه، سواء كان أكثر البعض، أو نصفه، أو أقل من ذلك. وقوله رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) ، هذا الباب يذكر فيه الموصي أنه قد أعطى من أوصي له قدرا معينا أو مبهما يمثله بنصيب لوارث؛ كأن يقول: أعطوا خال أولادي مثل أخته، فأخته زوجة، ولها نصيب في كتاب الله عز وجل حيث ترث الثمن إذا كان هناك أولاد، فلما قال: أعطوه مثل نصيبها، فمعناه أنه يريد أن يعطيه الثمن. وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلانا أقل نصيب لوارث، فحينئذ لا يحدد، وإنما يبين أن له الأقل، فننظر فربما كان الأقل أثناء كتابته للوصية شيئا، ثم يختلف بعد موته فيكون شيئا آخر. وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلانا من تركتي جزءا أو سهما أو حظا أو شيئا، فيبهم، ففي هذه الأحوال -أي: كلها- درس العلماء رحمهم الله هذا النوع من الوصايا، وعند التأمل والنظر نجد أن هذا النوع من الوصايا يرجع إلى كتاب الفرائض. والمسائل فيه مسائل حسابية، ولكن المصنف رحمه الله والعلماء يفردونه بباب مستقل عناية به، وقد تقدم بيان السبب في هذا، وهو أن أهل العلم رحمهم الله ربما يقتطعون من الباب العام أو الكتاب العام مسائل تذكر في مواضع خاصة مفرقة على حسب مناسبات كتبها وأبوابها. فقد تقدم معنا أن كتاب القضاء ينتضمن أحكام الشهادات والبينات، فربما ذكر العلماء رحمهم الله مسائل من القضاء في كتاب البيوع، ويذكرون مسائل البيوع المتصلة بالقضاء؛ لأنهم يرونها في هذا الباب ألطف. وعلى كل حال: هذا باب مهم، ولذلك يقول عنه الإمام النووي رحمه الله في الروضة: (هذا فن طويل، ولذلك جعله العلماء علما برأسه، وأفردوه بالتدريس والتصنيف) . قوله: (هذا فن طويل جعله العلماء علما برأسه) يعني: من عناية أهل العلم به أنهم جعلوه رأسا، وإلا فالمفروض أن يكون مندرجا تحت الفرائض؛ لكنهم جعلوه رأسا مستقلا، وأفردوه بالتصنيف والتدريس، فصنفوا فيه، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) ، فأفرده ببيانه وتدريسه. وهذا الباب مسائله كثيرة جدا، وهو من أمتع الأبواب في دراسة مسائله الحسابية، لكن بعد إتقان الفرائض، ولا يستطيع الإنسان أن يضبطه ضبطا تاما إلا بعد إتقانه للفرائض، مع الإلمام بأصول الأحكام المتعلقة به. يقول رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوصايا التي يذكر فيها النصيب، أو يذكر فيها الجزء، ويتبع هذا ذكر الوصايا بالسهم وبالشيء المجهول. أحكام ومسائل الوصية بالأنصباء والأجزاء وإذا وصى الإنسان فإما أن يذكر قدرا معينا من التركة بالنسبة، كقوله: أعطوا فلانا نصف مالي، أو أعطوا فلانا بعد موتي ثلث مالي، فإذا حدد بالنسبة ففي هذه الحالة تنقسم المسألة إلى ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يعطيه الثلث. الصورة الثانية: أن يعطيه أكثر من الثلث. الصورة الثالثة: أن يعطيه أقل من الثلث. فإذا أعطاه الثلث فأقل فبالإجماع أنه تنفذ وصيته على التفصيل الذي قدمناه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ، فأعطى المريض مرض الموت أن يتصرف في ثلث ماله فيعطيه من شاء. إذا: النص يدل على أن من حقك أن توصي بثلث مالك وصية شرعية معتبرة، وكذلك دل النص على أن ما دون الثلث يجوز للإنسان أن يوصي به. الصورة الثالثة: أن تكون وصيته أكثر من الثلث، فقد ذكرنا أنها لا تجوز، وأنه ليس من حق الميت أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع سعدا من ذلك. وبينا إجماع العلماء رحمهم الله على هذا، وقد اختلف العلماء إذا أوصى بأكثر من الثلث فأجاز الورثة ورضوا: هل هي عطية مبتدئة أو عطية تنفيذية؟ ثم ذكرنا خلاف العلماء والثمرة المتعلقة بهذا الخلاف. إذا: مسألة أن يحدد نسبة معينة من المال كله لا إشكال فيها. الحالة الثانية: أن يذكر نصيبا أو جزءا أو حظا، فإذا أعطى مثل نصيب الوارث فقال: أعطوا خال أولادي مثل محمد، أو أعطوا خال أولادي مثل أخته، فإذا حدد نصيب الموصى إليه بنصيب وارث لم يخل الورثة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون نصيب الورثة مستويا، فيأخذ كل منهم مثلما يأخذ الآخر، مثاله: لو توفي رجل عن ابنين ليس له غيرهما، فحينئذ المال يقسم بينهما بالسوية، فإذا قال: أعطوا فلانا -عم أولادي، أو خال أولادي- مثل نصيب أحدهم؛ فحينئذ لا إشكال أن المال يقسم بين الجميع على حد سواء، وكأنه ابن ذكر دخل بينهم. الحالة الثانية: أن يكون النصيب مختلفا، فيقول: أعطوا خال أبنائي مثلما تأخذه أخته، فحينئذ الذي تأخذه الزوجة هو الثمن، ولو توفي وترك زوجة وثلاثة أولاد أبناء ذكور، ففي هذه الحالة تجعل المسألة من ثمانية، فتعطى الزوجة الثمن، ويعطى كل واحد من الأبناء ثمنين، فتصبح المسألة من سبعة، ثم يدخل هذا الخال معهم فتصبح المسألة من ثمانية. فإذا اختلفت الأنصبة بين الورثة فإننا في هذه الحالة ننظر إلى الشخص الذي عينه، ونضيف سهم الشخص الذي أدخله من غير الوارثين في الوارثين بذلك السهم، مضافا إلى أصل المسألة، كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه وشرحه. إذا: اتفقت أنصبة الورثة، فيكون كواحد منهم، وإذا اختلفت فتعطيه سهم من سمى من الورثة -كالزوجة ونحوها- وتدخله في المسألة حتى ولو عالت المسألة، وسيأتي -إن شاء الله- توضيح هذه الأمثلة. وإذا أبهم وقال: أعطوا خال أولادي أو عمهم مثل نصيب وارث، ولم يحدد الأقل ولا الأكثر، والورثة مختلفون، فهل نعطيه نصيب الأكثر أو نعطيه نصيب الأقل؟ جمهرة أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أنه يعطى مثل نصيب أقلهم؛ لأنه هو اليقين الذي يجب صرفه إليه، ولا يعطى مثل نصيب الأكثر. أما لو قال: أعطوه جزءا من مالي، أو شيئا من مالي، فحينئذ نقول للورثة: أعطوه أي شيء ترضاه أنفسكم، فأقل ما يصدق عليه أنه مال إذا أعطوه إياه فقد نفذت الوصية وتمت؛ لأنه قال: أعطوه شيئا، والشيء يصدق على القليل والكثير، فكل ما طابت به أنفس الورثة فإنه هو المجزئ تنفيذا لهذه الوصية. وبقيت مسألة أخيرة وهي: إذا قال: أعطوا فلانا سهما من مالي، فبعض العلماء يقول: نعطيه أقل نصيب من الورثة، وهذا قول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من أهل العلم. وبعض العلماء يقول: نعطيه سدس المال؛ لأن السهم في كتاب الله عز وجل -كما هو معلوم، وكما تقدم معنا في كتاب الجهاد وغيره- هو السدس، وهذا هو الذي يكون نصيبا له إذا عبر الميت بالسهم. وهذا القول أفتى به علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وقضى به إياس بن معاوية القاضي المشهور، واختاره جمع من الأئمة رحمهم الله. هذا حاصل ما يذكر في الأنصبة والأجزاء، وسيفصل المؤلف رحمه الله في هذه المسائل في هذا الباب. الوصية بمثل نصيب وارث معين قال رحمه الله: [إذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموما إلى المسألة] لو أوصى أن يعطى مثل ابنه محمد، وله ثلاثة أبناء، فحينئذ في الأصل -قبل أن يدخل هذا الشخص- أن يقسم المال على ثلاثة، فكل واحد من أبناء الذكور يأخذ ثلث المال، فإذا أدخل هذا الأجنبي ووصى له فإنه في هذه الحالة يقسم المال على أربعة، فيكون لكل واحد من هؤلاء الأبناء الربع، وله هو أيضا الربع، فنصيبه مثل نصيب الوارث. هذا هو معنى قوله: (فله مثل نصيب الوارث مضافا إلى أصل المسألة) . ونبدأ المسألة بالتدريج، فإذا وصى لشخص بمثل نصيب وارثه، وليس له وارث إلا ابن ذكر واحد، ففي هذه الحالة يكون لهذا الوارث مثل نصيب الابن الذكر؛ فيقسم المال بينهما مناصفة، فإذا قسمناه بينهما مناصفة فحينئذ سيكون حظه فوق الثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصية فيما زاد عن الثلث، فتصح في الثلث، ونقول لهذا الوارث: هل تأذن له بما زاد أو لا تأذن؟ فإن أذن مضت الوصية، وكان له نصف المال، وإن لم يأذن لم يكن له إلا الثلث. وأما إذا كان له ابنان، ففي هذه الحالة يكون المال مقسوما بين الابنين، وكل منهما يأخذ النصف، فإذا دخل هذا الأجنبي الذي وصى له فسيكون المال منقسما على ثلاثة، ولكل واحد منهم الثلث؛ لأن الابنين شركا هذا الأجنبي بقوله: (مثل نصيب الوارث) ، ففي هذه الحالة يكون له الثلث، وإذا كان له ثلث المال فهذا حظه ونصيبه الذي تجوز الوصية به. وإذا كان له ثلاثة أبناء ذكور، ففي هذه الحالة يكون لكل ابن ثلث المال قبل دخول الأجنبي، فلما دخل هذا الأجنبي أصبح المال منقسما على أربعة، فيكون للأجنبي ربع المال، وكل واحد من الأبناء يأخذ ربعا، فتتم القسمة على أربعة، وعلى هذا تسير المسألة. قال المصنف رحمه الله: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث] . قوله: (فله الثلث) بدأ بهذا، ولم يذكر إذا كان له ابن واحد؛ لأن المسألة فيها زيادة على الثلث؛ لأنه سيكون له النصف، فابتدأ رحمه الله بالثلث الذي هو أصل الاستحقاق، فإذا كان له ابنان ووصى له بمثل نصيب أحدهم، فإنه في هذه الحالة يكون له ثلث المال وللابنين الثلثان. قال رحمه الله: [وإن كانوا ثلاثة فله الربع] . لأن المال منقسم على ثلاثة، وكل واحد سيأخذ الثلث، ثم لما دخل الأجنبي انقسم على أربعة؛ لأنه جعله كواحد منهم، فينقسم على أربعة، فيكون له ربع التركة. قال رحمه الله: [وإن كان معهم بنت فله التسعان] أي: إن كان الثلاثة الأبناء الذكور معهم بنت وأجنبي، فالثلاثة الأبناء الذكور لما دخلت معهم البنت سيكون لكل واحد منهم اثنان وللبنت واحد، فتكون المسألة من سبعة، وفي هذه الحالة سيدخل هذا الأجنبي معهم كواحد من الذكور، فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له تسعان، ولكل واحد من الذكور تسعان. ففي هذه الحالة تجعل الأجنبي داخلا بمثل نصيب الوارث مضافا إلى أصل المسألة، فهم ثلاثة ذكور مع أختهم، والثلاثة: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] ، فتضربهم في اثنين فتصبح من ستة، والأنثى لها واحد، فتصبح المسألة من سبعة، فأصل المسألة من سبعة، فلكل ذكر سبعان، والأنثى لها سبع واحد، فلما دخل الأجنبي أصبحت المسألة من تسعة، فبدلا من أن يكون للذكر سبعان سيكون له تسعان، ويكون للأجنبي التسعان، هذا إذا قال: له مثل الذكر، أما لو قال: مثل بنتي؛ فيكون له ثمن المال. الوصية بمثل نصيب أحد الورثة دون تحديد الوارث قال المصنف رحمه الله: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين، كان له مثل ما لأقلهم نصيبا] . إذا وصى له بمثل ما لوارثه ولم يبين، فلم يقل: أعطوه مثل ابني أو ابنتي، أو مثل فلان؛ فمن العلماء رحمهم الله من قال: يعطى مثل أقلهم؛ لأن هذا هو اليقين، وهذا هو الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، وعليه الفتوى والعمل. فإذا قال: أعطوه مثل ما للأنثى، وعنده وارث من الذكور يرث سهمين، ووارث من الإناث يرث سهما واحدا، ففي هذه الحالة نعطيه مثل ما للأنثى، وتكون المسألة التي قدمناها -في الثلاثة الذكور والأنثى- من ثمانية؛ فيكون للأنثى الثمن، وللثلاثة الذكور لكل واحد منهم ثمنان. فإذا كانوا ثلاثة فلهم ستة والأنثى معهم السابعة، فتكون المسألة من سبعة، من حيث الأصل، فعندما قال: أعطوا فلانا مثل ما لوارثي، ولم يبين، فحينئذ نعدل به إلى الأنثى، وإذا عدلنا به إلى الأنثى فمعناه: أنه سيأخذ مثل الأنثى، وإذا أخذ مثل الأنثى فمعناه: أن له سهما واحدا، فبدلا من أن تكون المسألة من سبعة ستكون من ثمانية، فيكون لكل ذكر سهمان من ثمانية، وهما الثمنان، فتكون ستة أثمان للذكور، ويبقى الباقي -وهو الثمنان- منقسما بين البنت وبين هذا الأجنبي، هذا إذا لم يسم. ولماذا قال العلماء بالأقل؟ هناك عند العلماء قاعدة تقول: (اليقين لا يزال بالشك) ، وهذه القاعدة تفرعت عليها من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك اعتبرها الأئمة رحمهم الله من أمهات القواعد الفقهية الخمس المشهورة، فيقولون: إذا قال: أعطوه مثل ما لوارثي، فعندنا وارث ينال الأقل، ووارث ينال الأكثر، فإذا أعطيناه الأقل فلا نشك أنه ينال هذا الحظ الذي هو السهم، ولكن نشك في السهم الزائد، والأصل أنه ليس له حق في التركة؛ لأنه أجنبي، فنبقى على اليقين، ولا نعطيه ما زاد عن هذا النصيب الأقل حتى ينص صاحب المال على أنه يزاد له في حظه. هذا هو السبب في أننا نعطيه الأقل؛ لأنه اليقين، وقد ثبت بيقين أنه يأخذ هذا السهم، وما زاد عنه باق على الأصل، وهو أنه لا حظ له حتى يدل الدليل؛ لأنه لو أراد أن يعطيه أكثر لقال: أعطوه مثل فلان، فلما قال: أعطوه مثل ما لوارثي؛ ألست إذا أعطيته مثل نصيب البنت تكون قد أعطيته نصيب وارث؟ بلى، فالبنت وارثة، فإذا كانت البنت ترث، ووصف الإرث متعلق بها؛ فإنك إذا أعطيته مثل نصيب الأقل فقد أعطيته نصيب الوارث، وهذا مذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا، وهو الذي عليه العمل والفتوى؛ لصحة دلالة قواعد الشريعة عليه. لكن في الحقيقة يبقى الإشكال: وهو أن أحد مشايخنا رحمة الله عليه أورد مسألة لطيفة وهي: إذا قال: أعطوه مثل نصيب وارثي، وكان أبناؤه كلهم ذكورا، وزوجته حامل، فلما توفي وضعت أنثى، فالوارث في الأصل هم الذكور، فكان المفروض أنه يدخل معهم بنصيب أفضل، لكن وضعت الأم بنتا وماتت الأم، فإن نصيب البنت سيكون الأقل، والواقع أننا نعطيه مثلما نعطي الإناث؛ لأنه بعد الموت -والوصية مضافة لما بعد الموت- يصدق وصف الإرث على الأنثى كما يصدق على الذكر، ولذلك تسري نفس القاعدة الأولى، وهذه من بعض الإشكالات التي يوردها بعض العلماء. وهناك من يقول: يعطى مثل الذكر؛ لأنه وإن لم يسم الذكر فقد علم من دلالة الحال أنه يريد الوارث الذكر، ولكن هذا لا يخلو من نظر؛ لمسائل نظيرة لهذه المسائل يفتي فيها حتى العلماء الذين يقولون بأنه يكون له مثل نصيب الوارث مع كونه أقل، وعلى هذا فإنه يأخذ نصيب الأقل بكل حال. وقوله: [وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين؛ كان له مثل ما لأقلهم نصيبا، فمع ابن وبنت ربع] . فالابن له سهمان، والبنت لها سهم واحد، ففي هذه الحالة تصبح المسألة من ثلاثة، فإذا أعطيت الابن السهمين وأعطيت البنت سهما، فقد أعطيت الذكر مثل حظ الأنثيين، فتصبح المسألة من ثلاثة. وفي هذه الحالة إذا قال صاحب الورث: أعطوا محمدا مثل ما لوارثي، فإذا كان عنده ابن وبنت، فالابن له اثنان، والبنت لها واحد، فتصبح المسألة من أربعة، فالبنت لها سهم واحد، والأجنبي له سهم واحد؛ لأنه هو السهم الأقل، والابن الذكر له سهمان، فتصبح المسألة من أربعة، ويقسم المال بينهما، لكل من الأجنبي والبنت الربع، وللابن الذكر نصف المال الذي هو الربعان. وقوله: [ومع زوجة وابن تسع] . لأن المسألة في الأصل من ثمانية، فالزوجة لها الثمن واحد، والابن له سبعة أثمان؛ لأن الابن عصبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فالابن عصبة، ودائما إذا اجتمع صاحب فرض وصاحب تعصيب وليس هناك غيرهما، فصاحب الفرض يأخذ فرضه، وتصح المسألة من نفس المقام الذي للفرض، ثم تعطي الباقي للعصبة، فالزوجة تأخذ الثمن لوجود الابن، فيبقى سبعة أثمان تصرفها إلى الابن الذكر. فلما قال: أعطوا مثلما لوارثي، فالزوجة وارثة، فنعطيه مثل الحظ الأقل وهو الثمن، فيكون له سهم واحد، فتعول المسألة، فبدلا من أن كانت من ثمانية فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له التسع وللزوجة التسع، وسبعة أتساع للابن الذكر. الوصية بسهم من المال قال رحمه الله: [وبسهم من ماله فله سدس] . قوله: (وبسهم من ماله) كما لو قال: أعطوا فلانا سهما من مالي، فمن أهل العلم من قال: يعطى أقل ما يصدق عليه أنه مال؛ لأنه سهم، ومنهم من قال: يعطى السدس، كما ذكرنا، وهو الذي أفتى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وفيه حديث مرفوع -لكنه حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن وصى بالسهم بالسدس) ، ولكن هذا الحديث ضعيف السند، والعمل على أنه يأخذ السدس؛ لأنه هو السهم في كتاب الله عز وجل، فيعطى سدس المال. الوصية بشيء أو جزء أو حظ من المال قال رحمه الله: [وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء] . إذا قال: وصيت لفلان بجزء أو بشيء من مالي، فننظر إلى أقل ما يصدق عليه أنه مال -وهو الواجب- فيجب على الوارث أن يعطيه أقل ما يصدق عليه أنه مال، فإذا أحب الورثة أن يزيدوا فهذا أمر يعود إليهم. أما الذي يستحقه فهو أقل ما يصدق عليه أنه مال؛ لأنك إذا أعطيته ولو ريالا واحدا؛ فإنه شيء من المال، وإذا أعطيته ريالا من التركة فإنه جزء من المال، وإذا أعطيته ريالا من التركة فهو بعض من المال، ويصدق عليه أنه بعض وأنه جزء، وعلى هذا فيعطيه الوارث ما شاء. الأسئلة بيان معنى تأدية الله للدين عن بعض عباده السؤال كيف يجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ حقوق الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقوله عليه الصلاة والسلام: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) المراد به: أن الميت إذا مات وعليه دين فإن نفسه ترهن، والعرب تقول: الشيء مرهون إذا كان محبوسا، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38] . أي: محبوسة، فعيلة بمعنى: مفعولة. فالمراد: أن النفس تحبس، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر، والحقيقة: أن الأمر فيه شيء من الغيب، فإنه لم يرد تفصيل عن كيفية حبس نفس الإنسان إذا مات وهو مديون، لكن ورد حديث صحيح، وهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وهو يدل على أمر عظيم، حاصله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بميت فقال: (هل عليه من دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال صلى الله عليه وسلم: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما علي يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) ، فحتى ولو تحمل عن الميت بعض الورثة فيقول: أنا أتحمل عن أبي، فلا يكفي ذلك حتى تسدد بالفعل، فهناك تبرأ الذمة بالفعل. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت جلدته) ، هذا شيء لا يستطيع الإنسان أن يدركه؛ لأنه علم غيب، فأمور القبر والبرزخ أمور غيبية متعلقة بالسمعيات والنصوص التوقيفية، ولا يستطيع أحد أن يجتهد فيها، ولا يستطيع الإنسان أن يكشف غيبها؛ لأن علم الغيب استأثر الله به، حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب إلا إذا أطلعهم الله عز وجل على شيء من ذلك. وبناء على هذا: فلا يخاض في حقيقة الرهن والحبس، لكن الإشكال كيف نقول هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؟ اختلف العلماء في قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) ، وقد كانت أم المؤمنين رضي الله عنها حفصة كثيرة الدين، وكانوا يلومونها كثرة الدين، فقالت: (لا أترك الدين) ، لكنها ما كانت تستدين من أجل أن تبني لنفسها أو تمتع نفسها، فقد كانت من أكرم الناس كأبيها رضي الله عنها وأرضاها، فكانت كريمة سخية لا تمسك شيئا في يدها، وهكذا كن أمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن تربين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفن حقيقة هذه الدنيا وهوانها، فكانت لا تمسك شيئا فكثر عليها الدين، فأصبحوا يلومونها، فقالت رضي الله عنها: لا أترك الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه) ، فقال بعض العلماء: معنى قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) أي: أنه عندما يأتي ليستدين اطلع الله على قلبه ونيته أنه يريد أن يسدد، فصيها وييسر الله له السداد ولو بعد حين، حتى ولو توفي فإن الله يعين ورثته حتى يسددوا. وهذا في الذي يأخذ أموال الناس يريد أداءها، أما الذي يأخذها -والعياذ بالله- لا يريد أداءها؛ فإن الله يحول بينه وبين ذلك ولو تمنى، فكلما جاء يسدد يحدث الله له مشكلة، ويفتح الله عليه باب فقر، حتى لربما توفي وهو لم يسدد الناس، ثم عجز ورثته من بعده، ولربما نسي، فعذب بذلك الدين، نسأل الله السلامة والعافية. إذا: هذا الأداء المراد به المعونة. وقال بعض العلماء -وهو القول الثاني-: المراد أدى الله عنه يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة:119] ، فكل من صدق في نيته وكانت نيته صالحة، فإن الله يتولى أمره بحسن نيته، حتى ولو كان فيما بينه وبين الله، وقد ورد في الخبر أن العبد يوقف بين يدي الله فتكشف له ذنوبه ويشفق على نفسه، فيقول الله: (عبدي! أما وإنك قد فعلت ذلك فقد كنت تخافني وترجوني) ؛ وذلك لما كان في ضميره وقلبه، فالشخص إذا كان في ضميره وقلبه أن يسدد الناس وعجز عن السداد في حياته، ولقي الله يوم القيامة وقد جاء خصومه يطالبونه بالديون، أدى الله عنه؛ لأنه علم منه حسن النية وصدق القصد في أن يؤدي؛ فكانت هذه رحمة من الله عز وجل. وفي الحقيقة: أمر الدين عظيم، وعلى الإنسان -من حيث الأصل- أن يتقيه ما أمكنه، وبعض العلماء يخفف في هذا إذا كانت نية الإنسان صادقة في السداد، ويعلم الله أنه ما استدان إلا لظروف وضرورة، فيرى أولاده وزوجته، ويرى من يعول محتاجا، فيذهب يستدين من أجلهم، ويتحمل من أجلهم، كما استدان عليه الصلاة والسلام من أجل عورات المسلمين، وسد حاجاتهم، والقيام عليهم، فأدى الله سبحانه وتعالى عنه دينه، وقد توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة في صاعين من شعير ليهودي. فالمقصود: أن الدين يخفف فيه بعض العلماء، وخاصة إذا جاءت ظروف تضطر الإنسان إلى أن يستدين. وعلى كل حال: فالإنسان عليه أن يتقي الدين ما أمكن، فهو ذل النهار وهم الليل، نسأل الله بعزته وجلاله وقدرته على كل شيء أن يؤدي عنا حقوق عباده، وأن يخرجنا من هذه الدنيا وقد سلمنا وسلم منا وهو على كل شيء قدير، وعلى هذا: فليس هناك تعارض ولا إشكال، فمن أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ويصبح مستثنى من الأصل، فإذا أردت أن تجمع بينهما بالعموم والخصوص، أو تقول: أدى الله عنه، لكن لا يمنع أنه مرهون ومحبوس حتى يؤدي الله عنه، بخلاف الذي كانت نيته غير صالحة فيجمع الله له بين العذابين: بين حبس نفسه، ثم لا يؤدي الله عنه، فيؤخذ من حسناته على قدر مظالم الناس، فيصبح قوله: (أدى الله عنه) إذا حمل على أداء الآخرة، فتكون نفس المؤمن مرهونة أو محبوسة بدينه من البرزخ إلى لقاء الله عز وجل، ثم يؤدي الله عنه بحسن نيته، هذا إذا قلنا: إن الأداء هو في الآخرة، وأما إذا كان الأداء في الدنيا، فلا إشكال فيه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
من أوصى لغير وارث بمثل نصيب وارث السؤال أشكلت علي مسألة وهي قوله: (وقع زوجة وابن تسع) كيف يكون الموصى له التسع، أليس له الثمن كحق الزوجة لأنه أقل إرثا؟ الجواب في هذه الحالة ستعطيه ثمنا مثل الزوجة، وأصل المسألة من ثمانية، فمعنى ذلك: أنك ستقسم ويكون للزوجة الثمن؛ لأنه أعطاه مثل نصيبها، فلا تستطيع أن تعطيه ثمنا آخر، لأن المسألة أصلا لا تصح على هذا الوجه، وفي هذه الحالة يكون له النصيب مثل نصيب الوارث. وبعض العلماء -وهو مذهب آخر- يرى التشريك حتى في الزوجات، فلو قال: له مثل الزوجة، وكانت له زوجتان؛ فتصح تصح المسألة من ثمانية، ويقسم الثمن بينهما، ثم تعول لكل واحدة منهما واحد على ستة عشر، ويكون له واحد على ستة عشر، أي: جزء النصيب في الميراث، وفرق بين جزء النصيب في الميراث وبين النصيب في الإرث الذي هو الثمن، والذي يظهر هو ما اختاره المصنف أنه يكون له مثل الثمن؛ لأن الذي ذكرته أنت يكون له فيها جزء الميراث، وهذا يرده غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، والصحيح: أنه يكون له الثمن رأسا، وتكون المسألة من تسعة؛ للزوجة تسع وله تسع، والباقي للرجل الذكر على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. معنى قول العلماء: (لا مشاحة في الاصطلاح) السؤال ما معنى قول العلماء رحمهم الله: لا مشاحة في الاصطلاح؟ الجواب الاصطلاح لا مشاحة فيه، بمعنى: أن لكل قوم أن يصطلحوا على تسمية الشيء باسمه كاصطلاح بينهم، فلا يأتي واحد ويخطئهم، أو يبين عوارهم في اختيار هذا، فهذا مصطلح لهم، ولا مشاحة في الاصطلاح. وإذا اختلف اثنان، فإما أن يختلفا حقيقة أو صورة، فالخلاف ينقسم إلى: خلاف حقيقي وخلاف لفظي، فالخلاف اللفظي هو خلاف المصطلحات. فمثلا: لو جاء شخص وسمى شيئا معينا باسم معين لا يعطيه حكم ذلك الاسم الشرعي، واصطلح مع غيره على هذه التسمية، فمثلا: لو جاء بعض العلماء وأخرجوا بيع الصرف من البيع -فإن: بعضهم يراه بيعا، والإجماع منعقد على أن الصرف يسمى بيعا- ووضع تعريفا، ورأى أن باب الصرف باب يستحق أن يفرد بكتاب، وأن يفرد بمسائل حتى يضبط أكثر ويتقن أكثر. وذلك مثل المالكية رحمهم الله في مذهبهم حيث أفردوا الصرف بباب مستقل، وبتعريف مستقل، وميزوه عن تعريف البيع العام، وأفردوا السلم عن باب البيع، مع أنه نوع من أنواع البيع؛ لأنه رخصة وبيع للمعدوم، فأفردوا السلم والصرف باسمهما وبباب مستقل، ووضعوا لكل منهما تعريفا مستقلا. فلما جاءوا في كتاب البيع يعرفون البيع أخرجوا هذين النوعين من البيع؛ لكنهم أخرجوهما اصطلاحا لا حقيقة؛ لأنهم في الحقيقة يسلمون أنهما نوعان من أنواع البيع؛ لكن في الظاهر جاءوا في التعريف فقالوا في البيع: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة ذو مكايسة. وهنا ينتهي تعريف البيع العام، ثم قالوا: أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة، معين غير العين فيه. فلما قالوا: أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة؛ أخرجوا بيع الصرف، ولما قالوا: معين غير العين فيه، أخرجوا بيع السلم، ولكن لم يخرجوهما من البيع حقيقة؛ لأنهم يرون أن كلا منهما بيع، لكنهم اصطلحوا في مذهبهم على إفراد هذين النوعين من البيع، وهذا مصطلح خاص بالمذهب، لكنهم في الحقيقة يرون الصرف بيعا والسلم كذلك بيعا، فهم في الحكم متفقون، وفي الاصطلاح مختلفون؛ فنقول: لا مشاحة في الاصطلاح. فلا يأتي شخص ويقول: هذا التعريف خطأ؛ لأنه أخرج الصرف والسلم وهما من البيع، بل نقول: هذا إخراج اصطلاحي لا حقيقي فلا يؤثر؛ لأنه لا مشاحة في الاصطلاح. مثال آخر: الواجب والفرض، فبعض العلماء يرى أن الخلاف بين الحنفية رحمهم الله وبين الجمهور في الواجب والفرض خلاف لفظي؛ لأن الحنفية يرون أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وإذا كان ثابتا بدلالته بدليل قطعي، ودلالته قطعية وثبوته قطعي، فيكفر جاحده، ويعطونه أحكام الفرض من حيث أنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه. والجمهور عندهم أن ما ثبت من الواجبات بدليل قطعي، وصار معلوما عند الإنسان ثبوته ثبوتا ودلالة أنه قطعي، وعلم وقامت عليه الحجة، بإجماع الجمهور أنه يكفر إذا جحده، فمثلا: الصلاة عند الحنفية فرض، وعند الجمهور تسمى فرضا وتسمى واجبا، والحنفية لا يطلقون الواجب إلا على الذي ثبت بدليل ظني، فإذا أنكر شخص الصلاة، وقال: الصلاة ليست واجبة، فعند الجمهور وعند الحنفية أنه يكفر، فالنتيجة واحدة، فالخلاف اللفظي والاصطلاحي نتيجته واحدة، ولكن من حيث الاصطلاح يختلف، فلكل مذهب اصطلاحه. ولو أن أناسا داخل البيت اصطلحوا على تسمية شيء باسم، مثل البئر، فالبئر معروف، ومصطلح الناس العام في البئر معروف، ولكن لو كان عندك داخل البيت حوض صغير، وتقول دائما لأولادك: ضعوها في البئر، اطرحوها في البئر، فيأتي شخص ويقول لك: لماذا سميت هذا الحوض بئرا؟ فتقول له: هذا مصطلح بيني وبين أولادي، ولكن لو جاء شخص من الخارج وقال: ارم هذا في البئر، فذهب ووضعه في حوض؛ فنقول: هذا خالف الاصطلاح العام، فلا يمكن أن يحمل لفظه على مصطلح خاص، لكن أنت فيما بينك وبين أولادك لكم مصطلح خاص، ولا مشاحة في الاصطلاح. ولو وصى شخص بحفر بئر فلا نحفر حوضا؛ لأن هذا خارج عن الاصطلاح العام، ففي الأحكام هذا شيء آخر، ولكن من ناحية التعارف اللفظي واتفاق الناس لكل قوم ما اصطلحوا عليه، فهم يصطلحون على ما شاءوا عليه، ولكن في الحقائق والأحكام لا يعرف إلا ما ثبت؛ إما بدليل الشرع، أو الطبع الذي هو الحقيقة الوضعية أو اللغة، والله تعالى أعلم. السؤال والدي كبير في السن، ومريض، ويترك بعض الصلوات، فهل يقضيها؟ ومتى تسقط عنه الصلاة؟ حكم ترك الصلاة أو بعضها لمن كبر سنه الجواب هذا السؤال فيه تفصيل، فإذا كان الوالد حين تركه للصلاة مدركا عاقلا؛ فحرام عليه أن يترك فريضة الله التي فرض عليه، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إلا لمن رخص الله له بالتأخير. أما إن كان مريضا فيصلي على حاله، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى ولو كان مريضا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمران بن الحصين رضي الله عنهما: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، والله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] . فلا يجوز أن يترك الإنسان الصلاة، وأما إذا كان الوالد -لا قدر الله- عنده خلل يغيب تارة ويرجع إليه عقله تارة، فإذا رجع إليه عقله خوطب بالصلاة، وإذا غيب فإنه لا يخاطب بها، وليس بملزم بالصلاة؛ لأنه في حكم المجنون الذي رفع عنه القلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: المجنون حتى يفيق) ، فدل هذا على أنه لا يخاطب إذا غيب وذهب عنه عقله، والله تعالى أعلم. الجد من جهة الأم محرم للزوجة السؤال هل الجد من جهة الأم محرم للزوجة؟ الجواب جد الزوج هم آباؤه من جهة أبيه، وآباؤه من جهة أمه، وهم محارم للزوجة؛ لأن الله تعالى قال: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] ، فذكر من المحرمات حليلة الابن، وحليلة الابن هي زوجة الابن، سواء كان مباشرا أو كان بواسطة، ولا شك أن الجد من جهة الأم زوجة ابن بنته تعتبر حليلة ابنه؛ لأن البنت ابن، قال صلى الله عليه وسلم عن الحسن: (إن ابني هذا سيد) ، وقد قال الله تعالى: {وحلائل أبنائكم} [النساء:23] ، فدل دليل السنة على أن ابن البنت ابن للجد، وإذا كان ابنا للجد؛ فدليل القرآن يقول في المحرمات {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23] ، فجد الزوج من أمه، وجده من أبيه، وجد جده وإن علا منهما، يعتبر محرما لزوجة ابن بنته وإن نزل، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، بدليل ظاهر كتاب الله عز وجل، وظاهر السنة، والله تعالى أعلم. من اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى بلده وأحرم بالحج فليس متمتعا السؤال من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده وحج من عامه، فهل يعتبر متمتعا؟ الجواب هذه المسألة بإجماع العلماء على أنه ليس يتمتع، فمن كان من أهل المدينة وجاء بعمرة في شوال أو في ذي القعدة أو في أول ذي الحجة، ثم رجع، ثم أحرم بالحج من ذي الحليفة، فالإجماع على أنه ليس بمتمتع؛ لأن الله يقول: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة:196] . ولذلك قال الأئمة كما أشار الإمام ابن المنذر وغيره: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196] أي: لم يسافر بعد عمرته، بمعنى: لم يرجع إلى بلده، وهذا لم يتمتع بعمرته الأولى؛ لأنه لما أدى العمرة رجع إلى بلده، وإنما يكون متمتعا لو أنه بقي بمكة وأنشأ الحج منها، فقد تمتع بسفر العمرة الأول فلزمه الدم، ولذلك لم يلزم أهل مكة؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من موضع الإحرام وهو مكة. أما بالنسبة لمن قال: يعتبر متمتعا، فهذا مذهب شاذ، وهو قول طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس، ولذلك قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد: وشذ طاوس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده! والقول الشاذ لا يفتى ولا يعمل به، فهو قول مهجور عند الأئمة سلفا وخلفا، فمن أدى العمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده، ثم أحرم بالحج من بلده فليس بمتمتع بإجماع العلماء، ومن عده متمتعا فقول شاذ يحفظ ولا يعول عليه، والله تعالى أعلم. حكم الطواف من داخل الحجر السؤال رجل اعتمر، وفي الشوط السابع من الطواف أراد أن يختصره فدخل من الحجر وأتم عمرته، فهل عليه شيء؟ الجواب هذه عمرة مختصرة، والله يقول: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة:196] ، فلا يصح هذا، والطواف لابد أن يتم بالبيت، ولذلك جمهور العلماء على أنه إذا دخل بين الحجر وبين البيت لم يصح ذلك الشوط الذي دخل فيه، والدليل على هذا: قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29] ، و (العتيق) : القديم، والمراد به ما كان على قواعد إبراهيم، وقواعد إبراهيم فيها شيء من الحجر كما هو معلوم، فالخمسة الأذرع إلى الستة الأذرع -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- تابع للبيت؛ فإذا دخل بين الحجر وبين البيت، فقد اقتطع جزءا من البيت ولم يستتم الطواف بالبيت. فالوصف بالتعتيق جاء لحكمة في كتاب الله عز وجل، ولذلك لم يقل: (وليطوفوا بالبيت) فقط؛ لأنه لو قال: (وليطوفوا بالبيت) فقط؛ لكان بالإمكان أن يحسب ذلك الشوط، والحنفية يتهربون من هذا الإشكال، ويقولون: العتيق؛ لأن الله عتقه من الجبابرة، وليس المراد بالعتيق القديم. والصحيح: أن البيت العتيق المراد به: ما كان على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلا يصح الطواف بين الحجر وبين البيت على أصح قولي العلماء وهم الجمهور، وعلى هذا: فيلزمه أن يعيد طوافه، وإن قيل بعدم صحة السعي إلا بعد الطواف فيلزمه إعادة الطواف والسعي، ثم يتحلل بعد ذلك، والله تعالى أعلم. السؤال في بعض الأحيان يكون غياب العامل ساعة أو أقل أو أكثر يضر بمصلحة العمل، فنخصم عليه نصف يوم تأديبا وردعا لغيره، فهل يجوز ذلك؟ حكم الخصم الجزائي على الموظف الجواب يقول صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر) ، أي: يجيء شخص فيقول له: أمني، فأعطاه الأمان بالله على أنه لا يفعل به شيئا، فإذا مكنه من نفسه غدر به وأضر به، أو أعطى عهده على أنه على بيعته للإمام أو ولي أمره ثم غدر، فهذا خصمه الله عز وجل، ومن كان خصمه الله فقد خصمه. وأما الثاني: (ورجل باع حرا فأكل ثمنه) . وأما الثالث: (ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) . وهذا رجل عمل عندك إحدى عشرة ساعة، فعليك أن تعطيه أجرة إحدى عشرة ساعة كاملة غير ناقصة، وإن غاب ساعة فتخصم عليه ساعة، لا تزيد ولا تنقص، وهذا هو القسط الذي أمرك الله به، والله تعالى يقول: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الأعراف:85] ، وهذا ظلم، فإذا كان قد عمل يوما ثم اخترم من اليوم جزءا فتأتي وتأكل من ماله، وهو من عرقه وتعبه ونصبه، بدون حق على سبيل التأديب، فهذا ليس بوارد وليس بصحيح. وبعض المتأخرين من العلماء اجتهد في هذه المسألة وقال: إنه يجوز من باب التعزير. ولكن هذا ليس بصحيح، فإن هذه نصوص واضحة، والنصوص الواضحة لا اجتهاد فيها، فالأجير له أجره كاملا، فلا يجوز أن ينقص من أجره شيئا، وإذا أردت أن تؤدبه فقل له: ما دمت بهذه المثابة فلا تعمل عندي، والواجب علينا أن ننظر بالعدل والإنصاف، فالعامل إذا غاب ساعة فانظر إن كانت عنده ظروف، وأنت تعرفه بالجد والاجتهاد والمحافظة، فاعلم أنه إن غاب وقصر فذلك بدون اختياره، وإذا قصر مرة فليسعه حلمك، والوفي الكريم هو الذي لا ينسى الفضل، والشخص الذي يحاسب الناس بهذه الدقة سيشدد الله عليه كما شدد على الناس، فينبغي على الإنسان أن يكون بعيد النظر، وخاصة مع هؤلاء الضعفاء المستأجرين المستخدمين، ولذلك فإن الله تولى أمرهم؛ لأن الغالب في الأجير أنه يكون ضعيفا، ولذلك قال: (أنا خصمه) ، فالله سبحانه هو خصيم هؤلاء، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل. فإذا استأجرت أجيرا أو عاملا وقام لك بعمل ولم يتمه، فأعطه حقه فيما قام به غير منقوص، وتلقى الله سبحانه وتعالى وأنت بريء من حقوق الناس. فليس هناك أعظم من حق إخوانك عليك، فقد يتحمل الشخص ذنوبا وسيئات فيما بينه وبين الله فيغفرها الله له في طرفة عين؛ لأنها من حقوق الله، والله يتجاوز عنها؛ لكن حقوق الناس لا يتجاوز الله عنها، ولا بد أن يسامح صاحب الحق، والغالب أن الضعفاء إذا أكل كدهم ونصبهم وتعبهم أنهم لا يسامحون، فينبغي على الإنسان ألا يخرج أحدا من هؤلاء الضعفاء إلا وقد وفى له أجره. ومسألة العقوبة بالتعزيرات هذه مسألة مقدرة بأشياء مخصوصة، منها ما ورد في الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله) ، فالذين قالوا بالجواز قاسوها على الزكاة، وهذا غير صحيح؛ لأن الحديث: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) ، فهذا نص جاء يستثني الزكاة؛ لأن الله يملك الناس وأموالهم، لكن الأجير لا تملكه وماله، بل تملك عمله ومنفعته، فإذا أعطاك العمل والمنفعة ناقصة بعض الشيء فأعطه بعض الشيء. والوقفة الأخيرة: يا أخي الكريم! ليسأل كل واحد منا نفسه، فقد يتأخر بعض الأحيان العامل وقتا يسيرا عن العمل، فيقيم صاحب العمل الدنيا ويقعدها على هذا التأخر، وقد يتأخر ابنه في شيء يرسله فيه فيحصل عند الابن بعض التساهل ويتأخر فيقيم الدنيا ويقعدها، وقد تتأخر زوجته فيقيم الدنيا ويقعدها، وهو لا ينظر إلى نفسه وهو يتأخر عن ركن من أركان دينه، وهي الصلاة، فإن الله قد فرض عليك أن تصلي مع الجماعة، فسل نفسك متى جئت وكبرت تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ لماذا يشدد الإنسان دائما في معاملة الغير وينسى نفسه؟! أذكر ذات مرة أنه حصل ظرف مع أحد الأشخاص فتأخر بعض من يقوم عليهم، فعاقبهم عقوبة شديدة، فقلت له: يا أخي! هذا لا يجوز، وليس هذا من حقك، فقد كانت عقوبة خارجة حتى عن الأصل الذي من حقه أن يعاقب فيه، فقلت: ليس ذلك من حقك، فقال: حتى يتأدب. فسألته: أنشدك الله ألا تتأخر عن الصلاة التي فرضها الله عليك؟ قال: بلى، فقلت: يا أخي! إذا كنت أنت تعذر نفسك في الصلاة وأنت تتأخر عنها، وأنت شبعان ريان تسمع نداء الله عز وجل، وأنت في أتم عافية، وعندك سيارة، ومع ذلك لا تدرك تكبيرة الإحرام ولا تؤدي حق الله كاملا، فتحاسب -بكل تشدد وبكل أذية- هؤلاء الضعفاء!! والله لا آمن أن يشدد الله عليك مثلما شددت عليهم. فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وليعلم أنه مثلما يعامل الناس سيعامله الله؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا كان يدين الناس، وكان يقول لأوليائه وعماله: إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه) ، فمثل ما تفعل فيمن تحتك يفعل الله بك. ومما ذكره الحكماء: أنك لن تجد رجلا يرفق بالضعفاء الذين من تحته إلا وضع الله له القبول فيمن فوقه، وثق ثقة تامة أن الله عدل، وتجد الذي يعسر على من تحته منكدة أموره ممن فوقه؛ لأن الله عدل، وهذا الكون لا يظن أحد أنه سدى، بل إن أزمته ومقاليد أمره بيد جبار السموات والأرض، والقسط بيده سبحانه يخفضه ويرفعه سبحانه وتعالى. فعلى الإنسان أن يدرك أن حقوق الضعفاء لا يتسلط عليها؛ بل تدفع إليهم كاملة، فإذا عمل عندي تسعة وعشرين يوما وترك يوما من الشهر أخصم عنه يوما واحدا، ولا أزيد، وإن نقصت في الخصم فجزاك الله خيرا، وإن تجاوزت عنه تجاوز الله عنك، إذا نويت وجه الله عز وجل وابتغيته. فمثل هذه الأمور أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فيها، وبالأخص في الأبناء والبنات والزوجات والأهلين، وكذلك العمال والخدامين والخدامات والمستأجرين من الضعفاء، فليتق الإنسان فيهم ربه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليضع نصب عينيه أنه تحت قدرة الله عليه. فقد جاء في الحديث الصحيح: أن أبا مسعود قال: (كنت أجلد غلاما لي؛ فلم أشعر إلا وبرجل من وراء ظهري يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله، قال: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله) . لقد كان الصحابة بمجرد وعظهم يوعظون ويتركون الذنب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (الله أقدر عليك) ، فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدرته عليه وقدرة الله، وهذا يدل على أن الله سيعامل الإنسان مثل معاملته مع الغير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح للخير، وأن ييسر بنا ولا يعسر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. السؤال ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) ؟ حكم صلاة وترين في ليلة الجواب قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثابت: (لا وتران في ليلة) يدل على مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمسلم أن يصلي وترين في ليلة ويقتصر عليهما؛ لأن الوتر ينبغي أن يكون آخر الصلاة حتى يكون العدد وتريا لا شفع فيه، فإذا صلى وترين في ليلة واحدة فقد شفع الوتر الأول بالوتر الثاني، وبناء على ذلك: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (لا وتران في ليلة) . المسألة الثانية: دل هذا الحديث على أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه لما نهى عن أن يوتر وترين، دل على أن الوتر الثاني مؤثر في الوتر الأول، ومن هنا أخذ جمهور العلماء رحمهم الله جواز نقض الوتر بالوتر، ثم بعد ذلك يصلي شفعا شفعا ثم يوتر، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فيما لو أوتر أول الليل ثم نام، ثم قام آخر الليل فإنه يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا) ، فلما قام آخر الليل وأراد تحصيل هذه السنة التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بجعل آخر الصلاة وترا، فإنه ينقض الوتر الأول بركعة، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر. المسألة الثالثة: قوله: (لا وتران في ليلة) ، هذا محمول على الوتر النافلة، فيخرج من هذا وتر الفريضة مع النافلة؛ لأن المغرب وتر، والوتر للنوافل وتر، فصارا وتران في ليلة، فالمراد من هذا الوتر في النوافل، وإلا هناك وتران: وتر المغرب، ووتر النافلة، فقال العلماء: إن المراد بالحديث وتر النافلة، والمغرب وتر الفرائض، فجعلوا المغرب وترا للفرائض، وجعلوا الوتر الشرعي وترا للنوافل. وفي الحقيقة: جعل المغرب وترا للفرائض محل نظر، لأنه لو كان هناك وتر للفرائض لكانت العشاء ثلاثا، لأن الوتر يكون آخرها، ومما يضعف هذا القول: أن الوتر يبتدئ بدخول وقت صلاة العشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم -وفي رواية: زادكم- بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) ، فدل هذا على أن وقت الوتر يبتدئ بصلاة العشاء. وفائدة هذه المسألة: أنك لو كنت في سفر وجمعت بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، وأردت أن تصلي الوتر فنقول: تأخر حتى يدخل وقت العشاء ثم صل الوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) . وقال بعض العلماء: قوله: (جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء) : وقوعا، وليس المراد وقتا، بحيث لو صلى العشاء متبوعة مع المغرب ثم أوتر، فقد وقع وتره ما بين عشائه وفجره، فيرخصون من هذا الوجه، والأحوط أنه ينتظر إلى دخول وقت العشاء. المسألة الرابعة والأخيرة: في هذا الحديث فضيلة للوتر؛ لأن الله وتر ويحب الوتر، وإذا صلى الوتر مع الوتر لم يتحقق له وتره؛ فأمر بأن يقتصر على وتر واحد تحقيقا لهذا الأصل، واعتبارا لهذا الفضل، والله تعالى أعلم. السؤال وردنا خطاب من مؤسسة الحرمين الخيرية حول جمع التبرعات لصالح إخواننا في الشيشان، ويأملون من فضيلتكم توجيه الحضور بالاحتساب في ذلك؟ دعوة من الشيخ لدعم المسلمين في الشيشان الجواب أولا: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك جهود الإخوة في معونة المحتاجين والمنكوبين، وأن يعينهم على ذلك، وأن يرزقنا وإياهم فيه الإخلاص لوجهه، فإن الأعمال مدارها على الإخلاص لوجه الله الكريم، وإن من أحب الأعمال وأعظمها ثوابا عند ذي العزة والجلال: تفريج الكربات، وإدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات، والاحتساب في ذلك مع وجود المشقة والعناء أجره عظيم عند الله. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله أعظم من العبد صدقته، وأعظم منه إحسانه وبره حتى لربما كف النار عن وجهه بنصف تمرة، فربما ينفق نصف تمرة لوجه الله، يحتسبها عند الله، فيجعلها الله له حجابا من النار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) . وفي الحديث الصحيح: (أن امرأة دخلت على عائشة وهي تحمل بنتين، فاستطعمتها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل بنت تمرة ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى بنتيها، فأطعمتها التمرة، فعجبت عائشة من صنيعها وإيثارها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبرها فقال صلى الله عليه وسلم -نزل الوحي علي من ساعته-: إن الله قد أوجب لها بها الجنة) . فيكف إذا كان إخوانكم وهم في شدة البرد والزمهرير يعانون وطأة الحروب، وفراق الأهل والأولاد والذريات، في نكبة وفاجعة لا يعلم قدرها إلا الله؟! فاحتسبوا بارك الله فيكم في تفريج كرباتهم، ومواساتهم في مصابهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. إلى الله العظيم فارج الهم كاشف الغم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما نتوجه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ونسأله بعزته وقدرته على خلقه، هو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، اللهم اجعل لإخواننا في الشيشان وفي كل مكان من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية. اللهم ثبت أقدامهم، اللهم سدد سهامهم، اللهم صوب آراءهم، اللهم اجمع شملهم يا حي يا قيوم! اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين حيثما كانوا يا ذا العزة والجلال! اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نبرأ إليك بعزتك وقدرتك، ووحدانيتك يا ذا الجلال والإكرام! نشكو إليك بغي الكفار على أوليائك وأهل دينك وطاعتك، اللهم اسلبهم عافيتك، اللهم اشدد عليهم وطأتك، اللهم أنزل بهم رجزك وعذابك يا إله الحق، لا إله إلا أنت. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوصايا) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (411) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - باب الموصى إليه لابد من توافر صفات في الموصى إليه تؤهله لأن يقوم بحقوق الأيتام على الوجه الأكمل الأتم، منها: الإسلام، والعدالة، والتكليف، والرشد، وغيرها من الصفات المعروفة لكامل الأهلية، وتصح الوصية إلى اثنين على تفصيل معروف عند العلماء. ولابد لصحة الوصية أن يكون الموصي مالكا لما أوصى فيه، فإن أوصى بما لا يملك بطلت الوصية. ويجب على الوصي تنفيذ الوصية كما أوصاه الميت، فإن ظهر شيء من الحقوق بعد تنفيذها لم يضمن شيئا من ذلك. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أحكام ومسائل تتعلق بصفات الموصى إليه أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الموصى إليه] . لقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بالشخص الذي يعهد إليه بتنفيذ الوصية، ولا شك في أن الوصية -عند بيان أحكامها ومسائلها- تفتقر إلى بيان الأمور التي ينبغي توفرها في الأشخاص الذين يعهد إليهم بتنفيذ الوصايا، فتحقيق المصالح ودرء المفاسد التي من أجلها شرع الله الوصية لا يمكن أن يكون على أتم الوجوه وأكملها إلا إذا كان الأشخاص الذين تناط بهم الوصايا ويناط بهم تنفيذها والقيام بها من الأشخاص الذين توفرت فيهم الصفات المعتبرة، ومن هنا اعتنى العلماء والأئمة رحمهم الله ببيان الصفات التي ينبغي توفرها في الموصى إليه، حتى لا يتساهل الناس ولا تضيع الحقوق، فإن الوصية إذا عهد بها إلى الشخص الذي ليس هو بأهل؛ ضيع حقوق الله عز وجل فيها، وربما أوصى الشخص بحق عنه، فضيع هذا الحق، وكذلك ضيع حقوق الناس، فلربما ضيع حقوق اليتامى وحقوق الأرامل إذا كان غير أهل. ومن هنا وجب بيان هذه المسائل، والاعتناء ببيان الشروط التي ينبغي توفرها في الموصى إليه. يقول رحمه الله: (باب الموصى إليه) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفات الشخص الموصى إليه، وما ينبغي عليه، وما يجب من الأمور التي تلزم ويلزم مراعاتها ممن يعهد إليه بتنفيذ الوصايا. ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الوصايا قد تشتمل على حقوق لله عز وجل، كمن وصى أن يحج عنه ويعتمر، أو وصى بأن يصام عنه صيام نذر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه) ، أو يوصي بحقوق من الكفارات والفدية في حجه أو عمرته، تكون لازمة عليه، أو يوصي بحقوق من كفارات أيمان، أو كفارات قتل أو ظهار أو جماع في نهار رمضان، أو غير ذلك، فهذه وصية مشتملة على حقوق الله عز وجل، وقد تشتمل الوصية على رعاية الأيتام، والإحسان في النظر في مصالحهم وما هم محتاجون إليه، وقد تشتمل الوصية على أمور أوصى بها من المستحبات؛ كالصدقات، والإحسان إلى المحتاجين والمساكين، فيوصي بثلثه للفقراء، ويعهد إلى شخص، ويوصي إليه أن يقوم بتنفيذ هذه الوصية. إذا: الوصية تتعدد وتختلف، وكل جانب من هذه الجوانب قد يصلح فيه شخص ولا يصلح فيه آخر، وقد يكون من تعهد إليه برعاية شئون الأيتام من بعد الموت والوفاة يحتاج إلى أن يكون خبيرا بالأسواق، خبيرا بالأموال، وقد تحتاج إلى شخص قوي يدفع الضرر عنهم، فأمور اليتامى تختلف، وأمور الوصية أيضا تختلف، فنظرا لاختلافها قد يوصي لشخص بشخص واحد، وقد يوصي لأكثر من شخص، فيجعل أحدهم لتنفيذ الثلث، ويجعل الثاني لرعاية مصالح اليتامى، ويجعل الثالث للقيام بحقوق واجبة عليه يقوم بأدائها، ويجعل شخصا رابعا لرد الأمانات ورد حقوق الناس؛ لأن فيه أمانة أكثر من غيره. المهم أن الشخص الموصى إليه لا بد أن تكون فيه صفات تتناسب مع هذه المهام، ومع هذه المصالح التي يريد تحقيقها، والمفاسد التي يطلب درءها، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص كما ذكرنا. قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد ولو عبدا] . من صفات الموصى إليه: أن يكون مسلما رجلا كان أو امرأة قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم] . قوله: (تصيح وصية المسلم) أي: أنها معتبرة شرعا، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر. والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أيا كانت هذه الوصايا. أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء. وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون} [التوبة:10] ، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثا ولا أصدق منه قيلا، وهو القائل: {والله أعلم بأعدائكم} [النساء:45] -أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، و (الإل) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و (والذمة) : العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثا وأصدق قيلا. فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريبا، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم. ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتبا نصرانيا عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران:118] . فقوله تعالى: (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يألونكم خبالا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم. (ودوا ما عنتم) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و (ما) : مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم. وكذلك أيضا دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم. فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف) ، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ (كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكورا وإناثا، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع. وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها. فإذا أحس أن هناك خوفا يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلا، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعدا أو معينا لها. فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف، وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا) ، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك. من الموصى إليه: أن يكون مكلفا قال رحمه الله: [إلى كل مسلم مكلف] . قوله: (مكلف) أي: بالغ عاقل مختار، فلا يكون صبيا ولا مجنونا ولا مكرها. فأما المجنون والصبي؛ فإن كلا منهما لا يستطيع أن يلي أمر نفسه، فمن باب أولى وأحرى ألا يلي أمور غيره، ولذلك فإن الصبي يحجر عليه، فلا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا إذا كان مأذونا له على التفصيل الذي تقدم معنا في باب الحجر. إذا: لا يصح أن يعهد بالوصية إلى صبيانه، أو إلى الصغار الذين هم دون البلوغ، لكن يجوز أن يقول: وصيت أو عهدت إلى أخي فلان أن يقوم بالنظر على أيتامي، فإذا بلغ ابني محمد، فإنه هو الوصي من بعده. فقد جعل الوصية إلى أخيه، لكن قبل أن يبلغ ابنه، فإذا بلغ ابنه فإنه وصيه، فعلى هذا الوجه يصح أن يكون عهده إلى صبي، ويكون العهد في الأساس إلى كبير بالغ، مستوف للشروط، مما يجعل الصبي من بعده تعليقا، وهذا لا بأس به، وقد اختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من منعوا من ذلك، والصحيح جوازه؛ لأن هذا النوع من الوصية إلى الصبي إنما هو عند بلوغه، فتكون الوصية والقيام بمصالح أبنائه وبناته من بعده لهذا الصغير إذا بلغ. وكذلك أيضا يشترط: الاختيار، فلا يصح أن يكون الموصى إليه مكرها، فلو هدد الموصي شخصا، وفرض عليه أن يكون وصيا له من بعده، ووافق؛ فإنه لا تصح الوصية؛ لأنه يشترط فيه أن يكون بالغا عاقلا مختارا. وهذا هو المعتبر لأهلية التكليف. وبالنسبة للمجنون يستوي فيه أن يكون جنونه متقطعا أو مستديما؛ لأنه في بعض الأحيان يختلف الأمر في الذي جنونه متقطع، لكن بالنسبة للوصية لا يصح أن يعهد إلى مجنون، سواء كان جنونه مطبقا أو متقطعا، فلو كان يجن أحيانا ويفيق أحيانا، وعهد إليه في حال إفاقته؛ فإنه لا يصح هذا العهد، فالعهد إلى المجنون باطل أصلا، وبغير خلاف بين العلماء رحمهم الله. لكن لو أنه عهد إلى شخص أن يقوم بالنظر في وصيته من بعده بتنفيذها ورعاية شئون ذريته من بعده، ثم جن قبل أن يموت الموصي، بطلت الوصية، وحينئذ يعهد إلى شخص آخر ويقيمه مقامه. من الموصى إليه: أن يكون عدلا قال رحمه الله: [عدل] . العدل: هو الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم: العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا وكبائر الذنوب: كبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة، وكذلك كل ذنب وردت عليه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، أو توعد عليه بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك. مثل: شهادة الزور، وعقوق الوالدين، والشرك بالله -والعياذ بالله- فهذه أكبر الكبائر، ومذهب جمهور السلف والخلف رحمهم الله أن الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، خلافا لمن قال: إن الذنوب كلها ليس فيها صغير ولا كبير، وأنها مستوية، والصحيح أن منها ما هو كبير وما هو صغير؛ لأن الله يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء:31] ، فأخبر أن الذنوب منها كبيرة، ومنها دون هذه الكبيرة، وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم:32] ، فأخبر أن الذنب منه صغير ومنه كبير، ومنه اللمم: وهو صغار الذنوب، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ... ) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل المكفر الصغائر بشرط اتقاء الكبائر، فدلت هذه النصوص كلها على أن الذنوب فيها صغير وكبير. ومن هنا قال العلماء: الكبيرة موجبة للفسق، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات:7] ، فبين سبحانه وتعالى انقسام المعاصي إلى ثلاثة أقسام: الكفر: وهو أعظمها وأكبرها، والفسوق: وهو الذي بين الصغائر وبين الكفر والخروج من الملة، وذلك بارتكاب الكبائر، والعصيان: الذي يكون بارتكاب صغائر الذنوب، والفسوق: هو الذي تنتقض به العدالة، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، فالفاسق خارج من طاعة الله عز وجل، مجانب لها، وذلك بارتكابه لكبير الذنب، أو إصراره على الصغير، فإذا أصر على صغيرة، وأصبح إصراره ومداومته يعادل في الذنب الكبيرة لو فعلها مرة، فإن حكم هذه الصغيرة يكون في حكم الكبيرة، فتسقط عدالته، ويكون جرحه مؤثرا فيه. وقوله (عدل) أي: يشترط أن يكون الوصي عدلا، ولا تصح الوصية إلى فاسق. وفي الحقيقة تفصيل عند العلماء: فالفاسق له أحوال: فتارة يكون فاسقا بارتكابه بعض الذنوب، ولكنه في نظره بالوصية وقيامه على الوصية يحكم القيام بها على أتم الوجوه وأكملها، فحينئذ فسقه لا يؤثر في الوصية، فالحنابلة رحمهم الله عندهم يرون أن الفاسق لا يولى؛ وذلك لأن الفاسق إذا نقض حقا من حقوق الله بارتكاب الكبيرة، فلا نأمن منه أن يضيع حقوق عباد الله، ومن هنا لا تقبل شهادته، ولم يجز تنفيذ العهد إليه بتنفيذ الوصية؛ لأنه كما ضيع حق الله لا يؤمن منه أن يضيع حقوق عباده، وذلك من باب أولى وأحوط. ومن أهل العلم من قال: إننا نشاهد من الفساق من يرتكب بعض الأمور، ولكنه لا يخل بديانته ودينه في الأمور الأخرى، فتجده يشرب الخمر، ولكنه لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخون أمانته، ولا يمكن أن يضيع حقا من الحقوق، لكن الله ابتلاه بشرب الخمر، وقد يكون -والعياذ بالله- مبتلى بزنا أو فسوق آخر، ولكنه محافظ على الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث صدق، وإذا وعد وفى، وإذا اؤتمن لم يخن. فقالوا: إنه قد يكون عند الشخص تقصير يؤثر في عدالته، ولكن نشاهد منه الصدق في قوله، والأمانة في فعله، ونجد عنده التحفظ، وهذا ابتلاء ابتلي به في جانب من دينه، لا يستلزم أن يسري الحكم إلى ما عداه. والحق هو مذهب الجمهور، والتفصيل فيه قوة؛ أي: إذا كان الفاسق ممن يؤثر فسقه في الوصية؛ فلا شك أنه يجتنب ولا يعهد إليه، وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الوصية، والغالب أنه يقوم بالوصية؛ كأن يكون قريبا كعم الأولاد وخال الأولاد، وعنده من الشفقة والرحمة ما يغلب على الظن أنه ينفذ الوصايا على أتم الوجوه وأكملها؛ فإنه لا بأس بالوصية إليه. فالتفصيل في هذا أقوى، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. من صفات الموصى إليه: أن يكون رشيدا قال رحمة الله: [رشيد] . ينقسم الرشد إلى: رشد الدين، ورشد الدنيا. فرشد الدين: هو الإيمان، والذي يكون منه صلاح الإنسان واستقامته، كما قال الله تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256] ، وسمي الرشد رشدا؛ لأن الإنسان يصيبه فيه القوام والسداد في أموره المتعلقة بدينه. وأما رشد الدنيا: فهذا يكون في مصالح الدنيا، ويضبطه العلماء رحمهم الله بوصفين فيقولون: الرشيد في الدنيا، هو الذي يحسن الأخذ لنفسه، والإعطاء لغيره، فإذا أراد أن يبيع شيئا باعه بقيمته، فلا يغش ولا يضحك على أحد، فلو أراد أن يبيع بيتا أحسن الإعطاء لغيره، فالبيت قيمته مثلا مليون، فيبيعه بالمليون وزيادة، فهذا رشيد، لكن إذا كانت قيمته مليون، فيبيعه بثمانمائة ألف، فهذا غير رشيد؛ بل سفيه، ولا يحسن أن يولى السفيه النظر في المصالح المتعلقة بالأموال؛ لأنه محجور عليه في تصرفه في ماله، فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، كما قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5] . وقد أشار الله عز وجل إلى رشد الدنيا في الأموال بقوله سبحانه: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا} [النساء:6] أي: وجدتم فيهم الرشد؛ لكونهم يحسنون الأخذ لأنفسهم والإعطاء لغيرهم. فلا يجوز للمسلم أن يولي على أمواله من بعده من لا يحسن النظر فيها، فلو ولى سفيها أو طائشا أو أحمق لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره، فقد ضيع الأمانة، وضيع حقوق ورثته من بعده، والغالب من مثل هذا أن لا تتحقق به مصالح الوصية، ولا تندرئ به مفاسدها، بل تزداد المفاسد أكثر مما هي عليه. فبين رحمه الله أنه يشترط في الشخص الذي يولى في الوصية أن يكون رشيدا، وهذا من التصرفات المالية. حكم الوصية إلى العبد قال رحمه الله: [ولو عبدا] . (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، والعبد: هو الرقيق، وبين بهذا أنه يجوز أن يعهد بالوصية إلى الرقيق، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن العبد لا يكون وصيا؛ لأنه لا يلي أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره. لكن المصنف هنا يقول: إنه يولى العبد ويستأذن سيده، فإذا أذن سيده له كان وصيا. وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه إذا أذن له سيده لا نضمن أن يموت سيده، فينتقل العبد من الإذن له بالانشغال في مصالح ورثة الموصي وقيامه على الوصية ينتقل إلى ورثة سيده، والوصية تحتاج إلى وقت، وهذا فيه تغرير بحقوق الأيتام، وحقوق الأرامل، وما المقام عليه بالوصايا، فالوصية إلى العبد فيها مخاطرة؛ لأن هذا العبد في الأصل جعله الله ملكا ليمين سيده، ومشغول بخدمة سيده، فلو أن سيده أذن له الآن فربما باعه في الغد، وإذا باعه فقد باعه إلى من لا يأذن له، فهذا تغرير بالوصية، ومخاطرة بها والصحيح هو قول من قال: إن العبد لا يلي أمر الوصية، والمسألة فيها ثلاثة أقوال: فمنهم من منع مطلقا، ومنهم من أجاز، ومنهم من فصل، فالذين منعوا مطلقا هم الشافعية، والذين أجازوا هم الحنابلة، ومعهم المالكية، والذين فصلوا هم الحنفية، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يعهد إلى عبد نفسه، كما كانوا في القديم، إذا كان عنده أولاد صغار وعنده عبيد، وفيهم عبد صالح ودين ومستقيم وأمين، فيقول له: قم على شئون ورثتي من بعدي، فيعهد إليه بوصاياه من بعده، وفعلا يكون على أحسن وأتم وأكمل الوجوه، ولكن الأمر لا يخلو أيضا من نظر؛ لأنه إذا عهد إلى هذا الرقيق، فإن أحد الأبناء سيكبر ويبلغ؛ وحينئذ سيكون هذا العبد ملكا له، فهو وليه من وجه، ومولى عليه من وجه آخر، فتلزمه طاعته، ويكون تحت أمر الصبي؛ لأن الصبي يملكه، ومن حقه أن يأمره وينهاه. إذا: القول بالتفصيل من ناحية شرعية فيه نظر، والصحيح: أن الرقيق لا يكون وليا في الوصايا؛ لأنه لا يلي على نفسه، فمن باب أولى أن لا يلي على غيره. قال رحمه الله: [ويقبل بإذن سيده] . أي: يقبل الوصية بإذن سيده، فليس له قبول مطلق، وإنما يقيد قبوله بإذن السيد، فإذا أذن السيد له أن يقوم بتنفيذ وصايا هذا الموصي؛ صح، وإلا فلا. حكم الوصية إلى اثنين قال رحمه الله: [وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيدا اشتركا] . هذه المسألة صورتها: أن يقول لزيد: أنت وصيي من بعدي، فيعهد إليه، ثم بعد ذلك بقليل أو كثير من الزمان يقول لشخص آخر: أنت وصيي من بعدي، فهل الوصية الثانية ناقضة للوصية الأولى، أم أن الوصية الثانية مشتركة مع الوصية الأولى؟ الثاني هو الأقوى: أن الوصية الثانية ليست ناقضة للوصية الأولى؛ لأنه لو أراد نقض الوصية الأولى؛ فإنه ينبغي أن يكون نقضها صريحا بينا، كما أن إثباتها وقع صريحا بينا، ولا يمتنع أنه قصد الاثنين؛ لأنك ربما عهدت إلى شخص واحد وأموالك قليلة، ثم طرأت أموال أخرى كثيرة يغلب على ظنك أن فلانا وحده لا يقدر على القيام عليها، بل يحتاج إلى من يعينه، وربما عهدت إلى شخص في حال، ثم وجدت فيه ضعفا بعد فترة، فاحتجت أن تقرن إليه شخصا آخر يعينه ويساعده في حال آخر، فالذي يظهر أنه يعتبر وصيا ثانيا؛ وفي هذه الحالة يشترك الاثنان. وهذا إذا وصى لوصي ثان بعد وصي أول. فصورة مسألتنا: أنه إذا اتفقا في المكان الذي وصي به، مثل أن يقول: أنت وصيي من بعدي في رد ودائعي، والقيام على أيتامي، وصرف الثلث. إلخ، فيعطيه وصية مطلقة لجميع أموره وشئونه، ثم يقول للثاني نفس الذي قاله للأول، فحينئذ لا إشكال؛ فالوصية الأولى عامة، والوصية الثانية عامة، فيشتركان في العموم. الصورة الثانية: أن تكون الوصية الأولى عامة، والثانية خاصة، كأن يقول له: أنت وصيي من بعدي في جميع أموري، ثم بعد ذلك يقول لشخص ثان: أنت وصيي من بعدي في رعاية أموال أيتامي، فحدد له فقط رعاية أموال اليتامى، فيكون الثاني مشاركا للأول في هذا الخاص الذي ذكره الآن، ولا يشاركه في غيره، فصورة المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله تقع إذا كانت الوصيتان فيها عموم، هذه حالة. والحالة الثانية: أن يكون في الوصيتين خصوص، لكل واحد منهما خصوص موافق، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، ثم يقول للثاني: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، لكن لو قال للأول: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، وقال للثاني: أنت وصيي من بعدي في الحج عني، أو في تقسيم الثلث، فاختلفت الوصيتان، فحينئذ هذا وصي في رعاية الأيتام، وهذا وصي في تنفيذ الثلث، فلا يشتركان. إذا صورة المسألة: أن يكون لفظه في الوصية الأولى موافقا للفظه في الوصية الثانية، فإن اختلفا، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون بينهما عموم وخصوص، فحينئذ يشتركان في الخاص، وينفرد الأول بالعام، وإما أن يفترقا فيكون لكل منهما أمر لا يكون للآخر؛ فحينئذ لا يشتركان، وكل منهما ينفذ وصيته فيما اختص به من الأمور التي أناطها به الموصي. حكم انفراد أحد الوصيين بتصرف لم يجعل له قال رحمه الله: [ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له] . أي: لم يجعله له الموصي، بمعنى: أن الاثنين يشتركان في الوصية إذا كانت عامة، فلو أراد أحدهما أن يبيع بيتا من بيوته بعد وفاته؛ فنقول له: ليس من حقك أن تبيع البيت حتى يأذن الوصي الثاني، فلا بد من اتفاق كلمة الاثنين على أن المصلحة في البيع حتى يباع، أو يتفقان على أن المصلحة في عدم البيع فيبقى البيت، أو يتفقان على أن المصلحة في تأجير بيوت اليتامى فتؤجر. إذا: لا بد أن يكون تصرفهما معا، فلو أن أحدهما أجر دون الآخر، وبدون رضاه أو إقراره؛ فإنه لا يصح ذلك، حتى يوافق الآخر؛ لأنه عهد إليهما معا، فلا يصح تصرف أحدهما بدون رضا من الطرف الثاني. من شروط صحة الوصية أن تكون في تصرف معلوم يملكه الموصي قال رحمه الله: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر في صغاره] . قوله: (ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم) هذا هو الشرط الأول، والشرط الثاني: (يملكه الموصي) ؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، والوصية بالمجهول فيها غرر، ولا يمكن أن تتحقق بها المصلحة، ولا أن تدرأ بها المفسدة، وإذا عهد إليه، فلابد أن يحدد ما عهد إليه، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رد المظالم -الحقوق إلى أصحابها- فتقضي عني الديون، وترد الودائع، والأشياء التي استعرتها، مثال ذلك: شخص له مكانة في قومه، فاستعار من أناس أشياء، أو عنده أمانات وضعها عنده أناس، فقال: هذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان. كذلك أيضا بينه وبين أشخاص خصومات ومظالم وقعت، فقال: يا فلان: أنت وصيي في رد المظالم والحقوق إلى أهلها، وقضاء ديوني، ورد العواري والودائع إلى أصحابها، فحينئذ تكون الوصية واضحة ومعلومة وبينة. كذلك أيضا من حقه أن يوصي بهذا الشيء، فيوصي بالحج والعمرة عنه، ويوصي كذلك بولاية مصالح أيتامه؛ لأنه في الأصل هو الذي يطالب بالحج، وفي الأصل هو الذي يطالب بالعمرة، وفي الأصل هو الذي يطالب بالكفارات وبالفدية، فيجوز أن يقوم غيره مقامه؛ لأنه كالوسيط. لكن لو لم يكن من حقه أن يتصرف في هذا الشيء، فليس من حقه أن يوصي به، فلو أوصى بأن يتصرف في أموال أخيه، فقال له: أنت وصيي من بعدي أن تبيع مزرعة أخي، وليس من حقه هو أن يبيعها، فمن باب أولى أن لا يكون للوصي ذلك. إذا: يشترط في الشيء الذي يعهد به إلى الوصي أو يوصى به: أن يكون مما للموصي فيه حق التصرف، وعلى هذا فالمرأة ليست بمسئولة عن أيتام، وإنما ولاية النظر لمن أقامه أبوهم أو أقامه الحاكم والقاضي للنظر في مصالحهم، فهي لا تلي أمورهم بالأصل، فمن باب أولى أن لا تقيم غيرها مقامها. قال رحمه الله: [كقضاء دينه] . وذلك كأن يقول له: فلان له علي مائة ألف، وفلان له علي خمسون، وفلان له علي كذا، وفلان أخذت منه سيارة، ورد الودائع والعواري والأمانات؛ فكل هذه أمور خاصة ومعلومة. قال رحمه الله: [وتفرقة ثلثه] . وكذلك تفرقة الثلث، كأن يقول له: ثلث مالي اجعله صدقة على الفقراء، أو نصف الثلث يكون صدقة للفقراء، والنصف الثاني يكون في سبيل الله، ويقوم فلان بصرف هذا الثلث، والقيام عليه، فحينئذ يكون هذا الوسيط مطالبا بتنفيذ ما ذكره الميت والموصي في وصيته من تخصيص نصف الثلث للفقراء والمحتاجين، والنصف الثاني يصرفه في سبيل الله، على الشرط الذي اشترطه الميت والموصي. قال رحمه الله: [والنظر لصغاره] . أي: يقوم على أموالهم فينظر فيها، والنظر في الأيتام: إطعامهم بالمعروف، وكسوتهم بالمعروف، وإذا احتاجوا إلى دواء أو علاج قام بعلاجهم، وإذا احتاجوا إلى سيارة تنقلهم؛ استأجر من ينقلهم، أو اشترى لهم سيارة، واستخدم أو استأجر من يقوم بنقلهم، وإذا احتاجوا لشراء أرض أو بيت يؤويهم ويسكنون فيه يقوم هو بشراء البيت، ويبحث لهم عن سكن، وينظر في الأصلح، هل يشتري سكنا غاليا أو وسطا أو أدنى. هذا كله أسند إليه النظر فيه، فهو مسئول أمام الله عز وجل عنهم، فينزل نفسه منزلة والدهم، شفقة، وإحسانا، وبرا، فيعطف عليهم، ويقوم برعاية مصالحهم؛ لأنه من أعظم الأشياء أن شخصا ينزله كمنزلته في النظر لأولاده، وهذا أمر ليس بالهين، وثقته ليست باليسيرة. فالعبد المؤمن يخاف من الله عز وجل، ويتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة، وينصح ويحس أن هؤلاء الأيتام كأنهم أولاد له، فيحسن النظر فيهم، ولذلك ضرب السلف الصالح والفضلاء والصلحاء المثل السامي في حسن النظر للأيتام، ورعايتهم الأيتام الذين عهدوا إليهم برعايتهم، حتى جاء في بعض القصص أنه كان بعض الصالحين يقوم على رعاية أيتام أخيه أكثر من رعايته لأولاده، مع أنه لا يضيع حقوق أولاده، لكنه يشفق عليهم الشفقة ويرحمهم الرحمة التي بلغت الأوج والكمال في حسن النظر والتفقد، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا زار أختا له وعندها أيتام، يتحرج حتى من أكل ضيافتها، خشية أن يكون آكلا لمال اليتيم، وهذا كله من الورع والخوف من الله عز وجل؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم، فالذنب الذي بين العبد وبين ربه، لو استغفر ربه غفر له، لكن حقوق الناس لابد فيها من القصاص، فلا يمكن أن تزول قدماه حتى يقتص منه؛ فيؤدي الذي عليه ويأخذ الذي له. {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء:47] ، وقال تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256] ، فيأتي بها الله جل جلاله الذي هو أحكم الحاكمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، فإذا كانت لليتيم فأمرها عظيم، وإذا كانت على وجه الأمانة فأمرها أعظم؛ لأن الإنسان إذا أقيم على أيتام وعلى وصية، وقال له الميت: إني قد عهدت إليك بكذا وكذا، ووافق وقبل، فإن عليه أن يفي بهذا العهد الذي بينه وبين أخيه المسلم أو قريبه. فإذا كانت من القريب فعهدها أعظم، فالواجب حينئذ أن يحسن النظر في مصالح هؤلاء الأيتام، والنظر في مصالحهم يشمل: إطعامهم، وكسوتهم، وإيواءهم، ونقلهم، ونحو ذلك من المصالح، فلو ترك لهم والدهم سيولة من المال، ورأى الموصى إليه أن هذا المال لو بقي لأكلته الزكاة، فرأى من المصلحة أن يشتري لهم أراضي، أو يشتري لهم عمائر، أو يستثمر المال ويتاجر فيه، فقد أحسن النظر في مصالحهم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكله الصدقة) ، فدل هذا على أنه ينبغي للولي والوصي أن يحسن النظر في شئون الأيتام، فيحقق المصالح المطلوبة، ويدرأ المفاسد التي يخشى منها، فلو وجد مثلا أنه ترك لهم أرضين، والسوق يخشى أن يكسد، فخاف من كساده، فليبادر ببيعها، وإذا كان هناك أشياء تركها لليتامى يخشى منها الضرر، كأن يكونوا في مكان بعيد عن المدينة، وفيه ضرر عليهم، ويخشى عليهم، قربهم إذا خشي على أعراضهم، وأبعدهم عن الأماكن التي فيها فساد وتأثير على أخلاقهم. المهم أنه ينصح لأخيه المسلم في ذريته من بعده، ومن كفل اليتيم وأحسن الرعاية له، كان له عند الله حسن الجزاء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) ، وكان بعض العلماء يقول: (ما رأيت أحدا وفى بمسلم في أيتامه إلا أحسن الله له العاقبة في ولده) ، فما رأى إلا خيرا، وجعل الله له قرة العين، وبهجة النفس وسرورها في ولده {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60] ، وما ينتظره عند الله أعظم وأكبر، فلا شك أن القيام على الوصايا وحسن الرعاية لها وحسن النظر فيها، من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل. حكم وصية الموصي فيما لا يملكه قال رحمه الله: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي، كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر، ونحو ذلك] . لأن هذا ليس إليها، وإنما لمن ولاه والدهم؛ لأنه حق متعلق بالعصبة، وهم الذين ينظرون في مصلحة هؤلاء الأيتام. لا يجوز للموصى إليه التصرف إلا فيما أوصي إليه قال رحمه الله: [ومن وصي في شيء لم يصر وصيا في غيره] . لأن الوصية اختصت بذلك الشيء، فلا تنصرف إلى غيره، فلو قال له: أوصيت إليك برعاية أيتامي، فلا يقم بتفريق الثلث، ولو قال له: بتفريق الثلث، فلا يقم برعاية الأيتام، وليس له دخل في موضوع اليتامى. إذا: تتقيد الوصية إن قيدها الموصي، وتكون مطلقة إن أطلقها. قال رحمه الله: [وإن ظهر على الميت دين يستغرقه بعد تفرقة الوصي لم يضمن] . عدم ضمان الوصي ما ظهر من الحقوق بعد تفرقة الوصية قوله: (بعد تفرقة الوصي) أي: للمال، وصورة المسألة: لو كان الدين مائة ألف، وترك تسعين ألفا أو ترك مائة ألف، ولكن هذا الدين لم يكونوا عالمين به، وقام الموصى إليه بتفريق الثلث كما أمره الموصي، وأخذ الثلثين وقضى بهما، حينئذ يرد سؤال هو: لو ظهر هذا الدين فهل يطالب باسترداد الثلث؟ لأنه هو الذي فرقه، وهو الذي صرفه. نقول: لا يضمن؛ لأنه عهد إليه بتفريقه، فقام بالتفريق، فالضمان يكون على الميت وليس على الموصى إليه؛ لأن الموصى إليه نفذ ما أمره به الموصي؛ ولم يتعد، واليد التي قامت بتفريق هذا الثلث يد مأذون لها شرعا بهذا التفريق، فيتحمل المسئولية الميت وهو الموصي، وتكون هذه الديون باقية لسدادها، ويتحمل الورثة سداد الدين على الأصل الذي تقدمت الإشارة إليه في سداد الدين. تصرف الوصي في الثلث إذا خول في التصرف فيه قال رحمه الله: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل له ولا لولده] . هذه المسألة فيها خلاف عند العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فهو يضعه حيث شاء. فلو وضعه في جيبه، فقد شاء أن يضعه في جيبه، حيث جعل له الخيار المطلق، وهذا لفظ الرجل وكلامه، فينفذ هذا القول، ومن حقه لو أخذها لنفسه إن كان محتاجا، أو رأى أنه أقرب الناس منه فأخذ هذا المال، فإنه يكون له ذلك. وقال بعض العلماء: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فمن حقه أن يصرفه لولده، لكن لا ينتفع هو لنفسه، وقد أورد هذين القولين الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني احتمالا، أي: ما يحتمله هو، وقال: إنه يعطي أولاده ولا يأخذ هو؛ لأنه جعله مفرقا للمال ولم يجعله آخذا؛ لأنه قال له: ضعه؛ فحينئذ فهمنا من هذا أنه موكل بتفريق المال، وليس موكلا بأخذه. ومن أهل العلم من قال: لا يأخذ هو ولا أولاده، حتى ولو ذكر صفة تنطبق عليه، بحيث لو قال: ضع ثلثي للفقراء -صدقة للفقراء- وخذ هذا الثلث ووزعه للفقراء والمحتاجين، وهو فقير ومحتاج، قالوا: لا يأخذ لا هو ولا ولده، مع أن الصفة موجودة فيه، والحقيقة أن الإمام ابن قدامة أشار في هذه المسألة إلى احتمالات جيدة، منها: أنه ينظر إلى دلائل الحال والقرائن التي يفهم منها أنه قصد أن يقوم بالتفريق، فلا يأخذ هو، ولكن من حقه أن يعطي قرابته بدون محاباة. ثانيا: أن تكون هناك قرائن تدل على أنه فوضه، إلى درجة أنه لو أراد أن يأخذ فإنه يأخذ، والأورع أن لا يأخذ، وأن يجتنب هذا، ومن ذلك: مسألة التوكيل في الزكاة، كأن يقول له: خذ هذه المائة ألف واصرفها للمساكين والفقراء، ففي هذه المسألة لا شك أنه ليس من حقه أن يأخذ؛ لأنه قال له: خذ هذه المائة واصرفها على للفقراء والمساكين، فلا يشك في أنه وكيل، والزكاة عبادة صرفت؛ لأن صاحبها نوى أن تصرف للفقراء والمساكين من غيره؛ لأنه قال له: اصرفها للفقراء والمساكين، واللام للتخصص، ولو قصده لقال له: خذ منها؛ لأنه يعلم أنه فقير، أو قال له: خذ منها أنت والفقراء والمساكين، لكن عندما لم يصرح بذلك فهمنا من ذلك أنه وكيل بالصرف، وليس له استحقاق، ففي هذه الحالة لا يجوز للذين يقومون بتوزيع أموال الزكاة أن يأخذوا منها. ومن العجيب أن بعضهم يقول: إنهم من العاملين عليها، وهذا خطأ واضح؛ لأن العامل على الزكاة في جلبها لا في تفريقها، العامل على الزكاة إنما يكون في جلبها، وهم السعاة الذين كان يبعثهم الإمام لأخذ زكاة الإبل والبقر ونحوها من بهيمة الأنعام، وزكاة الحبوب والثمار والخارج من الأرض، فهؤلاء يأخذون على التفصيل الذي تقدم معنا في كتاب الزكاة، أما الذي يفرق الزكاة ليس له من حق، وقد نص الجمهور رحمهم الله على هذا، فأمثال هؤلاء موكلون بالتفريق، وليس لهم يد على المال أن يأخذوا منه، فعليهم أن يتقوا الله عز وجل. ومن هنا تأتي المسألة في استثمار أموال الصدقات، واستثمار أموال الزكوات، ففي بعض الأحيان تكون الأموال لجهة خيرية، فالذين أعطوا المال للجهة الخيرية، لم يعطوه وكالة أن يتاجروا في هذا المال، وإنما أعطوهم المال وكالة في إعطائه للمحتاجين، وحينئذ ليس من حقه أن يبيع أو يشتري بهذا المال، ولو لمصلحة المحتاج؛ لأنه لم يوكله رب المال ولم يوكله المحتاج. فحينئذ لا يصح في الأموال التي توضع في الصدقات إلا إذا استؤذن أصحابها، فيقال لهم: هذه صدقة مستثمرة، فالذي يقترح على الجمعيات الخيرية وعلى جمعيات البر ونحوها، أنها إذا أرادت أن تستثمر الأموال في الأسواق الخيرية أن تضع بندا خاصا، وتقول: صدقة مستثمرة، إذا وضعت هذا فكل من يضع يعلم أن الصدقة ستستثمر، ثم إن الشخص الذي يضع المال وقصده أن يصل إلى الفقير وإلى المحتاج، فمراده أن يصل على أسرع ما يمكن؛ لأن هذه هي النصيحة؛ لأن الصدقة إذا وصلت إلى المحتاج، نماها الله عز وجل لصاحبها منذ أن تصل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يتلقى الصدقة بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها لعبده ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه) ، والفلو: هو صغير الخيل، كما ثبت في صحيح مسلم. فهذا الحديث يدل على أن الوكيل الذي يوكل بصرف الأموال لا ينبغي له أن يتأخر فيها، ولا ينبغي له أيضا أن يصرفها كمعاشات أو نحوها لشخص يقوم بصرفها؛ لأنه في الأصل وكل بصرفها، ولم يوكل بإعطائها إلى شخص غير المحتاج وغير المسكين. وهذا أمر واضح وبين، ولذلك ينبغي على كل من يلي أمثال هذه الصدقات أن يتقي الله عز وجل، وأن يرجع إلى العلماء، وأن يستبين من أمره، وأن لا يجتهد من عند نفسه، فيتقحم النار على بصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- بل عليه أن يتقي الله في هذه الأمانة، وأن يحسن القيام فيها؛ فمن وكله بالصرف يصرفه، ومن وكله باستثمار أمواله يستثمرها بالمعروف، على الوجه المعتبر فيها شرعا. قال رحمه الله: [ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي، جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته، وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره] . من يتولى تركة الميت إذا لم يوجد حاكم ولا وصي هذه المسألة تشتهر الآن في أماكن الأقليات، حيث يكون في بلد فيه مجموعة من المسلمين، وليس هناك قاض ولا حاكم مسلم، ولم يعهد هذا الميت بأيتامه إلى أحد ولم يوص، فحينئذ من يتولى؟ ننظر، فإذا كان هناك إمام يصلي بهم، أو طالب علم، وعنده علم ومعرفة بمثل هذا، فهو الذي تناط به مصالح أمثال هؤلاء؛ إذا كان طالب علم، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية، وكان أهلا لولاية أمره، فيلي أمورهم في مثل هذا: ففي النكاح يزوجهم، وكذلك في أمور المصالح التي تقع أو الخصومات التي تقع بينهم، إذا كان عنده من العلم ما يؤهله لذلك؛ وإلا رجعوا إلى العلماء فاستفتوهم. أما بالنسبة للنظر في ماله، فإنه يليه أي واحد من المسلمين ممن يعلم حاله، ويمكنه أن يقوم بمصالحه من بعده، فأي واحد من إخوانه المسلمين يلي ذلك، وهذا من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، أما إذا وجد قاض، فإنه يعهد إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له) . وبعد هذا الباب يأتي كتاب الفرائض، ويغلب عليه -بطبيعته- المسائل الحسابية، وقد جرت العادة في قراءة المتون الفقهية -بالنسبة إلي- أن أفرد كتاب الفرائض بدراسة مستقلة. وعليه: فنرجئ شرح هذا الكتاب -كتاب الفرائض- حتى ننتهي من المتن إن شاء الله. نسأل الله عز وجل أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم. والله تعالى أعلم. الأسئلة السؤال إذا أوصى الميت إلى شخص بأن يلي اختيار الأزواج لبناته، فهل يعتبر هذا الوصي وليا للمرأة دون إخوتها؟ هل يعتبر الوصي وليا للمرأة في تزويجها الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل وصي الأب ينزل منزلة الأب، ويقدم على بقية العصبة، الذين لهم حق في الولاية؟ فمن أهل العلم من جعل الفرع تابعا لأصله، وقال: هذا وصي الأب؛ فينزل منزلة الأب، ومن أهل العلم من قال: إن الولاية في النكاح على مراتب. فإذا توفي الأب، انتقلت من بعده إلى ابنه، فحينئذ يلي أمر الولاية على هؤلاء النسوة ابنه، الذي هو أخوهن، وقال بعض العلماء: إنه يلي الجد من بعد الوالد، ثم من بعد ذلك تكون الولاية لابن المرأة التي يراد تزويجها إذا كانت مزوجة من قبل، أو يليها أخوها؛ لأن بعد درجة البنوة: الأخوة، وهم الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب فقط، وهم الإخوة الذين هم عصبة المرأة التي يراد زواجها. ومن أهل العلم من فرق بين كون المرأة دون البلوغ -صغيرة- فينزل الوصي منزلة الأب، وبين أن تكون كبيرة؛ فحينئذ يكون الولي هو الجد من بعد الأب، ولا يقدم عليه وصي الأب. لكن مثل هذه المسائل الأفضل ردها إلى القضاء، والقاضي يعمل بما يترجح عنده فيها، ونظرا لكونها تترتب عليها أمور مهمة، خاصة في هذا الزمان، فترد إلى القضاء، فإن شاء القاضي نزل وصي الأب منزلة الأب، وإن شاء قدم غيره من العصبة ممن هم أحق. والله تعالى أعلم. صيغ الإجماع السؤال أشرتم إلى قول صاحب الشرط السديد أنه قال: (لا تصح الوصية للكافر بلا خلاف) ، فهل قوله: (بلا خلاف) تدل على الإجماع، وما الفرق بين قوله: (اتفق) و (أجمع) ؟ الجواب هذه مسألة أصولية، تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة: (صيغ الإجماع) ، وصيغ الإجماع تنقسم إلى قسمين: القسم الأول يسميه العلماء: الصيغ الصريحة، وهي أقوى صيغ الإجماع، وهي صيغة: (أجمعوا) ، و (أجمع أهل العلم) ، و (أجمعوا واتفقوا) ، و (اتفق أهل العلم) ، و (اتفق العلماء) ، فهاتان الصيغتان: (أجمعوا) و (اتفقوا) تعتبر من صيغ الإجماع القوية النصية، التي لا احتمال فيها، وبعض العلماء يقول: إن (أجمعوا) غير (اتفقوا) ، فاتفقوا: للأئمة الأربعة، وأجمعوا: للجميع، وهذا باطل، والمعروف عند العلماء أن صيغة (اتفقوا) من صيغ الإجماع كصيغة (أجمعوا) ، لكن قد يكون هناك مصطلح خاص لبعض العلماء، فيذكر في كتابه (اتفقوا) للأئمة الأربعة، ويذكر (أجمعوا) لإجماع العلماء والأئمة، إذا كان هذا فهذا مصطلح خاص، لكن المعروف عند العلماء أن (اتفقوا) من صيغ الإجماع الصريحة والقوية كـ (أجمعوا) . أما بالنسبة للصيغ الضعيفة والصيغ المشتملة فمثل: (لا خلاف) ، (بغير خلاف) ، (لا نعلم خلافا) ، (لا نعلم مخالفا) ، فهذه صيغ مشتملة، فقوله: (بغير خلاف نعلمه) أضعف من قوله: (بغير خلاف) ؛ لأنه إذا قال: (بغير خلاف) فهي أقوى من قوله: (بغير خلاف أعلمه) أو (بغير خلاف نعلمه) ؛ لأنه ربما كان بحثه في المسألة فيه قصور، وحينئذ قد يوجد مخالف، لكنه لم يطلع على ذلك المخالف، أما إذا جزم وقال: (بغير خلاف) فهذه أقوى من تقييده بالعلم، هذا هو المعروف عند العلماء رحمهم الله. والنوع الأول من الصيغ: هو الذي يحكى به الإجماع، وإذا قيل: (بغير خلاف) فإنه معتبر، خاصة إذا كانت كلمة (بغير خلاف) من علماء وأئمة عرفوا بتتبع أقوال العلماء رحمهم الله، فمثلا: إذا قال شيخ الإسلام: (بغير خلاف) ، فالغالب أن مثل هذا يقارب الإجماع، إن لم يكن إجماعا؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله كان عنده سعة واطلاع كبير في العلم، حتى إنه نقد (مراتب الإجماع) للإمام ابن حزم، ولذلك لما ناظره العلماء في مسألة من مسائل أهل البدع، قال له: والله ما من بدعة في الإسلام إلا وأنا أعلم أول من قالها، ومتى قالها، وما هي شبهته في قولها. وهذا من سعة علمه رحمه الله واطلاعه على أقوال الأئمة والسلف، رحمه الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. السؤال قدمت وعائلتي من الرياض بالطائرة بنية العمرة ولم أحرم، فهل يجوز لي أن أحرم من هذا المسجد، أم أرجع إلى ميقاتي؟حكم من جاوز الميقات دون أن يحرم منه الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فلا يجوز للمسلم أن يمر بالميقات ولم يرحم منه، ولا يحرم، وفي نيته النسك؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة) . فأوجب عليه الصلاة والسلام على من مر بهذه المواقيت، وعنده نية للحج، أو عنده نية للعمرة، أو هما معا كالقارن، أن يحرم منها، فعلى المسلم أن يطيع الله ويطيع رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يأتمر بأمر الله؛ لأنه قال: (هن لهن) ، وهذه صيغة إلزام، أي أنها لازمة لمن مر بها بنية النسك، فلا يجوز له أن يترك الإحرام، فعليك أخي أن ترجع إلى ميقاتك فتحرم منه، وهو ميقات السيل إن كنت قادما من جهة الرياض، مع التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم. السؤال من كان عليه قضاء من رمضان، وعين يوما يصوم فيه هذا القضاء، فهل يحرم عليه أن يفطر في ذلك اليوم، أم له أن يفطر ويصوم يوما غيره؟ حكم الإفطار في قضاء رمضان الجواب هذا السؤال فيه تفصيل: فإذا عين اليوم وقال: غدا أصومه قضاء عن رمضان، ولم يدخل فيه بالعبادة -أعني عبادة الصوم بالإمساك- فإنه لا يلزم، وله أن ينتقل إلى يوم ثان، فتعيين يوم للقضاء أو يومين أو ثلاثة، أو كان قال: الأسبوع القادم أصومه قضاء، أو تقول المرأة: أصومه قضاء لعادتي، فلا يلزم صيامه إذا لم يدخل فيه بالصوم، أما إذا دخل فيه بالصوم فإن الله يقول: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، فجعل الأيام الأخر منزلة منزلة رمضان، ولا شك أنها إذا نزلت منزلة رمضان لم يجز الإفطار فيها، كما لا يجوز الإفطار في رمضان، وعلى هذا يفرق بالتعيين بين أن يريد الإفطار في ذلك اليوم قبل أن يشرع في صيامه، وبين أن يريد الإفطار وقد شرع في صيامه، والقاعدة: أن القضاء يأخذ حكم الأداء، فلما كان لا يجوز له في الأداء -أي: في صيام رمضان- أن يفطر بدون عذر، فكذلك في قضائه لا يجوز له أن يفطر بدون عذر، والله تعالى أعلم. السؤال أحيانا تتضجر الزوجة حين ترى انشغال زوجها بطلب العلم، وكثرة الانصراف إلى العبادة، ويتهم بالتقصير في حق الأهل، فما الضابط في تقسيم الوقت لهذه الحقوق؟ نصيحة للأزواج في التوفيق بين مشاغلهم الدينية وبين القيام بحقوق زوجاتهم الجواب الله المستعان! الفتوى ليست بالهينة، ووضع ضابط في المسائل هذا أمر ليس بالهين، وينبغي أن يشفق السائل في الفتوى على من يستفتيه من أنا حتى أضع للناس برنامجا أو ضابطا يوفق فيه بين طلبه للعلم وحقوق زوجته؟ فهذا أمر ليس بالسهل، فأقول: لا يمكن الإجابة على هذا السؤال، وأبرأ إلى الله، فما أستطيع أن أتحمل مسئولية وضع الضابط وأقول: إنه ضابط شرعي، وينسب إلى الشرع بقولنا، ولذلك كثرت الاجتهادات في هذا الزمان في وضع الضوابط والقيود، والأولى أن يقال: مثلا: بماذا تنصح الزوج؟ وبماذا تنصح الزوجة؟ فنقول: إن الله عز وجل شرع لعباده القيام بحقوق الزوجية، وإذا اتقى العبد ربه، جعل الله له من أمره يسرا، وجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا. فنوصي الزوجة أولا أن تتقي الله في نفسها، وأن تتقي الله في زوجها، وأن تحمد الله جل جلاله على العافية، خاصة في هذا الزمان، فكم من امرأة تقرح قلبها ودمعت عينها على هلاك بيتها في الفتن والمحن التي لا يعلمها إلا الله عز وجل. وكم من امرأة تمسي وتصبح مع زوج تنال معه الشقاء والعناء في جحيم الخمور والمسكرات، والمصائب والتبعات التي تأتي من الشرور التي لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله. فلتحمد الله على العافية، يوم جعل بيتها تلهج فيه الألسن بذكر الله، وتشكر الله عز وجل يوم شرفها وفضلها بخدمة من يخدم المسلمين، ورعاية من يحسن إلى عباد الله، فأمثال هؤلاء يعظم الأجر فيهم، ويعظم الثواب من الله عز وجل لمن احتسب في معونتهم على ما هم فيه والله ما من إمام ولا داعية ينصح لله ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولأئمته، فيعينه أحد في دعوته إلا آجره الله جل جلاله، وأعظم ثوابه. ووالله ما وجدنا في صحبة العلماء ورفقة طلاب العلم إلا خير الدين والدنيا والآخرة، هذا ما نشهد به، وهذا ما رأيناه من البذل الكريم الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا. فعلى المرأة المؤمنة أن تحمد الله جل جلاله، وأعظم ما يكون من العبد في حق ربه كفره بنعمة الله، وكم من امرأة تتمنى أن ترى زوجها مصليا، فضلا عن أن يكون داعية إلى الله، كم من امرأة تتمنى أن تسمع من زوجها ذكرا لله في بيتها، وكم من نساء تتشوق قلوبهن لرؤية الخير والبر في أزواجهن، فلتحمد الله على العافية، ولتعلم أن الشهوة واللذة متاع قليل، ظل زائل ومتاع حائل، لذة ساعة وبعدها تعب الدهر، فعليها أن تقدم آخرتها على دنياها، وأن تحتسب عند الله عز وجل. والزوج إذا كان مقصرا بسبب الحقوق والواجبات، ووجدته زوجته قائما برعاية المسلمين وعنايتهم، ووجدت عليه مسئوليات وأمانات في الفتوى وفي التدريس وفي التعليم، فوقفت بجواره، واستعانت بربها، وصبرت واصطبرت، ورابطت في الله جل جلاله، فسيريها الله حسن العاقبة فيما كان منها من صالح العمل، ولا تبالي حتى ولو وجدت زوجها فظا غليظا، أو غافلا عن بعض حقوقهم. ووالله إنك لتصحب العالم وتكون بجواره وتحسن إليه وتخدمه، فيفعل حتى عن أن يقول لك كلمة طيبة، بسبب الهم الذي هو فيه، وبسبب الضغط النفسي، وتصور أخي لو أنك تريد أن تلقي كلمة أمام ثلاثة أو أربعة من رفقتك، فسوف يتشتت ذهنك، ويصعب عليك الأمر، وتحمل الهم في قلبك، فكيف بمن يواجه الأمة، يواجههم وهو يبين الحلال والحرام، مسئول أمام الله عز وجل، ومسئول أمام خلقه، فربما زل بكلمة واحدة تشيب لها الرءوس، قيل لـ هشام بن عبد الملك: عاد لك الشيب؟ قال: ما لي لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس كل أسبوع مرة! لأنه يقف في المنبر ويخطب، وقيل لآخر من خلفاء بني أمية: عاد لك الشيب؟ قال: شيبتني المنابر. يعني مواجهة الناس، ومواجهة الناس ليست بالهينة؛ فأنت تواجه الحليم، وتواجه العاقل والعالم، وتواجه من هو أعلم منك، ومن هو مثلك ومن هو دونك، وتواجه من يحبك ويجلك ويكرمك، وتواجه من يكرهك ويحسدك. إذا: فهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فقد جعل بعض الناس لبعضهم فتنة حيث تواجه أمورا لا يعلمها إلا الله، فهذا الداعية يحتاج إلى من يعينه، وإلى من يوفقه، ووالله إن كان بعض طلاب العلم ليشفق على أن يشوش عليه حتى في درسه، وفي بعض الأحيان لا يستطيع أن يتحرك الحركة، حتى لا يشعره أنه تذمر منه، وفي بعض الأحيان تجد طالب العلم يجلس مع عالمه الساعات الطويلة، ولا يستطيع أن يري الملل لشيخه وأستاذه، يخاف أنه لو رأى شيخه منه الملل؛ لسأم من تعليم طلاب العلم من بعده. فالمعاملة مع العلماء والدعاة والخطباء ومن يتحمل مسئولية الدعوة صعبة جدا؛ لكن من كان عنه قلب حي وضمير حي أولا: يخلص لوجه الله عز وجل، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، فإذا كان عنده هذا القلب الحي والإخلاص؛ فسيفتح الله عليه، وينزل نفسه منزلة هذا العالم ومنزلة هذا الداعية، فالمرأة تنزل نفسها منزلة زوجها، فلو أنها تقارع هذا الأمر وهي في بيتها مع أولادها وأطفالها، ولا تستطيع أن تتحمل وهم أطفالها، ولربما سبت وشتمت في ساعة الضيق، فكيف بمن يتحمل هموم الأمة؟! وكيف بمن يتحمل هموم طلابه وخاصته؟! فتجده يحمل الهم في تعليمه: كيف يكون هذا التعليم؟ ثم يحمل هما في الكلمات التي يقولها، والعبارات التي يبينها، وربما دخلت الدواخل من العبارات، وفسرت على غير ظاهرها، ثم يحمل الهم في المناقشات والأسئلة والتبعات، وعندها تدرك إدراكا يقينيا -لا شك فيه ولا مرية- أن هذا العلم تكل أمره كله إلى الله والله لا بقولنا ولا بقوتنا ولا بذكائنا، ولكن الله جل جلاله هو الذي تولى الأمور كلها. ولقد نسمع من العلماء والأئمة والخطباء والمعلمين ما يثير الدهشة والعجب والاستغراب يقول الإمام: إني أدخل ولا أعي ما أقول من شدة ما أجد من المرض والعناء في قيام رمضان. وحدثني غير واحد من الأئمة الفضلاء رحمهم الله من المشايخ يقول: والله إني أدخل وأنا أحتاج إلى من يحملني إلى المحراب، فما أن أقف وأكبر إلا وفتح الله من معونته ما لم يخطر لي على بال، فإذا بالصدر ينشرح، وإذا بالنفس تبتهج، وإذا باللسان ينطلق، يقول: قبل الصلاة كأن لساني معقود، وما أستطيع أن أتكلم بكلمة، ولكن {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} [الفرقان:58] ، كيف وهم على ثغور الإسلام!! كيف وهم ينفعون الأمة!! كيف وهم ينصحون لدين الله عز وجل!! وإذا لم يعن الله هؤلاء فمن يعين؟! فأمثال هؤلاء لهم عند الله معين، ولهم من الله ظهير، فإن قصرت المرأة وابتعدت عن هذا فخذلته، فإن الله ينصره ويعينه، وسيجعل الله عز وجل ويهيئ من هو أصلح من هذه المعونة بالمعية، ولذلك أوصي المرأة أن تعينه والله سوف يعينها. لكن مع هذا أوصي الزوج أن يتقي الله في حقوق زوجته، وأن يكون الأئمة والخطباء وطلاب العلم قدوة لغيرهم، وإذا عجزت عن القيام ببعض الحقوق، فلا تفوتك الكلمة الطيبة إن الذي يجرح النساء المؤمنات ويؤثر عليهن أنهن لا يسمعن كلمة طيبة، لكن قد يكون بعض المشايخ لا يمدح الطلاب، ولا يثني على من يخدمه، والله يعلم أنه يريد له الأجر أكثر، ويريد له الثواب أعظم، وثق ثقة تامة أنك لن تكون سعيدا في هذه الحياة إلا إذا وطنت نفسك دائما على أن لا تنتظر شكرا من أحد إلا من الله، الذي يشكر الأعمال الصالحة، سبحانه وتعالى. من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الفضل بين الله والناس فلا يذهب المعروف عند الله، فالمعروف لا ينسى، والخير لا يبلى، والحسنة لا تنسى، فالله لا يضيع من عبده من الحسنات مثقال خردلة وأقل من ذلك، فوطن نفسك دائما إذا كنت في معاملتك مع الناس الخاصة والعامة، حتى ولو كنت برا بوالدك، فلا تنتظر من والدك كلمة شكر، وقد كان بعض البارين يتمنى أن لا يشكره والده، حتى يكون أجره عند الله أعظم، وثوابه عند الله أجل. وجماع الخير كله أن نتواصى بأداء الحقوق والواجبات، فإن المرأة في هذا الزمان تتعرض لفتن كثيرة،؛ خاصة إذا خرجت، فيحرص الزوج على إعفاف أهله والإحسان إليهم. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأسأله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (412) صـــــ(1) إلى صــ(7) شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [1] النكاح عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، فقد جاء الحث عليه في الكتاب والسنة، ليعصم الإنسان نفسه من الوقوع في الزنا الذي جاء في الشرع التحذير منه بشدة، والعمل بالأسباب التي تعين على الوقاية منه. والزواج يكون به تكثير سواد المسلمين، ويوجب ارتباط بعضهم ببعض، وهذا من مقاصد الشريعة في الزواج. مشروعية النكاح وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح] . النكاح في اللغة: يطلق بمعنى الجمع والضم، ومنه قول العرب: تناكحت الأشجار إذا اجتمعت ودخل بعضها في بعض، والمناسبة من هذا المعنى اللغوي ظاهرة؛ لأن النكاح يقوم على الاستمتاع الموجب لاجتماع الزوجين وارتباط كل منهما بالآخر. وأما في اصطلاح الشرع، فإن معنى النكاح اختلفت عبارات العلماء رحمهم الله فيه، ومن أنسب ما عرف به النكاح: أنه عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، وبناء على هذا فقول العلماء: (عقد) المراد به الإيجاب والقبول، والإيجاب أن يقول ولي المرأة مخاطبا الزوج: زوجتك بنتي فلانة، والقبول أن يقول الزوج: قبلت، أو قبلت نكاح فلانة. وقولهم رحمهم الله: (عقد يفيد) الفائدة: ما يعود من الشيء، ومعنى ذلك: أن عقد النكاح ينشأ عنه ويترتب عليه حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر. وقولهم رحمهم الله: (حل استمتاع) لأن الأصل أنه لا يجوز للرجل أن يستمتع إلا بما أحل الله أن يستمتع به من المرأة المنكوحة أو ملك اليمين. قولهم: (حل استمتاع كل من الزوجين) الاستمتاع من المتعة، والمتعة تشمل الشيء الذي فيه اللذة سواء كانت متعلقة بالبصر أو متعلقة بالجوارح الأخر، وقولهم: (استمتاع) يشمل جميع أنواع الاستمتاع التي هي المقدمات من التقبيل ونحوه، وغاية المتعة من الجماع، فالكل أحله الله عز وجل للزوج، ولذلك قال الله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187] ، فهذا العقد الشرعي والرباط الذي أذن الله به للزوجين يفيد حل استمتاع كل منهما بالآخر، فالمرأة تستمتع بالرجل والرجل يستمتع بالمرأة. وهذا النوع من العقود دل على مشروعيته دليل الكتاب والسنة والإجماع. أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3] فندب الله عباده إليه، ودلت الآية الكريمة على أن النكاح مأذون به شرعا، وقال سبحانه: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} [النور:32] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ، فقوله: (فليتزوج) أصل يدل على مشروعية النكاح والإذن به، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وغيره: (تزوجوا الودود الولود فإني مفاخر بكم الأمم) ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل النكاح فتزوج عليه الصلاة والسلام، وأقر الصحابة على الزواج فاجتمعت دلالة السنة قولا وفعلا وتقريرا. وأما بالنسبة للإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعية النكاح وحله وجوازه، ولا خلاف بينهم بحمد الله في ذلك، وأما الحكمة أو الحكم التي يمكن أن تستفاد من هذا العقد الشرعي، فإن الله تعالى شرع النكاح وجعل في شرعيته تكثير سواد الأمة وإبقاء النسل البشري، فعن طريق النكاح يتكاثر الناس ويتناسلون بالذريات والأولاد والأحفاد، فيبقى النسل ولا ينقطع، وبقاء النسل عمارة للكون بطاعة الله عز وجل كما لا يخفى. كذلك في النكاح إعفاف للرجل وإعفاف للمرأة عن ما حرم الله، وصيانة لهما عن الزنا ونحوه من المحرمات، فشرع النكاح لهذه الحكم العظيمة، وتتبعها آثار هي حكم جليلة؛ منها: أن الناس يتواصلون وتحدث بينهم الألفة والمحبة والصفاء والنقاء، وهذا يقوي أواصر الإسلام، ويوجب ارتباط المسلمين بعضهم ببعض، فإن الرجل يتزوج فيغرب في نكاحه، فيتزوج امرأة من قبيلة غير قبيلته أو امرأة من مصر غير مصره، وحينئذ يتعلق المسلم بأرحام له في ذلك البلد، ويتعلق أهل ذلك البلد بأرحام لهم في بلد آخر، فترتبط جماعة المسلمين وتحصل بالنكاح أواصر المحبة والألفة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط -يعني مصر- فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم رحما) . فالمقصود: أن هذا الرحم يوجب الألفة والمحبة والتواصي بالخير، ومقصود الإسلام: أن يتواصل المسلمون وأن يتراحموا، وأن يتعاضدوا، وأن يكونوا كالبيت الواحد وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن هنا إذا حصل التعدد وتزوج الرجل من أكثر من قبيلة ومن أكثر من جماعة أصبح البيت الواحد يقوم على بيوت، ولو وقعت بلية أو مصيبة في بيت من هذه البيوت تألم الجميع وكأنه بيت واحد وكأنه أسرة واحدة. وكذلك أيضا من حكم النكاح: أنه كفاية للمئونة، فإن الرجل إذا تزوج المرأة كفى أباها أن يعيلها وأن تكون عبئا عليه، خاصة وأن الأب في آخر عمره يثقل عليه أن يقوم على بناته وأن يرعاهن، أو يرعى أولاده، ففي ضم هذه البنت وضم تلك البنت لاشك أنه تخفيف للأعباء والمئونة إلى غير ذلك من الحكم العظيمة والأسرار الكريمة، فإن الزوج تسليه زوجته وتواسيه، وتخفف عنه الأشجان والأحزان، وإذا كانت صالحة ثبتته على الصراط وقوت قلبه على الطاعات، فاستفاد خيرا كثيرا لدينه ودنياه وآخرته. هذا العقد -وهو عقد النكاح- اختلفت أنظار العلماء إليه، وتكلموا على حكمه، فقالوا: هل النكاح واجب أو مندوب؟ على قولين مشهورين: جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع على أن النكاح ليس بواجب وأنه مندوب ومستحب، وهذا في حالة الاعتدال كما سيأتي. وذهب فقهاء الظاهرية رحمهم الله إلى القول بوجوب النكاح، وأنه يجب على الرجل أن ينكح على الأقل واحدة، ثم من بعد ذلك يبقى نكاح الاثنتين والثلاث والأربع على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب، واستدل الظاهرية على قولهم بوجوب النكاح بدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة قالوا: إن الله أمر، والقاعدة في الأصول: أن الأمر محمول على الوجوب حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، فأمرنا الله أن ننكح فأصبح النكاح واجبا لازما علينا، واستدلوا بقوله تعالى أيضا: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32] قالوا: هذا أمر والأمر يدل على الوجوب ولا صارف له عن ظاهره. واستدلوا بالسنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (فليتزوج) وهذا أمر والأمر للوجوب، كذلك أكدوا هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود) ، وفي رواية لحديث آخر: (تناكحوا تناسلوا) لكنه متكلم في سنده، والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك الإمام أبو حنيفة في مسنده، وله روايات في مصنف ابن أبي شيبة وغيره بلفظ: (تناكحوا تناسلوا) وفي رواية (تناكحوا تكثروا) ، وفي رواية: (تناكحوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم) ، وفي رواية: (فإني مباه بكم الأمم) هذا الحديث كما ذكرنا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وابن ماجة في سننه، وكذلك أخرجه الديلمي في مسنده؛ مسند الفردوس، وأكثر طرقه ضعيفة لكن رواية: (تزوجوا الودود الولود) قالوا: هذا أمر لقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا) ففيه حث بالغ يقوي جانب الأمر. أما الجمهور فإنهم قالوا: إن النكاح ليس بواجب، وهذه الأوامر الواردة في الكتاب والسنة ليست على ظاهرها، فإن قوله سبحانه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3] قالوا: إنه ليس للوجوب بدليل قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3] ، فلو كان أمرا للوجوب لوجب أن ينكح اثنتين وثلاثا وأربعا، ولكن الله قال: {فانكحوا} [النساء:3] وجعل الأمر مرتبطا بالمثنى والثلاث والرباع، فدل على عدم إرادة الوجوب والفرضية، كذلك أيضا كأنهم يقولون: إن في الآية قرينة تدل على عدم الوجوب؛ لأنه أمر بالتثنية والتثليث، وكونه تكون عنده أربع وهو الحد الأقصى للنكاح فهذا كله على سبيل الندب والاستحباب عند الجميع، فدل على أن الأمر في قوله: {فانكحوا} [النساء:3] للندب والاستحباب وليس للحتم والإيجاب. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر) قالوا: إن في الحديث قرينة تدل على عدم الوجوب وهي قوله: (فإنه أغض) فإن (أغض) على وزن أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل لا يدل على الوجوب؛ لأن المطلوب أن يغض بصره، فإذا صار النكاح أغض كأنه يحصل الواجب وهو غض البصر بما دون النكاح، وعلى هذا قالوا: إنه أمر للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب. وهذا هو الصحيح: أن النكاح مستحب ومندوب إليه في حالة الاعتدال، وهي الحالة التي يسميها العلماء: انتفاء الدوافع وانتفاء الموانع، وقد قرر العلماء وهم الجمهور أن النكاح تعتريه الأحكام الخمسة؛ فيكون واجبا في حالات، ويكون مندوبا في أخر، ويكون محرما في أخر، ويكون مكروها في أخر، ويكون مباحا في أخر. فيكون النكاح واجبا إذا كان الشخص يخاف على نفسه الزنا، وغلب على ظنه أنه إذا لم يتزوج وقع في الحرام، وعنده قدرة على النكاح؛ فهذان شرطان: أن لا يأمن الحرام، وأن تكون عنده القدرة أن يتزوج، ووجه الوجوب هنا أنه فرض عليه أن يمنع نفسه عن الحرام، وواجب عليه أن لا يتسب يقول المصنف رحمه الله: [كتاب النكاح] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالنكاح. ترتيب العلماء لكتاب النكاح والعلماء رحمهم الله إذا ذكروا كتاب النكاح فإنهم يعتنون بتنظيمه وبيانه مرتبا في الأحكام الفقهية، ففي الأبواب يقررون أولا: ابتداء النكاح، وكيف يمكن للإنسان أن يصيب السنة والهدي في زواجه؟ وهذا المبحث يسمى عند العلماء بمبحث: مقدمات النكاح، ومقدمات النكاح تستلزم أن تبحث عن المرأة التي يندب طلبها والزواج منها، فيبينون ما هو الأفضل نكاحه من النساء كقولهم: أن تكون ودودا ولودا بكرا، دينة صالحة إلى آخره، كذلك يبحثون في المقدمات المسائل المتعلقة بخطبة النكاح بالنظر إلى المخطوبة، وخطبة النكاح، وصفة الخطبة، والأمور التي ينبغي أن يتقيها المسلم في خطبته من الخطبة على أخيه المسلم وخطبة المعتدة ونحو ذلك من الأمور التي ينبغي أن تتقى في خطبة المسلم وطلبه للنكاح. وبعد أن يبينوا مقدمات النكاح يدخلون في الشروط المعتبرة لصحة عقد النكاح، وهذا ما يسمى عند العلماء بالتسلسل الفكري، إذ يراعون تسلسل الأمور فيقدمون الحوادث والمسائل والأحكام على حسب الوقوع. كذلك يبحثون بعد المقدمات في شروط صحة عقد النكاح، وهذا يستلزم النظر فيمن هو ولي الزوجة الذي من حقه أن يتولى عقد نكاحها من عصبتها؟ وتبين بعد بيان أصناف الولاية: الأبوة، البنوة، الأخوة، العمومة، وأبناء كل، وبعد أن تبين أصناف الأولياء تبين مراتب الأولياء، وتقديمهم على حسب الجهة، ثم القرب، ثم القوة في القرابة، ثم بعد ترتيب الأولياء في النكاح يتكلمون على الآثار إذا زوج الولي الأبعد مع حضور الأقرب وهكذا، هذا بالنسبة للولي، ثم بعد ذلك يتكلمون على أنه يشترط للنكاح وجود الشاهدين، وصفات الشاهدين، وقد يؤخر بعضهم الكلام على صفة الشهود في باب القضاء عند الكلام على الأصل العام في الشهادة. كذلك أيضا ينبهون على شرط الصداق؛ فيتكلمون في حكم الصداق، وجنس الصداق، وقدر الصداق، وصفة الصداق، والصداق المعجل والمؤجل، والخصومة في الصداق إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة على شرط الصداق. وبعد الانتهاء من هذه الأمور الثلاثة المعتبرة لعقد النكاح، ينبه العلماء رحمهم الله على المسائل المترتبة على العقد الصحيح والمسائل المترتبة على عقد النكاح الفاسد، فيعتنون بمباحث تتصل بالنكاح المشروع وبالنكاح الممنوع، فهناك نوع من النكاح أذن الشرع به وهو الذي استجمع شروطا يحكم من خلالها بصحة العقد واعتباره شرعا، وهناك نوع من النكاح لم يأذن الشرع به لمصادمته للشرع أو اشتماله على أمور نص الشرع على عدم صحة النكاح بسبب وجودها. فيبينون أولا: الموانع، ويبينون موانع النكاح المؤبدة والموانع المؤقتة، فالموانع المؤبدة: أن تكون المرأة قريبة بالنسب قرابة تمنع من النكاح؛ كالأمهات، والبنات، والأخوات، وبنات الأخوات، وبنات الإخوان، والعمات، والخالات، ثم بعد ذلك المحرمات بالمصاهرة، ثم المحرمات بالرضاع، بعد هذا يتكلمون على المحرمات تحريما مؤقتا؛ كالمحرمات بسبب الجمع، كأخت الزوجة، وعمة الزوجة، وخالة الزوجة، ثم يتكلمون على مانع الدين، وهو مانع مؤقت إن تابت وأسلمت، وكذلك أيضا مانع الزواج؛ مثل كونها منكوحة للغير إلى غير ذلك من بقية الموانع المعتبرة في النكاح. ثم يتكلمون أيضا في النكاح الممنوع على النكاح الذي نص الشرع على عدم الإذن به؛ كنكاح الشغار، ونكاح المتعة، وهل خطبة الرجل على خطبة أخيه توجب فساد النكاح؟ فعلى القول بأن النكاح يفسد يكون النكاح غير مشروع، كذلك أيضا نكاح المحلل إذا نكح امرأة من أجل أن يحللها للغير، سواء في حالة التواطؤ أو عدم التواطؤ. بعد بيانهم لهذا الممنوع يشرعون في بيان المشروع، وأثر النكاح المشروع، وهذا يستلزم أن يبينوا ما يترتب على عقد النكاح؛ من العشرة بالمعروف، والحقوق الواجبة من النفقة والسكنى ونحو ذلك، ثم بعد الانتهاء من بيان مقدمات النكاح وبيان الشروط المعتبرة للصحة، وأمارات فساد عقد النكاح، والآثار المترتبة على العقد المشروع والممنوع يشرع العلماء في بيان الأمور التي تزول بها العصمة؛ إما كلية أو مؤقتا، وهذا يستلزم الكلام على كتاب الطلاق، فيشرعون في كتاب الطلاق، وكتاب اللعان، وكتاب الظهار، ثم بعد ذلك يبينون الأثر والخلع والإيلاء، ثم يبينون الأثر المترتب على الطلاق وزوال العصمة، أو ما يكون في حكم ذلك، فيبينون أحكام الرجعة وأحكام المرأة المعتدة، وأحكام العدة، والحقوق الواجبة المترتبة على ذلك، ثم يختمون بالحداد وما يتعلق بمسائل الحداد، ثم بعد ذلك ينتهي كتاب النكاح. هذا كله صورة مجملة؛ لأنه مما يستحب في الفقه قبل الدخول في الكتب أن يكون عند طالب العلم تصور إجمالي حتى يستطيع أن يعرف ترتيب الأفكار، وهذا الترتيب الذي تعب العلماء لتقريره وضبطه وحسن صياغته بعد توفيق الله عز وجل لهم، قصد منه: ترتيب الأفكار للفهم، وترتيبها للإفهام، وترتيبها للفتوى وللقضاء؛ لأن الفقه يحتاجه الإنسان لنفسه عملا، ويحتاجه لغيره تعليما، ويحتاجه لغيره فتوى، ويحتاجه لغيره قضاء، فلذلك ينبغي أن تكون هذه المادة مرتبة، فإذا رتبت وجاءك السؤال عن مسألة ما فمباشرة تنصرف إلى الباب الذي درسته، وتتذكر مسائله، هل هذه المسألة فيه أو ليست فيه؟ وهذه فائدة قراءة الفقه؛ أنه يعين طالب العلم على أن يفهم وعلى أن يفهم؛ لأن الفقه حصيلة لإفهام علماء من قرون عديدة وليس بالسهل، هذا الفقه ثمرة جهود لا يعلمها إلا الله جل جلاله، وعلى هذا أحببنا أن ننبه على هذا الترتيب حتى يحصل إن شاء الله بيان المسائل وترتيب الأبواب خاصة عند مباحث المناسبات. قال رحمه الله: [وهو سنة] الضمير عائد إلى النكاح، أي: من هديه عليه الصلاة والسلام النكاح، وهذه الجملة قصد منها بيان الحكم؛ لأن القاعدة عند العلماء رحمهم الله: أنهم إذا أتوا إلى أي باب أو كتاب يعتنون بجزئيتين مهمتين: الأولى: أن يبينوا حقيقة الباب الذي هو جزئية التعريفات، ثم بعد التعريف يأتي الحكم -حكم الباب- مثلا: في كتاب الطلاق، يقول: كتاب الطلاق، ثم يبين حكم الطلاق فيقول: وهو مباح، وإذا قال مثلا: الظهار، فإنه يبين حكمه فيقول: وهو محرم. سنية النكاح فالمقصود: أنهم يبتدئون أولا بالحكم، ويقدمون التعريف على الحكم؛ لأن القاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن أن تحكم على النكاح حتى تعرف ما هو النكاح، وحتى تعلم بعد ذلك أن الذي أباحه الله هو ذلك الشيء، وأن الذي حرمه الله هو ذلك الشيء، وقد تقدمت الأدلة من الكتاب والسنة على شرعيته، وعلى هذا اختار المصنف ما اختاره جمهور العلماء من أن النكاح ليس بواجب، فعبر بهذه الجملة حتى ينبه على أن مذهب الجمهور في مقام الندب والاستحباب وليس في مقام اللزوم والإيجاب. قال رحمه الله: [وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات] هذه الجملة أولا: ما معناها؟ ثانيا: ما موقف العلماء منها؟ المراد بهذه الجملة: أن إعفاف الرجل لنفسه وإعفافه لزوجه بالوطء أفضل من نوافل العبادات، وبناء على هذا يترتب أن النكاح فيه عبادة؛ لأنه لا يفضل على نوافل العبادات إلا ما كان مشتركا بينها وبينها في حصول الثواب، فقوافل العبادات من قيام ليل ونحو ذلك، قال بعض العلماء: النكاح أفضل منها، فأصبح النكاح عبادة من هذا الوجه، فيحتاج المصنف إلى دليل شرعي يدل على أن النكاح يعتبر عبادة، وهذا الدليل جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟!) فدلت هذه الجملة على أن النكاح فيه جانب العبادة، وأنه بإعفافه لزوجه يكون قد حصل ثوابا قد يفضل نوافل العبادات. اختلاف العلماء في تفضيل النكاح مع الشهوة على نوافل العبادات المسألة الثانية: ما موقف العلماء من هذه المسألة؟ الجمهور يفضلون النكاح على نوافل العبادات، والشافعية يخالفون في هذه المسألة ويرون أن النكاح شهوة، وأنه لذة وهو إلى الدنيا أقرب منه إلى الدين، ولذلك قرنه الله بشهوة الذهب والفضة في قوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} [آل عمران:14] فالله سبحانه جعله من متاع الدنيا ولم يجعله عبادة ولم ينص على كونه عبادة، وقرنه بالمال وبالقناطير والمقنطرة وبالمغريات في الدنيا وفتنها، فقالوا: إنه ليس بأفضل من نوافل العبادات لهذا النص. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، وأن النكاح فيه جانبان: جانب دنيوي، وجانب ديني؛ وأن الجانب الديني مثاب صاحبه، ومأجور غير مأزور، ويعظم ثوابه أكثر في مسائل: إذا قصد بها وجه الله عز وجل، كرجل يتزوج ثانية عرف منها الدين والاستقامة، وأصبحت أرملة بعد زوج، فأراد أن يضمها إليه لعلمه أنها تفتن أو أنها تحتاج إلى من يعولها، فأشفق عليها وأحسن إليها، أو زوجة مات عنها أخوه، فأراد أن يضمها لأيتام أخيه، أو أراد أن يضمها لأيتام عندها من أبناء عمه أو أبناء عمومته أو قرابته، يقصد بذلك الإحسان والبر، فمثل هذه المواقف في النكاح لا شك أنها تفضله وتزيد من أجره وتزيد من ثواب صاحبه. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور لصحة الدليل على ذلك. وجوب النكاح على من يخاف الزنا قال رحمه الله: [ويجب على كل من يخاف الزنا بتركه] الواجب: يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فإن خاف على نفسه الزنا بترك النكاح ويقدر عليه -عنده مئونة وقدرة أن يتزوج- فحينئذ يجب عليه أن ينكح، وقد بينا وجه ذلك؛ لأنه إذا لم يتزوج وقد استيقن أو غلب على ظنه الوقوع في الحرام فمعنى ذلك أنه سيقع في الحرام لا محالة، والله عز وجل حرم الحرام والوسيلة إلى الحرام، ولذلك حرم الزنا وحرم وسائل الزنا، فحرم النظر للأجنبية، ولمس الأجنبية، والسفر مع الأجنبية بدون محرم، والخلوة مع الأجنبية بدون محرم، حتى حرم على المرأة أن ترفع رجلها فتضربها على الأرض ليعلم ما تخفيه من زينتها، من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، وهو المقصد والغاية من هذه الوسائل التي نص الشرع على تحريمها. فكأن الشرع حينما نص على تحريم هذه الوسائل قصد أمرين: - تحريم الأصل الذي يسمى بعبارة العلماء وبمصطلحهم: مقصدا وغاية. - وتحريم الوسيلة المفضية إليه. قالوا: فسكوته عن زواج نفسه وسيلة مفضية إلى الوقوع في الحرام، كما لو خلا بأجنبية فكأنه يتعاطى أسباب الوقوع في الحرام. ومفهوم هذا: أنه إذا أمن الحرام أو أخر لزمان يراه أصلح له في اجتهاده ونظره أنه لا يصل إلى الوجوب متى ما علم أنه واثق من نفسه وغلب على ظنه، فإذا استيقن أو غلب على ظنه فلا إشكال. التنبيه على قضية إزعاج الأطفال في المساجد أحب أن أنبه على أمر وهو قضية الأطفال، فقد كثر صياحهم وإزعاجهم، فأفضل لا آمر ولا أنهى، لأني لا أستطيع أن أمنع أمة الله إذا احتاجت إلى إحضار أولادها، وكذلك لا أستطيع أن أمنع الأولاد؛ لكني أفضل للمرأة وللرجل إذا أمكن ألا يأتوا بالأطفال حتى لا يزعجوا طلاب العلم، ولا يتسببوا في الضرر على غيرهم، وإن كان بعض العلماء يرى أنه إذا وصل الأمر إلى حالة من الإزعاج والصراخ أنه قد لا تخلو المرأة من إثم، وكذلك الرجل. فأنا أفضل أن يتقى هذا، وإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تترك أولادها فيمكن أن تستعين بعد الله بالشريط، وأحبذ ألا يحضر الأطفال ما أمكن، وقد اشتكي إلي أكثر من مرة، فحبذا لو أن طالبات العلم والأخوات وأيضا الأزواج يراعون ذلك. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر ذنوبنا، وأن يتجاوز عنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
الساعة الآن : 12:32 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour