ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=262418)

ابوالوليد المسلم 29-12-2022 05:17 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (439)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 213 إلى صـ 220



وحجة أهل هذا القول أن الله تعالى قال في هذه الآية الكريمة : فتحرير رقبة ، [ ص: 213 ] ولم يقيدها بالإيمان ، فوجب أن يجزئ ما تناوله إطلاق الآية ، قالوا : وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الله في كتابه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وممن قال باشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار : مالك ، والشافعي ، والحسن ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد ، قاله في " المغني " . واحتج لأهل هذا القول بما تقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد .

وقد بينا مسألة حمل المطلق على المقيد في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة الآية [ 4 \ 92 ] ، بقولنا فيه وحاصل تحرير المقام في مسألة تعارض المطلق والمقيد : أن لها أربع حالات : الأولى : أن يتحد حكمهما وسببهما معا كتحرير الدم ، فإن الله قيده في سورة " الأنعام " ، بكونه مسفوحا في قوله تعالى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] ، وأطلقه عن القيد بكونه مسفوحا في سورة " النحل " و " البقرة " و " المائدة " . قال في " النحل " : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 115 ] ، وقال في " البقرة " : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] ، وقال في " المائدة " : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية [ 6 \ 3 ] . وجمهور العلماء يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، ولذلك كانوا لا يرون بالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم بأسا ; لأنه دم غير مسفوح ، قالوا : وحمله عليه أسلوب من أساليب اللغة العربية ، لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، ومنه قول قيس بن الخطيم الأنصاري :


نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف


فحذف راضون لدلالة راض عليه . وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :


فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب


والأصل : فإني غريب وقيار أيضا غريب ، فحذف إحدى الكلمتين لدلالة الأخرى عليها . وقول عمرو بن أحمر الباهلي : [ ص: 214 ]
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوى رماني


يعني : كنت بريئا منه ، وكان والدي بريئا منه أيضا . وقول النابغة الجعدي :


وقد زعمت بنو سعد بأني وما كذبوا كبير السن فاني


يعني : زعمت بنو سعد أني فان وما كذبوا . . إلخ .

وقالت جماعة من أهل الأصول : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، لا بدلالة اللفظ وهو أظهرها . وقيل : بالعقل ، وهو أضعفها وأبعدها .

الحالة الثانية : هي أن يتحد الحكم ، ويختلف السبب ، كالمسألة التي نحن بصددها ، فإن الحكم في آية المقيد وآية المطلق واحد ، وهو عتق رقبة في كفارة ، ولكن السبب فيهما مختلف ; لأن سبب المقيد قتل خطأ ، وسبب المطلق ظهار ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية ، والحنابلة ، وكثير من المالكية ، ولذا شرطوا الإيمان في كفارة الظهار حملا لهذا المطلق على المقيد ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه ، قالوا : ويعتضد حمل هذا المطلق على المقيد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : " اعتقها فإنها مؤمنة " ، ولم يستفصله عنها ، هل هي في كفارة أو لا ؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال . قال في " مراقي السعود " :


ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال


الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد . وقيل : لا ، وهو قول أكثر العلماء ، ومثلوا له بصوم الظهار ، وإطعامه ، فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف ; لأن أحدهما تكفير بصوم ، والآخر تكفير بإطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع ، وهو الصوم . والثاني مطلق عن قيد التتابع ، وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد . والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة ، مثلوا لذلك بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه من قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قد قيدا بقوله : من قبل أن يتماسا ، فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيجب كون الإطعام قبل المسيس ، ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] ، مع إطلاق الكسوة عن القيد بذلك ، في قوله : أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيشترط في [ ص: 215 ] الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم .

الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ، ولا حمل في هذه إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا . أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين ، فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء ، فيقيد بقيده . وإن لم يكن أحدهما أقرب له ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه إذ لا ترجيح بلا مرجح ، ومثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ 58 \ 4 ] ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع ; لأن كلا من صوم الظهار واليمين صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع .

وقراءة ابن مسعود : [ فصيام ثلاثة أيام متتابعات ] لم تثبت ; لإجماع الصحابة على عدم كتب متتابعات في المصاحف العثمانية ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر : صوم قضاء رمضان ، فإن الله تعالى قال فيه : فعدة من أيام أخر [ 2 \ 185 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق ، مع أنه تعالى قيد صوم الظهار بالتتابع ، وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى صوم قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار ، إن شاء تابعه ، وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى . انتهى من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، مع زيادة يسيرة للإيضاح .
الفرع الثاني : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في رقبة كفارة الظهار ، هل يشترط فيها سلامتها من العيوب أو لا ؟ فحكي عن داود الظاهري أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم ، ولو كانت معيبة بكل العيوب تمسكا بإطلاق الرقبة في قوله تعالى : فتحرير رقبة ، قال : ظاهره ولو معيبة ; لأن الله لم يقيد الرقبة بشيء .

وذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط السلامة من العيوب القوية مع اختلافهم في بعض العيوب ، قالوا : يشترط سلامتها من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا ; لأن المقصود [ ص: 216 ] تمليك العبد منافعه ، وتمكينه من التصرف لنفسه ، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا ، فلا يجزئ الأعمى ; لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ، ولا المقعد ، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين ; لأن اليدين آلة البطش ، فلا يمكنه العمل مع فقدهما ، والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما ، والشلل كالقطع في هذا .

قالوا : ولا يجوز المجنون جنونا مطبقا ; لأنه وجد فيه المعنيان : ذهاب منفعة الجنس ، وحصول الضرر بالعمل ، قاله في " المغني " . ثم قال : وبهذا كله قال الشافعي ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، انتهى محل الغرض منه .

وبه تعلم إجماع الأئمة الأربعة على اشتراط السلامة من مثل العيوب المذكورة .

وقال ابن قدامة في " المغني " : ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ، ولا أشلهما ، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى ; لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ، ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة ; لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك . وإن قطعت كل واحدة من يد جاز ; لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها ، فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين ، وإن كان من غير الإبهام لم يمنع ; لأن منفعتها لا تذهب ، فإنها تصير كالأصابع القصار ، حتى لو كانت أصابعه كلها غير الإبهام قد قطعت من كل واحد منها أنملة لم يمنع ، وإن قطع من الإصبع أنملتان فهو كقطعها ; لأنه يذهب بمنفعتها ، وهذا جميعه مذهب الشافعي ، أي : وأحمد .

وقال أبو حنيفة : يجزئ مقطوع إحدى الرجلين أو إحدى اليدين ، ولو قطعت رجله ويده جميعا من خلاف أجزأت ; لأن منفعة الجنس باقية ، فأجزأت في الكفارة كالأعور ، فأما إن قطعتا من وفاق ، أي : من جانب واحد لم يجز ; لأن منفعة المشي تذهب ، ولنا أن هذا يؤثر في العمل ، ويضر ضررا بينا ، فوجب أن يمنع إجزاؤها كما لو قطعتا من وفاق . ويخالف العور ، فإنه لا يضر ضررا بينا ، والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس ، فإنه لما ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس . ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا ; لأنه يضر بالعمل ، فهو كقطع الرجل ، إلى أن قال : ويجزئ الأعور في قولهم جميعا .

وقال أبو بكر : فيه قول آخر : إنه لا يجزئ ; لأنه نقص يمنع التضحية والإجزاء في الهدي ، فأشبه العمى ، والصحيح ما ذكرناه . فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد [ ص: 217 ] المنافع ، والعور لا يمنع ذلك ; ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين ، ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع ، ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين ، فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما ، والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما .

وأما الأضحية والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور ، وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب ; ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن ، والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل ، ويجزئ المقطوع الأذنين . وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي .

وقال مالك وزفر : لا يجزئ ; لأنهما عضوان فيها الدية ، فأشبها اليدين . ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين ، فلم يمنع كنقص السمع ، بخلاف اليدين ، ويجزئ مقطوع الأنف لذلك ، ويجزئ الأصم إذا فهم بالإشارة ، والأخرس إذا فهمت إشارته وفهم الإشارة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور .

وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ ; لأن منفعة الجنس ذاهبة ، فأشبه زائل العقل ، وهذا المنصوص عليه عن أحمد ; لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام ، مثل القضاء والشهادة . أكثر الناس لا يفهم إشارته ، فيتضرر في ترك استعماله ، وإن اجتمع الخرس والصمم . فقال القاضي : لا يجزئ ، وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس ، ووجه الإجزاء أن الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام ، ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزئ ; لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره .

وأما المريض فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة ، وإن كان غير مرجو الزوال لم يجز .

وأما نضو الخلق يعني النحيف المهزول خلقة ، فإن كان يتمكن من العمل أجزأ ، وإلا فلا . ويجزئ الأحمق وهو الذي يصنع الأشياء لغير فائدة ، ويرى الخطأ صوابا . وكذلك يجزئ من يخنق في بعض الأحيان ، والخصي والمجبوب ، والرتقاء ، والكبير الذي يقدر على العمل ; لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه ، وتكميل أحكامه ، فيحصل الإجزاء به ، كالسالم من العيوب ، انتهى من " المغني " ، مع حذف يسير لا يضر بالمعنى .

ثم قال صاحب " المغني " : ويجزئ عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده ، إذا [ ص: 218 ] قلنا بصحة عتقهم ، وعتق المدبر والخصي وولد الزنا ; لكمال العتق فيهم . ولا يجزئ عتق المغصوب ، لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه ، ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره ; لأنه لا تعلم حياته فلا تعلم صحة عتقه ، وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه ; لأنه عتق صحيح .

ولا يجزئ عتق الحمل ; لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا ، ولذلك لم تجب فطرته ، ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته . ولا عتق أم الولد ; لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة ، والملك فيها غير كامل ، ولهذا لم يجز بيعها .

وقال طاوس والبتي : يجزئ عتقها ; لأنه عتق صحيح . ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا ، انتهى من كلام صاحب " المغني " . وقد ذكر فيه غالب ما في مذاهب الأئمة الأربعة في المسألة .

ومعلوم أن مذهب مالك رحمه الله : اشتراط الإيمان في رقبة الظهار ، واشتراط سلامتها من العيوب المضرة ، فلا يجوز عنده عتق جنين في بطن أمه ، وإن وضعته عتق من غير إجزاء عن الكفارة .

ولا يجزئ عنده مقطوع اليد الواحدة ، أو الإصبعين ، أو الأصابع ، أو الإبهام ، أو الأذنين ، أو أشل ، أو أجذم ، أو أبرص ، أو أصم ، أو مجنون وإن أفاق أحيانا ، ولا أخرس ، ولا أعمى ، ولا مقعد ، ولا مفلوج ، ولا يابس الشق ، ولا غائب منقطع خبره ، ولا المريض مرضا يشرف به على الموت ، ولا الهرم هرما شديدا ، ولا الأعرج عرجا شديدا ، ولا رقيق مشترى بشرط العتق لما يوضع من ثمنه في مقابلة شرط العتق ، ولا من يعتق عليه بالملك كأبيه ، ولا عبد قال : إن اشتريته فهو حر ، فلو قال : إن اشتريته فهو حر عن ظهاري ، ففيه لهم تأويلان بالإجزاء وعدمه .

ولا يجزئ عنده المدبر ، ولا المكاتب ، ولو أعتق شركا له في عبد ، ثم قوم عليه نصيب شريكه لم يجزه عن ظهاره عنده ; لأن عتق نصيب الشريك وجب عليه بحكم سراية المعتق ، وكذلك لو أعتق نصفه عن ظهاره ، ثم بعد ذلك اشترى نصفه الآخر فأعتقه تكميلا لرقبة الظهار ، لم يجزه على ظاهر المدونة لتبعيض العتق إن كانت معسرا وقت عتق النصف الأول ، ولأن عتق النصف الباقي يلزمه بالحكم ، إن كان موسرا وقت عتق النصف الأول ، [ ص: 219 ] ولو أعتق ثلاث رقاب عن أربع زوجات ظاهر منهن لم يجزه من ذلك شيء ; لأنه لم تتعين رقبة كاملة عن واحدة منهن .

ويجزئ عند المالكية عتق المغصوب والمريض مرضا خفيفا ، والأعرج عرجا خفيفا ، ولا يضر عندهم قطع أنملة واحدة أو أذن واحدة ، ويجزئ عندهم الأعور ، ويكره عندهم الخصي ، ويجوز عندهم عتق المرهون والجاني إن افتديا ، انتهى .

ومعلوم أن أبا حنيفة لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار ، كما تقدم . ولم يجزئ عنده الأعمى ولا مقطوع اليدين معا أو الرجلين معا ، ولا مقطوع إبهامي اليدين ، ولا الأخرس ، ولا المجنون ، ولا أم الولد ، ولا المدبر ، ولا المكاتب إن أدى شيئا من كتابته ، فإن لم يؤد منها شيئا أجزأ عنده ، وكذلك يجزئ عنده قريبه الذي يعتق عليه بالملك إن نوى بشرائه إعتاقه عن الكفارة ، وكذلك لو أعتق نصف عبده عن الكفارة ، ثم حرر باقيه عنها أجزأه ذلك ، ويجزئ عنده الأصم ، والأعور ، ومقطوع إحدى الرجلين ، وإحدى اليدين من خلاف ، ويجزئ عنده الخصي ، والمجبوب ، ومقطوع الأذنين ، ا هـ .

وقد قدمنا أكثر العيوب المانعة من الإجزاء ، وغير المانعة عند الشافعي في كلام صاحب " المغني " ناقلا عنه ، وكذلك ما يمنع وما لا يمنع عند أحمد ، فاكتفينا بذلك خشية كثرة الإطالة .
الفرع الثالث : اعلم أنه قد دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الصوم لا يجزئ في الظهار إلا عند العجز عن تحرير الرقبة ، فإن عجز عن ذلك انتقل إلى الصوم ، وقد صرح تعالى بأنه صيام شهرين متتابعين ، ولا خلاف في ذلك .
الفرع الرابع : اختلف العلماء في تحقيق مناط العجز عن الرقبة الموجب للانتقال إلى الصوم ، وقد أجمعوا على أنه إن قدر على عتق رقبة فاضلة عن حاجته أنه يجب عليه العتق ، ولا يجوز له الانتقال إلى الصوم ، وإن كانت له رقبة يحتاج إليها لكونه زمنا أو هرما أو مريضا ، أو نحو ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى عجزه عن خدمة نفسه .

قال بعضهم : وككونه ممن لا يخدم نفسه عادة ، فقال بعضهم : لا يلزمه الإعتاق ، ويجوز له الانتقال إلى الصوم نظرا لحاجته إلى الرقبة الموجودة عنده .

قال في " المغني " : وبهذا قال الشافعي ، أي : وأحمد . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، [ ص: 220 ] والأوزاعي : متى وجد رقبة لزمه إعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام ، سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن ; لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام ألا يجد رقبة بقوله : فمن لم يجد [ 58 \ 4 ] ، وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليها ، لم يلزمه شراؤها ، وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك : يلزمه ; لأن وجدان ثمنها كوجدانها . ولنا أن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى الصيام ، كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في هذه المسألة : أن الرقبة إن كان يحتاج إليها حاجة قوية ; ككونه زمنا أو هرما لا يستغنى عن خدمتها ، أو كان عنده مال يمكن شراء الرقبة منه ، لكنه محتاج إليه في معيشته الضرورية أنه يجوز له الانتقال إلى الصوم ، وتعتبر الرقبة كالمعدومة ، وأن المدار في ذلك على ما يمنعه استحقاق الزكاة من اليسار ، فإن كانت الرقبة فاضلة عن ذلك ، لزم إعتاقها ، وإلا فلا . والأدلة العامة المقتضية عدم الحرج في الدين تدل على ذلك ; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، ونحو ذلك . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : إن كان المظاهر حين وجوب الكفارة غنيا إلا أن ماله غائب ، فالأظهر عندي أنه إن كان مرجو الحضور قريبا ، لم يجز الانتقال إلى الصوم ; لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة . وإن كان بعيدا جاز الانتقال إلى الصوم ; لأن المسيس حرام عليه قبل التكفير ، ومنعه من التمتع بزوجته زمنا طويلا إضرار بكل من الزوجين ، وفي الحديث : " لا ضرر ولا ضرار " ، خلافا لبعض أهل العلم في ذلك .
الفرع السادس : إن كان عنده مال يشتري به الرقبة ، ولكنه لم يجد رقبة يشتريها فله الانتقال إلى الصيام ; لدخوله في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام شهرين الآية [ 58 \ 4 ] ، وهذا واضح . وأما إن وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن مثلها ، ولم يجد رقبة بثمن مثلها ، فلأهل العلم في ذلك خلاف : هل يلزمه شراؤها بأكثر من مثل المثل ، أو لا يلزمه ؟ وأظهر أقوالهم في ذلك عندي : هو أن الزيادة المذكورة على ثمن المثل إن كانت تجحف بماله حتى يصير بها من مصارف الزكاة ، فله الانتقال إلى الصوم ، وإلا فلا ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 29-12-2022 05:20 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (440)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 221 إلى صـ 228


الفرع السابع : أجمع أهل العلم على أن صوم شهري الظهار يجب تتابعه ، أي : [ ص: 221 ] موالاة صيام أيامه من غير فصل بينها ، ولا خلاف بينهم في أن من قطع تتابعه لغير عذر ، أن عليه استئناف الشهرين من جديد ، وهل يفتقر التتابع إلى نية ؟ فيه لأهل العلم ثلاثة أقوال : أحدها : لا يفتقر لنية ; لأنه تتابع واجب في العبادة ، فلم يفتقر لنية تخصه ، كالمتابعة بين ركعات الصلاة .

والثاني : يفتقر لنية التتابع وتجدد النية كل ليلة ; لأن ضم العبادة إلى عبادة أخرى إذا كان شرطا وجبت فيه النية ، كالجمع بين الصلاتين .

والثالث : تكفي نية التتابع في الليلة الأولى عن تجديد النية كل ليلة ، وهذا أقربها ; لأنا لا نسلم أن صوم كل يوم عبادة مستقلة ، بل الأظهر أن صوم الشهرين جميعا عبادة واحدة ; لأنه كفارة واحدة ، فإذا نوى هذا الصوم أول ليلة فاللازم أن ينويه على وجهه المنصوص في الكتاب والسنة وهو شهران متتابعان ، وهذا يكفيه عن تجديد النية كل ليلة ، وهذا ظاهر مذهب مالك . ومذهب أحمد عدم الاحتياج إلى نية التتابع مطلقا . وللشافعية وجهان ، أحدهما : كأحمد ، والثاني : يفتقر إلى النية كل ليلة .
الفرع الثامن : اختلف أهل العلم فيما إذا كان قطع تتابع الصوم لعذر كمرض ونحوه ، فقال بعض أهل العلم : إن كان قطع التتابع لعذر ، فإنه لا يقطع حكم التتابع ، وله أن يبني على ما صام قبل حصول العذر ، وهذا مذهب أحمد .

قال في " المغني " : وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال ابن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاوس ، ومجاهد ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، والشافعي في القديم . وقال في الجديد : ينقطع التتابع ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والنخعي ، والحكم ، والثوري ، وأصحاب الرأي قالوا : لأنه أفطر بفعله فلزمه الاستئناف .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في هذا الفرع أن قطع تتابع صوم كفارة الظهار بلا إفطار في أثناء الشهرين إن كان لسبب لا قدرة له على التحرز عنه ، كالمرض الشديد الذي لا يقدر معه على الصوم أنه يعذر في ذلك ولا ينقطع حكم التتابع ; لأنه لا قدرة له على التحرز عن ذلك ، والله جل وعلا يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " ، وإن كان يمكنه التحرز عن الإفطار الذي قطع به [ ص: 222 ] التتابع كالإفطار للسفر في أثناء صوم الكفارة ، وكما لو كان ابتداء صومه الكفارة من شعبان ، لأن شهره الثاني رمضان ، وهو لا يمكن صومه عن الكفارة ، وكما لو ابتدأ الصوم في مدة يدخل فيها يوم النحر أو يوم الفطر أو أيام التشريق ، فإن التتابع ينقطع بذلك ; لأنه قادر على التحرز عن قطعه بما ذكر لقدرته على تأخير السفر عن الصوم كعكسه ، ولقدرته أيضا على الصوم في مدة لا يتخللها رمضان ، ولا العيدان ، ولا أيام التشريق ، كما لا يخفى . وإذا قطع التتابع بإفطار هو قادر على التحرز عنه بما ذكر ، فكونه يستأنف صوم الشهرين من جديد ظاهر ; لقوله تعالى : فصيام شهرين متتابعين [ 58 \ 4 ] ، وقد ترك التتابع مع قدرته عليه ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .

الأظهر : أنه إن وجب على النساء صوم يجب تتابعه لسبب اقتضى ذلك أن حكمهن في ذلك كما ذكرنا ، فيعذرن في كل ما لا قدرة لهن على التحرز عنه كالحيض ، والمرض دون غيره كالإفطار للسفر والنفاس ; لأن النفاس يمكن التحرز عنه بالصوم قبله أو بعده ، أما الحيض فلا يمكن التحرز عنه في صوم شهرين أو شهر ، لأن المرأة تحيض عادة في كل شهر ، والله تعالى أعلم .
الفرع التاسع : في حكم ما لو جامع المظاهر منها أو غيرها ليلا ، في أثناء صيام شهري الكفارة ، وفي هذا الفرع تفصيل لأهل العلم .

اعلم أنه إن جامع في نهار صوم الكفارة عمدا انقطع تتابع صومه إجماعا ، ولزمه استئناف الشهرين من جديد ، وسواء في ذلك كانت الموطوءة هي المظاهر منها أو غيرها وهذا لا نزاع فيه ، وكذلك لو أكل أو شرب عمدا في نهار الصوم المذكور ، وأما إن كان جماعه ليلا في زمن صوم الكفارة ، فإن كانت المرأة التي جامعها زوجة أخرى غير المظاهر منها ، فإن ذلك لا يقطع التتابع ; لأن وطء غير المظاهر منها ليلا زمن الصوم مباح له شرعا ، ولا يخل بتتابع الصوم في أيام الشهرين كما ترى ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه .

وقال في " المغني " : وليس في هذا اختلاف نعلمه ، وأما إن كان التي وطئها ليلا زمن الصوم هي الزوجة المظاهر منها ، فقد اختلف في ذلك أهل العلم ، فقال بعضهم : ينقطع التتابع بذلك ويلزمه استئناف الشهرين . وبه قال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما .

[ ص: 223 ] وقال ابن قدامة في " المغني " في شرحه لقول الخرقي : وإن أصابها في ليال الصوم أفسد ما مضى من صيامه وابتدأ الشهرين ، ما نصه : وبهذا قال مالك ، والثوري ، وأبو عبيد ، وأصحاب الرأي ; لأن الله تعالى قال : فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ، فأمر بهما خاليين عن وطء ، ولم يأت بهما على ما أمر ، فلم يجزئه ، كما لو وطئ نهارا ولأنه تحريم للوطء لا يختص بالنهار ، فاستوى فيه الليل والنهار ، كالاعتكاف .

وروى الأثرم عن أحمد : أن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي ثور ، وابن المنذر ; لأنه وطء لا يبطل الصوم ، فلا يوجب الاستئناف كوطء غيرها ، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن إتباع صوم يوم للذي قبله من غير فارق ، وهذا متحقق ، وإن وطئ ليلا ، وارتكاب النهي في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه ، كما لو وطئ قبل الشهرين ، أو وطئ ليلة أول الشهرين ، وأصبح صائما ، والإتيان بالصوم قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه ، سواء بنى أو استأنف ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب " المغني " ، وممن قال بهذا القول : أبو يوسف .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : هذا القول الأخير الذي هو عدم انقطاع التتابع بجماعه للمظاهر منها في ليال الصوم ، هو الأظهر عندي ; لأن الصوم فيه مطابق لمنطوق الآية في التتابع ، لأن الله تعالى قال : فصيام شهرين متتابعين ، وهذا قد صام شهرين متتابعين ، ولم يفصل بين يومين منهما بفاصل ، فالتتابع المنصوص عليه واقع قطعا ; كما ترى . وكون صومهما متابعين قبل المسيس واجب بقوله تعالى : من قبل أن يتماسا ، لا يظهر أنه يبطل حكم التتابع الواقع بالفعل ، ومما يوضحه ما ذكرنا آنفا في كلام صاحب " المغني " من أنه لو جامعها قبل شروعه في صوم الشهرين ، ثم صامهما متتابعين بعد ذلك ، فلا يبطل حكم التتابع بالوطء قبل الشروع في الصوم ، ولا يقتضي قوله تعالى : من قبل أن يتماسا بطلانه ، والعلم عند الله تعالى
الفرع العاشر : اعلم أنه إن جامع المظاهر منها في نهار صوم الكفارة ناسيا ، فقد اختلف أهل العلم هل يعذر بالنسيان ، فلا ينقطع حكم التتابع ، أو لا يعذر به ويلزمه الاستئناف ؟ فقال بعضهم : لا يعذر بالنسيان ، وينقطع التتابع بوطئه ناسيا وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عند أحمد ، ومن حجتهم : أن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان . وقال بعضهم : يعذر بالنسيان ، ولا ينقطع حكم التتابع بوطئه ناسيا ، وهو قول [ ص: 224 ] الشافعي ، وأبي ثور ، وابن المنذر . قالوا : لأنه فعل المفطر ناسيا ، فأشبه ما لو أكل ناسيا ، اهـ .

وهذا القول له وجه قوي من النظر ; لأن الله تعالى يقول : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم الآية [ 33 \ 5 ] ، وقد قدمنا من حديث ابن عباس ، وأبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله تعالى : نعم قد فعلت " .
الفرع الحادي عشر : إن أبيح له الفطر لعذر يقتضي ذلك ، وقلنا إن فطر العذر لا يقطع حكم التتابع ، فوطء غيرها نهارا لم ينقطع التتابع ; لأن الوطء لا أثر له في قطع التتابع ، لأن أصل الإفطار لسبب غيره ، وإن كانت الموطوءة نهارا هي المظاهر منها جرى على حكم وطئها ليلا ، وقد تكلمنا عليه قريبا ، قال ذلك صاحب " المغني " ، ووجهه ظاهر . وقال أيضا : وإن لمس المظاهر منها أو باشرها فيما دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع لإخلاله بموالاة الصيام ، وإلا فلا يقطع ، والله تعالى أعلم ، اهـ . ووجهه ظاهر أيضا .
الفرع الثاني عشر أجمع العلماء على أن المظاهر إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام ، وهو إطعام ستين مسكينا ، وقد نص الله تعالى على ذلك بقوله : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ 58 \ 4 ] .

ومن الأسباب المؤدية إلى العجز عن الصوم الهرم وشدة الشبق ، وهو شهوة الجماع التي لا يستطيع صاحبها الصبر عنه ، ومما يدل على أن الهرم من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم ، ما جاء في قصة أوس بن الصامت الذي نزلت في ظهاره من امرأته آية الظهار ، ففي القصة من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت ، ونزل في ذلك قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآيات [ 58 \ 1 ] ، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعتق رقبة " يعني زوجها أوسا قالت : لا يجد ، قال : " يصوم شهرين متتابعين " ، قالت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : " فليطعم ستين مسكينا " الحديث ، ومحل الشاهد منه أنها لما قالت له : إنه شيخ كبير اقتنع - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك عذر في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام ، فدل على أنه سبب من أسباب العجز عنه ، والحديث وإن تكلم فيه ، فإنه لا يقل بشواهده عن درجة الاحتجاج .

[ ص: 225 ] وأما الدليل على أن شدة الشبق عذر ، كذلك هو ما جاء في حديث سلمة بن صخر الذي تكلمنا عليه سابقا في هذا المبحث ، أنه قال : كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ، الحديث . وفيه قال : " فصم شهرين متتابعين " ، قال : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم ؟ قال : " فتصدق " . ومحل الشاهد منه أنه لما قال له : " صم شهرين " ، أخبره أن جماعه في زمن الظهار إنما جاءه من عدم صبره عن الجماع ; لأنه ظاهر من امرأته خوفا من أن تغلبه الشهوة ، فيجامع في النهار ، فلما ظاهر غلبته الشهوة فجامع في زمن الظهار ، فاقتنع - صلى الله عليه وسلم - بعذره ، وأباح له الانتقال إلى الإطعام ، وهذا ظاهر .

وقال ابن قدامة في " المغني " : بعد أن ذكر أن الهرم والشبق كلاهما من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم ، للدليل الذي ذكرنا آنفا ، وقسنا عليهما ما يشبههما في معناهما .
الفرع الثالث عشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : أنه لا يجزئ في الإطعام أقل من إطعام ستين مسكينا وهو مذهب مالك والشافعي . والمشهور من مذهب أحمد خلافا لأبي حنيفة القائل : بأنه لو أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه ، وهو رواية عن أحمد ، وعلى هذا يكون المسكين في الآية مأولا بالمد ، والمعنى : فإطعام ستين مدا ، ولو دفعت لمسكين واحد في ستين يوما .

وإنما قلنا : إن القول بعدم إجزاء أقل من الستين هو الأظهر ; لأن قوله تعالى : مسكينا تمييز لعدد هو الستون ، فحمله على مسكين واحد خروج بالقرآن عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وهو لا يصح ، ولا يخفى أن نفع ستين مسكينا أكثر فائدة من نفع مسكين واحد في ستين يوما ، لفضل الجماعة ، وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن إليهم بالإطعام ، فيكون ذلك أقرب إلى الإجابة من دعاء واحد ، وستون جمع كثير من المسلمين لا يخلو غالبا من صالح مستجاب الدعوة ، فرجاء الاستجابة فيهم أقوى منه في الواحد ، كما لا يخفى . وعلى كل حال ، فقوله تعالى في محكم كتابه : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، لا يخفى فيه أن قوله : فإطعام ستين مصدر مضاف إلى مفعوله ، فلفظ : ستين الذي أضيف إليه المصدر هو عين المفعول به الواقع عليه الإطعام ، وهذا العدد الذي هو المفعول به للإطعام مبين بالتمييز الذي هو قوله تعالى : [ ص: 226 ] مسكينا ، وبذلك يتحقق أن الإطعام في الآية واقع على نفس العدد الذي هو ستون ، فالاقتصار به على واحد خروج بنص القرآن ، عن ظاهره المتبادر منه بلا دليل يجب الرجوع إليه كما ترى . وحمل المسكين في هذه الآية الكريمة على المد من أمثلة المالكية والشافعية في أصولهم لما يسمونه التأويل البعيد والتأويل الفاسد ، وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :


فجعل مسكين بمعنى المد عليه لائح سمات البعد

الفرع الرابع عشر : في كلام أهل العلم في القدر الذي يعطاه كل مسكين من الطعام ، اعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك ، فمذهب مالك أنه يعطي كل مسكين من البر الذي هو القمح مدا وثلثي مد ، وإن كان إطعامه من غير البر ، كالتمر والشعير ، لزمه منه ما يقابل المد والثلثين من البر . قال خليل المالكي في مختصره في إطعام كفارة الظهار : لكل مد وثلثان برا ، وإن اقتاتوا تمرا أو مخرجا في الفطر فعدله ، انتهى محل الغرض منه .

وقال شارحه المواق بن يونس : ينبغي أن يكون الشبع مدين إلا ثلثا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي عيار مد هشام ، فمن أخرج به أجزأه ، قاله مالك . قال ابن القاسم : فإن كان عيش بلدهم تمرا أو شعيرا أطعم منه المظاهر عدل مد هشام من البر ، انتهى محل الغرض منه .

ومذهب أبي حنيفة : أنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا كاملا من تمر أو شعير . ومذهب الشافعي : أنه يعطي كل مسكين مدا مطلقا . ومعلوم : أن المد النبوي ربع الصاع ، قال في " المغني " : وقال أبو هريرة : ويطعم مدا من أي الأنواع كان ، وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي ، اهـ . ومذهب أحمد : أنه يعطي كل مسكين مدا من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ، ا هـ .

وإذا عرفت مذاهب الأئمة في هذا الفرع ، فاعلم أنا أردنا هنا أن نذكر كلام ابن قدامة في " المغني " في أدلتهم وأقوالهم ، قال : وجملة الأمر أن قدر الطعام في الكفارات كلها مد من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر أو شعير ، وممن قال مد بر : زيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر ، حكاه عنهم الإمام أحمد ، ورواه عنهم الأثرم ، وعن عطاء وسليمان بن موسى . وقال سليمان بن يسار : أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو هريرة : يطعم مدا من أي الأنواع كان ، وبهذا قال الأوزاعي ، وعطاء والشافعي ، لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء ، عن أوس أخي [ ص: 227 ] عبادة بن الصامت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكينا .

وروى الأثرم بإسناده عن أبي هريرة في حديث المجامع في رمضان : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي بعرق فيه خمسة عشر صاعا ، فقال : " خذه وتصدق به " . وإذا ثبت في المجامع في رمضان بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه ، ولأنه إطعام واجب ، فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج ، كالفطرة وفدية الأذى . وقال مالك : لكل مسكين مدان من جميع الأنواع ، وممن قال مدان من قمح : مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ; لأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام ، فكان لكل مسكين نصف صاع كفدية الأذى . وقال الثوري وأصحاب الرأي : من القمح مدان ، ومن التمر والشعير صاع لكل مسكين ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه : " فأطعم وسقا من تمر " .

رواه الإمام أحمد في المسند ، وأبو داود وغيرهما ، وروى الخلال بإسناده ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خويلة ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر " . وفي رواية أبي داود : والعرق ستون صاعا . وروى ابن ماجه بإسناده عن ابن عباس ، قال : كفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصاع من تمر وأمر الناس " فمن لم يجد فنصف صاع من بر " .

وروى الأثرم بإسناده عن عمر رضي الله عنه ، قال : أطعم عني صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر ، ولأنه إطعام للمساكين ، فكان صاعا من تمر أو شعير ، أو نصف صاع من بر ، كصدقة الفطر .

ولنا ما روى الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد المدني ، قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمظاهر : " أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر " ، وهذا نص ويدل على أنه مد بر أنه قول زيد ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا ، فكان إجماعا .

ويدل على أنه نصف صاع من التمر والشعير ، ما روى عطاء بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخولة امرأة أوس بن الصامت : " اذهبي إلى فلان الأنصاري ، فإن عنده شطر وسق من تمر أخبرني أنه يريد أن يتصدق به ، فلتأخذيه فليتصدق به على ستين مسكينا " .

[ ص: 228 ] وفي حديث أوس بن الصامت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " إني سأعينه بعرق من تمر " ، قلت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر ، قال : " قد أحسنت ، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك " .

وروى أبو داود بإسناده ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه قال : العرق : زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا ، فعرقان يكونان ثلاثين صاعا لكل مسكين نصف صاع ، ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام ، فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير ، كفدية الأذى .

فأما رواية أبي داود : أن العرق ستون صاعا فقد ضعفها ، وقال : غيرها أصح منها ، وفي الحديث ما يدل على الضعف ; لأن ذلك في سياق قوله : " إني سأعينه بعرق " ، فقالت امرأته : إني سأعينه بعرق آخر ، " فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا " ، فلو كان العرق ستين صاعا لكانت الكفارة مائة وعشرين صاعا ولا قائل به .

وأما حديث المجامع الذي أعطاه خمسة عشر صاعا ، فقال : " تصدق به " ، فيحتمل أنه اقتصر عليه إذ لم يجد سواه ، ولذلك لما أخبره بحاجته إليه أمره بأكله .

وفي الحديث المتفق عليه قريب من عشرين صاعا ، وليس ذلك مذهبا لأحد ، فيدل على أنه اقتصر على البعض الذي لم يجد سواه ، وحديث أوس أخي عبادة بن الصامت مرسل يرويه عنه عطاء ، ولم يدركه على أنه حجة لنا ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عرقا ، وأعانته امرأته بآخر ، فصارا جميعا ثلاثين صاعا ، وسائر الأخبار يجمع بينها وبين أخبارنا ، بحملها على الجواز ، وحمل أخبارنا على الإجزاء . وقد عضد هذا أن ابن عباس راوي بعضها ، ومذهبه : أن المد من البر يجزئ . وكذلك أبو هريرة ، وسائر ما ذكرنا من الأخبار مع الإجماع الذي نقله سليمان بن يسار ، والله أعلم . انتهى بطوله من " المغني " لابن قدامة ، وقد جمع فيه أقوال أهل العلم وأدلتهم ، وما نقل عن مالك في هذا المبحث أصح منه عنه ما ذكرناه قبله في هذا المبحث .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، في رواية : والعرق ستون صاعا ، هذه الرواية تفرد بها معمر بن عبد الله بن حنظلة . قال الذهبي : لا يعرف ، ووثقه ابن حبان ، وفيها أيضا محمد بن إسحاق ، وقد عنعن . والمشهور عرفا أن العرق يسع خمسة عشر صاعا ، كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح من حديث سلمة نفسه ، ا هـ منه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 29-12-2022 05:23 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (441)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 229 إلى صـ 236


[ ص: 229 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد رأيت أقوال أهل العلم في قدر ما يعطى المسكين من إطعام كفارة الظهار واختلافها ، وأدلتهم واختلافها .

وأحوط أقوالهم في ذلك قول أبي حنيفة ومن وافقه ; لأنه أحوطها في الخروج من عهدة الكفارة ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس عشر : في كيفية الإطعام وجنس الطعام ومستحقه . أما مستحقه فقد نص الله تعالى على أنه المسكين في قوله : فإطعام ستين مسكينا ، والمقرر عند أهل العلم أن المسكين إن ذكر وحده شمل الفقير ، كعكسه .

وأما كيفيته : فظاهر النصوص أنه يملك كل مسكين قدر ما يجب له من الطعام ، وهو مذهب مالك ، والشافعي . والرواية المشهورة عن أحمد ، وعلى هذا القول لو غدى المساكين ، وعشاهم بالقدر الواجب في الكفارة ، لم يجزئه حتى يملكهم إياه .

وأظهر القولين عندي : أنه إن غدى كل مسكين وعشاه ، ولم يكن ذلك الغداء والعشاء أقل من القدر الواجب له ، أنه يجزئه ; لأنه داخل في معنى قوله : فإطعام ستين مسكينا ، وهذا مروي عن أبي حنيفة ، والنخعي ، وهو رواية عن أحمد ، وقصة إطعام أنس لما كبر ، وعجز عن الصوم عن فدية الصيام مشهورة . وأما جنس الطعام الذي يدفعه للمساكين ، فقد تقدم في الأحاديث ذكر البر والتمر والشعير ، ولا ينبغي أن يختلف في هذه الثلاثة .

ومعلوم أن أهل العلم اختلفوا في طعام كفارة الظهار ، فقال بعضهم : المجزئ في ذلك هو ما يجزئ في صدقة الفطر ، سواء كان هو قوت المكفر أو لا ؟ ولا يجزئه غير ذلك ، ولو كان قوتا له .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي : أن جميع الحبوب التي هي قوت بلد المظاهر يجزئه الإخراج منها ، لأنها هي طعام بلده ، فيصدق على من أطعم منها المساكين أنه أطعم ستين مسكينا ، فيدخل ذلك في قوله تعالى : فإطعام ستين مسكينا ، ويؤيد ذلك أن القرآن أشار إلى اعتبار أوسط قوت أهله في كفارة اليمين في قوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] ، وهذا مذهب الشافعي ، واختيار أبي الخطاب من الحنابلة .
[ ص: 230 ] الفرع السادس عشر : اعلم أن أكثر أهل العلم على أن الإطعام لا يجب فيه التتابع ; لأن الله تعالى أطلقه عن قيد التتابع ، ولأن أكثر أهل الأصول ، على أن المطلق لا يحمل على المقيد إن اتحد سببهما ، واختلف حكمهما ; كما في هذه المسألة . ولا سيما على القول الأصح في حمل المطلق على المقيد أنه من قبيل القياس ، لامتناع قياس فرع على أصل مع اختلافهما في الحكم ، كما هو معروف في محله .
الفرع السابع عشر : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا جامع المظاهر زوجته التي ظاهر منها في أثناء الإطعام ، هل يلزمه إعادة ما مضى من الإطعام ، لبطلانه بالجماع قبل إتمام الإطعام ، أو لا يلزمه ذلك ؟ فقال بعض أهل العلم : لا يلزمه ذلك ; لأن جماعه في أثناء ما لا يشترط فيه التتابع ، فلم يوجب الاستئناف ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .

وأما مذهب مالك : فهو أنه يستأنف الإطعام لأنه جامع في أثناء كفارة الظهار ، فوجب الاستئناف كالصيام ، والأول أظهر ; لأن الواقع من الإطعام قبل جماعه يحتاج بطلانه وإلغاؤه إلى دليل يجب الرجوع إليه وليس موجودا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن عشر : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي ، وقالت : إن تزوجت فلانا فهو علي كظهر أبي ، فهل يكون ذلك ظهارا منها ، أو لا ؟ فقال أكثر أهل العلم : لا يكون ظهارا ، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وإسحاق ، وأبي ثور وغيرهم . وقال بعض أهل العلم : تكون مظاهرة ، وبه قال الزهري ، والأوزاعي . وروي عن الحسن والنخعي ، إلا أن النخعي قال : إذا قالت ذلك بعدما تزوج ، فليس بشيء ، اهـ .
والتحقيق أن المرأة لا تكون مظاهرة ; لأن الله جل وعلا لم يجعل لها شيئا من الأسباب المؤدية لتحريم زوجها عليها ، كما لا يخفى .
تنبيه .

اعلم أن الجمهور القائلين : إن المرأة لا تكون مظاهرة ، اختلفوا فيما يلزمها إذا قالت ذلك ، إلى ثلاثة مذاهب : الأول : أن عليها كفارة ظهار ، وإن كانت غير مظاهرة .

والثاني : أن عليها كفارة يمين .

والثالث : لا شيء عليها .

[ ص: 231 ] واحتج من قال بأن عليها كفارة ظهار ، وهو رواية عن أحمد : بأنها قالت منكرا من القول وزورا ، فلزمها أن تكفر عنه كالرجل ، وبما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم ، عن عائشة بنت طلحة ، قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي ، فسألت أهل المدينة ، فرأوا أن عليها الكفارة . وبما روى علي بن مسهر عن الشيباني ، قال : كنت جالسا في المسجد ، أنا وعبد الله بن معقل المزني ، فجاء رجل حتى جلس إلينا ، فسألته : من أنت ؟ فقال : أنا مولى عائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها ، خطبها مصعب بن الزبير ، فقالت : هو علي كظهر أبي إن تزوجته ، ثم رغبت فيه ، فاستفتت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة ، وتتزوجه ، فأعتقتني ، وتزوجته . وروى سعيد هذين الأثرين مختصرين ، اهـ من " المغني " . وانظر إسناد الأثرين المذكورين .

وأما الذين قالوا : تلزمها كفارة يمين ، وهو قول عطاء ، فقد احتجوا بأنها حرمت على نفسها زوجها وهو حلال لها ، فلزمتها كفارة اليمين اللازمة في تحريم الحلال ، المذكورة في قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، بعد قوله : لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] . وأما الذين قالوا : لا شيء عليها ، ومنهم الشافعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو ثور وغيرهم ، فقد احتجوا بأنها قالت : منكرا من القول وزورا ، فلم يوجب عليها كفارة ، كالسب والقذف ونحوهما من الأقوال المحرمة الكاذبة .

وأظهر أقوالهم عندنا : أن من يرى في تحريم الحلال كفارة يمين يلزمها على قوله كفارة يمين ، ومن يرى أنه لا شيء فيه ، فلا شيء عليها على قوله ، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في تحريم الحلال في الحج ، وفي هذا المبحث ، ا هـ .

واعلم أن الذين قالوا : تجب عليها كفارة الظهار ، قالوا : لا تجب عليها حتى يجامعها وهي مطاوعة له ، فإن طلقها أو مات أحدهما قبل الوطء ، أو أكرهها على الوطء فلا كفارة عليها ; لأنها يمين ، فلا تجب كفارتها قبل الحنث ، كسائر الأيمان ، وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير ; لأنه حق له عليها ، فلا يسقط بيمينها ، ولأنه ليس بظهار ، انتهى من " المغني " ، وهو ظاهر . ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة ، ومن أراد استقصاء ذلك فهو في كتب فروع المذاهب .
[ ص: 232 ] قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم .

قال ابن كثير : أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ، ولكن لا يجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، ا هـ . محل الغرض منه . وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم ، كحرمة الأم ، واحترامهم لهن كاحترام الأم . . . إلخ واضح لا إشكال فيه . ويدل له قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [ 33 \ 53 ] ; لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب . وقوله تعالى : إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم [ 58 \ 2 ] ، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن ، لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم ، ويفهم من قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم ، أنه هو - صلى الله عليه وسلم - أب لهم . وقد روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، أنهما قرأا : ( وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) ، وهذه الأبوة أبوة دينية ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أرأف بأمته من الوالد الشفيق بأولاده ، وقد قال جل وعلا في رأفته ورحمته بهم : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] [ 33 \ 40 ] ، وليست الأبوة أبوة نسب ; كما بينه تعالى بقوله : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه " ، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد " ، يبين معنى أبوته المذكورة ، كما لا يخفى .
مسألة .

اعلم أن أهل العلم اختلفوا هل يقال لبنات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخوات المؤمنين ، أو لا ؟ وهل يقال لإخوانهن كمعاوية ، وعبد الله بن أبي أمية أخوال المؤمنين ، أو لا ؟ وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ؟ قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن ، وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المسلمين ، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم ، وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم . ونص الشافعي - رضي الله عنه - على أنه لا يقال ذلك . وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ؟

[ ص: 233 ] فيدخل النساء في الجمع المذكر السالم تغليبا ، فيه قولان : صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يقال ذلك ، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي - رضي الله عنه - انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في ذلك أنه لا يطلق منه إلا ما ورد النص بإطلاقه ; لأن الإطلاق المراد به غير الظاهر المتبادر يحتاج إلى دليل صارف إليه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض .

قد قدمنا إيضاحه وكلام أهل العلم فيما يتعلق به من الأحكام في آخر " الأنفال " ، في الكلام على قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله الآية [ 8 \ 75 ] .
قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ من النبيين ميثاقهم ، ثم خص منهم بذلك خمسة : هم أولو العزم من الرسل ، وهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى . ولم يبين هنا الميثاق الذي أخذه عليهم ، ولكنه جل وعلا بين ذلك في غير هذا الموضع ; فبين الميثاق المأخوذ على جميع النبيين بقوله تعالى في سورة " آل عمران " : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ 3 \ 81 \ 82 ] . وقد قدمنا الكلام على هذه الآية في سورة " مريم " ، في الكلام على قصة الخضر ، وقد بين جل وعلا الميثاق الذي أخذه على خصوص الخمسة الذين هم أولو العزم من الرسل في سورة " الشورى " ، في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] .
وبما ذكرنا تعلم أن آية " آل عمران " ، وآية " الشورى " ، فيهما بيان لآية " الأحزاب " هذه .
[ ص: 234 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : ومنك ومن نوح من عطف الخاص على العام ، وقد تكلمنا عليه مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها .

أمر الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة أن يذكروا نعمته عليهم حين جاءتهم جنود وهم جيش الأحزاب ، فأرسل جل وعلا عليهم ريحا وجنودا لم يرها المسلمون ، وهذه الجنود التي لم يروها التي امتن عليهم بها هنا في سورة " الأحزاب " ، بين أنه من عليهم بها أيضا في غزوة حنين ، وذلك في قوله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها الآية [ 9 \ 25 - 26 ] ، وهذه الجنود هي الملائكة ، وقد بين جل وعلا ذلك في " الأنفال " ، في الكلام على غزوة بدر ، وذلك في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان الآية [ 8 \ 12 ] ، وهذه الجنود التي لم يروها التي هي الملائكة ، قد بين الله جل وعلا في " براءة " ، أنه أيد بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار ، وذلك في قوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها الآية [ 9 \ 40 ] .
قوله تعالى : ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، في غزوة الخندق ، قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، ولم يبين هنا الآية التي وعدهم إياه فيها ، ولكنه بين ذلك في سورة " البقرة " ، في قوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ 2 \ 214 ] ، وممن قال إن آية " البقرة " المذكورة مبينة لآية [ ص: 235 ] " الأحزاب " هذه ، ابن عباس ، وقتادة وغير واحد ، وهو ظاهر .
وقوله في هذه الآية الكريمة : وما زادهم إلا إيمانا ، صريح في أن الإيمان يزيد ، وقد صرح الله بذلك في آيات من كتابه ، فلا وجه للاختلاف فيه مع تصريح الله جل وعلا به في كتابه ، في آيات متعددة ; كقوله تعالى : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأنه كفى المؤمنين القتال ، وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . ولم يبين هنا السبب الذي رد به الذين كفروا وكفى به المؤمنين القتال ، ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [ 33 \ 9 ] ، أي : وبسبب تلك الريح وتلك الجنود ردهم بغيظهم وكفاكم القتال ، كما هو ظاهر .
قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الآية [ 33 \ 30 ] .
قد قدمنا الآية الموضحة له في آخر سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 90 ] ، وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات الآية [ 17 \ 75 ] .
قوله تعالى : ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من قنت من نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - لله ولرسوله ، وعمل عملا صالحا أن الله جل وعلا يؤتها أجرها مرتين . والقنوت : الطاعة . وما وعد الله به جل وعلا من أطاع منهن بإيتائها أجرها مرتين في هذه الآية الكريمة ، جاء الوعد بنظيره لغيرهن في غير هذا الموضع ، فمن ذلك وعده لمن آمن من أهل الكتاب بنبيه ، ثم آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بإيتائه أجره مرتين ، وذلك في قوله تعالى : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين الآية [ 28 \ 51 - 54 ] .

[ ص: 236 ] ومن ذلك وعده لجميع المطيعين من أمته - صلى الله عليه وسلم - بإيتائهم كفلين من رحمته تعالى ، وذلك في قوله جل وعلا : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم الآية [ 57 \ 28 ] .

واعلم : أن ظاهر هذه الآية الكريمة من سورة " الحديد " ، الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن الخطاب بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله الآية [ 57 \ 28 ] ، عام لجميع هذه الأمة كما ترى . وليس في خصوص مؤمني أهل الكتاب ، كما في آية " القصص " المذكورة آنفا ، وكونه عاما هو التحقيق إن شاء الله ; لظاهر القرآن المتبادر الذي لم يصرف عنه صارف ، فما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما من حمله آية " الحديد " هذه على خصوص أهل الكتاب ، كما في آية " القصص " خلاف ظاهر القرآن ، فلا يصح الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وإن وافق ابن عباس في ذلك الضحاك ، وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما ، واختاره ابن جرير الطبري .

والصواب في ذلك إن شاء الله هو ما ذكرنا ، لأن المعروف عند أهل العلم : أن ظاهر القرآن المتبادر منه ، لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .
وقال ابن كثير : وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية في حق هذه الأمة : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين ، أي : ضعفين من رحمته ، وزادهم ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم [ 57 \ 28 ] ، ففضلهم بالنور والمغفرة ، اهـ . نقله عنه ابن جرير ، وابن كثير ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في الترجمة ، وفي مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 29-12-2022 05:31 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (442)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 237 إلى صـ 244





ومما ذكرنا من أمثلة ذلك في الترجمة قولنا فيها : ومن أمثلته قول بعض أهل العلم : [ ص: 237 ] إن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - لا يدخلن في أهل بيته في قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، فإن قرينة السياق صريحة في دخولهن ; لأن الله تعالى قال : قل لأزواجك إن كنتن تردن [ 33 \ 28 ] ، ثم قال في نفس خطابه لهن : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، ثم قال بعده : واذكرن ما يتلى في بيوتكن الآية [ 33 \ 34 ] .
تنبيه .

اعلم أنه يكثر في القرآن العظيم ، وفي اللغة إتيان اللام المكسورة منصوبا بعدها المضارع بعد فعل الإرادة ; كقوله هنا : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس الآية ، وقوله : يريد الله ليبين لكم [ 4 \ 26 ] ، وقوله : يريدون ليطفئوا نور الله الآية [ 61 \ 8 ] ، وقوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ، إلى غير ذلك من الآيات . وكقول الشاعر :


أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
وللعلماء في اللام المذكورة أقوال ، منها : أنها مصدرية بمعنى أن ، وهو قول غريب . ومنها : أنها لام كي ، ومفعول الإرادة محذوف ، والتقدير : إنما يريد الله أن يأمركم وينهاكم ، لأجل أن يذهب عنكم الرجس ، والرجس كل مستقذر تعافه النفوس ، ومن أقذر المستقذرات معصية الله تعالى .
قوله تعالى : وتخفي في نفسك ما الله مبديه .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول ، وذكرنا أن من أمثلة ذلك قوله تعالى : وتخفي في نفسك ما الله مبديه [ 33 \ 37 ] ، لأن جملة : الله مبديه صلة الموصول الذي هو ما . وقد قلنا في الترجمة المذكورة : فإنه هنا أبهم هذا الذي أخفاه - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأبداه الله ، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حيث أوحى إليه ذلك ، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة ; لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 \ 37 ] ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن ، وهو اللائق بجنابه - صلى الله عليه وسلم .

وبه تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه في نفسه - صلى الله عليه وسلم - وأبداه الله وقوع [ ص: 240 ] زينب في قلبه ومحبته لها ، وهي تحت زيد ، وأنها سمعته قال : " سبحان مقلب القلوب " إلى آخر القصة ، كله لا صحة له ، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئا ، مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى محل الغرض من كلامنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك .

وقال القرطبي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد ، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، إلى أن قال : وهذا الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، يعني قوله : أمسك عليك زوجك [ 33 \ 37 ] ، ا هـ . ولا شك أن هذا القول غير صحيح ، وأنه غير لائق به - صلى الله عليه وسلم .

ونقل القرطبي نحوه عن مقاتل ، وابن عباس أيضا ، وذكر القرطبي عن علي بن الحسين أن الله أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن زيدا سيطلق زينب ، وأن الله يزوجها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد أن علم هذا بالوحي . قال لزيد : " أمسك عليك زوجك " . وأن الذي أخفاه في نفسه ، هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها ، ثم قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية . وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين ، والعلماء الراسخين ، كالزهري ، والقاضي بكر بن العلاء القشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ، إلى أن قال : فأما ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هوى زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق ، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا أو مستخف بحرمته .

قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وأسند إلى علي بن الحسين قوله : فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر ودرا من الدرر أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجه ، فكيف قال بعد ذلك لزيد : " أمسك عليك زوجك " ، وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه ، والله أحق أن تخشاه ، انتهى محل الغرض منه .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها ، فلا نوردها [ ص: 241 ] إلى آخر كلامه ، وفيه كلام علي بن الحسين الذي ذكرنا آنفا .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة ، هو ما ذكرنا أن القرآن دل عليه ، وهو أن الله أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن زيدا يطلق زينب ، وأنه يزوجها إياه - صلى الله عليه وسلم - ، وهي في ذلك الوقت تحت زيد ، فلما شكاها زيد إليه - صلى الله عليه وسلم - قال له : " أمسك عليك زوجك واتق الله " ، فعاتبه الله على قوله : " أمسك عليك زوجك " بعد علمه أنها ستصير زوجته هو - صلى الله عليه وسلم - ، وخشي مقالة الناس أن يقولوا : لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد .

والدليل على هذا أمران :

الأول : هو ما قدمنا من أن الله جل وعلا قال : وتخفي في نفسك ما الله مبديه ، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا هو زواجه إياها في قوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، ولم يبد جل وعلا شيئا مما زعموه أنه أحبها ، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى .

الأمر الثاني : أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها ، وأن الحكمة الإلاهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم الآية ، فقوله تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج ، تعليل صريح لتزويجه إياها لما ذكرنا ، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سببا في طلاق زيد لها كما زعموا ، ويوضحه قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا الآية ; لأنه يدل على أن زيدا قضى وطره منها ، ولم تبق له بها حاجة ، فطلقها باختياره ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بالإكثار من الذكر ، جاء معناه في آيات أخر ; كقوله تعالى : فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ 4 \ 103 ] ، وقوله تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ 3 \ 191 ] ، وقوله تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الآية [ 33 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 242 ] قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . لم يبين هنا المراد بالفضل الكبير في هذه الآية الكريمة ، ولكنه بينه في سورة " الشورى " في قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ 42 \ 22 ] .
قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا له أمثلة في الترجمة ، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة ، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة ، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومن أمثلته قول كثير من الناس إن آية " الحجاب " أعني قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب خاصة بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة ، في قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن ، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :


وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم


انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة .

وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن ; لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، هو علة قوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب ، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه ، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته ، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة [ ص: 243 ] لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين ، وعرف صاحب " مراقي السعود " دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه بقوله :


دلالة الإيــماء والتنـــبيه في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن لغير علة يعبه من فطن


وعرف أيضا الإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله : والثالث الإيما اقتران الوصف بالحكم ملفوظين دون خلف
وذلك الوصف أو النــظير قرانه لغــــيرها يضير


فقوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، لو لم يكن علة لقوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب ، لكان الكلام معيبا غير منتظم عند الفطن العارف .

وإذا علمت أن قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، هو علة قوله : فاسألوهن من وراء حجاب ، وعلمت أن حكم العلة عام .

فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها ، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت " مراقي السعود " ، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته ، وإذا كان حكم هذه الآية عاما بدلالة القرينة القرآنية .

فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء .

واعلم أنا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب على العموم ، ثم الأدلة من السنة ، ثم نناقش أدلة الطرفين ، ونذكر الجواب عن أدلة من قالوا بعدم وجوب الحجاب ، على غير أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا آنفا أن قوله : ذلكم أطهر لقلوبكم ، قرينة على عموم حكم آية الحجاب .

ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى : ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن [ 33 \ 59 ] ، فقد قال غير واحد من أهل العلم : إن معنى : يدنين عليهن من جلابيبهن : أنهن يسترن بها جميع وجوههن ، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها ، وممن قال به : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني وغيرهم .

[ ص: 244 ] فإن قيل : لفظ الآية الكريمة وهو قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة ، ولم يرد نص من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع على استلزامه ذلك ، وقول بعض المفسرين : إنه يستلزمه ، معارض بقول بعضهم : إنه لا يستلزمه ، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه .

فالجواب : أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها : يدنين عليهن من جلابيبهن يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها ، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى : قل لأزواجك ، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن ، لا نزاع فيه بين المسلمين . فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب ، كما ترى .

ومن الأدلة على ذلك أيضا : هو ما قدمنا في سورة " النور " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 40 \ 31 ] ، من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى : إلا ما ظهر منها الملاءة فوق الثياب ، وأنه لا يصح تفسير : إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين ، كما تقدم إيضاحه .

واعلم أن قول من قال : إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لا يدخل فيه ستر الوجه ، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى : ذلك أدنى أن يعرفن ، قال : وقد دل قوله : أن يعرفن على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن ; لأن التي تستر وجهها لا تعرف ، باطل ، وبطلانه واضح ، وسياق الآية يمنعه منعا باتا ; لأن قوله : يدنين عليهن من جلابيبهن صريح في منع ذلك .

وإيضاحه أن الإشارة في قوله : ذلك أدنى أن يعرفن راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن ، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن ، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن وكشفهن عن وجوههن كما ترى ، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه ، كما لا يخفى .

وقوله في الآية الكريمة : لأزواجك دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بكشف الوجوه ; لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 29-12-2022 05:34 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (443)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 245 إلى صـ 252





والحاصل : أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة : [ ص: 245 ] الأول : سياق الآية ، كما أوضحناه آنفا .

الثاني : قوله : لأزواجك ، كما أوضحناه أيضا .

الثالث : أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها ، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت ، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء ، ولا يتعرضون للحرائر ، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء ، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنا منهم أنهن إماء ، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء ، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق ، علموا أنهن حرائر ، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله : ذلك أدنى أن يعرفن ، فهي معرفة بالصفة لا بالشخص . وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن ، كما ترى .

فقوله : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر ، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن ، أي : يعلم أنهن حرائر ، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء ، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية ، وهو واضح ، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز ، هو حرام ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض ، وأنهم يدخلون في عموم قوله : والذين في قلوبهم مرض [ 33 \ 60 ] ، في قوله تعالى : والذين في قلوبهم مرض ، إلى قوله : وقتلوا تقتيلا [ 33 \ 60 - 61 ] .

ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى : فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض الآية [ 33 \ 32 ] ، وذلك معنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول الأعشى :
‌حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة : فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق ، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم ، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب .
تنبيه .

قد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، [ ص: 246 ] أن الفعل الصناعي عند النحويين ينحل عن مصدر وزمن ; كما قال ابن مالك في " الخلاصة " :

المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن .

وأنه عند جماعات من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن المصدر والزمن كامنان في مفهوم الفعل إجماعا ، وقد ترجع الإشارات والضمائر تارة إلى المصدر الكامن في مفهوم الفعل ، وتارة إلى الزمن الكامن فيه .

فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن فيه ، قوله تعالى هنا : يدنين عليهن ، ثم قال : ذلك أدنى أن يعرفن ، أي : ذلك الإدناء المفهوم من قوله : يدنين .

ومثال رجوع الإشارة للزمن الكامن فيه قوله تعالى : ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] ، فقوله : ذلك يعني زمن النفخ المفهوم من قوله : ونفخ ، أي : ذلك الزمن يوم الوعيد .

ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام هو ما تقرر في الأصول ، من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة ، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب ، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة " الحج " ، في مبحث النهي عن لبس المعصفر ، وقد قلنا في ذلك ; لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة ، لاستوائهم في أحكام التكليف ، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه ، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد ، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم ؟ خلاف في حال لا خلاف حقيقي ، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم ، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم أن خطاب الواحد لا يعم ; لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره ، وإذا كان لا يشمله وضعا ، فلا يكون صيغة عموم . ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره ، ولكن بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس .

أما القياس فظاهر ، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي .

والنص كقوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " إني لا أصافح [ ص: 247 ] النساء ، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة " .

قالوا : ومن أدلة ذلك حديث : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " . قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات : اعلم أن حديث " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، لا يعرف له أصل بهذا اللفظ ، ولكن روى الترمذي وقال : حسن صحيح . والنسائي وابن ماجه وابن حبان ، قوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " إني لا أصافح النساء " ، وساق الحديث كما ذكرناه ، وقال صاحب " كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وفي لفظ : " كحكمي على الجماعة " ، ليس له أصل بهذا اللفظ ; كما قاله العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي . وقال في " الدرر " كالزركشي : لا يعرف . وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه ، نعم يشهد له ما رواه الترمذي والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة ، فلفظ النسائي : " ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة " ، ولفظ الترمذي : " إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " ، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما ، وقال ابن قاسم العبادي في " شرح الورقات الكبير " : " حكمي على الواحد " لا يعرف له أصل إلى آخره ، قريبا مما ذكرناه عنه ، انتهى .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا ، وهي صحابية من المبايعات ، ورقيقة أمها ، وهي أخت خديجة بنت خويلد ، وقيل : عمتها ، واسم أبيها بجاد - بموحدة ثم جيم - ابن عبد الله بن عمير التيمي ، تيم بن مرة . وأشار إلى ذلك في " مراقي السعود " بقوله :
خطاب واحد لغير الحنبل من غير رعي النص والقيس الجلي
انتهى محل الغرض منه .
وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا تعلم أن حكم آية الحجاب عام ، وإن كان لفظها خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ; لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة ، كما رأيت إيضاحه قريبا .

ومن الأدلة القرآنية الدالة على الحجاب قوله تعالى : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم [ 24 \ 60 ] [ ص: 248 ] لأن الله جل وعلا بين في هذه الآية الكريمة أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا ، أي : لا يطمعن في النكاح لكبر السن وعدم حاجة الرجال إليهن يرخص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهن ، بشرط كونهن غير متبرجات بزينة ، ثم إنه جل وعلا مع هذا كله قال : وأن يستعففن خير لهن ، أي : يستعففن عن وضع الثياب خير لهن ، أي : واستعفافهن عن وضع ثيابهن مع كبر سنهن وانقطاع طمعهن في التزويج ، وكونهن غير متبرجات بزينة خير لهن .

وأظهر الأقوال في قوله : أن يضعن ثيابهن ، أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب ، التي تكون فوق الخمار والثياب .

فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : وأن يستعففن خير لهن ، دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح ، لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب .

وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام ، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب ، علمت أن القرآن دل على الحجاب ، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة ، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مريض القلب كما ترى .

واعلم أنه مع دلالة القرآن على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب ، قد دلت على ذلك أيضا أحاديث نبوية ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والدخول على النساء " ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرأيت الحمو ؟ قال : " الحمو الموت " . أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب " النكاح " ، في باب : لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم إلخ . ومسلم في كتاب " السلام " ، في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحذير الشديد من الدخول على النساء ، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعا إلا من وراء [ ص: 249 ] حجاب ; لأن من سألها متاعا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذره من الدخول عليها ، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرما لزوجته ، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك قال له - صلى الله عليه وسلم - : " الحمو الموت " ، فسمى - صلى الله عليه وسلم - دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت ، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير ; لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا ، كما قال الشاعر :


والموت أعظم حادث مما يمر على الجبله


والجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] ، فتحذيره - صلى الله عليه وسلم - هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء ، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب عام في جميع النساء ، كما ترى . إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء ، وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما ، وهو كذلك ، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريما شديدا بانفراده ، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فدل على أن كليهما حرام .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرح الحديث المذكور : " إياكم والدخول " ، بالنصب على التحذير ، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز عنه ; كما قيل : إياك والأسد ، وقوله : " إياكم " ، مفعول لفعل مضمر تقديره : اتقوا .

وتقدير الكلام : اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء ، والنساء أن يدخلن عليكم . ووقع في رواية ابن وهب ، بلفظ : " لا تدخلوا على النساء " ، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى ، انتهى محل الغرض منه . وقال البخاري رحمه الله في " صحيحه " ، باب وليضربن بخمرهن على جيوبهن . وقال أحمد بن شبيب : حدثنا أبي عن يونس ، قال ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن [ 24 \ 31 ] ، شققن مروطهن فاختمرن بها .

حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة : [ ص: 250 ] أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول : لما نزلت هذه الآية وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها ، انتهى من صحيح البخاري . وقال ابن حجر في " الفتح " ، في شرح هذا الحديث : قوله : فاختمرن ، أي غطين وجوههن ، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ، وهو التقنع . قال الفراء : كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار . انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .

وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، يقتضي ستر وجوههن ، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن ، أي : سترن وجوههن بها امتثالا لأمر الله في قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن المقتضي ستر وجوههن ، وبهذا يتحقق المنصف أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى ، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه ، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن ، والله جل وعلا يقول : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] ، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن صفية ما يوضح ذلك ، ولفظه : ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن ، فقالت : إن لنساء قريش لفضلا ، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، ولقد أنزلت سورة " النور " : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .

ومعنى معتجرات : مختمرات ، كما جاء موضحا في رواية البخاري المذكورة آنفا ، فترى عائشة - رضي الله عنها - مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم ، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله ، كما ترى . [ ص: 251 ] فالعجب كل العجب ، ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب ، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله ، ومعنى هذا ثابت في الصحيح ، كما تقدم عن البخاري . وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين ، كما ترى .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وقال البزار أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثني عمرو بن عاصم ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن مورق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها " ، ورواه الترمذي عن بندار ، عن عمرو بن عاصم به نحوه ، اه منه .

وقد ذكر هذا الحديث صاحب " مجمع الزوائد " ، وقال : رواه الطبراني في " الكبير " ، ورجاله موثقون ، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة ، وما جاء فيه من كون المرأة عورة ، يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة .

ومما يؤيد ذلك : ما ذكر الهيثمي أيضا في " مجمع الزوائد " ، عن ابن مسعود قال : إنما النساء عورة ، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان ، فيقول : إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه ، وإن المرأة لتلبس ثيابها فقال : أين تريدين ؟ فتقول : أعود مريضا أو أشهد جنازة ، أو أصلي في مسجد ، وما عبدت امرأة ربها ، مثل أن تعبده في بيتها ، ثم قال : رواه الطبراني في " الكبير " ، ورجاله ثقات ، اه منه . ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه .

ومن الأدلة الدالة على ذلك الأحاديث التي قدمناها ، الدالة على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد ، كما أوضحناه في سورة " النور " في الكلام على قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية [ 24 \ 36 - 37 ] ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا ، وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحق .

فقد ذكرنا الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، والأحاديث الصحيحة الدالة على الحجاب ، وبينا أن من أصرحها في ذلك آية " النور " ، مع تفسير الصحابة لها ، وهي قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي ، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن [ ص: 252 ] الرجال ، وأن ستر المرأة وجهها عمل بالقرآن ، كما قالته عائشة رضي الله عنها .

وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلة على عموم الحجاب يكفي المنصف ، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم ، عما استدل به الذين قالوا بجواز إبداء المرأة وجهها ويديها ، بحضرة الأجانب .

فمن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال : " يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " وأشار إلى وجهه وكفيه ; وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين :

الأولى : هي كونه مرسلا ; لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة ، كما قاله أبو داود ، وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة " النور " .

الجهة الثانية : أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم ، قال فيه في " التقريب " : ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب ، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب .

ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث جابر الثابت في الصحيح ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ، ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، فقال : " تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم " فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين ، فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة ، وتكفرن العشير " ، قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن ، اه . هذا لفظ مسلم في " صحيحه " ، قالوا : وقول جابر في هذا الحديث : سفعاء الخدين يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها ، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها ، ولما علم بأنها سفعاء الخدين . وأجيب عن حديث جابر هذا : بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها ، وأقرها على ذلك ، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رأى وجهها ، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا ، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد ، فيراه بعض الناس في تلك الحال ، كما قال نابغة ذبيان :

[ ص: 253 ]
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 29-12-2022 05:41 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (444)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 253 إلى صـ 260






فعلى المحتج بحديث جابر المذكور ، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة ، وأقرها على ذلك ، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك . وقد روى القصة المذكورة غير جابر ، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها ، وقد ذكر مسلم في " صحيحه " ممن رواها غير جابر أبا سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وذكره غيره عن غيرهم . ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين ، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور . وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم ، وقوله : فقامت امرأة من سطة النساء ، هكذا هو في النسخ ( سطة ) بكسر السين ، وفتح الطاء المخففة . وفي بعض النسخ : واسطة النساء . قال القاضي : معناه : من خيارهن ، والوسط العدل والخيار ، قال : وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم ، وأن صوابه من سفلة النساء ، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده ، والنسائي في سننه . في رواية لابن أبي شيبة : امرأة ليست من علية النساء ، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده : سفعاء الخدين هذا كلام القاضي ، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول ، بل هي صحيحة ، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسره به هو ، بل المراد : امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . قال الجوهري وغيره من أهل اللغة : يقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة ، أي : توسطتهم ، اه منه . وهذا التفسير الأخير هو الصحيح ، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة ، ويحتمل أن جابرا ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها ; لأن سفعة الخدين قبح في النساء . قال النووي : سفعاء الخدين ، أي : فيها تغير وسواد . وقال الجوهري في " صحاحه " : والسفعة في الوجه : سواد في خدي المرأة الشاحبة ، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة ، قال حميد بن ثور :


من الورق سفعاء العلاطين باكرت فروع أشاء مطلع الشمس أسحما


قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب : أنها سواد وتغير في الوجه ، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد ، ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكا :


تقول ابنة العمري ما لك بعدما أراك خضيبا ناعم البال أروعا


[ ص: 254 ]
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة وجد تترك الخد أسفعا


ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور ، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :


أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك


والمقصود : أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه ، وبعض أهل العلم يقول : إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها ، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا .

ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ، حديث ابن عباس الذي قدمناه ، قال : أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفق الفضل ينظر إليها ، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا . . . الحديث ، قالوا : فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها .

وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين :

الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه ، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة ، وفي بعض روايات الحديث : أنها حسناء ، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد ، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها ، كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها ، ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روي عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه ، لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل ، وهو لم يقل له : إنها كانت كاشفة عن وجهها ، [ ص: 255 ] واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها ، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها ، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها .

فإن قيل : قوله : إنها وضيئة ، وترتيبه على ذلك بالفاء قوله : فطفق الفضل ينظر إليها ، وقوله : وأعجبه حسنها ، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها ، وينظر إليه لإعجابه بحسنه .

فالجواب : أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما ، لا ينفك أنها كانت كاشفة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك ، وأقرها ؛ لما ذكرنا من أنواع الاحتمال ، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة ، وذلك لحسن قدها وقوامها ، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط ، كما هو معلوم . ولذلك فسر ابن مسعود : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 24 \ 31 ] ، بالملاءة فوق الثياب ، كما تقدم . ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر :


طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا


فقد بالغ في حسن قوامها ، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا .

الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها ، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليه ، وعليها ستره من الرجال في الإحرام ، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها ، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور .

فإن قيل : كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة ; لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج ، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال .

فالجواب : أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء ، فلا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة ، من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر الفضل إليها ، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها ، أنه لا سبيل إلى ترك [ ص: 256 ] الأجانب ينظرون إلى الشابة ، وهي سافرة كما ترى ، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم .

وبالجملة ، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب ، مع أن الوجه هو أصل الجمال ، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة ، والوقوع فيما لا ينبغي ، ألم تسمع بعضهم يقول :


قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم


أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ، ولقد صدق من قال :
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة أعني آية الحجاب هذه
اعلم : أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية منه .
ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها .
والدليل على ذلك أمور :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال : " إني لا أصافح النساء " ، الحديث . والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداء به صلى الله عليه وسلم ، والحديث المذكور موضح في سورة " الحج " ، في الكلام على النهي عن لبس المعصفر مطلقا في الإحرام وغيره للرجال . وفي سورة " الأحزاب " ، في آية الحجاب هذه .
وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة ، ولا يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها ; لأن أخف أنواع اللمس المصافحة ، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة ، دل ذلك على أنها لا تجوز ، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره .




وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، فلا يصح إخراجها بمخصص ، وروي عن مالك أنها ظنية الدخول ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :



واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب


فالحق أنهن داخلات في الآية ، اهـ . من ترجمة هذا الكتاب المبارك .

والتحقيق إن شاء الله : أنهن داخلات في الآية ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .

أما الدليل على دخولهن في الآية ، فهو ما ذكرناه آنفا من أن سياق الآية صريح في أنها نازلة فيهن .

والتحقيق : أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ; كما هو مقرر في الأصول .

ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت ، قوله تعالى في زوجة إبراهيم : قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت [ 1 \ 73 ] .

وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية ، فهو أحاديث جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في علي وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ، ودعا لهم الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا . وقد روى ذلك جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - وأبو سعيد ، وأنس ، وواثلة بن الأسقع ، وأم المؤمنين عائشة ، وغيرهم رضي الله عنهم .
وبما ذكرنا من دلالة القرآن والسنة تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين ، رضي الله عنهم كلهم .
[ ص: 238 ] تنبيه .

فإن قيل : إن الضمير في قوله : ليذهب عنكم الرجس ، وفي قوله : ويطهركم تطهيرا ، ضمير الذكور ، فلو كان المراد نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيل : ليذهب عنكن ويطهركن .

فالجواب من وجهين : الأول : هو ما ذكرنا من أن الآية الكريمة شاملة لهن ولعلي والحسن والحسين وفاطمة ، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها ، كما هو معلوم في محله .

الوجه الثاني : هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله تعالى في موسى : فقال لأهله امكثوا [ 20 \ 10 ] ، وقوله : سآتيكم [ 27 \ 7 ] ، وقوله : لعلي آتيكم [ 20 \ 10 ] ، والمخاطب امرأته ; كما قاله غير واحد ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :


فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لسن داخلات في الآية ، يرد عليه صريح سياق القرآن ، وأن من قال : إن فاطمة وعليا والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها ، ترد عليه الأحاديث المشار إليها .

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة ، والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية ، يعني : أنه يذهب الرجس عنهم ، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله ، وينهى عنه من معصيته ; لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس ، وطهره من الذنوب تطهيرا .
وقال الزمخشري في " الكشاف " : ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المآثم ، وليتصونوا عنها بالتقوى ، واستعار للذنوب الرجس وللتقوى الطهر ; لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما الحسنات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر ، وفي هذه الاستعارة [ ص: 239 ] ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ، ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما يرضاه لهم ، وأمرهم به . وأهل البيت نصب على النداء أو على المدح ، وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته .



[ ص: 257 ] الأمر الثاني : هو ما قدمنا من أن المرأة كلها عورة يجب عليها أن تحتجب ، وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة ، ولا شك أن مس البدن للبدن ، أقوى في إثارة الغريزة ، وأقوى داعيا إلى الفتنة من النظر بالعين ، وكل منصف يعلم صحة ذلك .

الأمر الثالث : أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية ، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة ، وعدم التورع عن الريبة ، وقد أخبرنا مرارا أن بعض الأزواج من العوام ، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاما ، فيقولون : سلم عليها ، يعنون : قبلها ، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها ، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها ; كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم

قوله تعالى : يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله . أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس الذين يسألونه عن الساعة : إنما علمها عند الله ، ومعلوم أن إنما صيغة حصر .

فمعنى الآية : أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء واضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية [ 31 \ 34 ] .

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الخمس المذكورة في قوله : إن الله عنده علم الساعة الآية ، هي المراد بقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، وكقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 7 \ 187 ] ، وقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها [ 79 \ 42 - 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 258 ] إليه يرد علم الساعة الآية [ 41 \ 47 ] ، وفي الحديث : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قوله تعالى وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الساعة التي هي القيامة لعلها تكون قريبا ، وذكر نحوه في قوله في " الشورى " : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، وقد أوضح جل وعلا اقترابها في آيات أخر ; كقوله : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] ، وقوله : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] .
قوله تعالى إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ، إلى قوله : لعنا كبيرا . تقدمت الآيات الموضحة له مرارا .
قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة ، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال ، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، أي : خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه ، وهذا العرض والإباء ، والإشفاق كله حق ، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه ، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها ، وأبت وأشفقت ، أي : خافت .

ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة ، فمن الآيات الدالة على إدراك الجمادات المذكور : قوله تعالى في سورة " البقرة " ، في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو تعالى .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الآية [ 17 \ 44 ] ، [ ص: 259 ] ومنها قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن [ 21 \ 79 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك قصة حنين الجذع ، الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر ، وهي في صحيح البخاري وغيره .

ومنها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي في مكة " ، وأمثال هذا كثيرة . فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة إنما يكون بإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ; كما قال تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، ولو كان المراد بتسبيح الجمادات دلالتها على خالقها لكنا نفقهه ، كما هو معلوم ، وقد دلت عليه آيات كثيرة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ، الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، راجع للفظ : الإنسان ، مجردا عن إرادة المذكور منه ، الذي هو آدم .

والمعنى : أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوما جهولا ، أي : كثير الظلم والجهل ، والدليل على هذا أمران :

أحدهما : قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده ، متصلا به : ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 73 ] ، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب ، والعياذ بالله ، وهم المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، دون المؤمنين والمؤمنات . واللام في قوله : ليعذب : لام التعليل ، وهي متعلقة بقوله : وحملها الإنسان .

الأمر الثاني : أن الأسلوب المذكور - الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي - معروف في اللغة التي نزل بها القرآن ، وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله ، وهي قوله تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ; [ ص: 260 ] لأن الضمير في قوله : ولا ينقص من عمره ، راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي ; كما هو ظاهر ، وقد أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] ، وبينا هناك أن هذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كما ترى . وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، عائد إلى آدم ، قال : المعنى أنه كان ظلوما لنفسه جهولا ، أي : غرا بعواقب الأمور ، وما يتبع الأمانة من الصعوبات ، والأظهر ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:07 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (445)
سُورَةُ سَبَأٍ
صـ 261 إلى صـ 268





[ ص: 261 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ سَبَأٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ . قَدْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْفَاتِحَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 1 \ 2 ] .
قوله تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما يلج في الأرض ، أي : ما يدخل فيها كالماء النازل من السماء ، الذي يلج في الأرض ; كما أوضحه بقوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض الآية [ 39 \ 21 ] .

وقوله : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض الآية [ 23 \ 18 ] ، فهو جل وعلا يعلم عدد القطر النازل من السماء إلى الأرض ، وكيف لا يعلمه من خلقه : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] ، ويعلم أيضا ما يلج في الأرض من الموتى الذين يدفنون فيها ; كما قال جل وعلا : منها خلقناكم وفيها نعيدكم [ 20 \ 55 ] ، وقال : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا [ 77 \ 25 - 26 ] ، والكفات من الكفت : وهو الضم ; لأنها تضمهم أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها ، ويعلم أيضا ما يلج في الأرض من البذر ; كما قال تعالى : ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وكذلك ما في بطنها من المعادن ، وغير ذلك .

قوله : وما يخرج منها ، أي : من الأرض كالنبات والحبوب ، والمعادن ، والكنوز ، والدفائن وغير ذلك ، ويعلم وما ينزل من السماء من المطر ، والثلج ، والبرد ، والرزق وغير ذلك . وما يعرج ، أي : يصعد فيها ، أي : السماء ، كالأعمال [ ص: 262 ] الصالحة ; كما بينه بقوله : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، وكأرواح المؤمنين وغير ذلك ; كما قال تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] .

وقال تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يعلم جميع ما ذكر ، ذكره في سورة " الحديد " ، في قوله : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور وقال الذين كفروا لا تأتينا [ 57 \ 4 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على كمال إحاطة علم الله بكل شيء في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] ، وفي مواضع أخر متعددة .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار أنكروا البعث ، وقالوا : لا تأتينا الساعة ، أي : القيامة ، وأنه جل وعلا أمر نبيه أن يقسم لهم بربه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكدا ذلك توكيدا متعددا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، وقوله تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا [ 19 \ 66 ] ، وقوله تعالى عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وما نحن بمنشرين [ 44 \ 66 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وما ذكره جل وعلا من أنه أمر نبيه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون ، جاء موضحا في مواضع أخر .

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهن ، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد ، فإحداهن في سورة " يونس " عليه السلام ، وهي قوله تعالى : [ ص: 263 ] ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، والثانية هذه : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ، والثالثة في سورة " التغابن " ، وهي قوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم الآية [ 64 \ 7 ] .

وقد قدمنا البراهين الدالة على البعث بعد الموت من القرآن في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " وغيرهما .

وقد قدمنا الآيات الدالة على إنكار الكفار البعث ، وما أعد الله لمنكري البعث من العذاب في " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] ، وفي مواضع أخر . وقوله : قل بلى لفظة : بلى قد قدمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى الآية [ 16 \ 28 ] .
قوله تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا يعزب ، أي : لا يغيب عنه مثقال ذرة ، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :


أخي كان أما حلمه فمروح عليه وأما جهله فعزيب


[ ص: 264 ] يعني : أن الجهل غائب عنه ليس متصفا به . وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر : عالم الغيب ، بألف بعد العين وتخفيف اللام المكسورة ، وضم الميم على وزن فاعل . وقرأه حمزة والكسائي : علام الغيب ، بتشديد اللام وألف بعد اللام المشددة وخفض الميم على وزن فعال . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : عالم الغيب ; كقراءة نافع وابن عامر ، إلا أنهم يخفضون الميم . وعلى قراءة نافع وابن عامر بضم الميم ، من قوله : عالم الغيب ، فهو مبتدأ خبره جملة : لا يعزب عنه الآية ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عالم الغيب .

وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم : عالم الغيب ، بخفض الميم فهو نعت لقوله : ربي ، أي : قل : بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم ، وكذلك على قراءة حمزة والكسائي : علام الغيب . وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير الكسائي : لا يعزب عنه ، بضم الزاي من يعزب ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي .
قوله تعالى : والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم . لم يبين هنا نوع هذا العذاب ، ولكنه بينه بقوله في " الحج " : والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 22 \ 51 ] ، وقوله : معاجزين ، أي : مغالبين ومسابقين ، يظنون أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر على بعثهم وعذابهم . والرجز : العذاب ; كما قال : فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا الآية [ 2 \ 59 ] ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو : معجزين ، بلا ألف بعد العين مع تشديد الجيم المكسورة . وقرأه الباقون بألف بعد العين ، وتخفيف الجيم ، ومعنى قراءة التشديد أنهم يحسبون أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر على بعثهم وعقابهم .

وقال بعضهم : إن معنى معجزين بالتشديد ، أي : مثبطين الناس عن الإيمان . وقرأ ابن كثير وحفص : من رجز أليم ، بضم الميم من قوله : أليم على أنه نعت ; لقوله : عذاب وقرأ الباقون : أليم بالخفض على أنه نعت لقوله : رجز .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد إلى قوله : والضلال البعيد . [ ص: 265 ] ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار البعث ، وتكذيب الله لهم في ذلك ، قدم موضحا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في " البقرة " و " النحل " وغيرهما .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذا مزقتم كل ممزق ، أي : تمزقت أجسادكم وتفرقت وبليت عظامكم ، واختلطت بالأرض ، وتلاشت فيها . وقوله عنهم : إنكم لفي خلق جديد ، أي : البعث بعد الموت ، وهو مصب إنكارهم قبحهم الله ، وهو جل وعلا يعلم ما تلاشى في الأرض من أجسادهم وعظامهم ; كما قال تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ [ 50 \ 4 ] .
قوله تعالى : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من توبيخ الكفار ، وتقريعهم على عدم تفكرهم ونظرهم إلى ما بين أيديهم ، وما خلفهم من السماء والأرض ، ليستدلوا بذلك على كمال قدرة الله على البعث ، وعلى كل شيء ، وأنه هو المعبود وحده ، جاء موضحا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [ 50 \ 6 - 8 ] ، وقوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] ، وقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض [ 34 \ 9 ] ، قال : إنك إن نظرت عن يمينك ، أو عن شمالك ، أو من بين يديك ، أو من خلفك ، رأيت السماء والأرض .
قوله تعالى : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أمرين :

أحدهما : أنه إن شاء خسف الأرض بالكفار ، خسفها بهم لقدرته على ذلك .

[ ص: 366 ] والثاني : أنه إن شاء أن يسقط عليهم كسفا من السماء ، فعل ذلك أيضا لقدرته عليه .

أما الأول : الذي هو أنه لو شاء أن يخسف بهم الأرض لفعل ، فقد ذكره تعالى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور [ 67 \ 16 ] ، وقوله تعالى : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر الآية [ 17 \ 68 ] ، وقوله تعالى : لولا أن من الله علينا لخسف بنا [ 28 \ 82 ] ، وقوله تعالى في " الأنعام " : أو من تحت أرجلكم الآية [ 6 \ 65 ] .

وقوله هنا : أو نسقط عليهم كسفا من السماء ، قد بينا في سورة " بني إسرائيل " ، أنه هو المراد بقوله تعالى عن الكفار : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا الآية [ 17 \ 92 ] . وقرأه حمزة والكسائي : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء بالياء المثناة التحتية في الأفعال الثلاثة ، أعني : يشأ ، ويخسف ، ويسقط ; وعلى هذه القراءة فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى ، أي : إن يشأ هو ، أي : الله ، يخسف بهم الأرض ، وقرأ الباقون بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة ، أي : إن نشأ نحن . . إلخ ، وقرأ حفص عن عاصم : كسفا بفتح السين ، والباقون بسكونها والكسف بفتح السين القطع ، والكسف بسكون السين واحدها .
قوله تعالى : ولقد آتينا داود منا فضلا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى داود منه فضلا تفضل به عليه ، وبين هذا الفضل الذي تفضل به على داود في آيات أخر ; كقوله تعالى : وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء [ 2 \ 251 ] ، وقوله تعالى : وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب [ 38 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب [ 38 ] ، وقوله تعالى : فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ 38 ] ، وقوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض [ 38 \ 26 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ 27 \ 15 ] ، وقوله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ 17 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 267 ] قوله تعالى : ياجبال أوبي معه والطير .

قد بينا الآيات الموضحة له مع إيضاح معنى أوبي معه في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين [ 21 \ 79 ] .
قوله تعالى : وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد .

قد قدمنا الآيات التي فيها إيضاحه مع بعض الشواهد ، وتفسير قوله : وقدر في السرد ، في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم [ 21 \ 80 ] . وفي " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] .
قوله تعالى : ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر .

قد بينا الآيات التي فيها إيضاح له في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض الآية [ 21 \ 81 ] ، مع الأجوبة عن بعض الأسئلة الواردة على الآيات المذكورة .
قوله تعالى : ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ، إلى قوله تعالى : وقدور راسيات . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 21 \ 82 ] .
قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى عنه : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين الآية [ 15 \ 39 ] . وفي سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 17 ] ، وقوله : ولقد صدق ، قرأه عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الدال ، والباقون بالتخفيف .
قوله تعالى : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة الآية . [ ص: 268 ] قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين الآية [ 15 \ 40 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [ 17 \ 56 ] .
قوله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يقبل منها شفاعة [ 2 \ 48 ] .
قوله تعالى قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله . أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار : من يرزقكم من السماوات والأرض ، أي : يرزقكم من السماوات بإنزال المطر مثلا ، والأرض بإنبات الزروع والثمار ، ونحو ذلك . ثم أمره أن يقول : الله ، أي : الذي يرزقكم من السماوات والأرض هو الله ، وأمره تعالى له صلى الله عليه وسلم بأن يجيب بأن رازقهم هو الله يفهم منه أنهم مقرون بذلك ، وأنه ليس محل نزاع .

وقد صرح تعالى بذلك في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وإقرارهم بربوبيته تعالى يلزمه الاعتراف بعبادته وحده والعلم بذلك .
وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لذلك في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:11 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (446)
سُورَةُ فَاطِرٍ
صـ 269 إلى صـ 276





[ ص: 269 ] قوله تعالى : قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار : إنهم وإياهم ليس أحد منهم مسئولا عما يعمله الآخر ، بل كل منهم مؤاخذ بعمله ، والآخر بريء منه .

وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] ، وقوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، إلى قوله : لكم دينكم ولي دين [ 109 \ 1 - 6 ] ، وفي معنى ذلك في الجملة قوله تعالى : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [ 2 \ 141 ] ; وكقوله تعالى عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني [ 11 \ 54 - 55 ] .
قوله تعالى : قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول لعبدة الأوثان : أروني أوثانكم التي ألحقتموها بالله شركاء له في عبادته كفرا منكم ، وشركا وافتراء ، وقوله : أروني الذين ألحقتم به شركاء ، لأنهم إن أروه إياها تبين برؤيتها أنها جماد لا ينفع ولا يضر ، واتضح بعدها عن صفات الألوهية ، فظهر لكل عاقل برؤيتها بطلان عبادة ما لا ينفع ولا يضر ، فإحضارها والكلام فيها ، وهي مشاهدة أبلغ من الكلام فيها غائبة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعرفها ، وكما أنه في هذه الآية الكريمة أمرهم أن يروه إياها ليتبين بذلك بطلان عبادتها ، فقد أمرهم في آية أخرى أن يسموها بأسمائها ; لأن تسميتها بأسمائها يظهر بها بعدها عن صفات الألوهية ، وبطلان عبادتها لأنها أسماء إناث حقيرة كاللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ; كما قال تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا الآية [ 4 \ 117 ] ، وذلك في قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد [ 13 \ 33 ] .

والأظهر في قوله : أروني الذين ألحقتم به في هذه الآية : هو ما ذكرنا من أن الرؤية بصرية ، وعليه فقوله : شركاء حال ، وقال بعض أهل العلم : إنها من رأى [ ص: 270 ] العلمية ، وعليه فـ شركاء مفعول ثالث لـ أروني ، قال القرطبي : يكون أروني هنا من رؤية القلب ، فيكون : شركاء مفعولا ثالثا ، أي : عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل ، وهل شاركت في خلق شيء ، فبينوا ما هو وإلا فلم تعبدونها ، اه محل الغرض منه . واختار هذا أبو حيان في " البحر المحيط " . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كلا ردع لهم ، وزجر عن إلحاق الشركاء به . وقوله :بل هو الله العزيز الحكيم ، أي : المتصف بذلك هو المستحق للعبادة ، وقد قدمنا معنى العزيز الحكيم بشواهده مرارا .
قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . وقوله تعالى : إلا كافة للناس ، استشهد به بعض علماء العربية على جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " بقوله :

وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمنعه فقد ورد

قالوا : لأن المعنى : وما أرسلناك إلا كافة للناس ، أي : جميعا ، أي : أرسلناك للناس في حال كونهم مجتمعين في رسالتك ، وممن أجاز ذلك أبو علي الفارسي ، وابن كيسان ، وابن برهان ، ولذلك شواهد في شعر العرب ; كقول طليحة بن خويلد الأسدي :


فإن تك أذواد أصبن ونسوة فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال


وكقول كثير :


لئن كان برد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب


وقول الآخر :


تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكركم حتى كأنكم عندي


وقول الآخر :


غافلا تعرض المنية للمرء فيدعى ولات حين إباء


[ ص: 271 ] وقوله :


مشغوفة بك قد شغفت وإنما حم الفراق فما إليك سبيل


وقوله :


إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد


فقوله في البيت الأول : فرغا ، أي : هدرا ، حال وصاحبه المجرور بالباء الذي هو بقتل ، وحبال اسم رجل . وقوله في البيت الثاني : هيمان صاديا ، حالان من ياء المتكلم المجرورة بإلى في قوله : إلي حبيبا . وقوله في البيت الثالث : طرا حال من الضمير المجرور بعن ، في قوله : عنكم ، وهكذا وتقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف منعه أغلب النحويين .

وقال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس ، إلا رسالة عامة لهم محيطة بهم ; لأنهم إذا شملتهم ، فإنها قد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم .

وقال الزجاج : المعنى : أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ فجعله حالا من الكاف ، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة ، ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ ; لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ; لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني ، فلا بد له من ارتكاب الخطأين ، اه منه .

وقال الشيخ الصبان في حاشيته على الأشموني : جعل الزمخشري كافة صفة لمصدر محذوف ، أي : رسالة كافة للناس ، ولكن اعترض بأن كافة مختصة بمن يعقل وبالنصب على الحال كطرا وقاطبة ، انتهى محل الغرض منه . وما ذكره الصبان في كافة هو المشهور المتداول في كلام العرب ، وأوضح ذلك أبو حيان في " البحر " ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون . [ ص: 272 ] قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك الآية [ 6 \ 116 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 10 \ 49 ] .
قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ، إلى قوله : إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا . ذكرنا بعض الآيات التي فيها بيان له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا [ 2 \ 166 ] ، وبيناه في مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . جاء موضحا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل [ 40 \ 71 ] ، وقوله : أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم [ 13 \ 5 ] ، وقوله : ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون . قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها [ 6 \ 123 ] ، وأوضحنا ذلك في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .
قوله تعالى : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين . وقوله تعالى : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى . [ ص: 273 ] قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .
قوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم الآية [ 25 \ 17 - 18 ] .
قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] .
قوله تعالى : وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير . قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه أهلك الأمم الماضية لما كذبت رسله ، وأن الأمم الماضية أقوى ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأن كفار مكة عليهم أن يخافوا من إهلاك الله لهم بسبب تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم ، ولم يؤتوا ، أي : كفار مكة ، معشار ما أتى الله الأمم التي أهلكها من قبل من القوة ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض [ 40 \ 82 ] ، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله [ ص: 274 ] تعالى : وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها [ 30 \ 9 ] .
قوله تعالى : ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] .
قوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] .
قوله تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي .

قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث [ 21 \ 78 ] ، في معرض بيان حجج الظاهرية في دعواهم منع الاجتهاد .
قوله تعالى : وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون بالله ، وأن ذلك الإيمان لا ينفعهم لفوات وقت نفعه ، الذي هو مدة دار الدنيا جاء موضحا في آيات كثيرة .

وقد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق الآية [ 7 \ 53 ] . وفي سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . وقوله تعالى في [ ص: 275 ] هذه الآية الكريمة : وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ، أنى تدل على كمال الاستبعاد هنا ، و التناوش : التناول ، وقال بعضهم : هو خصوص التناول السهل للشيء القريب .

والمعنى : أنه يستبعد كل الاستبعاد ويبعد كل البعد ، أن يتناول الكفار الإيمان النافع في الآخرة بعدما ضيعوا ذلك وقت إمكانه في دار الدنيا ، وقيل الاستبعاد لردهم إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا ، والأول أظهر ، ويدل عليه قوله قبله : وقالوا آمنا به ، ومن أراد تناول شيء من مكان بعيد لا يمكنه ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 276 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ فَاطِرٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ الْآيَةَ .

الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لِلِاسْتِغْرَاقِ ، أَيْ : جَمِيعُ الْمَحَامِدِ ثَابِتٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَقَدْ أَثْنَى جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْحَمْدِ الْعَظِيمِ مُعَلِّمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، مُقْتَرِنًا بِكَوْنِهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، مَعَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ بِخَلْقِهِمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ ، وَلِإِنْعَامِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمَا ، وَكَوْنِ خَلْقِهِمَا جَامِعًا بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ، جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ . أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ حَمْدَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِكُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ الْآيَةَ [ 6 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " سَبَأٍ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 34 \ 2 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْفَاتِحَةِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 1 \ 2 ] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [ 26 \ 23 - 24 ] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 37 \ 181 - 182 ] ، وَقَوْلِهِ : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . [ 39 \ 75 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:14 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (447)
سُورَةُ فَاطِرٍ
صـ 277 إلى صـ 284






وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ عَلَى خَلْقِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى خَلْقِهِ ، بِأَنْ [ ص: 277 ] سَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [ 45 \ 13 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ الْآيَةَ [ 14 \ 33 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ 7 \ 54 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ " الْحِجْرِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الْآيَةَ [ 15 \ 17 ] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [ 22 \ 75 ] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، أَيْ : خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمُبْدِعِهِمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ .

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَنَا فَطَرْتُهَا ، أَيْ : بَدَأْتُهَا .
قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الآية . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن ما يفتحه للناس من رحمته وإنعامه عليهم بجميع أنواع النعم ، لا يقدر أحد كائنا ما كان أن يمسكه عنهم ، وما يمسكه عنهم من رحمته وإنعامه لا يقدر أحد كائنا من كان أن يرسله إليهم ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين ، والرحمة المذكورة في الآية عامة في كل ما يرحم الله به خلقه من الإنعام الدنيوي والأخروي ، كفتحه لهم رحمة المطر ; كما قال تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] .

وقوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] ، وقوله [ ص: 278 ] تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] ، ومن رحمته إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ; كقوله تعالى : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك [ 28 \ 86 ] ، كما تقدم إيضاحه في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ 10 \ 107 ] ، وقوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا الآية [ 48 \ 11 ] ، وقوله تعالى : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة الآية [ 33 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] ، و ما في قوله تعالى : ما يفتح الله [ 35 \ 2 ] ، وقوله : وما يمسك شرطية ، وفتح الشيء التمكين منه وإزالة الحواجز دونه ، والإمساك بخلاف ذلك .
قوله تعالى : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء . الاستفهام في قوله : هل من خالق غير الله ، إنكاري فهو مضمن معنى النفي .

والمعنى : لا خالق إلا الله وحده ، والخالق هو المستحق للعبادة وحده .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه [ 13 \ 16 ] . وفي سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يرزقكم من السماء والأرض ، يدل على أنه تعالى هو الرازق وحده ، وأن الخلق في غاية الاضطرار إليه تعالى .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه [ 67 \ 21 ] ، [ ص: 279 ] وقوله : فابتغوا عند الله الرزق [ 29 \ 17 ] .

وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على ذلك في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسليته صلى الله عليه وسلم ، بأن ما لاقاه من قومه من التكذيب لاقاه الرسل الكرام من قومهم قبله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا [ 6 \ 34 ] ، وقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة .
قوله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا .

قد قدمنا الآيات التي بمعناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك ; كقوله تعالى في " الكهف " : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] .

قوله تعالى : إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] .
قوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] . وفي " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم الآية [ 18 \ 6 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن إحياءه تعالى الأرض بعد موتها المشاهد في دار الدنيا برهان قاطع على قدرته على البعث ، قد تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في مواضع [ ص: 280 ] كثيرة في سورة " البقرة " ، و " النحل " ، و " الأنبياء " وغير ذلك ، وقد تقدمت الإحالة عليه مرارا .
قوله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من كان يريد العزة فإنها جميعها لله وحده ، فليطلبها منه وليتسبب لنيلها بطاعته جل وعلا ، فإن من أطاعه أعطاه العزة في الدنيا والآخرة . أما الذين يعبدون الأصنام لينالوا العزة بعبادتها ، والذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يبتغون عندهم العزة ، فإنهم في ضلال وعمى عن الحق ; لأنهم يطلبون العزة من محل الذل .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] ، وقوله تعالى : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا [ 4 \ 139 ] ، وقوله تعالى : ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم [ 10 \ 65 ] ، وقوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله الآية [ 63 \ 8 ] ، وقوله تعالى : سبحان ربك رب العزة عما يصفون [ 37 \ 180 ] ، والعزة : الغلبة والقوة . ومنه قول الخنساء :


كأن لم يكونوا حمى يحتشى إذ الناس إذ ذاك من عزيزا
أي : من غلب استلب ، ومنه قوله تعالى : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] ، أي : غلبني وقوي علي في الخصومة .

وقول من قال من أهل العلم : إن معنى الآية : من كان يريد العزة ، أي : يريد أن يعلم لمن العزة أصوب منه ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد الآية . قد تقدم بعض الكلام عليه في سورة " النحل " ، مع إعراب السيئات .

[ ص: 281 ] وقد قدمنا في مواضع أخر أن من مكرهم السيئات كفرهم بالله وأمرهم أتباعهم به ; كما قال تعالى : وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 33 ] ، وكقوله تعالى : ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا [ 71 \ 22 - 23 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والله خلقكم من تراب ثم من نطفة . قد تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .

قوله تعالى : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] ، مع بيان الأحكام المتعلقة بالآية .

قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . قد قدمنا بعض الكلام عليه في آخر سورة " الأحزاب " ، في الكلام على قوله تعالى : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [ 33 \ 72 ] . وفي سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] .
قوله تعالى وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج . تقدم إيضاحه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج [ 25 \ 53 ] .

قوله تعالى : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها . قد تقدم الكلام عليه مع بسط أحكام فقهية تتعلق بذلك في سورة " النحل " ، في [ ص: 282 ] الكلام على قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] .

وتقدم في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] . أن قوله في آية " فاطر " هذه : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، دليل قرآني واضح على بطلان دعوى من ادعى من العلماء أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح خاصة .
قوله تعالى : ويوم القيامة يكفرون بشرككم الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وفي غيره من المواضع .
قوله تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه غني عن خلقه ، وأن خلقه مفتقر إليه ، أي : فهو يأمرهم وينهاهم لا لينتفع بطاعتهم ، ولا ليدفع الضر بمعصيتهم ، بل النفع في ذلك كله لهم ، وهو جل وعلا الغني لذاته الغنى المطلق .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة مع كونه معلوما من الدين بالضرورة ، جاء في مواضع كثيرة من كتاب الله ; كقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم الآية [ 47 \ 38 ] ، وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] ، وقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وبذلك تعلم عظم افتراء الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء [ 3 \ 181 ] ، وقد هددهم الله على ذلك ، بقوله : سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ 3 \ 181 ] .
قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 132 ] .
[ ص: 283 ] قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الجواب عن بعض الأسئلة الواردة على الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، ووجه الجمع بين أمثال هذه الآية وبين قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] ، ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إنذاره صلى الله عليه وسلم محصور في الذين يخشون ربهم بالغيب ، وأقاموا الصلاة ، وهذا الحصر الإضافي ; لأنهم هم المنتفعون بالإنذار ، وغير المنتفع بالإنذار كأنه هو والذي لم ينذر سواء ، بجامع عدم النفع في كل منهما .

وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب الآية [ 36 \ 10 - 11 ] ، وقوله : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] ، ويشبه معنى ذلك في الجملة قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ، وقد قدمنا معنى الإنذار وأنواعه موضحا في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] .
قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير . قد قدمنا إيضاحه بالآيات في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] .
قوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات . [ ص: 284 ] الأحياء هنا : المؤمنون ، و الأموات : الكفار ; فالحياة هنا حياة إيمان ، والموت موت كفر .

وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : لمشركون أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ 6 \ 122 ] ، فقوله : أو من كان ميتا ، أي : موت كفر فأحييناه حياة إيمان ; وكقوله تعالى : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] ، فيفهم من قوله : من كان حيا ، أي - وهي حياة إيمان - إن الكافرين الذين حق عليهم القول ليسوا كذلك ، وقد أطبق العلماء على أن معنى قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله [ 6 \ 36 ] ، أن المعنى : والكفار يبعثهم الله .

وقد قدمنا هذا موضحا بالآيات القرآنية في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . قد قدمنا الآيات الموضحة له وما جاء في سماع الموتى في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم الآية [ 30 \ 22 ] ، وبينا هناك دلالة الآيات على أنه جل وعلا هو المؤثر وحده ، وأن الطبائع لا تأثير لها إلا بمشيئته تعالى .
قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، إلى قوله : ولباسهم فيها حرير . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، مع نظائرها من آيات الرجاء استطرادا ، وذكرنا معنى الظالم والمقتصد والسابق ، ووجه تقديم الظالم عليهما بالوعد في الجنات في سورة " النور " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى الآية [ 24 \ 22 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:29 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (448)
سُورَةُ يس
صـ 285 إلى صـ 292






[ ص: 285 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولباسهم فيها حرير قد قدمناه مع الآيات المماثلة ، والمشابهة له في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها .

قوله تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية [ 7 \ 53 ] .




قوله تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] . وفي سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] .
قوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .
قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم الآية . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية [ 6 \ 157 ] .
قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له وشواهده العربية في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة الآية [ 16 \ 61 ] .
[ ص: 286 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ يس

قَوْلُهُ تَعَالَى : يس . التَّحْقِيقُ إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَالْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ " مَرْيَمَ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كهيعص [ 19 \ 1 ] ، وَالسِّينُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي أَوَّلِ " الشُّعَرَاءِ " وَ " الْقَصَصِ " ، فِي قَوْلِهِ : طسم [ 26 \ 1 ] وَفِي أَوَّلِ " النَّمْلِ " ، فِي قَوْلِهِ : طس [ 27 \ 1 ] ، وَفِي أَوَّلِ " الشُّورَى " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم عسق [ 42 \ 1 - 2 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُوجِبَ التَّوْكِيدِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، هُوَ إِنْكَارُ الْكُفَّارِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [ 13 \ 43 ] ، فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [ 2 \ 252 ] .
قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . لفظة ما في قوله تعالى : ما أنذر آباؤهم ، قيل : نافية ، وهو الصحيح . وقيل : موصولة ، وعليه فهو المفعول الثاني لتنذر ، وقيل : مصدرية .

وقد قدمنا دلالة الآيات على أنها نافية ، وأن مما يدل على ذلك ترتيبه بالفاء عليه قوله بعده : فهم غافلون ; لأن كونهم غافلين يناسب عدم الإنذار لا الإنذار ، وهذا هو الظاهر مع آيات أخر دالة على ذلك ; كما أوضحنا ذلك كله في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
[ ص: 287 ] قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . الظاهر أن القول في قوله : لقد حق القول على أكثرهم ، وفي قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول الآية [ 41 \ 25 ] ، وفي قوله تعالى : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا الآية [ 28 \ 63 ] .

وفي قوله تعالى : ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] ، وقوله تعالى : فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون [ 37 \ 31 ] ، والكلمة في قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] ، وفي قوله تعالى : قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] ، أن المراد بالقول والكلمة أو الكلمات على قراءة : حقت عليهم كلمات ربك بصيغة الجمع ، هو قوله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، كما دلت على ذلك آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى في آخر سورة " هود " : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 118 - 119 ] ، وقوله تعالى في " السجدة " : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] .

وقوله تعالى في أخريات " ص " : قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لقد حق القول على أكثرهم ، يدل على أن أكثر الناس من أهل جهنم ، كما دلت على ذلك آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 11 \ 17 ] ، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ، [ 12 \ 103 ] ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 174 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية [ 6 \ 116 ] .

[ ص: 288 ] وبينا بالسنة الصحيحة في أول سورة " الحج " : أن نصيب النار من الألف تسعة وتسعون وتسعمائة ، وأن نصيب الجنة منها واحد .
قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . الأغلال : جمع غل وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق . والأذقان : جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين . والمقمح بصيغة اسم المفعول ، وهو الرافع رأسه . والسد بالفتح والضم : هو الحاجز الذي يسد طريق الوصول إلى ما وراءه .

وقوله : فأغشيناهم ، أي : جعلنا على أبصارهم الغشاوة ، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار ، ومنه قوله تعالى : وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وجعل على بصره غشاوة [ 45 \ 23 ] ، وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص :


هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها


والمراد بالآية الكريمة : أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، صرفهم الله عن الإيمان صرفا عظيما مانعا من وصوله إليهم ; لأن من جعل في عنقه غل ، وصار الغل إلى ذقنه ، حتى صار رأسه مرفوعا لا يقدر أن يطأطئه ، وجعل أمامه سدا ، وخلفه سدا ، وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف ، ولا في جلب نفع لنفسه ، ولا في دفع ضر عنها ، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جل وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة [ 45 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] ، وقوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، [ ص: 289 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] .

وقوله تعالى : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون [ 16 \ 108 ] ، وقوله تعالى : وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، وقوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا [ 18 \ 101 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب ، وكذلك الأغلال في الأعناق ، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم ، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان ، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل ، والتمادي على الكفر ، فعاقبهم الله على ذلك ، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها ، والغشاوة على الأبصار ; لأن من شؤم السيئات أن الله جل وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشر ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقا .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، فالباء سببية . وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ; وكقوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل ، أي : فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه .

وقد دلت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجر صاحبه إلى التمادي في السيئات ، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك ، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير ، وهو كذلك ; كما قال تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقوله [ ص: 290 ] تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ 29 \ 69 ] ، وقوله تعالى : ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ 64 \ 11 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم أن قول من قال من أهل العلم : إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ، أن المراد بذلك الأغلال التي يعذبون بها في الآخرة ; كقوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 71 - 72 ] ، خلاف التحقيق ، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم ، وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا ; كما أوضحنا . وقرأ هذا الحرف : حمزة ، والكسائي ، وحفص ، عن عاصم : سدا ، بالفتح في الموضعين ، وقرأه الباقون بضم السين ، ومعناهما واحد على الصواب ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب . تقدم إيضاحه مع نظائره من الآيات في سورة " فاطر " ، في الكلام على قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] .
قوله تعالى : إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء :

الأول : أنه يحيي الموتى ، مؤكدا ذلك متكلما عن نفسه بصيغة التعظيم .

الثاني : أنه يكتب ما قدموا في دار الدنيا .

الثالث : أنه يكتب آثارهم .

الرابع : أنه أحصى كل شيء في إمام مبين ، أي : في كتاب بين واضح ، وهذه الأشياء الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما الأول منها وهو كونه يحيي الموتى بالبعث ، فقد جاء في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ، كقوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا [ 16 \ 38 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

[ ص: 291 ] وقد قدمناها بكثرة في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " ، في الكلام على براهين البعث ، وقدمنا الإحالة على ذلك مرارا .

وأما الثاني منها وهو كونه يكتب ما قدموا في دار الدنيا ، فقد جاء في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الآية [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] . وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة " الكهف " .

وأما الثالث منها وهو كونهم تكتب آثارهم ، فقد ذكر في بعض الآيات أيضا .

واعلم أن قوله : وآثارهم ، فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء .

الأول منهما : أن معنى ما قدموا : ما باشروا فعله في حياتهم ، وأن معنى آثارهم : هو ما سنوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة ، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم .

الثاني : أن معنى آثارهم : خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير ، وكذلك خطاهم إلى الشر ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " ، يعني : خطاكم من بيوتكم إلى مسجده صلى الله عليه وسلم .

أما على القول الأول : فالله جل وعلا قد نص على أنهم يحملون أوزار من أضلوهم وسنوا لهم السنن السيئة ; كما في قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] .

وقد أوضحنا ذلك في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] [ ص: 292 ] وذكرنا حديث جرير وأبي هريرة ، في صحيح مسلم في إيضاح ذلك .

ومن الآيات الدالة على مؤاخذة الإنسان بما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلالة ، قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، بناء على أن المعنى بما قدم : مباشرا له ، وأخر : مما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلال ، وقوله تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 5 ] ، على القول بذلك .

وأما على التفسير الثاني : وهو أن معنى آثارهم : خطاهم إلى المساجد ونحوها ، فقد جاء بعض الآيات دالا على ذلك المعنى ; كقوله تعالى : ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم [ 9 \ 121 ] ; لأن ذلك يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم .

وأما الرابع : وهو قوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ، فقد تدل عليه الآيات الدالة على الأمر الثاني ، وهو كتابة جميع الأعمال التي قدموها بناء على أن المراد بذلك خصوص الأعمال .

وأما على فرض كونه عاما ، فقد دلت عليه آيات أخر ; كقوله تعالى : وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [ 72 \ 28 ] ، وقوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، بناء على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، وهو أصح القولين ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:34 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (449)
سُورَةُ يس
صـ 293 إلى صـ 300





وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن الكفار : وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ، قد بين أنهم قد قالوا ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء الآية [ 67 \ 8 - 9 ] ، [ ص: 293 ] وقد بين تعالى أن الذين أنكروا إنزال الله الوحي كهؤلاء أنهم لم يقدروه حق قدره ، أي : لن يعظموه حق عظمته ، وذلك في قوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ 6 \ 91 ] .
قوله تعالى : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ 7 \ 131 ] ، وذكرنا بعض الكلام عليه في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك الآية [ 27 \ 47 ] .
قوله تعالى : اتبعوا من لا يسألكم أجرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وما يتعلق بها من الأحكام في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون . قوله : فطرني ، معناه : خلقني وابتدعني ، كما تقدم إيضاحه في أول سورة " فاطر " .

والمعنى : أي شيء ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني ، وابتدعني ، وأبرزني من العدم إلى الوجود ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده الذي يستحق أن يعبد وحده ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله .

وقد قدمنا إيضاح ذلك في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] ، وفي سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه الآية [ 13 \ 16 ] .
قوله تعالى : أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين . [ ص: 294 ] الاستفهام في قوله تعالى : أأتخذ للإنكار ، وهو مضمن معنى النفي ، أي : لا أعبد من دون الله معبودات ، إن أرادني الله بضر لا تقدر على دفعه عني ، ولا تقدر أن تنقذني من كرب .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم فائدة المعبودات من دون الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ 39 \ 38 ] ، وقوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [ 17 \ 56 ] ، وقوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [ 10 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تغن عني شفاعتهم شيئا ، أي : لا شفاعة لهم أصلا حتى تغني شيئا ، ونحو هذا أسلوب عربي معروف ، ومنه قول امرئ القيس :


على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا


فقوله : لا يهتدى بمناره ، أي : لا منار له أصلا حتى يهتدى به ، وقول الآخر :


لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر

أي : لا أرنب فيها ، حتى تفزعها أهوالها ، ولا ضب فيها حتى ينجحر ، أي : يتخذ جحرا .
وهذا المعنى هو المعروف عند المنطقيين ، بقولهم : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ; كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . [ ص: 295 ] بين جل وعلا أن العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون غير مكتفين بتكذيبه ، بل جامعين معه الاستهزاء .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يأتيهم من رسول ، نص صريح في تكذيب الأمم لجميع الرسل لما تقرر في الأصول ، من أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها من ، فهي نص صريح في عموم النفي ، كما هو معروف في محله .

وهذا العموم الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، وجاء في بعض الآيات إخراج أمة واحدة عن حكم هذا العموم بمخصص متصل ، وهو الاستثناء .

فمن الآيات الموضحة لهذا العموم ، قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله تعالى : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ، إلى قوله : فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .

وقدمنا طرفا من الكلام عليه في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها الآية [ 6 \ 123 ] .

وأما الأمة التي أخرجت من هذا العموم فهي أمة يونس ، والآية التي بينت ذلك هي قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم ، وقوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] ، والحسرة أشد الندامة ، وهو منصوب على أنه منادى عامل في المجرور بعده ، فأشبه المنادى المضاف .

والمعنى : ياحسرة على العباد تعالي واحضري فإن الاستهزاء بالرسل هو أعظم الموجبات لحضورك .
قوله تعالى : وآية لهم الأرض الميتة ، إلى قوله : أفلا يشكرون

[ ص: 296 ] قد قدمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية ، برهان قاطع على البعث في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وفي سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون الآية [ 16 \ 10 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . وأوضحنا في المواضع المذكورة ، بقية براهين البعث بعد الموت .
قوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] .
قوله تعالى : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين . ذم جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار بإعراضهم عن آيات الله .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية ، جاء في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في أول سورة " الأنعام " : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم الآية [ 6 \ 4 - 5 ] ، وقوله تعالى في آخر " يوسف " : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، وقوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ 54 \ 1 - 2 ] ، وقوله تعالى : وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون [ 37 \ 13 - 14 ] ، وأصل الإعراض مشتق من العرض بالضم ، وهو الجانب ; لأن المعرض عن الشيء يوليه بجانب عنقه صادا عنه .
قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة النفخة الأخيرة ، والصور قرن من نور ينفخ فيه الملك نفخة البعث ، وهي النفخة الأخيرة ، وإذا نفخها قام جميع أهل القبور من قبورهم ، أحياء إلى الحساب والجزاء .

وقوله : فإذا هم من الأجداث ، جمع جدث بفتحتين ، وهو القبر ، وقوله : [ ص: 297 ] ينسلون ، أي : يسرعون في المشي من القبور إلى المحشر ; كما قال تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقال تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا الآية [ 50 \ 44 ] ، وكقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 ] ، وقوله : مهطعين إلى الداعي ، أي : مسرعين مادي أعناقهم على أشهر التفسيرين ، ومن إطلاق نسل بمعنى أسرع ، قوله تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون [ 21 \ 96 ] ، وقول لبيد :


عسلان الذئب أمسى قاربا ، برد الليل عليه فنسل


وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن أهل القبور يقومون أحياء عند النفخة الثانية ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [ 39 \ 68 ] ، وقوله تعالى : إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون [ 36 \ 53 ] ، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية ; كقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، أي : الخروج من القبور . وقوله تعالى : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة [ 79 \ 13 - 14 ] ، والزجرة : هي النفخة الثانية . والساهرة : وجه الأرض والفلاة الواسعة ، ومنه قول أبي كبير الهذلي :


يرتدن ساهرة ، كأن جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم


وقول الأشعث بن قيس :


وساهرة يضحى السراب مجللا لأقطارها قد جئتها متلثما


وكقوله تعالى : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 19 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 \ 25 ] ، وهذه الدعوة بالنفخة الثانية . وقوله تعالى : يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [ 17 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 298 ] قوله تعالى : قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث الآية [ 30 \ 56 ] .
قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم . قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية ، وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله تعالى : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون . قوله : جبلا كثيرا ، أي : خلقا كثيرا ; كقوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون الشيطان أضل خلقا كثيرا من بني آدم جاء مذكورا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] ، أي : قد استكثرتم أيها الشياطين ، من إضلال الإنس ، وقد قال إبليس : لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا [ 17 \ 62 ] ، وقد بين تعالى أن هذا الظن الذي ظنه بهم من أنه يضلهم جميعا إلا القليل صدقه عليهم ; وذلك في قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] ، كما تقدم إيضاحه . وقرأ هذا الحرف نافع وعاصم : جبلا بكسر الجيم والباء ، وتشديد اللام . وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي : جبلا ، بضم الجيم والباء وتخفيف اللام . وقرأه أبو عمرو وابن عامر : جبلا ، بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام ، وجميع القراءات بمعنى واحد ، أي : خلقا كثيرا .
[ ص: 299 ] قوله تعالى : وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من شهادة بعض جوارح الكفار عليهم يوم القيامة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " النور " : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [ 24 \ 24 ] ، وقوله تعالى في " فصلت " : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ 40 \ 20 - 21 ] . وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .

وبينا هناك أن آية " يس " هذه توضح الجمع بين الآيات ; كقوله تعالى عنهم : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] مع قوله عنهم : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون . قوله تعالى : ننكسه في الخلق ، أي : نقلبه فيه ، فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ، ويرتقي من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشده ، ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق ، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده ، وقلة عقله ، وخلوه من العلم . وأصل معنى التنكيس : جعل أعلى الشيء أسفله .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الآية [ 30 \ 54 ] ، وقوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين الآية [ 95 \ 4 - 5 ] ، على أحد التفسيرين . وقوله تعالى في " الحج " : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى في " النحل " : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا [ 16 \ 70 ] ، وقوله تعالى في سورة " المؤمن " : ثم لتكونوا شيوخا [ 40 \ 67 ] .

[ ص: 300 ] وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " النحل " ، وقرأ هذا الحرف عاصم ، وحمزة : ننكسه بضم النون الأولى ، وفتح الثانية وتشديد الكاف المكسورة ، من التنكيس ، وقرأه الباقون بفتح النون الأولى ، وإسكان الثانية ، وضم الكاف مخففة مضارع نكسه المجرد وهما بمعنى واحد . وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر : أفلا تعقلون بتاء الخطاب . وقرأه الباقون : أفلا يعقلون ، بياء الغيبة .
قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " ، في الكلام على قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون [ 26 \ 124 ] ، وذكرنا الأحكام المتعلقة بذلك هناك .
قوله تعالى : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] . وفي سورة " فاطر " ، في الكلام على قوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] .
قوله تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] .
قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه إلى قوله تعالى وهو الخلاق العليم قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " و " النحل " ، مع بيان براهين البعث .
قوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] ، وبينا هناك أن الآيات المذكورة لا تنافي مذهب أهل السنة في إطلاق اسم الشيء على الموجود دون المعدوم ، وقد قدمنا القراءتين وتوجيههما في قوله : كن فيكون ، هناك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:37 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (450)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
صـ 301 إلى صـ 308



[ ص: 301 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الصَّافَّاتِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ . أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِـ : الصَّافَّاتِ هُنَا ، وَ الزَّاجِرَاتِ ، وَ التَّالِيَاتِ : جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ صَافُّونَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ 37 \ 165 - 166 ] ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ صَافِّينَ : أَنْ يَكُونُوا صُفُوفًا مُتَرَاصِّينَ بَعْضُهُمْ جَنْبَ بَعْضٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ يَصُفُّونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي السَّمَاءِ ، يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ " وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاتِهِمْ ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [ 67 \ 5 - 6 ] فَقَوْلُهُ : فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا كَقَوْلِهِ هُنَا : فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي تَتْلُوهُ تُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى نَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَقَوْلُهُ : عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ، أَيْ : لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ ، أَيْ : بِذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي نَتْلُوهُ وَتُلْقِيهِ ، وَالْإِعْذَارُ : قَطْعُ الْعُذْرِ بِالتَّبْلِيغِ .

وَالْإِنْذَارُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [ 7 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ ، وَقِيلَ : تَزْجُرُ الْخَلَائِقَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِالذِّكْرِ الَّذِي تَتْلُوهُ ، وَتُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ .

[ ص: 302 ] وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّافَّاتِ وَ الزَّجِرَاتِ وَ التَّالِيَاتِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ : ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا . وَزَادُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ بِهِ : مَسْرُوقًا وَالسُّدِّيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الصَّافَّاتِ فِي الْآيَةِ الطَّيْرُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ ، وَاسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [ 67 \ 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ الْآيَةَ [ 24 \ 41 ] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِـ : الصَّافَّاتِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ يَصُفُّونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِلصَّلَاةِ ، وَيَصُفُّونَ فِي غَزْوِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ 61 \ 4 ] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا : الْمُرَادُ بِـ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ، وَ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا : جَمَاعَاتُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ يُلْقُونَ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ ، وَيَزْجُرُونَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِآيَاتِهِ ، وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمِ : الْمُرَادُ بِـ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا : جَمَاعَاتُ الْغُزَاةِ يَزْجُرُونَ الْخَيْلَ لِتُسْرِعَ إِلَى الْأَعْدَاءِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ قَائِلًا . وَوَجْهُ تَوْكِيدِهِ تَعَالَى قَوْلَهُ : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ، بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ ، وَبِأَنَّ وَاللَّامِ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلَهِ وَاحِدًا إِنْكَارًا شَدِيدًا وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا شَدِيدًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ 38 \ 5 ] ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ، فَكَوْنُهُ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي جَعَلَ فِيهَا الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ .

وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي أَقَامَهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، أَقَامَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [ 2 \ 163 ] فَقَدْ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مُتِّصِلًا بِهِ : [ ص: 303 ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] .

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَإِنْ قُلْتَ : مَا حُكْمُ الْفَاءِ إِذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً فِي الصِّفَاتِ ؟ قُلْتُ : إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ ; كَقَوْلِهِ :


يَا لَهْفَ زِيَابَةَ لِلْحَارِثِ الْـ صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآئِبِ


كَأَنَّهُ قِيلَ : الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ ، وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; كَقَوْلِكَ : خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ . وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ : رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ ، فَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ الثَّلَاثَةِ يَنْسَاقُ أَمْرُ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ فِي الصِّفَاتِ .

فَإِنْ قُلْتَ : فَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْقَوَانِينِ هِيَ فِيمَا أَنْتَ بِصَدَدِهِ ؟

قُلْتُ : إِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الصِّفَاتِ فِي التَّفَاضُلِ ، وَإِنْ ثَلَّثْتَهُ فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْمَوْصُوفَاتِ فِيهِ .

بَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّكَ إِذَا أَجْرَيْتَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَجَعَلْتَهُمْ جَامِعِينَ لَهَا فَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ يُفِيدُ تَرَتُّبًا لَهَا فِي الْفَضْلِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ ، ثُمَّ لِلزَّجْرِ ثُمَّ لِلتِّلَاوَةِ . وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَرَدْتَ الْعُلَمَاءَ وَقُوَّادَ الْغُزَاةِ . وَإِنْ أَجْرَيْتَ الصِّفَةَ الْأُولَى عَلَى طَوَائِفَ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ عَلَى أُخَرَ ، فَقَدْ أَفَادَتْ تَرَتُّبَ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الْفَضْلِ أَعْنِي أَنَّ الطَّوَائِفَ الصَّافَّاتِ ذَوَاتِ فَضْلٍ ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلُ ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرُ فَضْلًا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِالصَّافَّاتِ الطَّيْرَ ، وَبِالزَّاجِرَاتِ كُلَّ مَا يَزْجُرُ عَنْ مَعْصِيَةٍ ، وَبِالتَّالِيَاتِ كُلَّ نَفْسٍ تَتْلُو الذِّكْرَ ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَاتِ مُخْتَلِفَةٌ ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " الْكَشَّافِ " .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ : كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ هَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ اعْتِرَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا ذَكَرَهُ : هَلْ هُوَ كَذَا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ [ ص: 304 ] فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا يَقُولُهُ ; لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ جَوَّزَ فِيهِ النَّقِيضَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا جَزَمَ بِهِ .

وَالْأَظْهَرُ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ إِشْكَالٌ أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَالْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ التَّرْتِيبِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ فَقَطْ ، دُونَ إِرَادَةِ تَرْتِيبِ الصِّفَاتِ أَوِ الْمَوْصُوفَاتِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ .

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [ 90 \ 11 - 17 ] ، فَلَا يَخْفَى أَنْ ثُمَّ حَرْفُ تَرْتِيبٍ وَأَنَّ الْمُرَتَّبَ بِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرَتُّبَ لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ إِلَّا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 6 \ 153 - 154 ] كَمَا لَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ ذِكْرِيٌّ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [ 2 \ 199 ] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ :


إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ


وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ، لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْمَشَارِقَ وَحْدَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمَغَارِبَ .

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا " دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " : وَجْهُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ ، فَقُلْنَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 2 \ 115 ] ، مَا لَفْظُهُ أُفْرِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وَثَنَّاهُمَا فِي سُورَةِ " الرَّحْمَنِ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [ 55 \ 17 ] ، وَجَمَعَهُمَا فِي سُورَةِ " سَأَلَ سَائِلٌ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [ 70 \ 40 ] ، وَجَمَعَ الْمَشَارِقَ فِي سُورَةِ " الصَّافَّاتِ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ .

[ ص: 305 ] وَالْجَوَابُ : أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 2 \ 115 ] الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، فَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ مَشْرِقٍ مِنْ مَشَارِقِ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ ، وَكُلُّ مَغْرِبٍ مِنْ مَغَارِبِهَا الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، مَا نَصُّهُ : وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الَّذِي تُشْرِقُ مِنْهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ .

فَتَأْوِيلُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ : وَلِلَّهِ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْمَشْرِقِ وَقُطْرَيِ الْمَغْرِبِ إِذَا كَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا تَعُودُ لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إِلَى الْحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَقَوْلُهُ : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [ 55 \ 17 ] ، يَعْنِي مَشْرِقَ الشِّتَاءِ ، وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَغْرِبَهُمَا ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ . وَقِيلَ : مَشْرِقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَهُمَا .

وَقَوْلُهُ : بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ أَيْ : مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب الآية [ 37 \ 6 ] .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها الآية [ 6 \ 97 ] . وقرأ هذا الحرف السبعة غير عاصم وحمزة ، بإضافة زينة إلى الكواكب ، أي : بلا تنوين في زينة مع خفض الباء في الكواكب . وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بتنوين زينة ، وخفض الكواكب على أنه بدل من زينة . وقرأه أبو بكر عن عاصم : بزينة الكواكب بتنوين زينة ، ونصب الكواكب ، وأعرب أبو حيان الكواكب على قراءة النصب إعرابين :

أحدهما : أن الكواكب بدل من السماء في قوله تعالى : إنا زينا السماء [ 37 \ 6 ] .

والثاني : أنه مفعول به لـ : زينة بناء على أنه مصدر منكر ; كقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما الآية [ 90 \ 14 - 15 ] .

[ ص: 306 ] والأظهر عندي : أنه مفعول فعل محذوف ، تقديره : أعني الكواكب ، على حد قوله في " الخلاصة " :

ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
قوله تعالى : وحفظا من كل شيطان مارد إلى قوله : شهاب ثاقب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع الآية [ 15 \ 17 - 18 ] في سورة " الحجر " .
قوله تعالى : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب

ذكر في هذه الآية الكريمة برهانين من براهين البعث ، التي قدمنا أنها يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث .

الأول : هو المراد بقوله : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا ; لأن معنى : فاستفتهم ، استخبرهم والأصل في معناه : اطلب منهم الفتوى ، وهي الإخبار بالواقع فيما تسألهم عنه أهم أشد خلقا أي : أصعب إيجادا واختراعا ، أم من خلقنا من المخلوقات التي هي أعظم وأكبر منهم ، وهي ما تقدم ذكره من الملائكة المعبر عن جماعاتهم بالصافات ، والزاجرات ، والتاليات ، والسماوات والأرض ، والشمس والقمر ، ومردة الشياطين ; كما ذكر ذلك كله في قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 5 - 7 ] .

وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره ، هو أن يقال : من خلقت يا ربنا من الملائكة ، ومردة الجن ، والسماوات والأرض ، والمشارق ، والمغارب ، والكواكب ، أشد خلقا منا ; لأنها مخلوقات عظام أكبر وأعظم منا ، فيتضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت ; لأن من المعلوم بالضرورة أن من خلق الأعظم الأكبر كالسماوات والأرض ، وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقل ; كما قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، أي : ومن قدر [ ص: 307 ] على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، كخلق الإنسان خلقا جديدا بعد الموت . وقال تعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] ، وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] ، وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم [ 17 \ 99 ] ، وقال تعالى في " النازعات " ، موضحا الاستفتاء المذكور في آية " الصافات " هذه : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .

وقد علمت أن وجه العبارة بمن التي هي للعالم ، في قوله تعالى : أم من خلقنا ، عن السماوات والأرض والكواكب هو تغليب ما ذكر معها من العالم كالملائكة على غير العالم ، وذلك أسلوب عربي معروف .

وأما البرهان الثاني : فهو في قوله : إنا خلقناهم من طين لازب ; لأن من خلقهم أولا من طين ، وأصله التراب المبلول بالماء لا يشك عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا ترابا ، لأن الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا ; كقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذين البرهانين وغيرهما من براهين البعث في سورة " البقرة " ، و " النحل " ، و " الحج " وغير ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من طين لازب ، اللازب : هو ما يلزق باليد مثلا إذا لاقته ، وعبارات المفسرين فيه تدور حول ما ذكرنا ، والعرب تطلق اللازب واللاتب واللازم ، بمعنى واحد ، ومنه في اللازب قول علي رضي الله عنه :


تعلم فإن الله زادك بسطة وأخلاق خير كلها لك لازب


وقول نابغة ذبيان :

[ ص: 308 ]
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب


فقوله : ضربة لازب ، أي : شيئا ملازما لا يفارق ، ومنه في اللاتب قوله :


فإن يك هذا من نبيذ شربته فإني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة وغم مع الإشراق في الجوف لاتب
والبرهانان المذكوران على البعث يلقمان الكفار حجرا في إنكارهم البعث المذكور بعدهما قريبا منهما ، في قوله تعالى : وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 15 19 ] .
قوله تعالى : بل عجبت ويسخرون . قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة والكسائي : عجبت بالتاء المفتوحة وهي تاء الخطاب ، المخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ حمزة والكسائي : بل عجبت ، بضم التاء وهي تاء المتكلم ، وهو الله جل وعلا .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن القراءتين المختلفتين يحكم لهما بحكم الآيتين .

وبذلك تعلم أن هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب لله تعالى ، فهي إذا من آيات الصفات على هذه القراءة .

وقد أوضحنا طريق الحق التي هي مذهب السلف في آيات الصفات ، وأحاديثها في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث . الآية [ 30 \ 56 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:52 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (451)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
صـ 309 إلى صـ 316




[ ص: 309 ] قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم . المراد بـ : الذين ظلموا الكفار ، كما يدل عليه قوله بعده : وما كانوا يعبدون من دون الله .

وقد قدمنا إطلاق الظلم على الشرك في آيات متعددة ; كقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] .

وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الظلم بالشرك ، في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] ، وقوله تعالى : وأزواجهم ، جمهور أهل العلم منهم : عمر وابن عباس ، على أن المراد به أشباههم ونظراؤهم ، فعابد الوثن مع عابد الوثن ، والسارق مع السارق ، والزاني مع الزاني ، واليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني ، وهكذا وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن ، وفي كلام العرب ; كقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها الآية [ 43 \ 12 ] ، وقوله تعالى : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى الآية [ 20 \ 53 ] ، وقوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 15 \ 88 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

فقوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ، أي : اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم ، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم ، وبذلك تعلم أن قول من قال : المراد بـ أزواجهم نساؤهم اللاتي على دينهم ، خلاف الصواب . وقوله تعالى : وما كانوا يعبدون من دون الله ، أي : احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون الله ليدخل العابدون والمعبودات جميعا النار ; كما أوضح ذلك بقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 21 \ 98 - 99 ] . وقد بين تعالى أن الذين عبدوا من دون الله من الأنبياء ، والملائكة ، والصالحين ; كعيسى وعزير خارجون عن هذا ، وذلك في [ ص: 310 ] قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [ 21 \ 101 ] ، إلى قوله : هذا يومكم الذي كنتم توعدون [ 21 \ 103 ] ، وأشار إلى ذلك في قوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه الآية [ 43 \ 57 - 59 ] .

وقوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية [ 17 \ 57 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاهدوهم ، من الهدى العام ، أي : دلوهم وأرشدوهم إلى صراط الجحيم ، أي : طريق النار ليسلكوها إليها ، والضمير في قوله تعالى : فاهدوهم ، راجع إلى الثلاثة ، أعني : الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله .

وقد دلت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشر ، ونظير ذلك في القرآن قوله : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] ، ولذلك كان للشر أئمة يؤتم بهم فيه ; كقوله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] .
قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين الآيات في نحو قوله تعالى : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وقوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، مع قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، وقوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم الآية [ 7 \ 6 ] . وقوله هنا : وقفوهم إنهم مسئولون .
قوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع التعرض لإزالة إشكالين في بعض الآيات المتعلقة بذلك ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
[ ص: 311 ] قوله تعالى : فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين . قد قدمنا الآيات المبينة للمراد بالقول الذي حق عليهم في سورة " يس " ، في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] ، وما ذكره جل وعلا عنهم من أنهم قالوا : إنه لما حق عليهم القول ، الذي هو : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، فكانوا غاوين أغووا أتباعهم ; لأن متبع الغاوي في غيه لا بد أن يكون غاويا مثله ، ذكره تعالى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " القصص " : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا الآية [ 28 \ 63 ] ، والإغواء : الإضلال .
قوله تعالى : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الضالين والمضلين مشتركون في العذاب يوم القيامة ، وبين في سورة " الزخرف " ، أن ذلك الاشتراك ليس بنافعهم شيئا ; وذلك في قوله تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 \ 39 ] ، وبين في مواضع أخر أن الأتباع يسألون الله ، أن يعذب المتبوعين عذابا مضاعفا لإضلالهم إياهم ; كقوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف الآية [ 7 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا [ 33 \ 67 - 68 ] .

وقد قدمنا الكلام على تخاصم أهل النار ، وسيأتي إن شاء الله له زيادة إيضاح في سورة " ص " ، في الكلام على قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] .
قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين ، [ ص: 312 ] المذكورين في قوله تعالى : إنا لذائقون [ 37 \ 31 ] ، أي : العذاب الأليم . وقوله تعالى : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] ، أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمين ، والمجرمون جمع مجرم ، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحق صاحبه عليه التنكيل الشديد ، ثم بين العلة لذلك التعذيب ; لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله ، إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا . فلفظة إن في قوله تعالى : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، من حروف التعليل ; كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه .

وعليه فالمعنى : كذلك نفعل بالمجرمين لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا ، إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ، أي : يتكبرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعا للرسل .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار ، دلت عليه آيات ; كقوله تعالى مبينا دخولهم النار : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [ 39 \ 45 ] .
قوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " ، في الكلام على قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون [ 26 \ 224 ] .
قوله تعالى : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون .

قد قدمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالة على معناه في سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ 5 \ 90 ] ، وبينا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة ، وأن ذلك يشير إلى قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .
[ ص: 313 ] قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنة :

الأولى : أنهن قاصرات الطرف ، وهو العين ، أي : عيونهن قاصرات على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم .

الثانية : أنهن عين ، والعين جمع عيناء ، وهي واسعة دار العين ، وهي النجلاء .

الثالثة : أن ألوانهن بيض بياضا مشربا بصفرة ; لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبههن به ، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك :


كبكر المقانات البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل


لأن معنى قوله : كبكر المقانات البياض بصفرة : أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة ، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة ، فبين كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن ، بقوله تعالى في " ص " : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] ، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة ، وذلك معروف في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس :


من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الإتب منها لأثرا


وذكر كونهن عينا في قوله تعالى فيهن : وحور عين [ 56 \ 22 ] ، وذكر صفا ألوانهن وبياضها في قوله تعالى : كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 23 ] ، وقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان [ 55 \ 58 ] ، وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية .

واعلم أن الله أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر :

أحدهما : أنهن قاصرات الطرف ، والطرف العين ، وهو لا يجمع ولا يثنى ; لأن أصله مصدر ، ولم يأت في القرآن إلا مفردا ; كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ينظرون من طرف خفي ، ومعنى كونهن قاصرات الطرف هو ما قدمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا .

[ ص: 314 ] والثاني من نوعي القصر : كونهن مقصورات في خيامهن ، لا يخرجن منها ; كما قال تعالى لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم : وقرن في بيوتكن [ 33 \ 33 ] ، وذلك في قوله تعالى : حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] ، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة ، وذلك معروف في كلام العرب ; ومنه قوله :


من كان حربا للنساء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل فقصارهن ملاحهنه


فقوله : قصارهن ، يعني : المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرا ، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله :


وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر


والحجال : جمع حجلة ، وهي البيت الذي يزين للعروس ، فمعنى قصيرات الحجال : المقصورات في حجالهن . وذكر بعضهم أن رجلا سمع آخر ، قال : لقد أجاد الأعشى في قوله :


غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ولا تراها لسر الجار تختتل


فقال له : قاتلك الله ، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة ، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها ، فهلا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت :


وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذر


قوله تعالى : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم . قد قدمنا إيضاحه بالقرآن في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون [ 25 \ 15 ] .
[ ص: 315 ] قوله تعالى : إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية . قد قدمنا إيضاحه في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن [ 17 \ 60 ] .
قوله تعالى : فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم ، فيملئون منها بطونهم ، ويجمعون معها : لشوبا من حميم ، أي : خلطا من الماء البالغ غاية الحرارة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في " الواقعة " : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 51 - 52 ] . وقوله : شرب الهيم ، الهيم : جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلا التي أصابها الهيام ، وهو شدة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرا من الماء ، ولا تزال مع ذلك في شدة العطش . ومنه قول غيلان ذي الرمة :


فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها


وقوله تعالى في " الواقعة " : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 - 55 ] ، يدل على أن الشوب ، أي : الخلط من الحميم المخلوط لهم بشجرة الزقوم المذكور هنا في " الصافات " ، أنه شوب كثير من الحميم لا قليل .

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية : لشوبا من حميم ، الشوب : الخلط ، والشوب والشوب لغتان ، كالفقر والفقر ، والفتح أشهر . قال الفراء : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة ، انتهى منه .
قوله تعالى : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم : إنهم ألفوا آباءهم ، أي : وجدوهم على الكفر ، وعبادة الأوثان ، فهم على آثارهم يهرعون [ ص: 316 ] أي : يتبعونهم في ذلك الضلال والكفر مسرعين فيه ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى عنهم : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا [ 2 \ 170 ] ، وقوله عنهم : قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا [ 5 \ 104 ] ، وقوله عنهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله عنهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] . ورد الله عليهم في الآيات القرآنية معروف ; كقوله تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] ، وقوله : أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] ، وقوله تعالى : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم على آثارهم ، أي : فهم على اتباعهم والاقتداء بهم في الكفر والضلال ; كما قال تعالى عنهم : وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يهرعون ، قد قدمنا في سورة " هود " ، أن معنى : يهرعون : يسرعون ويهرولون ، وأن منه قول مهلهل :


فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف

قوله تعالى : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] . قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " يس " ، في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] ، وفي سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية [ 6 \ 116 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:55 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (452)
سُورَةُ ص
صـ 317 إلى صـ 324




قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين .

تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية ، وتفسيره في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم الآية [ 21 \ 76 ] .
قوله تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون . [ ص: 317 ] قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا الآية [ 19 \ 41 - 42 ] .
قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم ، إلى قوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم .

اعلم أولا : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه ، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي ، ثم لما باشر عمل ذبحه امتثالا للأمر ، فداه الله بذبح عظيم ، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة " الحجر " ، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة " الصافات " ، وهذا وقت إنجاز الوعد .

اعلم ، وفقني الله وإياك ، أن القرآن العظيم قد دل في موضعين ، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق . أحدهما في " الصافات " ، والثاني في " هود " .

أما دلالة آيات " الصافات " على ذلك ، فهي واضحة جدا من سياق الآيات ، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 99 - 110 ] ، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] ، فدل ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية ; لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه : فبشرناه بإسحاق ، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضا : وبشرناه بإسحاق ، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزه عنه كلام الله ، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أولا الذي فدي بالذبح العظيم ، هو إسماعيل ، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك .

وقد أوضحنا في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] ، أن المقرر في الأصول : أن [ ص: 318 ] النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معا وجب حمله على التأسيس ، ولا يجوز حمله على التأكيد ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .

ومعلوم في اللغة العربية ، أن العطف يقتضي المغايرة ، فآية " الصافات " هذه ، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق ، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينا عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم ، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم .

وأما الموضع الثاني الدال على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة " هود " ، فهو قوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] ; لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق ، وأن إسحاق يلد يعقوب ، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه ، وهو صغير ، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب .

فهذه الآية أيضا دليل واضح على ما ذكرنا ، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف ، هل هي للامتثال فقط ، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل ، لأنه لم يرد ذبحه كونا وقدرا ، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار ، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرح بذلك في قوله تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 106 - 107 ] ، فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء . وإلى الخلاف المذكور أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :



للامتثال كلف الرقيب فموجب تمكنا مصيب أو بينه والابتلا ترددا
شرط تمكن عليه انفقدا


وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب ، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا ، إلى أن شرط التمكن من الفعل في التكليف ، مبني على الخلاف المذكور ، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكن من الفعل ; لأنه لا امتثال إلا مع [ ص: 319 ] التمكن من الفعل ، ومن قال إن الحكمة مترددة بين الامتثال والابتلاء ، لم يشترط من الفعل ; لأن حكمة الابتلاء تتحقق مع عدم التمكن من الفعل ، كما لا يخفى . ومن الفروع المبنية على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدا من نهار رمضان ، ثم حصل لها الحيض بالفعل ، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض ، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط ، فلا كفارة عليها ، ولها أن تفطر ; لأنها عالمة بأنها لا تتمكن من الامتثال ، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال ، وتارة تكون الابتلاء ، فإنها يجب عليها تبييت الصوم ، ولا يجوز لها الإفطار إلا بعد مجيء الحيض بالفعل ، وإن أفطرت قبله كفرت . وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدا ، وقد علم ذلك بالعادة ، فهو أيضا ينبني على الخلاف المذكور .قوله تعالى : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] .قوله تعالى : ولقد مننا على موسى وهارون .

ذكر جل وعلا منته عليهما في غير هذا الموضع ; كقوله في " طه " : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 \ 36 - 37 ] ; لأن من سؤله الذي أوتيه إجابة دعوته في رسالة أخيه هارون معه ، ومعلوم أن الرسالة من أعظم المنن .قوله تعالى : ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم . قوله : وقومهما ، يعني بني إسرائيل .

والمعنى : أنه نجى موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم ، وهو ما كان يسومهم فرعون وقومه من العذاب ، كذبح الذكور من أبنائهم وإهانة الإناث ، وكيفية إنجائه لهم مبينة في انفلاق البحر لهم ، حتى خاضوه سالمين ، وإغراق فرعون وقومه وهم ينظرون .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] ، وقدمنا تفسير الكرب العظيم في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى في قصة نوح : فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [ 21 \ 76 ] . [ ص: 320 ] قوله تعالى : ونصرناهم فكانوا هم الغالبين . بين جل وعلا أنه نصر موسى وهارون وقومهما على فرعون وجنوده ، فكانوا هم الغالبين ، أي : وفرعون وجنوده هم المغلوبون ، وذلك بأن الله أهلكهم جميعا بالغرق ، وأنجى موسى وهارون وقومهما من ذلك الهلاك ، وفي ذلك نصر عظيم لهم عليهم ، وقد بين جل وعلا ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وآتيناهما الكتاب المستبين . الكتاب هو التوراة ، كما ذكره في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء [ 6 \ 154 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون [ 23 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [ 21 \ 48 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا بعض الكلام على ذلك في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان الآية [ 2 \ 53 ] .قوله تعالى : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] . وفي سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [ 5 \ 32 ] ، وغير ذلك من المواضع .قوله تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . تسبيح يونس هذا ، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام المذكور في " الصافات " ، جاء موضحا في " الأنبياء " ، في قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [ 21 \ 87 - 88 ] .
[ ص: 321 ] وقد قدمنا تفسير هذه الآية وإيضاحها في سورة " الأنبياء " .

قوله تعالى : فآمنوا فمتعناهم إلى حين . ما ذكره في هذه الآية الكريمة من إيمان قوم يونس وأن الله متعهم إلى حين ، ذكره أيضا في سورة " يونس " ، في قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
قوله تعالى : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ، إلى قوله : ما لكم كيف تحكمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ، إلى قوله تعالى : ساء ما يحكمون [ 16 \ 57 - 59 ] .
قوله تعالى : وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون . قد قدمنا الكلام على ما في معناه من الآيات في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية [ 6 \ 157 ] .
قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون . هذه الآية الكريمة تدل على أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأتباعهم منصورون دائما على الأعداء بالحجة والبيان ، ومن أمر منهم بالجهاد منصور أيضا بالسيف والسنان ، والآيات الدالة على هذا كثيرة ; كقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، [ ص: 322 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] .

وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة " آل عمران " ، في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 146 ] ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في آخر سورة " المجادلة " .
قوله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وذكرنا بعض الكلام على ذلك في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به الآية [ 10 \ 15 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى :

وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . ختم هذه السورة الكريمة بالسلام على عباده المرسلين ، ولا شك أنهم من عباده الذين اصطفى مع ثنائه على نفسه ، بقوله تعالى : والحمد لله رب العالمين [ 37 \ 182 ] ، معلما خلقه أن يثنوا عليه بذلك ، وما ذكره هنا من حمده هذا الحمد العظيم ، والسلام على رسله الكرام ، ذكره في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " النمل " : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الآية [ 27 \ 59 ] ، ويشبه ذلك قوله تعالى : دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [ 10 \ 10 ] .
[ ص: 323 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ ص

قَوْلُهُ تَعَالَى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ : ص بِالسُّكُونِ مِنْهُمُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ كَـ ( ص ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : المص ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : كهيعص [ 19 \ 1 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .

وَبِذَلِكَ التَّحْقِيقِ الْمَذْكُورِ ، تَعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الدَّالِّ مُنَوَّنَةً ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّهَا غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ ، كُلُّهَا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا .

وَكَذَلِكَ تَفَاسِيرُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ ، فَإِنَّهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَيْضًا .

كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ صَادِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ صَادَى يُصَادِي مُصَادَاةً إِذَا عَارَضَ ، وَمِنْهُ الصَّدَى . وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الصُّلْبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ ، أَيْ عَارِضْ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ وَقَابِلْهُ بِهِ ، يَعْنِي امْتَثِلْ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبْ نَوَاهِيَهُ وَاعْتَقِدْ عَقَائِدَهُ وَاعْتَبِرْ بِأَمْثَالِهِ وَاتَّعَظْ بِمَوَاعِظِهِ .

وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا : أَنَّ ص بِمَعْنَى حَادِثٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ .

وَقِرَاءَةُ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ : مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي السِّمَالِ وَابْنِ أَبِي عَيْلَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ .

وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ ، أَنَّ كَسْرَ الدَّالِّ سَبَبُهُ التَّخْفِيفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُوَ حَرْفُ هِجَاءٍ لَا فِعْلُ أَمْرٍ مَنْ صَادَى .

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ ، أَنَّهُ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ [ ص: 324 ] مَجْرُورٌ بِحَرْفِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى ، فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ .

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ص بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا سَاقِطَةٌ .

كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ النَّاسِ وَاسْتَمَالَهُمْ حَتَّى آمَنُوا بِهِ .

وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ .

أَيِ الْزَمُوا صَادَ ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ اتْلُ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ، الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفُ .

وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ ، أَنَّ الدَّالَّ فُتِحَتْ تَخْفِيفًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، وَاخْتِيرَ فِيهَا الْفَتْحُ إِتْبَاعًا لِلصَّادِّ ، وَلِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ قِرَاءَةُ عِيسَى بْنِ عُمَرَ ، وَتُرْوَى عَنْ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو .

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صَادُ بِضَمِّ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ لِلسُّورَةِ ، وَأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ صَادُ وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا .

وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَابْنِ السَّمَيْقَعِ وَهَارُونَ الْأَعْوَرِ .

وَمَنْ قَرَأَ صَادَ بِفَتْحِ الدَّالِّ قَرَأَ : ق ، وَن كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَهَا ص بِضَمِّ الدَّالِّ فَإِنَّهُ قَرَأَ ق : وَ ن بِضَمِّ الْفَاءِ وَالنُّونِ .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ، وَجَمِيعَ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا ، كُلُّهَا سَاقِطَةٌ ، لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا .

وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ ص مِفْتَاحُ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّبُورِ وَالصَّمَدِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 17-01-2023 10:57 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (453)
سُورَةُ ص
صـ 325 إلى صـ 332



وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ [ ص: 325 ] الْأَقْوَالِ .

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْقُرْآنِ مَصْدَرٌ ، زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ . كَمَا زِيدَتَا فِي الطُّغْيَانِ ، وَالرُّجْحَانِ ، وَالْكُفْرَانِ ، وَالْخُسْرَانِ ، وَأَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ .

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَقُولُونَ : إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ هُوَ اسْمُ الْمَفْعُولِ .

وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : قَرَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتُهُ وَأَبْرَزْتُهُ ، وَمِنْهُ قَرَأَتِ النَّاقَةُ السَّلَا وَالْجَنِينَ إِذَا أَظْهَرَتْهُ وَأَبْرَزَتْهُ مِنْ بَطْنِهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ :


تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ
هَجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا


عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ .

وَمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمَقْرُوءُ الَّذِي يُظْهِرُهُ الْقَارِئُ ، وَيُبْرِزُهُ مِنْ فِيهِ ، بِعِبَارَاتِهِ الْوَاضِحَةِ .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ ، هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ .

وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ قَرَأْتُ ، بِمَعْنَى جَمَعْتُ .

وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ : قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ فِيهِ .

وَعَلَى هَذَا فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ أَيِ الْجَامِعِ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهِ جَمِيعَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : ذِي الذِّكْرِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ .

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَى الشَّرَفِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فُلَانٌ مَذْكُورٌ يَعْنُونَ لَهُ ذِكْرٌ أَيْ شَرَفٌ .

[ ص: 326 ] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ 43 \ 44 ] أَيْ شَرَفٌ لَكُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الذِّكْرَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوَاعِظُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
تنبيه

اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى : والقرآن ذي الذكر ، فقال بعضهم : إن المقسم عليه مذكور ، والذين قالوا إنه مذكور اختلفوا في تعيينه ، وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط .

فمنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله تعالى إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] .

ومنهم من قال هو قوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] .

ومنهم من قال هو قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كقوله : تالله إن كنا لفي ضلال مبين . وقوله : والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 1 - 4 ] .

ومنهم من قال هو قوله : كم أهلكنا من قبلهم ، ومن قال هذا قال : إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام ، حذفت لام القسم ، فقال : كم أهلكنا بدون لام .

قالوا : ونظير ذلك قوله تعالى : والشمس وضحاها [ 91 \ 1 ] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه ، الذي هو قد أفلح من زكاها ، حذفت منه لام القسم .

ومنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله : ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر . وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم .

ومنهم من قال المعنى : هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب ، والقرآن ذي الذكر ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها .

وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف ، واختلفوا في تقديره ، فقال الزمخشري [ ص: 327 ] في الكشاف ، التقدير والقرآن ذي الذكر . إنه لمعجز ، وقدره ابن عطية وغيره فقال : والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقوله الكفار ، إلى غير ذلك من الأقوال .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن : أن جواب القسم محذوف وأن تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقوله الكفار ، وأن قولهم : المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة .

الأول : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا وأن الأمر ليس كما يقول الكفار في قوله تعالى عنهم : ويقول الذين كفروا لست مرسلا [ 13 \ 43 ] .

والثاني : أن الإله المعبود جل وعلا واحد ، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .

والثالث : أن الله جل وعلا يبعث من يموت ، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] وقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وقوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة [ 34 \ 3 ] .

أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق [ 38 \ 2 ] ; لأن الإضراب بقوله بل ، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف . أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا ، بل الذين كفروا في عزة ، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق ، وشقاق ، أي مخالفة ومعاندة .

وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة ، فلدلالة آيات كثيرة : أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكون الإله المعبود واحدا لا شريك له فقد أشار لهما هنا .

أما كون الرسول مرسلا حقا ففي قوله تعالى هنا : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] يعني أي : لا وجه للعجب المذكور . لأن يجيء المنذر الكائن منهم .

لا شك في أنه بإرسال من الله حقا .

[ ص: 328 ] وقولهم : هذا ساحر كذاب إنما ذكره تعالى إنكارا عليهم وتكذيبا لهم . فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر أنك مرسل حقا ولو عجبوا من مجيئك منذرا لهم ، وزعموا أنك ساحر كذاب ، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه ، وزعموا أن خاتم الرسل ، وأكرمهم على الله ، ساحر كذاب .

وأما كون الإله المعبود واحدا لا شريك له ، ففي قوله هنا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] ; لأن الهمزة في قوله : أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي ، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد .

وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم ، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحا كقوله تعالى مقسما على أن الرسول مرسل حقا يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين [ 36 \ 1 - 3 ] فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين .

وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 252 ] ، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له ، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد [ 37 \ 1 - 4 ] ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر ، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله : أجعل الآلهة الآية [ 38 \ 5 ] .

وأما كون البعث حقا ، فقد أقسم عليه إقساما صحيحا صريحا ، في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] . وقوله تعالى : قل بلى وربي لتأتينكم [ 64 \ 3 ] أي الساعة . وقوله : قل إي وربي إنه لحق . [ 10 \ 53 ]

وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران ، وهي كون الرسول مرسلا ، والبعث حقا ، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة ، وذلك في قوله تعالى : ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 1 - 3 ] فاتضح [ ص: 329 ] بذلك أن المعنى : ق والقرآن المجيد ، إن المنذر الكائن منكم الذي عجبتم من مجيئه لكم منذرا رسول منذر لكم من الله حقا ، وإن البعث الذي أنكرتموه واستبعدتموه غاية الإنكار ، والاستبعاد ، في قوله تعالى عنكم : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد أي : ذلك الرجع الذي هو البعث رجع بعيد في زعمكم واقع لا محالة ، وإنه حق لا شك فيه ، كما أشار له في قوله تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ إذ المعنى : أن ما أكلته الأرض من لحومهم ، ومزقته من أجسامهم وعظامهم ، يعلمه جل وعلا ، لا يخفى عليه منه شيء فهو قادر على رده كما كان .

وإحياء تلك الأجساد البالية ، والشعور المتمزقة ، والعظام النخرة كما قدمنا موضحا بالآيات القرآنية ، في سورة يس في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] وكونه صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا ، يستلزم استلزاما لا شك فيه ، أن القرآن العظيم منزل من الله حقا ، وأنه ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين .

ولذلك أقسم تعالى ، في مواضع كثيرة ، على أن القرآن أيضا منزل من الله ; كقوله تعالى في أول سورة الدخان : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 1 - 3 ] ، وقوله تعالى في أول سورة الزخرف : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ 43 \ 1 - 4 ] .
قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق . قد قدمنا الكلام قريبا على الإضراب بـ " بل " في هذه الآية .

وقوله تعالى هنا : في عزة أي : حمية واستكبار عند قبول الحق ، وقد بين جل وعلا في سورة البقرة أن من أسباب أخذ العزة المذكورة بالإثم للكفار أمرهم بتقوى الله ، وبين أن تلك العزة التي هي الحمية والاستكبار عن قبول الحق من أسباب دخولهم جهنم ، وذلك في قوله عن بعض الكفار الذين يظهرون غير ما يبطنون : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد [ 2 \ 206 ] .

والظاهر أن وجه إطلاق العزة على الحمية والاستكبار : أن من اتصف بذلك كأنه [ ص: 330 ] ينزل نفسه منزلة الغالب القاهر ، وإن كان الأمر ليس كذلك ، لأن أصل العزة في لغة العرب الغلبة والقهر ، ومنه قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين الآية [ 63 \ 8 ] ، والعرب يقولون : من عزيز ، يعنون من غلب استلب ، ومنه قول الخنساء :


كأن لم يكونوا حمى يحتشى إذ الناس إذ ذاك من عزيزا


وقوله تعالى عن الخصم الذين تسوروا على داود : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] أي غلبني ، وقهرني في الخصومة .

والدليل من القرآن على أن العزة التي أثبتها الله للكفار في قوله : بل الذين كفروا في عزة الآية . وقوله : أخذته العزة بالإثم الآية [ 2 \ 206 ] ، ليست هي العزة التي يراد بها القهر والغلبة بالفعل ، أن الله خص بهذه العزة المؤمنين دون الكافرين والمنافقين ، وذلك في قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] .

ولذلك فسرها علماء التفسير ، بأنها هي الحمية والاستكبار ، عن قبول الحق .

والشقاق : هي المخالفة ، والمعاندة كما قال تعالى : وإن تولوا فإنما هم في شقاق الآية [ 2 \ 137 ] . قال بعض العلماء : وأصله من الشق الذي هو الجانب ، لأن المخالف المعاند ، يكون في الشق أي في الجانب الذي ليس فيه من هو مخالف له ومعاند .

وقال بعض أهل العلم : أصل الشقاق من المشقة ; لأن المخالف المعاند يجتهد في إيصال المشقة إلى من هو مخالف معاند .

وقال بعضهم : أصل الشقاق من شق العصا وهو الخلاف والتفرق .
قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص . كم هنا هي الخبرية ، ومعناها الإخبار عن عدد كثير ، وهي في محل نصب ، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم ، ومن في قوله : من قرن ، مميزة لكم ، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن ، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة ، والمعنى أهلكنا كثيرا من الأمم السالفة من أجل الكفر ، وتكذيب الرسل [ ص: 331 ] فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية .

وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أنه أهلك كثيرا من القرون الماضية ، يهدد كفار مكة بذلك .

الثانية : أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك .

الثالثة : أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء ، أي فهو وقت لا ملجأ فيه ، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته .

وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه .

أما المسألة الأولى وهي كونه أهلك كثيرا من الأمم ، فقد ذكرها في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح [ 17 \ 17 ] وقوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة الآية [ 22 \ 45 ] . وقوله تعالى : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله الآية [ 14 \ 9 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبينا سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها : لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .

وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم ، أقوال أهل العلم في قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم وبينا دلالة القرآن على بعضها ، وكقوله تعالى وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية إلى قوله : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا [ 25 \ 37 - 39 ] وقوله [ ص: 332 ] تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] . وقوله تعالى كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة ، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم .

ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] لأن قوله تعالى : وللكافرين أمثالها تهديد عظيم بذلك .

وقوله تعالى : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 82 - 83 ] فقوله : وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم ، وفواحشهم المعروفة ، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم ، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم ، كقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] وقوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا [ 25 \ 40 ] .

وقوله فيهم : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] . وقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم . وقوله فيهم وفي قوم شعيب وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وأما المسألة الثانية : وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب ; فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء :

أحدهما : نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين ، وذلك في قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون إلى قوله قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 11 - 15 ] وقوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 7 \ 4 - 5 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:14 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (454)
سُورَةُ ص
صـ 333 إلى صـ 340





الثاني : من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب [ ص: 333 ] الذي أحسوا أوائله ، كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 ، 3 ] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام ، لدلالة قوله : ولات حين مناص عليه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولات حين مناص الذي هو المسألة الثالثة ، معناه : ليس الحين الذي نادوا فيه ، وهو وقت معاينة العذاب ، حين مناص ، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه .

فقوله : ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم ، فقيل فيها ثمت ، وفي رب ، فقيل فيها ربت .

وأشهر أقوال النحويين فيها ، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة ، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ، كالساعة والأوان ، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب ، وربما عكس ، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :


في النكرات أعملت كليس " لا " وقد تلي " لات " و " إن " ذا العملا وما للات في سوى حين عمل
وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل


والمناص مفعل من النوص ، والعرب تقول : ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه ، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص .

والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد ، والعرب تقول : استناص إذا طلب المناص ، أي السلامة والمفر مما يخافه ، ومنه قول حارثة بن بدر :


غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل


والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم ، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد ; لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته ، أن يكون صاحبه في كرب وضيق ، فيعمل عملا ، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك .

[ ص: 334 ] فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء ، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك .

والعرب تطلق النوص على التأخر . والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم ، ومنه قول امرئ القيس :


أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوة وتبوص


وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافا لمن قال : إنها تعمل عمل إن ، ولمن قال : إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام ، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها .

وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة ، أن التاء ليست موصولة بحين ، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم ، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء .

أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها ، وكذلك قراءة كسر النون من حين ، فهي شاذة لا تجوز ، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل .

وتعسف له الزمخشري وجها لا يخفى سقوطه ، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط ، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فنادوا أصل النداء : رفع الصوت ، والعرب تقول : فلان أندى صوتا من فلان ، أي أرفع ، ومنه قوله :


فقلت ادعي وأدعو إن أندا لصوت أن ينادي داعيان


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب ، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص . ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 84 - 85 ] . وقوله تعالى : فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 12 - 15 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 335 ] وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه كقوله تعالى : استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 42 \ 47 ] . وقوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر [ 75 \ 7 - 11 ] والوزر : الملجأ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :


والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا الرماح وأطراف القنا وزر


وكقوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به ، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :


وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل


أي : ثم ما ينجو .
قوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسول منذر منهم ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من عجبهم المذكور ، ذكره في غير هذا الموضع وأنكره عليهم وأوضح تعالى سببه ورده عليهم في آيات أخر ، فقال في عجبهم المذكور ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 1 - 2 ] .

وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 1 - 2 ] وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود ، فقال عن نوح مخاطبا لقومه : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون [ 7 \ 63 ] .

وقال عن هود مخاطبا لعاد : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح الآية [ 7 \ 69 ] ، وبين أن سبب عجبهم من كون المنذر منهم أنه بشر مثلهم زاعمين أن الله لا يرسل إليهم أحدا من جنسهم . وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحدا لأرسل إليهم ملكا لأنه ليس بشرا مثلهم وأنه لا يأكل [ ص: 336 ] ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق .

والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] وقوله تعالى : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] . وقوله تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا الآية [ 64 \ 6 ] . وقوله تعالى : كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 23 - 24 ] . وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا الآية [ 14 \ 10 ] . وقوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون [ 41 \ 13 - 14 ] وقوله تعالى : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين [ 23 \ 24 ] وقوله تعالى : وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 6 - 8 ] . وقوله تعالى : أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية [ 25 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى عن فرعون مع موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] .

وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه ، [ ص: 337 ] كقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي بالرسالة والوحي ولو كان بشرا مثلكم إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم . قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها [ 25 \ 42 ] .
قوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار مكة ، أنكروا أن الله خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه وحده ، ولم ينزله على أحد آخر منهم ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء في آيات أخر ، مع الرد على الكفار في إنكارهم خصوصه صلى الله عليه وسلم بالوحي ، كقوله تعالى عنهم : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] يعنون بالقريتين مكة والطائف ، وبالرجلين من القريتين الوليد بن المغيرة في مكة ، وعروة بن مسعود في الطائف زاعمين أنهما أحق بالنبوة منه .

وقد رد جل وعلا ذلك عليهم في قوله تعالى : أهم يقسمون رحمة ربك [ 43 \ 32 ] لأن الهمزة في قوله : أهم يقسمون ، للإنكار المشتمل على معنى النفي ، وكقوله تعالى : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] .

وقد رد الله تعالى ذلك عليهم في قوله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] وأشار إلى رد ذلك عليهم في آية ص هذه في قوله : بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما الآية [ 38 \ 8 - 10 ] . [ ص: 338 ] لأنه لا يجعل الرسالة حيث يشاء ، ويخص بها من يشاء ، إلا من عنده خزائن الرحمة . وله ملك السماوات والأرض .

وقوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا قد بين في موضع آخر أن ثمود قالوا مثله لنبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وذلك في قوله تعالى عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] وقد رد الله تعالى عليهم ذلك في قوله : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر [ 54 \ 26 ] .
قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما . قد قدمنا بعض الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] .
قوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح الآية [ 22 \ 42 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به . [ 6 \ 57 ] وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به الآية [ 10 \ 15 ] وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] . وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب الآية [ 22 \ 47 ] .

وقد قدمنا أن القط ، النصيب من الشيء ، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به .

وأن أصل القط كتاب الجائزة ; لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان ، وجمعه قطوط ، ومنه قول الأعشى :

[ ص: 339 ]
ولا الملك النعمان حين لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق

وقوله : ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط .
قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه إلى قوله : أواب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنبياء ، في الكلام على قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير الآية [ 21 \ 79 ] .
قوله تعالى : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك . قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء ، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه ، في الكلام على قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .

واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة ، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كله راجع إلى الإسرائيليات ، فلا ثقة به ، ولا معول عليه ، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء .
قوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنا جعلناك خليفة في الأرض ، قد بينا الحكم الذي دل عليه ، في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية [ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قد أمر نبيه داود فيه ، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى ، وأن اتباع الهوى ، علة للضلال عن سبيل الله ، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية .

وقد تقرر في الأصول ، في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن الفاء من حروف التعليل كقوله : سهى فسجد ، وسرق فقطعت يده ، أو لعلة السهو في الأول ، ولعلة السرقة في الثاني ، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى ، فأضله ربنا عن سبيل الله ، في قوله تعالى بعده يليه : إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ 38 \ 26 ] .

[ ص: 340 ] ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق ، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله ، ولكن الله تعالى ، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ، وينهاهم ليشرع لأممهم .

ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم ، بمثل ما أمر به داود ، ونهاه أيضا عن مثل ذلك ، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ 15 \ 42 ] . وقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك [ 15 \ 49 ] وكقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] وقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] .

وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب ، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما الآية [ 17 \ 23 ] ، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته ، وأن أمه ماتت وهو صغير ، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما ، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان .

فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الآية ، إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته ، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب . إياك أعني واسمعي يا جارة ، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة ، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله :


يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرة معطاره
إياك أعني واسمعي يا جاره
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:18 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (455)
سُورَةُ ص
صـ 341 إلى صـ 348




وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة ، وقول بعض أهل العلم : إن الخطاب في [ ص: 341 ] قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية ، هو الخطاب بصيغة المفرد ، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه . كقول طرفة بن العبد في معلقته :


ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود


أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك ، وعلى هذا فلا دليل في الآية ، غير صحيح ، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم . وعليه فالاستدلال بالآية ، استدلال قرآني صحيح ، والقرينة القرآنية المذكورة ، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي أولها : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر الآية . ما هو صريح ، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم كل من يصح منه الخطاب ، وذلك في قوله تعالى : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] .
قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون . في الكلام على قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا الآية [ 23 \ 115 ] .
قوله تعالى : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار . الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي ، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلا هو ظن الذين كفروا بنا ، والنفي في قوله ما خلقنا ، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا ، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما : ليس خلقه للسماوات والأرض ، بل هو ثابت ، وإنما المنفي بها ، هو كونه باطلا ، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة ; لأن النفي منصب عليها هي خاصة ، والكلام لا يصح دونها . والكلام في هذا معلوم في محله ، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلا نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون ، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى .

أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 23 \ 115 ] .

[ ص: 342 ] ثم نزه نفسه ، عن كونه خلقهم عبثا ، بقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] أي : تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثا .

وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك ، ففي قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيها لك ، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلا . فقولهم سبحانك تنزيه له ، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق الآية [ 23 \ 116 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية : فويل للذين كفروا من النار يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا ، فله النار .

وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أرداه وجعله من الخاسرين ، وجعل النار مثواه . وذلك في قوله تعالى : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم الآية [ 41 \ 22 - 24 ] .

وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وبينا هناك أن الفعل نوعان ، أحدهما الفعل الحقيقي ، والثاني الفعل الصناعي ، أما الفعل الحقيقي ، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر .

وأما الفعل الصناعي ، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي ، والفعل المضارع ، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع .

ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين ، عن مصدر وزمن ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

[ ص: 343 ] المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن

وعند جماعات من البلاغيين ، أنه ينحل عن مصدر ، وزمن ونسبة ، وهو الأقرب ، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية ، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر والزمن كامنان في الفعل الصناعي ، فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي .

فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل ، قوله هنا : ذلك ظن الذين كفروا الآية ، فإن المصدر الذي هو الخلق كامن في الفعل الصناعي ، الذي هو الفعل الماضي في قوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا .
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي ، قوله تعالى : ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد .
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى : اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] فقوله : هو ، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار . أم في قوله : أم نجعل الذين ، وقوله : أم نجعل المتقين ، كلتاهما ، منقطعة وأم المنقطعة ، فيها لعلماء العربية ثلاثة مذاهب :

الأول : أنها بمعنى همزة استفهام الإنكار .

الثاني : أنها بمعنى بل الإضرابية .

والثالث : أنها تشمل معنى الإنكار والإضراب معا ، وهو الذي اختاره بعض المحققين .

وعليه فالإضراب بها هنا انتقالي لا إبطالي ووجه الإنكار بها عليهم واضح ; لأن [ ص: 344 ] من ظن بالله الحكيم الخبير ، أنه يساوي بين الصالح المصلح ، والمفسد الفاجر ، فقد ظن ظنا قبيحا جديرا بالإنكار .

وقد بين جل وعلا هذا المعنى ، في غير هذا الموضع ، وذم حكم من يحكم به ، وذلك في قوله تعالى في سورة الجاثية : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] .
قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب . قوله تعالى : كتاب خبر مبتدأ محذوف أي : هذا كتاب ، وقد ذكر جل وعلا ، في هذه الآية الكريمة ، أنه أنزل هذا الكتاب ، معظما نفسه جل وعلا ، بصيغة الجمع ، وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله أن يتدبر الناس آياته ، أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها ، حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى ، وأن يتذكر أولوا الألباب ، أي يتعظ أصحاب العقول السليمة ، من شوائب الاختلال .

وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحا في آيات أخر .

أما كونه جل وعلا ، هو الذي أنزل هذا القرآن ، فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] وقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 3 ] وقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ 3 \ 7 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وأما كون هذا الكتاب مباركا ، فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه الآية [ 6 \ 92 ] . وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] . والمبارك كثير البركات ، من خير الدنيا والآخرة .

ونرجو الله القريب المجيب ، إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك ، أن يجعلنا مباركين أينما كنا ، وأن يبارك لنا وعلينا ، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة ، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين ، الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات ، في الدنيا والآخرة ، إنه قريب مجيب .

[ ص: 345 ] وأما كون تدبر آياته ، من حكم إنزاله : فقد أشار إليه في بعض الآيات ، بالتحضيض على تدبره ، وتوبيخ من لم يتدبره ، كقوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] . وقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] .

وأما كون تذكر أولي الألباب من حكم إنزاله ، فقد ذكره في غير هذا الموضع ، مقترنا ببعض الحكم الأخرى ، التي لم تذكر في آية ( ص ) هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] فقد بين في هذه الآية الكريمة ، أن تذكر أولي الألباب ، من حكم إنزاله مبينا منها حكمتين أخريين ، من حكم إنزاله ، وهما إنذار الناس به ، وتحقيق معنى لا إله إلا الله ، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب ، من حكم إنزاله ، ذكره في قوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] لأن اللام في قوله لتنذر ، متعلقة بقوله : أنزل ، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير ، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولو الألباب .

وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .

وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] . وقوله تعالى : تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 36 \ 5 - 6 ] . وقوله تعالى : لينذر من كان حيا الآية [ 36 \ 70 ] .

وذكر في آيات أخر ، أن من حكم إنزاله ، الإنذار والتبشير معا ، كقوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] . وقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات الآية [ 18 \ 1 - 2 ] .

وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا ، وذلك قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] .

[ ص: 346 ] وقد قدمنا مرارا كون لعل من حروف التعليل ، وذكر حكمة التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة ، في قوله تعالى : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 16 \ 64 ] .

وبين أن من حكم إنزاله ، تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين [ 16 \ 102 ] .

وبين أن من حكم إنزاله ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يحكم بين الناس بما أراه الله ، وذلك في قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [ 4 \ 105 ] .

والظاهر أن معنى قوله : بما أراك الله أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم ، بدليل قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] . وقوله تعالى : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .

وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الآية [ 14 \ 1 ] .

وبين أن من حكم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى [ 20 \ 1 - 3 ] أي : ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى .

وهذا القصر على التذكرة إضافي ، وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه الآية [ 16 \ 64 ] ، بدليل الحكم الأخرى التي ذكرناها .

وبين أن من حكم إنزاله قرآنا عربيا وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي [ ص: 347 ] الناس الله ، أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكرا ، أي موعظة وتذكرا ، يهديهم إلى الحق ، وذلك في قوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة ، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات ، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان ، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه ، قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] .
قوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان . ذكر في هذه الآية الكريمة ، أنه وهب سليمان لداود ، وقد بين في سورة النمل أن الموهوب ورث الموهوب له ، وذلك في قوله تعالى : وورث سليمان داود [ 27 \ 16 ] .
وقد بينا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى عن زكريا : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 5 - 6 ] أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال .
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة ، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات ، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان ، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه ، قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] .
قوله تعالى : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . قد قدمنا الكلام عليه موضحا بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره الآية [ 21 \ 81 ] .

وفسرنا هناك قوله هنا حيث أصاب وذكرنا هناك أوجه الجمع بين قوله هنا : رخاء ، وقوله هناك : ولسليمان الريح عاصفة [ 21 \ 81 ] ووجه الجمع أيضا بين عموم الجهات المفهوم من قوله هنا : حيث أصاب أي : حيث أراد وبين خصوص الأرض المباركة المذكورة هناك في قوله : تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها الآية [ 21 \ 81 ] .
[ ص: 348 ] قوله تعالى : والشياطين كل بناء وغواص . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 21 \ 82 ] .
قوله تعالى : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب إلى قوله لأولي الألباب . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه إلى قوله : وذكرى للعابدين .
قوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق . أمر الله جل وعلا ، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يذكر عبده إبراهيم ولم يقيد ذلك الذكر بكونه في الكتاب ، مع أنه قيده بذلك في سورة مريم ، في قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا الآية [ 19 \ 41 ] .
قوله تعالى : واذكر إسماعيل واليسع . أطلق هنا أيضا الأمر بذكر إسماعيل وقيده في سورة مريم بكونه في الكتاب في قوله تعالى : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد الآية [ 19 \ 54 ] ، وفي ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مأمور أيضا بذكر جميع المذكورين في الكتاب . ولذلك جاء ذكرهم كلهم في القرآن العظيم كما لا يخفى .
قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف أتراب . قد قدمنا الكلام عليه ، في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:21 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (456)
سُورَةُ الزُّمَرِ
صـ 349 إلى صـ 356



قوله تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن نعيم الجنة ، لا نفاد له ، أي : لا انقطاع له ولا زوال ، ذكره جل وعلا في آيات أخر كقوله تعالى فيه : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] [ ص: 349 ] وقوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . قد قدمنا ما يوضحه ، من الآيات القرآنية في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك ، ذكرنا بعضها في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا الآية [ 2 \ 166 ] ، وذكرنا بعضه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا الآية [ 7 \ 38 ] وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
قد تقدم إيضاحه ، مع بعض المباحث في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] .
قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة هود ، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالآيات ، في الكلام على قوله تعالى عن نبيه نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين . الحين المذكور هنا ، قال بعض العلماء : المراد به بعد الموت ، ويدل له ما قدمنا في سورة الحجر ، في الكلام على قوله تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [ 15 \ 99 ] .

وقال بعض العلماء : الحين المذكور هنا ، هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين ; لأن الإنسان بعد الموت تتبين له حقائق الهدى والضلال .

واللام في لتعلمن موطئة للقسم ، وقد أكد في هذه الآية الكريمة أنهم سيعلمون نبأ القرآن أي صدقه ، وصحة جميع ما فيه بعد حين بالقسم ، ونون التوكيد .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بأنهم سيعلمون نبأه بعد حين ، قد أشار إليه تعالى ، في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] .
[ ص: 350 ] قال غير واحد من العلماء : لكل نبإ مستقر ، أي : لكل خبر حقيقة ووقوع ، فإن كان حقا تبين صدقه ولو بعد حين ، وإن كان كذبا تبين كذبه ، وستعلمون صدق هذا القرآن ولو بعد حين .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الزُّمَرِ

[ ص: 351 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، الْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتَهُ الْعُلْيَا .

فَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، لَمَّا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ كِتَابَهُ ، بَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ تَنْزِيلِهِ كَائِنٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَذَكَرَ اسْمَهُ اللَّهَ ، وَاسْمَهُ الْعَزِيزَ ، وَالْحَكِيمَ ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [ 45 \ 1 - 3 ] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [ 46 \ 1 - 3 ] .

وَقَدْ تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ، ذِكْرُهُ بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، بَعْدَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [ 40 \ 1 - 3 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فُصَّلَتْ : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ 41 \ 1 - 2 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هُودٍ : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ 11 \ 1 ] وَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ : وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ 41 \ 41 - 42 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ يس تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [ 36 \ 5 - 6 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [ 26 \ 192 - 193 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [ 69 \ 43 - 44 ] .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الْعَظِيمَةَ ، بَعْدَ ذِكْرِهِ تَنْزِيلَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ ، عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ وَأَهَمِّيَّةِ نُزُولِهِ ، [ ص: 352 ] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قوله تعالى : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم . في هذه الآية الكريمة ، أن يعبده في حال كونه ، مخلصا له الدين ، أي مخلصا له في عبادته ، من جميع أنواع الشرك صغيرها وكبيرها ، كما هو واضح من لفظ الآية .

والإخلاص ، إفراد المعبود بالقصد ، في كل ما أمر بالتقرب به إليه ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون الإخلاص في العبادة لله وحده ، لا بد منه ، جاء في آيات متعددة ، وقد بين جل وعلا ، أنه ما أمر بعبادة ، إلا عبادة يخلص له العابد فيها .

أما غير المخلص فكل ما أتى به من ذلك ، جاء به من تلقاء نفسه ، لا بأمر ربه ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية [ 98 \ 5 ] ، وقال جل وعلا : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين إلى قوله تعالى : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 14 ، 15 ] .

وقد قدمنا الكلام على العمل الصالح ، وأنه لا بد فيه من الإخلاص ، في أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات الآية . وفي غير ذلك من المواضع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا لله الدين الخالص أي : التوحيد الصافي من شوائب الشرك ، أي : هو المستحق لذلك وحده ، وهو الذي أمر به .
وقول من قال من العلماء : إن المراد بالدين الخالص كلمة لا إله إلا الله موافق لما ذكرناه . والعلم عند الله تعالى .
ثم لما ذكر جل وعلا إخلاص العبادة له وحده ، بين شبهة الكفار التي احتجوا بها للإشراك به تعالى ، في




قوله تعالى هنا : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام ، إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى ، والزلفى : القرابة .

[ ص: 353 ] فقوله : زلفى ، ما ناب عن المطلق من قوله ليقربونا ، أي ليقربونا إليه قرابة تنفعنا بشفاعتهم في زعمهم .

ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .

وقد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : وابتغوا إليه الوسيلة [ 6 \ 35 ] أن هذا النوع من ادعاء الشفعاء ، واتخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفار .

وقد صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله جل وعلا : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] .

فصرح تعالى بأن هذا النوع ، من ادعاء الشفعاء شرك بالله ، ونزه نفسه الكريمة عنه ، بقوله جل وعلا سبحانه وتعالى عما يشركون وأشار إلى ذلك في آية الزمر هذه ; لأنه جل وعلا لما قال عنهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون [ 39 \ 3 ] أتبع ذلك بقوله تعالى : إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار [ 39 \ 3 ] .
وقوله : كفار ، صيغة مبالغة ، فدل ذلك على أن الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى جامعون بذلك ، بين الكذب والمبالغة في الكفر بقولهم ذلك ، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة الناس .
قوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار . قد قدمنا الآيات الموضحة ، بكثرة في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] .
قوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه خلق بني آدم من نفس واحدة هي أبوهم [ ص: 354 ] آدم ، ثم جعل من تلك النفس ، زوجها يعني حواء . أي : وبث جميع بني آدم منهما ، وأوضح هذا في مواضع أخر من كتابه ، كقوله تعالى في أول سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] وقوله في الأعراف : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] ، وتأنيث الوصف ، بقوله واحدة ، مع أن الموصوف به مذكر ، وهو آدم نظرا إلى تأنيث لفظ النفس ، وإن كان المراد بها مذكرا ، ونظير ذلك من كلام العرب قوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
قوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . قد قدمنا إيضاح هذه الأزواج الثمانية بنص القرآن العظيم ، في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : والخيل المسومة والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .
قوله تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] وبينا هناك المراد بالظلمات الثلاث المذكورة هنا .
قوله تعالى : إن تكفروا فإن الله غني عنكم . قد بين جل وعلا ، في هذه الآية الكريمة ، أنه غني عن خلقه الغنى المطلق ، وأنه لا يضره كفرهم به ، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله تعالى وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] ، وقوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني الآية [ 10 \ 68 ] . وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] وقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء [ 47 \ 38 ] ، وقد أوضحنا هذا بالآيات في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
[ ص: 355 ] قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم . قد قدمنا إيضاحه مع إزالة الإشكال ، والجواب عن الأسئلة الواردة ، على تلك الآيات في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وأوضحنا ذلك ، مع إزالة الإشكال في بعض الآيات ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] .
قوله تعالى : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما الآية [ 10 \ 12 ] .
قوله تعالى : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الإشارة إلى بحث أصوله في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] .
قوله تعالى : وأرض الله واسعة . الظاهر أن معنى الآية أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب ، فعليه أن يهاجر منه ، في مناكب أرض الله الواسعة ، حتى يجد محلا تمكنه فيه إقامة دينه .

وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [ 4 \ 97 ] . وقوله تعالى : ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون [ 29 \ 56 ] ، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله : فإياي فاعبدون على قوله : إن أرضي واسعة دليل واضح على ذلك .
قوله تعالى : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين .

[ ص: 356 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له ، من أوجه في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] .
قوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، في سورة الأنبياء ، في الكلام على قوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك ، في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا [ 17 \ 8 ] .
قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله . ما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من تحقيق معنى لا إله إلا الله ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الفاتحة ، في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد [ 1 \ 5 ] .
قوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . أظهر الأقوال في الآية الكريمة ، أن المراد بالقول ، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، من وحي الكتاب والسنة ، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى : أفلم يدبروا القول الآية [ 23 \ 68 ] . وقوله تعالى : إنه لقول فصل وما هو بالهزل [ 86 \ 13 - 14 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] أي : يقدمون الأحسن ، الذي هو أشد حسنا ، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن ، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن . ويدل لهذا آيات من كتاب الله .

أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع . ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة : فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها [ 7 \ 145 ] .

وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن ، فقد دلت عليه آيات من كتابه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:37 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (457)
سُورَةُ الزُّمَرِ
صـ 357 إلى صـ 364




واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب ، وأن المندوب أحسن من [ ص: 357 ] مطلق الحسن ، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى : وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [ 22 \ 77 ] قدموا فعل الخير الواجب ، على فعل الخير المندوب ، وقدموا هذا الأخير ، على مطلق الحسن الذي هو الجائز ، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، لا على مطلق الحسن ، كما قال تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] وقال تعالى ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [ 39 \ 35 ] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن ، كما قال صاحب المراقي :

ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن

ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] فالأمر في قوله : فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به للجواز ، والله لا يأمر إلا بحسن . فدل ذلك على أن الانتقام حسن ، ولكن الله بين أن العفو والصبر ، خير منه وأحسن في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى في إباحة الانتقام : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [ 42 \ 43 ] ، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه ، في قوله بعده : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وكقوله في جواز الانتقام : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه ، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] . وكقوله جل وعلا مثنيا على من تصدق ، فأبدى صدقته : إن تبدوا الصدقات فنعما هي [ 2 \ 271 ] ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء ، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد ، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم ، في قوله : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] .

[ ص: 358 ] وكقوله في نصف الصداق اللازم ، للزوجة بالطلاق ، قبل الدخول ، فنصف ما فرضتم [ 2 \ 237 ] ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن ، لأن الله شرعه في كتابه في قوله : فنصف ما فرضتم مع أنه رغب كل واحد منهما ، أن يعفو للآخر عن نصفه ، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعدهوأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم [ 2 \ 237 ] .

وقد قال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ثم أرشد إلى الأحسن بقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] وقال تعالى : والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ثم أرشد إلى الأحسن ، في قوله : فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] .

واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالا غير الذي اخترنا .

منها ما روي عن ابن عباس ، في معنى فيتبعون أحسنه قال : " هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن ، وينكف عن القبيح ، فلا يتحدث به " .

وقيل يستمعون القرآن وغيره ، فيتبعون القرآن .

وقيل : إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله ، وبعض من يقول بهذا يقول : إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار . أظهر القولين في الآية الكريمة ، أنهما جملتان مستقلتان ، فقوله : أفمن حق عليه كلمة العذاب جملة مستقلة ، لكن فيها حذفا ، وحذف ما دل المقام عليه واضح ، لا إشكال فيه .

والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ، تخلصه أنت منه ، والاستفهام مضمن معنى النفي ، أي لا تخلص أنت يا نبي الله أحدا سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب ، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده أفأنت تنقذ من في النار .

وقد قدمنا مرارا قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو [ ص: 359 ] وثم كقوله هنا : أفمن حق وقوله : أفأنت تنقذ .

أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية ، كما قال الزمخشري : أصل الكلام : أمن حق عليه كلمة العذاب ، فأنت تنقذه جملة شرطية ، دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب ، تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار موضع الضمير ، فالآية على هذا جملة واحدة ، فإنه لا يظهر كل الظهور .
واعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة يس في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] ، وبينا دلالة الآيات على المراد بكلمة العذاب .
قوله تعالى : لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية . ما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية ، ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى في سورة سبأ إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] . وقوله تعالى في سورة التوبة : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن الآية [ 9 \ 72 ] . وقوله تعالى في سورة الصف : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم [ 61 \ 12 ] ، لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ ، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة الفرقان ، في الكلام على قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا الآية [ 25 \ 75 ] .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض . الينابيع : جمع ينبوع ، وهو الماء الكثير .
وقوله : فسلكه أي أدخله ، كما قدمنا إيضاحه بشواهده العربية ، والآيات القرآنية في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 11 \ 40 ] .
[ ص: 360 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر ، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها الآية [ 34 \ 2 ] .
قوله تعالى : ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم [ 30 \ 22 ] وأحلنا عليه في سورة فاطر ، في قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها الآية [ 35 \ 27 ] .
قوله تعالى : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب . قوله : ثم يهيج أي : ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس ، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفرا يابسا ، قد زالت خضرته ونضارته . ثم يجعله حطاما أي فتاتا ، متكسرا ، هشيما ، تذروه الرياح ، إن في ذلك المذكور من حالات ذلك الزرع ، المختلف الألوان ، لذكرى أي عبرة وموعظة وتذكيرا لأولي الألباب ، أي لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير ، وبين في موضع آخر ، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضا بالدنيا . فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر ، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما [ 257 \ 20 ] . ويبين في سورة الروم أن من أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليه ، وذلك في قوله : ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون [ 30 \ 51 ] .
قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه . قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .
[ ص: 361 ] قوله تعالى : ومن يضلل الله فما له من هاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] ، وفي غير ذلك من الموضع .
قوله تعالى : قرآنا عربيا غير ذي عوج . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولم يجعل له عوجا قيما الآية [ 18 \ 1 - 2 ] . وقوله في هذه الآية الكريمة : قرآنا انتصب على الحال وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربيا ، وقرآنا توطئة له وقيل انتصب على المدح .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عربيا ، أي : لأنه بلسان عربي كما قال تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] . وقال تعالى في أول سورة يوسف : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 3 ] . وقال في أول الزخرف : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 3 ] . وقال في طه وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] وقال تعالى في فصلت : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ 41 \ 44 ] وقال تعالى في الشعراء : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقال تعالى في سورة الشورى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها الآية [ 42 \ 7 ] .

وقال تعالى في الرعد : وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق [ 13 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها ، دلالة لا ينكرها إلا مكابر .
[ ص: 362 ] قوله تعالى : والذي جاء بالصدق . أوضح جل وعلا أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين ، بدليل قوله بعده : أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين [ 29 \ 33 - 34 ] .

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن " الذي " تأتي بمعنى الذين في القرآن وفي كلام العرب ، فمن أمثلة ذلك في القرآن ، قوله تعالى في آية الزمر هذه : والذي جاء بالصدق الآية . وقوله تعالى في سورة البقرة : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا [ 2 \ 17 ] أي : الذين استوقدوا بدليل قوله بعده : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] وقوله فيها أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي : كالذين ينفقون بدليل قوله بعده : لا يقدرون على شيء مما كسبوا الآية . وقوله تعالى في التوبة : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] على القول بأن الذي موصولة لا مصدرية ، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :


وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد


وقول عديل بن الفرخ العجلي :


فبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غي ورشدهم رشد
وقول الراجز :

يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منها ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد

قوله تعالى : لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون الآية [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 17 - 18 ] وفي سورة [ ص: 363 ] النحل في الكلام على قوله تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] .
قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنفال ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] وعلى قراءة الجمهور بكاف عبده ، بفتح العين وسكون الباء ، بإفراد العبد ، والمراد به ، النبي صلى الله عليه وسلم . كقوله : فسيكفيكهم الله [ 2 \ 137 ] وقوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله الآية [ 8 \ 64 ] .

وأما على قراءة حمزة والكسائي عباده بكسر العين وفتح الباء بعدها ألف على أنه جمع عبد ، فالظاهر أنه يشمل عباده الصالحين من الأنبياء وأتباعهم .



قوله تعالى : ويخوفونك بالذين من دونه . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار عبدة الأوثان ، يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم ، بالأوثان التي يعبدونها من دون الله ، لأنهم يقولون له : إنها ستضره وتخبله ، وهذه عادة عبدة الأوثان لعنهم الله ، يخوفون الرسل بالأوثان ويزعمون أنها ستضرهم وتصل إليهم بالسوء .

ومعلوم أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه ، لا يخافون غير الله ولا سيما الأوثان ، التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تضر ولا تنفع ، ولذا قال تعالى عن نبيه إبراهيم لما خوفوه بها : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن الآية [ 6 \ 81 ] .

وقال عن نبيه هود وما ذكره له قومه من ذلك : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [ 11 \ 54 - 56 ] .

وقال تعالى في هذه السورة الكريمة ، مخاطبا نبينا صلى الله عليه وسلم ، بعد أن ذكر تخويفهم له بأصنامهم : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ 39 \ 38 ] .
[ ص: 364 ] ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإشراك بالله .
وقد بين جل وعلا في موضع آخر ، أن الشيطان يخوف المؤمنين أيضا ، الذين هم أتباع الرسل من أتباعه وأوليائه من الكفار ، كما قال تعالى : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] .
والأظهر أن قوله : يخوف أولياءه حذف فيه المفعول الأول ، أي : يخوفكم أولياءه ، بدليل قوله بعده : فلا تخافوهم وخافون الآية .
قوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن المعبودات من دونه ، لا تقدر أن تكشف ضرا أراد الله به أحدا ، أو تمسك رحمة أراد بها أحدا ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ 19 \ 42 ] وقوله تعالى : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [ 26 \ 72 - 74 ] . وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم [ 35 \ 2 ] وقوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده الآية [ 10 \ 107 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [ 34 \ 35 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:41 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (458)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 365 إلى صـ 372



قوله تعالى : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة . [ ص: 365 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين ظلموا وهم الكفار ، ولو كان لهم في الآخرة ما في الأرض جميعا ومثله معه ، لفدوا أنفسهم به من سوء العذاب الذي عاينوه يوم القيامة ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر وصرح فيها بأنه لا فداء البتة يوم القيامة كقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] . وقوله تعالى : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 36 - 37 ] وقوله تعالى : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير [ 57 \ 15 ] . وقوله تعالى : وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 6 \ 70 ] . وقوله وإن تعدل كل عدل أي : وإن تفتد كل فداء ، وقوله تعالى : ولا يؤخذ منها عدل الآية [ 2 \ 48 ] . وقوله : ولا يقبل منها عدل الآية [ 2 \ 123 ] ، والعدل الفداء . وقوله تعالى : والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 13 \ 18 ] .

وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة آل عمران ، في الكلام على قوله تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به الآية [ 3 \ 91 ] .
قوله تعالى : وبدا لهم سيئات ما كسبوا . قوله : وبدا لهم أي : ظهر لهم سيئات ما كسبوا ، أي : جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ، فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مرادا بها جزاؤها .

ونظيره من القرآن قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] .

ونظير ذلك أيضا إطلاق العقاب ، على جزاء العقاب ، في قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] .

[ ص: 366 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أنهم يبدو لهم يوم القيامة ، حقيقة ما كانوا يعملونه في الدنيا جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 ] وقوله تعالى ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] وقوله تعالى علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 5 ] . وقوله تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا الآية [ 18 \ 49 ] . وقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية [ 10 \ 12 ] .
قوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في قوله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 17 - 18 ] وقدمنا طرفا منه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] .
قوله تعالى : أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له من جهات في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة . قد قدمنا الكلام عليه وعلى ما يماثله من الآيات في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الآية [ 3 \ 106 ] .
[ ص: 367 ] قوله تعالى : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين .

تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية ، مع بيان جملة من آثار الكبر السيئة ، في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] .
قوله تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك . قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .

وقد ذكرنا في سورة المائدة الآية المتضمنة للقيد الذي لم يذكر في هذه الآيات على قوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله الآية [ 5 \ 5 ] .
قوله تعالى : ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس ، في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
قوله تعالى : ووضع الكتاب . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] .
قوله تعالى : وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت . اختلف العلماء في المراد بالشهداء في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم في الدنيا ، واستدل من قال هذا بقوله تعالى وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ 50 \ 21 ] .

وقال بعض العلماء : الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون على الأمم ، كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . [ ص: 368 ] وقيل : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، وأظهر الأقوال في الآية عندي ، أن الشهداء هم الرسل من البشر ، الذين أرسلوا إلى الأمم ، لأنه لا يقضي بين الأمة حتى يأتي رسولها ، كما صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [ 10 \ 47 ] فصرح جل وعلا بأنه يسأل الرسل عما أجابتهم به أممهم ، كما قال تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] وقال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] لأن كونه صلى الله عليه وسلم هو الشهيد على هؤلاء الذين هم أمته ، يدل على أن الشهيد على كل أمة هو رسولها .

وقد بين تعالى أن الشهيد على كل أمة من أنفس الأمة ، فدل على أنه ليس من الملائكة ، وذلك في قوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ 16 \ 89 ] والرسل من أنفس الأمم كما قال تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :

لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ 9 \ 128 ] . وقال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] .

والمسوغ للإيجاز بحذف الفاعل في قوله تعالى : وجيء بالنبيين [ 39 \ 69 ] هو أنه من المعلوم الذي لا نزاع فيه ، أنه لا يقدر على المجيء بهم إلا الله وحده جل وعلا .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير الكسائي وهشام عن ابن عامر ، وجيء بكسر الجيم كسرة خالصة .

وقرأه الكسائي وهشام عن ابن عامر بإشمام الكسرة الضم .

وإنما كان الإشمام هنا جائزا ، والكسر جائزا ، لأنه لا يحصل في الآية البتة ، لبس بين المبني للفاعل ، والمبني للمفعول ، إذ من المعلوم أن قوله هنا : وجيء مبني للمفعول ولا يحتمل البناء للفاعل بوجه ، وما كان كذلك جاز فيه الكسر الخالص وإشمام الكسرة الضم كما أشار له في الخلاصة بقوله :


واكسر أو أشمم فا ثلاثي أعل عينا وضم حاء كبوع فاحتمل


[ ص: 369 ] أما إذا أسند ذلك الفعل إلى ضمير الرفع المتصل ، فإن ذلك قد يؤدي إلى اللبس ، فيشتبه المبني للمفعول ، بالمبني للفاعل ، فيجب حينئذ اجتناب الشكل الذي يوجب اللبس ، والإتيان بما يزيل اللبس من شكل أو إشمام كما أشار له في الخلاصة بقوله :


وإن بشكل خيف لبس يجتنب


ومن أمثلة ذلك قول الشاعر ، وقد أنشده صاحب اللسان :


وإني على المولى وإن قل نفعه دفوع إذا ما ضمت غير صبور


فقوله : ضمت أصله ضيمت بالبناء للمفعول فيجب الإشمام أو الضم ; لأن الكسر الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل كبعت وسرت . وقول جرير يرثي المرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة :


وأقول من جزع وقد فتنا به ودموع عيني في الرداء غزار
للدافنين أخا المكارم والندا لله ما ضمنت بك الأحجار

أصله فوتنا بالبناء للمفعول فيجب الكسر أو الإشمام ; لأن الضم الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل ، كقلنا وقمنا .
قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا . الزمر : الأفواج المتفرقة ، واحده زمرة ، وقد عبر تعالى عنها هنا بالزمر ، وعبر عنها في الملك بالأفواج في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج الآية [ 67 \ 8 ] ، وعبر عنها في الأعراف بالأمم في قوله تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم الآية [ 7 \ 38 ] .

وقال في فصلت : وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 41 \ 25 ] وقال تعالى : هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار [ 38 \ 59 ] .

ومن إطلاق الزمر على ما ذكرنا قوله :

[ ص: 370 ]
وترى الناس إلى منزله زمرا تنتابه بعد زمر


وقول الراجز :


إن العفاة بالسيوب قد غمر حتى احزألت زمرا بعد زمر


قوله تعالى : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها . لم يبين جل وعلا هنا عدد أبوابها المذكورة ، ولكنه بين ذلك ، في سورة الحجر في قوله : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 16 \ 43 - 44 ] .

وقوله تعالى : وفتحت أبوابها قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : ( فتحت ) بالتاء .

قوله تعالى : وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ 16 \ 32 ] .
قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة إذا دخلوها وعاينوا ما فيها من النعيم ، حمدوا ربهم وأثنوا عليه ، ونوهوا بصدق وعده لهم ، وذكر هذا المعنى في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] . وقوله تعالى : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا الآية [ 7 \ 44 ] .

[ ص: 371 ] وقوله تعالى : جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 33 - 34 ] .
[ ص: 372 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ غَافِرٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى : غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ . جَمَعَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ ، هُمَا جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [ 15 \ 49 - 50 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْآيَةَ [ 7 \ 156 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . [ 6 \ 165 ] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ : إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ 7 \ 167 ] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ .
قوله تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجادل في آيات الله ، أي لا يخاصم فيها محاولا ردها ، وإبطال ما جاء فيها إلا الكفار .

وقد بين تعالى في غير هذا الموضع الغرض الحامل لهم على الجدال فيها مع بعض صفاتهم ، وذلك في قوله : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا [ 18 \ 56 ] وأوضح ذلك الغرض ، في هذه السورة الكريمة ، في قوله : وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 40 \ 5 ] .

وقد قدمنا في سورة الحج أن الذين يجادلون في الله منهم ، أتباع يتبعون رؤساءهم المضلين ، من شياطين الإنس والجن ، وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 3 - 4 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:43 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (459)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 373 إلى صـ 380



[ ص: 373 ] وأن منهم قادة هم رؤساؤهم المتبوعون وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله الآية [ 22 \ 8 - 9 ] .

وبين تعالى في موضع آخر أن من أنواع جدال الكفار ، جدالهم للمؤمنين الذين استجابوا لله وآمنوا به وبرسوله ، ليردوهم إلى الكفر بعد الإيمان ، وبين بطلان حجة هؤلاء ، وتوعدهم بغضبه عليهم ، وعذابه الشديد وذلك في قوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 42 \ 16 ] .
قوله تعالى : فلا يغررك تقلبهم في البلاد .

نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، ليشرع لأمته عن أن يغره تقلب الذين كفروا في بلاد الله ، بالتجارات والأرباح ، والعافية وسعة الرزق ، كما كانت قريش تفيض عليها الأموال من أرباح التجارات ، وغيرها من رحلة الشتاء والصيف المذكورة في قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف [ 106 \ 2 ] أي : إلى اليمن والشام وهم مع ذلك كفرة فجرة ، يكذبون نبي الله ويعادونه .

والمعنى : لا تغتر بإنعام الله عليهم تقلبهم في بلاده في إنعام وعافية ; فإن الله جل وعلا يستدرجهم بذلك الإنعام ، فيمتعهم به قليلا ، ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار .

وقد أوضح هذا المعنى في آيات من كتابه كقوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله تعالى : ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 23 - 24 ] وقوله تعالى : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والفاء في قوله : فلا يغررك ، سببية أي : لا يمكن تقلبهم في بلاد الله . متنعمين [ ص: 374 ] بالأموال والأرزاق ، سببا لاغترارك بهم ، فتظن بهم ظنا حسنا ; لأن ذلك التنعم ، تنعم استدراج ، وهو زائل عن قريب ، وهم صائرون إلى الهلاك والعذاب الدائم .
قوله تعالى : وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار . قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر ( كلمات ) بصيغة الجمع المؤنث السالم وقرأه الباقون ( كلمة ربك ) بالإفراد .

وقد أوضحنا معنى الكلمة والكلمات فيما يماثل هذه الآية في سورة يس في الكلام على قوله تعالى . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .
قوله تعالى : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . لم يبين هنا الآية المتضمنة لوعدهم بالجنات ، هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم .

ولكنه جل وعلا أوضح وعده إياهم بذلك في سورة الرعد في قوله تعالى : والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب الآية [ 22 \ 23 - 13 ] .
قوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين . التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن المراد بالإماتتين في هذه الآية الكريمة ، الإماتة الأولى ، التي هي كونهم في بطون أمهاتهم نطفا وعلقا ومضغا ، قبل نفخ الروح فيهم ، فهل قبل نفخ الروح فيهم لا حياة لهم ، فأطلق عليهم بذلك الاعتبار اسم الموت .

والإماتة الثانية هي إماتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم عند انقضاء آجالهم في دار الدنيا .

وأن المراد بالإحياءتين : الإحياءة الأولى في دار الدنيا ، والإحياءة الثانية ، التي هي البعث من القبور إلى الحساب ، والجزاء والخلود الأبدي ، الذي لا موت فيه ، إما في الجنة وإما في النار .

[ ص: 375 ] والدليل من القرآن على أن هذا القول في الآية هو التحقيق ، أن الله صرح به واضحا في قوله جل وعلا : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] وبذلك تعلم أن ما سواه من الأقوال في الآية لا معول عليه .

والأظهر عندي أن المسوغ الذي سوغ إطلاق اسم الموت على العلقة ، والمضغة مثلا ، في بطون الأمهات ، أن عين ذلك الشيء ، الذي هو نفس العلقة والمضغة ، له أطوار كما قال تعالى : وقد خلقكم أطوارا يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق [ 39 \ 6 ] ، ولما كان ذلك الشيء ، تكون فيه الحياة في بعض تلك الأطوار ، وفي بعضها لا حياة له ، صح إطلاق الموت والحياة عليه من حيث إنه شيء واحد ، ترتفع عنه الحياة تارة وتكون فيه أخرى ، وقد ذكر له الزمخشري مسوغا غير هذا ، فانظره إن شئت .
قوله تعالى : فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل . قد بين جل وعلا في غير هذا الموضع ، أن الاعتراف بالذنب في ذلك الوقت لا ينفع ، كما قال تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] وقال تعالى ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهل إلى خروج من سبيل قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا . قد تقدم الكلام عليه في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] .
قوله تعالى : فالحكم لله العلي الكبير . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .
[ ص: 376 ] قوله تعالى : هو الذي يريكم آياته . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته ، أي : الكونية القدرية ; ليجعلها علامات لهم على ربوبيته ، واستحقاقه العبادة وحده ، ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر ; كما قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر الآية [ 41 \ 37 ] .

ومنها السماوات والأرضون ، وما فيهما والنجوم ، والرياح والسحاب ، والبحار والأنهار ، والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا ، كما قال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . وقال تعالى : إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون [ 45 \ 3 - 5 ] ، وقال تعالى إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] .

وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من أنه هو الذي يري خلقه آياته ، بينه وزاده إيضاحا في غير هذا الموضع ، فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ، كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] .

والآفاق جمع أفق وهو الناحية ، والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه وعجائبه في نواحي سماواته وأرضه ، ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده . كما أشرنا إليه ، من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال ، والدواب والبحار ، إلى غير ذلك .

وبين أيضا أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئا منها تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها ، وينتفعوا بألبانها ، وزبدها وسمنها ، وأقطها ويلبسوا من جلودها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما قال تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] .

[ ص: 377 ] وبين في بعض المواضع أن من آياته التي يريها بعض خلقه معجزات رسله ; لأن المعجزات آيات أي : دلالات وعلامات على صدق الرسل ، كما قال تعالى في فرعون : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] وبين في موضع آخر أن من آياته التي يريها خلقه عقوبته المكذبين رسله ، كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] .

وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل . . . إلخ : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات الآية [ 7 \ 133 ] .
قوله تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا . أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة الرزق وأراد المطر ; لأن المطر سبب الرزق ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما ، أسلوب عربي معروف ، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله :


أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر


فأطلق الدم وأراد الدية ; لأنه سببها .

وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة : منع جواز المجاز ، في المنزل للتعبد والإعجاز ، أن أمثال هذا أساليب عربية ، نطقت بها العرب في لغتها ، ونزل بها القرآن ، وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية لا داعي إليه ، ولا دليل عليه ، يجب الرجوع إليه .

وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله ، في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها [ الآية 5 ] فأوضح بقوله : فأحيا به الأرض بعد موتها أن مراده بالرزق المطر ; لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها .

وقد أوضح جل وعلا أنه إنما سمي المطر رزقا ; لأن المطر سبب الرزق في آيات كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى في سورة البقرة : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ 2 \ 22 ] ، والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى .

[ ص: 378 ] وكقوله تعالى في سورة إبراهيم : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك الآية [ 14 \ 32 ] . وقوله تعالى في سورة ق : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 9 - 11 ] .

وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور شامل لما يأكله الناس ، وما تأكله الأنعام ; لأن ما تأكله الأنعام ، يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها ، وجلودها وألبانها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما تقدم ، كقوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .

فقوله : فيه تسيمون ، أي : تتركون أنعامكم سائمة فيه ، تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مئونة العلف ، كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية ، في سورة النحل وكقوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم الآية [ 20 \ 53 - 54 ] . وقوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 31 - 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما يتذكر إلا من ينيب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الناس ما يتذكر منهم ، أي : ما يتعظ بهذه الآيات المشار إليها في قوله : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب أي : من رزقه الله الإنابة إليه .

والإنابة : الرجوع عن الكفر والمعاصي ، إلى الإيمان والطاعة .

وهؤلاء المنيبون ، المتذكرون ، المتعظون ، هم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، المذكورون في قوله تعالى في أول سورة آل عمران : وما يذكر إلا أولو الألباب [ 3 \ 7 ] وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم : وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] [ ص: 379 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد دلت آية المؤمن هذه ، وما في معناها من الآيات ، على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفا ، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات ، بل يعرض عنها أشد الإعراض .

وقد جاء هذا المعنى موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] . وقوله تعالى : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ 54 \ 2 ] وقوله : وإذا رأوا آية يستسخرون [ 37 \ 14 ] .

وقوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 36 \ 46 ] في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فادعوا الله مخلصين له الدين . قد قدمنا الكلام على نحوه من الآيات في أول سورة الزمر ، في الكلام على قوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 2 - 3 ] .
قوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في أول سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون [ 16 \ 2 ] . وقوله تعالى في آية المؤمن هذه : يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء جاء مثله في آيات كثيرة ، كقوله في بروزهم ذلك اليوم : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [ 14 \ 48 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا الآية [ 14 \ 21 ] .

وكقوله في كونهم لا يخفى على الله منهم شيء ذلك اليوم : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ 69 \ 18 ] . وقوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير [ 100 \ 11 ] . وقوله تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [ 3 \ 5 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد بيناها في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] ، [ ص: 380 ] وذكرنا طرفا من ذلك ، في أول سورة سبأ ، في الكلام على قوله تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [ 34 \ 3 ] .
قوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . الإنذار ، والإعلام المقترن بتهديد خاصة ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .

وقد أوضحنا معنى الإنذار وأنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] .

والظاهر أن قوله هنا : يوم الآزفة هو المفعول الثاني للإنذار لا ظرف له ; لأن الإنذار والتخويف من يوم القيامة واقع في دار الدنيا . والآزفة القيامة . أي : أنذرهم يوم القيامة ، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة .

وإنما عبر عن القيامة بـ الآزفة لأجل أزوفها أي : قربها ، والعرب تقول : أزف الترحل بكسر الزاي ، يأزف بفتحها ، أزفا بفتحتين ، على القياس ، وأزوفا فهو آزف ، على غير قياس ، في المصدر الأخير ، والوصف بمعنى قرب وقته وحان وقوعه ، ومنه قول نابغة ذبيان :


أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد


ويروى أفد الترحل ، ومعناهما واحد .

والمعنى : وأنذرهم يوم الآزفة أي : يوم القيامة القريب مجيؤها ووقوعها .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من اقتراب قيام الساعة ، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة [ 53 \ 57 - 58 ] ، وقوله تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] . وقوله تعالى : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] . وقوله تعالى في الأحزاب : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] وقوله تعالى في الشورى : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 18-01-2023 06:45 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (460)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 381 إلى صـ 388



[ ص: 381 ] وقد قدمنا هذا في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين الظاهر فيه أن إذ بدل من يوم ، وعليه فهو من قبيل المفعول به لا المفعول فيه ، كما بينا آنفا .

والقلوب : جمع قلب وهو معروف .

ولدى : ظرف بمعنى عند .

والحناجر : جمع حنجرة وهي معروفة .

ومعنى كون القلوب لدى الحناجر ، في ذلك الوقت فيه لعلماء التفسير وجهان معروفان :

أحدهما : ما قاله قتادة وغيره ; من أن قلوبهم يومئذ ترتفع من أماكنها في الصدور ، حتى تلتصق بالحلوق ، فتكون لدى الحناجر ، فلا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ، ولا هي ترجع إلى أماكنها في الصدور فيتنفسوا . وهذا القول هو ظاهر القرآن .

والوجه الثاني : هو أن المراد بكون القلوب لدى الحناجر ، بيان شدة الهول ، وفظاعة الأمر ، وعليه فالآية كقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] وهو زلزال خوف وفزع لا زلزال حركة الأرض .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كاظمين معناه مكروبين ممتلئين خوفا وغما وحزنا .

والكظم : تردد الخوف والغيظ والحزن في القلب حتى يمتلئ منه ، ويضيق به .

والعرب تقول : كظمت السقاء إذا ملأته ماء ، وشددته عليه .

وقول بعضهم كاظمين ، أي ساكتين ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن الخوف والغم الذي ملأ قلوبهم يمنعهم من الكلام ، فلا يقدرون عليه ، ومن إطلاق الكظم على السكوت [ ص: 382 ] قول العجاج :


ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم


ويرجع إلى هذا القول معنى قول من قال : كاظمين أي : لا يتكلمون إلا من أذن له الله ، وقال الصواب ، كما قال تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 ] .

وقوله : كاظمين حال من أصحاب القلوب على المعنى . والتقدير : إذ القلوب لدى الحناجر ، أي : إذ قلوبهم لدى حناجرهم في حال كونهم كاظمين ، أي : ممتلئين خوفا وغما وحزنا ، ولا يبعد أن يكون حالا من نفس القلوب ; لأنها وصفت بالكظم الذي هو صفة أصحابها .

ونظير ذلك في القرآن : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 \ 4 ] فإنه أطلق في هذه الآية الكريمة ، على الكواكب والشمس والقمر صفة العقلاء في قوله تعالى : رأيتهم لي ساجدين ، والمسوغ لذلك وصفه الكواكب والشمس والقمر بصفة العقلاء التي هي السجود .

ونظير ذلك أيضا قوله تعالى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ 26 \ 4 ] وقوله تعالى : قالتا أتينا طائعين [ 41 \ 11 ] .
قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . قد قدمنا الكلام عليه في سورة البقرة وسورة الأعراف ، وأحلنا عليه مرارا .
قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في أول سورة هود وفي غيرها وأحلنا عليه أيضا مرارا .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بآياته وحججه الواضحة كالعصا واليد البيضاء إلى فرعون وهامان وقارون [ ص: 383 ] فكذبوه ، وزعموا أنه ساحر .

وأوضح هذا المعنى ، في آيات كثيرة كقوله تعالى عن فرعون وقومه : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 \ 71 ] . وقوله تعالى : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم [ 26 \ 34 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، عاذ بربه ، أي : اعتصم به ، وتمنع من كل متكبر ، أي : متصف بالكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب ، أي لا يصدق بالبعث والجزاء .

وسبب عياذ موسى بربه المذكور ، أن فرعون قال لقومه : ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ 40 \ 26 ] .

فعياذ موسى المذكور بالله إنما هو في الحقيقة من فرعون ، وإن كانت العبارة أعم من خصوص فرعون ، لأن فرعون لا شك أنه متكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب فهو داخل في الكلام دخولا أوليا ، وهو المقصود بالكلام .

وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من عياذ موسى بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب كفرعون وعتاة قومه ، ذكر نحوه في سورة الدخان في قوله تعالى عن موسى مخاطبا فرعون وقومه : وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون الآية [ 44 \ 20 ] .
قوله تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه أي : يخفي عنهم أنه مؤمن ، أنكر على فرعون وقومه إرادتهم قتل نبي الله موسى عليه [ ص: 384 ] وعلى نبينا الصلاة والسلام ، حين قال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه الآية [ 40 \ 26 ] . مع أنه لا ذنب له ، يستحق به القتل ، إلا أنه يقول : ربي الله .

وقد بين في آيات أخر أن من عادة المشركين قتل المسلمين ، والتنكيل بهم ، وإخراجهم من ديارهم من غير ذنب ، إلا أنهم يؤمنون بالله ويقولون : ربنا الله ، كقوله تعالى في أصحاب الأخدود ، الذين حرقوا المؤمنين : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 4 - 8 ] وقوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 39 - 40 ] . وقوله تعالى : عن الذين كانوا سحرة لفرعون ، وصاروا من خيار المؤمنين ، لما هددهم فرعون قائلا : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 \ 124 ] أنهم أجابوه ، بما ذكره الله عنهم ، في قوله : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 125 - 126 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والتحقيق أن الرجل المؤمن المذكور في هذه الآية من جماعة فرعون كما هو ظاهر قوله تعالى : " من آل فرعون " .

فدعوى أنه إسرائيلي وأن في الكلام تقديما وتأخيرا . وأن من آل فرعون متعلق بـ ( يكتم ) ، أي وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون أي يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خلاف التحقيق كما لا يخفى .

وقيل : إن هذا الرجل المؤمن هو الذي قال لموسى : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج [ 28 \ 20 ] وقيل غيره .

واختلف العلماء في اسمه اختلافا كثيرا فقيل : اسمه حبيب ، وقيل : اسمه شمعان ، وقيل : اسمه حزقيل ، وقيل غير ذلك ، ولا دليل على شيء من ذلك .

والظاهر في إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يقول ربي الله أنه مفعول من أجله .

[ ص: 385 ] وقال البخاري رحمه الله في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير ، قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ قد جاءكم بالبينات من ربكم " .
قوله تعالى : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . الظاهر أن أرى في هذه الآية الكريمة علمية عرفانية ، تتعدى لمفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

لعلم عرفان وظن تهمه تعدية لواحد ملتزمه

وعليه فالمعنى : قال فرعون ما أعلمكم وأعرفكم من حقيقة موسى وأنه ينبغي أن يقتل ، خوف أن يبدل دينكم ، ويظهر الفساد في أرضكم ، إلا ما أرى ، أي : أعلم وأعرف أنه الحق والصواب فما أخفي عنكم خلاف ما أظهره لكم ، وما أهديكم بهذا إلا سبيل الرشاد ، أي : طريق السداد والصواب .

وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة ، قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما .

أما الأول منهما وهو قوله : ما أريكم إلا ما أرى فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه ، وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق ، وأنها ما أنزلها إلا الله ، وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها عقول الجهلة منهم ، كقوله تعالى في سورة النمل : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] .

[ ص: 386 ] فقوله تعالى : في هذه الآية : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى .

وكقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] فقول نبي الله موسى لفرعون : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض مؤكدا إخباره بأن فرعون عالم بذلك بالقسم ، وقد دل أيضا على أنه كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى .

وكان غرض فرعون بهذا الكذب التدليس والتمويه ; ليظن جهلة قومه أن معه الحق ، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله : فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 43 \ 54 ] .

وأما الأمر الثاني وهو قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى : فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد [ 11 \ 97 ] . وقوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى [ 20 \ 79 ] . وقال بعض العلماء في قوله : ما أريكم إلا ما أرى أي : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ، من قتل موسى . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الدالة عن أن السيئات لا تضاعف ولا تجزى إلا بمثلها ، بينها وبين الآيات الأخرى الدالة على أن السيئات ربما ضوعفت في بعض الأحوال ، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 75 ] وقوله تعالى في نسائه رضي الله عنهن : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ 33 ] إشكال معروف .

وقد قدمنا الجواب عنه موضحا في سورة النمل ، في الكلام على قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 90 ] .
قوله تعالى : ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ ص: 387 ] قد أوضحنا معنى هذه الآية الكريمة ، وبينا العمل الصالح بالآيات القرآنية ، وأوضحنا الآيات المبينة لمفهوم المخالفة ، في قوله : وهو مؤمن في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] . وفي أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] .
قوله تعالى : وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم . الظاهر أن جملة قوله تدعونني تدعونني لأكفر بدل من قوله : وتدعونني إلى النار ; لأن الدعوة إلى الكفر بالله والإشراك به دعوة إلى النار .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفر والإشراك بالله مستوجب لدخول النار ، بينه تعالى في آيات كثيرة من كتابه كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 \ 72 ] ، وقد قدمنا ما فيه كفاية من ذلك ، في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء الآية [ 22 \ 31 ] .
قوله تعالى : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب . التحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه ، وليس لموسى فيه دخل .

وقوله : فستذكرون ما أقول لكم ، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم ، ويذكرون نصيحته ، فيندمون حيث لا ينفع الندم ، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا - كثيرة ، كقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] وقوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . [ ص: 388 ] وقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا [ 40 \ 44 - 45 ] دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله ، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء ، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، كقولهم : سها فسجد ، أي : سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته ، كما قدمناه مرارا .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون التوكل على الله سببا للحفظ ، والوقاية من السوء ، جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] . وقوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء [ 3 \ 173 - 174 ] .

وقد ذكرنا الآيات الدالة على ذلك بكثرة ، في أول سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا [ 17 \ 2 ] .

والظاهر أن ما في قوله : سيئات ما مكروا [ 40 \ 45 ] مصدرية ، أي : فوقاه الله سيئات مكرهم ، أي : أضرار مكرهم وشدائده ، والمكر : الكيد .

فقد دلت هذه الآية الكريمة ، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه ، أي حفظه ونجاه ، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله ، وتفويضه أمره إليه .

وبعض العلماء يقول : نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول : صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم ، وكل هذا لا دليل عليه ، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم ، أي حفظه ونجاه منها .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 03-02-2023 10:46 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (461)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 389 إلى صـ 397



وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه : أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم ، ورد العاقبة السيئة عليهم ، فرد سوء مكرهم إليهم ، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة ، وكان فرعون وقومه هالكين [ ص: 389 ] في الدنيا والآخرة والبرزخ .

فقال في هلاكهم في الدنيا : وأغرقنا آل فرعون ، وأمثالها من الآيات .

وقال في مصيرهم في البرزخ : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 46 ] .

وقال في عذابهم في الآخرة : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من حيق المكر السيئ بالماكر أوضحه تعالى في قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .

والعرب تقول حاق به المكروه يحيق به حيقا وحيوقا ، إذا نزل به وأحاط به ، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة .

يقال : حاق به السوء والمكروه ، ولا يقال : حاق به الخير ، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين ، والوصف منه حائق على القياس ، ومنه قول الشاعر :


فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضبة حائق


وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي فيعلة من السوء ، فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو ، التي هي عين الكلمة ، بعد إبدال الواو ياء على القاعدة التصريفية المشار إليها ، في الخلاصة بقوله :


إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا

فياء الواو فلين مدغما وشذ معطي غير ما قد رسما
قوله تعالى : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . قوله تعالى : يتحاجون في النار أصله يتفاعلون من الحجة أي : يختصمون ، ويحتج بعضهم على بعض ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] وقوله تعالى : [ ص: 390 ] ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 31 - 33 ] . وقوله تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ 7 \ 38 - 39 ] وقوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 166 - 167 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 21 - 22 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا الكلام عليها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن أهل النار طلبوا من خزنة جهنم أن يدعو لهم الله أن يخفف عنهم من شدة عذاب النار .

وقد بين في سورة الزخرف أنهم نادوا مالكا خاصة من خزنة أهل النار ليقضي الله عليهم ، أي : ليميتهم فيستريحوا بالموت من عذاب النار .

وقد أوضح جل وعلا في آيات من كتابه ، أنهم لا يحابون في واحد من الأمرين ; فلا يخفف عنهم العذاب ، الذي سألوا تخفيفه ، في سورة المؤمن هذه ، ولا يحصل لهم الموت الذي سألوه في سورة الزخرف ، فقال تعالى في عدم تخفيف العذاب عنهم في [ ص: 391 ] هذه الآية : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ 40 \ 50 ] وقال تعالى : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 36 ] وقال تعالى : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] وقال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 \ 75 ] وقال تعالى : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] وقال تعالى : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] وقال تعالى : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 3 \ 88 ] . وقال تعالى : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] .

وقال تعالى في عدم موتهم في النار : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] . وقال تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] . وقال تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] . وقال تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقال تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ]

ولما قالوا : ليقض علينا ربك [ 43 \ 77 ] أجابهم بقوله : قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] .
قوله تعالى : قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات . قد قدمنا الكلام عليه مع الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 14 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك في الصافات في الكلام على قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون [ 37 \ 171 - 172 ] وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله في سورة المجادلة .
قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب . [ ص: 392 ] اللام في قوله : ولقد آتينا موسى الهدى موطئة للقسم ، وصيغة الجمع في آتينا و أورثنا للتعظيم .

والمراد بالهدى ما تضمنه التوراة من الهدى في العقائد والأعمال : وأورثنا بني إسرائيل الكتاب وهو التوراة ، وقوله : هدى وذكرى لأولي الألباب مفعول من أجله ، أي : لأجل الهدى والتذكير .

وقال بعضهم : هدى حال ، وورود المصدر المنكر حالا معروف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كـ بغتة زيد طلع

وقال القرطبي : هدى بدل من الكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله أنزل التوراة على موسى وأنزل فيها الهدى لبني إسرائيل جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا [ 17 \ 2 ] . وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل الآية [ 32 \ 23 ] . وقوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار [ 5 \ 44 ] وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون [ 6 \ 154 ] . وقوله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء الآية [ 7 \ 145 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . قد قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ 7 \ 13 ] ، وذكرنا هناك بعض النتائج السيئة الناشئة عن الكبر .
قوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .

[ ص: 393 ] قد قدمنا أن هذه الآية من البراهين الدالة على البعث ، وأوضحنا كل البراهين الدالة على البعث بالآيات القرآنية بكثرة في سورة البقرة ، وسورة النحل ، وأحلنا على مواضع ذلك مرارا .
قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وما يستوي الأعمى والبصير قدمنا الكلام عليه في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قد قدمنا إيضاح معناه بالآيات القرآنية في سورة ص في الكلام على قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] .
قوله تعالى : إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . قال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم : اعبدوني أثبكم من عبادتكم ، ويدل لهذا قوله بعده : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين .

وقال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم أي : اسألوني أعطكم .

ولا منافاة بين القولين ; لأن دعاء الله من أنواع عبادته .

وقد أوضحنا هذا المعنى ، وبينا وجه الجمع بين قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ 2 \ 186 ] مع قوله تعالى : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء [ ص: 394 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم [ 17 \ 12 ] .
قوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] . وبينا أوجه القراءة في قوله : فيكون هناك .
قوله تعالى : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . لم يبين هنا جل وعلا عدد أبواب جهنم ، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر ، في قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 43 - 44 ] .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تبارك وتعالى قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أنباء بعض [ ص: 395 ] الرسل ; أي : كنوح وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وأنه لم يقصص عليه أنباء رسل آخرين ، بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة النساء : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ 4 \ 164 ] ، وأشار إلى ذلك في سورة إبراهيم في قوله : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات الآية [ 14 \ 9 ] . وفي سورة الفرقان في قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون . قوله هنا : فإذا جاء أمر الله أي قامت القيامة ، كما قدمنا إيضاحه في قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] أي : فإذا قامت القيامة قضى بين الناس بالحق الذي لا يخالطه حيف ولا جور ، كما قال تعالى : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق الآية [ 39 \ 69 ] .

وقال تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 75 ] .

والحق المذكور في هذه الآيات : هو المراد بالقسط المذكور في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط [ 10 \ 47 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه إذا قامت القيامة يخسر المبطلون ، أوضحه جل وعلا في سورة الجاثية في قوله تعالى : ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون [ 45 \ 27 ] .

والمبطل هو : من مات مصرا على الباطل .

وخسران المبطلين المذكور هنا قد قدمنا بيانه في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] .
قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ ص: 396 ] قد قدمنا أن لفظة جعل تأتي في اللغة العربية لأربعة معان ; ثلاثة منها في القرآن :

الأول : إتيان جعل بمعنى اعتقد ، ومنه قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] أي : اعتقدوهم إناثا ، ومعلوم أن هذه تنصب المبتدأ والخبر .

الثاني : جعل بمعنى صير ، كقوله : حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 15 ] وهذه تنصب المبتدأ والخبر أيضا .

الثالث : جعل بمعنى خلق ، كقوله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] أي : خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور .

والظاهر أن منه قوله هنا : الله الذي جعل لكم الأنعام أي : خلق لكم الأنعام ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما الآية [ 36 \ 71 ] .

الرابع : وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع ، ومنه قوله :

وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر

وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من الامتنان بهذه النعم الكثيرة ، التي أنعم عليهم بها بسبب خلقه لهم الأنعام وهي الذكور والإناث ، من الإبل والبقر والضأن والمعز ، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ 16 \ 5 - 7 ] . والدفء ما يتدفئون به في الثياب المصنوعة من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها وأصوافها .

وقوله تعالى : جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] . وقوله تعالى : [ ص: 397 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 61 \ 66 ] . وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين إلى قوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 142 - 144 ] وقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وقوله تعالى : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا الآية [ 42 \ 11 ] . وقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون الآية [ 43 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . قد ذكرنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، وبينا مواضعها في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم .
قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] ، وفي سورة ص في الكلام على قوله تعالى فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:07 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (462)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 3 إلى صـ 10




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ فُصِّلَتْ

قَوْلُهُ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ .
قوله تعالى : كتاب فصلت آياته .

( كتاب ) خبر مبتدإ محذوف ، أي : هذا كتاب ، والكتاب فعال بمعنى مفعول ، أي مكتوب .

وإنما قيل له ( كتاب ) لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال - تعالى - : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ 85 \ 21 - 22 ] .

ومكتوب أيضا في صحف عند الملائكة ; كما قال - تعالى - : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة [ 80 \ 11 - 16 ] .

وقال - تعالى - في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) [ 98 \ 2 - 3 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فصلت آياته التفصيل ضد الإجمال ، أي فصل الله آيات هذا القرآن ، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق من أمور دينهم ودنياهم .

والمسوغ لحذف الفاعل في قوله - تعالى - : فصلت آياته هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن لا يكون إلا من الله وحده .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب ، جاء موضحا في آيات أخر ، مبينا فيها أن الله فصله على علم منه ، وأن الذي فصله حكيم خبير ، وأنه فصله ليهدي [ ص: 4 ] به الناس ويرحمهم ، وأن تفصيله شامل لكل شيء ، وأنه لا شك أنه منزل من الله ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] وقوله - تعالى - : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله - تعالى - : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 11 \ 111 ] ، وقوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون

قوله : ( قرآنا عربيا ) قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يعلمون [ 41 \ 3 ] أي فصلت آياته في حال كونه ( قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .

وإنما خصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بتفصيله ، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة " يونس " في قوله - تعالى - : ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون [ 6 \ 97 - 98 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم في آية " فاطر " هذه ، وفي قوله - تعالى - في " يس " : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] ، وقوله في النازعات : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] ، وقوله في " الأنعام " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [ ص: 5 ] الآية [ 6 \ 51 ] . مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم ، كما يدل عليه قوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .

وإنما خص المذكورين بالإنذار ، لأنهم هم المنتفعون به ; لأن من لم ينتفع بالإنذار ، ومن لم ينذر أصلا - سواء في عدم الانتفاع ، كما قال الله - تعالى - : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بشيرا ونذيرا [ 41 \ 4 ] حال بعد حال . وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين [ 18 \ 2 ] ، وبسطنا الكلام عليه في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فأعرض أكثرهم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ 6 \ 116 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهم لا يسمعون أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع .

وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .

ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به ، ولا يقبلون منه ما جاءهم به ; فقالوا له : قلوبنا التي نعقل بها ونفهم ( في أكنة ) أي أغطية .

[ ص: 6 ] والأكنة جمع كنان ، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه .

ويعنون أن تلك الأغطية مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - . وقالوا : إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرا ، أي ثقلا ، وهو الصمم ، وإن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ومما يقول ، كما قال - تعالى - عنهم : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ 41 \ 26 ] .

وأن من بينهم وبينه حجابا مانعا لهم من الاتصال والاتفاق ; لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر ، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه - صلى الله عليه وسلم - من الحق .

والله - جل وعلا - ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم ، مع أنه - تعالى - صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، وجعل بينهم وبين رسوله حجابا عند قراءته القرآن ، قال - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 45 - 46 ] . وقال - تعالى - في " الأنعام " : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 6 \ 25 ] . وقال - تعالى - " في الكهف " : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] .

وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي ، ووجه كونه مشكلا ظاهر; لأنه - تعالى - ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من " فصلت " ، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلا ، وأنه - تعالى - هو الذي جعله فيهم .

فيقال : فكيف يذمون على قول شيء هو حق في نفس الأمر ؟

والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو ما ذكرناه مرارا من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة ، وطبع عليها وختم عليها ، وجعل الوقر في آذانهم ، ونحو ذلك من الموانع من الهدى - بسبب أنهم بادروا إلى الكفر ، وتكذيب الرسل طائعين مختارين ، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم طمس البصيرة ، والعمى عن الهدى ، جزاء وفاقا .

[ ص: 7 ] فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم مجازاة لكفرهم الأول .

ومن جزاء السيئة تمادي صاحبها في الضلال ، ولله الحكمة البالغة في ذلك .

والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن ، كقوله - تعالى - : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .

فقول اليهود في هذه الآية : قلوبنا غلف كقول كفار مكة : قلوبنا في أكنة ; لأن الغلف جمع أغلف ، وهو الذي عليه غلاف ، والأكنة جمع كنان ، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر .

وقد رد الله على اليهود دعواهم ب ( بل ) التي هي للإضراب الإبطالي ، في قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .

فالباء في قوله : ( بكفرهم ) سببية ، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد .

وكقوله - تعالى - : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 63 \ 3 ] ، والفاء في قوله : ( فطبع ) سببية ، أي ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر .

وقد قدمنا مرارا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي .

وكذلك الفاء في قوله : فهم لا يفقهون فهي سببية أيضا ، أي فطبع على قلوبهم ، فهم بسبب ذلك الطبع ( لا يفقهون ) أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئا .

وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يئول معناهما إلى شيء واحد ، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم .

لأنه قال في الطبع فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .

وقال في الأكنة : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [ 6 \ 25 ] أي كراهة أن يفقهوه ، أو لأجل ألا يفقهوه ، كما قدمنا إيضاحه .

[ ص: 8 ] وكقوله - تعالى - : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] فبين أن زيغهم الأول كان سببا لإزاغة الله قلوبهم ، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب .

وكقوله - تعالى - : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] وقوله - تعالى - : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] وقوله - تعالى - : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [ 9 \ 125 ] .

وإيضاح هذا الجواب أن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يقصدون بذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يؤمنون به بوجه ، ولا يتبعونه بحال ، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة والذنب الذي كان سببا في الأكنة والوقر والحجاب .

فدعواهم كاذبة ; لأن الله جعل لهم قلوبا يفهمون بها ، وآذانا يسمعون بها ، خلافا لما زعموا ، ولكنه سبب لهم الأكنة والوقر والحجاب بسبب مبادرتهم إلى الكفر ، وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا المعنى أوضحه رده - تعالى - على اليهود في قوله عنهم : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم .

وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة الجواب على الإشكال المذكور ، فقال : فإن قيل إنه - تعالى - حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم ، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم ، فقال : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم [ 2 \ 88 ] ثم إنه - تعالى - ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإثبات في سورة الأنعام ، فقال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] فكيف الجمع بينهما ؟

قلنا : إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك ، إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا : إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل .

أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه . اهـ منه . والأظهر هو ما ذكرنا .

[ ص: 9 ] قال صاحب الكشاف في تفسير قوله - تعالى - : ومن بيننا وبينك حجاب .

فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : ( ومن بيننا وبينك حجاب ) - فائدة ؟ قلت : نعم ; لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين .

وأما بزيادة ( من ) فالمعنى أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها . انتهى منه .

واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي ، وتعقبه ابن المنير على الزمخشري ، فأوضح سقوطه ، والحق معه في تعقبه عليه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومن بيننا وبينك حجاب ، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ 17 \ 45 ] .
قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .

أمر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .

والقصر في قوله : إنما أنا بشر إضافي ، أي لا أقول لكم : إني ملك ، وإنما أنا رجل من البشر .

وقوله : مثلكم في الصفات البشرية ، ولكن الله فضلني بما أوحى إلي من توحيده .

كما قال - تعالى - عن الرسل في سورة إبراهيم : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي كما من علينا بالوحي والرسالة .

وما ذكره الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية [ 18 \ 110 ] .

[ ص: 10 ] وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - في مضمون لا إله إلا الله ، في قوله - تعالى - قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله - تعالى - إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر ، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة ، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية ، أوضحنا ذلك في سورة ص ، في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إلى قوله : لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] .
قوله - تعالى - : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون .

قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنه - تعالى - صرح في هذه الآية الكريمة بأنهم مشركون ، وأنهم كافرون بالآخرة ، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة ، وعدم إيتائهم الزكاة ، سواء قلنا : إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة ، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي .

ورجح بعضهم القول الأخير ; لأن سورة فصلت هذه من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة ، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين ، كما قدمناه في سورة الأنعام ، في الكلام على قوله - تعالى - : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] .

وعلى كل حال ، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام .

أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونهم مخاطبين بذلك ، وأنهم يعذبون على الكفر ، ويعذبون على المعاصي - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - عنهم مقررا له : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [ 74 \ 42 - 47 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:10 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (463)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 11 إلى صـ 18




[ ص: 11 ] فصرح - تعالى - عنهم مقررا له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر - أي أدخلتهم النار - عدم الصلاة ، وعدم إطعام المسكين ، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ - 32 ] ثم بين سبب ذلك فقال : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 33 - 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون .

الأجر جزاء العمل ، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات هو نعيم الجنة ، وذلك الجزاء ( غير ممنون ) أي غير مقطوع ، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :


لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها


فقوله : ما يمن طعامها ، أي ما يقطع . وقول ذي الأصبع :


إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن أجرهم غير ممنون - نص الله - تعالى - عليه في آيات أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في آخر سورة الانشقاق : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون [ 84 \ 25 ] . وقوله - تعالى - في سورة التين : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] . وقوله - تعالى - في سورة هود : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] .

فقوله : ( غير مجذوذ ) أي غير مقطوع ، وبه تعلم أن ( غير مجذوذ ) و ( غير ممنون ) - معناهما واحد .

وقوله - تعالى - في " ص " : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] أي ما له من انتهاء ولا انقطاع . وقوله في " النحل " : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .

[ ص: 12 ] وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافا لمن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير ممنون عليهم به .

وعليه ; فالمن في الآية من جنس المن المذكور في قوله - تعالى - : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] .

ومن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير منقوص ، محتجا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص ، قالوا : ومنه قول زهير :
فضل الجياد على الخيل البطاء فلا يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا

فقوله : ممنونا ، أي منقوصا .

وهذا وإن صح لغة ، فالأظهر أنه ليس معنى الآية .

بل معناها هو ما قدمنا . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام .

الظاهر أن معنى قوله هنا ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .

وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط ; لأنه - تعالى - قال : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم قال : ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .

ثم قال : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة ، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما - ستة أيام .

وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال ; لأن الله - تعالى - صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، كقوله في " الفرقان " : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] . وقوله - تعالى - في السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [ 32 \ 4 ] . وقوله - تعالى - في " ق " : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ 50 \ 38 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ ص: 13 ] [ 7 \ 54 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

فلو لم يفسر قوله - تعالى - : في أربعة أيام بأن معناه في تتمة أربعة أيام - لكان المعنى أنه - تعالى - خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام; لأن قوله - تعالى - : في أربعة أيام إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله - تعالى - : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] - لكان المجموع ثمانية أيام .

وذلك لم يقل به أحد من المسلمين .

والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام ، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا ، وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة وجعل فيها رواسي من فوقها قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] ، وقوله - تعالى - : وبارك فيها أي أكثر فيها البركات ، والبركة الخير ، وقوله - تعالى - وقدر فيها أقواتها .

التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد .

والأقوات جمع قوت ، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن آية " فصلت " هذه ، أعني قوله - تعالى - : وقدر فيها أقواتها يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كقوله هنا : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم رتب على ذلك بـ ( ثم ) قوله : ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض ، كقوله - تعالى - في " النازعات " : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 \ 27 - 30 ] .

فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه : قوله - تعالى - : [ ص: 14 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء [ 2 \ 29 ] ، الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء ، بدليل لفظة ( ثم ) التي هي للترتيب والانفصال .

وكذلك آية " حم السجدة " تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء ; لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .

مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ; لأنه قال فيها أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها .

اعلم أولا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " فأجاب بأن الله - تعالى - خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك .

فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء .

ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل : خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها ماءها ومرعاها [ 79 \ 31 ] ، وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه .

وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .

وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء ; لأنه قال فيها هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .

وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ، ففهمته من القرآن العظيم .

وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرآن .

[ ص: 15 ] الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء - الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل ، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا . ومنه قول زهير :


ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري


والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه - تعالى - نص على ذلك في سورة " فصلت " ; حيث قال : وقدر فيها أقواتها ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .

الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا .

والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة الآية [ 7 \ 11 ] ، فقوله : خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .

وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله والأرض بعد ذلك دحاها أي مع ذلك ، فلفظة ( بعد ) بمعنى مع .

ونظيره قوله - تعالى - : عتل بعد ذلك زنيم وعليه ; فلا إشكال في الآية .

ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة - وبها قرأ مجاهد - : ( والأرض مع ذلك دحاها ) .

وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة ; لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق .

منها : أن ( ثم ) بمعنى الواو .

ومنها : أنها للترتيب الذكري ، كقوله - تعالى - : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .
[ ص: 16 ] قوله - تعالى - : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا .

المصابيح : النجوم .

وما تضمنته هذه الآية من تزيين السماء الدنيا بالنجوم ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها [ 6 \ 97 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وحفظا قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : وحفظناها من كل شيطان رجيم الآية [ 15 \ 17 ] .
قوله - تعالى - : قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون .

قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] .
قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات . الصرصر : وزنه بالميزان الصرفي " فعفل " ، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان .

أحدهما : أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب التي يسمع لهبوبها صوت شديد ، وعلى هذا ; فالصرصر من الصرة التي هي الصيحة المزعجة .

ومنه قوله - تعالى - فأقبلت امرأته في صرة أي في صيحة ، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم ، أي صوتهما .

الوجه الثاني : أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق ، ومنه على أصح التفسيرين قوله - تعالى - : كمثل ريح فيها صر الآية [ 3 \ 117 ] ، أي فيها برد شديد محرق ، ومنه قول حاتم الطائي :


أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفا فأنت حر

[ ص: 17 ] فقوله : ريح صر ، أي باردة شديدة البرد .

والأظهر أن كلا القولين صحيح ، وأن الريح المذكورة جامعة بين الأمرين ، فهي عاصفة شديدة الهبوب ، باردة شديدة البرد .

وما ذكره - جل وعلا - من إهلاكه عادا بهذه الريح الصرصر ، في تلك الأيام النحسات - أي المشئومات النكدات; لأن النحس ضد السعد ، وهو الشؤم - جاء موضحا في آيات من كتاب الله .

وقد بين - تعالى - في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها ، كقوله - تعالى - : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 6 - 8 ] ، وقوله - تعالى - : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 - 42 ] ، وقوله - تعالى - : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 - 20 ] ، وقوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها الآية [ 46 \ 24 - 25 ] .

وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله - تعالى - : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد الآية [ 41 \ 13 ] .

وقرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ( نحسات ) بسكون الحاء; وعليه فالنحس وصف أو مصدر ، نزل منزلة الوصف .

وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ( نحسات ) بكسر الحاء ، ووجهه ظاهر .

قد قدمنا أن معنى النحسات المشئومات النكدات .

وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطستي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله - عز وجل - : في يوم نحس [ 54 \ 19 ] . قال : [ ص: 18 ] النحس البلاء والشدة . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول :


سواء عليه أي يوم أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد


وتفسير النحس بالبلاء والشدة تفسير بالمعنى ; لأن الشؤم بلاء وشدة ، ومقابلة زهير النحس بالأسعد في بيته يوضح ذلك ، وهو معلوم .

ويزعم بعض أهل العلم أنها من آخر شوال ، وأن أولها يوم الأربعاء ، وآخرها يوم الأربعاء ، ولا دليل على شيء من ذلك .

وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر ، أو يوم الأربعاء مطلقا ، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيرا من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر ، حتى إنهم لا يقدمون على السفر والتزوج ونحو ذلك فيه ، ظانين أنه يوم نحس وشؤم ، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن - لا أصل له ولا معول عليه ، ولا يلتفت إليه من عنده علم; لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه ، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة بعذاب الدنيا ، فصار ذلك الشؤم مستمرا عليهم استمرارا لا انقطاع له .

أما غير عاد فليس مؤاخذا بذنب عاد ; لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى .

وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها من ظن استمرار نحس ذلك اليوم ; لنبين أنها لا معول عليها .

قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش في يوم نحس مستمر قال : يوم الأربعاء .

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال لي جبريل : اقض باليمين مع الشاهد . وقال : يوم الأربعاء يوم نحس مستمر " .

وأخرج ابن مردويه عن علي قال : " نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد ، والحجامة ، ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:12 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (464)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 19 إلى صـ 26




[ ص: 19 ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يوم نحس يوم الأربعاء " .

وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأيام ، وسئل عن يوم الأربعاء قال : يوم نحس . قالوا كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : أغرق فيه الله فرعون وقومه ، وأهلك عادا وثمود " .

وأخرج وكيع في الغرر ، وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر " .

فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه; لأن أغلبها ضعيف ، وما صح معناه منها فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم .

فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشؤه وسببه الكفر والمعاصي .

أما من كان متقيا لله مطيعا له في يوم الأربعاء المذكور - فلا نحس ولا شؤم فيه عليه . فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد والبلاء والشقاء على الحقيقة ، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهديناهم المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان والإرشاد ، لا هدى التوفيق والاصطفاء .

والدليل على ذلك قوله - تعالى - بعده : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان وآثروه عليه ، وتعوضوه منه .

وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [ 9 \ 23 ] فقوله في آية " التوبة " هذه : [ ص: 20 ] إن استحبوا الكفر على الإيمان موافق في المعنى لقوله هنا : فاستحبوا العمى على الهدى .

ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله [ 14 \ 3 ] .

فلفظة استحب في القرآن كثيرا ما تتعدى بعلى; لأنها في معنى اختار وآثر .

وقد قدمنا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : مثل الفريقين كالأعمى - أن العمى الكفر ، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد - لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع على الهدى الخاص الذي هو التوفيق والاصطفاء ، كقوله - تعالى - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] .

فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها ، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم .

ومن إطلاقه على معناه العام قوله - تعالى - : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] بدليل قوله بعده : إما شاكرا وإما كفورا ; لأنه لو كان هدى توفيق لما قال : وإما كفورا .

ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله - تعالى - : فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . وقوله - تعالى - : والذين اهتدوا زادهم هدى [ 47 \ 17 ] . وقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 18 \ 17 ] .

وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني وهو أنه - تعالى - : أثبت الهدى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في آية ، وهي قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ونفاه عنه في آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .

[ ص: 21 ] فيعلم مما ذكرنا أن الهدى المثبت له - صلى الله عليه وسلم - هو الهدى العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد ، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - فبين المحجة البيضاء ، حتى تركها ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها هالك .

والهدى المنفي عنه في آية : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] - هو الهدى الخاص ، الذي هو التفضل بالتوفيق ; لأن ذلك بيد الله وحده ، وليس بيده - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم الآية [ 5 \ 41 ] . وقوله - تعالى - : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وكذلك قوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] - لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية ، وخصوص المتقين في قوله - تعالى - : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام ، والهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، كما لا يخفى .

وقد بينا هذا في غير هذا الموضع ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون .

الفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، أي فاستحبوا العمى على الهدى ، وبسبب ذلك أخذتهم صاعقة العذاب الهون .

واعلم أن الله - جل وعلا - عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود بعبارات مختلفة ، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ، وقوله : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 31 ] .

وعبر عنه أيضا بالصاعقة في سورة " الذاريات " في قوله - تعالى - : وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون [ 51 \ 43 - 44 ] .

وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " في إهلاكه ثمود : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ ص: 22 ] [ 11 \ 67 - 68 ] وقوله - تعالى - في " الحجر " : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين [ 15 \ 82 - 83 ] وقوله - تعالى - في القمر : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر [ 54 \ 31 ] وقوله - تعالى - في " العنكبوت " ومنهم من أخذته الصيحة يعني به ثمود المذكورين في قوله قبله : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم الآية [ 29 \ 38 ] .

وعبر عنه بالرجفة في سورة الأعراف في قوله - تعالى - : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة الآية [ 7 \ 77 - 51 ] .

وعبر عنه بالتدمير في سورة " النمل " في قوله - تعالى - : فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [ 27 \ 51 ] .

وعبر عنه بالطاغية في " الحاقة " في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] .

وعبر عنه بالدمدمة في " الشمس " في قوله - تعالى - : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ 91 \ 14 ] .

وعبر عنه بالعذاب في سورة " الشعراء " في قوله - تعالى - : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية [ 26 \ 157 - 158 ] .

ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم ، والصيحة الصوت المزعج المهلك .

والصاعقة تطلق أيضا على الصوت المزعج المهلك ، وعلى النار المحرقة ، وعليهما معا ، ولشدة عظم الصيحة وهولها من فوقهم رجفت بهم الأرض من تحتهم ، أي تحركت حركة قوية ، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة ، وكون ذلك تدميرا واضح . وقيل لها طاغية ; لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك .

والطغيان في لغة العرب مجاوزة الحد ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء الآية [ 69 \ 11 ] أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة .

[ ص: 23 ] واعلم أن التحقيق أن المراد بالطاغية في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها ، كما يوضحه قوله بعده : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ 69 \ 6 ] .

خلافا لمن زعم أن الطاغية مصدر كالعاقبة والعافية ، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم ، أي بكفرهم وتكذيبهم نبيهم ، كقوله : كذبت ثمود بطغواها [ 91 \ 11 ] .

وخلافا لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم الذي انبعث فعقر الناقة ، وأنهم أهلكوا بسبب فعله ، وهو عقره الناقة ، وكل هذا خلاف التحقيق .

والصواب - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والسياق يدل عليه ، واختاره غير واحد .

وأما قوله - تعالى - : فدمدم عليهم ربهم بذنبهم [ 91 \ 14 ] فإنه لا يخالف ما ذكرنا ; لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم ، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه ، بسبب ذنبهم .

قال الزمخشري في معنى دمدم : وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة ، إذا ألبسها الشحم .

وأما إطلاق العذاب عليه في سورة " الشعراء " فواضح ، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة صاعقة العذاب الهون - من النعت بالمصدر ; لأن الهون مصدر بمعنى الهوان ، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف ، أشار إليه في الخلاصة بقوله :


ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا


وهو موجه بأحد أمرين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي العذاب ذي الهون .

والثاني : أنه على سبيل المبالغة ، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه - صار كأنه نفس الهوان ، كما هو معروف في محله .

[ ص: 24 ] وقوله - تعالى - : بما كانوا يكسبون كالتوكيد في المعنى ; لقوله : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم ، فالفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، والباء في قوله : ( بما كانوا ) سببية ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أهلك ثمود بالصاعقة ، ونجى من ذلك الإهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله ، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة الآية [ 11 \ 66 ] ، وقوله - تعالى - في " النمل " : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ 27 \ 45 ] إلى قوله - تعالى - في " ثمود " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 27 \ 52 - 53 ] أي وهم صالح ومن آمن معه .
قوله - تعالى - : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون .

قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع ( يحشر ) بضم الياء وفتح الشين مبنيا للمفعول ، ( أعداء الله ) بالرفع على أنه نائب الفاعل .

وقرأه نافع وحمزة ، من السبعة ( نحشر أعداء الله ) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة ، وضم الشين مبنيا للفاعل ، ( أعداء الله ) بالنصب على أنه مفعول به ، أي واذكر ويوم يحشر أعداء الله أي يجمعون إلى النار .

وما دلت عليه هذه الآية من أن لله أعداء ، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار - جاء مذكورا في آيات أخر; فبين في بعضها أن له أعداء ، وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين ، وأن جزاءهم النار ، كقوله - تعالى - : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ 2 \ 98 ] . وقوله - تعالى - : ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم الآية [ ص: 25 ] [ 60 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد الآية [ 41 \ 28 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة فهم يوزعون أي يرد أولهم إلى آخرهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، حتى يجتمعوا جميعا ، ثم يدفعون في النار ، وهو من قول العرب : وزعت الجيش ، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع .

وأصل الوزع الكف ، تقول العرب وزعه يزعه وزعا فهو وازع له ، إذا كفه عن الأمر ، ومنه قول نابغة ذبيان :
على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع

وقول الآخر :
ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله


وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى ( يوزعون ) أي يكف أولهم عن التقدم وآخرهم عن التأخر ، حتى يجتمعوا جميعا .

وذلك يدل على أنهم يساقون سوقا عنيفا ، يجمع به أولهم مع آخرهم .

وقد بين - تعالى - أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشا في قوله - تعالى - : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] . ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار ; لأنهم يساقون إلى النار زمرا زمرا ، كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا الآية [ 39 \ 71 ] .
قوله - تعالى - : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم الآية [ 36 \ 65 ] . وفي سورة النساء في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .

[ ص: 26 ] وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا مع قوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين .

قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .
قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم .

لعلماء التفسير في تفسير قوله : قيضنا عبارات يرجع بعضها في المعنى إلى بعض .

كقول بعضهم : وقيضنا لهم قرناء أي جئناهم بهم ، وأتحناهم لهم .

وكقول بعضهم : قيضنا أي هيأنا .

وقول بعضهم : قيضنا أي سلطنا .

وقول بعضهم : أي بعثنا ووكلنا .

وقول بعضهم : قيضنا أي سببنا .

وقول بعضهم : قدرنا . ونحو ذلك من العبارات; فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله - تبارك وتعالى - هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ، ويزينون لهم الكفر والمعاصي ، وقدرهم عليهم .

والقرناء : جمع قرين ، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:15 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (465)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 27 إلى صـ 34




وقوله فزينوا لهم ما بين أيديهم - أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة - [ ص: 27 ] وما خلفهم أي من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التكذيب به ، وإنكار البعث .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - قيض للكفار قرناء من الشياطين ، يضلونهم عن الهدى - بينه في مواضع أخر من كتابه .

وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم ، وأنهم مع إضلالهم لهم يظنون أنهم مهتدون ، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم ، وأنه يذمه ذلك اليوم ، كما قال - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 36 - 38 ] .

فترتيبه قوله : ( نقيض له شيطانا ) على قوله : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) - ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس ، من قولهم : خنس - بالفتح - يخنس - بالضم - إذا تأخر .

فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن ، خناس عند ذكر الرحمن ، كما دلت عليه آية " الزخرف " المذكورة ، ودل عليه قوله - تعالى - : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون - غافلون عن ذكر الرحمن ، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم .

ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم ، قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين الآية . وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى تؤزهم أزا .

وبينا أيضا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك . قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا ، وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] .

[ ص: 28 ] ومنها أيضا قوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إلى قوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 60 - 62 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد دل قوله في آية " الزخرف " : فبئس القرين [ 43 \ 38 ] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية " فصلت " وآية " الزخرف " وغيرهما - جديرين بالذم الشديد ، وقد صرح - تعالى - بذلك في سورة " النساء " في قوله : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [ 4 \ 38 ] لأن قوله : فساء قرينا بمعنى فبئس القرين ; لأن كلا من " ساء " و " بئس " فعل جامد لإنشاء الذم ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :


واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا


واعلم أن الله - تعالى - بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين - يظنون أنهم على هدى ، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى ، كما قال - تعالى - عنهم : وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] وقال - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] .

وبين - تعالى - أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالا ، في قوله - تعالى - : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 103 - 104 ] .

وقوله - تعالى - في آية " الزخرف " : ومن يعش عن ذكر الرحمن [ 43 \ 36 ] من قولهم : عشا - بالفتح - عن الشيء يعشو - بالضم - إذا ضعف بصره عن إدراكه ; لأن الكافر أعمى القلب ، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن ، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين .
قوله - تعالى - : وحق عليهم القول .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن .

[ ص: 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ 2 \ 93 ] .
قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا : ( ربنا الله ثم استقاموا ) - ذكره الله - تعالى - في الجملة في قوله في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ 46 \ 13 - 14 ] لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق بالخلود في الجنة المذكور في آية " الأحقاف " هذه - يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " .
قوله - تعالى - : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم .

قد أوضحناه مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله إنه سميع عليم [ 7 \ 199 - 200 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الليل والنهار .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وجعلنا الليل والنهار آيتين الآية [ 17 \ 12 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر الآية [ 41 \ 37 ] .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض الآية [ 27 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون .

[ ص: 30 ] قوله - تعالى - : فإن استكبروا ، أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله والسجود له وحده ، وإخلاص العبادة له ( فالذين عند ربك ) وهم الملائكة ( يسبحون له بالليل ) أي يعبدونه وينزهونه دائما ليلا ونهارا ( وهم لا يسأمون ) أي لا يملون من عبادة ربهم ; لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم ، مع خوفهم منه - جل وعلا - كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] .

وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " على أمرين :

أحدهما : أن الله - جل وعلا - إن كفر به بعض خلقه ، فإن بعضا آخر من خلقه يؤمنون به ويطيعونه كما ينبغي ، ويلازمون طاعته دائما بالليل والنهار .

والثاني منهما : أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائما لا يفترون عن ذلك .

وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة - قد جاء كل منهما موضحا في غير هذا الموضع .

أما الأول منهما : فقد ذكره - جل وعلا - في قوله : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] .

وأما الثاني منهما : فقد أوضحه - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في " الأنبياء " : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] وقوله - تعالى - في آخر " الأعراف " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ 7 \ 206 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وهم لا يسأمون أي لا يملون ، والسآمة : الملل ، ومنه قول زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت .

هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها مع ما في معناها من الآيات ، وبينا أن [ ص: 31 ] تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت ، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن على البعث بعد الموت ، وهي أربعة براهين قرآنية .

ذكرنا ذلك في سورة " البقرة " وفي سورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليه مرارا .
قوله - تعالى - : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة .

قد قدمنا الكلام عليه مع ما يماثله من الآيات في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 15 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] وفي سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الآية [ 17 \ 82 ] .
قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ 41 \ 7 ] وفي سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه [ 27 \ 40 ] .
قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد - ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " آل عمران " : ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا [ 3 \ 182 ] . وقوله في " الأنفال " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون [ 8 \ 51 - 52 ] . وقوله في " الحج " : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله الآية [ 22 \ 10 - 11 ] . وقوله في سورة " ق " : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 29 ] .

وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن لفظة ( ظلام ) فيها صيغة مبالغة ، ومعلوم [ ص: 32 ] أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله .

فقولك مثلا : زيد ليس بقتال للرجال - لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم ، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال .

ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة - هو نفي الظلم من أصله .

والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه : الأول : أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله .

ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل ، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة ، كقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [ 21 \ 47 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " و " الأنبياء " .

الوجه الثاني : أن الله - جل وعلا - نفى ظلمه للعبيد ، والعبيد في غاية الكثرة ، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته ، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم ، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ، ولو قليلا ، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة ، كما ترى .

وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة ، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد ، الذين هم في غاية الكثرة ، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدا شيئا ، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة ، وفي الحديث : " يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي " الحديث .

الوجه الثالث : أن المسوغ لصيغة المبالغة أن عذابه - تعالى - بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم - لكان معذبهم به ظلاما بليغ [ ص: 33 ] الظلم متفاقمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة " الأنفال " .

الوجه الرابع : ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين من أن المراد بالنفي في قوله : وما ربك بظلام للعبيد نفي نسبة الظلم إليه ; لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغني عن ياء النسب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

ومع فاعل وفعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل


ومعنى البيت المذكور أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظلام وفعل كفرح - كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة ، فيستغنى بها عن ياء النسب ، ومثاله في فاعل قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاس


فالمراد بقوله : الطاعم الكاسي - النسبة ، أي ذو طعام وكسوة . وقول الآخر - وهو من شواهد سيبويه - :
وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تامر


أي ذو لبن وذو تمر . وقول نابغة ذبيان :
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب


فقوله : " ناصب " ، أي ذو نصب . ومثاله في فعال قول امرئ القيس :
وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال


فقوله : وليس بنبال ، أي ليس بذي نبل ، ويدل عليه قوله قبله : وليس بذي رمح ، وليس بذي سيف .

وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور : قال المصنف - يعني ابن مالك - : وعلى هذا حمل المحققون قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد أي بذي ظلم . اهـ .

[ ص: 34 ] وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين ، ومثاله في فعل قول الراجز - وهو من شواهد سيبويه - :
ليس بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر


فقوله : نهر بمعنى نهاري ، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية ، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إليه يرد علم الساعة .

تقدم الكلام على نحوه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] . وفي " الأنعام " عند قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .قوله - تعالى - : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد الآية [ 13 \ 8 ] .قوله - تعالى - : وظنوا ما لهم من محيص .

الظن هنا بمعنى اليقين ; لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، وشاهدوا الحقائق - علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص ، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ .

والظاهر أن المحيص مصدر ميمي ، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب .

وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم - هو التحقيق - إن شاء الله - ; لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق ، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك ، كما قال - تعالى - عنهم أنهم يقولون يوم القيامة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] . وقال - تعالى - : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] . وقال - تعالى - : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] . وقال - تعالى - : ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا [ 6 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:22 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (466)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 35 إلى صـ 42


وقد [ ص: 35 ] قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : بل ادارك علمهم في الآخرة [ 27 \ 66 ] .

ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب التي نزل بها القرآن على معنيين : أحدهما : الشك ، كقوله وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 \ 28 ] . وقوله - تعالى - عن الكفار : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] .

والثاني : هو إطلاق الظن مرادا به العلم واليقين ، ومنه قوله - تعالى - هنا : وظنوا ما لهم من محيص [ 41 \ 48 ] أي أيقنوا أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص ، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم ، ومنه بهذا المعنى قوله - تعالى - : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] أي أيقنوا ذلك وعلموه ، وقوله - تعالى - : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون [ 2 \ 46 ] . وقوله - تعالى - : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله [ 2 \ 249 ] . وقوله - تعالى - : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 19 - 20 ] . فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين .

ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد


وقول عميرة بن طارق :
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما


والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين ، والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله : وظنوا ما لهم من محيص معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ( ما ) في قوله : ما لهم من محيص كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والتزم التعليق قبل نفي " ما
"قوله - تعالى - : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى .

[ ص: 36 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .قوله - تعالى - : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض .

قد قدمنا الآيات الموضحة له وبعض الأحاديث الصحيحة الموافقة لها في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه [ 10 \ 12 ] .قوله - تعالى - : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم الآية .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا الآية [ 40 \ 13 ] .قوله - تعالى - : ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم .

المرية : الشك . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شك الكفار في البعث والجزاء - قد قدمنا الآيات الموضحة له ، ولما يترتب عليه من الخلود في النار في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .[ ص: 37 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الشُّورَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .

وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَحْيِ ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبِلَكَ اللَّهُ .

يَعْنِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ مِثْلَهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ ، وَأَوْحَاهُ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى رُسُلِهِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْبِيهِ الْبَلِيغِ ، وَاللُّطْفِ الْعَظِيمِ ، لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ . اهـ مِنْهُ .

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ : ( كَذَلِكَ يُوحِي ) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوحَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِيحَاءُ .

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الَّذِينَ فِي قَبْلِهِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ ، كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَقْصُصْ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ لِقَطْعِ حُجَجِ الْخَلْقِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ ص: 38 ] [ 4 \ 163 - 165 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْمِهِ الْعَزِيزِ وَاسْمِهِ الْحَكِيمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَهُ وَحْيَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " الْمَذْكُورَةِ : وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا بَعْدَ ذِكْرِهِ إِيحَاءَهُ إِلَى رُسُلِهِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِذَا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا ، وَذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ .

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ : ( يُوحِي ) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ : ( اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) - فَاعِلُ يُوحِي .

وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ( يُوحَى إِلَيْكَ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ، فَقَوْلُهُ : ( اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يُوحَى ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ " النُّورِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [ 24 \ 36 - 37 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الْوَحْيِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ 16 \ 68 ] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .قوله - تعالى - : وهو العلي العظيم .

وصف نفسه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بالعلو والعظمة ، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وصفه - تعالى - نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال - جاء مثله في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] . وقوله - تعالى - : إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . وقوله - تعالى - : عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض الآية [ 45 \ 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .[ ص: 39 ] قوله - تعالى - : تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض .

قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي ( تكاد ) بالتاء الفوقية ; لأن السماوات مؤنثة ، وقرأه نافع والكسائي ( يكاد ) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي .

وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو ، وشعبة عن عاصم ( يتفطرن ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة ، مضارع تفطر ، أي تشقق .

وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم ( ينفطرن ) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء المخففة ، مضارع انفطرت ، كقوله : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] أي انشقت .

وقوله : تكاد ، مضارع كاد ، التي هي فعل مقاربة ، ومعلوم أنها تعمل في المبتدإ والخبر ، ومعنى كونها فعل مقاربة ، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدإ بالخبر .

وإذا ، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى ، والانفطار على القراءة الثانية .

واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر في هذه الآية الكريمة - فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن : الوجه الأول : أن المعنى : تكاد السماوات يتفطرن خوفا من الله ، وهيبة وإجلالا ، ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى - قبله : وهو العلي العظيم [ 42 \ 4 ] ; لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال ، حتى كادت تتفطر .

وعلى هذا الوجه ، فقوله بعده : والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض مناسبته لما قبله واضحة; لأن المعنى : أن السماوات في غاية الخوف منه - تعالى - والهيبة والإجلال له ، وكذلك سكانها من الملائكة ، فهم ( يسبحون بحمد ربهم ) أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله مع إثباتهم له كل كمال وجلال ، خوفا منه وهيبة وإجلالا ، كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] . وقال - تعالى - : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 49 - 50 ] .

[ ص: 40 ] فهم لشدة خوفهم من الله وإجلالهم له يسبحون بحمد ربهم ، ويخافون على أهل الأرض ، ولذا يستغفرون لهم خوفا عليهم من سخط الله وعقابه ، ويستأنس لهذا الوجه بقوله - تعالى - : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض إلى قوله : وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] ; لأن الإشفاق الخوف .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ويستغفرون لمن في الأرض يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ 40 \ 7 ] .

فقوله : للذين آمنوا - يوضح المراد من قوله : لمن في الأرض . \ 5 ويزيد ذلك إيضاحا قوله - تعالى - عنهم أنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين - : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك [ 40 \ 7 ] لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار .

الوجه الثاني : أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - من كونه اتخذ ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا الوجه جاء موضحا في سورة " مريم " في قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] . كما قدمنا إيضاحه .

وغاية ما في هذا الوجه أن آية " الشورى " هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات ، وقد جاء ذلك موضحا في آية " مريم " المذكورة . وكلا الوجهين حق .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يتفطرن من فوقهن فيه للعلماء أوجه .

قيل : ( يتفطرن ) ، أي السماوات . ( من فوقهن ) أي الأرضين ، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى .

[ ص: 41 ] وقال بعضهم : ( من فوقهن ) ، أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها .

وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : لم قال : من فوقهن ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : يتفطرن من فوقهن أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية .

أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، دع الجهة التي تحتهن .

ونظيره في المبالغة قوله - عز وجل - : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة . ا هـ محل الغرض منه .

وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم : اتخذ الرحمن ولدا [ 19 \ 88 ] .

وقد قدمنا آنفا أنه دلت عليه سورة " مريم " المذكورة ، وعليه فمناسبة قوله : والملائكة يسبحون بحمد ربهم لما قبله - أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه ، فإن الملائكة بخلافهم ، فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته .

ويوضح ذلك قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة " فصلت " .



قوله - تعالى - : ألا إن الله هو الغفور الرحيم .

أكد - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه هو الغفور الرحيم ، وبين فيها أنه هو وحده المختص بذلك .

[ ص: 42 ] وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع .

أما اختصاصه هو - جل وعلا - بغفران الذنوب ، فقد ذكره في قوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله ، وفي الحديث " رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت " الحديث . وفي حديث سيد الاستغفار : " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني " الحديث . وفيه " وأبوء بذنبي فاغفر لي ; فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " .

ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب - هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله : ألا إن الله هو الغفور الرحيم يدل على ذلك كما هو معلوم في محله .

وأما الأمر الثاني : هو توكيده - تعالى - أنه هو الغفور الرحيم ; فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ( ألا ) ، وحرف التوكيد الذي هو ( إن ) . وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ 39 \ 53 ] . وقوله - تعالى - : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 20 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 32 ] . وقوله في الكفار : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وقوله في الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

فنرجو الله - جل وعلا - الكريم الرءوف الغفور الرحيم - أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ، ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ، ويدخلنا جنته على ما كان منا ، ويغفر لإخواننا المسلمين ، إنه غفور رحيم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:37 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (467)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 43 إلى صـ 50


قوله - تعالى - : والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : اتخذوا من دونه أولياء . أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب [ 39 \ 3 ] . [ ص: 43 ] وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . أي يخوفكم أولياءه . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] .

وقد وبخهم - تعالى - على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه - تعالى - في قوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

وقد أمر - جل وعلا - باتباع هذا القرآن العظيم ، ناهيا عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه - تعالى - في أول سورة الأعراف في قوله - تعالى - اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .

وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان : الأول منهما : الشياطين ، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم من الكفر والمعاصي ، فشركهم به شرك طاعة ، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة ، كقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم ياأبت لا تعبد الشيطان الآية [ 19 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا . وقوله - تعالى - : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 41 ] . وقوله - تعالى - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

والنوع الثاني : هو الأوثان ، كما بين ذلك - تعالى - بقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الآية [ 39 \ 3 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : الله حفيظ عليهم ، أي رقيب عليهم حافظ [ ص: 44 ] عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي ، وفي أوله اتخاذهم الأولياء يعبدونهم من دون الله .

وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وما أنت عليهم بوكيل .

أي لست يا محمد بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم ، بل إنما أنت نذير فحسب ، وقد بلغت ونصحت .

والوكيل عليهم هو الله الذي يهدي من يشاء منهم ، ويضل من يشاء ، كما قال - تعالى - : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ 11 \ 12 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 - 100 ] . وقال - تعالى - : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله - تعالى - : وما أنت عليهم بوكيل ، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخا بآية السيف . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] . وفي " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : لتنذر أم القرى ومن حولها .

خص الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية الكريمة إنذاره - صلى الله عليه وسلم - بأم القرى ومن حولها ، والمراد بأم القرى مكة - حرسها الله - .

ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين ، كقوله - تعالى - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] . وقوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . [ ص: 45 ] وقوله - تعالى - : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] . كما أوضحنا ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك .

وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا ، وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به الآية [ 6 \ 92 ] . في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " فقلنا فيه : والجواب من وجهين :

الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض ، كما رواه ابن جرير وغيره ، عن ابن عباس .

الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة - حرسها الله - كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر ، نصت على العموم ، كقوله ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . وذكر بعض أفراد العام بحكم العام - لا يخصصه عند عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور .

وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " ، فالآية على هذا القول كقوله وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ; فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح . والعلم عند الله - تعالى - ا هـ منه .
قوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] .

تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : أحدهما : أن من حكم إيحائه - تعالى - إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العربي - إنذار يوم الجمع ، فقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع معطوف على قوله : لتنذر أم القرى أي لأجل أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع ، فحذف في الأول أحد المفعولين ، وحذف في الثاني أحدهما ، فكان ما أثبت في كل منهما دليلا على ما حذف في الثاني ، ففي الأول حذف المفعول الثاني ، والتقدير " لتنذر أم القرى " ، أي أهل مكة " ومن حولها " ، عذابا شديدا إن لم يؤمنوا . وفي الثاني حذف المفعول الأول ، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة ، أي تخوفهم مما فيه من الأهوال والأوجال; ليستعدوا لذلك في دار الدنيا .

[ ص: 46 ] والثاني : أن يوم الجمع المذكور ( لا ريب فيه ) ، أي لا شك في وقوعه .

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - جاءا موضحين في آيات أخر .

أما تخويفه الناس يوم القيامة ، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية [ 2 \ 281 ] . وقوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 4 - 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وأما الثاني منهما : وهو كون يوم القيامة ( لا ريب فيه ) فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 4 \ 87 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها الآية [ 22 \ 7 ] . وقوله - تعالى - وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة الآية [ 45 \ 32 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع ; لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق . والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله - تعالى - : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] . وقوله - تعالى - : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] . وقوله - تعالى - ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .

وقد بين - تعالى - شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله - تعالى - : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] . والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة .
قوله - تعالى - : فريق في الجنة وفريق في السعير .

[ ص: 47 ] ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق ، وجعل منهم فريقا سعداء ، وهم أهل الجنة ، وفريقا أشقياء وهم أصحاب السعير ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 \ 118 - 119 ] ، أي ولذلك الاختلاف إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد - خلقهم - على الصحيح - . ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جدا .

وقد ذكرنا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " - وجه الجمع بين قوله : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] على التفسير المذكور ، وبين قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] . وسنذكر ذلك - إن شاء الله - في سورة " الذاريات " .

وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ويهديه إلى عذاب السعير الآية [ 22 \ 4 ] . والجنة في لغة العرب البستان .

ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا


فقوله : جنة سحقا ، يعني بستانا طويل النخل ، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة .

والفريق : الطائفة من الناس ، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين ، ومنه قول نصيب : فقال فريق القوم ، لا وفريقهم نعم ، وفريق قال ويحك ما ندري

والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله : ( فريق في الجنة ) ، أنه في معرض التفصيل .

ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس :
فلما دنوت تسديتها فثوبا نسيت وثوبا أجر

قوله - تعالى - : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله .

ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده ، لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات كثيرة .

[ ص: 48 ] فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وفي قراءة ابن عامر من السبعة ولا تشرك في حكمه أحدا بصيغة النهي .

وقال في الإشراك به في عبادته : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه - إن شاء الله - .

وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله ، فكل تشريع من غيره باطل ، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه - كفر بواح لا نزاع فيه .

وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به ، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] . وقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا إيضاحها في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .

وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر ، فهي كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 16 \ 121 ] . وقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاحه في " الكهف " .
[ ص: 49 ] مسألة

اعلم أن الله - جل وعلا - بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له ، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن - إن شاء الله - ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية ، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع ، سبحان الله وتعالى عن ذلك .

فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتبع تشريعهم .

وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك ، فليقف بهم عند حدهم ، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية .

سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه .

فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها - تعالى - صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، ثم قال مبينا صفات من له الحكم : ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 10 - 12 ] .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ، ويتوكل عليه ، وأنه فاطر السماوات والأرض - أي خالقهما ومخترعهما - على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] ، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأنه له مقاليد السماوات والأرض ، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أي يضيقه على من يشاء - وهو بكل شيء عليم .

فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل .

ونظير هذه الآية الكريمة قوله - تعالى - فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فقوله فيها : فردوه إلى الله كقوله في هذه : فحكمه إلى الله .

[ ص: 50 ] وقد عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد قوله : فردوه إلى الله من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم ، المعبر عنه في الآية بالطاغوت ، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت ، وذلك في قوله - تعالى - : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] .

فالكفر بالطاغوت الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية - شرط في الإيمان كما بينه - تعالى - في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] .

فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض ؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات ؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي ؟

سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد ؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه ؟ وأن الخلائق يرجعون إليه ؟

تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:40 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (468)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 51 إلى صـ 58


[ ص: 51 ] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير ؟

سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 73 ] .

فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة ، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار ، مبينا بذلك كمال قدرته ، وعظمة إنعامه على خلقه .

سبحان خالق السماوات والأرض - جل وعلا - أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكه .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 12 \ 40 ] .

فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده ، وأن عبادته وحده هي الدين القيم ؟

سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] .

فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه ، وتفوض الأمور إليه ؟

ومنها قوله - تعالى - : [ ص: 52 ] وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 49 - 50 ] .

فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى ؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه ؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟

سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] .

فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق ، وأنه خير الفاصلين ؟

ومنها قوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا الآية [ 6 \ 114 - 115 ] .

فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا ، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق ، وبأنه تمت كلماته صدقا وعدلا - أي صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام - وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟

سبحان ربنا ، ما أعظمه ، وما أجل شأنه .

ومنها قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] .

فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق ، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه ؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم ؟

سبحانه - جل وعلا - أن يكون له شريك في التحليل والتحريم .

ومنها قوله - تعالى - : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] .

[ ص: 53 ] فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك ؟

سبحان ربنا وتعالى عن ذلك .

ومنها قوله - تعالى - : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [ 16 \ 116 - 117 ] .

فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب ، لأجل أن يفتروه على الله ، وأنهم لا يفلحون ، وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم ، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم .

ومنها قوله - تعالى - : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] .

فقوله : هلم شهداءكم صيغة تعجيز ، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم . وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم . ولما كان التشريع وجميع الأحكام - شرعية كانت أو كونية قدرية - من خصائص الربوبية - كما دلت عليه الآيات المذكورة - كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا ، وأشركه مع الله .

والآيات الدالة على هذا كثيرة ، وقد قدمناها مرارا وسنعيد منها ما فيه كفاية ، فمن ذلك - وهو من أوضحه وأصرحه - أنه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت مناظرة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم من أحكام التحريم والتحليل ، وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن في وحيه في تحريمه ، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله .

وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة " الأنعام " .

وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه : سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة ، من هو الذي قتلها ؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها .

فقالوا : الميتة إذا ذبيحة الله ، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام ؟ مع أنكم تقولون [ ص: 54 ] إنما ذبحتموه بأيديكم حلال ، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة .

فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله - تعالى - : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [ 6 \ 121 ] ، يعني الميتة ، أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب . وإنه لفسق [ 6 \ 121 ] ، والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله : ولا تأكلوا ، وقوله : لفسق ، أي خروج عن طاعة الله ، واتباع لتشريع الشيطان . وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ 6 \ 121 ] . أي بقولهم : ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام ، فأنتم إذا أحسن من الله ، وأحل تذكية ، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين ، في الحكم بين الفريقين في قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] فهي فتوى سماوية من الخالق - جل وعلا - صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن - مشرك بالله .

وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم ، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة ( إنكم لمشركون ) بالفاء ; لأنه لو كان شرطا لم يسبقه قسم لقيل : فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة :
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل

وهو مذهب سيبويه ، وهو الصحيح ، وحذف الفاء في مثل ذلك من ضرورة الشعر .

وما زعمه بعضهم من أنه يجوز مطلقا ، وأن ذلك دلت عليه آيتان من كتاب الله : إحداهما : قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .

والثانية : قوله - تعالى - : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ 42 ] بحذف الفاء في قراءة نافع وابن عامر من السبعة خلاف التحقيق .

بل المسوغ لحذف الفاء في آية : إنكم لمشركون تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء ، على حد قوله في الخلاصة :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أحرت فهو ملتزم


وعليه ، فجملة إنكم لمشركون جواب القسم المقدر ، وجواب الشرط محذوف ، فلا دليل في الآية لحذف الفاء المذكور .

[ ص: 55 ] والمسوغ له في آية بما كسبت أيديكم أن ( ما ) في قراءة نافع وابن عامر موصولة ، كما جزم به غير واحد من المحققين ، أي والذي أصابكم من مصيبة كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم .

وأما على قراءة الجمهور : فما موصولة أيضا ، ودخول الفاء في خبر الموصول جائز كما أن عدمه جائز ، فكلتا القراءتين جارية على أمر جائز .

ومثال دخول الفاء في خبر الموصول قوله - تعالى - : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] وهو كثير في القرآن . وقال بعضهم : إن ( ما ) في قراءة الجمهور شرطية ، وعليه فاقتران الجزاء بالفاء واجب .

أما على قراءة نافع وابن عامر فهي موصولة ليس إلا ، كما هو التحقيق - إن شاء الله - .

وكون ( ما ) شرطية على قراءة ، وموصولة على قراءة - لا إشكال فيه ; لما قدمنا من أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين .

ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية " الأنعام " المذكورة قوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . فصرح بتوليهم للشيطان ، أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل ، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله - تعالى - : والذين هم به مشركون ، وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان .

ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن ، قال - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ، ويدخل فيهم متبعو نظام الشيطان دخولا أولياء أفلم تكونوا تعقلون [ 36 \ 60 - 62 ] .

ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا ، في قوله - تعالى - : هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 63 - 65 ] . وقال - تعالى - عن نبيه إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] فقوله : [ ص: 56 ] ( لا تعبد الشيطان ) أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي ، مخالفا لما شرعه الله .

وقال - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا يعني ما يعبدون إلا شيطانا مريدا .

وقوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] .

فقوله - تعالى - : بل كانوا يعبدون الجن أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي ، على أصح التفسيرين .

والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة ، كما نص الله عليه في سورة " إبراهيم " في قوله - تعالى - : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : إني كفرت بما أشركتمون من قبل [ 14 \ 22 ] . فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل ، أي في دار الدنيا ، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة .

وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي بينا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم - رضي الله عنه - عن قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] كيف اتخذوهم أربابا ؟ وأجابه - صلى الله عليه وسلم - أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله - فاتبعوهم ، وبذلك الاتباع اتخذوهم أربابا .

ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه ، وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله - فإنهم يزدادون كفرا جديدا بذلك مع كفرهم الأول ، وذلك في قوله - تعالى - : إنما النسيء زيادة في الكفر إلى قوله : والله لا يهدي القوم الكافرين [ 9 \ 37 ] .

وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله - فقد أشرك به مع الله ، كما يدل لذلك قوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم [ 6 \ 137 ] . فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد .

[ ص: 57 ] وقوله - تعالى - : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] فقد سمى - تعالى - الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله - شركاء ، ومما يزيد ذلك إيضاحا أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) - أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له ، كما صرح بذلك في قوله - تعالى - عنه : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي الآية ، وهو واضح كما ترى .
قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه .

قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض تقدم تفسيره في أول سورة " فاطر " .

وقوله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، أي خلق لكم أزواجا من أنفسكم ، كما قدمنا الكلام عليه في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] . وبينا أن المراد بالأزواج الإناث ، كما يوضحه قوله - تعالى - : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية [ 30 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] . وقوله : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى [ 92 \ 1 - 3 ] . وقوله في آدم : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها الآية [ 4 \ 1 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها الآية [ 39 \ 6 ] .

وقوله - تعالى - : ومن الأنعام أزواجا هي الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] . وفي قوله : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله - تعالى - : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .

[ ص: 58 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يذرؤكم فيه الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله : يذرؤكم شامل للآدميين والأنعام ، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله : ( يذرؤكم ) واضح لا إشكال فيه .

والتحقيق - إن شاء الله - أن الضمير في قوله : " فيه " راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث من بني آدم والأنعام ، في قوله - تعالى - : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا سواء قلنا إن المعنى : أنه جعل للآدميين إناثا من أنفسهم ، أي من جنسهم ، وجعل للأنعام أيضا إناثا كذلك ، أو قلنا : إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معا .

وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الآية الكريمة ( يذرؤكم ) ، أي يخلقكم ويبثكم وينشركم ( فيه ) ، أي فيما ذكر من الذكور والإناث ، أي في ضمنه عن طريق التناسل ، كما هو معروف .

ويوضح ذلك في قوله - تعالى - : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] . فقوله - تعالى - : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء يوضح معنى قوله : يذرؤكم فيه .

فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله : ( يذرؤكم فيه ) مع أنه على ما ذكرتم عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام ؟

فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلا .

ومثاله في الضمير : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به الآية [ 6 \ 46 ] . فالضمير في قوله : ( به ) مفرد ، مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب .

فقوله : يأتيكم به أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج :
فيها خطوط من سواد وبلق كأن في الجلد توليع البهق

فقوله : كأنه ، أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:42 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (469)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 59 إلى صـ 66



[ ص: 59 ] ومثاله في الإشارة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي :
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل


أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر .

وقول من قال ، إن الضمير في قوله : ( فيه ) راجع إلى الرحم ، وقول من قال : راجع إلى البطن ، ومن قال : راجع إلى الجعل المفهوم من ( جعل ) وقول من قال : راجع إلى التدبير ، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب .

والتحقيق - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

وقد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .
قوله - تعالى - : له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .

مقاليد السموات والأرض هي مفاتيحهما ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، فمفردها إقليد ، وجمعها مقاليد على غير قياس ، والإقليد المفتاح . وقيل : واحدها مقليد ، وهو قول غير معروف في اللغة .

وكونه - جل وعلا - له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيحهما ، كناية عن كونه - جل وعلا - هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض ; لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها .

وقد ذكر - جل وعلا - مثل هذا في سورة " الزمر " في قوله - تعالى - : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض الآية [ 39 \ 62 - 63 ] .

وما دلت عليه آية " الشورى " هذه وآية " الزمر " المذكورتان من أنه - جل وعلا - هو مالك خزائن السماوات والأرض ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون [ 63 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

[ ص: 60 ] وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره ، كقوله - تعالى - : أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب [ 38 \ 9 ] . وقوله - تعالى - أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون [ 52 \ 37 ] . وقوله - تعالى - قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 17 \ 100 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر جاء معناه موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له الآية [ 34 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 34 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا الآية [ 13 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما الآية [ 4 \ 135 ] . وقوله - تعالى - : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي ضيق عليه رزقه لقلته . وكذلك قوله : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر في الآيات المذكورة .

أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر ، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه ، كما أوضحناه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] .

وقد بين - جل وعلا - في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه .

وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان ، قد يحمله على البغي والطغيان ، كقوله - تعالى - : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 ] .
قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 61 ] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتفرقوا فيه .

الضمير في قوله : ( فيه ) ، راجع إلى الدين في قوله : ( أن أقيموا الدين ) .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين - جاء مبينا في غير هذا الموضع ، وقد بين - تعالى - أنه وصى خلقه بذلك ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الآية [ 3 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 153 ] . وقد بين - تعالى - في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي ، وهددهم على ذلك ، كقوله - تعالى - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] . لأن قوله : لست منهم في شيء إلى قوله : يفعلون - فيه تهديد عظيم لهم .

وقوله - تعالى - في سورة " قد أفلح المؤمنون " : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 52 - 54 ] .

فقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة أي : إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، ودينكم دين واحد ، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين .

وقوله - جل وعلا - : فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك .

وقوله - تعالى - : فذرهم في غمرتهم حتى حين فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك . ونظير ذلك قوله - تعالى - في سورة " الأنبياء " : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] . فقوله - تعالى - : كل إلينا راجعون فيه أيضا تهديد لهم ووعيد على ذلك ، وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 21 \ 93 ] .

[ ص: 62 ] وقد جاء في الحديث المشهور افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وأن الناجية منها واحدة ، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .

بين - جل وعلا - أنه ( كبر على المشركين ) أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الله - تعالى - وحده ، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ، ولعظم ذلك ومشقته عليهم كانوا يكرهون ما أنزل الله ، ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له ، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها .

والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله ، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - .

فقد بين - تعالى - مشقة ذلك على قوم نوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية [ 10 \ 71 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] .

فقوله - تعالى - : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح ، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به .

وقد بين الله - تعالى - مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] . فقوله - تعالى - : تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية - يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات .

وكقوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] . [ ص: 63 ] وقوله - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 6 - 8 ] . وقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب الآية [ 41 \ 5 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم; لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 24 - 28 ] . فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر من أن يقول للذين كفروا ، الذين يكرهون ما أنزل الله - : سنطيعكم في بعض الأمر ; لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة ، ويكفيه زجرا وردعا عن ذلك قول ربه - تعالى - : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم إلى قوله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
قوله - تعالى - : الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .

الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء .

وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يجتبي من خلقه من يشاء اجتباءه .

وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه ، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير إلى قوله : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 77 - 78 ] .

[ ص: 64 ] وقوله - تعالى - : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] .

وبين في موضع آخر أن منهم آدم ، وهو قوله - تعالى - : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] . وذكر أن منهم إبراهيم في قوله : إن إبراهيم كان أمة إلى قوله شاكرا لأنعمه اجتباه الآية [ 16 \ 120 - 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين .

وقوله - تعالى - : ويهدي إليه من ينيب أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله ، أي يرجع إلى ما يرضيه من الإيمان والطاعة ، ونظير هذه الآية قوله - تعالى - في سورة " الرعد " : قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب [ 13 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم .

تقدمت الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] .
قوله - تعالى - : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسا بالحق الذي هو ضد الباطل ، وقوله : الكتاب اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية .

وقد أوضحنا في سورة " الحج " أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مرادا به الجمع ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : والميزان يعني أن الله - جل وعلا - هو الذي أنزل الميزان ، والمراد به العدل والإنصاف .

وقال بعض أهل العلم : الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة .

ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال ، والمفعال قياسي في اسم الآلة .

وعلى التفسير الأول - وهو أن الميزان العدل والإنصاف - فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه ; لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف .

[ ص: 65 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - تعالى - هو الذي أنزل الكتاب والميزان - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " الحديد " : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .

فصرح - تعالى - بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل والإنصاف . وكقوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 7 - 9 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله - تعالى - أعلم : أن الميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " هو العدل والإنصاف ، كما قاله غير واحد من المفسرين .

وأن الميزان في سورة " الرحمن " هو الميزان المعروف ، أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات .

ومما يدل على ذلك أنه في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " عبر بإنزال الميزان لا بوضعه ، وقال في سورة " الشورى " : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وقال في " الحديد " : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] .

وأما في سورة " الرحمن " فقد عبر بالوضع لا الإنزال ، قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] . ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة ، وذلك في قوله : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 9 ] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال ، كما قال - تعالى - : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم [ 26 \ 181 - 183 ] . وقال - تعالى - : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 1 - 3 ] . وقال - تعالى - عن نبيه شعيب : ولا تنقصوا المكيال والميزان الآية [ 11 \ 84 ] . وقال - تعالى - عنه أيضا : قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان الآية [ 7 \ 85 ] . وقال - تعالى - في سورة " الأنعام " : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] . وقال - تعالى - في سورة " بني [ ص: 66 ] إسرائيل " : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

فإن قيل : قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " - هو العدل والإنصاف ، وأن المراد بالميزان في سورة " الرحمن " هو آلة الوزن المعروفة ، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية ، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان ; لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف .

فالجواب من وجهين : الأول منهما : هو ما قدمنا مرارا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلا للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 1 - 4 ] . فالموصوف واحد والصفات مختلفة ، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم


وأما الوجه الثاني : فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين ، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان .

وإيضاح ذلك : أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية .

وأما الميزان : فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية ، ولكنه معلوم مما صرح به فيها .

فالتأفيف في قوله - تعالى - : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] . من الكتاب ; لأنه مصرح به في الكتاب ، ومنع ضرب الوالدين مثلا المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان ، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله .

وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] من الكتاب الذي أنزله الله ; لأنه مصرح به فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:45 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (470)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 67 إلى صـ 74



[ ص: 67 ] وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية [ 4 \ 10 ] - من الكتاب .

وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه المعروف من ذلك - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته ، والحكم بفسقه المنصوص في قوله : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة إلى قوله إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] - من الكتاب الذي أنزله الله .

وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله ، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن - من الميزان المذكور .

وحلية المرأة التي كانت مبتوتة ، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول ، المنصوص في قوله - تعالى - : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ 2 \ 230 ] أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الدخول وذوق العسيلة - فلا جناح عليهما ، أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة ، والزوج الذي كانت حراما عليه - أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها - من الكتاب الذي أنزل الله .

وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها ، فحليتها للأول الذي كانت حراما عليه - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور ، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة " الأنبياء " في كلامنا الطويل على قوله - تعالى - : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة قريب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] . وفي سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله [ ص: 68 ] - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] . وفي سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] .
قوله - تعالى - : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق .

ذكر - تعالى - في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل : الأولى : أن الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة يستعجلون بها ، أي يطلبون تعجيلها عليهم ، لشدة إنكارهم لها .

والثانية : أن المؤمنين مشفقون منها ، أي خائفون منها .

والثالثة : أنهم يعلمون أنها الحق ، أي أن قيامها ووقوعها حق لا شك فيه .

وكل هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما استعجالهم لها فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وفي غير ذلك من المواضع .

وأما المسألة الثانية التي هي إشفاق المؤمنين وخوفهم من الساعة ، فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [ 21 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [ 24 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] .

وأما المسألة الثالثة وهي علمهم أن الساعة حق ، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لا ريب فيها ; لأنها تتضمن نفي الريب فيها عن المؤمنين .

والريب : الشك ، كقوله - تعالى - عن الراسخين في العلم : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه الآية [ 42 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 69 ] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يمارون ، مضارع مارى يماري مراء ومماراة ، إذا خاصم وجادل .

ومنه قوله - تعالى - : فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا [ 18 \ 22 ] .

وقوله : لفي ضلال بعيد ، أي بعيد عن الحق والصواب .

وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية ، مع الشواهد في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . قد بينا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] - أن جميع الرسل - عليهم الصلوات والسلام - لا يأخذون أجرا على التبليغ ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين تلك الآيات وآية " الشورى " هذه ، فقلنا فيه :

اعلم أولا أن في قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى أربعة أقوال : الأول : ما رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره - أن معنى الآية قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس [ ص: 70 ] بأجر على التبليغ ; لأنه مبذول لكل أحد ; لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس .

وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن يسأل أجرا على التبليغ ; لأنه لم يؤمن .

وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر - تحقق أنه لا يسأل أجرا ، كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب


ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم .

وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير ، وعليه فلا إشكال .

الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي ، واحفظوني فيهم ، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين ، وعليه فلا إشكال أيضا .

لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال - تعالى - : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . وفي الحديث " مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا .

وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين ، تبين أنه غير عوض عن التبليغ .

وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .

فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم .

وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي ، فاحفظوني فيهم .

القول الثالث - وبه قال الحسن - : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى الله ، وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ; لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .

[ ص: 71 ] القول الرابع : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم ، وعليه أيضا فلا إشكال .

لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .

وأما القول بأن قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى - منسوخ بقوله - تعالى - : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] - فهو ضعيف ، والعلم عند الله - تعالى - . انتهى منه .

وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية .

مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية ، فيحسبون أن معنى إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في أهل قرابتي .

وممن ظن ذلك محمد السجاد ; حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك " حم " يعني سورة " الشورى " هذه ، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم ; لأن الله - تعالى - قال في " حم " هذه : إلا المودة في القربى فهو يريد المعنى المذكور ، يظنه هو المراد بالآية ، ولذا قال قاتله في ذلك :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم


وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة " هود " ، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة " المؤمن " ، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما قال البخاري ، أو الأشتر النخعي ، أو عصام بن مقشعر ، أو مدلج بن كعب السعدي ، أو كعب بن مدلج .

وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور - الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :


وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب


والتحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية هو القول الأول إلا المودة في القربى [ ص: 72 ] أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما هو شأن أهل القرابات .
قوله - تعالى - : ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . الاقتراف معناه الاكتساب ، أي من يعمل حسنة من الحسنات ويكتسبها - نزد له فيها حسنا ، أي نضاعفها له .

فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها ، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله - تعالى - كقوله - تعالى - : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] . وقوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ 2 \ 245 ] . وقوله - تعالى - : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] . فكونه خيرا وأعظم أجرا زيادة في حسنه ، كما لا يخفى . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .

بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة أنه هو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، وقد جاء ذلك موضحا في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم [ 9 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 66 \ 8 ] . وقوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا معنى التوبة وأركانها وإزالة ما في أركانها من الإشكال في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [ 24 \ 31 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ينزل ما يشاء تنزيله من الأرزاق وغيرها [ ص: 73 ] بقدر ، أي بمقدار معلوم عنده - جل وعلا - وهو - جل وعلا - أعلم بالحكمة والمصلحة في مقدار كل ما ينزله . وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وما أنتم بمعجزين في الأرض الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار الآية [ 24 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام .

قوله : ( ومن آياته ) أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده - الجواري وهي السفن ، واحدتها جارية ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] يعني سفينة نوح ، وسميت جارية لأنها تجري في البحر .

وقوله : ( كالأعلام ) ، أي كالجبال ، شبه السفن بالجبال لعظمها .

وعن مجاهد أن الأعلام القصور ، وعن الخليل أن كل مرتفع تسميه العرب علما ، وجمع العلم أعلام .

وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة ، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا :
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر من آياته - تعالى - الدالة على كمال قدرته - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين [ 36 \ 41 - 44 ] . وقوله - تعالى - : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ 29 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقوله - تعالى - في سورة " النحل " : وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله الآية [ 19 \ 14 ] . وقوله في " فاطر " : [ ص: 74 ] وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله الآية [ 35 \ 12 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو ( الجواري ) بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط دون الوقف ، وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معا ، وقرأه الباقون ( الجوار ) بحذف الياء في الوصل والوقف معا .
قوله - تعالى - : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .

قرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ( كبير الإثم ) ، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد .

وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع .

وقوله : والذين في محل جر عطفا على قوله : وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي وخير وأبقى أيضا للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .

والفواحش جمع فاحشة . والتحقيق - إن شاء الله - أن الفواحش من جملة الكبائر .

والأظهر أنها من أشنعها; لأن الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح ، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه .

ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد


فقوله : الفاحش ، أي المبالغ في البخل المتناهي فيه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده - تعالى - الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبين - تعالى - في سورة " النساء " أن من ذلك تكفيره - تعالى - عنهم سيئاتهم ، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة ، في قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ 4 \ 31 ] . وبين في سورة " النجم " أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش - يصدق عليهم اسم المحسنين ، ووعدهم على ذلك بالحسنى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 03-02-2023 11:48 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (471)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 75 إلى صـ 82



[ ص: 75 ] والأظهر أنها الجنة ، ويدل له حديث " الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم " في تفسير قوله - تعالى - : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] كما قدمناه .

وآية " النجم " المذكورة هي قوله - تعالى - : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] . ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 23 ] .

وأظهر الأقوال في قوله : ( إلا اللمم ) - أن المراد باللمم صغائر الذنوب ، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله : ( إلا اللمم ) منقطع; لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش ، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] .

وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل ، قالوا : وعليه فمعنى ( إلا اللمم ) إلا أن يلم بفاحشة مرة ، ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك .

واستدلوا لذلك بقول الراجز :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما


وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعا . وفي صحته مرفوعا نظر .

[ ص: 76 ] وقال بعض العلماء : المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي قبل الدخول في الإسلام . ولا يخفى بعده .

وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية " النساء " المذكورة عليه ، وحديث ابن عباس المتفق عليه .

واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين ، وقد جاء تعيين بعضها ، كالسبع الموبقات ، أي المهلكات لعظمها ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنها : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .

وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعيين بعض الكبائر كعقوق الوالدين ، واستحلال حرمة بيت الله الحرام ، والرجوع إلى البادية بعد الهجرة ، وشرب الخمر ، واليمين الغموس ، والسرقة ، ومنع فضل الماء ، ومنع فضل الكلإ ، وشهادة الزور .

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ، ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه ، ثم زناه بحليلة جاره . وفي بعضها أيضا " أن من الكبائر تسبب الرجل في سب والديه " . وفي بعضها أيضا " أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " . وذلك يدل على أنهما من الكبائر .

وفي بعض الروايات " أن من الكبائر الوقوع في عرض المسلم ، والسبتين بالسبة " .

وفي بعض الروايات " أن منها جمع الصلاتين من غير عذر " .

وفي بعضها " أن منها اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " . ويدل عليهما قوله - تعالى - : إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] . وقوله : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] .

وفي بعضها " أن منها سوء الظن بالله " . ويدل له قوله - تعالى - : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ 48 \ 6 ] .

وفي بعضها " أن منها الإضرار في الوصية " .

[ ص: 77 ] وفي بعضها " أن منها الغلول " . ويدل له قوله - تعالى - : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [ 3 \ 161 ] . وقدمنا معنى الغلول في سورة " الأنفال " ، وذكرنا حكم الغال .

وفي بعضها " أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " . ويدل له قوله - تعالى - : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ 3 \ 77 ] . ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة ، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر ، لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة ; فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حدا من حدود الله .

وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .

واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين .

وعن ابن عباس أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع . وعنه أيضا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع ، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضي انحصارها في ذلك العدد; لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم ، وهو مفهوم لقب ، والحق عدم اعتباره .

ولو قلنا : إنه مفهوم عدد - لكان غير معتبر أيضا; لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق .

وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم .

والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية ، سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، أو كان وجوب الحد فيه ، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده .

[ ص: 78 ] مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة . وقوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . وقوله : إلا اللمم [ 53 \ 32 ] يدل على عدم المساواة ، وأن بعض المعاصي كبائر ، وبعضها صغائر ، والمعروف عند أهل العلم أنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجزاء سيئة سيئة مثلها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية [ 16 \ 126 ] . وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية [ 39 \ 17 - 18 ] .
قوله - تعالى - : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية " النحل " وآية " الزمر " المذكورتين آنفا .
قوله - تعالى - : وترى الظالمين لما رأوا العذاب الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية [ 7 \ 53 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده الآية [ 16 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان - يبين الله - جل وعلا - فيه منته على هذا النبي الكريم ، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك ، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك .

[ ص: 79 ] فقوله : ( ما كنت تدري ما الكتاب ) أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم ، حتى علمتكه ، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي ، حتى علمتكه .

ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة - أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد .

وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة ، منها حديث وفد عبد القيس المشهور ، ومنها حديث : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا . . . " الحديث ، فسمى فيه قيام رمضان إيمانا ، وحديث " الإيمان بضع وسبعون شعبة " ، وفي بعض رواياته " بضع وستون شعبة ، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .

والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان ، فهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ، ولا صوم رمضان ، وما يجوز فيه وما لا يجوز ، ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ، ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك ، وهذا هو المراد بقوله - تعالى - : ولا الإيمان .

وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله - جاء في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] . وقوله - جل وعلا - : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .

فقوله في آية " يوسف " هذه : وإن كنت من قبله لمن الغافلين ، كقوله هنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، وقوله - تعالى - : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء ، الضمير في قوله : ( جعلناه ) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله : روحا من أمرنا . [ ص: 80 ] وقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ، أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا .

وسمي القرآن نورا ; لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك .

وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .

وقوله - تعالى - : واتبعوا النور الذي أنزل معه [ 7 \ 157 ] . وقوله - تعالى - : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] .

وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نورا - يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل ، ويظهر في ضوئه الحق ، ويتميز عن الباطل ، ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح .

فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويمتثل أوامره ، ويجتنب ما نهى عنه ، ويعتبر بقصصه وأمثاله .

والسنة كلها داخلة في العمل به ، لقوله - تعالى - : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .

الصراط المستقيم قد بينه - تعالى - في قوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 6 - 7 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وإنك لتهدي الآية ، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم مع قوله : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .

[ ص: 81 ] والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح ، والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ، ومنه قول جرير :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم

قوله - تعالى - : ألا إلى الله تصير الأمور .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله ، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله [ 11 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 109 - 110 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 82 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .

قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ 26 \ 194 - 195 ] . وَفِي سُورَةِ " الزُّمَرِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .

الضمير في قوله : ( منهم ) عائد إلى القوم المسرفين ، المخاطبين بقوله : : أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 5 ] . وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة .

وقوله : أشد منهم مفعول به لـ ( أهلكنا ) ، وأصله نعت لمحذوف ، والتقدير فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا ، على حد قوله في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل


وقوله : ( بطشا ) تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة : والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلا منزلا

والبطش : أصله الأخذ بعنف وشدة .

والمعنى : فأهلكنا قوما أشد بطشا من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم ، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشا ، أي أكثر منهم عددا وعددا وجلدا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:09 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (472)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 83 إلى صـ 90


[ ص: 83 ] فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل .

وقول من قال : مثل الأولين أي عقوبتهم وسنتهم - راجع في المعنى إلى ذلك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن الله أهلك من هم أقوى منهم ، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض الآية [ 40 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا إلى قوله : فأهلكناهم بذنوبهم الآية [ 6 \ 6 ] . وقوله - تعالى - : وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير [ 34 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا [ 35 \ 44 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بصفته ، إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 83 - 85 ] . وقوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 84 ] فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ 43 \ 55 - 56 ] .

وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة " المائدة " في الكلام على قوله - تعالى - : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 \ 32 ] .

قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .
قوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون .

قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي مهدا بفتح الميم وسكون الهاء ، وقرأه باقي السبعة مهادا بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد ، وهو الفراش .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه جعل الأرض لبني آدم مهدا أي فراشا ، وأنه جعل لهم فيها سبلا أي طرقا ليمشوا فيها ويسلكوها ، فيصلوا بها من قطر إلى قطر . وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، من كونه - تعالى - جعل الأرض فراشا لبني آدم ، وجعل لهم فيها الطرق لينفذوا من قطر إلى قطر - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا [ 71 \ 19 - 20 ] . وكقوله - تعالى - : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] .

وذكر كون الأرض فراشا لبني آدم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء الآية [ 40 \ 64 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 85 ] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت ، في قوله - تعالى - : كذلك تخرجون - جاء موضحا في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] مع بقية براهين البعث في القرآن . وأوضحنا ذلك أيضا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] . وفي غير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك .

وقد قدمنا في سورة " الفرقان " معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بقدر .

قال بعض العلماء : أي بقدر سابق وقضاء .

وقال بعض العلماء : أي بمقدار يكون به إصلاح البشر ، فلم يكثر الماء جدا فيكون طوفانا فيهلكهم ، ولم يجعله قليلا دون قدر الكفاية ، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة ، كما قال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] .

وقال - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم إلى قوله : وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 21 - 22 ] .
قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها .

الأزواج الأصناف ، والزوج تطلقه العرب على الصنف .

وقد بين - تعالى - أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله .

قال - تعالى - : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .

[ ص: 86 ] وقال - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى [ 20 \ 53 ] .

وقال - تعالى - : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 \ 5 ] . أي من كل صنف حسن من أصناف النبات .

وقال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 \ 10 ] .

ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله - تعالى - : وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 58 ] . وقوله - تعالى - : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 20 \ 131 ] .

وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية [ 37 \ 22 ] .
قوله - تعالى - : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها الآية [ 40 \ 79 ] . وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله : لتستووا على ظهوره ، وقوله : إذا استويتم عليه - راجع إلى لفظ ( ما ) في قوله : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون .
قوله - تعالى - : وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

يعني - جل وعلا - أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن ، ومن الأنعام ليستووا ، أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ، ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ، ثم يقولوا - بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون - : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

وقوله : " سبحان " قد قدمنا في أول سورة " بني إسرائيل " معناه بإيضاح ، وأنه يدل على تنزيه الله - جل وعلا - أكمل التنزيه وأتمه ، عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، والإشارة في قوله : هذا راجعة إلى لفظ ما من قوله : ما تركبون وجمع الظهور نظرا إلى معنى ما ; لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ، ولفظها مفرد ، فالجمع في الآية باعتبار معناها ، والإفراد باعتبار لفظها .

[ ص: 87 ] وقوله : الذي سخر لنا هذا أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن ; لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل ، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك .

وقوله - تعالى - : وما كنا له مقرنين أي مطيقين . والعرب تقول : أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقا له كفؤا للقيام به ، من قولهم : أقرنت الدابة للدابة ، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها ، ولم تكن أضعف منها فتجرها; لأن الضعيف إذا لز في القرن ، أي الحبل ، مع القوي - جره ولم يقدر على مقاومته ، كما قال جرير :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معديكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا

وقول ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر


وقول الآخر :
ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه - جاء مبينا في آيات أخر; قال - تعالى - في ركوب الفلك : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] . وقال - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وقال - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله الآية [ 45 \ 12 ] . وقال - تعالى - : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار [ ص: 88 ] الآية [ 14 \ 32 ] . وقال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية [ 2 \ 164 ] . وقال - تعالى - : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقال - تعالى - في تسخير الأنعام : وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 72 ] . وقال - تعالى - : فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [ 22 \ 36 - 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلوا له من عباده جزءا .

قال بعض العلماء : جزءا أي عدلا ونظيرا ، يعني الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله .

وقال بعض العلماء : جزءا أي ولدا .

وقال بعض العلماء : جزءا يعني البنات .

وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء النصيب ، واستشهد على ذلك بآية " الأنعام " ، أعني قوله - تعالى - : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن قول ابن كثير هذا - رحمه الله - غير صواب في الآية ; لأن المجعول لله في آية " الأنعام " هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام ، والمجعول له في آية " الزخرف " هذه جزء من عباده لا مما ذرأ من الحرث والأنعام .

وبين الأمرين فرق واضح كما ترى .

وأن قول قتادة ومن وافقه : إن المراد بالجزء العدل والنظير الذي هو الشريك - غير صواب أيضا; لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب .

أما كون المراد بالجزاء في الآية الولد ، وكون المراد بالولد خصوص الإناث - فهذا هو التحقيق في الآية .

[ ص: 89 ] وإطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين : أحدهما : ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مرادا به البنات ، ويقولون : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات ، وامرأة مجزئة ، أي تلد البنات ، قالوا ومنه قول الشاعر :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزيء الحرة المذكار أحيانا

وقول الآخر :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل

وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلا : إنها كذب وافتراء على العرب .

قال في الكشاف في الكلام على هذه الآية الكريمة : ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه ( أجزأت المرأة ) ثم صنعوا بيتا وبيتا :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئـة


ا هـ . منه بلفظه .

وقال ابن منظور في اللسان : وفي التنزيل العزيز : وجعلوا له من عباده جزءا . قال أبو إسحاق : يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات الله ، تعالى وتقدس عما افتروا ، قال : وقد أنشدت بيتا يدل على أن معنى جزءا معنى الإناث ; قال - ولا أدري البيت هو قديم أو مصنوع - :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
البيت .

والمعنى في قوله : وجعلوا له من عباده جزءا ، أي جعلوا نصيب الله من الولد [ ص: 90 ] الإناث ، قال ولم أجده في شعر قديم ولا رواه عن العرب الثقات ، وأجزأت المرأة ولدت الإناث ، وأنشد أبو حنيفة :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
البيت .

انتهى الغرض من كلام صاحب اللسان .

وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم : أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث - معروف ; ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له .

والوجه الثاني : وهو التحقيق - إن شاء الله - أن المراد بالجزء في الآية الولد ، وأنه أطلق عليه اسم الجزء ; لأن الفرع كأنه جزء من أصله ، والولد كأنه بضعة من الوالد ، كما لا يخفى .

وأما كون المراد بالولد المعبر عنه بالجزء في الآية - خصوص الإناث ، فقرينة السياق دالة عليه دلالة واضحة ; لأن جعل الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكارا شديدا ، وقرع مرتكبه تقريعا شديدا في قوله - تعالى - بعده : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا إلى قوله : وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 16 - 18 ] .

وقرأ هذا الحرف شعبة عن عاصم جزءا بضم الزاي ، وباقي السبعة بإسكانها ، وحمزة عند الوقف يسقط الهمزة بنقل حركتها إلى الزاي مع حذف التنوين للوقف .
قوله - تعالى - : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين .

( أم ) هنا بمعنى استفهام الإنكار ; فالكفار لما قالوا : الملائكة بنات الله - أنكر الله عليهم أشد الإنكار ، موبخا لهم أشد التوبيخ ; حيث افتروا عليه الولد ، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما ، وهو الأنثى ، كما قال هنا : أم اتخذ مما يخلق بنات ، وهي النصيب الأدنى من الأولاد ، ( وأصفاكم ) أنتم ، أي خصكم وآثركم ( بالبنين ) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:12 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (473)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 91 إلى صـ 98


وإنكار هذا عليهم وتوبيخهم عليه - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله هنا : [ ص: 91 ] وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ 43 \ 17 ] . يعني الأنثى ، كما أوضحه بقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 \ 58 ] يعني فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسودا ، يعني من الكآبة ، وهو كظيم ، أي ممتلئ حزنا وغما ، وكقوله - تعالى - هنا : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ففيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم عليه - جل وعلا - الولد جعلوا له أنقص الولدين ، الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية - من الحلي ، والحلل وأنواع الزينة - من صغره إلى كبره; ليجبر بتلك الزينة نقصه الخلقي الطبيعي ، وهو في الخصام غير مبين ; لأن الأنثى غالبا لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها .

وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية غاية الإيضاح في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وكقوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 149 - 157 ] .

وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلا لله في قوله : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا الآية [ 43 \ 17 ] - ظاهر ; لأن البنات المزعومة يلزم ادعاؤها أن تكون من جنس من نسبت إليه ; لأن الوالد والولد من جنس واحد ، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته .
قوله - تعالى - : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .

[ ص: 92 ] قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بسكون النون وفتح الدال ، ظرف ، كقوله - تعالى - : إن الذين عند ربك لا يستكبرون [ 7 \ 206 ] . وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي الذين هم عباد الرحمن بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال ، جمع عبد ، كقوله : وعباد الرحمن الآية [ 25 \ 63 ] .

وقوله : أشهدوا خلقهم . قرأه عامة السبعة غير نافع ( أشهدوا ) بهمزة واحدة مع فتح الشين ، وقرأه نافع ( أأشهدوا ) . بهمزتين الأولى مفتوحة محققة ، والثانية مضمومة مسهلة بين بين ، وقالوا : يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أربع مسائل : الأولى : أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث ، زاعمين أنهم بنات الله .

الثانية : أنه وبخهم على ذلك توبيخا شديدا وأنكر عليهم ذلك في قوله : أشهدوا خلقهم يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثا .

الثالثة : أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم .

الرابعة : أنهم يسألون عنها يوم القيامة .

وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما الأولى منها . وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثا ، فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه كقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وكقوله - تعالى - : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى الآية [ 53 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا الآية [ 37 \ 149 - 150 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما المسألة الثانية ، وهي سؤاله - تعالى - لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع : [ ص: 93 ] هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه حتى علموا أنهم خلقوا إناثا ؟ فقد ذكرها في قوله - تعالى - : أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون [ 37 \ 150 ] . وبين - تعالى - أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم الآية [ 18 \ 51 ] .

وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم - فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] . وقوله - تعالى - : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] . وقوله - تعالى - : إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك الآية [ 17 \ 13 ، 14 ] . وقوله - تعالى - : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] .

وأما المسألة الرابعة : وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر ، فقد ذكرها - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون [ 43 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ 16 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .

في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا ، أعني قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] - هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح ; لأن الله لو شاء أن لا يعبدوهم ما عبدوهم ، كما قال - تعالى - : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . وقال - تعالى - : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية [ ص: 94 ] [ 32 \ 13 ] . وقال - تعالى - : فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .

وهذا الإشكال المذكور في آية " الزخرف " هو بعينه واقع في آية " الأنعام " ، وآية " النحل " .

أما آية " الأنعام " فهي قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية [ 6 \ 148 ] .

وأما آية " النحل " فهي قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا الآية [ 16 \ 35 ] .

فإذا عرفت أن ظاهر آية " الزخرف " وآية " الأنعام " وآية " النحل " - أن ما قاله الكفار حق ، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئا ، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريبا - فاعلم أن وجه الإشكال ، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق ، قال في آية " الزخرف " : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] . أي يكذبون ، وقال في آية " الأنعام " : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] . وقال في آية " النحل " : كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [ 16 \ 35 ] .

ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم هو الكفر بالله ، والكذب على الله في جعل الشركاء له ، وأنه حرم ما لم يحرمه .

والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، وقولهم : لو شاء الله ما أشركنا [ 6 \ 148 ] - مرادهم به أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك ، وهدايتهم إلى الإيمان ، ولم يمنعهم من الشرك - دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم .

[ ص: 95 ] قالوا : لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه ، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به ، والله - جل وعلا - يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة ، وفي قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] .

فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى ، وهو زعم باطل ، وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة .

وقد أشار - تعالى - إلى هذه الآيات المذكورة ، حيث قال في آية " الزخرف " : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] . أي آتيناهم كتابا يدل على أنا راضون منهم بذلك الكفر ، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبينا أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى ، وذلك في قوله : بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 22 ] . أي شريعة وملة ، وهي الكفر وعبادة الأوثان وإنا على آثارهم مهتدون [ 43 \ 22 ] .

فقوله عنهم : ( مهتدون ) وهو مصب التكذيب ; لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال .

فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى ، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريبا - إن شاء الله - .

وقال - تعالى - في آية " النحل " بعد ذكره دعواهم المذكورة : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [ 16 \ 36 ] .

فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضيا بكفرهم ، وأنه بعث في كل أمة رسولا ، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ، ويجتنبوا الطاغوت ، أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه .

وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده ، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة ، أي ثبت عليه الكفر والشقاء .

وقال - تعالى - في آية " الأنعام " : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

[ ص: 96 ] فملكه - تعالى - وحده للتوفيق والهداية ، هو الحجة البالغة على خلقه ، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق ، فهو فضل منا ورحمة .

ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة ; لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ، ولا واجبا مستحقا يستحقه علينا ، بل إن أعطينا ذلك ففضل ، وإن لم نعطه فعدل .

وحاصل هذا أن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق ، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة ، فريق في الجنة وفريق في السعير .

وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا ، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك .

ثم إنه - تعالى - وفق من شاء توفيقه ، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي ، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر ، وصرف قدرتهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة ، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء .

فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا ، طائعين مختارين ، غير مجبورين ولا مقهورين وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء .

ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، كحركة المرتعش - فرقا ضروريا ، لا ينكره عاقل .

وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون ، وفقأت عينه مثلا ، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر ، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك ، بل هو فعل الله ، وأنا لا دخل فيه ، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك .

بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا : إن هذا بإرادتك ومشيئتك .

[ ص: 97 ] ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية ، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته - أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر .

وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى .

وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا ، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه ، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتصير علم الله جهلا ، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟

والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . وقال الله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك ، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه ، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا مجبور ، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته ، كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله .

والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا .

وهي أن عبد الجبار قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله ; لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته .

فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل .

ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء .

فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه .

فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ، آنت الرب وهو العبد ؟

[ ص: 98 ] فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى ، وقضى علي بالرديء ، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟

فقال أبو إسحاق : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه - فقد ظلمك ، وقد أساء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .

ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار ، هو معنى قوله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت ، وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه .

فقال عمرو ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها; لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا .

فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا ، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه . فألقمه حجرا .

وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام عن آية " الأنعام " المذكورة في هذا البحث ، وفي سورة " الشمس " في الكلام عن قوله - تعالى - : فألهمها فجورها وتقواها .
قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون .

( أم ) هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار ، يعني - جل وعلا - أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان ، وجعلهم الملائكة بنات الله - لا دليل لهم عليه ; ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتابا يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله ، فأنكر عليهم هذا هنا إنكارا دالا على النفي للتمسك بالكتاب المذكور ، مع التوبيخ والتقريع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:15 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (474)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 99 إلى صـ 106



وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله ، ولا كتاب أنزله الله بذلك - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله - تعالى - في سورة " فاطر " : [ ص: 99 ] قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه الآية [ 35 \ 40 ] .

وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] .

وقوله - تعالى - في " الروم " : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] .

وقوله - تعالى - في " الصافات " : أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 156 - 157 ] .

وقوله - تعالى - في " النمل " : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .

وقوله - تعالى - في " الحج " و " لقمان " : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [ 22 \ 8 ] و [ 31 \ 20 ] .

وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .

وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها [ 6 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .

[ ص: 100 ] قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم : ( قل أولو جئتكم ) بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر .

وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم ( قال أولو جئتكم ) بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي .

فعلى قراءة الجمهور فالمعنى : قل لهم يا نبي الله : أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال ، ولو جئتكم بأهدى ، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف ; لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلا .

وعلى قراءة ابن عامر وحفص فالمعنى : قال هو : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مرارا في هذا الكتاب المبارك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] . وكقوله - تعالى - في " المائدة " : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] .

وأوضح - تعالى - في آية " لقمان " أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير ، وذلك في قوله - تعالى - : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] . كقوله - تعالى - : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون [ 37 \ 69 - 70 ] . وقوله - تعالى - : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [ 21 \ 51 - 54 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

[ ص: 101 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - قال لأبيه وقومه : إنه براء ، أي بريء ، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله ، أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود ، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده ، فهو وحده معبوده .

وقد أوضح - تعالى - هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - : قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين الآية [ 26 \ 57 - 78 ] . وكقوله - تعالى - : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [ 6 \ 78 - 79 ] .

وزاد - جل وعلا - في سورة " الممتحنة " براءته أيضا من العابدين ، وعداوته لهم ، وبغضه لهم في الله ، وذلك في قوله - تعالى - : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [ 60 \ 4 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإنه سيهدين ذكر نحوه في قوله : الذي خلقني فهو يهدين [ 26 \ 78 ] . وقوله - تعالى - : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني أي خلقني - يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق وحده - جل وعلا - .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] . وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] . وقوله - تعالى - : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 102 ] أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 2 - 3 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

الضمير المنصوب في ( جعلها ) على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله ، المذكورة في قوله : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني [ 43 \ 26 - 27 ] . لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات .

وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إنني براء مما تعبدون .

ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله .

وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

وضمير الفاعل المستتر في قوله : وجعلها .

قال بعضهم : هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق .

وقال بعضهم : هو راجع إلى الله - تعالى - .

فعلى القول الأول فالمعنى صير إبراهيم تلك الكلمة ( باقية في عقبه ) أي ولده وولد ولده .

وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم ، لأنه تسبب لذلك بأمرين : أحدهما : وصيته لأولاده بذلك ، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه ، فيوصي به السلف منهم الخلف ، كما أشار - تعالى - إلى ذلك بقوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين الآية [ 2 \ 130 - 132 ] [ ص: 103 ]

والأمر الثاني هو سؤاله ربه - تعالى - لذريته الإيمان والصلاح ، كقوله - تعالى - وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي [ 2 \ 124 ] . أي واجعل من ذريتي أيضا أئمة ، وقوله - تعالى - عنه : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وقوله عنه : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] . وقوله عنه هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك إلى قوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم [ 2 \ 129 ] .

وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

ولذا جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا دعوة إبراهيم " .

وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته ، كما قال - تعالى - في سورة " العنكبوت " : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وقال عنه وعن نوح في سورة " الحديد " : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الآية [ 57 \ 26 ] .

وعلى القول الثاني أن الضمير عائد إلى الله - تعالى - فلا إشكال .

وقد بين - تعالى - في آية " الزخرف " هذه أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته ، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه ; لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - من عقبه بإجماع العلماء ، وقد كذبوه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إنه ساحر . وكثير منهم مات على ذلك . وذلك في قوله - تعالى - : بل متعت هؤلاء يعني كفار مكة وآباءهم ، حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

وما دلت عليه آية " الزخرف " هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : [ ص: 104 ] قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] . أي الظالمين من ذرية إبراهيم .

وقوله - تعالى - في " الصافات " : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] .

فالمحسن منهم هو الذي الكلمة باقية فيه ، والظالم لنفسه المبين منهم ليس كذلك .

وقوله - تعالى - في " النساء " : فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا .

وقد بين - تعالى - في " الحديد " أن غير المهتدين منهم كثيرون ، وذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 26 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لعلهم يرجعون أي جعل الكلمة باقية فيهم; لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم ; لأن الحق ما دام قائما في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول ، كما دل عليه قوله : لعلهم يرجعون .

والرجاء المذكور بالنسبة إلى بني آدم ; لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ، ومن يصير إلى الضلال .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ، وفي الكلام تقديم وتأخير .

والمعنى ( فإنه سيهدين ) ، ( لعلهم يرجعون ) ، ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) ، أي قال لهم ، يتوبون عن عبادة غير الله . ا هـ منه .

وإيضاح كلامه أن المعنى أن إبراهيم قال لأبيه وقومه : ( إنني براء مما تعبدون ) لأجل أن يرجعوا عن الكفر إلى الحق .

والضمير في قوله : ( لعلهم يرجعون ) على هذا راجع إلى أبيه وقومه .

[ ص: 105 ] وعلى ما ذكرناه أولا فالضمير راجع إلى من ضل من عقبه ; لأن الضالين منهم داخلون في لفظ العقب .

فرجوع ضميرهم إلى العقب لا إشكال فيه ، وهذا القول هو ظاهر السياق ، والعلم عند الله - تعالى - .
مسألة

ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على اتحاد معنى العقب والذرية والبنين ; لأنه قال في بعضها عن إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] .

وقال عنه في بعضها : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وفي بعضها : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة الآية [ 14 \ 37 ] . وفي بعضها قال : ومن ذريتي ، وفي بعضها : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وفي بعضها : وجعلها كلمة باقية في عقبه .

فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد ; لأن جميعها في شيء واحد . وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفا أو تصدق صدقة على بنيه أو ذريته أو عقبه - أن حكم ذلك واحد .

وقد دل بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم الذرية واسم البنين .

وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين ، والفرض أن العقب بمعناهما - دل ذلك على دخول أولاد البنات في العقب أيضا ، فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله - تعالى - : ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : وعيسى وإلياس [ 6 \ 84 - 85 ] . وهذا نص قرآني صريح في دخول ولد البنت في اسم الذرية ; لأن عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ولد بنت ، إذ لا أب له .

ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة - شامل لبنات البنات وبنات بناتهن ، وهذا لا نزاع فيه بين [ ص: 106 ] المسلمين ، وهو نص قرآني صحيح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن .

فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب ، هو ظاهر القرآن ، ولا ينبغي العدول عنه .

وكلام فقهاء الأمصار من الأئمة الأربعة وغيرهم في الألفاظ المذكورة معروف ، ومن أراد الاطلاع عليه فلينظر كتب فروع المذاهب ، ولم نبسط على ذلك الكلام هنا ; لأننا نريد أن نذكر هنا ما يدل ظاهر القرآن على ترجيحه من ذلك فقط .

أما لفظ الولد فإن القرآن يدل على أن أولاد البنات لا يدخلون فيه .

وذلك في قوله - تعالى - : يوصيكم الله في أولادكم الآية [ 4 \ 11 ] . فإن قوله : ( في أولادكم ) لا يدخل فيه أولاد البنات ، وذلك لا نزاع فيه بين المسلمين ، وهو نص صريح قرآني على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد .

وإن كان جماهير العلماء على أن العقب والولد سواء .

ولا شك أن اتباع القرآن هو المتعين على كل مسلم .

أما لفظ النسل فظاهر القرآن شموله لأولاد البنات ; لأن قوله - تعالى - : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 \ 6 - 8 ] - ظاهر في أن لفظة النسل في الآية شاملة لأولاد البنات ، كما لا يخفى .

والألفاظ التي يتكلم عليها العلماء في هذا المبحث هي أحد عشر لفظا ذكرنا خمسة منها وهي : الذرية والبنون والعقب والولد والنسل . وذكرنا أن أربعة منها يدل ظاهر القرآن على أنها يدخل فيها أولاد البنات ، وواحد بخلاف ذلك وهو الولد .

وأما الستة الباقية منها فهي : الآل والأهل ، ومعناهما واحد .

والقرابة والعشيرة والقوم والموالي ، وكلام العلماء فيها مضطرب .

ولم يحضرني الآن تحديد يتميز به ما يدخل في كل واحد منها وما يخرج عنه ، إلا على سبيل التقريب ، إلا لفظين منها وهما القرابة والعشيرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg



ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:18 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (475)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 107 إلى صـ 114




أما القرابة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - " أنه أعطى من خمس خيبر بني هاشم وبني [ ص: 107 ] المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل " ، مبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ 8 \ 41 ] . كما تقدم إيضاحه في سورة " الأنفال " في الكلام على آية الخمس هذه .

وأما العشيرة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس أنه لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] - صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ، فجعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي " لبطون قريش حتى اجتمعوا ، الحديث . وفيه تحديد العشيرة الأقربين بجميع بني فهر بن مالك ، وهو الجد العاشر له - صلى الله عليه وسلم - .

وفي رواية أبي هريرة في الصحيح أنه لما نزلت الآية المذكورة قال : " يا معشر قريش " أو كلمة نحوها ، الحديث ، وقريش هم أولاد فهر بن مالك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . والأول هو الأظهر لحديث ابن عباس المذكور ، وعليه الأكثر .
تنبيه

[ فإن قيل ] : ذكرتم أن ظاهر القرآن يدل على دخول أولاد البنات في لفظ البنين ، والشاعر يقول في خلاف ذلك :
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكثير من أهل الفقه يذكرون البيت المذكور على سبيل التسليم له ، قالوا : ومما يوضح صدقه أنهم ينسبون إلى رجال آخرين ، ربما كانوا أعداء لأهل أمهاتهم ، وكثيرا ما يتبع الولد أباه وعصبته في عداوة أخواله وبغضهم ، كما هو معلوم .

[ فالجواب ] أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ] ( فالجواب ) أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . وكقوله - تعالى - : [ ص: 108 ] لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن الآية [ 33 \ 55 ] .

فلفظ البنات والأبناء في جميع الآيات المذكورة شامل لجميع أولاد البنين والبنات وإن سفلوا ، وإنما شملهم من الجهة المذكورة بالاعتبار المذكور ، وهو إطلاق لفظ الابن على كل من خرج من الشخص في الجملة ، ولو بواسطة بناته .

وأما البيت المذكور فالمراد به الجهة الأولى والاعتبار الأول .

فإن بني البنات ليسوا أبناء لآباء أمهاتهم من تلك الجهة ، ولا بذلك الاعتبار ; لأنهم لم يخلقوا من مائهم ، وإنما خلقوا من ماء رجال آخرين ، ربما كانوا أباعد ، وربما كانوا أعداء .

فصح بهذا الاعتبار نفي البنوة عن ابن البنت .

وصح بالاعتبار الأول إثبات البنوة له ، ولا تناقض مع انفكاك الجهة .

وإذا عرفت معنى الجهتين المذكورتين وأنه بالنظر إلى إحداهما تثبت البنوة لابن البنت ، وبالنظر إلى الأخرى تنتفي عنه .

فاعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن ابني هذا سيد " ، وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . ونحوها من الآيات ينزل على إحدى الجهتين .

وقوله - تعالى - : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ 33 \ 40 ] - يتنزل على الجهة الأخرى . وتلك الجهة هي التي يعني الشاعر بقوله : وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ويزيد ذلك إيضاحا أن قبائل العرب قد تكون بينهم حروب ومقاتلات ، فيكون ذلك القتال بين أعمام الرجل وأخواله ، فيكون مع عصبته دائما على أخواله ، كما في البيت المذكور .

وقد يكون الرجل منهم في أخواله فيعاملونه معاملة دون معاملتهم لأبنائهم .

كما أوضح ذلك غسان بن وعلة في شعره حيث يقول :
إذا كنت في سعد وأمك منهم شطيرا فلا يغررك خالك من سعد
[ ص: 109 ] فإن ابن أخت القوم مصغي إناؤه إذا لم يزاحم خاله بأب جلد

فقوله : مصغي إناؤه من الإصغاء وهو الإمالة ; لأن الإناء إذا أميل ولم يترك معتدلا لم يتسع إلا للقليل ، فهو كناية عن نقص نصيبه فيهم وقلته .

وعلى الجهتين المذكورتين يتنزل اختلاف الصحابة في ميراث الجد والإخوة .

فمن رأى منهم أنه أب يحجب الإخوة ، فقد راعى في الجد إحدى الجهتين .

ومن رأى منهم أنه ليس بأب وأنه لا يحجب الإخوة ، فقد لاحظ الجهة الأخرى .

ولم نطل الكلام هنا في جميع الألفاظ المذكورة التي هي أحد عشر لفظا خوف الإطالة ، ولأننا لم نجد نصوصا من الوحي تحدد شيئا منها تحديدا دقيقا .

ومعلوم أن لفظ القوم منها قد دل القرآن على أنه يختص بالذكور دون الإناث .

وأن الإناث قد يدخلن فيه بحكم التبع إذا اقترن بما يدل على ذلك .

لأن الله - تعالى - قال : لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء الآية [ 49 \ 11 ] . فعطفه النساء على القوم يدل على عدم دخولهن في لفظ القوم .

ونظيره من كلام العرب قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

وأما دخول النساء في القوم بحكم التبع عند الاقتران بما يدل على ذلك - فقد بينه قوله - تعالى - في ملكةسبإ : وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [ 27 \ 43 ] .

وأما الموالي فقد دل القرآن واللغة على أن المولى يطلق على كل من له سبب يوالي ويوالى به .

ولذا أطلق على الله أنه مولى المؤمنين ; لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء .

ونفى ولاية الطاعة عن الكافرين في قوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] .

[ ص: 110 ] وأثبت له عليهم ولاية الملك والقهر في قوله - تعالى - : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] . كما أثبت لهم ولاية النار في قوله : مأواكم النار هي مولاكم الآية [ 57 \ 15 ] .

وأطلق - تعالى - اسم الموالي على العصبة في قوله - تعالى - : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون [ 4 \ 33 ] .

وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله - تعالى - : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا [ 44 \ 41 ] .

ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب : مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تظهرن لنا ما كان مدفونا

وقول طرفة بن العبد :
وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل

والحاصل أن من قال : هذا وقف ، أو صدقة على قومي ، أو موالي - أنه إن كان هناك عرف خاص ، وجب اتباعه في ذلك ، وإن لم يكن هناك عرف فلا نعلم نصا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدا دقيقا .

وكلام أهل العلم فيه معروف في محاله .

والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون .

( وقالوا ) أي قال كفار مكة : ( لولا ) أي هلا ( نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ) أي من إحدى القريتين ، وهما مكة والطائف ( عظيم ) يعنون بعظمه كثرة ماله وعظم جاهه ، وعلو منزلته في قومه ، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن [ ص: 111 ] المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف .

وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود ، وقيل : حبيب بن عمرو بن عمير ، وقيل : هو كنانة بن عبد ياليل ، وقيل غير ذلك .

وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولا أن يبعث الله رسولا من البشر ، كما أوضحناه مرارا .

ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر ، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين .

وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ; حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجبا لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي .

ولذا زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس أهلا لإنزال هذا القرآن عليه ، لقلة ماله ، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - .

وقد بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ، بقوله : أهم يقسمون رحمة ربك . والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي .

وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن ، كقوله - تعالى - في " الدخان " : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 5 - 6 ] . وقوله في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] . وقوله في آخر " الأنبياء " : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقد قدمنا الآيات الدالة على إطلاق الرحمة والعلم على النبوة في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] .

[ ص: 112 ] وقدمنا معاني إطلاق الرحمة في القرآن في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات يعني أنه - تعالى - لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا ، بل تولى هو - جل وعلا - قسمة ذلك بينهم ، فجعل هذا غنيا وهذا فقيرا ، وهذا رفيعا وهذا وضيعا ، وهذا خادما وهذا مخدوما ، ونحو ذلك ، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ، ولم يحكمهم فيها ، بل كان - تعالى - هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء ، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا فيمن ينزل إليه الوحي ؟

فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] التحقيق - إن شاء الله - أنه من التسخير .

ومعنى تسخير بعضهم لبعض - خدمة بعضهم البعض ، وعمل بعضهم لبعض ; لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك ، فمن حكمته - جل وعلا - أن يجعل هذا فقيرا مع كونه قويا قادرا على العمل ، ويجعل هذا ضعيفا لا يقدر على العمل بنفسه ، ولكنه - تعالى - يهيئ له دراهم يؤجر بها ذلك الفقير القوي ، فينتفع القوي بدراهم الضعيف ، والضعيف بعمل القوي ; فتنتظم المعيشة لكل منهما ، وهكذا .

وهذه المسائل التي ذكرها الله - جل وعلا - في هذه السورة الكريمة - جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله .

أما زعمهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنقص شرفا وقدرا من أن ينزل عليه الوحي ، فقد ذكره الله عنهم في " ص " في قوله - تعالى - : أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري الآية [ 38 \ 8 ] .

فقول كفار مكة : أؤنزل عليه الذكر من بيننا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم ، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه ، لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم .

[ ص: 113 ] وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح ، كما قال - تعالى - عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] .

فقلوب الكفار متشابهة ، فكانت أعمالهم متشابهة .

كما قال - تعالى - : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] . وقال - تعالى - : أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 53 ] .

وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم ، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم - فقد ذكره - تعالى - في سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] . وقوله - تعالى - في " المدثر " : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ 74 \ 52 ] . أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء ، كما قاله مجاهد وغير واحد ، وهو ظاهر القرآن .

وفي الآية قول آخر معروف .

وأما إنكاره - تعالى - اقتراح إنزال الوحي على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله : أهم يقسمون رحمة ربك - فقد أشار - تعالى - إليه مع الوعيد الشديد في " الأنعام " ; لأنه - تعالى - لما قال : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] أتبع ذلك بقوله ردا عليهم وإنكارا لمقالتهم : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] .

ثم أوعدهم على ذلك بقوله : سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] .

وأما كونه - تعالى - هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم - فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ ص: 114 ] [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [ 4 \ 135 ] .

وقد أوضح - تعالى - حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ ، والقوة والضعف ، ونحو ذلك - بقوله هنا : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا كما تقدم .

وقوله - تعالى - هنا : ورحمة ربك خير مما يجمعون ، يعني أن النبوة والاهتداء بهدى الأنبياء ، وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها .

وقد أشار الله - تعالى - إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " يونس " : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ 10 \ 85 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون [ 3 \ 157 ] .
مسألة

دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا ، كقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ونحو ذلك من الآيات - على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها ، بوجه من الوجوه فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] .

وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية - إلى ابتزاز ثروات الناس ، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم - أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال .

مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا ، تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:20 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (476)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 115 إلى صـ 122



[ ص: 115 ] فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها - هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد ، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .

وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني ، وقد نهى - جل وعلا - عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك ، بقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] .

وقوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك .
قوله - تعالى - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين .

قوله : ( لبيوتهم ) في الموضعين ، قرأه ورش وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - بضم الباء على الأصل .

وقرأه قالون عن نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم : لبيوتهم بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء .

وقوله : ( سقفا ) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم - سقفا بضمتين على الجمع .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : سقفا بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع .

وقوله : وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي : لما متاع الحياة الدنيا بتخفيف الميم من ( لما ) .

وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر ، وفي إحدى الروايتين : لما متاع الحياة الدنيا بتشديد الميم من ( لما ) .

[ ص: 116 ] ومعنى الآية الكريمة أن الله لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله : ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 \ 32 ] - أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها ، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين ، وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصا بالمؤمنين دون الكافرين ، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر ، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار .

ولكننا لعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها ، لو أعطينا ذلك كله للكفار لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفارا ، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنيا وفقيرا ، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا .

ثم بين - جل وعلا - اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ، أي خالصة لهم دون غيرهم .

وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .

فقوله : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، أي خاصة بهم دون الكفار يوم القيامة ; إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة .

فقوله في آية " الأعراف " هذه : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا - صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا .

وذلك الاشتراك المذكور دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو ( لولا ) في قوله هنا : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة .

وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين المنصوص عليه في آية " الأعراف " بقوله : خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] - هو الذي أوضحه - تعالى - في آية " الزخرف " هذه بقوله : والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 \ 35 ] .

[ ص: 117 ] وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين ; لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله .

وما دلت عليه هذه الآيات من أنه - تعالى - يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا - دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار [ 2 \ 126 ] . وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [ 10 \ 23 ] . وقوله : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه ، ولكنه للاستدراج ، كقوله - تعالى - : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] . وقوله - تعالى - : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] على أظهر التفسيرين . وقوله - تعالى - : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] . وقوله - تعالى - : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] .

ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك ، وأنه إن كان البعث حقا أعطاهم خيرا منه في الآخرة - قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] . [ ص: 118 ] وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .

ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة ، فقوله : جعلنا أي صيرنا ، وقوله : لبيوتهم بدل اشتمال مع إعادة العامل من قوله : لمن يكفر وعلى قراءة سقفا بضمتين ، فهو جمع سقف ، وسقف البيت معروف .

وعلى قراءة سقفا بفتح السين وسكون القاف : فهو مفرد أريد به الجمع .

وقد قدمنا في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] - أن المفرد إذا كان اسم جنس . يجوز إطلاقه مرادا به الجمع ، وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن ومن الشواهد العربية على ذلك .

وقوله : ومعارج الظاهر أنه جمع معرج ، بلا ألف بعد الراء .

والمعرج والمعراج بمعنى واحد ، وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها إلى العلو .

وقوله : ( يظهرون ) ، أي يصعدون ويرتفعون حتى يصيروا على ظهور البيوت . ومن ذلك المعنى قوله - تعالى - : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ 18 \ 97 ] .

والسرر جمع سرير ، والاتكاء معروف .

والأبواب جمع باب وهو معروف ، والزخرف الذهب .

قال الزمخشري : إن المعارج التي هي المصاعد والأبواب والسرر - كل ذلك من فضة ، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك ، وعلى هذا المعنى فقوله : زخرفا - مفعول عامله محذوف ، والتقدير : وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا .

[ ص: 119 ] وقال بعض العلماء : إن جميع ذلك بعضه من فضة ، وبعضه من زخرف ، أي ذهب .

وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله : وزخرفا - على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض ، وأن المعنى من فضة ، ومن زخرف ، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفا .

وأكثر علماء النحو على أن النصب بنزع الخافض ليس مطردا ولا قياسيا ، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه .

وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله :

وإن حذف فالنصب للمنجر نقلا . . . إلخ .

وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس ، كما أشار في الكافية بقوله :


وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى


وقوله - تعالى - : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا [ 43 \ 35 ] على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من ( لما ) ، فـ ( إن ) هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة ، و ( إن ) النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة :
وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل


و ( ما ) مزيدة للتوكيد ، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام ( لما ) بتشديد الميم فـ ( إن ) نافية ، و ( لما ) حرف إثبات بمعنى إلا .

والمعنى : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا .

وذكره بعضهم أن تشديد ميم ( لما ) على بعض القراءات في هذه الآية وآية " الطارق " إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 4 ] - لغة بني هذيل بن مدركة . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين .

[ ص: 120 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء الآية [ 41 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون .

قد قدمنا الكلام عليه في " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] .
قوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] .
قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم ، وبين له أنه على صراط مستقيم ، أي طريق واضح لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم الذي أوحي إليه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة - قد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله .

أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم - فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته [ 18 \ 27 ] .

وأما إخباره له - صلى الله عليه وسلم - على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون [ 23 \ 73 - 74 ] . وقوله - تعالى - : فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 121 ] وآية " الزخرف " هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله ، وهذا معلوم بالضرورة .
قوله - تعالى - : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله ، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] .

وقوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] . وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته .

قال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 50 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله الآية [ 7 \ 85 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه الآية .

قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة " الأعراف " وسورة " طه " .
قوله - تعالى - : وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون .

لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به ، ولكنه أوضحه في " الأعراف " في قوله - تعالى - : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 132 - 133 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون .

[ ص: 122 ] ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - أوضحه في " الأعراف " بقوله : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون .

والرجز المذكور في " الأعراف " هو بعينه العذاب المذكور في آية " الزخرف " هذه .
قوله - تعالى - : ولا يكاد يبين .

قد تقدم الكلام عليه في " طه " في الكلام على قوله - تعالى - عن موسى : واحلل عقدة من لساني الآية [ 20 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : فلما آسفونا انتقمنا منهم .

( آسفونا ) معناه أغضبونا وأسخطونا ، وكون المراد بالأسف الغضب - يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله - تعالى - : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا [ 7 \ 150 ] على أصح التفسيرين .
قوله - تعالى - : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين .

قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .
قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .

قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي ( يصدون ) بضم الصاد .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ( يصدون ) بكسر الصاد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:23 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (477)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 123 إلى صـ 130


[ ص: 123 ] فعلى قراءة الكسر فمعنى ( يصدون ) يضجون ويصيحون ، وقيل : يضحكون ، وقيل : معنى القراءتين واحد ، كيعرشون ويعرشون ، ويعكفون ويعكفون .

وعلى قراءة الضم فهو من الصدود ، والفاعل المحذوف في قوله : ( ضرب ) قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعرى السهمي قبل إسلامه .

أي ولما ضرب ابن الزبعرى المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك ، فرحا منهم وزعما منهم أن ابن الزبعرى خصمك ، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل .

والظاهر أن لفظة ( من ) هنا سببية ، ومعلوم أن أهل العربية يذكرون أن من معاني ( من ) السببية ، ومنه قوله - تعالى - : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا .

ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة : أقسم بالله لمن ضربه مات .

وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا - أن الله لما أنزل قوله - تعالى - : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] قال ابن الزبعرى : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن كل معبود من دون الله في النار ، وإننا وأصنامنا جميعا في النار ، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله ، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه .

وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة ; لأن عزيرا عبده اليهود ، والملائكة عبدهم بعض العرب .

فاتضح أن ضربه عيسى مثلا ، يعني أنه على ما يزعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قاله ، من أن كل معبود وعابده في النار ، يقتضي أن يكون عيسى مثلا لأصنامهم ، في كون الجميع في النار ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني على عيسى الثناء الجميل ، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .

فزعم ابن الزبعرى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول [ ص: 124 ] النار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يعترف بأن عيسى رسول الله ، وأنه ليس في النار ، دل ذلك على بطلان كلامه عنده .

وعند ذلك أنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 101 - 103 ] . وأنزل الله أيضا قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية .

وعلى هذا القول فمعنى قوله - تعالى - : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا عيسى مثلا إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل .

وقيل : إن ( جدلا ) حال ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، وقد أوضحنا توجيهه مرارا .

والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق .

قال جماعة من العلماء : والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل ، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموه ، وهم أهل اللسان ، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات .

والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة " ما " التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء ; لأنه قال : إنكم وما تعبدون [ 21 \ 98 ] ولم يقل : ومن تعبدون ، وذلك صريح في أن المراد الأصنام ، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة ، كما أوضح - تعالى - أنه لم يرد ذلك بقوله - تعالى - بعده : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ 21 \ 101 ] .

وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي ، الذي نزل به القرآن - تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلا إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل .

ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعرى - يرجع إلى أمرين : أحدهما : أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع [ ص: 125 ] القبيلة ، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد


فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم ، وهو ورقاء بن زهير ، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي ، وأن ورقاء بن زهير ضرب بسيف بني عبس رأس خالد بن جعفر الكلابي ، الذي قتل أباه ونبا عنه ، أي لم يؤثر في رأسه ، فإن معنى : نبا السيف - ارتفع عن الضريبة ولم يقطع .

والشاعر يهجو بني عبس بذلك .

والحروب التي نشأت عن هذه القصة وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور ، كل ذلك معروف في محله .

والأمر الثاني : أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا ، وفرحوا بذلك ، ووافقوه عليه ، فصاروا كالمتمالئين عليه .

وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وبين صيغة الإفراد في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] .

وقال بعض العلماء : الفاعل المحذوف في قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) هو عامة قريش .

والذين قالوا : إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر عيسى ، وسمعوا قول الله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى .

وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادة الناس لكل منهما ، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى .

وعلى هذا القول فمعنى قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا لك هذا [ ص: 126 ] المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل ، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه .

وقوله - تعالى - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 \ 64 ] .

وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا قبل الهجرة ، كما هو معلوم .

وكذلك قوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .

ولا شك أن كفار قريش متيقنون في جميع المدة التي أقامها - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة ، وهي ثلاث عشرة سنة - أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له .

فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم ، وهم يعلمون أنهم مفترون في ذلك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أآلهتنا خير أم هو ؟

التحقيق أن الضمير في قوله : هو راجع إلى عيسى ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .

قال بعض العلماء : ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى .

قيل : لأنهم يتخذون الملائكة آلهة ، والملائكة أفضل عندهم من عيسى .

وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله ، ولم يكن ذلك سببا لكونه في النار ، ومعبوداتنا خير من عيسى ، فكيف تزعم أنهم في النار ؟

وقال بعض العلماء : أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم .

والمعنى على هذا أنهم يقولون : عيسى خير من آلهتنا ، أي في زعمك ، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ 21 \ 98 ] .

وعيسى عبده النصارى من دون الله ، فدلالة قولك على أن عيسى في النار ، مع [ ص: 127 ] اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أنا وآلهتنا في النار - ليس بحق أيضا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بل هم قوم خصمون أي لد ، مبالغون في الخصومة بالباطل ، كما قال - تعالى - : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] أي شديدي الخصومة .

وقوله - تعالى - : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] لأن الفعل بفتح فكسر كخصم - من صيغ المبالغة ، كما هو معلوم في محله .

وقد علمت مما ذكرنا أن قوله - تعالى - هنا : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية - إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه .

ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها .

فعلى القول الأول ، أنهم ضربوا عيسى مثلا لأصنامهم في دخول النار ، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله - تعالى - قبلها : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ; لأنها لما نزلت قالوا : إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم ، فهم بالنسبة لما دلت عليه - سواء .

وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفا .

وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن عيسى قد عبد ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعبد كما عبد عيسى ، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] . وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى - يوضح المراد بالمثل .

وأما الآيات التي بينت قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا فبيانها له واضح على كلا القولين . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه .

والتحقيق أن الضمير في قوله : ( هو ) عائد إلى عيسى أيضا ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .

وقوله هنا : عبد أنعمنا عليه لم يبين هنا شيئا من الأنعام الذي أنعم به على عبده [ ص: 128 ] عيسى ، ولكنه بين ذلك في " المائدة " في قوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات [ 5 \ 110 ] . وفي " آل عمران " في قوله - تعالى - : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين إلى قوله : ومن الصالحين [ 3 \ 45 - 46 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها .

التحقيق أن الضمير في قوله : ( وإنه ) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ، ولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومعنى قوله : لعلم للساعة على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة ، أي علامة لقرب مجيئها ; لأنه من أشراطها الدالة على قربها .

وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى - جار على أمرين ، كلاهما أسلوب عربي معروف .

أحدهما : أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقربها ، كانت تلك العلامة سببا لعلم قربها ، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب .

وإطلاق المسبب وإرادة السبب - أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب .

ومن أمثلته في القرآن قوله - تعالى - : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] . فالرزق مسبب عن المطر ، والمطر سببه ، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر ، للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب .

ومعلوم أن البلاغيين ومن وافقهم يزعمون أن مثل ذلك من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .

[ ص: 129 ] والثاني من الأمرين : أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وإنه لذو علم للساعة ، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها ، لكونه علامة لذلك ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر ، كقولك : زيد كرم وعمرو عدل ، أي ذو كرم وذو عدل ، كما قال - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] . وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ففي قوله - تعالى - في سورة " النساء " : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ 4 \ 159 ] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية " النساء " هذه ، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب .

ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض .

فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى الكتابي ، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي .

فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى ، يجب المصير إليه ، دون القول الآخر ; لأنه أرجح منه من أربعة أوجه : الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض .

والقول الآخر بخلاف ذلك .

وإيضاح هذا أن الله - تعالى - قال : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، ثم قال - تعالى - : وما قتلوه ، أي عيسى ، وما صلبوه أي عيسى ، ولكن شبه لهم أي عيسى ، وإن الذين اختلفوا فيه أي عيسى ، لفي شك منه أي عيسى ، ما لهم به من علم أي عيسى ، وما قتلوه يقينا أي عيسى ، بل رفعه الله [ ص: 130 ] أي عيسى ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به [ 4 \ 159 ] أي عيسى ، قبل موته أي عيسى ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [ 4 \ 157 - 159 ] أي يكون هو - أي عيسى - عليهم شهيدا .

فهذا السياق القرآني الذي ترى - ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه ، في أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى عيسى .

الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول أنه على هذا القول الصحيح ، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله - تعالى - : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [ 4 \ 157 ] .

وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا ، بل هو مقدر ، تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر .

ومما لا شك فيه أن ما لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير .

الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن ، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا . ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر .

قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين - ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع - إن شاء الله تعالى - ا هـ .

وقوله : بالدليل القاطع - يعني السنة المتواترة ; لأنها قطعية ، وهو صادق في ذلك .

وقال ابن كثير في تفسير آية " الزخرف " هذه ما نصه :

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " . ا هـ منه .

وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 04-02-2023 12:25 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (478)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 131 إلى صـ 138



[ ص: 131 ] وأما القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتاب - فهو خلاف ظاهر القرآن ، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة .

الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص ، بخلاف القول الآخر ، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص ، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط ; لأنه على القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، فلا إشكال ولا خفاء ، ولا حاجة إلى تأويل ، ولا إلى تخصيص .

وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ، كالذي يسقط من عال إلى أسفل ، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل ، والذي يموت في نومه ونحو ذلك ، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب ، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص .

ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة .

وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب ، فقال : إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى ، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي - لا يخفى بعده وسقوطه ، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى .

وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، وأن تلك الآية من سورة " النساء " تبين قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة كما ذكرنا .

فإن قيل : إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي ، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى ، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي [ 3 \ 55 ] . وقوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ 5 \ 117 ] .

فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلا .

[ ص: 132 ] أما قوله - تعالى - : إني متوفيك فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه : الأول : أن قوله : متوفيك حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص ، والعرب تقول : توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص .

فمعنى : إني متوفيك في الوضع اللغوي ، أي حائزك إلي كاملا بروحك وجسمك .

ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ، ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب : الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية ، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها .

وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ، وهو المقرر في أصول مالك ، إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل .

وإلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعود بقوله :
واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب

المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية - وإن ترجحت بعرف الاستعمال - فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع .

وهذا القول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .

المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ، ولا اللغوية على العرفية ، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ، لاحتمال هذه واحتمال تلك .

وهذا اختيار ابن السبكي ومن وافقه ، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعود بقوله :
ومذهب النعمان عكس ما مضى والقول بالإجمال فيه مرتضى


[ ص: 133 ] وإذا علمت هذا ، فاعلم أنه على المذهب الأول الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية ، فإن قوله - تعالى - : إني متوفيك لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ، ولا يدل على الموت أصلا ، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه .

وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ، فإن لفظ التوفي حينئذ يدل في الجملة على الموت .

ولكن سترى إن - شاء الله - أنه وإن دل على ذلك في الجملة ، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلا .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " آل عمران " - وجه عدم دلالة الآية على موت عيسى فعلا ، أعني قوله - تعالى - : إني متوفيك فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا ، من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله - تعالى - : متوفيك لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى ، وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا على أن ذلك اليوم قد مضى .

وأما عطفه ( ورافعك إلي ) على قوله : ( متوفيك ) فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .

وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين ، وهو الحق خلافا ، لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .

وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .

وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي .

حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا - لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .

[ ص: 134 ] وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع .

وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ، فكذلك لا تقتضي المنع منهما .

فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول ، كقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] بدليل الحديث المتقدم .

وقد يكون المعطوف بها مرتبا ، كقول حسان : هجوت محمدا وأجبت عنه

على رواية الواو .

وقد يراد بها المعية ، كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] . وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] . ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .

الوجه الثاني : أن معنى متوفيك أي منيمك ، ( ورافعك إلي ) أي في تلك النومة .

وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله - تعالى - : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين .

الوجه الثالث : أن متوفيك ، اسم فاعل ؛ توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه إذا قبضه إليه ، فيكون معنى متوفيك على هذا : قابضك منهم إلي حيا ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير .

وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ثم أحياه - فلا معول عليه; إذ لا دليل عليه . ا هـ . من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .

وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله - تعالى - : متوفيك على موت عيسى فعلا - منفية من أربعة أوجه ، وقد ذكرنا منها ثلاثة من غير تنظيم : [ ص: 135 ] أولها : أن متوفيك حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .

الثاني : أن متوفيك وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ، كما أوضحنا في هذا المبحث .

الثالث : أنه توفي نوم ، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ، فكل من النوم والموت يصدق عليه اسم التوفي ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .

فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

وذكرنا الأول منها بانفراده ; لنبين مذاهب الأصوليين فيه .

أما قوله - تعالى - : فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] ، فدلالته على أن عيسى مات منفية من وجهين : الأول منهما : أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة ، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى .

والثاني منهما : أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد ، لا توفي موت .

وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] - تدل على ذلك ; لأنه لو كان توفي موت ، لقال ما دمت حيا ، فلما توفيتني ; لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله : ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] .

أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر .

وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ، وهذا لا إشكال فيه .

وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقا : أن الذين زعموا أن عيسى قد مات ، قالوا : إنه لا سبب لذلك الموت إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه ، فإذا تحقق نفي هذا السبب [ ص: 136 ] وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره - تحققنا أنه لم يمت أصلا ، وذلك السبب الذي زعموه ، منفي يقينا بلا شك ; لأن الله - جل وعلا - قال : وما قتلوه وما صلبوه [ 4 \ 157 ] . وقال - تعالى - : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى .

وقد بين الله - جل وعلا - مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه ، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه عيسى .

فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه عيسى ; فقتلوه .

فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وصلبوه ، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه .

فمحمد - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاهما دال على أن عيسى حي ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، وأن نزوله من علامات الساعة ، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى .

وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ، وأن قوله : متوفيك لا يدل على موته فعلا .

وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ، وأنه على المقرر في الأصول في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا .

أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ; لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .

[ ص: 137 ] وأما على القول بالإجمال ، فالمقرر في الأصول أن المحمل لا يحمل على واحد من معنييه ، ولا معانيه ، بل يطلب بيان المراد منه بدليل منفصل .

وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي .

وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ، فإنه يجاب عنه من أوجه : الأول : أن التوفي محمول على النوم ، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية .

والثاني : أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا .

الثالث : أن القول المذكور بتقديم العرفية محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف عن إرادة العرفية اللغوية ، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا .

وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا ، دون العرفية .

واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ، وجب المصير إلى العرفية إجماعا ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
أجمع إن حقيقة تمات على التقدم له الإثبات


فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ، فمقتضى الحقيقة اللغوية أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة ، لا من ثمرتها .

ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها .

والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا ; لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية ، فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة .

أما الحقيقة اللغوية في قوله - تعالى - : إني متوفيك فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى .

ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا ، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ، ومجازا عرفيا .

[ ص: 138 ] وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .

فاتضح مما ذكرنا كله أن آية " الزخرف " هذه تبينها آية " النساء " المذكورة ، وأن عيسى لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، وإنما قلنا : إن قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة أي علامة ودليل على قرب مجيئها ; لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فلا تمترن بها أي لا تشكن في قيام الساعة ; فإنه لا شك فيه .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها [ 22 \ 7 ] . وقوله : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] . وقوله : ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 6 \ 12 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مرارا كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا الآية [ 35 \ 6 ] . وقوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .

قوله هنا : ظلموا أي كفروا ، بدليل قوله في مريم في القصة بعينها : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] .

وقوله : من مشهد يوم عظيم يوضحه قوله هنا : من عذاب يوم أليم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





الساعة الآن : 01:35 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 946.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 945.00 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.19%)]