رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (373) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [4] المغصوب عند رده له ثلاث حالات: إما أن يرد وتكون فيه زيادة، أو يرد ويكون فيه نقص، أو يرد وتكون فيه زيادة من وجه ونقص من وجه آخر، وقد فصلت الشريعة كل هذه الحالات بأحكامها حتى لا يظلم أحد أحدا، وألزمت بإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان ظالما. أحوال زيادة المغصوب ونقصانه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصر الثوب أو صبغه ونجر الخشب ونحوه، أو صار الحب زرعا، أو البيضة فرخا، والنوى غرسا رده، وأرش نقصه ولا شيء للغاصب، ويلزمه ضمان نقصه] . المغصوب له حالتان: الحالة الأولى: أن يرده الغاصب كما أخذه، دون زيادة أو نقصان، وفي هذه الحالة يكون صاحب الحق قد وصل إليه حقه كاملا، إلا أنه يجب على الغاصب أن يضمن أجرة المغصوب إن كانت هناك منفعة منعها من الشيء المغصوب، وبينا هذا فيما تقدم. وبناء على هذا: يبقى السؤال إذا تصرف الغاصب في الشيء المغصوب؟ أو أن هذا المغصوب زاد من نفسه، أو نقص، أو تلف بعضه بآفة سماوية أو نحو ذلك؟ فالعلماء رحمهم الله يجعلون هذه المسألة تحت عنوان: زيادة المغصوب ونقصانه. فإذا زاد المغصوب أو نقص فله حالتان: الحالة الأولى: أن تكون الزيادة والنقصان قد نشأ كل منهما من الشخص الغاصب، فيزيد الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، أو ينقص الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، وحينئذ تكون يد الغاصب يدا معتدية في حال النقص، ويدا متفضلة في حال الزيادة. الحالة الثانية: أن تكون الزيادة والنقصان من المغصوب نفسه، فالمغصوب بنفسه نقص أو تلف بعضه كما لو أن شخصا اغتصب طعاما وأخذه من صاحبه، فتلف بعض الطعام وبقي بعضه وكان التلف من نفس الطعام، أو اغتصب عصيرا فصار العصير خمرا -والعياذ بالله- بسبب المدة، وهذا من نفس العصير؛ لأنه إذا طالت عليه المدة تخمر، فحينئذ حصل النقص من الشيء المغصوب. وقد تكون الزيادة من الشيء المغصوب أيضا، مثل: ما لو أن هذا المغصوب أخذه الغاصب في حالة سيئة، ثم تحسنت حالته، كأن يكون مريضا ثم شفي من مرضه دون أن يكون الغاصب قد عالجه أو سعى في علاجه، أو يكون العبد مجنونا -كما في القديم- ثم أفاق من جنونه دون فعل من الغاصب، وحينئذ هذا الشيء الذي هو الزيادة والتحسن وقعت بفضل الله عز وجل وليس للغاصب فيها أثر. إذا: عندنا مسألة أحوال الزيادة والنقص، وعندنا أحوال التغير التي هي الزيادة في المغصوب أو النقص، وعندنا منشأ هذا التغير، وهو أن يكون ناشئا من العين المغصوبة، أو يكون ناشئا من الغاصب. فالمصنف رحمه الله ذكر هذه المسائل، وفي الحقيقة كل من الزيادة والنقص ينقسم إلى أقسام: تارة تكون الزيادة والنقص في الذات، وتارة في المنفعة، وتارة في الصفة. فتزيد الذات وتزيد المنفعة، أو تنقص الذات وتنقص المنفعة، أو تزيد الصفات أو تنقص، هذه كلها أحوال للزيادة والنقص، فإن حدثت في العين المغصوبة زيادة فإما أن تكون في ذاتها، مثل: ما لو ولدت الغنم وتكاثرت، فهذه زيادة في ذات الغنم. أو تكون الزيادة في منفعة العين المغصوبة مثل: ما لو كانت العين المغصوبة على صفة وتصرف الغاصب فيها، فأصبحت تصلح للاستغلال في أكثر من شيء، كأن تكون السيارة للركوب فقط، ثم يتصرف فيها بطريقة ما فتصبح للركوب وللحمل عليها، فحينئذ زادت منافعها. وتارة تكون الزيادة في الصفة، مثل: ما كان في القديم يغصب رقيقا، ويكون الرقيق جاهلا فيعلمه، فإذا علمه صنعة تكون حينئذ الزيادة في الصفة، أو يغتصب إبلا أو بقرا أو غنما وهي مريضة فيردها صحيحة، أو يأخذها صحيحة ويردها مريضة، إذا: النقص والزيادة في الصفات. وتكون الزيادة والنقص في القيمة، فيغتصبه سيارة وقيمتها أثناء الغصب عشرة آلاف ريال، ثم يرخص سعرها فتصبح بثمانية آلاف ريال، فهذا نقص في السوق والقيمة. أو يغتصبه أرضا أو عمارة قيمتها مليونا ثم تصبح قيمتها نصف المليون أو العكس، يأخذها وقيمتها مائة ألف ثم يردها وقيمتها مائتا ألف، فهذه زيادة القيمة ونقصها. فهذه أربعة أحوال في الزيادة والنقص؛ الذات، المنفعة، الصفات، القيمة. كل هذا تمهيد لما سيذكره المصنف رحمه الله من المسائل، فإما أن تكون العين المغصوبة زائدة أو ناقصة، وإذا زادت أو نقصت فإما من الغاصب وإما من غير الغاصب، ثم أحوال الزيادة والنقص إما في ذات العين المغصوبة أو منافعها أو قيمتها أو في صفاتها، هذه كلها أمثلة سيذكرها المصنف تدور حول هذه الضوابط التي ذكرناها. حكم زيادة شيء في المغصوب يمكن فصله وقوله: (ولا شيء للغاصب (. فلو قال الغاصب: إني تكلفت في ضرب المصوغ، وتكلفت في نسج الغزل، وتكلفت في زرع الحب والنوى، وتكلفت في نجر الخشب، نقول: يدك يد اعتداء فلا يضمن لك فعلك؛ لأنه واقع في غير موقعه وغير مأذون به شرعا، ولا تستحق عليه؛ لأنه لو قلنا باستحقاقه فمعناه أن غصبه صحيح؛ ولذلك يصف العلماء رحمهم الله يده بأنها يد عادية، ويسمونها اليد العادية، واليد العادية لا تستحق أن يضمن لها ما فعلت إلا إذا زادت أعيانا يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طالب العلم. إذا غصب شخص شيئا وأدخل على الشيء المغصوب أعيانا يمكن فصلها ففي هذه الحالة الأعيان ملك للغاصب، ونقول للغاصب: خذ حقك ورد للناس حقوقهم، وما يمكن أن نقول له مثل المغصوب: خذ مالك وخذ مال غيرك؛ لأن الله لم يجعل له سلطانا على مال أخيه. فنقول: الغاصب يرد ما اغتصبه، ثم بعد ذلك نقول للغاصب: خذ ما أحدثته من الزيادات التي يمكن فصلها عن العين المغصوبة، هذه المسألة خاصة خارجة عما نحن فيه، نحن نتكلم على الزيادات التي لا يمكن فصلها، فإن الحب إذا صار زرعا والنوى إذا صار غرسا لا يمكنك أن ترد الغرس إلى نوى، ولا يمكن أن ترد الزرع إلى حالته الأولى حبوبا. فحينئذ نقول: يضمن له عين المغصوب ويضمن له النقص المترتب على فعله. حكم البيض المغصوب إذا صار فرخا وقوله: (أو البيضة فرخا) . تفريخ البيض يحتاج إلى كلفة، ويحتاج إلى مؤونة وعمل، ولربما تكون الكلفة لها قيمة وهي إجارة من يقوم بتفريخ البيض، فلو اغتصب عددا من البيض ثم استأجر من يفرخه أو قام بتفريخه، فهذا التفريخ قد يستحق مائة ريال مثلا، على حسب عدد البيض. فنقول: ترده أفراخا؛ لأن صاحب البيض مالك للبيض وما نشأ منه وكونه أفراخا؛ لأن الفرع تابع لأصله، فلما ملك البيض ملك منفعته أو ما ينشأ عنه مما يتفرع عليه، فالفرع تابع لأصله والفرخ تابع لأصله البيض، فمالك البيض مالك للأفراخ. وثانيا: نقول له: تضمن النقص الذي ترتب على تفريخ هذا البيض. ولو قال: أريد مؤنتي وتعبي حينما نجرت الخشب ونسجت الغزل وفرخت البيض، نقول: ليس لك منه شيء؛ لأنك فعلت شيئا لم تؤمر به، فلم يأمرك أحد أن تفرخ البيض أو تنجر الخشب أو تقصر الثوب، بل تصرفت بها من عند نفسك في يد عادية. واليد العادية يعني: المعتدية؛ لأن يده على الشيء ليست بيد حق وإنما هي يد عادية، لكن لو كانت يد حق لأثبتنا له حقه وضمن له ذلك الحق في تصرفه في الأعيان. حكم من صير النوى المغصوب غرسا وقوله: (والنوى غرسا) . لو صار النوى غرسا، النوى من التمر والرطب ممكن أن تستفيد منه في أكثر من منفعة، وممكن أن يؤخذ النوى علفا للدواب، فتسمن وتنتفع، وممكن أن يزرع، فالنوى فيه أكثر من منفعة. فإذا صرفه إلى منفعة الزرع فقد خصه ببعض المنافع، فنقول: تكون العين المغصوبة ملكا لصاحبها، وما نشأ عنها تابع لها، فهذا الغرس تابع للنوى المغصوبة، فيكون ملكا لصاحبه، هذا الحكم الأول. وثانيا: يجب عليه ضمان النقص بعد تقدير ما حدث من نقص بسبب هذا التصرف. وقوله: [رده وأرش نقصه] . (رده) في هذه الحالة يرد جميع الأعيان المغصوبة، وما تفرع عنها، فيرد الدنانير المضروبة والدراهم، ويرد النسيج، ويرد المنجور من الخشب، ويرد الزرع، ويرد النوى الذي صار نخلا، والحب الذي صار زرعا؛ يرده لأنه فرع تابع لأصله المغصوب. وثانيا: يلزمه ضمان النقص على التفصيل الذي ذكرناه. حكم ضرب الذهب المغصوب فقوله: (وإن ضرب المصوغ) . أولا: المصوغ يكون من الذهب والفضة، والذهب والفضة إما أن يكونا سبائك، وإما أن يكونا حليا، وإما أن يكونا نقدا مضروبا؛ إن كان من الذهب فدنانير، وإن كان من الفضة فدراهم. فالذهب فيه منفعة الحلي، فيمكن أن يصاغ حليا كالأسورة والقلائد، وفيه منفعة النقد فيكون ثمنا للأشياء كالدنانير، وفي زماننا الجنيهات، وإما يكون سبائك موضوعة من أجل غلاء السوق أو نقصه أو يجعلها الإنسان عنده بحيث يتصرف بها عند الحاجة، والفضة كذلك تكون سبيكة وتكون خاما وتكون أيضا حليا، وتكون دراهم مضروبة. في حالة ما إذا غصب ذهبا أو فضة فإما أن يأخذها سبائك أو حليا ويردها مضروبة أو العكس. والعلماء رحمهم الله لما قالوا: وإن ضرب المصوغ، دائما نقول: ليس المهم المثال، المهم قاعدة المثال، فالذهب منه القلائد والأسورة والخواتيم، وفي الحقيقة فيه منفعة اللبس، وفيه زيادة الصنعة؛ لأن صنعته تكلف وجعله أسورة وقلائد وخواتم يكلف على الشخص، لأنه يحتاج إلى قيمة للصنعة، فإذا كان مصوغا يمكن للمرأة صاحبة الذهب أن تتحلى به، وهذه منفعة، وممكن أن تصوغه وتضربه دراهم إذا كان فضة أو تضربه دنانير إذا كان ذهبا. لكن بالعكس، لو كان دراهم وأرادت أن تحوله حليا فإن منفعة الدراهم قاصرة، لأنها في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ما يمكن للمرأة أن تتجمل بالدراهم، لكن بالنسبة للحلي تتجمل به ويمكن أن تضربه فيكون عملة سواء كان ذهبا أو فضة. ففي حالة ما إذا أخذه حليا ثم صاغه وضربه دراهم أو دنانير فحينئذ نقصت المنفعة الموجودة فيه؛ لأن المنفعة الموجودة فيه بالحلي أتم وأكمل مما لو كان دراهم أو دنانير، فإذا أخذه وهو حلي وعبث به فصيره دنانير أو دراهم فقد أنقص منه الصنعة وكلفتها، وأنقص منه المنفعة. وعلى هذا اختلف العلماء، بعض من أهل العلم يقول: إذا أخذ الذهب أو الفضة وتصرف فيهما بأي تصرف بنقص أو زيادة فإنه يرد عين المغصوب، زائدا أو ناقصا ولا نطالبه بالضمان. ومن أهل العلم من قال: إذا ضرب المصوغ دنانير أو دراهم فنطالبه برده إلى ما كان عليه، فيرد المغصوب على حالته التي كان عليها أو قريبا منها إذا تعذر عليه المثلية. ومنهم من قال: يرده ويضمن النقص الموجود، فمثلا: لو كان حليا وهذا الحلي كله أسورة، فأخذ كيلو غرام من الذهب كله حلي، وصاغه وصهره وصيره جنيهات، قالوا: نسأل الصاغة: لو أردنا أن نصير الكيلو الذهب مصاغا وأسورة مثل ما كانت كم يكلف؟ قالوا: يكلف كل سوار خمسة ريالات مثلا، وهي عشرة أسورة، فحينئذ استحق خمسين ريالا، فقالوا: يرد المصوغ ويرد النقص الذي حدث بسبب التغير، فيضمنونه مغصوب، ويضمنونه النقص للمنافع، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. قالوا: لأنه ظلم صاحب المصوغ ففوت عليه منفعة المصوغ، ويجب عليه رد العين، فنطالبه بالأمرين: نطالبه أن يرد الذهب، إذا كان كيلو غرام فإنه يرده على حالته مهما بلغ من الدنانير المضروبة من الذهب، أو الدراهم المضروبة من الفضة، ونطالبه بدفع القيمة لكلفة الصنعة. وفي هذه الحالة يشكل على هذا القول مسألة الربا؛ لأنه حينما غصب ذهبا وجب عليه أن يرد المثل وزنا بوزن، ويدا بيد، فإذا طالبناه بالفضل، فضل الصنعة، كان هذا نوع من المبادلة مع الفضل والزيادة، ولذلك قال بعض العلماء رحمه الله: لا يستقيم أن يطالب بالزيادة من هذا الوجه. ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الفضل في التماثل بين الذهب بالذهب والفضة بالفضة في الصنعة والجودة، بدليل حديث التمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بتمر جيد قال عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا -يعني: الجيد- بالصاعين من الرديء، فقال عليه الصلاة والسلام: أوه عين الربا رده، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) الحديث. قالوا: فأسقط الجودة في لقاء الربوي بالربوي، وأوجب التماثل بغض النظر عن كون أحدهما جيدا والآخر رديئا، وقد قررنا هذا في باب الربا والصرف، وبينا أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب) يقتضي التماثل بغض النظر عن الجودة في الصنعة، وبغض النظر عن الجودة في نفس الذهب معيار (21) و (24) ، بينا هذا، وقلنا: إن مذهب السلف الصالح رحمهم الله على هذا بدليل قصة ابن عمر مع الصائغ، حينما قال: إني أبيع المصاغ وأستفضل -يعني: إذا بادلت بالذهب- قدر الصنعة والتعب، فنهاه ابن عمر واستدل بعموم الحديث. وهذا يدل على أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يفهمون العموم على ظاهره. فإذا ثبت هذا فإنه إذا رد الذهب بالذهب على القول الأول: لا يرد إلا عين المغصوب سواء نقصت منافعه أو زادت، قالوا: لا نضمنه ذلك النقص. ما هو جواب المصنف رحمه الله؟ وما هو جواب الحنابلة رحمهم الله عن هذا الإشكال؟!! بينا أنهم يقولون: يجب ضمان الصنعة، وهذا الضمان للصنعة يوجب أن يتحقق التفاضل، والله فرض علينا في مبادلة الذهب بالذهب التماثل، فردوا رحمهم الله -ويوافقهم على ذلك بعض الشافعية- فقالوا: إن هذا ليس من باب المبادلة والبيع، وإنما هو من باب الضمانات، والضمانات خارجة عن قاعدة الربا وليس لها علاقة؛ لأنه هو ما بادل الذهب بذهب، بل هذا عين الذهب الذي اغتصب، وهذا ضمان للتصرف في المغصوب، فلا توجد مبادلة، ومن الذي قال: إنه يبادل الذهب بذهب؟ وهذا الجواب سديد وصواب إن شاء الله؛ لأنه لم يبادل ذهبا من غير الذهب الذي أخذه، وإنما رد عين المأخوذ وليس فيه مبادلة حتى يرد إشكال الربويات في المسألة التي ذكروها. ولا شك وأرى فيما ظهر والله أعلم أن هذا القول من القوة بمكان؛ لأن الله تعالى قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل:126] ، وأوجب الله عز وجل ورسوله ضمان الحقوق لأهلها. فهذا الذي أخذ الذهب وتصرف فيه إذا رده وهو ناقص فإنه لم يرد الحق لصاحبه تاما كاملا، فنقول له: عليك أن ترد عين المغصوب ويلزمك أن ترد حق الزيادة التي انتقصتها بفعلك. ثم إن هذا الرجل الذي اغتصب الذهب تصرف، ونؤاخذه بتصرفه، فإيجاب الضمان عليه على ما فعله من ضرب المصوغ إنما هو إلزامه بما فعل وجنت يداه، ومؤاخذة الجاني بجنايته تدل عليه الأصول الشرعية وتقرره، ولذلك لا شك ولا إشكال -إن شاء الله- في رد المصوغ مع ضمان النقص الحاصل بسبب الضرب. حكم نسج الغاصب للغزل بعد غصبه وقوله: (ونسج الغزل) . المسألة الثانية: مسألة نسج الغزل. المسألة الأولى: ينبغي أن ننبه على قضية وهي: إذا كان المضروب نقص وألزمناه بضمان النقص يرد السؤال لو أنه زاد فأصبح المصوغ بعد ضربه أفضل وأتم وأكمل مما لو كان مصوغا؟ في الحقيقة بعض العلماء يذكر هذا وإن كان محل إشكال؛ لأن الحلي لا يشك أن منفعة الحلي مع وجود الصنعة أكبر، ولذلك اقتصرنا في الشرح على ما ذكرناه على أنه نقص وليس بزيادة. وقوله: (نسج الغزل) الشيء المغزول إذا أراد الإنسان أن يتصرف فيه فينسجه، وربما يأخذه ويتصرف فيه فيجعله رداء أو لحافا، فمن حيث الأصل: الشيء المغزول يمكن أن ينتفع به في أكثر من منفعة، ويمكن أن يصرف في أكثر من وجهة، فإذا أخذه وصرفه على وجهة معينة فقد عطل المنافع التي كانت فيه أولا. وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله: أن نسج الغزل يعتبر من إنقاص العين المغصوبة وليس من زيادتها، وبعض العلماء يقول: الزيادة، ويجعل نسجه -يعني: قيامه بالنسيج- كلفة وتعبا، وفي هذه الحالة يقول: استغل مادة الغزل واستفاد منها وجعل منها فائدة، وجعل لها قيمة، فمن هنا يكون المغصوب قد زاد، لم ينقص. والأول أظهر من جهة المنفعة، والثاني أظهر من جهة الصفة، فهناك فرق بين الصفة وبين المنفعة، إذا جئنا ننظر إلى أن الشيء وهو خام حينما تأخذ خام الصوف أو خام الوبر وتريد أن تصرفه لأكثر من جهة فأنت بالخيار بين أكثر من منفعة، فيمكن أن تصرفه إلى منفعة الملبوسات، ويمكن أن تصرفه إلى منفعة الفرش والبسط، فالمنافع فيه وهو خام أكثر وأتم إذا كان منسوجا أو كان قد صرفه الغاصب إلى جهة معينة من المنافع. ومن جهة الصفة كونه أصبح منسوجا لا شك أنه تكلفه الصنعة، وتحتاج منه إلى مال، خاصة إذا استأجر من يقوم بذلك، فهذه زيادة. فهي نقص من وجه، وزيادة من وجه آخر. وعلى هذا: إن شئت جعلت من زيادة المنفعة، وإن شئت جعلته من زيادة الذات ومن زيادة صفة الذات، وإن شئت جعلته من نقص المنافع. والثاني أظهر وهو: أنه من نقص المنافع لأن صاحب الصوف ربما أراده لشيء غير الشيء الذي فعله الغاصب، وعلى هذا يكون أضيق، ويكون في هذه الحالة ضامنا للنقص، فنقول له: يلزمك دفع هذا الشيء الذي نسجته، فيعطيه المغصوب منه بعينه. ثم ننظر ما الذي حدث من النقص؟ فلو كانت قيمته وهو غزل يساوي خمسين ألفا في السوق، وبعد أن نسجه أصبحت قيمته أربعين ألفا؛ لزمه ضمان النقص، ويرد الشيء المغصوب مع ضمان نقصه. وأيضا لو كان زائدا فإنه يرده ولا يطالب بأجرة الصنعة والعمل، فلو أن هذا الشيء الذي نسجه كانت قيمته قبل أن يتصرف فيه مائة، وبعد أن تصرف فيه فأحدث فيه الصنعة كلفته الصنعة خمسين ريالا فأصبح يباع بمائة وخمسين، فقال: أريد أن يضمن حقي؛ نقول: ليس لعرق ظالم حق. وعلى هذا: يسقط استحقاقه في هذه المنفعة ولا يضمن له كما سيأتي إن شاء الله في نص المصنف رحمه الله على هذه المسألة. حكم تقصير الغاصب للثوب المغصوب أو صبغه وقوله: [وقصر الثوب أو صبغه] . يكون مفصلا ويكون غير مفصل، والعرب تسمي غير المفصل ثوبا مثل: الإحرام، فالإحرام إذا ائتزرت به في أسفل البدن، وجعلت الثاني رداء على كتفيك قيل: ثوبان، ويقال: إن هذا ثوب وهذا ثوب، فالملبوس ثوب، إذا لم يكن مفصلا له اسمه الخاص كالقميص ونحوه. فالثوب إذا كان مفصلا فإن منفعته أكمل، لكن إذا أخذ منه وقصره وحوره فإن هذا ينقص منفعة الثوب ويضر بمصلحته، وحينئذ يكون النقص للذات، لاحظ أن الأمثلة الأولى فيها نقص للمنفعة ولكن تقصير الثوب في بعض الأحيان قد يقص من الثوب شيئا، كما لو كان للثوب كمان طويلان وقص هذين الكمين نقص، وهكذا لو كان الثوب كاملا سابغا إلى أنصاف الساقين فقصه فصار في حكم القميص فهذا نقص. ففي هذه الحالة تصرفه في الثوب في قصارته نقص في ذاته، فلما فرغ من نقص المنافع شرع في نقص الذوات، فقال في هذه الحالة: لو أخذ من الشخص ثوبا وتصرف فيه فقصره وحوره ونقصت قيمته بالنصف، فإننا نطالبه برد الثوب ونطالبه برد النقص الذي وقع في القيمة بسبب تصرفه. ولو سأل سائل: ما الدليل على ذلك؟ نقول: نطالبه برد المغصوب؛ لأنه ملك لصاحبه وهو عين الثوب. ونطالبه بضمان النقص؛ لأنه من جناية يده، وقد أخذ الشيء كاملا فرده ناقصا، والله أوجب المعاقبة بالمثل ولا مثلية إلا بضمان النقص. فنقول: عليه أن يرد الثوب مع ضمان أرش النقص. حكم نجر الغاصب للخشب المغصوب وقوله: (ونجر الخشب ونحوه) . في زماننا الآن الألواح الموجودة في الخشب، أو الأوصال التي تأتي شبه مادة خامة، ممكن أن يأخذ الألواح ويجعلها دواليب، أو يجعلها مكاتب، أو يجعلها في أسطحة المنازل، أو يجعلها في أكثر من منفعة، فهي كمادة خام تصلح لأكثر من منفعة. فلو أنه أخذها ونجرها ووضعها مثلا في نجارتها كطاولات أو أبواب أو نوافذ حتى تستغل في هذه المنفعة فقد أنقص المنافع الموجودة في العين. فإذا قد تقرأ قوله: (نجر الخشب) ما هو نجر الخشب؟ العلماء يريدون أصل المسألة وهي مسألة المنافع، أن الغاصب إذا اغتصب شيئا فأنقص منافعه وجب عليه ضمان ذلك النقص، فإذا نظرت إلى ألواح الخشب بمنافعها التامة بعد نجارتها قد انتقصت فيجب علينا أن نقدر ذلك النقص بالرجوع إلى أهل الخبرة ونلزمه ضمانه، وهذا من العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وقامت عليه السموات والأرض، هذا فعله وهذه جنايته. فنقول: رد الخشب بحاله منجورا، ثم اضمن ذلك النقص الذي ترتب على فعلك، فيجب عليه أن يضمنه ويرده على صاحبه. حكم الحب المغصوب إذا صار زرعا وقوله: (أو صار الحب زرعا) . وهنا إذا نظرنا إلى الحب نجد فيه أكثر من منفعة، ممكن للحب أن يطحن ويصير دقيقا ثم بعد ذلك يكون فيه من المنافع الكثير، وممكن للحب أن يعطى للدواب فتغتذي به، وممكن للحب أن يغرس ويزرع. فلما يأتي ويضعه في الزرع يكون حينئذ حده في منفعة من تلك المنافع، وصيره إلى منفعة قد لا ترغب فيها ولا تحب هذه المنفعة، فنقول: إنه يصير ملكا لصاحبه الذي هو المغصوب منه ثم يجب عليه ضمان النقص على الأصل الذي قررناه. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم خصي الغاصب للعبد المغصوب قال رحمه الله: [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته] . في الأمثلة الأولى أكثرها يمكن أن نجعلها تابعة لنقص المنافع على التفصيل الذي ذكرناه. وفي قوله: (وإن خصى الرقيق) هذا نقص للذات ونقص للمنفعة، نقص لذات المغصوب ونقص لمنفعته، فالخصاء من حيث الأصل الشرعي يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون للآدميين. الصورة الثانية: أن يكون للبهائم. أما للآدميين فجماهير أهل العلم على تحريمه، ولا يجوز خصاء الآدمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقه من أجل النسل والتكاثر ويخلف بعضه بعضا، فجعله في الأرض خليفة أي: أن آدم وذريته يستخلف بعضهم بعضا، ويبقى هذا النسل لعمارة الكون بذكر الله عز وجل، وفي الخصاء تعطيل لهذا المقصود، وكذلك فيه إضرار بالآدمي؛ لأن الخصاء تعذيب وفيه تغيير للخلقة، ولذلك ذكره الله عز وجل من الأفعال المحرمة التي يسولها الشيطان للعصاة من بني آدم؛ فيأمرهم فيبتك آذان الأنعام ويأمرهم بتغيير خلق الله، ويأمرهم بالتصرف في هذه الذوات البشرية بإخراجها عن طبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم:30] لا يجوز أن يبدل خلق الله. وفي الحديث: (لعن صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، فجعل العلة تغيير خلقة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، ومن لعن طرد من رحمة الله، والطرد مراتب، فهناك لعنة تطرد صاحبها طردا أبديا فيختم على قلبه والعياذ بالله، وهي لعنة الكفر، ولعنة الكافرين -نسأل الله السلامة والعافية- التي يختم بها على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فهم صم بكم عمي. وهناك لعنات المعاصي في كبائر الذنوب وتتفاوت بحسب درجات الكبائر، فبعضها أشد من بعض على حسب ما حرم الله عز وجل مما يقع فيه الإنسان من كبائر. فالتغيير للخلقة له هذا الوعيد الشديد، واللعن من الله سبحانه وتعالى، فالأصل يقتضي عدم جواز التصرف في الآدمي بخصائه. ومن هنا يحرم إجراء العمليات الجراحية التي تؤدي إلى قطع النسل، وتؤدي إلى تعطيل منفعة الذرية والمنفعة التي يجدها الإنسان من التكاثر والنسل، ومنفعة الجماع والاستمتاع؛ إلا إذا وجدت الضرورة، مثل: الأورام الخبيثة التي يخشى بها ضرر البدن كله، فهذه تستثنى، أما من حيث الأصل فلا يجوز استئصال هذه الأعضاء. ومن هنا حرمت جراحة تغيير الجنس كلها؛ لأنها تغيير لخلقة الله عز وجل دون وجود دوافع توجب الإذن الشرعي لفعلها. فثبت أن الخصاء للآدمي لا يجوز، وحكى عليه غير واحد بالإجماع، وكانوا في القديم يفعلونه في الأرقاء ويعتبر من أسوأ العادات وأشنعها، ويعتبر من المظالم التي كان يظلم بها الأرقاء، كانوا يخصونهم خوفا على الأعراض، لكنه -والحمد لله- انقرض وذهب لما فيه من تغيير خلقة الله عز وجل، والاعتداء على حرمة الآدمي. أما خصاء البهائم ففيه منفعة من جهة تطييب اللحم، وللعلماء فيه خلاف مشهور، بعض العلماء يقول: يجوز خصاء البهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين مقرونين موجوئين، والموجوء هو: الخصي. وقالوا: إنه في الأضاحي يطيب اللحم، فهو نقص من وجه وكمال من وجه آخر. وقال بعض العلماء: لا يجوز الخصاء؛ لأن هناك فرقا بين الذي يحصل اتفاقا وبين الذي يحصل قسرا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أضحيته وجد الخصي أطيب لحما -والأضحية تراد للحمها- فاشتراه، ولا يدل هذا على الإذن، والحقيقة أن القول بالجواز فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولكن الشبهة موجودة. فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا خصى الرقيق فإنه يعطل منافعه؛ لأنه يتكاثر، ومن مصلحة المالك وجود هذا التكاثر، فهو تعطيل للمنفعة. وهذه المسألة مهمة وهي: أن الاعتداء على الأعضاء وتعطيل منافعها بالكلية يوجب ضمانها، فمن اعتدى على إنسان عمدا فشل يده -والعياذ بالله-، فإنه يضمن نصف ديته، ولو أنه عطل ما كان متعددا كاليدين والرجلين تقسم الدية على حسب أعداده، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب الديات. فالأذنان في كل أذن نصف الدية، والعينان في كل عين نصف دية، ثم أجفان العين الأربعة يكون لكل جفن ربع دية، فبالاعتداء من الغاصب على الرقيق بخصائه عطل منفعة عضو كامل، ولذلك يفسد عليه جماعه ويفسد المنفعة المترتبة على الجماع. وعلى هذا: لو اعتدى شخص على آخر فضربه ضربة على خصيته وأضرت به وأماتت الخصيتين وجب أن يدفع الدية كاملة، ويلزمه ضمان الدية كاملة. في هذه الحالة نقول: اعتداؤه بالخصاء فوت منفعة هذا العضو وعطلها بالكلية فيجب ضمانها تامة كاملة، وهذا بالقيمة، فيضمن قيمته كاملة. وهناك خلاف في الاعتداء على الأرقاء، بعض العلماء يقولون: يضمنون بالديات نصف دية الحر، وبعضهم قال: يضمنون بالقيمة، وهذا مما يسمى بقياس الشبه، وقياس الشبه هو: أن يتردد الفرع المختلف فيه بين أصلين مختلفين في الحكم، كل منهما يوجد فيه شبه منه، فأنت إذا نظرت إلى الرقيق تجده آدميا، فهذا يوجب إلحاقه بالحر فيجب أن يدفع نصف ديته إذا قتله، وتضمن منافعه بنصف ما في الحر، فلو كانت الدية مائة ألف وأتلف خصيته يدفع خمسين ألفا، التي هي الدية الكاملة للرقيق. القول الثاني: يقول: لا، يضمن بالقيمة، ففي بعض الأحيان تكون قيمة الرقيق ضعفي دية الحر، لأن فيه منافع، ويباع -مثلا- بمائتي ألف، فلو أنه أضر به وعطل عضوه التناسلي يدفع قيمته كاملة. فإذا: يتردد بين الأصلين، هل نلحقه بالحر من جهة الآدمية فنوجب ضمانه كاملا بالنسبة للديات، ويكون على الوجه المعروف؟ أم نلحقه بالأموال ونوجب ضمانه بالقيمة؟ وجهان سيأتي -إن شاء الله- بيانهما في باب الجنايات. فالذي يهمنا هنا أننا نقول للغاصب: عطلت منفعة لعضو كامل، وعطلته من صار كأنه غير موجود، فيجب عليك ضمان قيمة الرقيق بالغة ما بلغت، ويجب عليك رد الرقيق بحالته الناقصة. حكم ضمان نقص سعر السوق قال رحمه الله: [وما نقص بسعر لم يضمن] . تقدم في الأمثلة الأولى النقص في المنافع وفي الذوات، وانظر إلى قوله: (وإن خصى الرقيق) فجاء بجملة منفصلة عن الجملة المتقدمة؛ لأنه بإخصاء الرقيق صار اعتداء على الذوات، وبعض العلماء يرى أنه اعتداء على المنافع، فإذا جئت تنظر إلى أن العضو تعطل فلا ينتشر ولا يجامع فيكون نقصا للذات، وإذا جئت تنظر إلى المنفعة المترتبة من الجماع يكون نقص منفعة، وأيا ما كان فقوله: (وإن خصى الرقيق) هذا للذات، ويبقى السؤال للنوع الثالث من النقص والزيادة وهو: السعر، فقضية نقص السعر ترجع إلى السوق، ويرجع فيها إلى أهل الخبرة، فقيمة الشيء المغصوب إذا نقصت أو زادت فيها الضمان، فإذا أخذ المغصوب وقيمته ناقصة ورده وقيمته كاملة فإنه يرده على حاله. مثلا: لو أخذ شيئا قيمته مائة ألف، ولما أراد أن يرده أصبح يساوي مائة وخمسين، فإنه يرده بحاله ولا يرد له المالك الخمسين، ولا يضمن له الخمسين. لكن لو أخذه وقيمته مائة، ورده وقيمته خمسون فإنه لا يضمن الغاصب؛ لأن هذا النقص ليس بيده وليس ناشئا من تصرفه وليس له به علاقة، بل هو راجع إلى تقدير الله عز وجل وأمره سبحانه وتعالى. وهنا تكاد تكون المسألة إجماعية، أنه ما يضمن نقص السوق، إلا أن فيها شذوذا وخلافا حكي عن أبي ثور الفقيه المشهور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -وكان شافعيا ثم أصبح صاحب مذهب واجتهاد وهو الذي يقول فيه الإمام أحمد رحمه الله: (أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاما) فكان إماما رحمه الله في الفقه والعلم والعمل- فهنا الإمام يرى أنه إذا نقص في السوق فإنه يدفع ويلزمه الضمان، بناء على هذا القول الضعيف الشاذ: لو أخذ السيارة وقيمتها خمسون ألفا، ولما ردها بعد سنة أصبحت قيمتها خمسة وعشرين ألفا فيردها مع خمسة وعشرين ألفا، ويضمن النقص، ولكن الصحيح أنه لا يضمن نقص السوق. فإذا: أصبح عندنا نقص الذوات مضمون، ونقص المنافع مضمون، ونقص السوق والسعر غير مضمون، على أصح قولي العلماء رحمهم الله. حكم ضمان النقص بمرض قال رحمه الله: [ولا بمرض عاد ببرئه] . هذا نقص الصفات. صورة المسألة: أخذ دواب وهي مريضة، كأن يغتصب إبلا أو بقرا أو غنما وهي مريضة، ثم ردها وهي صحيحة قد عوفيت وشفاها الله عز وجل، فلا يضمن المغصوب منه الزيادة، وكذلك لو أنه أخذها وهي سليمة صحيحة -وهي صورة المسألة التي معنا- ومرضت عنده ثم شفيت، فردها وهي صحيحة فلا ضمان عليه، فلو اغتصب خمسين رأسا من الإبل، وهي سليمة وبعد شهر ظهر فيها الجرب -والعياذ بالله- فأصبحت مريضة وردها مجروبة فحينئذ تقدر قيمتها وهي صحيحة، وتقدر قيمتها وهي جرباء ويدفع ويلزمه ضمان النقص، فلو أخذها وهي سليمة وردها ونصفها مريض، نقول: هذا المريض يرجع إلى أهل الخبرة فينظرون في النقص الحادث في هذا النصف، فنسألهم: كم قيمته؟ قالوا: خمسون ألف ريال. نقول له: رد الإبل المريضة بحالها وهي مريضة وادفع ضمان النقص. إذا: لو أخذ الصحيحة وردها مريضة ضمن نقص المرض منها، ولو كان المرض من غير يده، لأن بعض الأمراض تأتي بسببه هو، وبعض الأمراض لا يتدخل فيها، فسواء تعاطى السببية فاعتدى أو لم يتعاط السببية فإنه يضمن، لو سألك سائل وقال لك: أنا أسلم لك أنه لو تسبب في مرضها مثل: أن يسقيها ماء ملوثا فمرضت بهذا الماء، فهذه سببية فإن قصد فهو عدوان، وإن لم يقصد فهو خطأ موجب للضمان؛ لأن السببية نوعان: سببية اعتداء، وسببية خطأ، فسببية الاعتداء أن يقصد أنها تمرض، فحينئذ لا إشكال أنه يضمن، يقول لك: أنا أقبل منك أنه لو وضع لها ما يتسبب في مرضها أنه يضمن، لكن لو أنها مرضت من الله سبحانه وتعالى، وجاءها المرض قضاء وقدرا، وماؤها طيب، ومرعاها طيب، ومرضت؛ فحينئذ لماذا نضمنه؟! تقول: من باب اليد العادية؛ لأن الضمان يكون بالتعدي ويكون باليد ويكون بالإفضاء، هذه كلها وجوه للضمان، فتضمنه من جهة اليد، إذا كان ما له دخل في الشيء، تقول: لأنه لما اغتصب صارت يده يد عدوان، ويد العدوان تضمن تسببت أو لم تتسبب. يقول لك: كيف وجه ذلك؟ تقول: لأنه لما اعتدت يده وأخذها وهي سليمة صحيحة فإن الله ألزمه في ذمته أن يردها صحيحة سليمة، فإذا نقصت وأصابها الضرر -ولو كان قضاء وقدرا- فإنه لم يرد الكامل كاملا، وإنما رده ناقصا فلم يرد المثل، فيجب عليه الضمان بيده التي اعتدت والتي يسميها العلماء: اليد العادية؛ لأنه بالغصب صار متحملا للمسئولية. وعلى هذا: يجب عليه ضمان النقص في الصفات ولو لم يكن له تسبب. لاحظ في الأول -وهو النقص إذا كان في المنافع- الغالب أنه يفعل شيئا ويتدخل، فيجعل المصوغ مضروبا، ويجعل النوى غرسا، والحب زرعا، فهذا يتعاطى الفعل، لكن هنا في الصفات كثير منها قد يكون له تدخل منه، لكن كثيرا ما تكون الصفات من غير فعل منه. ضمان النقص في العبد بعد تعليمه قال رحمه الله: [وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص] . وهذه المسألة صورتها: أن ينقص الشيء المغصوب من وجه ويزيد من وجه آخر، فمثلا: غصب رقيقا، وعندما غصبه كان سليما، فمرض عنده، نقول: يضمن النقص العارض بالمرض، فلو كان هذا النقص يوجب عليه ضمانا يقدر بخمسين ريالا، حيث أخذه وقيمته مائة وهو صحيح، ورده مريضا بنقص خمسين، تقول: يرده ومعه خمسون ريالا. فلو أنه علم الرقيق صنعة، وهذه الصنعة زادت في قيمته خمسين ريالا، فهو نقص من وجه وزيادة من وجه آخر، نقول: نجعلها بالمكافأة، فنجعل الخمسين بالنقص مقابل الخمسين بالزيادة؟ الجواب فيه تفصيل، إن كانت الزيادة من جنس النقص كافأت، وإن كانت الزيادة من غير جنس النقص لم تكافئ؛ لأنه ثبت استحقاق صاحب المغصوب لضمان نقصه بالمرض، والتعليم خارج عن المرض، فالتعليم شيء والمرض شيء آخر. وعلى هذا: يكون عليه ضمان النقص، وأما الزيادة فلم يأمره أحد بتعليمه، وعلى هذا: الزيادة التي أدخلها من عند نفسه لا يكون له فيها استحقاق؛ لأنه لم يأمره أحد بهذا التعليم، فليست هناك مقابلة ومكافأة. لكن لو كانت الزيادة من جنس التعليم كما لو أخذه وهو متعلم لصنعة، ثم نسي هذه الصنعة، فأخذه وشغله في أعمال أخرى مجانسة لهذه الصنعة، فتعلم فيها جانبا من جنس الجانب الذي كان يتقنه أولا ونسيه، فحينئذ نقول: إن هذا التعليم لما كان مقاربا لجنس الأول لم يكن النقص من كل وجه، فيمكنه أن يعارض ويكافئ، لكن في المرض لا، فالمرض مع التعليم جنسان مختلفان فلا يتكافئان ولا يتقابلان. حكم الزيادة في العبد المغصوب ثم النقصان قال رحمه الله: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة] . في الأول كانت الأمثلة كلها من جهة تصرفات الغاصب، وهنا الضمان يكون باليد العادية، فنضمن الغاصب من جهة اعتدائه، فلو أخذ المغصوب مريضا ثم شفي عنده، ثم عاد مريضا مرة ثانية، فرده مريضا، نقول: لما شفي ويده يد عدوان ثبت عليه المغصوب كاملا؛ لأن كل دقيقة وكل لحظة يقوم فيها الغصب فالخطاب متوجه عليه أن يرده، فلما سلم وعوفي وشفي توجه عليه خطاب الله عز وجل برد الحقوق إلى أصحابها فامتنع فأصبحت يده متحملة للمسئولية لو نقص، كما لو أخذه صحيحا ثم مرض عنده، فإذا أخذه مريضا ثم شفي عنده ثم عاوده المرض يجب عليه ضمان النقص العارض بالمرض. كذلك أيضا: لو أخذه هزيلا ثم أطعمه وحسن حاله وأصبحت صفاته كاملة بالسمن ونحوه، فعاد مرة ثانية وقصر فيه حتى أصبح هزيلا، فرده هزيلا نقول: اضمن النقص العارض بالهزال، وعلى هذا: يكون التضمين من جهة اليد العادية مركبا من أن الغاصب مطالب شرعا برد المغصوب، فكل تأخير يوجب عليه الضمان. ومن أمثلة هذه المسألة في الودائع وما تقدم معنا في الوكيل، إذا أمر برد الشيء وقصر فيه وتأخر فهذا إهمال يوجب أن تنتقل يد الأمانة إلى يد الضمان والاعتداء، فإذا قصد ذلك صار معتديا، وإذا قصر وأهمل صار مهملا فيلزم بالضمان، وهذا هو الذي يؤثر في اليد، فاليد يد معتدية، والغاصب يده معتدية. ففقه المسألة: أنه إذا تحسنت حال المغصوب فإنها حال كمال، فيجب عليه أن يرده، فلما قصر وتأخر في الرد ضمن ذلك النقص الذي وقع عنده وتحت يده وتكون يده يد ضمان من هذا الوجه. قال رحمه الله: [ضمن الزيادة كما لو عادت من غير جنس الأول] . كما لو أنه أخذه وهو صحيح ثم مرض عنده وعلمه صنعة تكافئ المرض، فقد رده بزيادة من غير جنس الأول؛ لأن جنس الأول: الصحة، والزيادة: علم الصنعة، وعلم الصنعة ليس من جنس الصحة، فالصحة باب خاص والعلم باب خاص. فإذا: نقول: يجب عليه ضمان النقص الذي حدث في حال اغتصابه للعين. قال رحمه الله: [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما] . صورة المسألة في هذا: لو أنه أخذ المغصوب وهذا المغصوب يتقن صنعة، ثم علمه صنعة ثانية من جنس الصنعة نفسها في النجارة أو الحدادة أو الكهرباء أو السباكة، فلما علمه إياها نسي الصنعة الأولى، فبالصنعة الأولى تكون قيمة الرقيق مائة ألف، وبالصنعة الثانية التي علمه إياها تبقى قيمة الرقيق كما هي، ويباع بمائة ألف. فليس هناك من نقص، فالصفة -وهي العلم- كاملة، بمعنى: الجنس واحد وليس هناك تأثير في العين المغصوبة، لكن لو أنه اغتصبه وهو يتقن صنعة ثم علمه صنعة ثانية وجعله يعمل فيها فنسي الصنعة الأولى التي هي من جنسها، وكانت الصنعة الثانية أقل، فصارت قيمته ثمانين ألفا، وبالصنعة الأولى تكون قيمته مائة، فيضمن العشرين وهي النقص. فإذا: إذا جئنا نقابل ونكافئ النقص الموجود بالزيادة الحادثة فإنه ينظر إلى اتحاد الجنس، فإن اختلف الجنس لم تؤثر الزيادة في النقص، ويجب ضمان النقص ورد العين زائدة دون دفع شيء للغاصب. أما إذا كانت الزيادة من جنس الشيء الناقص فإنه في هذه الحالة ينظر: فإما أن تساوي أو تكون أكثر أو تكون أقل، فإذا كانت مساوية فلا إشكال، وإن كانت أقل ضمن النقص، وإن كانت أكثر رده بالزيادة، هذا بالنسبة لقوله: (إلا أكثرهما) . الأسئلة حكم تنازل المغصوب منه عن حقه السؤال إذا صرف الغاصب الشيء المغصوب في منفعة أرادها المالك فما الحكم في ذلك؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إذا تصرف الغاصب ورضي المغصوب منه عن تصرفه وأقره فهذه المسألة تأتي على صور عديدة، ومن أشهرها: أن تنتقل إلى مسألة الصلح، ويرضى المغصوب منه بما فعله الغاصب على سبيل الصلح والمعاوضة، خاصة إذا كانت هناك زيادات توجب المقابلة، بحيث يجعل حقه مقابل ما أحدثه الغاصب. أما من حيث الأصل الشرعي إذا رضي المغصوب منه تصرف الغاصب فقد سقط استحقاقه، أي: في هذه الحالة إذا قال: رضيت وما فعله أقبله، ولا أريد أن يدفع لي زيادة، فقد سقط استحقاقه. أخذ دوابا قيمتها -مثلا- خمسون ألف ريال، وردها ناقصة مريضة قد أصبحت قيمتها ثلاثين ألفا، فقيل له: ما حقك؟ قال: ما أريد شيئا وأنا راض بهذا التصرف، وتنازل عن حقه وأبرأه، فلا إشكال. فنحن نتكلم عن الأصل، أن الأصل يوجب الضمان لكن إذا رضي المغصوب منه وأقر فعل الغاصب، أو -مثلا- ضرب المصوغ فرضي المغصوب منه وقال: أريد مضروبا، فحينئذ لا إشكال، فهو لا يريد أن يطالب بحق في ذلك، والتصرف الذي في ماله مقبول عنده، فيسقط استحقاقه بالرضا، والله تعالى أعلم. أسباب ضعف الهمة في طلب العلم السؤال ما نصيحتك لمن يفتر عن طلب العلم ولا يصبر على مكابدة مسائله، وكيف تقوى الهمة في طلب العلم؟ الجواب ضعف الهمة في طلب العلم له أسباب، أعظمها وأخطرها وأشدها: سوء النية وتغير الطوية، فالله تعالى يقول في كتابه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] فالعلم فيه حجة، فلربما دخل طالب العلم وقلبه لله، فإذا وجد حلاوة العلم ولذته؛ لأن للعلم حلاوة وله لذة وكرامة وأنس، ومن ذاق لذة العلم نسي كل لذة سواها، ومن خاض بحور العلم وخاض في هذه العلوم المستفادة والمستقاة من نور الكتاب والسنة ألهته عن كل شيء، وكان العلماء رحمهم الله يتحدثون بما وهبهم الله من فضله. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جنتي في صدري) ، فالعلم جنة لا يعرف حلاوتها ولا لذتها ولا بركتها ولا خيرها إلا من وفقه الله عز وجل، فأتم عليه النعمة وكملها، أسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. فإذا وجد لذة العلم وأحس أن الله علمه وأنه قد ارتقى عن مستوى الجهل ربما اغتر، وظن أن له من الحول والقوة والذكاء والحفظ ما مكنه من ذلك، فإذا غير ما بنفسه غير الله ما به، فسلبه الله حوله وسلبه قوته، وأصابه بالخذلان والفتور. النية هي التي تؤثر في همة طالب العلم، والنية هي الوقود الصالح الذي تتقد به القلوب وتشتعل بنور الإيمان حتى تتعلق بالله سبحانه وتعالى في كل كلمة وفي كل حرف، فلا تشتكي سآمة ولا مللا. ولذلك نجد السلف الصالح رحمهم الله لما كانت نيتهم خالصة لله عز وجل -نحسبهم ولا نزكيهم على الله عز وجل- تغربوا عن الأوطان، وفارقوا الأهل والولدان، وحصل لهم من المشاق والمتاعب ما الله به عليم، وكان الرجل ينتظر الحديث الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نجده اليوم من أسهل ما يكون مدونا في الكتب، كان الرجل يجلس على طعامه ولم يفطر يوما وهو في شدة الجوع فإذا جلس يهيئ طعامه بنفسه، قيل له: إن الشيخ الفلاني له مجلس في مسجد كذا يريد أن يحدث، فيترك طعامه وينطلق إلى الشيخ، وهو جائع ولكن الله يطعمه، وهو في شدة الإعياء ولكن الله يمده بحوله وقوته، جنة في الصدور تنسي الإنسان السآمة والملل والتعب والنصب. منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا، فتجد طالب العلم له الهمة الصادقة والإخلاص، ومن صدق مع الله صدق الله معه. أما الأمر الثاني الذي يؤثر في طالب العلم: الجهل بحقيقة هذا العلم، ومن عرف هذا العلم ومكانته عند الله سبحانه وتعالى وعاقبته المحمودة في الدنيا والآخرة؛ هان عليه كل شيء، وبذل كل ما يستطيع لبلوغ هذه المنزلة الكريمة، والدرجة الشريفة المنيفة، وهو يسأل الله صباح مساء أن يكون من أهلها، إذا عرف حق العلم وقدره لن يسأم ولن ينصب ولن يشتكي التعب ولا السآمة ولا الملل؛ ولذلك قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] ما رضي الله سبحانه بشيء يقرنه بأحب الأشياء إليه وأعظمها زلفى لديه وهو الإيمان به سبحانه وتوحيده الذي أنزل من أجله كتبه وأرسل من أجله رسله إلا العلم فقال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] فقرنه بالإيمان. ثم قرنه بالإيمان في الثواب والعاقبة، وهذا من أفضل ما يكون وأجل ما يكون، لأنه لو قرن العلم بالإيمان من الجهة العامة على سبيل الإطلاق والعموم فليس كقرنه من جهة الثواب؛ لأن المقصود الأعظم من الأعمال والأقوال والطاعات: ثوابها وعاقبتها وجزاؤها؛ لأن العبد ينتظر من الله حسن الجزاء، فإذا قرن الله أعظم الأشياء عنده وأجلها وأكرمها عليه بالعلم دل على أن العلم في منزلة عظيمة، ومرتبة شريفة كريمة. ولذلك وقف الهدهد بين يدي سليمان عليه السلام الذي ما على وجه الأرض يومها أحد أكرم على الله منه، فوقف أمامه وهو طائر، ولكن بسبب العلم تشرف أن يقول له: {أحطت بما لم تحط به} [النمل:22] فللعلم مكانة ومنزلة، تبوأ بها صاحبه المنزلة الكريمة في الدنيا والآخرة. إذا أردت شرف العلم وعرفت ماذا يريد الله بهذا العلم جعلك الله عز وجل في همة كاملة، لا تسأم ولا تحس بالسآمة ولا الملل متى ما عرفت شرف ما تطلب. إن الذي تطلبه أحبه الله عز وجل وشرفه وكرمه، وأحب أهله وجعلهم من خيرة خلقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أحب الله العلم وشرفه وكرمه، فاختار أهله في أشرف المواطن وأحبها وأعزها عنده سبحانه وتعالى بعد التوحيد وهي الصلاة، فلا يتقدم لإمامة الناس إلا عالم، فقال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم يشرف أهل العلم، فجعلهم بين الناس وبين ربهم في الإمامة التي هي المقام الشريف والمنصب المنيف، فيكون بين العباد وبين ربهم مؤتمنا على أركان الصلاة وشرائطها وواجباتها, فهو شرف عظيم فيتحمل حتى سهو المأموم، كذلك أيضا شرف الله العلم ورفع قدر أهله إذا تكلموا به, ففي يوم الجمعة من تكلم وقال لأخيه: أنصت فقد لغى. ومن شرفه: أنه إذا تكلم بعلم أمر الله غيره أن ينصتوا, فلذلك تأتي الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد ويكتبون من بكر وابتكر, حتى إذا قام الخطيب يخطب طووا الصحف وأنصتوا, أنصتوا للعالم الرباني الذي يتكلم عن علم وبصيرة. ومن شرف العلم: أن الناس تنتظر من يدلها على الله ويهديها إلى صراطه, الناس أموات لا يمكن أن يحيوا إلا بالعلم, والناس في ظلام لا يمكن أن يهتدوا إلا بالله عز وجل ثم بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء, والناس في شقاء لا سعادة لهم إلا إذا تعلموا وعلموا, والناس في عذاب لا يمكن أن يرحموا إلا بالعلم, ولذلك قال الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] هذا فقط وأنت تستمع إلى القرآن, فكيف إذا استمعت ووعيت؟ فالرحمة تامة كاملة, فالأمة لا تزال في عناء وتعب وشقاء حتى تعرف قيمة هذا العلم وتعرف شرفه, ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله أعرف الناس بالعلم, وأولهم الصحابة رضوان الله عليهم, الذين عرفوا حق هذا العلم حينما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبوه صغارا وكبارا, ورجالا ونساء, فالنساء يقفن ويقلن: (يا رسول الله! غلب الرجال على حديثك فاجعل لنا يوما) . وهذا من محبتهن للعلم وشعورهن بفضله. وقال سهيل لما رجع إلى أهل مكة قال: (والذي يحلف به سهيل! ما رأيت أشد حبا من أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم, والله ما كلمهم إلا أطرقوا وكأن على رءوسهم الطير, وما رمقوه بأبصارهم) . رضي الله عنهم وأرضاهم. وعرف السلف الصالح فضل هذا العلم حينما تتلمذوا على العلماء، فتجدهم حريصين على مجالستهم وعلى حبهم حريصين على نقل فتاويهم ونشر الخير عنهم؛ حتى أصبحت الأمة في عز مجدها وعلو شأنها لما عرفت حق العلم. والله لا يمكن لهذه الأمة أن تنال الخير في الدين والدنيا والآخرة إلا بهذا العلم, ولا يمكن أن تناله إلا بفضل الله ثم بفضل العلماء وطلاب العلم, ولا يمكن لطلاب العلم أن ينالوا هذا العلم بهمة صادقة لا تعب فيها ولا نصب ولا سآمة ولا ملل إلا إذا عرفوا حق هذا العلم. فالمقصود: أن الهمة تستقر بمعرفة منزلة العلم، وانظر إلى التاجر في موسمه يسهر ليله ويبلي جسمه وتصيبه الأمراض في بعض الأحيان، فيكون مريضا، فإذا رأى الدنانير والدراهم ألهته عن مرضه وسقمه, فكيف بمن يرى رحمة الله عز وجل؟ فطالب العلم في كل كلمة يسمعها ترفع له درجة ومنزلة, وحالك اليوم ليس كحالك بالأمس. ومن شرف مجالس العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يغفر للعبد الشقي الذي يمر ويجلس اللحظة من ذكر الله عز وجل في مجلس العلم, وجاء في الحديث: (تقول الملائكة: إن فيهم فلانا -أي: أنه عبد خطاء كثير الذنوب, مر فجلس معهم- فيقول الله تعالى: وله قد غفرت, هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) الله أكبر! حتى مجالس العلم فيها السعادة والرحمة، تقوم منها وأنت منشرح الصدر مطمئن القلب, إذا عرف طالب العلم قيمة العلم تعب من أجله. كذلك مما يعين على الهمة الصادقة الشكر: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] طالب العلم الذي يريد أن يقوم من المجلس يشتاق إلى الذي بعده وبمجرد ما أن ينتهي من المجلس وقلبه معلق بالله عارف بحق الله وحق عباده, فيشكر لله عز وجل ويقول: اللهم لك الحمد علمتني ما لم أكن أعلم. وكم من أمم تنتظر من يعلمها؟! كل سطر تقرؤه وتسمعه ترفع به الدرجات والحسنات، وهو رفعة لك في الدنيا ومرضاة لربك. فإذا: إذا نظرت أنك أصبت رحمة وأصبت خيرا وبرا فقل: الحمد لله, يرضى الله عنك وفي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها) ، فكيف بمن أصاب لذة العلم التي هي أشرف من الطعام والشراب؟! فلا تقم من مجلس علم إلا وأنت تحمد الله وتشكره وتثني على الله بما هو أهله, فإن الله يقول لنبيه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] . طالب العلم إذا شكر نعمة الله وهبه الله الفتح, وزاده من الهمة الصادقة، وكذلك عليه أن يشكر نعمة العلماء, فيذكر فضل السلف الصالح, سل نفسك: كم من مجلس علم جلسته ولما قمت من المجلس ترحمت على صاحب الكتاب, وسألت الله أن يرحم سلف هذه الأمة الذين حفظوا العلم ووعوه وتعبوا من أجلك حتى أصبح العلم اليوم سهلا بين يديك, تنثر أمامك دواوين العلم من أئمة السلف الصالح, وتعيش الساعات واللحظات وأنت في أنس عظيم، بين يديك الأئمة وفحول العلم؟ فهل شكرت فضلهم بعد شكر الله عز وجل؟ ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله. فطالب العلم الميت القلب ا |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (374) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [5] قد يتصرف الغاصب في المغصوب بخلطه مع غيره، فلا يؤدي هذا إلى سقوط حق المغصوب منه، بل يحفظ حقه ويؤدى على تفصيل عند العلماء. وكذلك قد يتصرف الغاصب في المغصوب بإعطائه للغير أو حتى لصاحب الحق لكن دون علمه، فكذلك لا يسقط حق المالك الأصلي بل يؤدى له على تفاصيل عند العلماء رحمهم الله. أحكام اختلاط المغصوبات بغيرها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو خلطه بمثلهما] . شرع المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالتصرف في الشيء المغصوب، بخلطه مع غيره، سواء كان ذلك الغير ينفصل عن المغصوب أو كان يمتزج معه حتى يصيرا كالشيء الواحد، ومن عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا بينوا أحكام الغصوبات أن يبينوا حكم هذه المسألة؛ لأن هناك مغصوبا يترك على حاله، ومغصوبا يتصرف فيه الغاصب، وهذا الفرض العقلي لا بد من بيان حكمه، وإذا تصرف فيه، فإما أن يتصرف في منافع المغصوب -وقد تقدم بيانها- وإما أن يتصرف في ذات المغصوب دون إضافة شيء عليه أو نقص شيء منه، وقد تقدم بيانه. أما اليوم فالحديث عن الخلط، بمعنى: إضافة شيء إلى المغصوب، وإذا خلط بالمغصوب غيره فهناك صورتان: خلط المغصوب بشيء يمكن فصله وتمييزه الصورة الأولى: أن يكون ذلك الغير مما ينفصل عن المغصوب ولا يتصل به، بحيث يمكن أن يفصل كل واحد منهما عن الآخر. الصورة الثانية: أن يكون العكس، بحيث يمتزجان ويختلطان حتى يصيرا كالشيء الواحد، ويصعب حينئذ تمييز الشيء المغصوب عما خلط به. فأما الصورة الأولى، وهي: أن يقوم الغاصب بخلط المغصوب بغيره بحيث يمكن التمييز، فمن أمثلتها: أن يغصب تمرا، ثم يخلط التمر بالبر، فالبر شيء والتمر شيء، وحينئذ لا إشكال في تمكن الغاصب من فصل حق المغصوب منه عن حقه هو، فنقول له: يلزمك حينئذ أن تفصل المغصوب عما خلطته به وترده إلى صاحبه، في هذه الحالة -إذا خلط المغصوب بشيء يمكن تمييزه- عندنا حكمان: الحكم الأول: أنه مطالب بالتمييز. والحكم الثاني: وهو متعلق بالحالات الخاصة، وهي التي لا يمكننا فيها التمييز إلا بمشقة وكلفة وأجرة وعمل، فإن أمكن التمييز بأن يقول الغاصب: أنا أميزه، كرجل اغتصب أرزا وخلطه ببر، وكان الأرز نصف صاع والبر نصف صاع، فشيء يسير يمكن فصله وفصل بعضه عن بعض، لكن لو اغتصب -مثلا- عشرة آصع من البر وخلطها بعشرة آصع من الأرز، فهذا يحتاج إلى مشقة وعناء، وإلى وقت وإلى زمان، نقول: تستأجر من يقوم بذلك، ويلزم الغاصب بدفع القيمة؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه، ولما كنا مأمورين برد هذا المغصوب إلى صاحبه وتوقف هذا الرد وإبراء ذمة الغاصب على استئجار من يقوم به، لزمه أن يستأجر وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولو كلفه ذلك قيمة المغصوب أو أكثر، فلو فرضنا أن تمييز المغصوب عما خلط به يكلف مائة وقيمة المغصوب ثمانون، يقال: أنت ملزم بالفصل حتى ولو كانت التكلفة أكثر من القيمة؛ لأنها جناية يد يلزمه ضمانها كما تقدم معنا في أجرة رد الشيء المغصوب إلى المغصوب منه، هذا بالنسبة للصورة الأولى التي يخلط فيها الشيء المغصوب بما يمكن تمييزه، والحكم فيها واضح، والسبب في عدم ذكر المصنف -رحمه الله- لهذه الصورة: ظهور الحكم فيها ووضوحه. خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه أما إذا خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه، فهذا يأتي على أحوال: ففي ببعض الأحوال تكون عين المغصوب موجودة، ولكنها تمتزج مع الشيء الذي اختلطت به من جنسها كزيت بزيت، وأرز بأرز، وبر ببر، وتمر بتمر -من نوع واحد- فحينئذ عين المغصوب موجودة، ولكن لا نتمكن من فصل حق الغاصب من حق المغصوب منه. الصورة الثانية: أن يكون الخلط بشيء ليس من جنس المغصوب، كأن يخلط -كما ذكر المصنف- الدهن بالسويق، فحينئذ الدهن شيء والسويق شيء، لكن حينما خلطا مع بعضهما صارا كالشيء الواحد، وكمن اغتصب سمنا فصنع به طعاما، وكمن اغتصب دهنا من زيت ونحوه فقلى به طعاما أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يكون الحكم مخالفا للمسألة الأولى. إذا خلط المغصوب بشيء من جنسه: كأن يجعل الزيت مع الزيت والأرز مع الأرز والتمر مع التمر، فحينئذ إما أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أغلى ثمنا وأجود، وإما أن يكون مثله في الجودة والثمن، وإما أن يكون أردأ منه، كرجل أخذ منك لترا من زيت الزيتون ووضعه مع لتر آخر من زيت الزيتون، فإما أن يكون مثله في القيمة والجودة والرداءة ومن نوع واحد وقيمتهما واحدة، وإما أن يكون أغلى منه وأجود منه -الذي يكون حق الغاصب - أو يكون حق المغصوب أغلى وحق الغاصب أرذل. فإذا خلطه بمثله وكانا بصفة واحدة وثمن واحد، فحينئذ قال طائفة من العلماء: يجب على الغاصب أن يرد قدر المغصوب، فلو اغتصب صاعا من تمر وخلطه مع صاع آخر، نقول له: خذ من هذا المخلوط صاعا واحدا، وفقه المسألة يقوم على أن الغاصب له حق، والمغصوب منه له حق، وكلا الحقين مشتركان في الصاعين، فلو أننا قلنا لصاحب المغصوب: خذ الصاعين. ظلمنا الغاصب، ولو أننا قلنا للغاصب: خذ الصاعين. بقي الأصل كما هو والظلم كما هو، فالعدل أن يقال: رد إلى صاحب العين المغصوبة قدر ما اغتصبت صاعا أو لترا -إذا كان زيتا أو نحوه- فإذا رده ربما يعترض معترض ويقول: إننا لم نرد عين المغصوب؛ لأن الذي رد هو المغصوب، ومعه حق الغاصب، ف الجواب رددنا عين المغصوب ورددنا مثله، والضمان في الغصب إما أن ترد الشيء المغصوب أو ترد ما هو مثل له، فلو أنه اغتصب صاعا وخلطه بصاع آخر وامتزجا مع بعضهما فإنه حينئذ لو أنك أخذت صاعا من هذا المخلوط، وقدر نسبة المغصوب النصف، فالنصف الثاني يعتبر بمثابة المثلي للمغصوب؛ لأنه مثله في الجودة، ومثله في القيمة والسعر، فليس هناك ضرر، فإذا قال لك قائل: لماذا عدلت إلى المثلي؟ تقول: لأنه تعذر العين، وتعذر أن نضمن العين، فنلزمه بضمان المثل، والشريعة تلزم بالعين متى أمكن ردها، وتلزم بالمثلي إذا تعذر رد العين، وهذا هو المذهب الصحيح؛ أنه إذا خلط الصاع بصاع مثله؛ وجب ضمان الصاع من المخلوط، إذا اتفقا جودة ورداءة واتفقا قيمة، فحينئذ يضمن لصاحب الحق بقدر حقه قل أو كثر. وهناك من العلماء من يقول: يخير الغاصب، ونقول له: أنت بالخيار إن شئت أخذت صاعا من هذا الذي اختلط، وإن شئت طالبت بالمثلي من خارج المخلوط، ولكن الصحيح ما ذكرناه، أنه يضمن له حقه؛ لأنه إما أن يأخذ العين أو يأخذ المثل، وعندنا قاعدة وهي: (أنه لا يصار إلى البدل متى ما أمكن الرجوع إلى العين) . أي: ما دام أنه يمكننا أن نرجع إلى العين ونستوفي منها الحقوق، فلا يمكن أن ننتقل إلى البدل والمثل، وهنا لو قلنا له: أعطه صاعا مثل الصاع الذي أخذته، فإنه يضمن البدل ولا يضمن الذات، ولا شك أنك لو ضمنت بعض الذات أفضل من أن يكون الضمان خارجا عن الذات كلها، ولهذه القاعدة دليل سنبينه -إن شاء الله- في قصة حكومة سليمان مع داود عليهما السلام في قضية الغنم، حيث إن الله تعالى صوب حكم سليمان بمراعاته لهذه القاعدة. الحالة الثانية: أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أجود من الذي اغتصبه، مثال ذلك: لو أخذ أرزا وخلطه بأرز أجود وأفضل من الأرز الذي أخذه، كأن يكون -مثلا- الأرز الذي أخذه الكيلو منه بخمسة ريالات، والأرز الذي خلطه به من نفس النوع ولكن قيمة عشرة ريالات، فحينئذ يكون الخلط بما هو أجود وبما هو أغلى ثمنا، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: إذا خلط الأرز أو الدقيق أو التمر ونحو ذلك بما هو أجود منه، ننتقل إلى المثل؛ لأنه لا يمكن فصله، فحينئذ نقول له: انتقل إلى مثله. ونترك الاثنين للغاصب، أي: العين المغصوبة -الذي هو الصاع المغصوب- مع ما هو أجود منه، يترك للغاصب، ونقول للغاصب: ابحث عن مثل ما اغتصبته، وهو صاع يعادل الصاع الذي أخذته في الصفة والقيمة. وقال بعض العلماء: يلزم الغاصب بدفع صاع من المخلوط الذي فيه الجيد الذي له، فإن أبى فرض عليه ذلك -هذا إذا رضي المغصوب منه- ونلزمه بأخذ صاع من هذا المخلوط حتى ولو كان أجود. وحينئذ يرد السؤال كيف نلزم الغاصب بدفع شيء من حقه، مع أنه أجود؟ قالوا: ألزمناه بدفع الصاع من هذا المخلوط؛ لأن عين المغصوب موجودة فيه، فإذا ألزمناه بدفع صاع كان بعض العين مضمونا، فيبقى الزائد بقدر الصاع مما يؤخذ من المخلوط وهو ملك لصاحبه؛ لأنه هو الذي تسبب في الخلط، فتصبح زيادة يستحقها صاحب المال؛ لأنها من تصرفات الغاصب التي فيها العمد والعدوان، بمعنى: كأن الغاصب هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي يتحمل مسئولية جنايته، فلم يأمره أحد بالخلط، ويده يد عادية؛ لأنها دخلت على مال الغير، ورضي بإتلاف ماله بإدخاله مع مال الغير، فيتحمل مسئولية الضرر في النقص الحاصل على مالك، ونقول حينئذ: يلزمك أن تدفع الصاع، ويلزم المغصوب منه. قالوا: لو قال المغصوب منه: لا أريد، وأريد صاعا مثل صاعي من غير المخلوط، فهل يطاع ويلزم بضمان المثلي؟ قولان للعلماء، والصحيح: أنه لا يطاع بل يلزم بأخذ الصاع مما اغتصب منه، أي: من المخلوط. السؤال الذي يرد: لماذا ألزمناه؟ لأنه تبقى العين، وتبقى اليد في القدر الذي سيكون في داخل الصاع، هذا وجه. والوجه الثاني: وجود الجيد والأفضل إنما هو حقه وزيادة، وكونه يقول: لا آخذ. ليس له موجب شرعي، وإذا قال: لا آخذ، فهذا نوع من التفريط، فلو قال: أريد مثلا من خارج، صار فيه ضرر على المالك؛ لأنه في هذه الحالة يذهب ويتكلف شراء الصاع من خارج، وحقه مضمون والجيد فيه المثل وزيادة، فليس هناك من مظلمة حتى يقول: أريد الغير. فيجب حينئذ إعطاؤه صاعا من المخلوط الذي هو أجود. إذا: في حالة الاستواء وفي حالة الأجود يطالب الغاصب بدفع قدر مال المغصوب، سواء رضي المغصوب منه أو لم يرض، لكن لو خلطه بما هو أردأ. فقال بعض العلماء: يضمن له مثل ما أخذ، ولا يعطي من الخلط؛ لأنه في هذه الحالة كأنه أتلف، وكأنه استهلك العين. وقال بعض العلماء: يطالب بأخذ الموجود، ويضمن له قدر النقص من المال نفسه أو من مثله، وهذا هو الأقوى والصحيح. ففي الثلاث صور حكمنا بالضمان من نفس المال، وهذا راجع للقاعدة التي ذكرناها، فالأصل بقاء اليد حتى يدل الدليل على رفعها وتحويلها إلى المثل أو القيمة. والدليل على أننا نلزم المغصوب منه بالأخذ من عين ماله سواء كان في حالة الجودة أو الرداءة أو حال المثلية: قضية داود وسليمان وهي: رجل كان عنده غنم. وجاءت الغنم في الليل ورعت فأفسدت زرع رجل آخر، فاختصما إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع تعادل قيمة الغنم، يعني: لو فرض أن الزرع قيمته مائة فالغنم قيمتها مائة، فحكم عليه السلام بأن صاحب الأرض يملك الغنم، وأثبت هذا الحكم من جهة أن صاحب الغنم مالك لها، متحمل لمسئوليتها ولكل ما ينشأ من الضرر منها، فألزمه بضمان حق صاحبه، فحكم بالغنم لصاحب الزرع، فلما خرج من عند داوود، قال سليمان: لو كان الأمر إلي لقضيت في هذا بغيره، قيل: وما تقضي؟ قال: أقضي بأن صاحب الغنم يأخذ الأرض فيعيد زراعتها ويردها كما كانت، وأحكم لصاحب الزرع أن يأخذ الغنم، فيحتلبها وينتفع من صوفها حتى يرد له صاحب الغنم أرضه كما كانت، فيرجع صاحب الزرع إلى زرعه وترجع الغنم إلى صاحبها. فأثنى الله على حكم سليمان، والسبب في هذا: أن داود عليه السلام حكم بأن الغنم تصبح مستحقة لصاحب الأرض، فأخرج ملكية الغنم، ونزع يد صاحب الغنم عن الغنم، مع أن الغنم ملك له في الأصل. فصوب الله حكم سليمان وجعله أصوب، وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] ، وهذا يدل على أن العلماء إذا اختلفوا وكل منهم اجتهد بدليل شرعي، فإن الكل مفهم من الله وكل لا يلام، وكل لا يثرب عليه، ولا يقبح الخلاف ولا يشنع ولا ينتقص من مكانتهم، بل يزيدهم فضلا إلى فضلهم ونبلا إلى نبلهم؛ لأنهم بذلوا ما في وسعهم. فحينئذ لما حكم الله سبحانه وتعالى بأن الغنم تبقى لصاحبها، والأرض تبقى لصاحبها أبقى اليد كما هي، وهذا هو الذي نريده: إبقاء الأصل على ما هو عليه، فأنت إذا نظرت إلى مسألة الغصوبات، فالأصل أن هذه العين المغصوبة تبقى ملكا لصاحبها، ولا يحكم بانتقالها إلى الغاصب إلا بدليل، وحينئذ نقول: متى ما أمكن رد الزيت، أو الحبوب، أو الثمار التي خلطت بغيرها -مع أنه أجود أو أردأ- فإننا نقول بالرد، ونوجب على من فعل ذلك ضمان النقص إن وجد، ونلزمه بالدفع إن امتنع في الأجود والأحسن؛ لأنه هو الذي فرط وهو الذي ضيع ماله. هذا إذا كان الخلط للمغصوب من جنسه، وهو الذي يمكن أن تخرج قدر المغصوب منه، فمن غصب صاعا أخرجت منه صاعا، ومن غصب صاعا وخلطه بصاع من بر، فيمكن أن تخرج من الاثنين صاعا واحدا، ولكن الإشكال إذا حصل الخلط لطعام لا يمكن الفصل فيه، فمن أخذ السمن واستهلكه في الطعام أو أخذ الدهن وخلطه في السويق فلا يمكن أن ترد السمن إلى حاله، ولا يمكن أن ترد السويق إلى حاله، فحينئذ يحكم بإلزامه ضمان مثل العين التي أتلفها. الخلاصة: أنه إما أن يخلط على وجه يمكن التمييز والحكم فحينئذ يطالب الغاصب بالتمييز، وعليه مؤونة التمييز إن كان في ذلك كلفة ومشقة. الحالة الثانية: أن يخلطه فلا يمكن تمييزه، فإما أن يخلطه بشيء من جنسه كزيت بزيت، وبر بر، وتمر بتمر. فنقول له حينئذ: إن كان أجود أو كان مثليا لزمك أن تدفع مثله. ويكون النقص على الغاص حكم صبغ الغاصب لثوب غصبه قال رحمه الله: [أو صبغ الثوب] . مسألة صبغ الثوب تعتبر من إدخال العين التي لا يمكن فصلها غالبا إلا مع الحرج أو مع الإضاعة للمغصوب، ففي القديم كانت أحوال الناس ضيقة، ولم يكن القماش بالسهولة التي تتيسر للناس الآن، فإذا أخذ ثوبا ربما يلبس الثوب هذا أربع سنوات ويبقى معه. ففي السنة الأولى يلبسه أبيض مثلا، وفي السنة الثانية يصبغه أزرق وفي السنة الثالثة يصبغه بصبغ ثالث، وهذا لا يضره، بل هذا يدل على البركة التي كانت في أموالهم، كان الشيء يبقى. وهذا دليل على كثرة البركة في الأشياء. ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تنزع البركة كما في صحيح مسلم: (أنه إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان أنه توضع البركة في الأرزاق والأقوات، حتى إن الشاة الواحدة يطعمها أربعون رجلا) وهذا من البركة، فكانوا في القديم يصبغون الثياب، وصبغ الثوب للحاجة؛ لأنه لا يستطيع أن يبقى به على لون واحد، فيصبغه للحاجة، فإذا صبغ الثوب فمادة الصبغ ستدخل داخل الثوب، ولا يمكن فصل مادة الصبغ عن الثوب، إلا إذا رد الثوب إلى اللون الذي كان عليه بصبغ ثاني فهذا شيء آخر. فلا يمكن فصل الثوب، إلا بعض العلماء قالوا: يمكن في بعض الأحوال بمشقة وعناء وفيه كلفة على الغاصب. فمن أهل العلم من قال: إذا غصب ثوبا فيلزم الغاصب بقلع الغصب. ومنهم من قال: لا يلزم بذلك، ويأخذ المغصوب منه ثوبه، فإذا أخذ الثوب مصبوغا، فإما أن تنقص قيمته بسبب الصبغ، وإما أن تزيد قيمته بسبب الصبغ، وإما أن يبقى بقيمته التي كان عليها، فإذا نقصت القيمة نقول للغاصب: ادفع النقص، فمثلا: لو كان الثوب بخمسين ريالا بدون صبغ، ومع وجود الصبغ يباع بخمسة وعشرين، فنقصت النصف، فعند ذلك يلزم بضمان نصف قيمته، وإذا كان الصبغ يزيد في القيمة، فأصبحت قيمته مائة أو أكثر، فإنه يملكه المغصوب منه ولا شيء للغاصب، وأما إذا بقي على قيمته فلا إشكال. قال رحمه الله: [أو لت سويقا بدهن أو عكسه] . (أو لت سويقا بدهن) غصبه، أو غصب السويق ولته بدهن من ملكه، فالحكم مثل ما ذكرنا، إما أن يزيده أو ينقصه أو يساويه. الانتقال من الغصب إلى الشراكة قال رحمه الله: [ولم تنقص القيمة ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه] . بقدر قيمة المالين، فعلى ما اختاره المصنف -رحمه الله- يدخلان شريكان في المالين بقدره، فصاحب الصبغ إذا كان صبغه يعادل سبع قيمة الثوب فله السبع، وإن زاد إلى الثلث فله الثلث، والعكس أيضا، ويفصل في المسألة على نفس التفصيل الذي ذكرناه في الحقوق. قال رحمه الله: [وإن نقصت القيمة ضمنها] . إذا كان بسبب الغصب، بمعنى: أن نقص القيمة تارة يكون بسبب السوق وهذا لا نتكلم فيه؛ لأننا بينا أن غلاء سعر المغصوب أو نقصه ليس من دخل الغاصب ولا يتحمل الغاصب المسئولية؛ لأن هذا من قدر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى لحكمته يتأذن برفع الأسعار وغلائها ويتأذن برخصها، على ما يشاء سبحانه وتعالى، وليس للناس في هذا دخل، ولا يلام الناس في هذا، فالغاصب إذا زادت القيمة فليس بملام، وإذا نقصت القيمة ليس بملام؛ لأن هذا ليس من يده ولا من صنعه، وقد بينا أن هذه المسألة إجماعية وأن الذي خالف فيها هو الإمام أبو ثور إبراهيم بن يزيد الكلبي رحمة الله عليه، وكان يقول: يلزمه ضمان النقص الحاصل بالأسواق، وبينا أن هذا القول ضعيف ولا يفتى به ولا العمل عليه. قال رحمه الله: [وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه] . فإذا دخل شريكان في الثوب أو في السويق وغلت القيمة لأحدهما، فأصبح -مثلا- الصبغ الذي صبغ به الثوب غاليا وارتفعت قيمته، فإنه يكون الغلاء من حظ الغاصب، ويدخل الغاصب في الشراكة بحسب القيمة التي زادت لصبغه، وكذلك أيضا لو لت السويق مع الدهن، لو غلا سعر الدهن كان للغاصب، ولو غلا سعر السويق كان الغلاء لصاحب العين المغصوبة، يفصل فيه على حسب. لأن فقه المسألة: أن الغاصب له حق والمغصوب منه له حق، فإن كان الغلاء في العين المغصوبة فهو حق لصاحب العين المغصوبة، ويحسب من قيمة العين، وإن كان الغلاء للشيء الذي أدخله الغاصب فهذا حقه ويضمن له حقه، فترد للمغصوب حقه بتقدير قيمة العين المغصوبة، وترد للغاصب حقه بتقدير قيمة الشيء الذي أدخله وخلطه مع المغصوب، حتى ولو كانت القيمة غالية، ويستحق قدر ماله إذا كانا شريكين، وحكم بالشراكة على ما اختاره المصنف رحمه الله. قال رحمه الله: [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ] . هذه مسألة خلافية، بعض العلماء يجبره، فمثلا: شخص له ثوب فأخذه غاصب وصبغه بلونه، فبعض العلماء يقول: لما جئنا للمغصوب منه وقلنا له: هذا ثوبك. قال: ثوبي أبيض. قلنا: الغاصب تصرف فيه وصبغه. قال: لا بد أن يرد لي ثوبي كما كان. في هذه الحالة صاحب الحق يطالب برجوع العين كما كانت، فبعض العلماء يقول: يتعذر في مثل هذا، وقد يكون فيه إتلاف للثوب، فلا يطاع ولا يجبر الغاصب على قلع الصبغ، واختلفوا في التعليل، فمنهم من يقول: لأننا إذا أجبرناه أتلفنا الصبغ وإتلاف المال منهي عنه شرعا وهو إفساد؛ فما دام أن الثوب صبغ وصلح حال الثوب، وصار إلى تمام وأفضل، فحينئذ نقول له: خذ الثوب، وإن كان الصبغ أثر في الثوب وأنقص قيمته، قلنا له: اضمن له حقه، أما أن يطالب بقلع الصبغ ويصبح الأمر أشبه بالإضرار بالغاصب، وهو يقول: لا بد أن يقلع الصبغ عن ثوبي؛ لأنه إذا قلع الصبغ عن الثوب ربما أضر بالثوب، وتصبح عليه كلفة القلع وكلفة النقص الذي يحدث في الثوب بعد القلع، وحينئذ يكون الضرر أكثر مع إتلاف الصبغ، فهناك أكثر من مفسدة، فقالوا: لا نأمر بهذا. ولهذه المسألة نظائر، منها: لو أن رجلا عنده أرض زراعية اغتصبها شخص ثم حفر فيها بئرا، فمن مصلحة المزرعة وجود البئر، فلو قال صاحب الأرض: ما أريد! ظاهر الحال يدل على أن مصلحة المزرعة في البئر، فأصبحت المسألة مسألة إضرار بالغاصب، وأصبح هناك شيء من التعنت والأذية. فبعض العلماء يقول: لا يطاع، ولا يلزم الغاصب بردمها، وإن كان بعض العلماء يقول: يلزم بردمها. لكن مسألة الصبغ أقوى من مسألة البئر؛ لأن مسألة الصبغ فيها إتلاف للثوب وضرر به، وإتلاف للصبغ نفسه، فأصبح إتلافا للعين، وإتلافا أيضا للمنفعة الموجودة في العين دون وجود مصلحة، وعلى هذا قالوا: لا بجبر على قلع الصبغ. حكم من اشترى أرضا تبين غصبها بعد الشراء قال رحمه الله: [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة] . هذه مسألة تعم بها البلوى، وهي: أن يشتري شخص من آخر أرضا زراعية، وتبقى هذه الأرض مدة من الزمان، ويتبين أن الأرض ليست ملكا للبائع، وأنها ملك لشخص آخر. فالأرض أخذها ميتة فأصبحت حية بالزرع، وأخذها بوارا فبنى واستحدث فيها، فحينئذ الأرض ليست ملكا للبائع، وإذا لم تثبت يد البائع فمعناه: أن المشتري لا تثبت يده، فتنتقل الأرض للمالك الحقيقي، فقال المالك الحقيقي: أريد أرضي، فسنقلع غرس المشتري، وسنهدم أبنيته التي بناها. ف السؤال من الذي يتحمل مسئولية الضرر المترتب على هذا الخطأ؟ طبعا المسألة لها صور: تارة يكون البائع الأول غاصبا للأرض ويبيعها لشخص ثم يتبين أنه غاصب، فيطالب صاحب الحق ويثبت له القضاء الحق فلا إشكال، وقد تقدمت مسألة بناء الغاصب خاصة إذا اشترى منه الشخص وهو يعلم أنه غاصب. لكن إذا كان الشخص لا يعلم، وجاء إلى أرض وأحياها، وبعدما أحياها وزرعها باعها على شخص استخرج لها صكا، وباعها على شخص -مثلا- بمائة ألف، فأخذها الشخص الثاني فأحدث فيها بناء أو غرسا جديدا، حتى أصبحت مثلا بخمسمائة ألف، ثم تبين أن للأرض صكا أقدم من هذا الصك الذي بيعت الأرض به. فالسؤال: من الذي يتحمل مسئولية الضرر الذي سيقع على هذا الاستحقاق؟ الجواب يطالب المشتري بقلع غرسه، ويطالب بهدم بنيانه وإعادة الأرض كما كانت، ثم نقول له: تأخذ قيمة ما دفعت -الذي هو قيمة الأرض- وتطالب الذي باعك بدفع قيمة الكلفة التي تحملتها في نقل الغرس وكذلك هدم البناء. فيكون المتحمل للمسئولية البائع الأول؛ لأن البائع الأول كما أن له ربح الأرض كذلك عليه غرمها وخسارتها، والمشتري اشترى على أن يده يد مالكة، وإذا تبين بأن يده ليست بيد مالكة، فحينئذ يضمن هذا التفريط في معرفة حقوق الناس، ويضمن هذا التفريط في الاعتداء على أموال الناس إن كان معتديا، هذا بالنسبة إذا كان البيع من بائع واحد إلى مشتر واحد. لكن لو فرض أن خمسة أشخاص تناقلوا هذه الأرض، فالأول باع بمائة ألف، ثم اشترى شخص ثان بعده ثم ثالث ثم رابع ثم خامس، فالخامس إذا طولب بهدم بنائه وقلع غرسه، ننظر في الضرر الذي ترتب على هذا القلع وعلى هذا الهدم وعلى هذا القلع، لو كان يساوي مائتي ألف، نقول له: ارجع بها على من باعك وهو البائع الرابع. فالبائع الرابع يدفع المبلغ للمشتري منه، ويرجع الرابع إلى البائع الثالث، ويقول له: تدفع لي المبلغ الذي دفعته لفلان، ثم يقيم الثالث دعوى على الثاني، والثاني يقيم دعوى على الأول حتى تصل للأساس الذي غرر بالجميع، فكل منهم يطالب من غره، ولا ينتقل المشتري الأخير إلى البائع الأول مباشرة. لا؛ لأنه ليس بينه وبين البائع الأول أي استحقاق، إنما الاستحقاق الذي وقع والبيع والمسئولية تترتب على البائع الذي ابتاع منه واشترى منه، وحينئذ يقول: اضمن لي حقي في تلف هذه الأعيان التي تلفت بالهدم أو النقص الذي حصل بنقل الغرس، فلو أنه نقل الغرس ومات -لأن الغرس إذا نقل شيء منه يموت وشيء منه يحيا- فيكون الضمان على الصورة التالية: أولا: يتحمل مسئولية القلع للغرس، فلو كلفه القلع عشرة آلاف ريال يلزمه دفعها وتحسب، ثم لو فرضنا أن أعيان المغروسات نقصت بمقدار عشرة آلاف، بعضها مات بسبب النقل وبعضها تلف، وبعضها ضعف حاله، وتردى إنتاجه، فكل هذه الأضرار يتحملها البائع الأخير للمشتري الأخير، ثم يطالب الأخير من باعه بضمان هذه الحقوق حتى يتوصل إلى البائع الأول. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم من أكل طعاما يعلم أنه مغصوب قال رحمه الله: [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه] . شخص اغتصب طعاما من شخص، ثم أخذ هذا الطعام المغصوب وأطعمه مسكينا أو شخصا آخر لا يعلم أنه اغتصبه، فلا يضمن المسكين، ولكن لو علم المسكين أنه اغتصبه ثم أكله؛ لزم الضمان الآكل، أما الغاصب فلا ضمان عليه، بمعنى: أن الآكل أو المسكين أكل مالا علم أنه ليس للغاصب عليه يد، فمعنى ذلك: كأنه متعمد أن يأكل مال الأول، والغاصب ما أكل، فيضمن المسكين للغاصب، والغاصب يضمن لصاحب الحق، أما إذا كان لا يعلم فلا شيء عليه وإنما يضمن الغاصب، وعلى هذا تؤخذ مسألة الأطعمة، ومسألة الاستهلاك في الحقوق، وكلها مرتبة على هذا، ونفس الشيء في المنافع فيضمن له، ويكون الضمان على العالم إذا علم. لو أن شخصا جاء واغتصب عمارة، ثم قال لشخص: اسكن في هذه العمارة سنة، فجاء واستأجرها بعشرة آلاف لمدة سنة، وهو لا يعلم بأنها مغصوبة، فهنا لا يضمن المستأجر، ولو تبين أنها مغصوبة أثناء مدة الإجارة انفسخت الإجارة، فصحت فيما مضى وبطلت فيما بقي، إلا إذا شاء صاحب العمارة أن يستمر مع المستأجر فلا إشكال، وهكذا بالنسبة للمركوبات ونحوها، فيكون الضمان على المستهلك، لكن لو علم أن العمارة أو السيارة مغصوبة وانتفع بها لزمه دفع الأجرة ويكون الضمان على العالم، وكما يكون في الأعيان يكون أيضا في المنافع. قال رحمه الله: [وعكسه بعكسه] . إذا أكل الطعام من لا يعلم أنه مغصوب لا يضمن، وإذا أكل الطعام من يعلم أنه مغصوب ضمن، فأصبحت المسألة في حال العلم وعدمه مختلفة الحكم، إن كان الآكل يعلم أنه مغصوب ضمن، والذي يضمن هو الذي أطعم وأعطى الغير ذلك الطعام. متى تبرأ ذمة الغاصب قال رحمه الله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه، لم يبرأ إلا أن يعلم، ويبرأ بإعارته] . إذا اغتصب شخص من آخر حقا أو عينا فإنه تبقى ذمته مشغولة بهذا الحق وتبرأ الذمة بأحد أمرين: الأمر الأول: أن يرد عين الشيء الذي أخذه إلى صاحبه، فيأتيه ويقول له: هذه عمارتك أو هذه سيارتك التي أخذتها خذها، وضمن له نقصها، فحينئذ لا إشكال على التفصيل الذي ذكرناه. الأمر الثاني: أن يسامحه صاحب الحق، فيقول له: قد أبرأتك وعفوت عنك، فحينئذ يبرأ. ولكن هنا مسألة: لو أن صاحب الحق مات قبل أن يستسمحه الغاصب، كرجل اغتصب أرضا من جاره ثم توفي الجار قبل أن يسامحه، فجاء إلى ورثته وسألهم أن يسامحوه فقالوا له: قد عفونا عن المال الذي أخذته من أبينا وسامحوه، فهل يبقى حق الميت؟ الجواب اختار طائفة من العلماء أن الميت يكون خصما لهذا الغاصب في المدة التي احتبس فيها حقه عنه إلى أن توفاه الله عز وجل، فلو أنه ظلمه في هذه الأرض عشر سنوات، فإنه يكون غاصبا عشر سنوات ويلقى الله بمظلمة أخيه ولو سامح الورثة، فهم سامحوا في حقهم وليس لهم حق في أن يسامحوا في حق غيرهم، وكل نفس لها حقها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله) ، فجعل التحلل راجعا إلى صاحب الحق الأصلي، لكن بالنسبة للغاصب لا شك أنه إذا سامحه الورثة، فالأمر أفضل وأحسن من كونه يتمادى في الغصب، لكن لا يسقط الاستحقاق الأصلي للمورث -وهو الوالد أو الميت- لأنه يبقى بمظلمته حتى يلقى الله عز وجل بتلك المظلمة، ولذلك يستحب بعض العلماء أن يتصدق عن هذا الميت بعدل حقه، أن يتصدق وينويها صدقه عن هذا الميت بعدل حقه، فإذا فعل ذلك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان سيلقى الله عز وجل بمظلمة أخيه. حكم انتفاع المغصوب منه بالمغصوب دون علمه وقوله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه] . يبقى السؤال لو أن هذه العين المغصوبة أطعمها لمالكها، فالذي أكل الطعام هو الشخص الذي يملك الطعام؟ شخص اغتصب صاعا من الأرز، ثم دعا صاحب الصاع عنده إلى وليمة وأطعمه إياه مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم قال له: يا أخي! قد ظلمتني في الأرز، قال: الأرز قد أكلته. فما الحكم؟ الجواب أنه إذا كان لا يعلم، فلا يزال الصاع في ضمان الغاصب ولو أكله المغصوب منه، والسبب في هذا: أن يد الغاصب -وهي يد الضمان- لم تسقط؛ لأنه لم يعلم المغصوب منه أن هذا الذي يطعمه من ماله، وإنما دخل في ضيافة، ويظن أن هذا استحقاق، فهو يأكل بحق منفصل عن حقه الذي هو واجب على الغاصب، ولذلك كونه أكل فهذا لا يؤثر، ويبقى استحقاقه للعين المغصوبة، ويجب على الغاصب أن يضمن له المثل إذا أطعمه للمغصوب منه. وقوله: (أو رهنه) . إذا رهنه لمالكه ولم يعلم المالك أن هذا المال الذي رهنه هو نفس ماله فإنه لا يبرأ؛ لأن الرهن ينتقل إلى عند المرتهن وبينا في أحكام الرهن، أنه يكون الانتقال بالقبض، ويصبح الرهن لازما بالقبض وفصلنا في هذه المسألة، وبناء على ذلك: إذا أقبض المالك رهنه، فمثلا: لو أن شخصا اغتصب من شخص سيارة، ثم استدان منه عشرة آلاف ريال وجعل السيارة عنده رهنا، فإن هذا لا يوجب أن تزول يد الغصب وتبقى السيارة مضمونة عند الغاصب إذا لم يعلم المغصوب منه، أما إذا علم فهذا شيء آخر. وقوله: (أو أودعه) . جعله وديعة عنده. وقوله: (أو آجره إياه) . أخذ منه السيارة واستأجرها للركوب، فركبها وسافر بها. وقوله: (لم يبرأ إلا أن يعلم) . لم يبرأ الغاصب إلا أن يعلم المالك أن هذه السيارة هي سيارته، ويعلم المالك أن هذا الطعام هو طعامه، فإذا علم المالك أن هذا الطعام الذي يأكله هو طعامه، فحينئذ يكون قد أخذ حقه، وإذا علم أن هذه السيارة هي سيارته، فحينئذ تبرأ ذمة الغاصب في ضمان إجارتها المدة التي كانت عند المالك، وتكون يده حينئذ على العين المغصوبة، فإذا ردها للغاصب يكون هو المفرط وعلى هذا تبقى يد الغاصب على العين المغصوبة. وقوله: (ويبرأ بإعارته) . لأن الإعارة تستلزم الضمان، فتنتقل يد الغاصب، وتنتقل العين المعارة من ضمان الغاصب إلى ضمان المغصوب منه، وإذا انتقلت العين المغصوبة إلى ضمان المالك، حينئذ فاتت يد الغصب وأصبحت في ملك صاحبها، ولا يضمن الغاصب في هذه الحالة؛ لأنه لا يمكن أن نجمع بين يدين متضادتين في الغصب، فنقول: تكون العين المغصوبة المعارة في ضمان الغاصب، وفي ضمان المالك. لا يمكن هذا؛ لأنها بالعارية تكون في ضمان المستعير، فالمغصوب منه -مالك السيارة- حينما يأخذها عارية سواء علم أو لم يعلم يكون ذلك موجبا انتقال الضمان إليه. نصائح لطلاب العلم أحب أن أنبه إلى أمر يقع في الدروس، وكثير من الناس حصل عنده لبس فإن البعض يخطئ بعض طلاب العلم، والحقيقة ليس هناك مجال للتخطئة، فالبعض يلاحظ على طلاب العلم أنهم عقب التسليم من الصلاة يقومون مباشرة إلى حلق العلم، وهذا ليس فيه أي غرابة، بل هذا يزكي طالب العلم ويرفع قدره ويشرفه، ويعظم الله عز وجل به أجره؛ لأن مسألة الحرص على القرب للاستماع ومن أجل أن يفهم ويعي أكثر ويتمكن من السؤال إذا أشكل عليه أمر، بعد الصلاة، فهذه كلها لا يقصد بها طالب العلم أنه يتقدم لأجل مصلحة دنيوية، إنما يتقدم من أجل (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن الصحابة رضوان الله عليهم كان أعظمهم خيرا وبركة في حديث رسول صلى الله عليه وسلم أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم. أما مسألة الاقتتال والازدحام فالنصوص في هذا واضحة: أولا: القيام بعد الصلاة مباشرة، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمجرد أن صلى صلاة الفجر قام فزعا إلى بيته، فلما قام عقب الصلاة مباشرة لم يقل أذكار الصلاة ولم يعقب عليها من أجل مصلحة معينة موجودة في بيته، والحديث في الصحيح، وقال العلماء: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الذكر المعتاد لوجود العذر. فطالب العلم عندما يقوم من مقامه مباشرة من أجل العلم لا نثرب عليه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق الحلاق في صلح الحديبية كاد الصحابة رضوان الله عليهم يقتتلون وهم يحلقون رءوسهم، فكيف إذا ازدحم طلاب العلم من أجل أن يسمعوا (قال الله وقال رسوله) . فيجعل ذلك منكرا وخطأ! من يستطيع أن يجعل إنسانا يشتري رحمة الله ويتخوض فيها، لكن لا يسيء إلى غيره؟ لا نقول: إنهم يزدحمون ويقتتلون، لا. نقول: إن زحامهم من أجل العلم ومن أجل أن يعي ويسمع لا تثريب عليهم فيه. وقد كنا مع مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يسبقنا الشخص والشخصان فلا نسمع الفتوى ولا نسمع السؤال ولا الجواب. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يليه أولو الأحلام، وكان يحب أن يليه من يعقل عنه عليه الصلاة والسلام. فهناك أشياء مخصوصة في مسألة الازدحام ومسألة التقدم حتى في صفوف الصلاة، بمعنى: الصف الأول معروف مكانه ومعروف من الذي فيه، فإذا تقدم الشخص والشخصان لضرورة الازدحام، فهذا لا تثريب عليه. فطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم فرض عليهم أن يتعلموه، وأن يكونوا على إيمان تام به، وقد تفوت المسألة الواحدة بسبب التأخر، ولا يزال الرجل يتأخر حتى يؤخره الله، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره من الشخص أن يجلس في طرف المسجد ويستند إلى الجدار والحلقة في مقدمة المسجد إلا إذا كان عنده عذر، والبعض يقول: لا أحب أن يكون بجانبي يشوش علي. وهو يقصد بذلك الخير، ولكن الأفضل والأكمل أن تتخوض رحمة الله، ولذلك تجد طالب العلم في اليوم الأول في الصف السادس، واليوم الثاني في الصف الرابع ثم الخامس ثم الثالث حتى يصل إلى أقرب الناس. يقول أنس رضي الله عنه وهو يفتخر بهذه المنزلة: (لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك حجة وعمرة) فالذي يشكل عندي: كيف نجعل المعروف منكرا؟! فالحمد لله الذي ما أماتنا حتى رأينا بأم أعيننا من يحرص على هذا العلم، وهذا -والله- نعمة وفخر! الإمام مالك رحمة الله عليه سقطت عمامته أكثر من ثلاث مرات وهو على باب مشايخه، يزدحمون من أجل رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يلومه، ويل للإنسان الذي يتتبع عورات طلاب العلم، فيأتي عامي جلف جاف لا يعرف من العلم شيئا ويقول: ما هذا الإزعاج؟ لأنه لا يعرف ما الذي يخوض العباد من أجله في رحمة الله عز وجل، فنحن في زمان أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، فلا يلام طالب العلم في الحال ولا يمكن أن ينتقص، ولا يمكن أن يقال: إن هذا باطل؛ لأن هذه مسائل خاصة. في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا توضأ يقتتل الصحابة على وضوئه) ما معنى (يقتتل) ؟ يقتتلون على وضوئه وهم يريدون فضلة وضوئه؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمكان المعجزة ولا يشاركه أحد. لكن نحن نقول: إذا كان الصحابة يقتتلون على قطرات الماء من وضوئه عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يبحث عن قطرات العلم التي يحيي بها ويثري بها الأمة؟! كيف بالذي يتخوض رحمة الله عز وجل وهو يبحث عن هذا العلم، وهو يريد أن يسمع كلمة تقربه إلى الله سبحانه وتعالى؟! لقد رأينا هذا من مجالس مشايخنا -ولا أجعله افتخارا أو رياء أو سمعة- والله لقد كنا نجلس في شدة الحر وكان يوافق رمضان، وكان الوالد -رحمة الله عليه- له أربعة دروس متواصلة بعد صلاة العصر، فكان عقب الفجر وعقب الظهر وعقب العصر، لكن أشدها الدرس الذي بعد العصر، آخر النهار، في شدة الصيف. وتجد الدرس درس صحيح مسلم ثم يعقبه درس الترغيب والترهيب ثم يعقبه درس السيرة، وكل درس من هذه الدروس تكون من بعد العصر، وهذا في الصيف طويل قد يصل إلى أكثر من ساعتين، فكنا نزدحم وإن الشخص يكاد بعض الأحيان يجد رائحة النتن مع حر الصيف. حتى إن الإنسان تجد أحيانا مثل الزبد على فمه من المشقة، فلا ينقص طالب العلم هذا، كنا نزدحم، وأقسم بالله إنه كان الرجل يضع رجله حتى في بعض الأحيان تتعب الركبة فما أستطيع أن أقف، فهذا لا ينقص طالب العلم شيئا أبدا، ولا أحد يلوم أحدا، فكانت بينهم من المحبة والمودة ما يسامح فيه الأخ أخاه، ويتجاوز عنه ويحس أنه إذا نافس فإنه ينافس في جنة عرضها كعرض السماء والأرض، ينافس في رحمة الله عز وجل ويتمنى الأخ الخير لأخيه، والذي يهمني: ألا نجعل المعروف منكرا. أما مسألة السنة الراتبة بعد صلاة المغرب، فهناك من العلماء من يرى أنه لا بأس بتأخيرها إلى بعد العشاء، وأن المغرب والعشاء كالصلاة الواحدة، ويرى أنها سنة بعدية ولو وقعت بعد العشاء فهي بحكم السنة البعدية، وهذا مذهب بعض العلماء وأنا لا أفتي بهذا، وأرى السنة هي الأصل، لكن لو أن طالب العلم تأول القرب للعلم، فالسنة ليست بواجبة العلم فرض عليه، وليس القضية وجود السماعات والميكروفونات، فوجود السماعات والميكروفونات لا يساوي بين الناس، وإلا لاستوى من بخارج المسجد ومن بداخله، والذي بداخل المسجد الأقرب أعظم أجرا من الأبعد؛ لأن الأقرب هو الذي يبكر، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الناس أجرا في الجمعة من بكر إليها؛ لأنه بكر للعلم، وجعلت فضيلة الجمعة من أجل الخطبة، والخطبة لا تقوم إلا على العلم، وعلى الوحي؛ على قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام. فالمقصود: كم من مرة أجد بعض الإخوان يكتبون الملاحظات وأسكت، ولكني وجدت الأمر يتجاوز الحد إلى درجة اتهام طالب العلم بأنه غير منضبط، وبعض طلاب العلم يظن أن هذا نقص في العلم وأهله، لا والله أبدا، بل هذا مما يرفع قدر طالب العلم ما اتقى الله عز وجل وفعل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياء ولا سمعة، ولم يضر بإخوانه. وإن حصل من إخوانك لك ضرر فأحسن الظن بهم وليتسع صدرك لأخطاء إخوانك. هذا الذي أحببت أن أنبه عليه بحيث لا يكون هناك فهم خاطيء، فمسألة حرص طلاب العلم على التذكير ومحبتهم للخير أمر طيب، ولنحمد الله ونشكره، فكم ترى أعيننا أناسا يقتتلون وهم يشترون الخبز والطعام، ويقفون الساعات الطويلة، وتجد الرجل يدخل مسجدا وينتقد طلاب العلم وهو يرى بأم عينيه من يزدحم على كسرة خبز ولا ينتقده ولا يلومه بل يذهب ويقف معه، نحن في زمان غربة، غربة الحق وأهله، فأقول: الله الله في أعراض طلاب العلم، وينبغي علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وما دام طالب العلم عنده تأويل وعنده حجة، فإنه لا يلام على ذلك، وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولكم فيما تعلمناه وعلمناه، ونسأله السداد والرشاد. الأسئلة استفادة الشريك من أرض مشتركة دون علم شريكه السؤال: شريك باع أرضا زراعية دون علم شريكه، وكان قد استفاد من محصولها قبل بيعها، فماذا للشريك الثاني؟ هل له نصف المبلغ المباع فقط، أم له المطالبة بفوائد المحاصيل؟ الجواب إذا اشترك الاثنان في عين فتكون هذه العين بينهما بقدر الشراكة، فإذا كانت مناصفة فإنه يستحق نصف القيمة، ويستحق أيضا نصف المحاصيل التي نشأت وترتبت ربحا ونتاجا للعين المشترك فيها، فهو -بلا شك- يستحق بقدر حصته للشركة قلت أو كثرت. وأما بالنسبة إذا باع دون إذن شريكه فهذا يختلف، ففي بعض الأحيان يوجد التفويض فيصح بيعه، وهناك أحوال تكون الشراكة فيها في الاستحقاقات، فيجب أن يرجع إلى شريكه ويستأذنه فيصح البيع في ماله، ولا يصح في مال شريكه، وبناء على ذلك يفصل في مسألة البيع وعدمه بين الشراكة التي يقصد بها المنافع وبين الشراكة التي تقتضي التفويض من كل وجه. والله تعالى أعلم. حكم زوال عيب المغصوب بعد رده وقبض الأرش السؤال إن رد المغصوب معيبا، ثم زال عيبه في يد مالكه، وكان قد أخذ الأرش، فهل يلزمه رد الأرش للغاصب؟ الجواب لا يلزمه؛ لأن العبرة بحال الأداء لا بما يطرأ بعد ذلك. والله تعالى أعلم. الحث على غض البصر عن محارم الله السؤال إن نعمة النظر من أجل نعم الله، وإن الله يثيب من غض عينه عن محارم الله، فكيف يمكننا أن نفوز بهذا الأجر، وخصوصا من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله؟ الجواب لا يوفق الإنسان لحفظ جوارحه مع حدود الله عز وجل إلا إذا عصمه الله بعصمته، وحفظه الله سبحانه وتعالى فصانه عما يغضبه جل شأنه وتقدست أسماؤه، ولذلك ينبغي للمسلم دائما أن يسأل الله الحفظ. ومن أعظم ما يكون به الحفظ: أن يستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فأول ما ينبغي على الإنسان أن يسأل الله العافية في سمعه وبصره وجوارحه. ثانيا: أن ينظر إلى نعم الله الذي نور بصره، وأطفأ بصر غيره، ولو أطبقت أطباء الدنيا على أن يعيدوا هذه النعمة لمن فقدها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ ولذلك يحمد الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليه بهذه النعمة، وأن يعلم أنه مغبون فيها، وأن من شكر الله عز وجل أن يحفظ هذا البصر عن عورات وأعراض المسلمين، فإذا وفقه الله لهذا الشعور، وعرف قيمة نعمة الله واستحيا انكسر، وهذا من صلاح القلب؛ لأن القلب إذا صلح أثر على الجوارح، ولا يصلح القلب بشيء مثل: الإيمان بالله، والنظر في نعم الله عز وجل. كذلك مما يعين على غض البصر وحفظه عن حدود الله عز وجل: الأخذ بالأسباب، ومنها: البعد عن الأماكن التي فيها الفتن، والأماكن التي يتعرض الإنسان فيها للنظر إلى ما حرم الله، فيحفظ نفسه عن حضورها وشهودها والنزول فيها، حتى يحفظ الله له دينه، فإنه ما من نظرة إلى حرام إلا ولها أثر في القلب كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تنكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصبح القلب أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه. ولله عقوبات في النظر إلى محارمه؛ فإنه ربما ابتلى الإنسان بالعمى على صراط جهنم والعياذ بالله، فعلى الإنسان أن يحفظ بصره. كذلك من العواقب الوخيمة للنظر إلى ما حرم الله: أن الله سبحانه وتعالى يفقد صاحبه نور البصيرة التي هي: الفراسة، فتصبح الأشياء عنده مستوية، والمؤمن عنده فراسة لا تخطئ غالبا؛ لأنه إذا حفظ جوارحه حفظه الله عز وجل وصانه وبارك له فيها. كذلك أيضا: عليه أن ينظر إلى حسن العاقبة، فإنه إذا غض بصره عن حرمات الله عز وجل؛ أعظم الله له مثوبته، فما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه، ومن الإيمان بالله: ترك الشيء لله إذا كان تركه يرضي الله، فهذا من صريح الإيمان وصدقه، وهو من اليقين بالله سبحانه وتعالى أنه يأجره، ومن تصديقه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم ما تكون الطاعة إذا كانت الفتنة أشد، فالنظر في الخلوة والنظر في الجمال الفاتن، والنظر في العورة الفاتنة أبلغ وأعظم، والغض عنه أعظم ثوابا وأجل، وخاصة إذا كان في حال الغيب، فإن الذي يخشى ربه بالغيب له مغفرة من الله وأجر عظيم وثواب كبير، وهذه المغفرة والأجر لا يعلم أجرها إلا الله وحده، فربما أعظم الله من وليه المؤمن الشاب الذي يتيسر له أن ينظر للحرام وهو في صحته وعافيته، أو ربما يفتن في نظرته للمرأة، ومع ذلك يستحي من الله جل جلاله، ويؤثر الله سبحانه على ما سواه، ويؤثر ما عند الله من حسن العاقبة وحسن الثواب، فيغض بصره لله وفي الله؛ فيعوض إيمانا بالله، وحلاوة يجدها في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله) . نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين. حكم أخذ المغصوب منه عن الصاع من المغصوب صاعين السؤال إذا خلط مالا ربويا كالبر بما هو أردأ أو العكس، وتصالحا على الصاع بصاعين من المخلوط، فما الحكم؟ الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا وقع الصلح، جرت عليه أحكام البيع، فيجب التماثل ويجب التقابض، ولا يصح أن يكون أحدهما أزيد من الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك كما في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت في حديث الأصناف، وفي الصحيحين من حديث عمر وأبي سعيد الخدري وغيره من الأحاديث التي دلت على وجوب التماثل في المطعومات، إذا كانت منها أصناف ربوية، فيجب التماثل ويجب التقابض، والله تعالى أعلم. مسألة تضمين الغاصب عند تلف المغصوب بآفة سماوية السؤال أشكل علي تضمين الغاصب إذا تلفت العين ولو بآفة سماوية، وعدم تضمينه عند نقص قيمة العين في السوق؟ الجواب بالنسبة للتضمين، الأصل في يد الغاصب أنها يد معتدية وحينئذ هناك فرق بين التلف الذي يقع على اليد المعتدية متعلقا بالعين، والتلف الذي يقع متعلقا بالأحوال، فغلاء الأسعار ورخصها متعلق بالأحوال، والعين هي العين، موجودة كما هي، فالذي رده الغاصب هو عين المال، لكن إذا حصلت الآفة السماوية فإنه لا يرد عين المال؛ لأن التلف وقع على العين ووقع على الذات، وفرق بين النقص التابع للأحوال والنقص المتعلق بالأحوال؛ لأنه إذا نزلت الآفة السماوية على العين المغصوبة تضررت العين ونقصت، فنقول: إخراج المغصوب يوجب ضمانه، وحينئذ تلزم بالضمانة. بناء على ذلك: يوجد فرق بين غلاء الأسعار ورخصها؛ لأنه أحوال، وبين الآفة السماوية لأنها ضرر بالذات، والحقيقة عندما تحكم الشريعة بكون يد الغاصب يد ضمان هذا أصل شرعي وصحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وإذا كانت العارية التي هي أخف من الغصب مضمونة، فكيف بإنسان يعتدي ويغصب؟ لكن على طالب العلم أن ينتبه أنه قد توجد بعض الأحوال الغريبة التي هي من الأحوال النادرة، لكنها لا تقدح في الأصل العام؛ لأنك لا تأتي وتلغي يد الغاصب المعتدية من أجل الآفة السماوية؛ لأنه ربما يخرجها فيتلفها غيره، من الذي أخرجها؟ ومن الذي يتحمل مسئولية الإخراج؟ فيد الغاصب يد معتدية وتتحمل مسئولية النقص المتعلق بالذات كما ذكرنا، دون النقص المتعلق بالأحوال مما هو من قدر الله عز وجل كالغلاء والرخص. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (375) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [6] من عدل الشريعة أنها تلزم الغاصب بمثل ما غصب ولا تلزمه بما فوق ذلك، فإن لم يجد المثل انتقل إلى قيمته، وفي الأصل أن تصرفاته في المغصوب باطلة، ولكن لا يعني هذا أنه لا يقبل قوله أبدا في أي شيء يتعلق بالمغصوب، ولكن هذا له تفصيل عند العلماء رحمهم الله. حكم تلف أو تغيب المغصوب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا، وإلا قيمته يوم تعذره] . شرع المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة في بيان ضمان المغصوب إذا تلف أو تغيب وكان له مثلي، والمغصوب الذي له مثلي يكون من المكيلات ويكون من الموزونات، فلو أن شخصا أخذ طعاما كالأرز -مثلا- أخذه غصبا من شخص وأتلف هذا الأرز فإنه يجب عليه أن يغرم له مثله، وهكذا لو اغتصب شيئا فتغيب الشيء كما هو الحال في الدواب، فلو اغتصب ناقة ففرت الناقة وغابت ولم يدر أين ذهبت، فإنه باغتصابه لهذه الناقة والدابة تكون يده يد ضمان، فيجب عليه أن يضمن مثلها. ضمان المثلي بمثله إذا: مراد المصنف: أن الضمان للمثليات يكون بالمثل، والمثليات كالمكيلات والموزونات، وقد تكون المثليات من العدد كما هو موجود في زماننا كالسيارات ونحوها فيضمن مثلها، وللعلماء في هذه المسألة قولان: بعض العلماء يقول: أي شيء يغصب ويتلف يجب على غاصبه أن يدفع القيمة، ولا يرى أنه يدفع المثلي. وذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا كان الشيء المغصوب له مثل فإنه يجب عليه أن يضمن المثل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف وهو مذهب الحنابلة -رحمة الله عليهم- في المشهور. فمن اغتصب شيئا وهذا الشيء تلف وله مثلي، فإنه يجب عليه أن يرد لصاحبه المثل، ولا ننتقل إلى القيمة متى أمكن رد مثل الشيء الذي أتلفه، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بطعام من صفية رضي الله عنها وأرضاها، وكانت عنده أم المؤمنين عائشة وكانت صفية رضي الله عنها تحسن الطعام. ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصة إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار. فلما أتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) رضي الله عنها وأرضها، ومن الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فلما كسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة رضي الله عنها، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان، وقال: (إناء كإناء، وطعام كطعام) أي: اضمني إناء مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعاما مثل الطعام الذي أتلفتيه فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئا نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودل عليه صريح القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، وقال سبحانه وتعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، فقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} سمى ضمان الشيء ورد الشيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة؛ لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء -رحمهم الله- المثلية هنا، فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالبا فزاد وجار، ولذلك قال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلا بمثل؛ لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة، الشاهد في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل} [النحل:126] ، فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئا فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل} ، فإذا كسر إناء عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناء مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارة غصبا فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه. وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمة الله عليهم- خلافا للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد. والسبب الذي جعل القائلين بأنه يضمن بالقيمة: أنهم استدلوا بحديث في الصحيحين في عتق الشرك: (أن من أعتق شركا -يعني: نصيبا له في عبد- قوم له قيمة عدل) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان نصيب الآخر، بتقويم نصيب ذلك الآخر وإعطائه القيمة، ومثال ذلك: لو كان هناك عبد قيمته خمسة آلاف، وكان فيه شريكان، فأعتق أحد الشريكين نصيبه سرى العتاق، وحينئذ يضمن للشريك الآخر نصيبه بالقيمة على ظاهر الحديث. الشاهد: أنه أمر بالضمان بالقيمة، ولم يأمر بالضمان بالمثل، يعني: أمر أن يضمن نصيب صاحبه بالقيمة، وهذا كالإتلاف؛ لأنه فوت نصيب صاحبه بالعتق؛ ولا يمكننا هنا أن نأتي بالمثل؛ لأن هناك شراكة فلا نستطيع أن نذهب ونأخذ عبدا ونأتي بشخص ونقول له: شارك هذا الشخص حتى تتحقق المثلية، فحينئذ نقول: هذا الحديث نجيب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: لا تعارض بين عام وخاص، فالأصل في الضمانات المثلية إلا في مسألة عتق العبد فيضمن بالقيمة، فيصبح الحديث خاصا في مسألة العتق، والضمان الأصل فيه عام، وهو: أنه يضمن بالمثل، هذا الوجه الأول، حيث تجعل الأصل عاما وتجعل الحديث خاصا، ولا تعارض بين عام وخاص. ثانيا: أن تقول: إن الأصل الذي يقتضي الضمان بالمثلية هو فيما يمكن فيه المثلية وأن يأتي بمثل ما أتلف، والحديث الذي معنا متعلق بالعتق ولا يمكن فيه الضمان بالمثل فانتقل للقيمة، وهذا من أقوى الوجوه وهو الوجه الثاني الذي يجاب به عن هذا الحديث. ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله وقوله: [وإلا فقيمته يوم تعذره] . (وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذا: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولا- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلا- أتلف سيارة غيره، سواء كان متعمدا أو مخطئا، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارة مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذ نقول: تقوم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارة وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها. وقوله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا، وإلا فقيمته يوم تعذره] . فقوله: (غرم مثله إذا) : التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذا) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ} [الزلزلة:1 - 4] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها {تحدث أخبارها} [الزلزلة:4] ، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذا) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية. فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارة في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلا- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفا، فحينئذ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذا) أنه يجب حينئذ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذا) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر. قال رحمه الله: [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه] . كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلا: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صب الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذ يجب ضمانه بالقيمة. لكن لو أن شخصا أتلف مغصوبا لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلا- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟ وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلا- عشرين ألفا، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبة نصف سنة مثلا، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفا أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان: القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتا وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب. ومنهم من قال: لا. هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزما بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعا بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولة بالقيمة يوم التلف. وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصة وأن فيه نوعا من التعزير، وهذا مقصود شرعا للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفا. الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصبا للعين مخاطبا بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولة بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت. كيفية ضمان القيمة في حال تعذر المثلي وقوله: [وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرا] . فقوله: (وإن تخمر عصير فالمثل) . إن اغتصب عصيرا فبقي العصير عنده حتى صار خمرا، فحينئذ يتعذر رد المثل، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله، فهم أعطوك القاعدة وهي: أنه يجب عليك أن تحكم بضمان المغصوب بمثله، وإن تعذر المثل تنتقل إلى القيمة. يرد السؤال هل هناك صور يمكن أن توجد فيها العين المغصوبة ولا يطالب بردها، ويجب عليه ضمان مثلها، قالوا: نعم، إن أخذ العصير واغتصبه عصيرا وتحول هذا العصير إلى خمر، كعصير تفاح؛ لأن العصير إذا مكث مدة يتخمر، فأخذ عصير تفاح أو عنب فبقي عنده مدة يوم أو يومين فتخمر، فحينئذ لا يمكن رده؛ لأنه يجب إتلافه كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يهريق الخمر وأن يكسر الإناء -وهو وعاء الخمر- فدل هذا على أنه يجب إتلاف الخمر. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المزادتين: (أن الرجل لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم المزادتين وحرم عليه بيعهما فتح المزادتين وسكبهما على الأرض) ، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة عندما أهريقت وأتلفت، فالأصل أن الخمر تتلف، فلو أنه اغتصب عصيرا ثم تحول هذا العصير إلى خمر نقول: يد الغاصب يد ضمان، فيجب عليه أن يتلف هذا الخمر، وأن يرد لصاحب العصير مثله، وذلك لأن العصير يكون مثليا فيجب عليه الضمان بالمثل، وقد يتحول الخمر إلى خل بطريقتين: الطريقة الأولى: أن يتحول بنفسه، وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالا طاهرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل) ، والخل لا يمكن أن يصير خلا إلا بعد أن يكون خمرا، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة رضي الله عنه حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر الأيتام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرة حينئذ، فلو أنه اغتصب عصيرا فبقي العصير عنده مدة من الزمان، فتحول فيها هذا العصير إلى خمر ثم صار خلا، فإذا صار خلا فالعين يمكن ردها إلى صاحبها، فنقول له: رد هذا الخل إلى صاحبه؛ لأن الخل فرع عن العصير، والفرع تابع لأصله، فالمال مال المغصوب منه، فيجب عليك رد الخل، ثم ننظر: هل اختلفت قيمة الخل والعصير، فلا تخلو من ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تتفق القيمتان، كأن تكون قيمة العصير مائة ريال، فعندما غصبه كمية من العصير تخمرت ثم تخللت، فصارت قيمته خلا بمائة ريال، فحينئذ يرده خلا ولا إشكال. الحالة الثانية: أن تكون القيمة ناقصة بعد أن صار خلا. الحالة الثالثة: أن تكون القيمة أغلى إذا صار خلا. فإذا تخلل وصارت قيمته أقل، قلنا له: رد الخل وادفع الفرق، وقد بينا دليل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، وقررنا أن من اغتصب شيئا وأمسك ذلك الشيء حتى نقصت قيمته فإنه يجب عليه الضمان، واستثنينا مسألة غلاء السوق ويكاد يكون إجماع أهل العلم عليها إلا قول أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمه الله الذي قال: تضمن قيمة غلاء السوق. أما إذا كان الأمر بالعكس فتكون قيمة الخل أغلى، كأن يغتصب عصيرا قيمته مائة فأصبحت قيمته خلا مائتين، فحينئذ يرد الخل ولا ضمان عليه. بطلان تصرفات الغاصب الحكمية قال رحمه الله: [فصل: وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة] . (تصرفات الغاصب): هذا الموضع والمسائل التي ذكرها المصنف رحمه الله في بداية هذا الفصل تتعلق بالتصرفات في العقود من بيع وهبة ووقف وغير ذلك، فبعد أن بين لنا تصرفات الغاصب الفعلية شرع في تصرفاته الحكمية ببيع المغصوب، و (الحكمية) : أي: الحكم على الشيء من حيث الصحة والفساد، تصرفات الغاصب الحكمية المعنوية باطلة، هذا أصل، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق) ، وقد حرم الله عز وجل أموال المسلمين، وجعل حرمة المال كحرمة الدم، وإذا كان المال محرما على الإنسان فتصرف فيه بدون ملكية وبدون إذن وبدون ولاية فتصرفه باطل؛ لأن المال ليس ملكا له، فلو أن شخصا جاء واغتصب سيارتك ثم باعها، فنحكم على البيع الثاني بالبطلان، ولو أخذ سيارتك ووهبها إلى شخص فإننا نحكم على هذه الهبة بأنها باطلة ويجب رد السيارة إلى مالكها. فقوله: (باطلة) : الباطل لا تترتب عليه الأحكام الشرعية بحيث لا يحكم بصحة البيع ولا بصحة الهبة، ولا يحكم بالآثار المترتبة عليه، فمثلا: لو أنه اغتصب جارية ثم وطئها، فإن هذا الوطء يعتبر وطء زنا بالنسبة له، وبالنسبة للجارية: إذا أكرهت على جماعه وعلى استمتاعه كان حكمها حكم الإكراه على الزنا وسيأتي -إن شاء الله- في باب الحدود، فإذا وطئها وهو غاصب لها، فإنه لا يجوز لها أن تمكنه من نفسها، فهذا التصرف بالوطء نعتبره زنا، فإذا كان متزوجا فإنه يرجم وحينئذ نعتبره متعديا لحد الله عز وجل مرتكبا للزنا؛ لأنه يعلم أن هذه الجارية لا تحل له، وعلى هذا: فإذا وطئها يكون حكمه حكم الزنا ولا إشكال في ذلك. لكن لو تصرف بالبيع أو تصرف بالهبة فيكون الضمان للعين ويجب عليه رد العين، وأما بالنسبة لما يترتب على الآثار المترتبة على هذا البيع وعلى الهبة؛ فإنه لا تترتب آثار شرعية، فكل ما بني على هذا البيع فهو باطل. فلو باع سيارة لإنسان بعشرة آلاف، والسيارة مغصوبة ثم قام الثاني ببيعها لشخص آخر ثم بيعت إلى ثالث أو رابع فجميع البيوع باطلة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، والقاعدة: أن الفرع آخذ حكم أصله، فالبيع الثاني فرع عن البيع الأول؛ لأن البائع في البيع الثاني باع بملكية يدعيها من البيع الأول وبناها عليه، فإذا أسقطت البيع الأول أسقطت ما بعده من البيوعات، ثم لو أن الأخير الذي اشترى وهب السيارة أو تصدق بها حكمنا ببطلان البيع والهبة والصدقة؛ لأن جميع ما بني على باطل يحكم ببطلانه ويجب رد هذه السيارة إلى صاحبها وضمانها. اعتبار قول الغاصب في قيمة التالف وقدره وصفته قال رحمه الله: [والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله] . إذا كان الغاصب يجب عليه أن يدفع القيمة، فيبقى السؤال إذا اختلف الغاصب والمالك، نحن علمنا: أنه إذا أتلف الغاصب شيئا ألزمناه بالقيمة، وأن هذه القيمة تقدر بيوم التلف، وبينا أن سبب ذلك: أن ذمته تشغل بضمان القيمة يوم التلف، فإذا ثبت هذا: فما الحكم إذا اختلف الغاصب مع صاحب العين، فقال صاحب العين: قيمتها مائة ألف ريال، وقال الغاصب: بل قيمتها تسعون ألفا، فهل نصدق المالك ونقول للغاصب: ادفع مائة ألف، أو نصدق الغاصب ونقول له: ادفع تسعين ألفا؟ الجواب أن القول قول الغاصب إلا إذا قامت البينة على صدق المغصوب منه والمالك، وهذا مبني على أنه: إذا اختلف الاثنان في القيمة، فقال الغاصب: قيمتها تسعون ألفا، وقال المالك: بل مائة ألف، فتجزم بأن التسعين ألفا هي القيمة أي اليقين: أن التسعين ألفا هي القيمة؛ لأنه لما قال الغاصب تسعين، وقال المالك: مائة، اتفقوا على أنها بلغت تسعين واختلفوا في العشرة آلاف الزائدة التي ما بين المائة والتسعين فهل نصدق المالك أو الغاصب؟ فتقول: التسعين لا إشكال أنها ثابتة، فيبقى السؤال في العشرة آلاف التي يدعيها المالك على الغاصب، وكل من ادعى شيئا، فالقول بخلافه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم ولكن اليمين على من أنكر) ، فبين عليه الصلاة والسلام: أن المدعي للزائد يطالب بالبينة، وعلى هذا نقول: يجب على مالك السيارة أن يثبت بشهادة الشهود أو شهادة أهل الخبرة أن السيارة يوم التلف تستحق مائة ألف وإلا أخذ التسعين، وإذا أنكر الغاصب فإنه يحلف اليمين، وهذا هو معنى قولهم: (فالقول قوله مع يمينه) وعلى هذا: إذا ذهب الاثنان إلى القاضي، فسيقول القاضي للغاصب: كم قيمتها؟ يقول: قيمتها تسعون. ويقول للمالك: كم قيمتها؟ يقول: مائة. فيسأل المالك صاحب العين المغصوبة: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة. يقول له: ليس لك إلا يمينه. فيحلف الغاصب ويقول: والله إن قيمتها يوم التلف تسعون ألفا، فإذا حلف برئ، وإلا ردت اليمين كما هو معلوم في القضاء. وقوله: (أو قدره) . القدر يرجع إلى العدد، فإذا ادعى الغاصب أن له ثلاث سيارات، ثم قال المالك: بل أربع سيارات، واختلف في قدر المغصوب، هل هو ثلاث سيارات أو أربع سيارات؟ فنقول: القول قول الغاصب؛ لأن الغاصب يقول: ثلاث سيارات، والمالك يقول: أربع سيارات، فكلهم متفقون على ثلاث، والشك في الرابعة، والقاعدة: أن الغارم مدعى عليه، وهذا عند بعض العلماء: أن كل من عليه الغرم يعتبر مدعى عليه، فيكون القول قوله، فالغاصب الآن غارم، فإذا قلنا: إنه يقول له: بل أربع سيارات. فحينئذ القول قول الغاصب حتى يقيم المالك بينة وشهودا على العدد الذي ادعاه فيكون القول قوله. وقوله: (أو صفته قوله) . قال المالك للغاصب: إن السيارة التي أتلفتها من النوع الممتاز. قال الغاصب: لا. بل من النوع الرديء. كأن يكون هناك نوع من أغلى الأنواع الذي هو أجود أنواعها وفيها -مثلا- أربعة أنواع، فقال له: إن الذي اغتصبته النوع الممتاز، وطبعا سيقول المالك هذا؛ لأن هذا أحظ له وأكثر قيمة، قال الغاصب: أبدا، بل كانت السيارة من النوع الرديء، قال له: اغتصبت سيارة مكيفة، قال: لا. بل اغتصبت سيارة غير مكيفة، قال: اغتصبت إذا سيارة أتوماتيكية، قال: لا. بل سيارة عادية، فهذه الأوصاف الموجودة التي تختلف من زمان إلى زمان ينظر فيها إلى القدر المشترك بين الطرفين، ونقول: اليقين أنها سيارة من نوع عادي، وأن أوصافها عادية حتى يثبت أنها من الأوصاف الممتازة، أو قال: أتلفت ساعة من النوع الممتاز، وهو نوع كذا وكذا. قال: لا. بل أتلفت ساعة من نوع كذا وكذا، وهو نوع أردأ أو أقل، فنقول حينئذ: القول قول الغاصب حتى يثبت المالك أنها من النوع الممتاز أو الجيد، وهكذا في بقية الأمثلة، فالقول قوله، القاعدة هي هي، والمسألة هي هي، فنقول: القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، وهذا وجه عند بعض العلماء، والغارم مدعى عليه، ولأنهما اتفقا على الرديء، وليس عندنا يقين على الجيد؛ ولأن الأصل هو براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها، فلما أثبت أن المغصوب على هذه الصفة التي ذكرها من الرداءة، وقد أثبت للمغصوب المستحق صفة يكون على مثلها، وادعى المالك ما هو زائد، فسيكون حينئذ مطالبا بالبينة والدليل، وكل هذه وجوه نخرج عليها هذا القول الذي اختاره المصنف وجماعة من أهل العلم رحمهم الله. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
اعتبار قول المغصوب منه في رد المغصوب وعيبه قال رحمه الله: [وفي رده وعدم عيبه قول ربه] . هنا المسألة على العكس، إذا اختلفوا في القيمة والقدر والصفة فالقول قول الغاصب؛ لأنه سيتحمل المسئولية، لكن لو اختلف الغاصب والمالك في الرد، والمراد بالرد: رد المغصوب، كشخص اغتصب من شخص سيارة، وذهب واشتكاه إلى القاضي، وقال: إن فلانا اعتدى على سيارتي واغتصبها، وأطالب القاضي بمطالبته بإحضار سيارتي. فجاء الغاصب وقال: نعم، اغتصبت منه السيارة ولكن رددتها له. فحينئذ: الغاصب معترف بأنه اغتصب السيارة، فاعترف باليقين أنه اغتصب، ونشك هل رد أو لم يرد، والأصل أنه ما ردها؛ لأن نحن متأكدون ومستيقنون أنه حصل الغصب، وشككنا هل الغصب انتهى أم لا، فلا بد أن تكون هناك بينة ودليل على أن الغصب قد انتهى، فإما أن يقر المالك ويقول: رد علي حقي، أو يقيم المغتصب الشهود على أنه أحضر له سيارته التي ادعى أنها غصبت، ومثل هذا: الإقرار كأن يقول: ما رد السيارة، ثم يتذكر ويقول: نعم ردها، فهذا إقرار وتنقطع به الخصومة، مثال البينة والشهود: قال: اغتصب سيارتي في شهر محرم، ولم يردها إلى اليوم، فقال الغاصب: بل رددتها وعندي شاهدان يشهدان على أني رددتها يوم الخميس الماضي، والخصومة يوم السبت، فجاء الشاهدان وشهدا أن زيدا الغاصب جاء بالسيارة إلى عمرو المغصوب منه وسلمه السيارة وأعطاه مفاتيحها، وقد رأيا ذلك واطلعا عليه وشهدا عند القاضي، فنتحقق أن الغصب قد رد، ونقول للمغصوب منه: إنك قد أثبت غصبا، وثبت بالبينة انتقاله وارتفاعه ورد المغصوب إليك، فانقطع ما تدعيه ويكون القول قول الغاصب، وفي هذه الحالة: القول يكون قول المغصوب منه -وهو المالك- حتى يحدث الغاصب البينة. إذا: حال الرد خلاف الأصل، فنحن مستيقنون والأصل عندنا أنه مغتصب، فمعنى ذلك: أننا لا ننتقل من هذا اليقين إلا بيقين مثله ونقول له: أنت تعترف أنك غصبت، وليس هناك دليل يدل على نقيض هذا الذي اعترفت به -وهو الغصب- من ردك للعين، فيجب عليك الضمان، ولا يصدق الغاصب أنه رد العين. وقوله: (وعدم عيبه) . إذا اتفق الغاصب والمالك على أن الغاصب قد اغتصب سيارة، فقال المالك: السيارة كانت نظيفة وليس فيها أي عيب. فقال الغاصب: بل اغتصبت منه سيارة مصدومة، أو سيارة بها تلف في أجهزتها أو في أي شيء منها. إذا: الخلاف هل فيها عيب أو ليس فيها عيب، فالكل متفق على وجود الغصب، فلا إشكال أن السيارة مغصوبة، ولكن الإشكال هل هي كاملة لا عيب فيها أو هي ناقصة؟ فالقول هنا قول المالك؛ لأن الأصل في العين ألا تكون معيبة، والأصل في الأشياء أن تكون كاملة حتى يدل الدليل على نقصها، فنقول للغاصب: أنت اعترفت أنك اغتصبت سيارة، فنحن نقول: الأصل أنها سيارة نظيفة، والأصل أنها سيارة لا عيب فيها حتى تثبت بالشهود أنها كانت معيبة، أو يقر ويعترف صاحبها. وأيضا لو اغتصب منه عمارة ولما جاء يردها إذا بالعمارة فيها شيء تالف مثل: الكهرباء أو في تسليك الماء أو في بنائها حدث فيه عطل أو انهدم بعض الدار، فقال الغاصب: أخذتها على هذه الصفة المعيبة الناقصة، وقال المالك: بل كانت عمارتي تامة كاملة، فحينئذ نصدق المالك؛ لأن الأصل في العمارة: أنها كاملة ونظيفة وسالمة من العيب حتى يدل الدليل على أن فيها غيبا. والفرق واضح بين الأمرين: هناك في القيمة والصفة وقدر المغصوب يكون الغاصب مدعى عليه، ولكن هنا لما أخذ عينا فعندنا أصول في الأعيان، ومنها: أن العين من حيث الأصل تكون كاملة، فالبيوت تكون كاملة لا عيب فيها، وكذلك السيارات، فإذا أخذت سيارة أو دابة فالأصل أنها غير معيبة حتى يدل الدليل على نقصها وتعيبها فنقول له: أقم البينة على صدق ما ذكرت وأنها كانت معيبة وإلا ألزمت بدفع قيمتها كاملة أو ضمان ذلك النقص. حكم المغصوب عند عدم معرفة صاحبه قال رحمه الله: [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا] . (وإن جهل) أي: الغاصب جهل صاحب العين المغصوبة، مثال ذلك: شخص اغتصب سيارة ثم لم يدر من هو صاحبها الذي اغتصبها منه، مثل: شخص جاء بالقوة ووجد رجلا راكبا في سيارته فهدده بالسلاح وأخذ سيارته منه، ثم لا يعرف من هو حتى يرد سيارته إليه، هذا كمثال، وفي القديم يقع في الدواب ويقع في الدور والأراضي، وهذه المسألة رتبها المصنف -رحمه الله- بعد المسائل المتقدمة، والترتيب منطقي وصحيح؛ لأن أول ما تتحدث عنه رد العين المغصوبة كاملة إذا كانت موجودة، وإذا كانت غير موجودة ولها مثل رد مثلها، وإذا كانت غير موجودة ولا مثل لها رد قيمتها، فبعد أن انتهى المصنف من ذكر هذا كله، يرد في القيمة مسألة: هل هي كاملة أو هي ناقصة؛ لأن القيمة تتأثر بالكمال والنقص، فأدخل مسألة الخلاف في تعين المغصوب ونقصه وقيمته. إلى آخره، وبعدما فرغ من هذا: شرع -رحمه الله- في مسألة إذا جهل المالك، فكل المسائل المتقدمة إذا وجد المالك للمغصوب فحينئذ يتفاهم معه وكل يأخذ حقه، لكن لو لم يعلم صاحب الشيء المغصوب، فما الحكم؟ هل هذه الأحكام المتقدمة تسقط؟ ضمان العين وضمان المثل وضمان القيمة؟ فإذا كان مالك السيارة لا يعرفه أو كان يعرفه ثم غاب عنه ولم يدر أين ذهب، ولا يعرف هل هو حي أو ميت، فحينئذ يرد السؤال ماذا يفعل؟ و الجواب في هذه الحالة قال بعض العلماء: يضمن إذا وجد مالكها، ويكون كاللقطة، يستحقها ويأخذها له حتى يجد صاحبها، وقال بعض العلماء: بل يتصدق بها على نية صاحبها، والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يقتص للعباد بعضهم من بعض، ويكون القصاص في المظالم -إذا كانت حقوقا مالية ونحو ذلك- يكون القصاص بالحسنات كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟ قالو: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته) ، لاحظ في قوله: (وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته) ، المظلمة عامة: فشملت مظالم الغصوبات وغيرها، فيؤخذ من حسنات الغاصب على قدر مظلمته، فإذا تصدق بالمغصوب فإذا وافى الله يوم القيامة أخذت حسنات المغصوب وأعطيت لصاحبه فبرئت ذمته، فهذا المذهب هو أعدل المذاهب وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، أن يتصدق به على نية صاحبه إبراء لذمته. أما لو أنه تصدق وبعد زمن ظهر صاحبه؛ فحينئذ تكون الصدقة مبينة على ظن الموت وجهالة الحال، يعني: من حيث تعذر وصول الحق إلى صاحبه، فلما ظن تعذر ذلك وبان خطأ الظن سقط ذلك ووجب عليه الضمان؛ لأن القاعدة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) فهو ظن أنه لن يستطيع أن يجد صاحبه، فلما ظن ذلك وتبين خطأ هذا الظن وجد عليه ضمان العين المغصوبة وحينئذ تكون له الحسنات ولا تكون للمالك الحقيقي، كأن التصدق فقط لدفع المظلمة، فإذا أمكن أن يأخذ حقه في الدنيا فإنه لا يصار إلى مظلمة الآخرة. إذا سرق مالا لإنسان وتعذر عليه أن يعرف صاحب المال، فإنه يتصدق به على نية صاحبه، فمثلا: شخص سرق -مثلا- عشرة آلاف من بقالة ثم مات صاحب هذه (البقالة) التي سرق منها، وهو يعلم ورثته، فحينئذ لا يصح أن يتصدق؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، وحينئذ يجب عليه أن يدفع إلى ورثة المسروق منه، فالغصب والسرقة يتصدق فيهما بالشيء مغصوب وبالشيء مسروق إذا تعذر وجود صاحبه، فإذا وجده بعد ذلك أو وجد ورثته ضمن لهم على الأصل الذي قررناه في الضمان. الأسئلة الفرق بين الغصب والسرقة السؤال ما الفرق بين الغصب والسرقة؟ الجواب هناك فروق بين الغصب والسرقة منها: أولا: أن الغصب يكون بالقوة والقهر، والسرقة تكون بالخفية والخفاء، فالمغصوب يؤخذ بالقوة والغلبة، والمسروق يؤخذ بالخلسة، إلى درجة أن صاحبه لا يشعر أنه أخذ منه ذلك الشيء، فأثناء الأخذ إذا نظرت إلى الغصب ففيه علم، وإذا نظرت إلى السرقة ففيها جهل. ثانيا: أن الغصب لا يجب فيه من حيث حكم الشرع عقوبة محددة مقدرة، والسرقة فيها العقوبة المحددة المقدرة إذا وجدت الشروط واستوفيت. ثالثا: أن وصف الشيء بكونه مسروقا أو كونه مغصوبا يختلف؛ ففي الغصب يقع الوصف على كل قليل وكثير جليل وحقير وبإمكانك تقول: اغتصب مسواكا وهو دون نصاب السرقة، لكن في السرقة لا يمكن أن نقول: سرق إلا إذا بلغ نصاب السرقة، فالسرقة لها حد، ولها قدر لا يمكن أن نصف الشخص بكونه سارقا إلا إذا بلغ المسروق هذا الحد. رابعا: أن السرقة لا يوصف المال فيها بكونه مسروقا إلا إذا أخذ من حرز، فإذا كان المال في صناديق مغلقة، نقول: حينئذ: سرق المال وكسر أو عالج مفاتيحها، لكن الغصب سواء كان المال موضوعا في حرز أو في غير حرز ما دام أنه أخذ بالقوة فإنه يوصف بكونه مغصوبا، وهناك فروق أخرى، لكن هذه من أهم الفروق بين الغصب وبين السرقة، وهناك طبعا مسألة ضمان المسروق، فقد اتفق العلماء: على ضمان المغصوب، لكنهم اختلفوا في ضمان المال المسروق، فبعض العلماء يقول: إنها تقطع يد السارق ولا يضمن المال، وبعضهم يقول: تقطع يده ويجب أن يرد المال إلى صاحبه، والله تعالى أعلم. استغلال الأوقات في طاعة الله السؤال الفراغ والشباب من نعم الله عز وجل التي يحاسب عليها يوم القيامة، فما توجيهكم تجاه هاتين النعمتين حتى يمكن استغلالها فيما يرضي الله عز وجل؟ الجواب إن الله تعالى إذا أحب عبدا من عباده وأراده للخير والطاعة والبر بارك له في عمره وبارك له في ساعات ليله ونهاره، وهيأ له الخير في صبحه ومسائه، فلا تفتر له عزيمة، ولا يكل ولا يسأم من طاعة الله سبحانه وتعالى، فيجد ويجتهد، وكلما قضى طاعة شمر عن ساعد الجد لطاعة غيرها، شاكرا لله، حامدا لنعمه، قائما بحقوقه وفرائضه، مجتنبا لحدوده ومحارمه، يتلمس مرضاة الله في كل دقيقة وثانية وساعة وبرهة، لا يعرف إضاعة الأوقات، ولا انتهاك المحرمات، ولا لهو الساعات، يستشعر أن كل دقيقة وثانية ربما قدمته إلى نار أو إلى جنة، فالبركة في الساعات والبركة في الأوقات رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها من يشاء. وكم من ساعة أقام العبد فيها طاعة الله فحجبته عن عقابه وغضبه! وكم من ساعة انتهك فيها العبد حدود الله فزلت قدمه وساءت خاتمته! نسأل الله السلامة والعافية! فعلى الإنسان أن يعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليه بالعمر، ومما يعين الإنسان على التفكر والتدبر واغتنام ساعات العمر: أن ينظر إلى من حرم هذه النعمة، فينظر إلى الذين سلفوا وأقبلوا على ما قدموا، فيتذكر أهل القبور وما هم فيه من الحسرات، يتمنى الواحد منهم الساعات واللحظات لو أنها قضيت في الطاعات والمضاة، وتصور الإنسان أنه في هذه الساعة رهين الأكفان والبلاء بين يدي الله جل وعلا محتبسا مرهونا في قبره يتمنى أن يزاد في صحيفة عمله تسبيحة أو استغفار أو تحميد لله سبحانه وتعالى. إن هذه العطلة وهذا الفراغ نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، ولا بد لكل مسلم أن يهيئ الأسباب لكي يبارك الله له في هذه العطلة، ومن أعظم الأسباب: أن يكثر من الدعاء، فلا يصبح ولا يمسي إلا وقد ذكر ربه واطرح بين يدي الله بدعوة صادقة، فإنه لا معين على الخير إلا الله سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب التي يبارك بها في العمر، فإن الله تعالى إذا أراد أن يبارك للعبد في عمره هيأ له أسباب الخير، وليس هناك سبب بعد توحيد الله والإيمان بالله عز وجل يبارك بسببه في عمر الإنسان مثل بر الوالدين، فإن برهما والقيام عليهما ورعاية مصالحهما يبسط الله للعبد بذلك في رزقه وينسئ له في أثره، ويزيد له الخير والبركة في عمره، فلن تجد بارا إلا وجدته موفقا، ما طرق بابا من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيلا من البر إلا يسره الله عز وجل من حيث لا يحتسب، البر بر الوالدين، فتمضي هذه العطلة وقد فاز العبد الموفق السعيد برضا والديه، وإياك ثم إياك وتوهين الشيطان، فإن بر الوالدين قد يكون بالجلوس عندهما، وقد يكون بالقيام على مصالحهما، وقد يكون برعايتهما وعلاجهما ومساعدتهما في التداوي حتى يتم شفاؤهما بإذن الله من الأمراض، فأي مصلحة وأي خير وأي نعمة تسديها إلى الوالدين فإنها من برهما. فاحرص كل الحرص على اغتنام العمر واغتنام هذه العطلة في رضا الوالدين فهذا من أفضل ما أنفقت فيه الأعمار وقضيت فيه ساعات الليل والنهار، فإن الله تعالى إذا علم من العبد حبه لوالديه وحرصه على برهما بلغه أعلى المراتب، فكل يوم تحرص على أنك تفوز بضاهما تحصل رضا أكثر من الرضا الذي كنت فيه من بر الوالدين، إن كانا في مدينة غير مدينتك سافرت إليهما، ولزمت أقدامهما وأدخلت السرور عليهما ومتعتهما بالنظر إليك والجلوس معك والأنس بك، وأدخلت السرور عليهما في قضاء الحوائج والمصالح والملاطفة، ذاكرا وصية الله من فوق سبع سماوات: {وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] . كذلك مما يبارك بسببه في عمر الإنسان: صلة الرحم، فتمر عليك هذه العطلة فتأخذ أبناءك وبناتك وأهلك وزوجك إلى زيارة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فينظر الله سبحانه وتعالى إليك وقد غبرت قدميك خائفا منه، راجيا رحمته، تلتمس عفوه في صلة الرحم، خرجت من بيتك مشفقا، خائفا وجلا من هذه الرحم التي يقطع الله من قطعها، راجيا لرحمة الله في هذه الرحم التي يصل الله من وصلها. الناس اليوم من أحوج ما يكونون إلى الصلة الاجتماعية، وأكثر ما وقع من الدمار والتردي الذي يعيشه الناس في النفسيات والهموم والكربات كان من أعظم أسبابه: قطيعة الرحم. كان الرجل قبل خمسين عاما وفي أيام الشدة التي لا يعلمها إلا الله يسافر مئات الكيلو مترات من أجل أن يسلم على أخته أو يزور عمته أو خالته ملتمسا مرضاة الله، والله أعلم ما الذي يرجع به إلى أهله إذا رجع من هذه الصلة. صلة الرحم من أعظم الأسباب التي يبارك بسببها في الأعمار والأوقات، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح بها الصدور،: خديجة رضي الله عنها، لما دخل عليها رسول الله عليه وسلم ذعرا مرعوبا مرهوبا، قالت له: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم) ، فالذي يصل الرحم لا يخزيه الله، ولن ترى عينك واصلا للرحم وهو في خزي أبدا، بل إنه في رحمة وفي توفيق من الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (إني أنا الله خلقت الرحم واشتققت لها اسما من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) . الأخت حينما تدخل عليها خاصة بعد موت الوالد والوالدة من أحوج ما تكون إلى زيارة أخ يصلها، ويمسح على رءوس أبنائها ويلاطفها ويشعرها أمام زوجها أن لها مكانة، فلا أحد يعلم مقدار هذه الأحاسيس والمشاعر ومقدار هذه الملاطفة وهذا الإحسان إلا الله وحده الذي وصى بصلة الرحم من فوق سبع سماوات، ورتب عليها الخير ورتب على عكسها وضدها ضد ذلك، فالحرص كل الحرص على صلة الرحم؛ لأن الإنسان أيام الدراسة وأيام العمل مشغول ولكن الآن لا يعذر، وإذا وصلت فينبغي أن تكون أكرم من وصلت وتسعى إلى درجات الكمال، فإن وجدت الأخت بحاجة قضيت حاجتها، وإن وجدتها في كربة وأنت قادر -بإذن الله- فرجت كربتها، وإن وجدتها في هم وغم ذكرتها الله جل جلاله الذي يبدد الهموم والغموم ويزيل الكربات، فلا يمر عليك أسبوع حتى ولو كنت في شغل ولك رحم تصلها إلا بارك الله لك في عمرك: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، وأن يبسط له في رزقه، وأن يزاد له في عمره؛ فليصل رحمه) ، وقالوا: إنها من الطاعات التي تعجل فيها المثوبة والعقوبة، فصلة الرحم عقوبتها عاجلة، وأيضا نعمتها وخيرها وبرها وأثرها وبركتها عاجله، مع ما أعد الله من الآجل للعبد. كذلك مما تنفق فيه الأعمار وتقضى فيه ساعات الليل والنهار وهو من أحب ما يرضي الله عز وجل: قيام الليل، فإن الإنسان إذا كان في أثناء عمله وشغله قد لا يستطيع أن يقيم الليل ويتعذر بالمشاغل، ولكن اجعل لك ساعات ولحظات تخلو فيها بربك إذا هدأت العيون وسكنت الجفون، قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: (صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، وصوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور) ، فمن أراد أن ينور الله ظلمة قبره، بل من أراد أن يسدد الله لسانه، وأن يقوم بنانه وأن يصلح شأنه وحاله فليحرص على قيام الليل، فإن الله لما أوحى إلى نبيه بالرسالة -عجبت والله- قال تعالى: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} [المزمل:1 - 2] ، فأول ما أمر الله به بعد توحيده قيام الليل، قالوا: لأن هذا يعين على الرسالة، فإذا أعان على أفضل الأشياء وأعظمها وأجلها فمن باب أولى أن يعين على غير ذلك، وذكر الله وبين سبحانه أن قيام الليل فيه خير كثير حتى على كلام الإنسان: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] ، قال بعض العلماء: لا يحافظ على قيام الليل أحد إلا سدد في لسانه وعصم من فتنة قوله وبيانه، فيحرص الإنسان على هذا الخير العظيم. كذلك من الطاعات: صيام الإثنين والخميس، وصيام يوم وإفطار يوم وهو أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وكذلك صيام الأيام البيض، وكذلك أيضا من الطاعات والقربات التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها: طلب العلم، فإن الله عز وجل أحبه وأحب أهله، فيحرص على زيارة العلماء وغشيان حلق الذكر، ويجلس في رياض الخير يخلو فيها بطاعة الله عز وجل ومرضاته، لعل الله أن يحمله علما نافعا، وأن يبارك فيما تعلمه وعلمه، ويحرص إذا جلس في مجالس العلم على أن يكون في مراتب الكمال خشوعا وتخشعا، وتذللا وتضرعا لله سبحانه وتعالى، وإخلاصا وصدقا وإنابة، فيكون أفضل من يجلس في مجلس العلم، فلا يخرج من بيته وفي قلبه غير الله، ولا يجلس في مجالس العلم وفي قلبه غير الله، ولا يذاكر العلم ولا يسمع العلم إلا وهو يريد ما عند الله سبحانه وتعالى حتى يجعل الله له علما نافعا ويبارك له في هذا العلم، ويبارك له في السنة، ويبارك له في هذا النور والوحي الذي يأخذه. كذلك أيضا: يحرص على زيارة إخوانه من طلاب العلم ومذاكرتهم وحبهم في الله، ويغيب في سرية قلبه لهم الخير، فهذا كله من الأمور التي يحرص عليها طالب العلم فيبارك له في وقته ويبارك له في عمره. والوصية الأخيرة التي هي جماع الخير كله: تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله وفقه وسدده، وجعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل حتى ينتهي بذلك إلى جنة الله ورضوان الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمالنا، اللهم اجعل لنا خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين. حكم الإفطار في صيام القضاء السؤال هل يجوز الإفطار في يوم صيام القضاء، وإن لم يكن، فماذا يترتب عليه؟ الجواب للعلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة قولان مشهوران: من أهل العلم من قال: لا يجوز للمسلم أن يفطر في قضاء رمضان، وذلك لأنه فرض عليه، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، أي: فأفطر، فيجب عليه أن يصوم عدة من أيام أخر، فهي فرع عن أصل واجب، والقاعدة: (أن الفرع يأخذ حكم أصله) فلا يجوز له أن يفطر على هذا الوجه، وإذا أفطر متعمدا كان كمن تعمد الفطر في رمضان، فيفصل فيه بين وجود العذر وعدم وجود العذر، حتى قال بعض الفقهاء من المالكية: من أفطر في القضاء متعمدا كان كمن أفطر في رمضان متعمدا، فيلزمه القضاء والكفارة؛ ولذلك جعلوا هذا القضاء منزلا منزلة الأداء، حتى قالوا: لو جامع في القضاء وجبت عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى قال: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، ولأن القاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) ، و (البدل يأخذ حكم مبدله) فيجب عليه الضمان من هذا الوجه. وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز له أن يفطر، وهذا مذهب مرجوح ضعيف، والصحيح: أنه لا يجوز له في القضاء أن يفطر إلا من عذر؛ وذلك لقوة الأدلة التي ذكروها من الكتاب في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، أي: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، أي: يلزمه أن يصومها، فإذا ثبت أنها منزلة منزلة رمضان فحينئذ يكون حكمها حكم رمضان لعدم وجود دليل على الفطر فيها. أما الدليل الثاني: فدليل المفهوم، فهنا دليل منطوق وهناك دليل مفهوم، ودليل المفهوم مستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) ، مفهوم الصفة في قوله: المتطوع، يدل على أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه، فلما قال: (المتطوع أمير نفسه) ، يعني: من حقك أنك إذا كنت في صيام تطوع أن تفطر إذا شئت ولو لم يوجد عذر، وهذا بظاهر المنطوق، ومفهومه أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه؛ لأن المفهوم عكس المنطوق كما هو معلوم، وبناء على ذلك: اجتمعت دلالة المنطوق والمفهوم على عدم جواز فطره في قضاء رمضان إلا إذا وجد العذر، والله تعالى أعلم. حكم الجماع في صيام القضاء السؤال هل يأخذ في يوم القضاء حكم اليوم في رمضان من حيث كفارة الجماع؟ الجواب هذه مسألة راجعة إلى السبر والتقسيم في مسلك أصولي معروف، فالحديث في المجامع أنه قال: (جاء رجل يضرب صدره، وينتف شعره يقول: يا رسول الله! هلكت وأهلكت؛ جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم) ، هذه ثمانية أوصاف، وهذه طبعا أوصاف الموجود، (جاء رجل) ما له تأثير؛ لأن الرجل والمرأة في الحكم سواء، فيسقط هذا الوجه وتقول: غير مؤثر، (يضرب صدره وينتف شعره) يعني: متفجع، هل الذي يتفجع يناسب أن يعاقب أو يخفف عنه؟ إذا: ليس هناك مناسبة بين العقوبة وبين قوله: (يضرب صدره وينتف شعره) فيسقط قوله: يضرب صدره وينتف شعره. يقول: (هلكت وأهلكت) هذا تفجع بالقول، وهناك تفجع بالفعل، فكما سقط تفجع الفعل فإنه يسقط تفجع القول، وقوله: (جامعت) هذا الجماع، فإذا قلت: جامعت، وصف مؤثر في وجوب الكفارة، فلو استمنى لن تجب عليه الكفارة؛ لأن الاستمناء ليس بجماع، ولو فاخذ المرأة فأنزل لم يجب عليه؛ لأنه قال: (جامعت) فلا بد من وجود الجماع، فيجب عليه الكفارة إذا حصل الجماع والمالكية والحنفية، قالوا: لا. (جامعت) هذا من جهة الشهوة، وكونه أفطر بالجماع فقد أفطر بالشهوة، فكل مفطر بالشهوة كما لو استمنى أو داعب المرأة فأنزل وأنزلت وجب عليهما أن يكفرا، فنظروا إلى المعنى وقالوا: إن العلة حرمة رمضان، فإذا انتهك الحرمة بالفطر في موضع أمر بالصيام فيه لزمته الكفارة، فكأن الشرع جعل الحرمة للشهر، فيقولون: (جامعت) لا ننظر إليها بلفظها، وإنما ننظر إليها بمعناها، أنه إذا جامع أفطر، وإذا أفطر انتهك حرمة الشهر، فكل من أفطر منتهكا للحرمة حتى ولو أكل أو شرب عليه الكفارة، هذا وجه من يقول: إن من أكل متعمدا في نهار رمضان عليه الكفارة؛ لأنه يرى أن الوصف هنا ليس بذاته يعني: الجماع فقط، إنما الجماع في حكمه، طبعا الجمهور يقولون: إذا جامع أهله، فالإجماع على أن الكفارة تجب عليه، لكن لو زنى -والعياذ بالله- فجامع غير أهله، فالظاهرية يقولون: ليس عليه كفارة؛ لأنه قال: جامعت أهلي، والجمهور يقولون: إذا كان من جامع الأهل عليه كفارة! فمن باب أولى: إذا زنى فهو أولى أن يكفر، ولذلك هنا تدرك أن الشريعة تريد المعنى فقال: (جامعت أهلي في نهار رمضان) فإذا قيل: في نهار رمضان، نقول: هذا حكم خاص برمضان لا ينتقل إلى غيره، فالقضاء لا يأخذ حكم الأداء، وإذا قلنا: إن نهار رمضان سببه فرضية الصوم فيه، والله يقول: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، يكون الجماع في عدة من أيام أخر كالجماع في نهار رمضان، ومن هنا يقوى قول من قال: من جامع في القضاء عليه الكفارة، والله تعالى أعلم. الفرق بين ضمان القيمة وضمان أرش النقص السؤال أشكل علي ضمان القيمة يوم كذا ولم نقل مع ضمان أرش النقص؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فضمان أرش النقص متعلق بمسألة رد عين المغصوب مع النقص، وضمان القيمة متعلق بمسألة تعذر رد العين، فهناك فرق بين المسألتين، ويضمن الغاصب أرش النقص إذا رد العين وقيمتها ناقصة بغير سعر السوق، أي: بسبب التغير أو بسبب جناية من الغاصب؛ لكن المسألة التي معنا هي: ضمان القيمة إذا أتلف المغصوب كلية، فهناك فرق بين المسألتين، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (376) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [7] مما تعم به البلوى: إتلاف أموال الناس عمدا أو خطأ، وهذه المسألة ليست من مسائل الغصب، ولكنها تشترك مع الغصب في لزوم الضمان، ولهذا تحدث العلماء عنها وبينوا أحكامها مفرقين بين إتلاف المال المحترم وغير المحترم، ومفرقين بين العمد والخطأ في هذا كله. أحكام إتلاف أموال الناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أتلف محترما، أو فتح قفصا، أو بابا، أو حل وكاء، أو قيدا، أو رباطا، فذهب ما فيه، أو أتلف شيئا ونحوه؛ ضمنه] هذه الجملة ليست في الحقيقة تابعة لباب الغصب، وإنما هي متعلقة بمسألة مهمة تعم بها البلوى، ولا يخلو زمان ولا مكان من السؤال عنها، وهي: مسألة إتلاف مال الناس، ومسائل الإتلاف متعلقة بالغصب؛ لأنها توجب الضمان، والغصب يوجب الضمان، ولذلك ذكر المصنف رحمه الله مسائل الإتلاف والتعدي على أموال الناس وممتلكاتهم، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم لا يجوز له أن يفسد في الأرض، وإتلاف الأشياء المحترمة محرم بإجماع العلماء ما لم يدل الدليل على جواز الإتلاف، سواء كان الإتلاف كليا أو كان الإتلاف جزئيا، وسواء كان الإتلاف للأعيان والذوات ككسر زجاج أو قتل حيوان أو إهلاك نبات أو كان إتلافا للجزء والبعض، والأصل في تحريم هذه الإتلافات قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] ، فقد فسر هذه الآية الكريمة أئمة السلف ودواوين العلم بأن المراد بها إتلاف الزروع وقتل الحيوانات ونحو ذلك، ومنهم الإمام مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، هذا الإمام عرض القرآن على ابن عباس مرتين يستوقفه عند كل آية يسأله عن حلالها وحرامها وما تضمنته من أحكامها، وهذا الإمام الجليل الذي قال فيه بعض السلف: (ما أظن مجاهدا أراد بالعلم إلا وجه الله تعالى) ، يقول مجاهد: إن المراد بقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] : إتلاف الأشياء المحترمة من إهلاك الزرع وقتل الحيوان ونحو ذلك، وقد أكدت هذا المعنى آيات أخر كقوله تعالى: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس:81] ، ونفيه سبحانه لمحبة المفسدين: {والله لا يحب المفسدين} [المائدة:64] ، كل هذا يدل على تحريم الإفساد وإتلاف الأشياء، والتسبب في ذهاب المنافع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقتل حيوانا ولا أن يتلف منافع ذلك الحيوان، ولا أن يفسد في الأرض بإهلاك الزروع والنباتات، ولا أن يفسد في الأرض بهدم العمران والبيوت، وهكذا ما يكون من تعطيل المنافع الموجودة كالمرافق العامة التي يرتفق فيها الناس. وأشد ما يكون هذا الإفساد إذا كان في الأماكن التي لها حرمة مما يتعلق بالمساجد ودور العلم؛ لأنها أوقاف مسبلة محبسة، ومما يعد لسقي الناس وشربهم أو ما يعد لركوبهم صدقة عليهم، فلا يجوز للمسلم أن يتسبب في إتلافها، ولا أن يترك من يتولى أمره كأبنائه يفسدون فيها، فإنه متحمل للمسئولية كما سنبين أحكام ذلك كله، والناس يتساهلون في مثل هذا إلا من رحم الله، فيظنون أن الصبي إذا أتلف مثل هذا الشيء أو إذا ترك الصبي يفعل ما شاء فأتلف هذه الأشياء أنه لا شيء عليهم، والواقع أنهم مسئولون أمام الله عز وجل عن تعاطي الأسباب، ومسئولون كذلك عن ضمان كل ما أتلفه أبناؤهم وصغارهم؛ لأن الله جعلهم قائمين عليهم، وأمرهم أن يقوهم من ناره وعذابه، فالإجماع منعقد على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلف شيئا مما فيه مصلحة ومنفعة إلا إذا أذن الشرع بذلك الإتلاف أو أمر به كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. أركان الإتلاف وقوله: (ومن أتلف محترما) الإتلاف له ثلاثة أركان يقوم عليها، ومسائله عند أهل العلم مبنية على هذه الأركان الثلاثة، فعندنا متلف وشيء يتلف أي: يقع عليه الإتلاف، والإتلاف نفسه، هذه ثلاثة أركان تقع بها جريمة الإتلاف إذا كانت عمدا، وحينئذ يرد السؤال عن أحكام هذه الأركان الثلاثة، وقد جمعها المصنف رحمه الله بقوله: (ومن أتلف محترما) (من) هذا الشخص الذي يقوم بالإتلاف (أتلف) الفعل، (محترما) : المكان الذي وقع عليه الإتلاف، فالأحكام تتعلق بهذه الثلاثة الجوانب. فقوله: (ومن) : من صيغ العموم وتشمل الذكور والإناث، والصغار والكبار من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على استثناء في الخطاب، لكن من حيث العموم هي عامة شاملة للذكر والأنثى والصغير والكبير حتى أن الصبي لو أتلف شيئا محترما ولو كان عمره سنة فدفع برجله شيئا فكسره وذلك الشيء ملك للغير يجب ضمانه. الشيء المتلف: أي: شيء فيه مصلحة، لكن بشرط أن يكون محترما شرعا، فإذا كان الشيء له احترام وله أصل يدل على جوازه وإباحته، فإنه حينئذ يضمن إذا تلف كما سنبين إن شاء الله تعالى، ويشمل هذا إذا أتلف آدميا من حيث الأصل، أو أتلف حيوانا أو بهيمة فقتلها وأتلفها، أو أتلف نباتا كزرع أحرقه أو قلعه من الأرض فمات، أو أتلف الثمر قبل نضجه فقصه من النخلة، هذا بالنسبة للشيء المتلف سواء كان حيوانا من الحيوانات آدميا وغيره، أو من غير الحيوانات، كالزجاج والخشب، ونحو ذلك. نبدأ بقوله: (ومن) قلنا: يشمل الصغير والكبير، فنبدأ بالكبير، فالكبير البالغ العاقل، إذا أتلف شيئا على حالتين: إما أن يتلفه متعمدا قاصدا إتلافه، وإما أن يتلفه مخطئا. مثال ذلك: لو أن رجلا أخذ (منجلا) وقلع نباتا لجاره وقصد إتلاف النبات على صاحبه، فحينئذ هذا إتلاف موجب للضرر على سبيل العمد، فإذا وقع هذا النوع من الإتلاف من الكبير البالغ العاقل، سواء وقع إتلافه على حي كحيوان أو غير الحيوانات، فيترتب عليه أمران: الأمر الأول: عقوبة شرعية. الأمر الثاني: الضمان من حيث الأصل. فلو جاء وأتلف زرع جاره واشتكى جاره إلى القاضي، وقال القاضي: لم أتلفت زرع جارك؟ قال: أنا متعمد قاصد أريد أن أفسد ماله. فالقاضي يعزره ويؤدبه -وسنبين أحكام التعزير في باب التعزير، لا نتكلم هنا على عقوبته إذا كان متعمدا فلها باب خاص، إما أن تكون عقوبة مقدرة كما في الجنايات على الأرواح والأنفس وهذه لها باب خاص وهو باب القصاص ومسائل الاعتداء على النفس والأطراف- وتفصل فيه مسائل الاعتداء على النفس والأطراف، وفي هذه الحالة: إذا كان الكبير البالغ قد جنى جناية عمدا نعاقبه بما يليق به، ويطالب بضمان المال الذي أتلفه على أخيه المسلم بشرط أن يكون هذا المال محترما شرعا. حكم إتلاف مال الغير خطأ الحالة الثانية: أن يقدم على إتلاف مال أخيه مخطئا، كرجل أخذ سيارة شخص فحصل حادث أتلف بسببه السيارة، فهو لم يقصد ولم يتعمد إتلافها، فنقول: يترتب شيء واحد، وتسقط العقوبة والتعزير؛ لأنه لا يقصد، ويجب ضمان حق أخيه المسلم. إذا: ضمان الحق يستوي فيه أن يكون متعمدا أو مخطئا، فالشريعة توجب ضمان حق المسلم سواء كان متعمدا أو مخطئا، ثم الضمان يختلف: فتارة تجعل الشريعة النفس بالنفس كالقاتل يقتل، وتارة توجب الضمان بالأموال، إذا كانت أموالا كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله، إذا: يتبين من خلال هذا: أن الكبير البالغ العاقل: إما أن يتعمد أو يخطئ، فإذا تعمد ترتب أمران: أولهما: عقوبته بالتعزير بما يليق به وبجنايته، والثانية: ضمان الحق لصاحبه. ومسألة إيجاب الضمان عليه إذا كان مخطئا، هذه تحدث إشكالا، فالله تعالى يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ، ويقول تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] . فخذها قاعدة: أن الخطأ يجب فيه الضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، وتوضيح ذلك: أن الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف كإيجاب الصلاة والزكاة والصوم، هذه يكلف بها الإنسان ويخاطب بها، وإذا أخطأ سقط عنه الإثم، لكن ضمان هذه الحقوق لا يسقط بالخطأ، ونبدأ بحق الله، مثلا: لو أن شخصا قلت له: قم فصل الظهر، قال: صليت، وظن أنه صلى وهو مخطئ لم يصل، ثم لما مضت ساعة تذكر أنه كان مخطئا حينما قال لك: صليت، فيجب عليه أن يصلي. إذا: خطؤه أوجب سقوط الإثم عنه طيلة الفترة التي كان فيها مخطئا، فلما تبين له أن ذمته مشغولة سقطت عنه المؤاخذة، وتوجه الخطاب عليه أنه لم يصل، فبناء على هذا: إذا كان الشخص مخطئا نسقط عنه الإثم، لكن نوجب عليه الضمان، ولذلك ترى نص القرآن حينما أمر الله عز وجل بالدية فيمن قتل أخاه المسلم مخطئا: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} [النساء:92] ، فالقتل إذا وقع بالخطأ وجب ضمانه بالدية، مع أنه مخطئ، والله يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ، ففهمنا أن المؤاخذة من جهة التكليف وهي: وجوب ترتب الإثم على الفعل. إذا: مسألة ضمان المتلفات يستوي فيها المخطئ والمتعمد، الكل يضمن، إذا ثبت هذا يرد السؤال لماذا تطالب الشريعة المخطئ بالضمان، قد يرد إشكال ويقول لك: هذا رجل أخطأ فصدم سيارة أو قتل إنسانا بسيارته دهسا وهو لا يريد قتله، أو دهس بهيمة أو كسر محلا أو نحو ذلك لماذا توجب عليه الضمان مع أنه مخطئ؟ و الجواب أن هذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية وكمالها؛ لأن الأموال لا تتلف إلا بشيء من التفريط، لا يمكن أن يقع إتلاف إلا بشيء من التفريط، فالدهس والقتل لا يقع إلا بسبب تفريط السرعة وعدم ضبط الإنسان لقيادته مثلا، والدابة لا تتلف الأشياء وهي في ملكك إلا بسبب التساهل بتركها ترعى في أموال الناس وتتلفها. فلو فتح باب: أنه لا يجوز الضمان في الخطأ لضاعت حقوق الناس؛ ولذلك تجد الناس الآن إذا علم أنه لو حصل بينه وبين أخيه حادث أتلف به سيارته أنه يضمن، احتاط وأخذ بجميع الأسباب التي بإذن الله عز وجل تمنعه وتحول بينه وبين الوقوع في أذية أخيه المسلم. إذا فمنهج الشريعة من أكمل ما يكون وأتم ما يكون في ضمان حقوق الناس، وهذا يحفظ للناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم. حكم إتلاف غير المكلف مال غيره الحالة الثانية: أن يكون الجاني صغيرا، فإذا كان الجاني صغيرا فإنه يسقط عنه جانب التكليف فلا نقول: إنه آثم، إذا وقع منه شيء متعمدا؛ لأن الصغير إما أن يتعمد كالكبير أو يخطئ، وهنا قاعدة ذكرها العلماء تقول: (عمد الصبي والمجنون خطأ) ، هذه قاعدة تجعلها معك في المسائل الشرعية، أن كل شيء تعمده الصغير الذي هو دون البلوغ أو المجنون الذي لا يعقل تجري عليه أحكام الخطأ، ولا تجري عليه أحكام العمد. فلو أن صبيا -لا قدر الله- أخذ سلاحا فقتل شخصا دون أن يدفعه أحد ودون أن يكرهه أحد، فقتله متعمدا فإنه لا يقتص منه، بل ينزل منزلة الخطأ، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وخاصة إذا كان دون التمييز، وفيه خلاف ضعيف سنبينه -إن شاء الله- في باب الجنايات وهذا الخلاف إذا كان مميزا عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه. إذا: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالمجنون لو جاء متعمدا وأخذ حديدة فكسر زجاجا أو كسر محلا لشخص فأتلف ماله، لو فعل هذا الفعل عاقل لعاقبناه وأوجبنا عليه الضمان، لكن إذا فعله المجنون قلنا: عمده خطأ وينزل منزلة الخطأ، فيجب الضمان ولا تترتب عليه العقوبة. أما الدليل على إسقاط المؤاخذة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق) ، إذا: دلت السنة على أنه لا يؤاخذ الصبي ولا المجنون وإذا سقطت عنه المؤاخذة فإنه لا يعاقب على ذلك ولا تترتب على فعله العقوبة، هذا إذا تعمد الصبي، أما إذا أخطأ فالحكم واحد. إذا: الصبي إذا أتلف شيئا وجب ضمانه، فلو أنه أتلف مالا للغير، وقال ولي الصبي: هذا صبي، نقول: إنه صبي ولكن يجب الضمان، فالصبي لا نؤاخذه ولا نعاقبه ولكن يجب الضمان عليه. وإذا أوجبنا الضمان على الصبي، فالصبي والمجنون لهما حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عند الصبي مال، مثل: اليتيم، يتوفى والده ويترك له إرثا فيرث -مثلا- مائة ألف، ثم أقدم هذا الصبي على شيء -مثلا- قيمته عشرة آلاف ريال فأتلفه، فحينئذ تأخذ من ماله وتضمن لصاحب الحق، هذا إذا ترك له أو عنده مال ورثه من قريب؛ فإننا نأخذ هذا المال ونسد به ما وجب ضمانه، لكن بشرط، فيشترط إذا ضمنا المتلف من مال الصبي: ألا يكون هناك إفضاء وسببية من الولي، فلو أن الولي أمر الصبي بشيء فيه إتلاف وأتلفه فإنه يجب الضمان على الولي لا على الصبي، وذلك؛ لأن الصبي كالآلة مسلوب الإرادة والاختيار؛ لأنه لا يعقل، وهكذا المجنون: إذا أمره وليه أن يتلف شيئا أو أمره أن يفسد شيئا فإنه يجب الضمان على الولي، ومن أمثلة هذه المسألة: لو أن صبيا أمره بالغ وقهره على أن يقتل شخصا سقط القصاص عن الصبي ووجب القصاص على الآمر، وسيأتي -إن شاء الله- في مسألة القتل بالأمر والقتل بالإكراه، الشاهد هنا: أن الصبي يضمن في ماله بشرط: ألا يكون للولي سبب في التعدي. وهكذا إذا كانت للولي سببية. ومن أمثلتها: ما يقع في حقوق الله عز وجل، فالحاج والمعتمر مأمور باجتناب ما أمر الله باجتنابه من محظورات الإحرام، فإذا كان الصبي دون التمييز وأحرم عليه وليه فحججه وليه أو أعمره، فإنه إذا وقع في الإخلال فإنه يكون في مال الولي لا في مال الصبي، وبناء على ذلك: يفصل في هذه المسألة في الضمان في حق الله عز وجل وحق المخلوق، فالصبي في جميع الأموال قلنا: يضمن إذا كان له مال، وإذا لم يكن له مال ضمن عنه وليه، ولو أن والد الصبي جاء به فأدخله إلى مكان فقام الصبي فأتلف شيئا فإن والده يضمن ذلك الشيء إذا لم يكن للصبي مال، هذا بالنسبة للمتلف إذا كان آدميا. أما إذا كان المتلف حيوانا فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون ملكا لشخص، والحالة الثانية: أن يكون غير مملوك كالدواب المنفلتة والسائبة. فإذا كانت الدواب ملكا لشخص فتارة يضمن صاحبها وتارة لا يضمن، وأما إذا كانت مسيبة فهذه فيها تفصيل عند العلماء في مسائل تارة يكون فيها الضمان على بيت مال المسلمين عند بعض أهل العلم، وبعضهم يرى أن السائبة لا ضمان عليها مطلقا. قال: (ومن أتلف) عرفنا من الذي يقوم بالإتلاف، (ومن أتلف) : وأتلف الشيء: إذا أفسده وعطل منافعه وأذهبها، فإن كان الشيء من الحيوانات فقد يكون إتلافه كلية بقتله وإزهاق روحه، وقد يكون الإتلاف جزئيا كما لو كسر يد البهيمة أو أتلف عضوا من أعضائها، ويكون الإتلاف لغير الحيوان مثل: الآلات والمصنوعات، فإذا أتلف بعضها وبقي بعضها: يكون إتلافا جزئيا، وإذا أتلفها كلها يكون إتلافا كليا. فالإتلاف يكون بالقتل، ويكون بالتحريق، ويكون بالكسر، فكل شيء فيه تعطيل للمنافع وإذهاب للعين ومصالحها فإنه إتلاف، وتارة يكون كاملا وتارة يكون ناقصا. حكم إتلاف الأشياء المحترمة فقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) ، (شيئا) : نكرة، والقاعدة: أن النكرة تفيد العموم، (شيئا) أيا كان هذا الشيء، سواء كان حيا أو كان غير حي جامدا أو مائعا، لكن بشرط أن يكون محترما. قوله: (محترما) قيد يخرج غير المحترم، وغير المحترم هو: الشيء الذي حرمه الشرع، ومن أمثلة ذلك: الميتة والكلب والخنزير، وكذلك السباع العادية، والفواسق، فهذه كلها غير محترمة، قال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم) ، فلما ذكر الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم ووصفهن بالفسق أسقط حرمتهن، وأجاز إتلافها وعد ذلك قربة لله سبحانه وتعالى، وبناء على ذلك: لا بد وأن يكون الشيء المتلف له حرمة. وكما يكون من الحيوانات غير محترم يكون من غير الحيوانات، مثل: الخمر من الشراب، والصليب، وآلات اللهو، فكل هذه لا حرمة لها شرعا ولو أتلفت فإنه لا يجب ضمانها، وآنية الذهب وآنية الفضة كذلك؛ لأن الله عز وجل حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح- من حديث حذيفة رضي الله عنه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) فلو هشم شخص إناء ذهب أو إناء فضة وكسره، فإنه لا يجب عليه ضمانه، وإذا ثبت هذا فإن كل شيء محترم يجب ضمانه إذا طالب صاحبه بحقه. فقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) هذه الجملة صدر بها المصنف؛ لأنه سيذكر ما تفرع عليها من المسائل المبنية على قاعدة الإتلاف. الإتلاف المباشر قال رحمه الله: (ومن أتلف محترما، أو فتح قفصا، أو بابا) . الإتلاف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإتلاف المباشر. القسم الثاني: الإتلاف السببي أو الإتلاف بالسببية. الإتلاف المباشر: أن يقوم الشخص بنفسه بفعل الإتلاف، كأن يحرق الدار بنفسه، أو يكسر الزجاج بيده فهذا إتلاف مباشر. أما الإتلاف السببي: يكون من الشخص إذا فعل الشيء الذي يقع به الإهلاك؛ لكن يباشر الإهلاك غيره، كشخص بنى جدارا فجاء شخص وجلس تحته، فجاء آخر ودفع الجدار عليه؛ فالذي قتله الجدار، والذي أحدث الجدار هو صاحب الأرض، لكن الذي دفع وباشر الإتلاف بنفسه شخص آخر. ومن أمثلته: من حفر بئرا في مزرعته، أو حفر أرضا لعمارته، فهذه الحفرة جاء شخص ودفع غيره فيها فقتله ومات، فالحفرة حفرها سبب في القتل، لكن الدفع فيها سبب مباشر للقتل، فهذا إتلاف مباشر، وهناك إتلاف بواسطة، فالإتلاف المباشر لا إشكال فيه، وعند العلماء عدة قواعد في مسألة الإتلاف بجميع صوره من القتل المباشر والقتل بالسببية، والجناية المباشرة والجناية السببية، والضرر المباشر والضرر بالسببية، فالإتلاف إذا كان مباشرا -أيا كان سواء كان إتلافا لحيوان أو غيره- يكون موجبا للضمان من حيث الأصل سواء تعدى الشخص أو لم يتعد. فتصبح القاعدة: المباشرة تقتضي الضمان مطلقا، أما السببية فلا تقتضي الضمان إلا بالتعدي والتفريط، وعلى هذا سيكون -إن شاء الله- تفصيل العلماء رحمهم الله للمسائل. ابتدأ رحمه الله بقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) تلاحظ أن العبارة المراد بها: المباشرة، بمعنى: أن الإتلاف للشيء وقع بمباشرة الإنسان وليس بواسطة، ومن أتلف شيئا محترما، سواء أتلفه بيده أو برجله أو بسيارته، فكل هذا يعتبر إتلافا مباشرا. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الإتلاف بالسببية وقوله: (أو فتح قفصا) هنا الإتلاف بالسببية، وفيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، فالقفص قد يكون فتحه رحمة، وقد يكون فتحه عذابا وبلاء، فمثلا: إذا كان هناك عصفور أو طائر فتحه الشخص شفقة عليه ورحمة به؛ لكن إذا كان بداخله أسد أو كان بداخله سبع مفترس، فهذا لا شك أنه سيفضي إلى هلاك كثير من الناس والحيوانات، فلذلك يختلف فتح القفص من جهة الشخص الفاتح، لكن في صورة الأمر وحقيقته تلاحظ مسألة مهمة وهي: هل فتح القفص يكون مباشرة أو سببية، فيه وجهان للعلماء؟ الوجه الأول: بعض العلماء يرى أن كل من فتح قفصا على حيوان ضار وخرج الحيوان منه وأضر فهذا كالمباشرة؛ لأن الحيوان لا عقل عنده ولا إدراك، ومثل هذا الفعل لا شك أنه مفض للخروج، والخروج مفض للهلاك والإتلاف والإفساد، فيقولون: مثل الذي أمسك حية بيده وقتل بها شخصا، فحينئذ صحيح أن الحية هي التي قتلت، لكن من الذي حركها وقربها؟ فهنا ولو أن في الصورة شيئا من السببية لكنها للمباشرة ألصق وأقرب والحكم بها أقوى، وهذا القول لا يفصل فيه، بل نقول: من فتح قفصا مطلقا سواء خرج الحيوان بعد الفتح مباشرة أو تأخر فعليه الضمان؛ لأن الحيوانات لا تناط بها الأحكام؛ ولذلك تسند الأحكام إلى ما يناط إليه، فهذا الشخص هو الذي فتح وأتلف وحصل بفعله وفتحه ما حصل من الضرر. وبناء على هذا القول: لا تفصيل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. الوجه الثاني: هناك من أهل العلم من فصل، فقال: من فتح قفصا نظرنا: إما أن يقع خروج الحيوان بعد الفتح مباشرة كما لو كان على الباب فبمجرد فتحه خرج، فحينئذ نعتبره في حكم المباشرة، ونرى أن فتحه مؤثر وموجب للضمان، أما لو أنه فتح وتأخر وما خرج الحيوان أو الطير إلا بعد فترة أو برهة، فالخروج وقع من الحيوان بفعله، وصحيح أن الفتح موجود؛ لكن الخروج أصبح مؤثرا وأصبح مباشرة من الحيوان، فصار سببية ومباشرة، فلا يوجبون عليه الضمان إلا إذا حركه ودفعه إلى الخروج وحرشه عليه. والفرق بين القولين: أن أصحاب القول الأول يضمنونه ويحملونه تبعة هذا الفتح وهذا التصرف سواء خرج الحيوان مباشرة أو تأخر، فهو ضامن متحمل المسئولية. أما القول الثاني فلا يضمن إلا إذا تعدى، وهذا الذي ذكرناه في القاعدة: أن السببية لا ضمان فيها إلا بالتعدي، فقالوا: فتح القفص سببية، فإن حرك الحيوان وحرشه أو دفعه للخروج وجب الضمان، وأما إذا سكن ولم يخرج الحيوان فإنه لا ضمان عليه. ويكون في حكم التحريش إذا كان الحيوان على الباب مباشرة، فبمجرد فتحه نهش وقتل ولدغ، فحينئذ يضمن، والحقيقة قول المصنف أقوى. والنظائر والأشباه توجب أن فتح القفص وفتح الباب على الشيء المحبوس يوجب الضمان، والبهيمة لا شك أنها تندفع إلى الخروج وتريد الخروج، وهذا شيء موجود في البهائم لفطرتها؛ لأن البهيمة -وإن كانت لا تعقل- فإن فيها تمييزا للأمور، كما قال تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فقوله: (ثم هدى) أي: هداه لمصالحه، ودفع المضار عنه، فالبهيمة تدرك أن المصلحة في الخروج فتسعى لذلك وتطلبه، فمسألة أنه لا عقل لها ليس على كل حال يوجب إسقاط الضمان، فإذا فتح القفص وهو يعلم ما فيه وتساهل في ذلك فحصل الضرر؛ فإنه يتحمل المسئولية المترتبة على ذلك، وهكذا لو كان الذي بداخل الغرفة رجلا شريرا معروفا بالفساد والأذية والإضرار، فإذا جاء شخص وهو يعلم ففتح له وأخرجه فإنه يتحمل المسئولية، فيكون المباشر الشخص نفسه، ولكنه يكون حينئذ في حكم السببية فتخف المسألة عن المسألة السابقة من جهة أنها سببية إذا كان حيا يعقل، وتكون قريبة من المباشرة آخذة لحكمها إذا كانت في الحيوان ونحوه. وقوله: (أو بابا) . أو فتح بابا كما ذكرنا، إذا كان داخل الغرفة شيء ضار كالسبع المفترس أو مجنون منه ضرر، قد يؤذي ويضر ويقتل وهو يعلم بذلك ثم فتح له الباب، فيكون قد مكنه بذلك من الإفساد، وتعدى بتعاطي السبب الموجب للضمان. وقوله: (أو حل وكاء) . كانوا في القديم يحملون اللبن والعسل ونحوه من الأطعمة والأشربة في القرب، وتكون الأوعية مربوطة محكمة، فيأتي شخص ويفك هذا الرباط فتسقط القربة ويندفع ما فيها، فمن أهل العلم من فصل في حل الوكاء: فإن كان الشيء الذي عليه الوكاء لا يثبت ولا يستقر، بحيث إذا انحل الوكاء اندفع ما فيه، مثل: القرب إذا كانت على الأرض وحل الوكاء فإنه يندفع ما فيها من اللبن أو العسل فحينئذ يجب الضمان؛ لأنه لا إشكال أن حل الوكاء سيفضي إلى خروج ما في القربة؛ أما إذا كان الوعاء مستندا إلى حائط وكان ثابتا مستقرا ثم حل الوكاء فلا يجب الضمان إلا بالتعدي، كأن يدفعه فيسقط أو يتعاطى سببا لسقوطه، فإذا لم يفعل شيئا من ذلك ثم سقط الوعاء من نفسه بعد برهة -وكان الغالب استقراره- فلا ضمان عليه. وقوله: (أو رباطا، أو قيدا، فذهب ما فيه) . (أو رباطا) كالسبع إذا كان مربوطا فحل رباطه، (أو قيدا) : كالكلب -أكرمكم الله- إذا كان مقيدا فحل قيده فخرج وعض أو قتل أحدا، فهذه كلها تفضي إلى الضرر وفيها تعد، فأصحاب هذا القول يرون أن الحل والفك والفتح للباب ونحو ذلك يعتبر تعديا من الفاعل، والسببية يجب فيها الضمان بالتعدي، فإذا ذهب ما في القفص -وهو إما أن يكون له قيمة أو لا قيمة له- فإذا ذهب ما فيه مما له قيمة كالعصفور أو النغر أو نحو ذلك وجب ضمانه، لأنه في قول طائفة من العلماء: يجوز حبس العصافير والطيور التي لها أصوات طيبة ويستدلون بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، قالوا: بشرط أن يطعمها وأن يحسن إليها وألا يعذبها. فعلى هذا القول: يكون حبسه سائغا شرعا، فإذا فتح القفص وطار هذا الطائر نقول له: اضمنه أو رده. فإذا لم يستطع رده وجب عليه ضمانه. وقوله: (فذهب ما فيه) يعني: مما فيه من الطير، أو ذهب ما فيه من الطعام، فقد يكون بداخل القربة لبن أو عسل، فسكب على الأرض حتى فسد، فحينئذ يجب عليه ضمانه. وقوله: (أو أتلف شيئا) (أو) للتنويع، فهذا الشيء إذا تسبب الإنسان أو باشر في إتلافه فإما أن يذهب فحينئذ يضمن إذا كانت له قيمة كالعصفور والحمام ونحوه، وإما أن يكون الشيء مضرا؛ ولذلك قال رحمه الله: (أو أتلف شيئا) يعني: هذا الذي في داخل القفص كالأسد أو النمر لما فتح له خرج وقتل شخصا أو خرج وكسر شيئا، فحينئذ يجب عليه ضمان ذلك الشيء المتلف. إذا: هذا الشيء الذي يخرج إما أن يكون مما له قيمة فيكون الضرر على صاحبه بخروجه وفراره وشروده، فنقول له: رده أو اضمن، وإما أن يكون خروجه موجبا للفساد والضرر كالحية تلدغ فتقتل، وكذلك العقرب، فالحية ليس لها قيمة، لكن ننظر إلى الضرر المترتب عليها: فمن دقة المصنف رحمه الله أن قال: (فذهب ما فيه أو أتلف شيئا) ، فذهب ما فيه مما له قيمة، أما إذا كان الشيء الذي ذهب لا قيمة له، كأن يكون كلبا عقورا -أكرمكم الله-، فلا نقول: يجب عليه ضمان ما في داخل الشيء المفتوح. فإذا: (ذهب ما فيه) إما أن يوجب الضمان لعين الشيء الذي ذهب إن كانت له قيمة، وإما أن يكون الضمان مترتبا على ضرر ناشئ عن الذهاب، ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا من خروج البهيمة فتكسر شيئا أو تعض شيئا أو تقتل شيئا فحينئذ يجب عليه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه. وقوله: (أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه) . (ونحوه) أي: الضرر، يكون بعض الأحيان بالإتلاف المباشر أو الإتلاف بالسببية، فيفصل في جميع ما يترتب عليه من الضرر. الأسئلة حكم حبس الصيد في مكة السؤال ما حكم حبس الصيد في مكة المكرمة، والحال أن الصيد في مكة محرم؟ الجواب من حيث الأصل بعض العلماء يرى أن الوصف العارض بالحرمة يكون في الشخص، ويكون في الزمان، ويكون في المكان، فيكون في الأزمنة مثل: أزمنة الأشهر الحرم وتحريم القتال فيها، كما جاء بنص الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عز وجل عن قتال المشركين فيها، وكذلك أيضا: يكون بالمكان: كمكة والمدينة على أنها حرم، ويكون بالأشخاص: مثل المحرم، فبعض العلماء يجعلها بمرتبة واحدة فيقول: إذا طرأت هذه الحرمة زمانا ومكانا وحالا، أي: على الشخص وجب عليه أن ينظر إلى الحال ولا ينظر إلى ما سبق، بمعنى: إذا صاد خارج مكة وأدخلها بمكة نظر إلى حرمة المكان، وحينئذ لا يستصحبه، وتزول يده عن الصيد، ولا يبقى ممسكا صيدا في مكة؛ لأنه صيد من حيث الأصل، ومن أهل العلم من قال: لا. إذا صاده خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فليس من صيد الحرم، وإذا لم يكن من صيد الحرم، حل له أن يعامله معاملة المستأنس المملوك، مثل: الدابة التي يملكها من الدواجن والطيور ونحوها إذا أراد يذبحها ويأكلها فلا شيء عليه. والأولون يستدلون بدليل الحاج، فإن من أحرم للحج والعمرة، يجب عليه تخلية الصيد، فلو صاد قبل أن يحرم وأمسك صيدا ثم لبى لم يجز له أن يستصحبه، بل يجب عليه أن يفكه، يقولون: وتستوي الاستدامة سواء كان المحرم مستديما أو مبتدئا، فيحرم الصيد بمكة ابتداء استدامة، والواقع القول بأنه إذا صيد خارج الحرم ثم أدخل الحرم فإنه لا يأخذ حكم الصيد فيه قوة، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يأخذ حكم الحرم؛ لأنه لم يصد داخل الحرم، والله عز وجل خصص المكان بالتحريم، والتخصيص يقتضي أن يقيد الحكم بما خصص به، وإلا ما فائدة التخصيص؟ وبناء على ذلك: يقوى هذا القول. وأما مسألة محظورات الإحرام فإن فيها استدامة، فمثلا: من محظورات الإحرام: النكاح، فلو أن الرجل أحرم بالحج والعمرة وهو متزوج من قبل، فهل ينفسخ عقده؟ الجواب: لا. فنقول: دل على أن نفس الإحرام فيه تفصيل، فما دل الشرع فيه على الاستدامة حكمنا بالاستدامة فيه، وما دل الشرع فيه على أن المحرم هو الابتداء قلنا بتحريم الابتداء، ولا شك أن الإنسان إذا تورع فهذا أفضل وأكمل وأبعد عن الشبهة، والله تعالى أعلم. خطر الغرور وعلاجه السؤال من الأمور التي تطرأ على طالب العلم في أثناء الطلب داء الغرور فما هو العلاج لذلك؟ الجواب إن العلم إذا أريد به وجه الله وابتغى به العبد ما عند الله عصمه الله من الزلل وسدده في القول والعمل، وحقق له كل ما يصبو إليه من مرجو وأمل، فالله هو المطلع على السرائر الذي لا يخفى عليه شيء مما غيبته الضمائر؛ فلذلك يجب على طالب العلم أن يحاسب نفسه دائما بالإخلاص لله عز وجل وإرادة ما عند الله، وهذه المحاسبة إذا صحبها شيء من الانكسار والاعتراف بعظيم نعمة الله جل جلاله الذي علم الإنسان ما لم يعلم وفتح عليه أبواب العلم، ويسر له سبيله ولولا الله ما فهم، ولولا الله ما علم، ولولا الله ما استطاع أن يصل إلى شيء من هذا العلم. قال تعالى مخاطبا نبيه وأشرف خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، فالفضل فضل الله والنعمة والرحمة من الله وحده؛ ولذلك جعل لعباده السمع والبصر والفؤاد، وهي أسباب ووسائل يتوصل بها إلى العلم، فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائما في الإخلاص لله عز وجل مستصحبا أثناء محاسبته عظيم نعمة الله عليه وجميل وجليل منته لديه، فإذا عرف نعمة الله انكسر لله. والقلب المخلص كالوعاء النقي بل هو أشرف وأزكى من تلك الأوعية، ولكن الله ضرب المثل، فالقلب المخلص مليء بنور الله عز وجل القلب المخلص امتلأ بالله وحده، وما من قلب يمتلئ بالله إلا وقد انشغل وانصرف عن كل شيء سواه، ففي الله وحده سلوة للإنسان عن كل شيء سواه، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته، وأخلص لله بقوله وعمله وأدرك نعمة ربه، وصاحب الإخلاص بالمعرفة التامة بنعمة الله عليه ذل لله وحده، وأصبحت تلك القلوب المخلصة النقية التقية الخلية من الشرك بريئة، ومن الرياء ومحبة المدح والثناء والغرور بالنفس معصومة بإذن الله عز وجل، وهذه كلها أسباب تحول بين الإنسان وبين الغرور، ولن تجد إنسانا يبتلى بالغرور إلا وجدت في إخلاصه نقصا وفي عبوديته لله خللا، فلا يدخل الغرور إلا بالانصراف عن الله جل جلاله، ومن جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه زكاه ربه، وزكى عمله وجعل هذا العلم مقربا له سبحانه، فلا يتعلم كلمة إلا وقربته من الله جل وعلا، ولا يسمع جملة إلا وحببته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب ما فيه إلا الله، فإذا انصرفت القلوب إلى الله طهرها ربها وتولى أمرها مقلب القلوب والأبصار، وتولى أمرها من يحول بين المرء وقلبه، والله يقول عن الذين انصرفوا عنه {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ، نسأل الله بأسمائه وصفاته ألا يزيغ قلوبنا! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة! كل من يجد الغرور ففيه نقص من الإخلاص وفي إخلاصه دخن، فعليه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تزيد من إخلاصه لله جل جلاله ومن أعظمها وأجلها: الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعر أن هذا العلم أمانة ومسئولية وتبعات، إما أن يفضي بالعبد إلى الدرجات، أو يهوي به في الدركات، فإذا خاف من هذا العلم أشفق على نفسه حتى إنك لتراه من أخلص الناس وهو يشك في إخلاصه ويقول: لا. ما أنا بمخلص، عملي ليس بمخلص وليس بخالص، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (أدركت سبعين كلهم يخاف النفاق على نفسه) . أثر هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، فكانوا يحركون القلوب بالإخلاص لله جل جلاله، والمغرور إذا انصرف قلبه عن الله أصابه الغرور، ولقد عتب الله على أقوام اغتروا بأنفسهم وفرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ليعلم كل طالب علم وليعلم كل متعلم أن الغرور يمحق البركة ويذهب الخير، ولربما صرف الإنسان من الرحمة إلى العذاب فيشقى من بعد السعادة ويهلك من بعد النجاة والعصمة، والله يقول: {فتزل قدم بعد ثبوتها} [النحل:94] ، فمن دخله الغرور فإنه على مهلكة؛ لأن الله اختار القلب للنظر، فقال سبحانه: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] ، ليعلم الله في قلوبكم الإخلاص، فلا خير يراد إلا بالإخلاص لوجه الله جل جلاله، فالغرور يمحق البركة، والغرور يذهب الخير ويصرف العبد عن الله جل جلاله، ولا يزال العبد يغتر حتى يهلكه الله بغروره، وانظر إلى مكان الغرور وشؤمه وشره، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا ممن كان قبلنا يمشي إذ أعجبه برد عطفيه -يعني: نظر إلى ثوبه وهو جميل- فاختال في مشيته فأصابه الغرور فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة) ، هذا في ثوب!! فكيف بمن يغتر بالعلم؟ من الغرور بالعلم: أن يتعاظم الإنسان على الناس وأن يحس أنه بعلمه قد أصبح حاكما على الناس، فيحتقر من هو أعلم منه، وينتقص من هو مثله، ويترفع على من دونه. ومن الغرور: أن ينصب نفسه حاكما على أئمة العلم ودواوين السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة، فوالله لو كانوا أحياء لخرست أفواه هؤلاء، ولو كانوا أحياء لعموا حتى يقادوا بعلم هؤلاء إلى الجادة والسبيل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ حرمة السلف الصالح، ويحفظ حرمة العلماء وخاصة أئمة الكتاب والسنة وهم على درجات، فالعلماء الذين شهد لهم أنهم أئمة السلف وأجمعت الأمة على جلالتهم ورفعة قدرهم وحبهم وعلو شأنهم وزكاهم الله بالقبول، فوضع الله لهم القبول في الأرض، لا يأتي الإنسان بعد عشرة قرون يشكك في عقائد هؤلاء، أو يشكك في تبيينهم ومنهجهم مغترا بنفسه، وهو بالأمس كان ضالا شقيا بعيدا عن رحمة الله فما إن وقف في طلبه للعلم حتى يقف مجرحا ثالبا منتقصا مزدريا للعلماء، فإياك ثم إياك أن تقرأ كتابا أو تجلس في مجلس علم فتقوم وأنت محتقر للسلف، والله ما نصحنا لعلماء الأمة والدين إذا كانت كتبنا تقود إلى ازدرائهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وتجد الإنسان إذا كان الإنسان فقيها، يشعر من معه من معه أنه لا فقه إلا فقهه، وإذا كان محدثا يشعر أنه لا حديث إلا منه أو لا تصحيح ولا تضعيف إلا منه، فلا يبالي بعدها بالعلماء، ويقول: لا تغتر بفلان ولا تعبأ بفلان، هذا لا ينبغي، فإن أول ما يأتي الغرور يبدأ باحتقار أئمة ودواوين العلم الذين شهد لهم بذلك، فينبغي عليك أن تتقي الله في سلف الأمة، وأن تتصور هذا العالم الإمام حافظا للكتاب والسنة، فما كان أحد يتصدر للعلم إلا إذا كان على قدم راسخة، الإمام مالك ما جلس يحدث الناس حتى شهد له سبعون من أئمة الفتوى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل للعلم، فما كان يتقدم كل زاعق وناعق، فاتق الله ولا تغتر بنفسك إذا كنت مع علماء السلف وأئمة السلف، فينبغي أن نغرس في قلوب طلابنا وقلوب من يتلقى العلم عنا حب السلف وإجلالهم، والترحم عليهم، وذكرهم بالجميل، والإشادة بفضلهم وعلو شأنهم، وهذا من النصيحة لعلماء الدين، ولأئمة المسلمين. وكذلك النصحية للعلماء الأحياء بألا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فبعض طلاب العلم إذا جلس بمجلس عالم جعل ينتقد ويزدري غيره، وإن سمع علم شيخه أصم أذنه عن علم غيره، بل ينبغي على الإنسان أن يعلم أن هذا سنة، وأننا تحت رحمة الله منا المصيب ومنا المخطئ، وأننا لا نستطيع أن نزكي أنفسنا بأن نقول: نحن أصحاب الحق ونحن الذين على النجاة وعلى الصراط المستقيم، بل نبني على غالب ظنوننا ونجتهد بالدليل والحجة حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، فإذا بذل الإنسان السبب فإن كان مصيبا فله أجران، وإن كان مخطئا فله أجر واحد، لكن لا يقتضي هذا ذم العلماء وسبهم وانتقاص غير شيخك، لا. بل تكون كفيف اللسان عفيف القلب إلا إذا كان هناك أمر فيه اعتداء لحدود الله، فتقول: هذا الأمر خطأ، وفلان أخطأ في هذا الأمر، إذا كان يخالف فيه نصا صريحا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى، أو يأتي بعلم من عنده واجتهاد من عنده لا يعرف له أصل عن أئمة السلف، فهذا شيء آخر، ونحن نتكلم على مسائل شرعية يسع فيها الخلاف من الفرعيات وليس من الأصول، فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يغتر بشيخه، بل عليه أن يستعصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا نسيان فضل أهل الفضل، ولا يعني هذا أن يترك طالب العلم شيخه! لا، بل يتبع شيخه بالدليل، وإذا رأى شيخه يتحرى الكتاب والسنة أحبه لحب الكتاب والسنة، وغار على الحق الذي أجراه الله على يديه وأحب سماع هذا الحق ما دام أنه يرى أنوار التنزيل عليه، وعلى هذا يسير طالب العلم. ولا يغتر أيضا طالب العلم بانتقاص غيره، فلربما يكون شابا اهتدى فرأى غيره من العوام فينتقصهم ويضحك منهم إذا أخطئوا، أو يستخف بهم إذا سألوا، لا ينبغي هذا، فإن الله قد يمقت العبد بذنب واحد، فيغضب عليه غضبا لا يرضى بعده أبدا: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) ، وقد يسخط الله على إنسان يغتر بعلمه فينتقص الناس، فإذا جلست بين عوام يريدون الفائدة فأظهر خشوعك ووقارك، لا من أجل أن يمدحك الناس ولا من أجل السمعة بل لله وابتغاء مرضاته، وقل: هذا العلم الذي شرفني وكرمني ينبغي أن أصونه وأن أحفظه كما أن الله جعله صونا لي وحرزا، فيكون الإنسان سهل الكلام مع الناس، سهل الكلام مع العامي إذا سأل أو إذا استشكل، فهذه من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الضابط في معرفة المال المحترم السؤال أشكل علي الضابط في معرفة المال المحترم؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد المال: هو كل شيء له قيمة، وسمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ولذلك قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالمال كل شيء له قيمة، وبناء على ذلك: إذا قال العلماء: المال، فلا يختص بالذهب ولا بالفضة، وقد دل على ذلك دليل السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف غير الذهب والفضة بالمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته -ثم ذكر الإبل، فقال- إلا فتح لها بقاع قرقر يجدها أوفر ما تكون لا يفقد منها فصيلا، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها) الحديث، فذكر الإبل والبقر والغنم، ووصفها بأنها مال، وفي حديث الثلاثة النفر: الأقرع والأعمى والأبرص، فإن الأعمى لما جاءه الملك فقال له: (ابن سبيل منقطع، فقال له الأعمى: كنت فقيرا فأغناني الله، كنت كذا وكذا -وذكر نعمة الله عليه- ثم قال له: والله لا أردك اليوم من مالي شيئا، دونك الوادي خذ منه ما شئت -وكان ماله الغنم- فقال الملك -وهذا موضع الشاهد- أمسك عليك مالك) ، فسمى الغنم مالا، فإذا: قول العلماء: مالا محترما، المال: هو كل شيء له قيمة سواء من النقدين أو غيرهما، والعرف الدارج عند الناس أنهم لا يطلقون المال إلا على النقدين من الذهب والفضة، وهذا في الاصطلاح خاص، لكن المعروف: أن المال عام، وبناء على ذلك يشمل الأشياء كلها، لكن قولهم: (محترم) المحترم: هو الذي له حرمة، وهو المأذون باتخاذه، فإذن الشرع باتخاذ المال يعطيه الحرمة؛ لأن الله جعل لك -إذا ملكت هذا المال- حق التصرف فيه، فيصبح المال له حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم وحسابهم على الله) ، فقال: (عصموا) ، صار في عصمة وحرمة. فإذا: قولهم: (مال محترم) أي: مال مسلم، ويدخل في ذلك: مال الذمي، لكن لو أنه أتلف مال كافر حربي فإنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأن مال الكافر الحربي ملك لنا: ولا يكون له حرمة؛ لأن الشرع أسقط عنه الحرمة بدليل الغنيمة، وعلى هذا لا بد أن يكون المال محترما، فيكون محترما من جهة الشخص كما ذكرنا في المسلم والكافر، ويكون محترما من جهة الوصف، فيكون نفس المال مأذونا به شرعا مثل: الأطعمة والأكسية ونحوها، ويكون ضدها الأطعمة المحرمة، مثلا: لو جاء شخص إلى طعام خنزير، فإذا كان لذمي فإنه محترم؛ لأن شرط العهد الذي بيننا وبينهم: أن نقرهم على دينهم وهذا مباح لهم في دينهم، لكن نحن نتكلم على الأصل العام: أن الخنزير ما له حرمة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) ، فلو أخذ الصنم وكسره فليس عليه ضمان، وهكذا لو كان هناك شيء من الأطعمة الفاسدة المحرمة فأتلفت، فإنها إذا أتلفت ليس لها حرمة ومن هنا ساغ للمحتسب -كما ذكر العلماء في أحكام المحتسب-: أنه إذا دخل السوق ووجد طعاما فاسدا أتلفه؛ لأن الطعام الفاسد ما له حرمة، وإذا بقي عند الشخص ربما باعه على مسلم فقتله وأضر به، فمثل هذا يوجب سقوط الضمان، فإذا وقع الإتلاف على مثل هذه الأموال سقط ضمانها، والله تعالى أعلم. مناسبة إدخال أحكام الإتلافات في باب الغصب السؤال ما وجه مناسبة هذه الأحكام في باب الغصب مع أن أحكامها متعلقة بباب الضمان؟ الجواب تختلف مناهج العلماء رحمهم الله، فبعضهم يذكرها في باب الضمان، لكن المشكلة أن الضمان إذا كان بمعنى: الكفالة المتقدم معنا في باب الكفالة -فمن العلماء من يجعل الضمان والكفالة بمعنى واحد- فحينئذ لا يسوغ أن تجعل أحكام الضمان للإتلافات تحت باب الضمان؛ لأنك إذا جعلت الضمان والكفالة بمعنى واحد، فهذه متعلقة بالديون، فالضمان: كأن يأتي شخص ويريد أن يستلف سيارة مثلا، فتقول: أنا أضمنه أن يسدد، فهذه ما لها علاقة بالإتلافات، لكن إذا كان الضمان بمعنى: ضمان الحقوق والإتلافات فهذا باب مستقل، فحينئذ يسوغ أن تفرده بمادته، والسائد والذائع عند العلماء رحمهم الله أنه قل أن تجد من وضع باب الضمان بمعنى ضمان المتلفات، والمؤلفات المعاصرة تعبر بالضمان وتدخل مسائل الإتلافات، وهذا مصطلح صحيح وسائغ؛ لأن اسم الضمان يسوغ أن تندرج تحته هذه المسائل؛ لكن المصنف رحمه الله منهجه هو الصحيح؛ فإن الغصب اعتداء على الأموال والإتلاف اعتداء على الأموال، والمناسبة بينهما لا إشكال في وضوحها وتمامها. فإذا كانت عندك مادتان: مادة فيها نصوص ولها أصل، ولها باب مثل الغصب ولها نصوص خاصة وتفصيلات وتفريعات، ومادة ملحقة بهذا الباب مندرجة تحت أصله، فالأفضل أن تبدأ بالمادة الأولى وهي الغصب، ثم ترفقها بأحكام الضمان للمتلفات وأحكام الاعتداء، فالمصنف رحمه الله هنا سلك هذا المسلك، وإلا فبعض العلماء يجعل الضمان بابا مستقلا، إلا أنه لم يجعل ضمان الاتلافات بابا مستقلا؛ لأنا لو قلنا بهذا لوجب إدخال الديات والقصاص فيه؛ لأن هذه كلها ضمان للحقوق، وبناء على ذلك: نجد كثيرا من العلماء لا يدخلون الإتلافات تحت باب الغصب، والشافعية عندهم هذا المنهج، والإمام الشافعي رحمه الله عليه من أئمة السلف ومع ذلك ذكر أحكام الإتلافات بعد الغصب، فجعل مسائل الإتلاف -كما في مختصر المزني في مسائله على الإمام الشافعي رحمه الله- بعد الغصب، والمصنف رحمه الله وأئمة الحنابلة رحمهم الله يذكرون هذه المسائل عقب الغصب وهذا وجيه، والمسألة كلها في الأولى والأحسن، والأمر واسع -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (377) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [8] لم تضمن الشريعة الحق لصاحبه إذا أتلف ماله آدمي فقط، بل حتى لو أتلفت البيهمة شيئا فإن الشريعة ألزمت صاحبها بضمان ما أتلفته حتى لا تضيع حقوق الناس، وهذا كله مبين ومفصل في كتب العلماء رحمهم الله. موجبات الضمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان] . تقدم معنا أن مسائل الضمان تعتبر من أهم المسائل؛ نظرا لعموم البلوى بها، وكثرة السؤال عن أحكامها، وقد بينا أن العلماء رحمهم الله منهم من يذكر مسائل الإتلاف بعد مسائل الضمان، فلما كان الغصب يوجب الضمان ناسب أن تذكر مسائل الإتلاف؛ لأنها تشترك مع الغصب في كونها توجب الضمان. وذكرنا أن الإتلاف يكون على صورة السببية وصورة المباشرة، وبينا إتلاف الشخص للأشياء بنفسه، كأن يحرق الشيء أو يتلف المنافع الموجودة فيه، سواء وقع الإتلاف لكل الشيء أو بعضه، وبينا أن الشريعة أوجبت على من اعتدى على أموال الناس أن يضمن ما جنت يداه، وأنه يطالب بدفع قيمة الأضرار المترتبة على اعتدائه. وسيشرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان حصول الضرر بالسببية، وحصول الضرر بالسببية ذكر من أمثلته: فتح القفص كما ذكرنا، وفتح الباب، وحل الوكاء، هذا على القول بأن التضمين هنا من سببية مؤثرة في المباشرة، وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. والآن عندنا مسألة ربط الدابة في الطريق الضيق، وقبل بيان هذه المسألة وما يتبعها من مسائل ينبغي أن يعلم أن هناك ثلاثة أمور لا بد من توفرها في الضمان، وهذه الثلاثة الأمور كالآتي: أولا: وجود الاعتداء. وثانيا: أن يترتب على الاعتداء ضرر. وثالثا: أن توجد سببية تربط بين الاعتداء وبين الضرر. فعندنا اعتداء، وعندنا ضرر الذي هو أثر الاعتداء، وسببية رابطة بين الاعتداء وبين الضرر. أما الاعتداء فيشمل ستة صور: الصورة الأولى: الإهمال. الصورة الثانية: التقصير. الصورة الثالثة: مجاوزة الحد. الصورة الرابعة: عدم التحرز. الصورة الخامسة: العمد. الصورة السادسة: الخطأ. هذه ست جهات يوصف فيها الشخص بكونه معتديا. العمد والخطأ يوجبان الضمان أما النوع الخامس: وهو العمد، والنوع السادس: الخطأ، فهما يقعان في نفس الأشياء التي تقدمت، فمن قصد الضرر بهذه الأشياء المتقدمة فهو متعمد، ومن وقعت منه هذه الأشياء عفويا دون قصد ودون تعمد فإنه مخطئ، وحينئذ يجب الضمان، كشخص أحرق كتاب غيره، فنقول له: اضمنه. وهكذا لو أخطأ فسقطت النار من يده فأحرقت فراشا أو أرضا فإننا نقول: أنت ضامن سواء قصدت فكنت متعمدا أو لم تقصد، والفرق بين العمد والخطأ: أن العمد يوجب الضمان مع العقوبة، وأما الخطأ فإنه يوجب الضمان وحده، وقد تقدم بيان ذلك، وكل هذه الصور في الحقيقة هي أسباب للضمان، والمصنف رحمه الله أشار بصورة ربط الدابة للصورة الأولى وهي صورة الإهمال، وكما أنها تقع في الحيوانات فإنها تقع في غير الحيوانات. وقوله: (وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن) قال: (عثر به إنسان) لا يشترط أن يعثر الإنسان، بل كل ما يترتب على وجود هذا الإخلال وهذا الإهمال من ضرر فإنه يتحمله؛ لكن ذكر (عثر به إنسان) لأن الإنسان غالبا يعقل ويتحفظ، فإذا كان يضمن ممن يعقل ويتحفظ فمن باب أولى أن يضمن إذا تسبب بضرر لغير الإنسان بوجود هذا الدابة والبهيمة. الإهمال يوجب الضمان فأما قولنا: (الإهمال) إذا حصل الضرر مترتبا على الإهمال؛ فالمهمل يتحمل مسئولية ذلك الضرر، وكذلك بالنسبة لبقية الصور، لكن نريد أمثلة على الإهمال الموجب للضمان، بمعنى: الإهمال إما أن يقع في الأشخاص، وإما أن يقع في الأموال، فمثال الإهمال في الأشخاص: لو أن امرأة مرضعة -مثلا- كانت ترضع صبيا فأهملته ولم تسقه ولم تقم على إرضاعه حتى مات، فهذا إهمال في القيام بواجبها ومسئوليتها التي تحملتها، فلو أن هذه المرضعة حملت هذا الصبي أو الخادمة أو الخادم أخذ الصبي ووضعه بجوار نار، وهو طفل رضيع فوضع جوار تنور النار أو وضع بجوار بركة ماء ولا حاجز لها فدب وسقط، فهذا إهمال بالسببية وصحيح أنه سقط بفعله، أي: باشر الصبي الذهاب للحفرة واحترق بالنار، أو باشر الذهاب إلى الحرب وسقط منه فمات، أو باشر الذهاب إلى فتحة الخزان وسقط فيها ومات، لكن كون هذه الفتحة موجودة في هذا الموضع وكون التنور موجودا في هذا يستلزم ممن يحمل الصبي ألا يتركه دون أن يكون بجواره ودون أن يغلق عليه هذه المنافذ الموجبة للضرر، فإذا: هذا الإهمال سبب في الضمان؛ لأنه نشأ الضرر، عنه، والصبي لا يعقل، فأصبحت مباشرته ساقطة، وأصبح من وضعه في هذا الموضع متحملا المسئولية، ولذلك قالوا: لو أن امرأة نامت بجوار صبيها وانقلبت عليه في الليل وقتلته، فهذا قتل خطأ لكن فيه نوع إهمال ويكون المنشأ فيه من جهة الإهمال، هذا بالنسبة لضمان الأشخاص، فالإهمال يوجب الضمان في الأشخاص، وقد يوجب الإهمال الضمان في الأموال، فمثلا: حينما تكون هناك مواد سامة أو ضارة ويحملها شخص، وحملها له طريقة معينة أو ينبغي أن تقفل الأوعية التي فيها هذه المواد فلم يقفلها كما ينبغي ولم يقم بحفظها في الأوعية التي يحفظ فيها مثلها فإن هذا الإهمال يوجب المسئولية عن جميع الأضرار المترتبة عليه. كذلك الإهمال في البناء أو النجارة أو الحدادة، أو الطب، فكل هذه الأمور إذا وقع فيها إهمال، فإن المهمل يتحمل مسئولية إهماله، فمن ربط دابته في الطريق هذا إهمال؛ لأن الطريق الضيق ليس موضعا لربط الدابة، ولذلك قيده المصنف رحمه الله بالضيق بخلاف الطريق الفسيح، فلو أن شخصا كانت معه ناقة أو بهيمة فربطها في طريق ضيق، فجاء شخص يمشي فعثر بحبلها وسقط فانكسرت يده أو حصل الضرر عليه أو كان يحمل شيئا فسقط وانكسر فإن صاحب هذه الدابة يتحمل المسئولية عن هذا الضرر كله؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع لربط الدواب، وثانيا: لأن صورة الربط توجب الضرر غالبا وتفضي إليه، فمثل هذه البهائم إذا ربطت في مثل هذا الموضع فإنها توجب الضرر حتى ولو كان برباطها الذي تربط به، فلو ربطه في منتصف الطريق فأضر بإنسان أو بسيارة أو بغيره فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر، لكن لو أنه أخذ بهيمته وربطها في صحراء، فجاء شخص ومر على حبلها وسقط، فيكون التقصير من الشخص وليس ممن ربطها، وليس هذا الموضع متعينا لأن يسلكه الشخص، فلما أراد أن يسلكه تعين عليه أن يتحفظ، وحينئذ لا تكون كالصورة الأولى التي ضيق فيها على الناس وكان الضرر فيها بسبب وجود هذا الإهمال من صاحب الدابة. قال بعض العلماء: لا يضمن إن كان في طريق فسيح؛ لأن هناك قاعدة عند العلماء: أن مفاهيم الصفات في المتون معتبرة عند أهل العلم، فهنا لما قال: (طريق ضيق) نفهم منه: أنه إذا كان الطريق واسعا فإنه لا يضمن، وتتفرع على هذه المسألة: لو جاء وأقفل بها طريقا ضيقا يسلكه الناس، فترتب بسببه ضرر على الناس في أرواحهم أو ترتب عليه ضرر في ممتلكاتهم أو أغراضهم وحوائجهم فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع إيقاف كما أن الطريق الضيق ليس بموضع ربط للدابة. فقوله: (ومن ربط دابته في طريق ضيق فعثر به إنسان) هنا اجتماع السببية والمباشرة، فصحيح أن العثر وقع بمشي الشخص وهو الذي باشر المشي في هذا الموضع فسقط، لكن وجود هذه الدابة وهذا الحبل في هذا الموضع على هذا الوجه موجب للضمان. التقصير يوجب الضمان السبب الثاني والصورة الثانية من موجبات الضمان: التقصير، فتضاف إلى هذه الصورة صورة التقصير، والتقصير هو نوع من الإهمال، لكن يفرق بين التقصير والإهمال: أن التقصير غالبا يكون في الأشياء التي لها حدود معينة، ويقوم الشخص بالتقصير بعدم فعل الشيء على أتم الوجوه فينتقص منه، فإذا قصر ألزم بعاقبة تقصيره، ومن أمثلة ذلك: إذا كان الشيء مما يربط فلم يربطه، أو كان الشيء مما يقفل فلم يقفله، فمثلا: شخص وضع شيئا في موضع مؤتمن فيه على أمانات الناس، فالذي جرى في العرف أنه يقفل هذا الموضع، فقصر في قفله أو تركه مفتوحا فهذا إهمال من وجه وتقصير من وجه، فالتقصير نوع من الإهمال لكنه يختص بالأشياء التي لها ضوابط معينة، فمثلا: لو أنه أخذ سيارة الأجرة من شخص أمانة لا يضمن، لكن إذا جرى العرف على أنه في كل مسافة معينة يقوم بفعل شيء فيها، إما من جهة غيار زيتها أو تفقدها فلم يتفقدها ولم يكشف على شيء من ذلك حتى تعرضت السيارة للتلف، فنقول: تضمن؛ لأن هذا إهمال من وجه وتقصير من وجه. السبب الثالث: مجاوزة الحد، وهو مثل التقصير يكون في الأشياء المحددة وهو عكسه، فالتقصير أقل والمجاوزة أكثر، فالمجاوزة تقع في الأموال وتقع في الأشخاص، فقد ذكر العلماء رحمهم الله في القديم -كما سبقت الإشارة إليه في باب الإجارة- الطبيب إذا جاوز الحدود المعتبرة عند أهل الصنعة، فمثلا: لو عمل عملية جراحية لها حدود معينة فجاوز الحد المعتبر عند أهل الخبرة في قطع عضو أو دواء أو جرعة الدواء، وقد تكون جرعة الدواء تفضي إلى الإدمان، فإذا وصل إلى حد معين ولم يحتط وجاوز هذا الحد؛ فذلك يوجب الضمان في الأشخاص. كذلك أيضا تقع مجاوزة الحد في الممتلكات والأموال، فمثلا: مصعد له عدد معين من الحمولة، فركب فيه أشخاص أكثر عددا فسقط هذا المصعد وقتلوا، فهذه الزيادة مجاوزة للحد ويتحملون مسئولية أنفسهم، فلا يكون مالك المصعد مسئولا. كذلك لو أن شخصا أعطى سيارته لآخر يعمل بها أو يسوقها ويؤجرها فأركب فيها حمولة زائدة حتى تلفت السيارة أو تسبب ذلك في حادث، فعند ذلك يضمن، وكذلك مجاوزة الحد في المواضع المخصصة للممتلكات فيضع فيها فوق الطاقة المحدودة، فكل شيء له ضابط عند أهل العرف أو عند أهل الصنعة أو أهل المهنة -إن كان من الصنائع والمهن- إذا جاوز فيه الشخص ذلك الحد فإنه يضمن ويتحمل المسئولية المترتبة على تلك المجاوزة. عدم الاحتراز يوجب الضمان الصورة الرابعة الموجبة للضمان: عدم الاحتراز، بمعنى: ألا يتعاطى الشخص أسباب التحفظ من الضرر، وهذا يقع في الأشياء الخطرة، فإذا كان الشخص أمامه حفرة وعليها تعليمات معينة عند مروره بها ثم تجاوز الحد واقترب من المكان الخطر؛ فعند ذلك يتحمل مسئولية نفسه ولا يضمن لو هلك أو تلف شيء من أعضائه؛ لأنه بمجاوزته وعدم احترازه وعدم توقيه تحمل مسئولية نفسه، كذلك المواضع المحمية التي منع من الاقتراب منها ومن دخولها فاقترب منها فإنه يتحمل مسئولية نفسه. حكم من كان له كلب عقور أحدث ضررا قال رحمه الله: [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه] الكلب -أكرمكم الله- هو الحيوان المعروف، والعقور: هو الذي يحبس الناس ويهجم عليهم ويؤذيهم ويضرهم وربما قتل، فالكلب العقور هو المعتدي على الناس، وأصل العقر في لغة العرب: الحبس، يقال: عقر الشيء؛ إذا منعه وحبسه، فالكلب العقور هو الذي يحبس الناس؛ لأنه يهجم ويعتدي عليهم، فوصف بهذا الوصف. هذا النوع من الكلاب -أكرمكم الله- مأمور بقتله، فالكلب إذا أصبح يتعرض للناس ويؤذيهم ويعضهم أو يقتلهم أو يمنعهم من سلوك الطريق ولم يكن الموضع مملوكا لشخص فإنه يقتل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، ويجوز قتله في الحل والحرم، وهو من ضمن ما أذن بقتله دفعا للمفسدة الأعظم، والكلب العقور في الأصل لا يجوز للشخص أن يقتنيه؛ لأنه عندما يقتنيه يخالف النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله وهذا يريد استبقاءه، فإذا أدخل كلبا عقورا بيته فقد أذن للكلب بالإضرار والإفساد، وحينئذ يتحمل كل ما يترتب على هذا الكلب العقور من ضرر، فإذا أذن لشخص بالدخول للبيت فقام الكلب وعضه فإنه يتحمل مسئولية هذه العضة، فلو أن هذه العضة أتلفت رجل المعضوض أو يده ضمن نصف الدية على التفصيل في باب الضمان. لكنه يضمن إذا أذن للشخص بالدخول في بيته، فإذا كان الشخص سارقا أو هجم على البيت بدون إذن وابتلاه الله بكلب عقور فهذا لا يضمن، بل هو هدر؛ لأنه بدخوله هذا الموضع سقطت حرمته وحينئذ لا يتحمل صاحب الكلب المسئولية، فإذا أذن لأحد بالدخول إلى مزرعته والمزرعة فيها كلب عقور أو أذن لأحد بالدخول في بيته والبيت فيه كلب عقور فإنه يضمن، وأما إذا لم يأذن له وهجم الشخص كالصائل، فإذا صال عليه شخص جاز له أن يدفع الضرر. فالكلب العقور يضر بأرواح الناس ويضر بأعضائهم، ولهذا أمر بقتله دفعا لهذا الضرر، فإذا حفظه الشخص وخالف الشرع بحفظه وبإدخاله إلى داره أو مزرعته وأذن لشخص بالدخول إلى ذلك المكان فعضه أو قتله فإنه يجب عليه ضمانه. وقوله: (أو عقره خارج منزله) جاء بالكلب العقور وحفظه وأطعمه وجعله بجوار بيته، فمر مار فعقره فإنه يضمن؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه؛ ولأن هذه المحافظة أو القيام على الكلب العقور توجب الضمان، وحينئذ يتحمل المسئولية عن كل ما ينتج عن هذا الكلب العقور من أذية وضرر. ضمان مالك البهائم لما أتلفته من أموال الناس قال رحمه الله: [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمنه صاحبها وعكسه النهار] بعد أن فرغ رحمه الله من التسبب في الإضرار بالشخص نفسه بفتحه للعصفور أو للمحبوس من الدواب المهلكة، أو فتحه للباب أو حله للوكاء، شرع في السببية عن طريق البهائم، فذكر صورة الكلب العقور، وبعد أن انتهى من الكلب الذي يهجم ويضر بأرواح الناس شرع في السببية عن طريق البهائم إذا أضرت بالأموال، فأصبح الشخص إما أن يضر بنفسه أو يضر بواسطة حيوان، وإذا أضر بالحيوان فإما أن يضر بأرواح الناس مثل: الكلب العقور، أو يضر بممتلكاتهم ومثل لها بالبهائم إذا أتلفت أموال الناس، فمن كان عنده بهائم كالإبل أو البقر أو الغنم ودخلت هذه البهائم إلى بستان شخص فأكلت زرعه وأفسدته فلا يخلو هذا الإفساد من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع بالليل، والحالة الثانية: أن يقع بالنهار. إسقاط جناية البهيمة إذا كانت بغير ما تقدم قال رحمه الله: [وباقي جنايتها هدر، كقتل الصائل عليه، وكسر مزمار وصليب، وآنية ذهب وفضة، وآنية خمر غير محترمة] قوله: [وباقي جنايتها هدر] باقي جناية البهيمة هدر، والهدر: الذي لا ضمان فيه. وعلى هذا تستثنى الصور التي ذكرناها لوجود السببية المؤثرة ويبقى ما عداها تحت عموم النص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) ومن أهل العلم رحمهم الله من خالف الجمهور وقال: لا يسقط من البهيمة إلا جرحها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في رواية: (والعجماء جرحها جبار) فرأوا أن الذي يسقط هو أذيتها وإضرارها بالأنفس والأشخاص دون الأموال فإنه يجب الضمان مطلقا، والصحيح ما ذكرناه من التفصيل لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعموم، ونخصص ما ورد الكتاب بتخصيصه أو دل الشرع على تخصيصه بوجود السببية المؤثرة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم إرسال الدابة قرب ما تتلفه عادة قال رحمه الله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة] لو جاء بناقته ودخل بها إلى السوق أو دخل بها إلى موضع فيه أطفال صغار وترك الناقة ثم دخل يشتري أو يتبضع فقتلت الناقة صبيا أو عضت صبيا أو أتلفت مالا، في العادة لو ترك مثل هذه الدابة بجوار هؤلاء الأطفال غالبا أن يحصل الضرر والحكم للغالب، فقالوا: فكأنه لما قصر في ربطها وحفظها حيث قال: (إلا أن ترسل) والإرسال ضد أن يعقلها، فخرج ما لو عقلها فلو عقلها وجاء صبي وقرب يده منها فعضته، أو جاء شخص اقترب منها فعضته؛ فحينئذ المقترب هو الذي يتحمل المسئولية لكن إذا عقلت وحفظت فإنه لا إهمال من صاحبها ولا ضمان عليه فيما يترتب عن ذلك، لكن لو أرسلت وتركت بجوار طعام داخل السوق والسوق مليء بالأطعمة وتركها ثم ذهب ليتبضع، أو ذهب يقضي له حاجة فذهبت إلى الأطعمة فأفسدت، ففي هذه الحالة لا يمكن إسقاط الضمان فهذه يسمونها: السببية المفضية إلى الضرر؛ لأننا لا نشك أن تركها مرسلة سيفضي بالضرر، فحينئذ يوجب عليه ضمان ما يترتب على هذا الإرسال من ضرر. ضمان راكب الدابة ما تتلفه بمقدمها لا بمؤخرها قال رحمه الله: [وإن كانت بيد راكب أو قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها] هنا مسائل تختلف عن المسائل المتقدمة، فالمسائل المتقدمة تضمن فيها البهيمة بالملكية؛ لأن يدك يد ملكية فأنت ضامن لأنك مالك، لكن المسائل الآتية مبنية على قيادة البهيمة وهذا يقع في الدواب التي تركب، فلو ركب بعيرا، فإن أتلف البعير بمقدمه فإنه يجب الضمان على القائد، وإن أتلف بمؤخره لا ضمان عليه إلا إذا كان هو الذي رده إلى الخلف. مثال: لو قاد البعير حتى دخل إلى موضع فأفسد بدخوله، فإن الذي قاد البعير ودفعه للدخول والراكب أو القائد متحكم بزمام البعير، فلما أطلق له العنان وأدخله في هذا الموضع لا شك أنه متسبب في هذا الضرر، فحينئذ البعير مباشر والقائد متسبب فيلزمه الضمان؛ لأنه بهذه القيادة انتهى إلى الضرر وأفضى إليه، لكن لو أنه يسير ثم وقف أو استوقف البعير، ثم قام البعير ورفس رجلا من ورائه وقتله أو أضر به، فحينئذ: (العجماء جبار) فيسقط الضمان، لكن لما كان هناك قائد يقود فإنه بهذه القيادة يتحمل، من أمثلتها: السيارة، فلو كان يقودها وحدث الضرر بمقدم السيارة فدهس -لا قدر الله- أو أتلف سيارة أخرى أو أتلف حائطا أو فعل أي ضرر تسبب عن هذه القيادة، يتحمل المسئولية بمقدمها، ولو جاءه شخص من ورائه وضربه وصدم فيه يكون متحمل المسئولية الذي في الخلف، لكن لو أنه أرجع السيارة إلى الخلف -كما لو رد البعير إلى الخلف- إذا ردها إلى الخلف يضمن، وإذا وقع الإتلاف بالمقدم فإنه يضمن، ولا يضمن إذا جاءه شخص من ورائه وأضر به. لكن لو أنه أوقف السيارة في موضع لا توقف فيه وجاء شخص من الخلف وأتلفه هل يضمن؟ مثلا: طريق ضيق وأوقف السيارة في هذا الطريق وهو يعلم أن طريق ضيق، فلا شك أنها سببية للضرر مثل ما ذكرنا في ربط البهيمة في داخل الطريق الضيق، فهذه المسائل كلها مفرعة على المسائل المتقدمة، فإن وقع الإتلاف بمقدم الدابة فإنه يضمن، وإن وقع الإتلاف بمؤخرها ففيه تفصيل إن كان حملها على الرجوع، وكان الإتلاف بالمؤخرة بتحريك منه وإثارة ضمن، وإن لم يحركها ورفست برجلها فإنه لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وإنما ألزمناه الضمان حينما أتلفت بمقدمتها؛ لأنه كان متسببا في قيادتها ودفعها إلى ذلك الشيء الذي هو أمامه. لكن لو أنها أتلفت في منتصفها -أي: لا بالمقدمة ولا بالمؤخرة- فهذه من أمثلتها عند العلماء رحمهم الله: لو برك البعير على شيء فكسره، وطبعا إذا برك حدث القتل بالوسط؛ لأنه يسقط على الشيء فيقتله، ونحن ذكرنا أن الذي يضمن إذا كان على البعير إذا كان بالمقدمة، فلو برك البعير يضمن أم لا ما يضمن؟ الجواب إذا بركه كان ضامنا له، أما لو برك من نفسه قال بعض العلماء: لا ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وهو أمره أن يسير فبرك، فلما برك قتل شيئا أو أفسد شيئا، فحينئذ وقع البروك بفعل البعير لا من فعل الشخص نفسه. لو كان على البعير شخصان راكبان وأتلف البعير بمقدمه من الذي يضمن هل يضمن الذي في المقدمة أو يضمن الذي وراءه أو الاثنان؟ الواقع أن الذي يضمن هو الذي في المقدمة، لكن لو برك فيضمن الاثنان؛ لأنهما لما حصل البروك قال بعض العلماء: لو أنه وقع إنسان على آخر فقتله أو على بهيمة فماتت فإنه يضمن؛ لأنه وقع القتل بالثقل، وهنا لم يقع القتل بقضية البروك وحدها، فالكل مشتركون في الثقل فيضمن الذي في المقدمة والذي في المؤخرة ويكون الضمان على الجميع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يجعل الضمان في حال البروك من المنتصف على الراكب بدون تفصيل؛ لأنه يرى أن الفساد وقع بالثقل، وقضية كونه تسبب في البروك أو عدمه لا تأثير له؛ لأن الذي حدث به الكسر وحدث به القتل وحدث به الإزهاق ثقل البعير مع الشخص الراكب عليه، ولذلك فصل في أحكام أن يتلف المقدمة أو بالمؤخرة أو بوسطه على هذا التفصيل. الضمان إذا كان إتلاف البهائم للمال في الليل فإذا وقع الإفساد في النهار فإن صاحب البهيمة لا يتحمل المسئولية، وإن وقع الإفساد بالليل فإن صاحب البهائم يتحمل المسئولية عما أفسدت بهائمه من الزرع. والأصل في هذا التفريق: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ذكر عن نبيه داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في قضية نفش الغنم في الليل، فأوجب كل من داود وسليمان الضمان، لكن داود عليه السلام أوجب ملكية صاحب الزرع للغنم، وسليمان أبقى الملكية كما هي وأوجب ضمان الزرع الذي فسد، فكل من داود وسليمان متفق مع الآخر على وجوب الضمان لكن اختلفوا في كيفية التضمين، تفصيل الحادثة: رجل كان له غنم، فخرجت بالليل وأكلت زرع رجل آخر، فلما فسدت اختصموا إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع الذي تلف تعادل قيمة الغنم؛ فقضى عليه السلام بأن صاحب الزرع يملك الغنم، فحكمه صحيح وما ظلم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بل حكم بالعدل، لكن يقولون: هناك حكم يكون فيه الاجتهاد وهناك ما هو أصوب منه، فداود عليه السلام حكم من حيث الأصل بحكم له وجه من حيث العدل، فصاحب الزرع لما فسد زرعه وقيمته -مثلا- ألف ريال، والغنم قيمتها ألف ريال؛ فلما حكم بأن الغنم لصاحب الزرع ما ظلم صاحب الغنم ولا ظلم صاحب الزرع، هذا من حيث حكم داود، لكن سليمان قال: لو كنت قاضيا في ذلك لأمرت صاحب الغنم أن يأخذ الزرع وينميه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الأرض الغنم ينتفع بحليبها وصوفها حتى ينمي ذلك له زرعه ويرجع كل إلى ماله، فأثنى الله على حكم سليمان؛ لأن حكم سليمان أبقى اليد كما هي؛ فأبقى لصاحب الزرع زرعه وأبقى لصاحب الغنم غنمه، فأثنى الله على هذا الحكم وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] فأثنى على الاثنين، حتى كان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: لولا هذه الآية لأشفقت على المجتهدين. أي: لأشفقت على العلماء والمجتهدين الذين يجتهدون في الأحكام الفقهية؛ لأن الله أثنى على الاثنين وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] فدل على أن الاجتهاد فيه سعة، فما دام أن الإنسان يتحرى الحق ويريد الصواب فلا تثريب عليه ولو خالف غيره، ما دام أن عنده دليل وحجة. فظاهر القرآن أن الغنم إذا نفشت في الليل فإنه يجب ضمانها، ولذلك داود حكم بضمان الزرع وسليمان حكم بضمان الزرع. فالكل متفق على أن الغنم إذا رعت في الليل فإنه يتحمل صاحبها المسئولية، لكن النهار جاء فيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه حيث كانت له ناقة ضارية واعتدت على مال لأنصاري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بضمانها، وقضى أن حفظ الحدائق نهارا على أصحابها، وحفظ الدواب ليلا على أهلها؛ فدل على أن الدواب في الليل يحفظها أهلها، وأما في النهار فالحدائق والبساتين يحفظها أهلها، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: هذا صحيح؛ لأن صاحب الزرع في النهار موجود داخل زرعه فلذلك يتحمل مسئولية المحافظة على الزرع، لكنه في الليل يأوي إلى فراشه ويرتاح والغنم في الليل عادة تسكن، فكونها تترك فهذا نوع من الإهمال والتفريط ولذلك لزم الضمان من هذا الوجه، وعلى هذا يفرق في الدواب بين كونها تفسد في الليل أو تفسد في النهار وهذا مذهب الجمهور. هناك من العلماء من قال: البهيمة لا ضمان فيما أتلفت وخاصة الجرح، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (العجماء جبار) وقوله: (جبار) بمعنى: هدر، وإذا كانت العجماء هدر، فمعنى ذلك أن ما تتسببه من الأضرار فإنه هدر لا يجب ضمانه، والواقع أن هذا الحديث لا يعارض ما ذكرناه؛ لأن القاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) ، فالبهائم تسمى عجماء؛ لأنك لا تفهم كلامها، ويقال لها: بهيمة؛ لأنها أبهمت، والإبهام من الشيء المبهم المجهول، فلا تستطيع أن تفهم لغتها ولا كلامها، فالمراد بقوله: (جبار) ما يكون منها من إتلاف هدر، وظاهر الحديث أن كل ما يكون من جناية البهائم هدر، لكن لما جاء حديث البراء وأيده ظاهر الكتاب خصصنا عموم الحديث في السنة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة كما هو معلوم تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنقول: إن العجماء هي جبار ما لم يكن الإفساد في الزروع، فإنها مستثناة من النص إذا وقع الإفساد بالليل دون النهار. الأسئلة حكم أم تركت ابنتها عند شيء أكلته فماتت السؤال كنت في يوم من الأيام أعد الطعام، وكانت لي طفلة صغيرة تبكي، فوضعت عندها سفرة طعام لتلعب بها وتنشغل بها، حتى أكمل إعداد الطعام، فتأخرت عنها، فعدت وقد حاولت الطفلة بلع السفرة فاختنقت وماتت، فماذا علي؟ الجواب لا شك أن هذا فيه تقصير، فبعض المواد قد تقتل كأكياس النايلون، فربما يختنق بها الصبي لو تركت عنده؛ لأنه لا عقل عنده فيدخل فيها رأسه، وكذلك الحقائب المفتوحة ربما أدخل أخاه وأغلق عليه، فهذا يحدث، ولذلك أي شيء فيه تقصير وإهمال لاشك أنه يوجب الضمان، فيجب على المرأة أن تصوم شهرين متتابعين إذا لم يمكنها العتق؛ لأن هذا قتل بالخطأ، والعلماء يقولون: إذا تعاطت الأم أسباب هلاك ابنتها وتركت عندها ما يوجب الضرر والهلاك؛ فإنها تضمن، حتى ترك الطفل عند الطعام خطأ، وأعظم من ذلك أن تقول: من أجل أن تعبث بالطعام!! فالطعام ليس محلا للعبث وليس بشيء يعبث به، والذي يترك ابنه أو طفلته عند طعام من أجل أن يعبث به فلو داسه بقدمه ولو أتلفه فإنه يتحمل ذنبه وإثمه -والعياذ بالله- لأنه راض بهذا الفعل، مهيئ لأسبابه؛ ولذلك لا يجوز هذا ممن تتقي الله عز وجل، والذي يظهر في ترك الأشياء القاتلة مثل: الأكياس التي يختنق بها الصبيان، ومثل: ترك الأطفال بجوار الحفر أو تركهم بجوار الآبار أو تركهم بجوار برك السباحة أو نحو ذلك من الأمور التي لا حاجة لها دون مراقبة ومتابعة، فالذي يظهر أنه يوجب الضمان، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. تحمل الوالدين مسئولية إتلاف أطفالهم السؤال إذا قام الأطفال بإتلاف السيارة كلها أو بعض أجزائها فما الحكم؟ الجواب تقدمت معنا القاعدة التي تقول: (إن عمد الصبي والمجنون خطأ) وبناء على ذلك: فإن الأطفال إذا أتلفوا شيئا وجب ضمانه وتسقط عنهم المؤاخذة بالعقوبة لكونها دون سن المؤاخذة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم النبي عليه الصلاة والسلام: الصبي حتى يحتلم) فهذا يدل على أنهم لا يؤاخذون، ولكن لا يعني هذا أن أموال الناس تذهب هدرا، بل إنه يجب ضمانها من أموال الصبيان، وبتقصير الآباء يتحملون مسئولية أبنائهم وما حصل من ضرر بهذا الإتلاف. وينبغي على الوالد أن يستشعر بالمسئولية أمام الله عز وجل، وكذلك الوالدة عليها أن تتقي الله عز وجل في أبنائها، بالمحافظة عليهم، وكون بعض الآباء يقول: هذا صبي، هذا جاهل، فهذا لن ينجيه أمام الله عز وجل، وإذا لم يحفظ ابنه فليعلم أن الله سينتقم منه، وأنه لا يأمن أن تأتي دعوة سوء على ابنه فتشقيه في الدنيا والآخرة، فإن أموال الناس لا شك أنها مضمونة وحقوقهم غير ضائعة، والله جل جلاله من فوق سبع سماوات يقول عن المال الذي فتنت القلوب به: {يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} [محمد:37] يعني: لو أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس أن يخرجوا زكاتهم على شكل فيه إجحاف لهم لحصل منهم -والعياذ بالله- البخل وحصل منهم من الابتلاء ما قد يكون سببا في غضب الله عز وجل. (ويخرج أضغانكم) فإذا كان هذا لله الذي هو مالك الخلق وما ملكوا، فكيف إذا كان من مخلوق يعتدي على الأموال بالتساهل في ترك الأولاد يؤذون الناس في ممتلكاتهم وفي سياراتهم وفي بيوتهم، أو يفسدون المرافق العامة التي ينتفع بها الناس وخاصة الأوقاف، مثل: الثلاجات التي يشرب منها الماء، وأماكن الاستراحة في السفر؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (لعن الله من غير منار الأرض) وفي رواية (منارات الأرض) قال العلماء: هي العلامات التي يستدل بها المسافر أثناء مسيره، فكيف بمن أتلف على الناس سقاءهم وشرابهم وأماكن راحتهم؟! فالضرر في هذا عظيم ولذلك تصيبه اللعنة. فينبغي على الآباء أن يحفظوا أبناءهم وألا يتساهلوا في مثل هذه الأمور، والوالد الذي يحفظ أبناءه ويحافظ عليهم يبارك الله له في ذريته، والذي يتساهل في حفظ أولاده وذريته لا بد وأن يأتي اليوم الذي يريه الله عز وجل في ولده ما يكون سببا في ندمه وألمه حين لا ينفع الندم والألم؛ ولذلك فالآباء الذين يفرطون في أبنائهم صغارا يجنون ثمن هذا التفريط وهم كبار، فينشأ الابن مستهترا بحقوق أبيه، مضيعا لبره، مفرطا في الأمانات والواجبات الملقاة عليه تجاه والده، لا يحترمه ولا يقدره ولا يرحم كبره، ولكن إذا نشأه على طاعة الله وعوده من الصغر بأن يأمره بالصلاة ويأخذ بيده إلى الصلاة فيصبح الابن دائما تحت طوع أبيه، فمنذ نعومة أظفاره وهو تحت أمر أبيه، فإذا فعل ذلك ووفى لله عز وجل بحق أبنائه لم يمت ولم يخرج من الدنيا حتى يقر الله عينه به حيا أو ميتا، فيقر الله به عينه حيا حينما يراه بالمشيب والكبر ساعده الأيمن، يقضي له الحاجات ويفرج الله به الكربات، إذا قال له: يا بني! اتق الله، ارتعدت فرائصه من خشية الله عز وجل، فيجده سامعا مطيعا محبا للخير له، وأما ما تقر به العين وهو في قبره وفي آخرته فالدعوات الصالحات؛ لأنه ينشأ الابن وفيا بارا بأبيه. أما التساهل في الأبناء والبنات وتضييع حقوق الذريات، وترك الحبل على الغارب باسم عدم تعقيد الابن، وباسم عدم التضييق عليه، فوالله إن الضيق كل الضيق في هذا الاستهتار، والضيق كل الضيق أن يرسل هذا الابن كالفرس الجموح الذي لا عماد له من أجل أن يفسد أموال الناس ويتلفها، فاليوم يفسد أموال الناس خارج البيت وغدا يفسد مالك داخل بيتك، وكما أضر بالناس فإنه يضر بأبيه وبأمه وبإخوانه وأخواته؛ ولذلك يقولون: إن السيئة تدعو إلى أختها، فالابن الذي ينشأ على أذية الناس في أموالهم يأتي اليوم الذي يؤذي ماله ويؤذي والديه، فعلى الوالد أن يتقي الله عز وجل وأن يحفظ أبناءه، وإذا جاءت الشكوى من الجار أو جاءت الشكوى من أخيه المسلم أن ابنه فعل؛ تتبع ذلك وتحرى فيه، وعاقب ابنه وزجره وأوقفه عند الحدود التي ينبغي أن يقف عندها، وإذا فعل ذلك ففيه خير له ولولده وللناس جميعا، وإذا تساهل الناس في مثل ذلك تكون فتنة ويكون الشر العظيم، والبلاء الوخيم، أسأل الله العظيم أن يهدي أبناء المسلمين وذرياتهم، والله تعالى أعلم. مسألة اجتماع السببية والمباشرة في الإتلاف السؤال أشرتم إلى مسألة السببية والمباشرة فلو اجتمعا فما الحكم؟ ثم هل يؤثر الاجتماع بين السببية والمباشرة مع الدليل؟ الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد ذكرنا أن السببية والمباشرة تجتمعان، من أمثلتها: قلنا: أن يحفر شخص بئرا ويأتي شخص ويرمي غيره فيها، فالحفر سببية ورمي الشخص في البئر مباشرة فهذا الشخص مات بسقوطه في البئر، والبئر حفرها مالكها والذي باشر القتل هو الشخص الثاني لا الأول فيجب الضمان على الثاني لا الأول؛ ولذلك قالوا: إذا اجتمعت السببية والمباشرة سقطت السببية وأعطي الحكم للمباشرة، وبعضهم يقول: إذا اجتمعت السببية والمباشرة قدمت المباشرة على السببية، ومن أمثلة هذا: لو أن شخصا وضع سكينا في موضع، فجاء شخص وأخذه -والعياذ بالله- وقتل نفسه بها، فالقتل وقع بمباشرة الشخص، لكن وجود السكين في هذا الموضع سبب؛ لأنه يسر القتل، لكنه لم يفض إلى القتل مباشرة، بخلاف ما إذا فتح الباب فخرجت منه الدابة أو خرج منه شيء فأتلف، فإن هذا يفضي إلى الضرر غالبا، ولذلك السببية تسقط بشرط أن تكون المباشرة تقبل أن تسند إليها، وهناك سببية ساقطة من أصل الشرع كما في قوله عليه الصلاة والسلام (البئر جبار) دل هذا الحديث على أن من حفر فإنه لا يضمن، فلو أن شخصا حفر بئرا وجاء شخص آخر وسقط فيها فلا يضمن صاحب البئر، لكن لو جرى العرف على أن هذه الحفر يوضع عليها حاجز ويوضع عليها ستار فأهمل؛ فيكون الضمان من جهة الإهمال؛ لأن الناس اعتادت أن هذه الحفر ينبهون عليها بمنبهات، واعتادوا ذلك وألفوه، فأسندت المحافظة إلى من يقوم بالحفر فقصر في ذلك فحينئذ يجب عليه الضمان. فإذا: عند اجتماع السببية والمباشرة فإن المباشرة تقدم على السببية، وفي بعض الأحيان يشرك بين السببية والمباشرة، مثال ذلك: لو أن أشخاصا اجتمعوا على قتل شخص فقام شخص وربطه، وجاء الثاني وسكب البنزين عليه، وجاء الثالث وأوقد النار، فالذي أوقد النار باشر القتل، لكن من الذي سكب المادة التي تعين على الاشتعال؟ فهنا سببية مفضية للهلاك، ومن الذي ربط؟ لو لم يربط لربما فر الرجل ولتعاطى أسبابا لنجاته، فتصبح السببية مع المباشرة مشتركة، ويكون الجميع بمثابة القاتل الواحد، فهنا اجتمعت السببية مع المباشرة. وكذلك أيضا ربما تكون -الذي هو الطرف الثاني من السؤال- السببية منفردة كالصور التي ذكرناها، وتكون السببية مجتمعة، والمباشرة مجتمعة، فلو أن أشخاصا أحرقوا مزرعة، فالذين أحرقوا هذه المزرعة أربعة منهم قاموا بإحضار مواد الوقود، وأربعة أشعلوا النار، وأربعة نقلوا النار من أجزاء إلى أجزاء، فهؤلاء كلهم مجتمعون سببية ومباشرة، فليس المباشرة مسندة إلى شخص واحد وليست السببية مسندة إلى شخص واحد، إنما تسند إلى أشخاص والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما قتل الجماعة الذين قتلوا الشخص في البئر، قال رضي الله عنه وأرضاه قولته المشهورة: (والله لو تمالئوا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به) فدل على أن التشريك فيما يفضي إلى الإزهاق والقتل يوجب الضمان، وعلى هذا: إذا اجتمع جماعة سببية جماعة مباشرة فإنهم يضمنون، لكن هناك تفصيل في قوة السببية وقوة المباشرة في بعض الأحيان، فمثلا: ربما يكون المتسبب لا يعلم بالقتل، فقالوا له: اذهب وأحضر فلانا، وهم يريدون قتله، فأحضره، أو قيل له: اذهب وأحضر العصير، فذهب وأحضر العصير، فقام شخص ووضع السم في العصير، فالعصير سبب للقتل، وإحضار العصير سبب في القتل، فلو أن هذا الساقي الذي يحمل العصير لا يعلم أن العصير مسموم وجاء وقدمه للشخص فقام الشخص وأخذ العصير وشربه، فالقتل وقع بمباشرة الشخص نفسه؛ لأن الكأس ما تحرك بنفسه، والذي أدخل هذا السم إلى جوفه هو نفس الشخص المقتول، لكن هذه المباشرة لا تؤثر، بمعنى: أنها لا توجب إسقاط السببية؛ لوجود قصد بالقتل وتهيؤ لأسباب القتل، فحينئذ حامل الشراب لما كان لا يعلم سقطت سببيته وبقيت سببية واضع السم فتسقط المباشرة وتسقط السببية التي بجوارها، وتعمل السببية السابقة وهي وضع السم في العصير والإغرار بالفعل أو بالسبب المفضي إلى الزهوق. هذه كلها مسائل قد نفصل فيها -إن شاء الله- في كتاب الجنايات، وقد تقع السببية والمباشرة في الأموال، ففي بعض الأحيان بناء العمائر والمهن كالحدادة والنجارة والسباكة قد تكون هناك سببية وتكون فيها مباشرة، وكلها يفصل فيها على حسب الضرر المترتب على الفعل، ولذلك يقولون: المباشر هو: الفاعل الذي يفضي إلى الضرر بفعله، بحيث إن فعله هو الذي أفضى إلى الضرر مباشرة، كالإحراق والإغراق، فلو أخذ شخصا فأغرقه فمات فإن هذا التغريق مباشرة، ومثل: إيقاد النار للإحراق، فهذا الحرق نفسه هو الذي قتل، والتغريق هو الذي قتل فهذا كله يعتبر مباشرة. وأما السببية فهي: وسيلة تفضي إلى الضرر بمعنى: لا تعتبر هي كالمباشرة، وإنما هي واسطة بين الفاعل وبين الضرر المترتب على فعله، والله تعالى أعلم. حكم قتل الحيوان الأليف إذا توحش السؤال جاء في الحديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش) فلو أتلف البهيمة وهي في هذه الصورة متوحشة مالا بالليل، فهل يضمن صاحبه أم أنها تلحق بالعقور؟ الجواب البعير من عظيم آيات الله عز وجل، يقوده الطفل الصغير، لكن لو هاج ربما يقتل أشخاصا ويتلف كثيرا من الممتلكات، فإذا ند كما قال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) هذا الحديث في الصحيح وهو حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه، وسببه: أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فهاج بعير وفر، فقام رجل وأخذ سهما ورمى البعير بهذا السهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها -يعني: فر- فاصنعوا به هكذا) فالمسألة التي في الحديث ليست هي مسألتنا؛ لأن المسألة التي في الحديث إذا كانت عندك بهيمة داجنة، أي: من الحيوانات الأليفة، فالحيوانات الأليفة التي تؤكل كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام والعصافير يجب عليك أن تذكيها بالذبح والنحر -الذبح فيما يذبح والنحر فيما ينحر- لكن لو عجزت عنها فشرد البعير وغلب على ظنك أنك لن تدركه فرميت السهم فضربت بطنه فسقط ومات، فحينئذ يعامل معاملة الصيد، وينتقل من كونه مستأنسا إلى كونه متوحشا، وإذا صار متوحشا حل أن يعامل معاملة المتوحش، وبناء على هذا: قال بعض العلماء: البهيمة في هذه الحالة تكون هدرا، فلو قتلها الإنسان لا شيء عليه، أي: لو أنا رأينا جملا هائجا في حديقة فيها أطفال أو فيها ممتلكات وغلب على الظن أنه إذا لم يقتل فإنه سوف يتلف هذه الممتلكات ويقتل الأطفال، فحينئذ نقول: يجوز قتله. لكن لو أمكن عقر هذا الجمل بضربه بفخذه أو ضربه في رجله أو يده فإنه يعقر ولا يقتل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ليبين هذا الأصل، وفي هذا الحديث ما لا يقل عن خمس وثلاثين مسألة: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) وهو الحديث الذي قال فيه الإمام أحمد رحمه الله: (لعل الإمام مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع) . كانوا رحمهم الله يعتذر بعضهم لبعض ولا يشهر بعضهم بأخطاء بعض ولا يتتبع بعضهم عورات بعض، يقول الإمام أحمد: (لعل مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع) ، فيحفظ كل منهم حق أخيه، رحمهم الله برحمته الواسعة وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (378) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الغصب [9] ليس كل ما يتلف فإنه يلزم الضمان بإتلافه، فهناك أشياء يجوز إتلافها ولا تضمن، ومن هذا دم الصائل، وكذلك المال الغير محترم شرعا، وهذا كله من العدل ووضع الأمور في نصابها. ملخص مسائل جناية البهيمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم بيان المسائل المتعلقة بجناية البهيمة، وقد ذكرنا أن البهيمة إما أن يكون معها صاحبها، وإما أن تكون مرسلة، فإن كان معها صاحبها فلا يخلو إتلافها للشيء من أمور: إما أن يكون بمقدمة البهيمة كأن تتلف شيئا بيديها، أو يكون الإتلاف برجليها والمؤخرة، أو يكون الإتلاف بوسطها، فإن كان الإتلاف بمقدمة البهيمة فإن الضمان يكون على القائد والسائق للبهيمة سواء كان صاحبها أو كان غيره، فإنه يجب عليه ضمان ما أتلف؛ والسبب في ذلك: أن قائدها وسائقها يتحكم فيها إذا كان راكبا عليها، ويكون إقدامها على إتلاف الأشياء بسبب تعاطي القيادة والإرسال. وأما بالنسبة لإتلافها للشيء بظهرها، فإن ذلك لا يخلو من حالتين: إما أن يكون الشخص الذي معها هو الذي ردها إلى الخلف فحينئذ يكون الضمان على الشخص؛ لأن الإتلاف وقع بسبب الرد إلى الخلف وهو ناشئ من سببية تعاطاها القائد فيجب عليه الضمان، وإما أن يكون إتلافها بخلفها ناشئا منها هي بدون أن يتحكم فيها القائد، فحينئذ لا إشكال أنه لا ضمان على قائدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الضمان في إتلاف البهيمة، وأما إذا لم يكن معها أحد فإن كان صاحبها قد تعاطى أسباب التفريط والإهمال، كأن يرسلها بجوار شيء يتلف عادة أو تقدم البهيمة على إتلافه أو حصول الضرر فيه، مثل: الأطفال وصغار السن إذا أرسل البهيمة بينهم، وليس المراد بالإرسال التحريش، كأن يغريها أن تذهب كما يظن البعض، لا. لأنه إذا حرشها أن تذهب فلا إشكال أنه يضمن، لكن المراد بالإرسال أن يطلق عنانها، بمعنى: أن يتركها دون أن يقيدها ودون أن يربطها فتذهب البهيمة بنفسها وتتلف، صحيح أن الإتلاف وقع من البهيمة؛ ولكن كونه يرسلها بجوار شيء غالبا ما تتلفه، كأن يأتي إلى موضع فيه زجاج أو موضع فيه شيء خطير أو شيء فيه ضرر، والبهيمة عادة يربطها صاحبها حتى تستقر في مكانها، فجاء وتركها دون أن يربطها فهذا معنى إرسالها، فإذا أرسلها بجوار ما تتلفه عادة، أي: بجوار شيء لو أرسلت بدون قيد لأتلفته فإنه يجب عليه الضمان. إذا: البهيمة من حيث الأصل عندنا فيها حديث: (العجماء جبار) ، بمعنى: أن كل ما تتلفه هدر، واستثنينا عدة صور، وهي: إذا كان معها صاحبها؛ لأن الإتلاف لم ينشأ من البهيمة أصلا وإنما نشأ ممن معها، فلا يمكن لأحد أن يعترض بالحديث: (العجماء جبار) على حالة ما إذا كان معها صاحبها؛ لأنه إذا كان معها صاحبها ففي الواقع أنه إنما حصل الإتلاف بسبب الإهمال والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) ، فإذا تمحضت في الإتلاف، بمعنى: أن ينشأ الإتلاف دون وجود إهمال من صاحبها، فحينئذ يمكنك أن تنسب الإتلاف إلى البهيمة؛ لكن إذا كان معها صاحبها أو تعاطى صاحبها أسباب الإهمال، فإنه يجب عليه الضمان، وهذا حاصل ما ذكرناه في جناية البهيمة. وأحببنا أن ننبه على هذا الملخص؛ لأن بعض طلاب العلم تلتبس عليه المسائل ويتداخل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) مع حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت بالليل؛ لأن حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت زرع الناس بالليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل أن البهيمة تحفظ في الليل، فلما أهمل صاحبها في حفظها وجب عليه الضمان، فذهبت السنة على أنه يضمن رب البهيمة إذا أهمل فيها أو تعاطى أسباب الإتلاف الذي حصل منها، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وعليه شرع الله عز وجل. وليس من العدل أن نقول للناس: كل ما أتلفته بهائمكم هدر. ثم يأتي الرجل ببهيمته فيتركها بجوار الأشياء الخطيرة أو بجوار أمتعة الناس ويقول: العجماء جبار، أو يأتي ببهيمته ويدخل بها في سوق فيه أطعمة وفيه مصالح الناس -والبهيمة إذا أرسلت رتعت في هذه المصالح- فيقول: العجماء جبار؛ لكن الله عز وجل نبهنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه الكريم على أن البهيمة إذا أتلفت شيئا وكان الإتلاف متمحضا منها فلا ضمان؛ لأنها بهيمة، فإذا أتلفت من فعلها دون أن يفرط صاحبها فمثلها لا يحاكم ولا يترتب عليه المؤاخذة من حيث الأصل، ثم إذا حصل الإهمال من ربها وصاحبها وجب الضمان حينئذ. حكم دفع الصائل قال المصنف رحمه الله: [كقتل الصائل عليه وباقي جنايتها هدر] أي: باقي جناية البهيمة هدر، أي: لا ضمان فيه لثبوت السنة به. بعد أن فرغ من جناية البهائم أدخل مسألة الصائل، والصائل هو: الشخص -والعياذ بالله- الذي يهجم على الإنسان إما من أجل أن يضره في نفسه كأن يريد قتله أو يضره في عرضه أو يصول على ماله، ولكن أكثر المسائل يذكرها العلماء في الصائل إذا اعتدى على الأنفس، فلو -والعياذ بالله- تعرض شخص لآخر فحمل عليه السلاح يريد قتله أو بدون أن يحمل السلاح جاءه وهجم عليه يريد قتله، فالصائل تارة يكون في الطريق، وتارة يكون في البيت والمنزل؛ ولذلك تخلتف الأحكام الشرعية، إلا أن هناك ضوابط ينبغي أن ننبه عليها: أولا: أن الأصل العام يقتضي أن دم المسلم حرام ولا يجوز للمسلم أن يقتل غيره أو يتلف شيئا من جسده إلا إذا أذن الشرع بذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) هذه الأصول الشرعية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يقتل المسلم إلا إذا دل الشرع على جواز ذلك القتل وحله، فلو أن شخصا مسالما هجم عليه شخص في البيت ومعه سلاح ويريد قتله أو يريد أن يعتدي على عرضه، ففي هذه الحالة ينبغي علينا أن نبقي على الأصل ونقول: لا يجوز أن تتعرض لهذا الذي هجم فتقتله إذا كنت تستطيع دفع ضرره بالأخف، فلو أمكن الشخص أن يستغيث بعد الله بأشخاص يأتون من أجل أن ينقذوه دون أن يحصل قتل لم يجز له أن يقتله، ولو أمكن أن يستخدم وسيلة تحول بينه وبين هجوم الشخص عليه كقفل الباب، فحينئذ يجب عليه قفل بابه أو ركوب سيارته والهروب إذا أمكن أن يهرب، فإذا تلافى هذا الضرر دون أن يحدث ضرر عليه فعل، أما إذا أصبح أمام الموت بحيث هجم عليه هجوما لا يمكن معه أن يدفع ضرره إلا بالقتل؛ فحينئذ ينظر: فإذا هجم عليه هجوما لا يمكن أن يدفع الضرر إلا بضرر في نفس هذا الصائل أو في جسده فيفصل فيه: فلو هجم على الإنسان وهو يحمل السلاح بيده وأمكنك أن تضرب أنه حتى ولو تتلفها فحينئذ لا يجوز أن تقتله، أما إذا غلب على ظنك أنك لا تحسن ضرب يده، أو ستخطئ في ضرب يده وأنك إذا أخطأت هذه الطلقة نفسه فإنه سيقتلك؛ فحينئذ يحل لك شرعا أن تقتله، قال: (يا رسول الله! أرأيت إذا جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة) وقال صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) . فالصائل الذي يصول على الإنسان يدفع بالأخف، فإذا لم يمكن دفع ضرره إلا بالأثقل جاز له أن يدفعه بالأثقل، والسبب في هذا: أن الصائل لما صال على المسلم سقطت حرمته وأصبح بهجومه على بيوت الناس وبهجومه على أرواح الناس يريد إزهاقها أو بهجومه على أعراض الناس يريد -والعياذ بالله- انتهاكها ساقط الحرمة، وحينئذ يصبح دمه هدرا، فإذا لم يمكنك دفع هذا الإخلال الشرعي منه إلا بقتله فإنه يحل قتله ودمه هدر، لكن كل هذا بشرط أنه لا يمكن دفع ضرره إلا بالقتل، والنصوص في هذا واضحة. أجمع العلماء رحمهم الله على أن من صال على المسلم فقتله فإن دمه هدر، وأنه لو قتل الشخص الذي هجم عليه فإنه شهيد؛ ولذلك يعتبر من الشهادة موت الإنسان وهو مدافع عن نفسه وموت الإنسان وهو مدافع عن عرضه وموت الإنسان وهو مدافع عن ماله، فهذه كلها شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال قاتله) وعلى هذا قال العلماء: إن الصائل تسقط حرمته وإذا سقطت حرمته ولم يمكن دفع ضرره إلا بالقتل قتل، لكن لو أن هذا الصائل هجم على الإنسان وأمكن للإنسان أن يتصل أو يستغيث بعد الله عز وجل بأشخاص ينقذونه أو أمكنه أن يقفل بابا، ولم يفعل هذه الأشياء وأقسم على قتله، فالضمان يجب عليه؛ لأن نفسه لا تحل له، ولا يحل له قتله، ومثل هذا له حكم معروف إن كان سارقا فله حده، وإن كان صائلا فله تعزيره، والمرجع في التعزير ليس للناس، فلو هجم شخص على شخص وأمكنه أن يتصل أو يستغيث أو يقفل بابه ولكنه قام بقتله فإنه يضمن، ويعتبر قتل شبهة إذا تأول كونه هجم عليه، فلا يوجب القصاص لكنه يعتبر قتل شبهة وينظر فيه ولي الأمر، والسبب في هذا: أنه لا يجوز للناس أن يتولوا القصاص من بعضهم، ولا أن يتولوا مثل هذه الأمور ما دام أن هناك من يقوم به ويتولى هذه الأمور، فهو الذي يتحمل مسئوليتها وما على الإنسان إلا أن يضع الأمر بين أيديهم وهم الذين يتحملون المسئولية، أما أن يقدم هو على قتل أخيه المسلم مع إمكانية دفع ضرره بالأخف فإنه في هذه الحالة ليس له مبرر شرعي في قتله، وعلى هذا لا يباح للشخص إذا صال عليه الغير أن يقدم على القتل هكذا ما لم يتقيد بهذه الضوابط. ومن هذه الشروط والضوابط التي ينبغي توفرها: أولا: أن يكون صائلا بظلم لا صائلا بشبهة، بمعنى: لو أن اثنين اختلفا في أرض فجاء أحدهما ودخلها بحكم أنه يعتقد أن الأرض أرضه، فلا نقول: إن هذا صائل لأن الأرض ما ثبت أن فلان يملكها، فإذا: يشترط أولا: أن يكون الصائل ظالما، فإذا كان مظلوما وهجم على ظالم يريد أخذ ماله فلا تقل: إنه صائل، كشخص سرق من آخر كيلو من الذهب مثلا، فجاء المسروق وهجم على السارق يريد أن يأخذ هذا الذي أخذ منه فقتله، فحينئذ لا نقول: إنه صائل؛ لأنه لم يتوفر الموجب لإثبات كونه صائلا عليه وهو كونه ظالما، فهذا ليس بظالم بل هذا مظلوم وهو صاحب الحق. ثالثا: أن يكون الشخص الذي صال يخشى منه الضرر على النفس أو على المال أو على العرض، ويكون ضررا مؤثرا، فإذا كان المال شيئا تافها، كما لو جاء يريد أن يأخذ مسواكا أو قلما أو كتابا، فلا نقول: إنه يباح قتله؛ لأن هذا شيء ما يأتي عند حرمة دمه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، فليست دماء المسلمين رخيصة بهذا الشكل فتستباح بشيء تافه حقير. رابعا: أن يذكره بالله عز وجل، وينصحه إذا أمكن ذلك، فيعذر إليه ويحذره ويمنعه إذا أمكنه ذلك، فيقول له: إذا هجمت أو دخلت دون إذني سأقتلك، أو إذا اعتديت علي سأقتلك، فيعذر إليه وينبهه لاحتمال أن يكون مخطئا، ودخل الدار خطأ ويظن صاحب المنزل أنه صائل وهو ليس بصائل، فقد يدخل الإنسان دارا خطأ ويظنها داره ويحدث مثل هذا الشيء، فلابد أن يحذر الإنسان حتى يخرج من التبعة والمسئولية. خامسا: ألا يتمكن من دفع ضرره إلا بالقتل، فإذا لم يمكنه دفع ضرره إلا بالقتل وكان الضرر على النفس أو على العرض أو على المال، فإنه يجوز له أن يدفع ذلك الضرر ولو بإزهاق روحه؛ لثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسقوط حرمته. هذا بالنسبة للاعتداء من الصائل على الإنسان، ولا شك أن الشريعة حينما جعلت الاعتداء على الناس موجبا لسقوط الحرمة فإن هذا يدل على عظم منهجها وكماله، وتعجز القوانين الوضعية أن تعالج مثل هذه الأمور بمعالجة الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية وضعت هذه القواعد والثوابت والضوابط وعدلت وأنصفت بين الطرفين، فحفظت دماء الناس وأرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم؛ ولذلك عندما ننظر إلى أن اليد لو سرقت قطعت، ولو اعتدى عليها شخص ضمنها بنصف الدية، نجد أنها لما كانت كريمة صارت عزيزة ولها قيمتها، ولما صارت لئيمة تعتدي على أموال الناس سقطت حرمتها، وهذا عين العدل أن تجعل لكل ذي حق حقه، فجعلت الشريعة الحزم في موضعه وجعلت اللين والرق في موضعه فالمسلم له حرمة وكرامة لكن بشرط ألا يعتدي على حرمات الناس وألا يعتدي على كرامتهم، ولتتصور لو أن الشريعة لم تبح دفع الصائل لسالت دماء الناس وانتهكت أعراضهم وأكلت أموالهم وحصل من الضرر ما الله به عليم. (كقتل الصائل): هذا تشبيه: أي: لا ضمان في جنايات البهيمة بالشروط التي ذكرناها، كما أنه لا ضمان على من قتل شخصا صال عليه، وبينا حكم الصائل وهو: الشخص الذي يعتدي على الإنسان، وحاصل ذلك: أن الاعتداء إما على النفس أو على العرض أو على المال، فإذا اعتدى على نفسه سواء اعتدى عليه بالقتل يريد أن يقتله ظلما وبدون حق، أو اعتدى على عضو من أعضائه، والجناية على العضو كالمرأة يريد أن يزني بها والعياذ بالله! أو يعتدي على عرضه، كأن يريد الصائل أن يعتدي على أحد محارم الرجل بالزنا -والعياذ بالله- أو بأي أذية تمس هذا العرض، أو يعتدي على ماله كأن يأخذ نقوده أو يتلف شيئا من أمواله، فكل هذا يندرج تحت مسألة الصائل. نحب أن ننبه إتماما لما تقدم من مسائل الصائل إلى أن جميع المسائل التي تقدمت معنا في حكم الصائل هي مبنية على قاعدة شرعية مدارها على مسألة مشهورة عند العلماء وهي: مسألة مشروعية الدفاع عن حق الإنسان، أي: أن الشرع جعل لك الحق أن تدافع عما ملكه لك، سواء كان ذلك من الأمور المادية كالمال أو كان من الأموال المعنوية كعرض الإنسان ونحو ذلك، فالأصل الشرعي يقتضي: أن من حقك أن تدافع عن نفسك وعرضك ومالك، وشرع الله لك أن تبذل الأسباب لدفع الظلم الذي يقع عليك في نفسك أو في عضو من أعضائك، وكذلك شرع لك أن تدفع عن نفسك كل ظلم يقع على عرضك، وشرع للإنسان أن يدفع الظلم عن ماله. الدليل على مشروعية دفع الصائل أما الدليل على مشروعية الدفاع: قول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194] ، شرع الله عز وجل للمظلوم أن يدفع الظلم عنه، والآية عامة شاملة للاعتداء على النفس والمال والعرض. الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9] ، فالله عز وجل شرع مقاتلة الباغي وجعل بغي الطائفة الثانية على الطائفة الأولى موجبا لنصرة الطائفة الأولى فقال: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} بغت: اعتدت، والبغي: الاعتداء ومجاوزة الحد، قال الله عز وجل: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات:9] ، فإذا شرع الله لنا أن ندفع الظالم عمن ظلم، فمن باب أولى أن يكون مشروعا للشخص نفسه أن يدفع ذلك الظلم عن نفسه. كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على مشروعية الدفاع عن النفس وعن العرض وعن المال، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد) ، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء الرجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه. قال: أريت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت في الجنة) ، فهذا الحديث يدل على مشروعية دفاع الإنسان عن ماله، فقوله: (لا تعطه) أي: من حقك أن تمتنع؛ لأنه جاء بغيا وعدوانا فقال: لا تعطه، قال: (أرأيت إن قاتلني؟) بمعنى: أخبرني يا رسول الله عن الحكم لو أنه أصر إلا أن يأخذ مالي بالقوة، قال: قاتله، فأحل له أن يدافع، قال: (أرأيت إن قتلني؟! قال: أنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) . فدل على سقوط حق الصائل الذي يصول على مال الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حرمة الصائل الظالم على المال فمن باب أولى أن تسقط حرمته إذا اعتدى على العرض وعلى النفس؛ لأن العرض أعظم من المال، والنفس أعظم من العرض والمال. كذلك ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وفيه: قاتل يعلى بن أمية رجلا، فعض أحدهما الآخر، فانتزع يده من فمه، فسقطت ثنيته، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟ لا دية له) ؛ لأنه حينما عضه اعتدى على يده، وهذا العض ليس له مسوغ شرعي، وليس هناك إذن شرعي أن يعض، فلما عض سقطت حرمة أسنانه فلما انتزع المعضوض يده -المعضوض من حقه أن يدافع عن نفسه- فلما انتزع يده حصل بهذا الانتزاع المشروع سقوط ثنية العاض، فلم يوجب عليه الضمان ولم يوجب عليه الدية. فدل هذا الحديث دلالة واضحة على سقوط حرمة الصائل والظالم إذا ترتب على دفعه ضرر، وقال: (لا دية لك) أي: لا شيء لك كما في الرواية الأخرى في الصحيح فدل هذا على أنه لا حرمة للمعتدي. كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه كان جالسا مع أهله فجاء رجل وأصبح ينظر من خلل الباب -الفتحات التي في الباب- فأخذ عليه الصلاة والسلام في يده المرود (المكحلة) فأخذ كأنه يستهدف العين التي تنظر، كأنه يريد أن يرميه بالمرود حتى يفقأ عينه فذهب الرجل وانصرف، كان بعض العلماء يقول: لعله من المنافقين. وهذا أشبه أن يكون من أهل النفاق؛ لأنهم -عليهم لعائن الله تترى إلى يوم الدين- ما فتروا عن أذية النبي صلى الله عليه وسلم حتى في عرضه؛ ولذلك كانوا يؤذونه حتى في عرضه كما في الحديث الصحيح في السير: أن كعب بن الأشرف كان يؤذي نساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجن إلى قضاء الحاجة في المناصع وكانت قريبة من بقيع الغرقد. فالشاهد: أن هذا الحديث لا يشكل على بعض طلاب العلم فيظن أن الصحابة يجرءون على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهم -إن شاء الله- أبعد من ذلك، والأشبه أن يكون هذا من المنافقين؛ لأن المدينة كان فيها المنافقون وكان فيها اليهود، فالغالب أن يكون من غير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، فكونه عليه الصلاة والسلام يريد أن يفقأ عينه أسقط حرمة العين، فلو قال قائل: إذا كان منافقا سقطت حرمته في الأصل، قلنا: لكن الظاهر يوجب معاملته معاملة المسلم؛ لأنه قال: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس) . والسنة الفعلية جاءت بإسقاط حرمة العين الناظرة، وكذلك جاءت السنة القولية عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد وغيره: (لو أن رجلا اطلع على عورة قوم ففقئوا عينه لم يكن عليهم شيء) ؛ لأن هذه العين -والعياذ بالله- لما خانت هانت، فحرمة المسلم تقتضي أن لا تطلع هذه العين على العورة، فلما اطلعت وتحرت وقصدت ووجد منها القصد والترصد لفعل الجريمة سقطت حرمتها وكانت هدرا، فلو أن شخصا نظر إلى عورة شخص واسترسل بنظره ففقأ عينه سقطت حرمة هذه العين إذا ثبت بالبينة عند القاضي أنها عين جائرة مسترسلة في النظر في عورته. وهذا الحديث يؤكد حرمة العرض؛ وأن النظر إلى العورات خيانة، والعين الخائنة أسقط النبي صلى الله عليه وسلم حرمتها، فدل على مسألتين: الأصل وهو: أن العين عند اعتدائها تسقط حرمتها وتكون هدرا، فلو أن شخصا فقأها في حال اعتدائها لم يضمن، والأصل العام أن هذا الحديث يدل على أن الصائل والمعتدي على أنفس الناس وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم تسقط حرمته بهذا الاعتداء، هذا بالنسبة لدليل الكتاب ودليل السنة، وأجمع العلماء من حيث الجملة كما حكى الإجماع الإمام ابن قدامة رحمه الله وكذلك غيره من الأئمة، كالحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وله كلام نفيس في مسائل دفع الصائل في مجموع الفتاوى فيحبذ لطلاب العلم أن يرجعوا إليه، وغيره من الأئمة رحمهم الله بينوا أن الصائل تسقط حرمته إذا صال على المسلم ظلما وعدوانا، قلنا: بشرط أن يكون ظالما، فإذا كان قد اعتدى على الشخص بحق وعدل فلا يعتبر صائلا، ولا يأتي بحكم الصائل، وبينا أنه ينبغي على الشخص المهجوم عليه أن يحاول دفع الصائل بالأخف، فإذا لم يمكن إلا قتله جاز له قتله، وكذلك ينبغي عليه تحذيره وإنذاره كما يشترطه بعض فقهاء الشافعية -رحمهم الله- فيقول له: يا فلان اتق الله، يا فلان خف الله عز وجل، يا فلان! أناشدك الله أن تبتعد عني وأن تكفيني شرك، أن تترك عرضي، أن تترك مالي، فيناشده بالله عز وجل إن أمكنت مناشدته وينصحه ويعظه إن أمكنه ذلك، هذا بالنسبة لمسائل الصائل التي ذكرناها فيما تقدم وكلها تتعلق بالإنسان، فبقي السؤال عن الصائل إذا كان من الحيوان؟ حكم الاستسلام للصائل مسألة الصائل إذا هجم على الإنسان يريد قتله أو يريد إتلاف عضو من أعضائه أو يريد تعذيبه أو يريد الاعتداء على عرضه أو ماله: هل يجوز للإنسان أن يستسلم للصائل أم يجب عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل الواجب على الإنسان إذا صال عليه أحد أن يصبر وأن يحتسب الأجر عند الله عز وجل وخاصة إذا كان الصائل مسلما، أم أنه يجب عليه ويتعين عليه أن يدفعه؟ هذه المسألة فيها تفصيل: أولا: بالنسبة للاعتداء على العرض، فإذا أراد أن يزني بامرأة، فجمهرة أهل العلم على أنه إذا لم يمكنها أن تدفع ضرره إلا بالقتل فإنه يجب عليها قتله، فلا يرخص لها، إلا إذا أكرهت على وجه لا يمكن معه أن تدفع عن نفسها الضرر هذا شيء آخر، أما أن يأتي بقصد أن يزني بها ولا يمكنها أن تدفعه عن الزنا إلا بقتله فيجب عليها أن تقتله؛ لأن اعتداءه على عرضها ليس بالأمر الذي يمكن تعويضه، ولا بالشر الذي يمكن دفعه أو المفسدة التي يسع الصبر عليها؛ ولذلك تقتله ويلقى الله عز وجل بمظلمتها ودمه هدر. وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله -وحكى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمه الله- فلما قتله وكان الرجل محصنا رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بعض الروايات أنه جاء إلى عمر وهو يأكل فجلس مع عمر وصار يأكل، فجاء أولياء المقتول يطلبونه بدم صاحبه، فقال يا أمير المؤمنين: (إني ضربت بالسيف بين فخذي امرأتي) رفعت سيفي وضربت فإن كان الذي بين فخذيها شيء وقتل لا أتحمل هذا، فخذ امرأتي ضربت بينه بالسيف، ففهم عمر ماذا يقصد، أي: أنني وجدت زانيا، ولم يقذف الرجل، وهذا من فطنته؛ لأنه لو قال: إني وجدته زانيا صار قاذفا وقاتلا؛ ولذلك قال: إني وجدت بين فخذي امرأتي رجلا وضربت بالسيف بين فخذي امرأتي، أي: أنه كان من حقي أن أضرب في شيء ليس أمام الناس، فقال عمر: (أكما قال؟ قالوا: نعم. قال: لا شيء لكم) أي: ما دام أنه قتله، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ ولذلك الشريعة لم تفتح هذا الباب، فلو أن شخصا قتل شخصا وجده مع امرأته ولم يقم البينة على أنه كان يزني لقتل به، كما في الصحيحين من حديث سعد رضي الله عنه أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! الرجل يجد لكعا قد تفخذها رجل، أيحضر الشهود فيبرأ الرجل من حاجته أو يقتله فتقتلوه؟) لاحظوا السؤال في الرواية الأخرى في الصحيح: (إن قتل قتلتموه -أي: ليس هناك بينة تشهد- وإن ذهب يحضر الشهود يفرغ الرجل من حاجته ويمضي) ، فنزلت آيات اللعان المشهورة وخص الزوج. قال العلماء: من حكمة الله عز وجل أنه لم يفتح هذا الباب للناس؛ لأنه بإمكان أي شخص إذا كره امرأته وكره عدوا قتل الاثنين، فجاء برجل وأدخله بيته وقتله وقتل زوجته ثم ادعى أنهما كانا زانيين؛ ولذلك يفتح على الناس باب شر، فالشريعة وضعت الأمور كلها في نصابها، فلو ادعى أنه كان يزني بامرأته وقتل امرأته والرجل لا تقبل منه هذه الدعوى ما لم يقم دليلا بأربعة شهود على أنه كان يزني بها، فلو جاء ثلاثة شهود لم يكف ذلك، ولذلك لا بد وأن يثبت عند القاضي أنه زان وأنه محصن، الأمر الثاني: حتى ولو جاء بشهود ووجده يزني بامرأته فما يقتله، وليس من حقه أن يقتله؛ لأن القتل ليس إليه وإنما هو لولي الأمر. ولذلك إذا قتله في هذه الحالة: وأحضر أربعة شهود على أنه كان زانيا أسقط القاضي عنه حد القصاص وأوجب عليه التعزير؛ لأنه تعدى؛ لأن الله عز وجل جعل القضاة وجعل ولاة الأمر ونصبهم لكف الناس عن بعضهم البعض، فإذا قام بنفسه وقتل فإنه يعزر، وهذا حاصل ما قيل بالنسبة للاعتداء على العرض. وبقي الاعتداء على النفس والمال، هل يجوز للإنسان لو جاء رجل يريد قتله، هل يجوز له أن يستسلم أو يجب عليه الدفع ولا يجوز له أن يستسلم؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: يجوز له أن يستسلم، وذلك لقصة قابيل وهابيل، حيث كان خير ابني آدم من سلم أمره لله عز وجل وفوض أمره إليه سبحانه وتعالى. وقال بعض العلماء: لا يجوز له أن يستسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الرجل: (أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله) . قالوا: ولأنه إذا استسلم أعانه على قتل غيره؛ ولأنه إذا استسلم أعانه على الزيادة والإسراف والإنعاف والظلم والبغي والاعتداء على أعراض الناس وعلى أموالهم، وعلى أرواحهم؛ فلذلك لا يجوز له أن يستسلم بل عليه أن يدفع هذا الظلم، فإن قتل فإن هذا يحدث عند الصائل رهبة من الاعتداء على الناس ويخاف المعتدون الاعتداء على أرواح الناس؛ لأنه إذا جاء وقتل شخصا وأخذ ماله، والشخص دافع فإنه يعلم أن أخذ الأموال لا يكون بسهولة، فلا يجرؤ مرة ثانية على فعل ذلك إلا وعنده شيء من الخوف والرهبة، ففي ذلك تحقيق لمصلحة كف الظالم، قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: حجزك له ومنعك إياه نصرة له) ، أي: أنك إذا حجرته عن الظلم فقد نصرته، أي: نصرته على شيطانه وعلى نفسه الأمارة بالسوء؛ فلذلك قالوا: يجب الدفع، والحقيقة القول بأنه يجب على الإنسان أن يدافع يحتاج إلى شيء من التفصيل، ففي بعض الأحوال إذا كان الصائل شخصا معروفا وغلب على ظن الإنسان أنه لو قتله فسيدفع عن الناس شره؛ لأنه شخص معروف الاعتداء على أرواح الناس وأموالهم وأسرف وأمعن وغلب على ظنه أنه إذا استسلم سيفعل بغيره مثل ما فعل به، فلا شك أن تعين مواجهته وكفه وحجزه لا شك أنه أقرب إلى الصواب، والقول بالوجوب في مثل هذه الحالة أشبه. وعكسه إذا كان شخصا يمكن استصلاحه ويمكن التخلية بينه وبين المال حتى يستطيع بعد ذلك أن ينصحه أو يذكره أو يستدرجه فهذا أمر يكون فيه سعة، وقصة قابيل وهابيل شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، أي: أن النصوص واضحة الدلالة؛ لذلك يقول بعض العلماء: إن الصائل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إذا كان كافرا، فالقول بوجوب مقاتلته ودفعه أنا لا أشك في رجحانه؛ لأن استسلام المسلم ذلة ومهانة، ولا يجوز للمسلم أن يستسلم لمثل هذا، بل عليه أن يدفعه ويقاتله ويجاهده لما في ذلك من إعزاز لدين الله وإعلاء لكلمة الله وفي ذلك بالغ الرضا من الله سبحانه وتعالى للعبد؛ لأن الله يحب إغاظة الكافر ويحب إهانته؛ ولذلك جعل الله ثواب المجاهدين أنهم ما وطئوا موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم، فكتب لهم الأجر في ذلك، ففي هذه الحالة وأشباهها لا شك أن القول بالوجوب يتعين، وأما إذا كان مسلما فالأمر بالتفصيل فيه أشبه. حكم الصائل من الحيوان والصائل من الحيوان تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في الكلب العقور، والمراد بالصائل من الحيوان: هو الحيوان الذي يخرج عن طوره ويكون مملوكا للغير، وهذا يقع في بهيمة الأنعام كالبعير إذا هاج والناقة إذا هاجت، ولربما يهج الثور فيؤذي الناس وتتعرض أرواحهم وممتلكاتهم للضرر فحينئذ يرد السؤال عن حكم هذا النوع الصائل. أما من حيث الإجماع فقد أجمعوا على أن الصائل من البهائم كالصائل من الآدميين؛ لأن حرمة الآدمي فوق حرمة الحيوان، فإذا صال الحيوان وهاج وغلب على ظننا أنه سيقتل حل قتله، أو غلب على الظن أنه سيتلف أعضاء الناس، كأن يكون بعيرا يعض وغلب على الظن أنه سيعض صبيا وسيهجم على صغير، أو غلب على ظنك أنه سيعضك وهاج عليك ورأيت الأمارات كلها على أنه اعتداء ولا يمكن الفكاك من هذا الضرر وهذه الأذية إلا بقتله حل قتله، وبقي السؤال هل يضمن أو لا يضمن؟ فجمهرة العلماء: أنه لا ضمان على قاتله، وقال بعض العلماء: إذا هاج فإنه يضمن بالنسبة للحيوان، وأما الآدمي فإنه لا يضمن. ففرقوا بين الآدمي وبين الحيوان، قالوا: لأن الحيوان لا يعقل والآدمي يعقل، وقتل الحيوان يجب فيه الضمان؛ لأنه من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، وهذا مذهب بعض أهل الرأي. والصحيح: أنه إذا هاج الحيوان وهجم على مكان أو على مدينة أو على قرية وغلب على الظن أنه يقتل أو أنه يتلف الأشياء ويكسرها فحينئذ يجوز قتله كما يجوز قتل الآدميين. أما لو قتل في هذه الحالة وذكر اسم الله عند قتله، كأن يرمي عليه سهما أو يرميه برصاصة ويسمي الله أثناء قتله، فمذهب بعض العلماء أن القتل بهذه الطريقة يبيح أكل لحمه، فحينئذ يكون هذا عوضا لصاحبه إذا فاتته نفسه أن ينتفع بلحمه، ويكون هذا دفعا للضرر بسبب وجود الضرورة والحاجة. وكل هذه مسائل التي ذكرناها مبينة على قاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ، فالمسائل التي يباح فيها دفع الصائل تقول: بشرط: أن يتقيد الشخص بقدر الحاجة. حكم كسر آلات اللهو قال رحمه الله: [وكسر مزمار] . المزمار هو: آلة الزمر، فأحل الله لعباده الدف، وثبت ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي نذرت: إن سلمه الله ورجع من غزوته أنها تضرب على رأسه بالدف، فلو كان ضرب الدف حراما لما حل الوفاء بالنذر، وقول عمر: (أمزمار الشيطان؟) وإنكاره لذلك لا يدل على التحريم؛ لأنه لا يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسكت على محرم حتى يأتي عمر ويتكلم بإنكار الحرام، إنما المراد أنه خلاف الأولى، وأما من حيث الدليل فلا يشك في استثناء هذا النوع؛ لأن الله لا يحل لعباده الحرام وضرب الدف النص فيه صريح. وننبه على مسألة يخطئ فيها بعض المنتسبين إلى العلم وبعض الإخوان من باب الحرص على الخير، ولكن ينبغي للمسلم أن يتريث وألا يحرم ما أحل الله؛ لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام، وهذا أمر ليس من السهولة بمكان، لأنه قول على الله بدون علم، ففي بعض الأعراس إذا ضربت النساء بالدفوف وسمع ضرب الدف من النساء أنكر بعض طلاب العلم ذلك، والواقع أن الشريعة قصدت أن يرتفع صوت الدف حتى يسمع في البلد والقرية ويعلم الناس أن فلانا تزوج فلانة: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، بمعنى: أن سماع هذا الدف مقصود، والمراد به: أن يشتهر النكاح، وهذا هو الفرق بين النكاح والسفاح؛ لأن الزنا يكون بالسر، ولكن الله شرع النكاح الذي استحل به المؤمن عصمة المؤمنة ودخلت في عصمته بكلمة الله عز وجل واستحل فرجها بذلك، فيعلن ويشهر ويسمع الناس هذا الدف فيتساءلون ما هذا؟ فيقال: زواج فلان من فلانة. فإذا جاء الولد وجاءت الذرية علموا أن فلانا قد تزوج فلانة فيثبت نسبه؛ ولذلك النكاح على الإشهار، والزنا على الاستتار. أما أصوات النساء بالغناء فلا ترفع حتى يسمع الرجال ذلك؛ لأن صوت المرأة فتنة، ولا يجوز أن ترفع المرأة صوتها إلا من حاجة، والدليل على ذلك: أن الله عز وجل شرع للمرأة إذا أخطأ الإمام أن تصفق ولم يحل لها أن تتكلم كما قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) ، فإذا كان هذا في وقت الحاجة بأن تفتح المرأة على الإمام وهي في الصلاة موطن الخشوع وموطن الخضوع فكيف بغيره؟! ولذلك قل أن تسمع المرأة ولو كانت مستفتية إلا وجدت فيها لحن القول، ووجدت الرجل إذا سمع صوتها افتتن؛ لأن هذه فطرة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها ولا يستطيع أحد أن يدفعها ويمنعها، فالمرأة من حيث هي صوتها فتنة للرجل وهذا أمر جبل الله عز وجل عليه الذكر والأنثى، فضرب الدف ينبغي ألا يسحب غناء النساء المسموع، أما ضرب الدف فلا إشكال في جوازه وحله؛ لأن الله تعالى لا يحل لعباده الحرام، ولا يجعل شرعية هذا النكاح ويطلب إعلانه بهذه الوسيلة إلا وهو مما أذن الله عز وجل به. قال بعض العلماء: إن هناك فرقا بين الدف وبين آلات المعازف، فإن إغراء آلات المعازف بالفساد أبلغ وأقوى من الدف، والدف أقل أن تجد فيه ذلك؛ ولذلك يكون الدف حال الرقص بالسلاح فيكون مع القوة والحمية، ولكن لا تكون معه آلات العزف، وإذا جاءت آلات العزف مع الرقص بالسلاح فإنها لا تتفق معه في خشونته وفيما يكون فيه من إيثار الحمية والحماس؛ ولذلك استثني عن غيره، والدف يكون من جلد الغنم وهو المعروف إلى زماننا وهو موجود، وهذا هو المستثنى. وأما ما عدا الدف من آلات الزمر والغناء فإنها محرمة، وقد تقدم معنا بيان النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع العلماء، وكلام الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، وللإمام ابن القيم رحمه الله بحث نفيس في إغاثة اللهفان فقد أجاد فيه وأفاد، وبين فيه النصوص النقلية والعقلية والمفاسد المترتبة على سماعه، وكذلك حكى أقوال أئمة السلف كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم في ذلك، فهذه الآلات إذا ثبت تحريمها؛ فإنها لا حرمة لها، فإذا أتلفت فإنه لا ضمان على متلفها إذا أتلف ما يكون به الغناء، وأما المادة فلا تتلف، فلو كانت مصنوعة من خشب، فإنه إذا كسره فلا ضمان عليه، ثم لو أحرق الخشب ضمن قيمة الخشب؛ لأن نفس المادة يمكن تصنيعها بخير وشر، فإن صنعت بشر فإنه يقتصر على إتلاف الفاسد منها، وهكذا الأشرطة، فلو كان الشريط مشتملا على الغناء فإنه لا يكسر وإنما تمسح مادة الغناء؛ لأنه يمكن أن يوضع عليه ما هو مفيد، فإذا كسره ضمن قيمته بدون الغناء، وهذا هو الذي عليه جمهرة العلماء رحمهم الله من التفصيل، فالمواد التي تصنع ويتخذ منها ما هو حرام إن أمكن استصلاحها واستبقاؤها وجب ضمان أصلها الذي هو قيمة العين مجردة من المحرم، ويبقى المحرم لا ضمان فيه، وليس على متلفه شيء. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم كسر الصليب وكذلك كسر الصليب، فالصليب يشرع كسره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح عنه في حديث الفتن والملاحم أن عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير) ، هذا الحديث في الصحيحين، وهو يدل على أنه لا حرمة للصليب، وعلى هذا: فلو كسر صليبا فلا ضمان على كاسره. حكم كسر آنية الذهب والفضة قال رحمه الله: [وآنية ذهب وفضة] . فلو كسر آنية الذهب والفضة؛ فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الله عز وجل حرم على المسلم اتخاذ آنية الذهب والفضة، ففي الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ، فهذا الحديث الصحيح أجمع العلماء على العمل به وأنه لا يجوز للمسلم أن يصنع آنية من ذهب أو فضة، ولا يجوز له أن يأكل في آنية الذهب والفضة. وقال جمهرة العلماء: يستوي أن تكون الأواني من الذهب الخالص أو تكون فيها نسبة من الذهب، سواء كانت أكثر أو كانت مساوية أو كانت أقل، فالأكثر مثل: أن يصنع إناء ثلاثة أرباعه من الذهب والربع من الحديد أو من الزجاج، والأقل العكس، يكون الإناء زجاجا ثم يطلى بالذهب أو يجعل حرف الإناء من الذهب، فكل ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمم في الحكم فقليله وكثيره حرام حتى يدل الدليل على الاستثناء، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام إلا المضبب، والمضبب بالفضة ثبت فيه حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (انكسر قدحه فسلسله بفضة) ، وبينا شروط ذلك في باب الآنية، فإذا ثبت أن أواني الذهب والفضة لا يجوز اتخاذها، فلو أنه رأى إناء ذهب فكسره فلا ضمان عليه؛ لكن الذهب يبقى ملكا لصاحبه؛ لأن الذهب يمكن تصنيعه فلو كسر هذا الإناء فلا شيء عليه؛ لأنه أتلف أمرا محرما، وكذلك إذا كان مصنوعا من الفضة فإنه إذا أتلفه لا ضمان عليه. حكم كسر آنية الخمر غير المحترمة وكذلك كسر آنية خمر يشرب فيها الخمر، فإذا كسرها فإنه لا ضمان عليه، وقوله: (غير محترمة) استثناء: أخرج -رحمه الله برحمته الواسعة- الأواني إذا كانت أواني خمر أذن الشرع بها، فعندنا نوعان من الأواني: آنية خمر لم يأذن الشرع بها، وهي آنية الخمر التي يشرب فيها المسلم، فهذه لا حرمة لها، فلو كسرها لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يريق الخمر وأن يكسر الدنان -وهي: أوعية الخمر والآنية التي تخمر فيها- وكانت للأيتام فأمر بكسرها مع أنها ملك للأيتام، ومال اليتيم من أشد الأموال التي ينبغي الحفاظ عليها، ومع ذلك أمر بكسره، فدل على أن آنية الخمر لا حرمة لها، النوع الثاني: إذا كانت محترمة، وذلك إذا كانت من أواني الذمي، فالذمي إذا كان في بلاد المسلمين وعنده في البيت آنية خمر يشرب بها مستترا ولا يظهرها ولا يشرب أمام الناس كانت محترمة، فإذا شرب بها أمام الناس سقطت حرمتها، فحينئذ يجوز إتلافها، وإذا أتلفت فلا ضمان عليها؛ لأنها آنية خمر غير محترمة. الأسئلة توجيهات للآباء في تربية الأبناء الجواب إن الله تبارك وتعالى إذا أنعم على الإنسان بنعمة الأهل والولد وأراد أن يبارك له في تلك النعمة وأن يتممها ويكملها، رزقه خوفه وتقواه سبحانه وتعالى، فاستشعر المسئولية وأحس بالأمانة، فجد واجتهد أن يأخذ بحجزهم عن النار، وأن يقيمهم على سبيل الأخيار حتى يكون سعيدا بأداء أمانته ورعايتها على الوجه المطلوب، فالأولاد أمانة، والأهل والزوجة أمانة في عنق الإنسان ومسئول عنها أمام الله جل جلاله، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) ، هذه الأمانة والمسئولية فيها جانبان: الجانب الأول: يتعلق بالدين وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق العباد. والجانب الثاني: يتعلق بالدنيا، أما الذي يتعلق بالدين: فهناك فرائض وواجبات ينبغي أن يعلمها الأبناء والبنات، وأن ينشئ كل واحد من الوالدين أولاده على معرفة هذه الحقوق والواجبات، وأن ينشئ الأبناء على القيام بها على الوجه المطلوب، سواء كانت هذه الحقوق لله جل جلاله أو كانت الحقوق للناس، فيبدأ كل من الأب الصالح والأم الصالحة بحق الله جل جلاله، فيعلم الابن الصلاة، ولا يقف الأمر عند التعليم بل ينبغي أن يحببها إلى قلبه، وأن يهيء كل الأسباب حتى تصبح الصلاة قرة عين الولد، ليأنس إليها ويرتاح إليها ويحبها ويحب أداءها والقيام بها، ويكون الأب وتكون الأم قدوة للأبناء والبنات في ذلك. من حق الله جل جلاله على الوالدين أن ينشأ الأولاد على المعرفة بالله سبحانه وتعالى من توحيده والإخلاص لوجهه والرهبة والخوف منه سبحانه، فالبيت المسلم هو البيت الذي نشئ أولاده على ألا يكون في القلب أخوف للابن من الله جل جلاله، ولا أحب إليه من الله سبحانه وتعالى، وهذا كله يكون بالكلمة الطيبة والنصيحة والقصص المؤثرة، فالأم قد تقص على بناتها قصة فيها عبرة تزيد من الإيمان، والأب قد يقص على ابنه قصة تزيد من يقينه بالله سبحانه وتعالى. كان أبناء المسلمين يتربون على الكتاب والسنة ويتربون على أيدي الآباء الأمناء الأتقياء المخلصين الأوفياء الذين يربون على مكارم الأخلاق ومحاسنها من الشيم والوفاء والكرم، وكان الطفل من صغره يعود كيف يجلس في المجلس، وكيف يستقبل الضيف وكيف يكرمه وكيف يخاطبه، فكان يعود على مكارم الأخلاق وينشأ نشأة حميدة زاكية في حضن أب وأم يخاف كل منهما ربه، ويستشعر كل منهما بمسئوليته، فأصبحت الأمة كالحلقة المتصلة، كلما ذهب جيل جاء جيل مثله، وكلما ذهب رعيل جاء رعيل مثله أو يقاربه فكانت الأمة بخير، فلما تخلى الآباء والأبناء والأمهات عن واجب التذكير بحق الله جل جلاله وحقوق العباد ورعاية أمر الدين وغرسه في نفوس الأبناء ضاعت الأمة. الابن يحتاج إلى أن يعلم حقوق الناس، فتبدأ أول شيء بتعليمهم حقوق الوالدين، فالأب يحرص على أن الابن يكون أبر الناس بأمه، ويغرس في قلبه حب الأم وإكرامها وإجلالها، والأم أيضا تغرس في قلب البنت والابن حب الوالد وإكرامه، وهذا يحتاج إلى فعل وتطبيق وقدوة، فلا يمكن أبدا أن يتعلم الابن البر وهو يسمع الأب يسب الأم، ولا يمكن يتعلم إكرام الأم وهو يرى أول من يهين الزوجة زوجها، وكيف يتعلم الإحسان إلى والدته وهو يراها تذل وتضرب أو يصرخ في وجهها أو تسب أو تشتم أو تعير بأهلها وقرابتها، فتتدمر معاني الكمال في نفسية الأبناء والأطفال خاصة في الصغر. كذلك الابن كيف ينشأ بارا بأمه وهي تعوده على إهانة أبيه، ودائما تشتكي من أبيه أمامه، وتربي في نفس أبنائها وبناتها من الصغر الحقد على والدهم في الكبر؟ كل هذا دمر الأمة وشتت شملها ودمر المجتمعات، فالمجتمعات تقوم على طفل صغير، ما من عقلاء ولا حكماء في قديم الزمان ولا حاضرهم يريدون أن يبنوا مجدا إلا وابتدءوا من الصفر، فلم يستهينوا بالطفل حتى ولو كان في مهد الطفولة فلا يستهينون به؛ لأن نظرات الطفل محسوبة، سمعه محسوب، كلامه محسوب، كل شيء يراه ويسمعه يؤثر على التربية والسلوك. كذلك يعود الأبناء والبنات على إكرام الجار، وعلى إكرام الضيف، ويعودون على صلة الأرحام، ويعودون الوفاء، وعلى محاسن العادات والأخلاق، وأول من يجني هذه الثمرة هما الوالدان، يجنيانها في الدين والدنيا والآخرة، أما في دينه: فعظم أجره عند الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30] ، والله إن من أعظم الإحسان ومن أعظم الخير -ليس لك أنت في بيتك بل للأمة جمعاء، وليس في مجتمعك فقط بل للأمة جمعاء- أن تخرج لهم ابنا كاملا في بنوته، ورجلا كاملا في رجولته، وأن تخرج بنتا صالحة تكون أما صابرة مربية، فربما ينشأ على يديها رجل يقود أمة بالخير والسداد. إذا: تربية الأبناء والبنات لا تكون بالتشهي ولا بالتمني، بل المسئولية عظيمة، ولكن تحتاج إلى شيء من الخوف من الله جل وعلا ومراقبته، وحسن التدبير وحسن الفعل وحسن القول، فإذا وفق الله عز وجل إلى القدوة الحسنة والكلمة الهادفة والنصيحة الموجهة، وجمع مع ذلك كله الرفق واللين والأخذ بمجامع تلك القلوب البريئة من الصغر إلى الخير وإلى الطاعة وإلى البر سمت هذه الأمة، وارتقت إلى معالي الكمال، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الخير في صلاح الصغار؛ ولذلك كان يقول الحكماء: (إذا رأيت الدين والخير في صغار أمة فأمل لها الخير) ؛ لأنه إذا كان في الصغار فإنهم في الغد هم الذين يوجهون وهم الذين يكونون قدوة للناس، (وإذا رأيته في كبارها فإن الخير يزول عنها عندما يذهب الكبار) نسأل الله السلامة والعافية. فالواجب تربية النشء الصغير على طاعة الله، وتحبيبه في مرضاة الله عز وجل وتعويده على الخير وعلى الطاعة والبر، وأول ما يبدأ بحق الله ثم حقوق العباد، ثم يبقى الأمر الدنيوي، فدائما يحرص الوالدان على أن يكون الابن في أحسن وأفضل الأحوال، فيعلم الشجاعة ولا يعلم الجبن والخوف، ويعلم الكرم ولا يعلم البخل، ويعلم الأشياء الحميدة في دنياه التي يسموا بها إلى مراتب الكمالات، ودائما يشجع ولكن لا يشجع بالقول دون العمل، ولا يجعل الخير بالقول دون القدوة، فالابن يصلي في المسجد متى ما رأى أباه يصلي في المسجد، والابن يخاف من الله جل جلاله عندما يأتي ويجد أباه قد هيئت له الدنيا في فتنة أو شهوة فيقول له: يا أبت! لم لا تفعل هذا؟ يقول: أخاف الله رب العالمين، فإذا بقلب الابن يخاف؛ ولذلك أنس رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فذهب -وكان أنس صبيا في العاشرة- ومر على صبيان فجلس يعلب معهم، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأخر عليه، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك) ، فيصبح الصبي يحب الله؛ لأنه دفع عنه الضر، وأيضا يخاف الله في هذا الأمر؛ لأنه إذا رأى من بداية طفولته من هو أكبر منه يخاف من الله أحس أن لله عز وجل حقا عليه أن يخافه، وإذا وجد الأم متورعة بعيدة عن المحارم بمجرد ما يأتي ويتكلم في غيبة أو أحد يتكلم في غيبة تقول له: يا ابني! اسكت لا يجوز أن تغتاب الناس. وبمجرد أن يؤذي الابن الجار تقول له: اذهب واطلب السماح من جارك وإلا أدبك الله وفعل الله بك، فتنشأ الأسرة على طاعة الله ومحبة الله. النقطة الأخيرة: في هذه إجازة لا شك أنه ينبغي علينا أن نحافظ على هذا الأمر، وهذه قاعدة عامة لا تختص بإجازة ولا بغيرها، ونحن نحب دائما أن نعتني بالقضايا الكلية، فمسألة الإجازة مسألة عارضة لكن المهم التربية الصالحة. وينبغي أن ينبه على أمر مهم وهو: أن لا نيأس، البعض يقول: كثر الشر والأبناء أصبح يؤثر عليهم كل شيء، وأصبحوا ضائعين، هذا خطأ، فمن كان لله كان الله معه، والخير لا يبلى ولا يذهب ولا يزول: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء:18] ؛ ولذلك ينبغي ألا نيأس، لكن هناك أمور ينبغي التنبيه عليها باختصار، حتى لا يطول الوقت: أولا: إذا عجزت عن أبنائك الكبار فالتفت إلى أبنائك الصغار، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتني به الخطباء والأئمة عند توجيه الناس، فمن المسائل التي تذكر في تربية الأبناء، أنهم إذا عجزوا عن الكبار فليبدءوا بالصغار، ويعود الناس على صحبة أبنائهم الصغار إلى المساجد، ومحبة طاعة الله عز وجل، ومحبة الخير. وعود ابنك من الصغر على أخذه إلى العم والعمة والخال والخالة، وعود ابنك من الصغر أن يراك وأنت تحترم أخاك الذي هو أكبر منك، وتحترم عمه الذي هو أكبر منك، وتقدر خاله الذي هو أسن منك، وعوده على أنك تكون له القدوة الصالحة في صلة الرحم، عوده على أن تكون له القدوة الصالحة في الإحسان إلى الأيتام وإلى الأرامل، خذه ولو يوما من الأيام في يدك إلى بيت أرملة أو مسكين أو مكروب أو منكوب وأعطهم مالا وقل له: يا فلان! أعط لفلان حتى يدعو لك، فينشأ من الصغر وهو يحب هذه الأمور، فالأبناء يتأثرون بآبائهم والبنات يتأثرن بأمهاتهن. فعلينا أن نتقي الله عز وجل في القدوة، وعلينا ألا نيأس مهما كان، فإن الله قد يبارك لك في ولد واحد من ذريتك فيصلح به البيت كله، وقد يجعله الله عز وجل مشعل خير ليس للبيت بل للجماعة بل للقبيلة بل للأمة جمعاء حينما يخرج صالحا هاديا مهديا، فالله أعلم كم من أم صالحة من أمهات السلف الصالح ربت عالما إلى الآن نعيش على فضل الله ثم فضل علمه، وكل هذا بفضل التربية الصالحة بعد فضل الله عز وجل، كانت أم أحد السلف تقول لابنها -وقد نشأ يتيما وأراد أن يتكسب للرزق وينشغل عن طلب العلم- فقالت له: (يا بني اطلب العلم! أكفك بمغزلي) . تعني: أنا التي أعمل، ولكن تفرغ أنت لكتاب الله وس مسائل سجود السهو الجواب السهو لا يخلو من ثلاثة أحوال كلها مندرجة تحت أصلين: التحقق والشك؛ فإما أن يتحقق الزيادة أو يتحقق النقص أو يشك أنه زاد أو انتقص، ثم كل هذه الصور لا يخلو المصلي فيها: إما أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا. فإذا سها في صلاته فزاد فيها وتحققت الزيادة وجب عليه أن يسجد لله سهوا، ويكون سجوده بعد السلام لا قبله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي قال رضي الله عنه وأرضاه: وأنبئت أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (ثم سجد سجدتين بعد ما سلم) ، وهنا جهالة المنبئ لا تضر؛ لأنه صحابي، ولذلك عن صحابي وبذلك هذا الحديث حجة لطائفة من أهل العلم الذين يختارون التفصيل، فيقولون: إن ما كان من الزيادة يكون بعد السلام، ويؤيد هذا النظر الصحيح فإن الزيادة خارجة عن الصلاة فكان المنبغي جبرها بخارج عن الصلاة لا بداخل فيها. وأما إذا تحقق النقص فإنه يسجد قبل السلام لا بعد السلام لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه في صلاة المغرب، وحديث عبد الله بن مالك بن بحينه في الصحيحين وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عن التشهد الأول وسبح له الناس فأشار إليهم من وراء ظهره أن قوموا فقاموا، قال رضي الله عنه: ثم جلس للتشهد فقبل أن يسلم سجد عليه الصلاة والسلام سجدتين ثم سلم) ، فهذا يدل على أن النقص يجبر قبل السلام. أما إذا شك هل زاد أو نقص فيبني على اليقين، فإذا شك في عددها بنى على الأقل، فإذا شك هل هي ثلاث ركعات أو أربع بنى على ثلاث، وإذا شك في قول هل قال: سمع الله لمن حمده أو لم يقل، يقول: سمع الله لمن حمده إذا كان في وقت التدارك، أو شك هل سبح في سجوده أو لم يسبح بنى على أنه لم يسبح، هذا إذا كان الموضع يمكن فيه التدارك، أما لو فات الموضع ولم يمكن التدارك للواجبات فإنه يبني على أنه لم يفعلها، فيسجد قبل السلام على ما ذكرنا، إذا: إذا تحققت الزيادة سجد بعد السلام، فإذا تحقق النقص سعد قبل السلام، وإذا شك بنى أنه على لم يفعل ثم يسجد قبل أن يسلم سجدتين لما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثا فليصل اثنتين ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان ما صلاه أربعا -كما في رواية الصحيح- فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان ما صلاه خمسا -أي: الركعة التي زادها قطعا للشك - فالسجدتان تشفعانه) بمعنى: تلغي الزيادة. بقي السؤال: ما هو الشيء الذي ينقص وما هو الشيء الذي يزيد؟ يشترط في الشيء حتى يثبت السهو به أن يكون من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، بمعنى: الزيادة إما أن تكون بقول وإما أن تكون بفعل، فالذي يزيد في الصلاة إما أن يزيد قولا وإما يزيد فعلا، وإذا زاد قولا أو فعلا فلابد أن يكون هذا القول من جنس أقوال الصلاة، ويشترط أن يكون هذا الفعل من جنس أفعال الصلاة، فلو أنه زاد فعلا ليس من جنس الصلاة، مثل: كان يصلي ففتح الباب، ففتح الباب ليس من جنس الصلاة، فحينئذ لا يسجد وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. والفعل قد يكون من جنس أفعال الصلاة، مثل: أن يزيد ركعة أو يزيد سجدة، فهذا من جنس أفعال الصلاة. أما إذا زاد قولا ليس من جنس أقوال الصلاة فحينئذ يرد التفصيل: قد يوجب بطلان الصلاة وقد لا يبطلها، على التفصيل في مسألة الكلام في الصلاة. وأما إذا كانت الزيادة بالقول أو الفعل من جنس أقوال الصلاة وأفعالها، فلا يخلو القائل من أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا، فإذا كان إماما أو منفردا فحكمه واحد، فإذا زاد في الصلاة أو انتقص منها أو شك فعل الشيء الذي ذكرناه على التفصيل، لكن إذا كان مأموما وزاد وراء الإمام أو انتقص فإن الإمام يحمل عنه تلك الزيادة وذلك النقص بشرط: أن يكون من الواجبات لا من الأركان؛ لأن الأركان لا يدخل فيها السهو بالنسبة للنقص، فمن نقص من صلاته ركوعا أو سجودا أو لم يقرأ الفاتحة، فهذا يجب عليه أن يقضي ركعة كاملة ولا يكفي أن يجبرها سجود السهو، فالذي يصلي وراء الإمام وينسى الفاتحة يجب عليه قضاء ركعة، والذي يصلي وراء الإمام وينسى الركوع أو السجود يجب عليه قضاء ركعة كاملة، ولو صلى وراء الإمام ولم يقرأ الفاتحة يقضي ركعة إلا في الأحوال المستثناة، لكن لو أنه ترك واجبا كما لو جاء وراء الإمام فقال الإمام: سمع الله لمن حمده. فرفع رأسه ونسي أن يقول: ربنا ولك الحمد، فقال الإمام: الله أكبر، فسجد معه فتذكر أنه نسي التحميد، نقول: يحمل الإمام عنك هذا السهو، فالإمام يحمل الواجبات، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الإمام ضامن) ، والضمين هو: الحميل، فقوله: (الإمام ضامن) المراد به: أنه يحمل، وإذا كان الإمام يحمل: إما أن يحمل أركانا أو واجبات أو سننا، فلما علمنا أن الإمام لا يحمل الأركان وهذا بإجماع العلماء، علمنا أن المراد به إما الواجبات أو السنن التي لا يجب فعلها، ففهمنا أنه يحمل الواجبات ولا يحمل الأركان، وعلى هذا: فلو سها وترك واجبا قوليا أو فعليا؛ فإنه يسجد للسهو ضمانا لهذا النقص إماما ومنفردا، وأما المأموم فإن الإمام يحمل عنه، والله تعالى أعلم. حكم سماع الدف وضربه للرجال الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فمن حيث الأصل الشرعي في قوله عليه الصلاة والسلام: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، يدل على أن ضرب الدف مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحله وأذن به، وصحيح أنه أذن به بالنكاح لكن يقال: إنه من باب الإعلان، وإنما يستقيم تخصيصه بالنكاح إذا كان الأصل تحريم الدف، فجاء استثناء النكاح، وهذا معروف في الأصول عند العلماء رحمهم الله، أنه لا يقال: إن الشيء حرام ولا يجوز إلا في حالة كذا، إلا بدليلين؛ الدليل الأول يقتضي أن الأصل تحريمه، والدليل الثاني يستثني، فتقول: الأصل حرمته إلا ما دل الدليل على إذنه وحله وهي حالة الضرورة أو حالة الجواز فيتقيد بها، فيرد السؤال: هل الأصل حل الدف أو تحريمه؟ فلما كان الدف يختلف عن آلات الزمر والغناء، يختلف من جهة طبعه ويختلف من جهة تأثيره، وقد بينا هذا وأشرنا إليه، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم واختاره بعض مشائخنا رحمهم الله أن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه وأنه باق على البراءة الأصلية، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره للنكاح فقال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، فاختار له المباح وترك المحرم على الأصل، فدل على أنه مباح وجائز من هذا الوجه. وقال بعض أهل العلم: أن الدف الأصل تحريمه، قالوا: لأنه من آلات الغناء، وآلات الغناء والمجون تثير الفاحشة وتدعو إليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل لهو باطل) ، فنقول: إن الأصل تحريمه حتى يدل الدليل على جوازه، فجاء الدليل من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، فنخصه بالنكاح، وهذا مشكل؛ لأنه لو كان الأصل تحريمه لما أحله في نذر المرأة، فالمرأة نذرت أن تضرب على رأسه بالدف، فلو كان الأصل تحريمه لكان عليه الصلاة والسلام -وهو الذي لا يأذن بالحرام على رأسه- قال لها: يا أمة الله! غني ولا تضربي بالدف، فبالإجماع لكن كونه يأذن به في النذر، فبالإجماع أن النذر لا يجب الوفاء به إذا كان بمحرم، والشريعة لا تتناقض، ولا يمكن أن يأتي ويقول لها: أوفي بنذرك؛ لأن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إذا كان محرما فلا يجب الوفاء بمحرم. فدل على جواز الضرب به إذ لا يمكن أن يحل الله عز وجل لعباده شيئا محرما. فهذه مسألة خلافية، فلو قال شخص بتحليله وضرب به تأويلا للسنة فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه؛ لأن له وجها من السنة وله سلف يقولون بقوله، وإذا قال بالتحريم فلا ينكر عليه ولا يثرب عليه، بل يفعل ما يعتقده. وانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، لو كان الدف الأصل تحريمه وجاءت المرأة تضرب على رأسه، فهل يترك أذنيه تسمع الدف وهو أورع الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وهو أتقى الناس لله عز وجل؟ ثم أمر بالوفاء بالنذر، فهل يسكت عليه الصلاة والسلام ويتركها؟ وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فلو كان الأصل حرمة سماعه وحرمة ضربه لما أذن به عليه الصلاة والسلام وهو أتقى الخلق لله؛ ولذلك لا ينبغي أن تفخم هذه المسألة أكثر مما تستحق بأن يشنع على من يحرم أو يشنع على من يحل، فمن سمعه يتأول الحل فلا شيء عليه، ومن تركه يتقي الله عز وجل ويطلب الأورع لدينه فلا شيء عليه، لكن ننبه على مسألة: وهي أنه حتى ولو قلنا بحله فكون الإنسان يسمع الدف قائما قاعدا ويجعل الدف دائما عنده ويجعله سلوته لا شك أن هذا يؤثر على نفس الإنسان، فالضحك والمزح مباح، ولكن الإنسان إذا أكثر من سقطت مروءته ومات قلبه واستخف أمره نسأل الله السلامة والعافية، فحل الدف لا يقتضي من الإنسان أن يتوسع فيه أو أن نطبع الأشرطة ونعتني بالأشرطة التي فيها الدف ونتوسع في ذلك ونشغل الأخيار والصالحين بها! لا. بل ينبغي علينا أن نسمو إلى الأكمل وإلى الأفضل -حتى على القول بحله- وأن نشغل الناس بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وعلى هذا لا تفريط، فلو أنشدت الأناشيد الحماس التي تدعو إلى الجهاد في سبيل الله وتذكر بالسلف الصالح وأمجاد الأمة فهذا شيء ليس فيه من معارضة، وهو متفق مع الأصول الشرعية ويحدث في النفس محبة للخير ولبذل النفس في سبيل الله عز وجل، فكل هذا مندرج تحت أصول شرعية تقره ولا تنكره، وتثبته ولا ترفضه. وعلى هذا: فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يبقى على الأصل، لكن لا يتوسع في هذا الأمر كما سبق وأن بينا ونبهنا عليه، والله تعالى أعلم. نصيحة تخص طلاب العلم الجواب لا بد من التعب، والله تعالى يقول: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل:5] ، والعلم هو أثقل شيء؛ لأنه مستمد من الوحي، والله عز وجل لما أوحى إلى نبيه أخذه جبريل فغطه حتى رأى الموت، وكان إذا نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في شدة الحر أو في شدة البرد يتصبب جبينه عرقا -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وأسند إلى أبي هريرة رضي الله عنه وفخذه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليه الوحي فكادت فخذ أبي هريرة أن تنفصم من شدة الوحي الذي ينزل عليه النبي عليه الصلاة والسلام. وفي الصحيح من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فنزل عليه الوحي فغطي عليه الصلاة والسلام، وكان رجل يقول لـ عمر: (أحب أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه) فكشف عن وجهه الثوب فإذا هو يغط كغطيط البكر من الوحي، وهذا مثل عند العرب: أن البكرة من الإبل إذا غطت من شدة ما تجد من اللأواء، قال: يغط كغطيط البكر من شدة ما يجد عليه الصلاة والسلام من الوحي، فهذا يدل على أن الوحي لا يؤخذ بسهولة؛ ولذلك قالوا في الحكمة: (من كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة) وقال حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه: (ذللت طالبا وعجزت مطلوبا) فعليك بالجد والاجتهاد في التحصيل، ولما كانت مراتب العلم والعلماء عالية ومنازلهم سامية في الدنيا والآخرة الباقية جعل الله عز وجل سبيل العلم عسيرا صعبا ومشقة وعناء. طالب العلم يكدح وينصب في طلب العلم وهو في بداية الطريق، فيجد من المشقة والمثبطات والمخذلات ما الله به عليم، حتى إذا صار عالما وضبط علمه، أصبحت في رقبته أمانة ومسئولية أن يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرشد الحائر ويدل التائه وكلهم في رقبته وأمانة عليه، أمانة ومسئولية يسأل عنها بين يدي الله جل جلاله ويشفق على نفسه فيحمل هموم التعليم والتوجيه، فيأتيه الجاهل بجهله والسفيه بسفهه، ويحتقر ويؤذى، ومع ذلك: لو أن رجلا تصور مقدار ما يحمله العالم وهو يحضر درسه، هل يحضر الدرس أو يستعد لأسئلة الناس وإشكالاتهم أو جهل الناس أو تجاهلهم أو الكلام الذي يقوله إذا فسر على غير ظاهره أو حمل على غير محمله، فكل هذا يحمله؛ لأن العلم كله عناء؛ لأن وراءه الجنة الغالية والسلعة الزاكية؛ لأن الله اختارها للعلماء: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص:83] ، فهم أهل التقوى وهم أهل الرضا. فالذي يريد أن يطلب العلم لا يمكن أن يكون من أهل العلم ومن طلاب العلم بحق، إلا إذا جعل روحه في كفه، وجد واجتهد غاية جهده وبذل ما يستطيع بذله وصبر واصطبر، فإذا كان في بداية الطريق وهو طالب علم لا يستطيع أن يصبر في مجالس العلم فكيف غدا يسافر للناس؟! وكيف غدا يصبر الساعات على الفتاوى والمسائل التي فيها حل الفروج وفيها حل الدماء وحل الأموال؟! كيف يصبر على هذا كله؟ وكيف يسهر الليالي وهو يدارس العلم ويذاكره حتى لا يخطئ ويزل لسانه؟ كل هذا يحمل همه طالب العلم. العالم لا بد له من التعب، فالله جل جلاله لحكمته وعلمه بخلقه وتدبيره سبحانه وتعالى لعباده جعل بدايات الطريق دائما لطلاب العلم في تعب ونصب حتى يميز الخبيث من الطيب، فيا لله من أطيب الطيبين الذي جد واجتهد فأصبحت سآمة العلم له انشراحا وأنسا ولذة لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله. كان طالب العلم في القديم يهان ويتعب وينصب وهو غريب عن بلاده ووطنه، يسافر من أجل حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذهب إلى باب العالم وجد الناس يقتتلون عند أبواب العلماء لرواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت هناك الكتب مطبوعة، بل كان الحديث في الصدور لا في السطور، وكانت صدور العلماء جنة وروضة لهذا العلم، فكانوا يكدحون ويتعبون، يقفون على أبواب العلماء، ويزدحمون ويؤذون ويتساقطون ويدفع بعضهم بعضا ويجلي بعضهم بعضا، وكل ذلك من أجل بلوغ العالم، فإذا بلغوا العلماء وأخذوا عنهم حملوا هم ضبط الكلام الذي يقال، ثم إذا قيل لهم حملوا هم مراجعته. كان أبو عبيد القاسم بن سلام الجمحي رحمه الله برحمة واسعة إماما من أئمة العلم والعمل، وكان آية في علم القراءات، آية في علم التفسير، آية في علم الحديث ورواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية في الفقه أبو عبيد القاسم بن سلام آية في العلم والعمل والصلاح والتقوى، وقد كان له أتباع، فيحدث عن نفسه في طلب العلم: أنه كان يسافر ويتغرب إلى بلاد بعيدة، وكان يذهب من الصباح الباكر فيجد العناء والمشقة، وإلى آخر الليل وهو يجمع للأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسأل الله العظيم أن ينور قبره، وأن يعظم أجره، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه، هذا العالم لما تقرأ كتبه وما خلفه للأمة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن الفقه ومن العلم الزاكي المليء بالضبط والإتقان تعرف أنه تعب وجد واجتهد، يقول عن نفسه: كنت أتعب وأكدح حتى لا يأتي منتصف الليل إلا وقد سقط منه كل عضو، لكن يقول: فإذا تذكرت العلم الذي حزته والحديث الذي جمعته هانت علي تلك المصائب. كانوا ناصحين للأمة. طالب العلم حينما يتفكر ويتدبر أنه ربما يكون وحيد أهله أو وحيد مدينته، أو وحيد مصره وبلده، فالكل يرجع إليه، حينما يتذكر أنه قد يمسي يوما من الأيام ووراءه أمة، إما أن يقودها إلى الجنة أو إلى النار فحينئذ يشفق على نفسه، حينما يتذكر أن هذه الكلمة ربما يقف بها بين الجنة والنار. هناك مسائل كنا نسمعها في الصغر وما كنا نظن أن تكون لها أهمية، ثم وجدنا لها من عظيم البلاء والنفع ما الله به عليم، والله نشهد بذلك من كل قلوبنا رأيناه ولمسناه وحدثنا به العلماء رحمهم الله، فلا تتهم العلم بشيء، وإذا وجدت شيئا صعبا فاجتهد أن تضبطه. عليك -يا طالب العلم- أن تعلم أن العلم مراتب، فإذا كنت في بداية الطريق فلا تشتغل بالخلاف وإنما خذ زبدة القول وخذ القول الراجح بدليله، ونبه على أن المسألة خلافية على أصح القولين أو على أصح ثلاثة أقوال تنبيها باختصار، فإذا انتهيت من الدرس أخذت ما رجح في نظر شيخك واعتنيت بدليله ولقيت الله بالدليل، فإذا بلغت مرتبة أعلى أمكنك فيها أن تحصل الأدلة والردود والمناقشات وأن تعرف ما لم تطلع عليه من الأدلة فحينئذ حي هلا، وانتقل إلى مرتبة المقارنة والخلاف وإلا اقتصر على ما ذكرته لك من القول الراجح ولا تسأم ولا تمل، فالله أعلم كم في هذه الحروف من درجات، وأجور وحسنات. ولا يصبر الطالب على العلم ويتحمل مشاقه إلا إذا صلح قلبه بالإخلاص لله جل جلاله، ولا يمكن أن يجد الإنسان هذه اللذة إلا إذا جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه، فتعلم لله وعلم في الله وجلس في مجالس العلم لله وفي الله وابتغاء رحمته، فلربما مجلس واحد تغفر فيه ذنوب العبد، وفي الحديث القدسي: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وإذا أحب الإنسان أن يجد ويجتهد في العلم فليحرص على الإخلاص، وإذا أصبحت في كل دقيقة وكل ثانية تراقب الله جل جلاله وتقصد من مجلسك واستماعك وكتابك ومذاكرتك وجه الله جل وعلا زكاك ربك وبارك لك في علمك، فصار قليله كثيرا؛ ولذلك قال بعض السلف: (كم من عمل يسير عظمته النية) ، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ قلوبنا بالإخلاص لوجهه وابتغاء ما عنده، وأن يعفو عنا ويسامحنا فيما يكون من التقصير في إخلاصنا وإرادتنا لوجهه، والله تعالى أعلم. حكم إتلاف عضو غير عين المعتدي بالنظر الجواب إذا أتلف غير النظر فإنه يضمن، ولا يحل له إلا إتلاف ما حصل منه الاعتداء، فإذا سرقت اليد تقطع اليد وما تقطع الرجل؛ لأن اليد هي التي سرقت، وبناء على ذلك: الاعتداء وقع بهذا العضو فسقطت حرمته؛ لأن الجناية وقعت به، والقصاص أحله الله عز وجل والاعتداء في مقابل الاعتداء أحله الله عز وجل بشرط سقوط الحرمة للعضو الذي يقتص منه، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الغضب ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (379) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [1] إن لله عز وجل في خلقه حكما وأسرارا، ولا يكلفهم إلا ما يستطيعون، ولا ينهاهم إلا عن شيء ضار لهم في دينهم ودنياهم، لا يتلاءم مع حياتهم وأخوتهم الإيمانية، ومن أجل هذه الغاية فقد فرض الله حق الشفعة للشريك من شريكه دفعا للضرر وحفاظا على المصالح الدنيوية والدينية، وتقديرا للمشاعر، وجبرا للنفوس، فهو أحكم الحاكمين. الشفعة تعريفها وحكمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشفعة] . شروط الشفعة قال رحمه الله: [فإن انتقل بغير عوض أو كان عوضه صداقا أو خلعا أو صلحا عن دم عمد فلا شفعة] يقول المصنف: (فإن انتقل) أي: نصيب الشريك (بغير عوض) هذه المسألة متعلقة بشرط المعاوضة في نصيب الشريك، فلا تصح ولا تقع الشفعة إذا انتقل نصيب الشريك بدون عوض أو كان عوضا عن خلع أو كان عوضا عن بضع كما في المهر صداقا لامرأة فإنه في هذه الحالة لا يستحق الشريك الانتزاع إذا انتقل بغير عوض أو هبة، كما لو قال: وهبت نصيبي لابني أو وهبت نصيبي لأخي، أو وهبت نصيبي من الشركة في الأرض الفلانية لفلان بن فلان صديقي، فإنه في هذه الحالة لا تثبت الشفعة؛ لأن الشفعة أصلا ثبتت بصورة خاصة وهي التي تكون فيها المعاوضة بنفس الثمن، ولذلك في هذه الحالة يكون الضرر أخف مما لو إذا كانت في المعاوضة. وبعض العلماء يقول: إذا لم تكن بعوض فهذا مستثنى بالإجماع، ويشمل ذلك الإرث كما لو انتقلت إرثا، فالورثة إذا ملكوا عن أبيهم أو ورثوا من أبيهم نصيبه في أرض أو عقار فإنه لا شفعة للشريك، فلا يأتي الشريك ويقول: أنا شافع؛ لأنه في هذه الحالة يشفع بماذا؟ ما هو الثمن الذي سيدفعه في مقابل هذا النصيب؟ لأنه لم يبع صاحبه، ولذلك لا تقع الشفعة بغير عوض. قال: [أو كان عوضه صداقا] أو كان عوضه -النصيب- صداقا، كرجل شاركك في أرض مناصفة ثم تزوج امرأة وقال لها: نصيبي من الأرض الفلانية أو نصيبي من المخطط الفلاني صداقا لك فرضيت به؛ فإنه حينئذ يكون قد انتقل نصيبه إلى المرأة ولكن عن طريق الصداق فلا تثبت الشفعة فيه. قال: [أو خلعا] . كذلك لو كانت المرأة تملك نصفا في أرض، ثم أرادت أن تخالع زوجها -وقد تقدم معنا باب الخلع وبينا فيه أن من حق المرأة أن تخالع زوجها- بنصيب يعادل المهر، فقالت: أنت مهرك عشرة آلاف ريال وأرضي الفلانية أملك نصفها تعادل عشرة آلاف ريال أعطيك هذا النصيب عوضا عن مهرك وتخالعني، فرضي بذلك، فإنه حينئذ لا يكون من حق الشريك أن يشفع. قال: [أو صلحا عن دم عمد فلا شفعة] كرجل -والعياذ بالله- قتل رجلا وأرادوا أن يصطلحوا فللعلماء في هذه المسألة وجهان ذكرناهما في باب الصلح، فهل من حق أولياء المقتول أن يطالبوا بأكثر من الدية أو ليس من حقهم؟ فالأصل الشرعي يقتضي أنه ليس من حق الورثة أن يطالبوا بأكثر من الدية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قدر المقادير وحد الحدود وجعل هذه الدية مائة من الإبل عدلا لرقبة المسلم، فإذا أرادوا أن يقتلوا القاتل طالبوا بحقهم بالقصاص، وإذا تنازلوا عن القصاص وجب عليهم أن يرضوا بالدية التي حكم الله عز وجل بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وقلنا: هذا هو الأشبه بالسنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأوفق للأصول. فلو اصطلحوا وقلنا بجواز أن تعطى الزيادة على الدية من باب الصلح لا من باب أنها دية، وهذا مخرج بعض الفقهاء، وهو في الحقيقة لا يخلو من نظر، لكن لو قلنا بهذا القول فالبعض يبالغ، فقد يطالب أولياء المقتول بمليون ريال كدية صلح، بل بعض الأحيان بلغ ببعضهم أن يطالب بعشرة ملايين، فهذا يخالف النص والأصل الشرعي، أليس الله عز وجل جعل عدل هذه الرقبة وما يكون مقابلا لها بهذا القدر؟ فإذا: يجب أن نقف عند هذا القدر ونقول: ما حده الله عز وجل وقدره ينبغي الوقوف عنده، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فهذا هو حكم الله وهذه حدوده لا نعتدي بالزيادة عليها بالمطالبة بما هو أكثر؛ لأنه لو قيل: من حقهم أن يطالبوا بأكثر فمعناه أن الرقبة لا تعادل مائة ألف، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لم يعط أولياء المقتول حقهم في رقبة وليهم. فلما جعل الله عز وجل عدل الرقبة مائة ألف، وسن ذلك مائة من الإبل بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وثبت، فإننا ننظر إلى عدلها من القيمة، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ لأنه من شرع الله عز وجل المحكم الذي لا نسخ فيه، وعلى هذا لو اصطلحوا عند الحاكم سواء كان بالزيادة أو نفس الدية فقال مثلا: مائة من الإبل تعادل مائة ألف، فأعطيك أرضي الفلانية لي فيها النصف أو ثلاثة أرباعها، أعطيك هذا القدر الذي يساوي المائة ألف وتتنازل عن دم وليك، قال: قبلت، فحينئذ صار صلحا عن دم عمد، بعض العلماء يرى أنه في هذه الحالة ولو زاد عن الدية أنه لا شفعة للشريك؛ لأن الانتقال لم يكن على سبيل المعاوضة. وفي الحقيقة هذه المسائل فيها إشكال من حيث أن الشفعة في الأصل شرعت لدفع الضرر، والضرر سيقع بدخول هذا الأجنبي فلا فرق بين كونه داخل بالبيع أو داخل بصلح العمد أو داخل بسبب آخر، ولذلك في الحقيقة لا يخلو قول بعض العلماء من نظر باعتبار السبب الذي ذكرناه من أن الشفعة شرعت لدفع الضرر، فلا يخلو من نظر من هذا الوجه. التحيل لإسقاط الشفعة حكمه وصورته قال رحمه الله: [ويحرم التحيل لإسقاطها] يحرم على المسلم أن يحتال لإسقاط الشفعة؛ لأن الحيلة تغيير لشرع الله وإبطال للحق وإحقاق للباطل، والحيلة لا خير فيها، ومن حيث الأصل الحيل تنقسم إلى قسمين: هناك حيلة مشروعة، وهناك حيلة ممنوعة، فالحيل المشروعة هي التي أذن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويكون فيها بعض الكيد الواقع في موقعه، ومن ذلك ما احتال به يوسف عليه السلام على إخوته من أجل أخيه بنيامين، فإنه لما جاءوا أمرهم أن يأتوا بأخيهم، فالسبب في كونه يأمرهم بالإتيان لأنه كان يعلم أن الأسباط فيهم حسد وأذية له ولأخيه، فأمرهم أن يأتوا بأخيه، فلما جاءوا به وأخبره أنه أخوه واحتال لاستبقائه تحت يده؛ لأن أيديهم فيها خيانة، بدليل أنه رأى ذلك وعلمه منهم حينما رموه في الجب، فاحتال لكي يستحق أخاه بالحيلة، فخبأ الصاع في رحله، ثم ادعى أنهم سرقوه، وهذا يقول فيه بعض العلماء رحمهم الله: إنهم في الصغر آذوه، فكانت أذية في مقابل أذية. ويقولون: إنه فعل ذلك لدفع ما هو أعظم وأشد، فإنه لم يأمن أن يقتلوا أخاه؛ وعلى هذا فإن ادعاء كونهم سارقين مفسدة، ولكنها أخف بكثير من كونهم معتدين على أخيه إما بقتله أو بالإضرار به، وعلى هذا قالوا: احتال يوسف عليه السلام كما قال تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} [يوسف:76] والكيد كما هو ثابت في كتاب الله عز وجل صفة من صفاته، من غير تأويل ولا تعطيل، ولا مشبها كيده سبحانه بكيد خلقه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أن الصفات تبقى على ظاهرها، فإذا جئنا نخرجها أثبتناها بأنه كيد واقع في موقعه، والكيد كيدان: كيد واقع في موقعه فهو مشروع غير ممنوع، وكيد غير واقع في موقعه فهو ممنوع وصفة نقص. فلما كان كيده سبحانه وتعالى كيدا كاملا لا نقص فيه كانت صفة كمال لله عز وجل، ولما كان كيد المخلوق الغالب فيه أن يقع في غير موقعه صار صفة نقص وذم، وما للخالق لا يشابه ما للمخلوق، ولذلك نقوم بإثبات هذه الصفات، والشاهد عندنا أن الحيلة تكون مشروعة لدفع ما هو أعظم أو طلب ما هو أجل أو مصلحة أكبر. ومن أمثلة الحيلة الشرعية ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتي بصاع من التمر -من صاع خيبر وكان من أجود التمر وأحسنه- ونظر إليه فأعجبه فقال كما في الحديث الصحيح: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله! إنا والله نبيع الصاع من هذا بالصاعين -يعني: هذا الجيد الذي تراه ندفع في مقابله صاعين مما هو أردأ منه- فقال عليه الصلاة والسلام: أوه -وهي كلمة توجع وتفجع- عين الربا! عين الربا رده -فأمر برده وإبطال البيع- ثم قال: بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به) فدل هذا على حيلة شرعية، وهي أن تبيع القديم بالنقد ثم تشتري به الجديد. ومن أمثلته الذهب: فلو كان عند المرأة ذهب قديم وأرادت أن تستبدله بذهب جديد فلا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب إلى أن قال في آخر الحديث: مثلا بمثل يدا بيد) وقال في حديث أبي سعيد في الصحيحين: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض) فإذا ثبت أنه لابد من التماثل فقد لا يبيع صاحب المحل الجديد بالقديم بنفس الوزن بل يقول: أريد الفارق فتقول له المرأة: اشتر مني هذا القديم، فتبيعه ثم تخرج من المحل حتى تتم الصفقة الأولى والبيع الأول؛ لأن (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) فإذا خرجت من المحل رجعت مرة ثانية بعد تمام الصفقة الأولى ووجوبها وثبوتها واشترت الجديد (بع الجنيب بالدراهم ثم اشتر به جديدا) . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لنا مخرجا شرعيا جائزا، أما إذا كانت الحيلة لإبطال حق أو إحقاق باطل فإنها تعتبر محرمة، وهو صنيع بني إسرائيل الذين استحلوا ما حرم الله عليهم، ولذلك لما حرم الله عليهم الصيد في السبت وضعوا الشباك في يوم الجمعة ثم أخذوها يوم الأحد فاستحلوا ما حرم الله: {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء:142] ولذلك قالوا: من يحتال على الشرع فهو مخادع، ومن يخادع الله يخدعه الله عز وجل، ومن كان تحت سطوة الله فلا تسأل عن حاله، فإن الله يخدعه في نفسه وأهله وعرضه وولده وماله، فإذا ظن أنه بهذه الحيل يستكثر ماله دمر الله تجارته ونزع البركة من ماله، فهو يظن أنه يصل إلى شيء فيحرمه الله عز وجل ذلك الشيء ويجعل احتياله عليه سببا في حصول البلاء والوبال عليه في الدين والدنيا والآخرة. ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما جاءه رجل، وكان عم هذا الرجل قد طلق امرأته ثلاثا، وأراد هذا الرجل أن يتزوج المرأة كي يحللها لعمه، وهي مسألة خلافية، لكن الشاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن ذلك قال: (إن الله لا يخدع) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (من يخادع الله يخدعه) ومصداق ذلك في كتابه تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء:142] ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الحيل، ومن ذلك تحليل المرأة المطلقة ثلاثا، حيث يؤتى برجل ويقال له: تزوج هذه المرأة ونعطيك المهر، فإذا عقدت عليها ودخلت بها طلقها حتى تحل لفلان (فلعن الله المحلل والمحلل له) وهو التيس المستعار وقد تقدم الكلام عليه في باب النكاح، فهذا من الحيل المحرمة، ومن الحيل المحرمة ما كان عليه بنو إسرائيل مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حرمت عليهم الشحوم فجملوها وأذابوها وقالوا: حرم الله علينا الشحوم ولم يحرمها علينا على هذا الوجه. فالواجب على المسلم أن يقف عند حدود الله عز وجل، وأن لا يحتال على الشرع، وقد تقع الحيل في العبادات وتقع الحيل في المعاملات ومن أسوأ ما ذكروه أنهم كانوا يقولون للتاجر: خذ زكاة مالك من الذهب أو الفضة وضعها في كيس حب، ثم أعطها للمسكين على أنك تنوي بها الزكاة، فإذا أخذها المسكين -وهو لا يدري أن بداخلها الذهب- قل له: إن هذا الكيس إن وهبتنيه أعطيتك أفضل أو أحسن منه، فالمسكين لا يدري أن بداخله الزكاة التي هي من الذهب أو الفضة، فيهبه له أو يرسل إليه التاجر من يأخذ منه الكيس، فكل هذا من التحايل والتلاعب في دين الله عز وجل وقس على ذلك من الحيل؛ لكن إذا كان للحيلة أصل شرعي ودليل يدل على جوازها فإنها مشروعة غير ممنوعة. فقوله: [ويحرم التحيل لإسقاطها] ، اللام للتعليل أي: من أجل إسقاط الشفعة، ومن أمثلة ذلك: لو أن شخصا أراد أن يبيع العقار لشخص فيدعي ويقول له: سأهب لك هذا النصف ثم تعطيني على هذه الهبة مكافأة، ومعلوم أن هذا النصف قيمته مائة ألف، فيعطيه مكافأة على ذلك مائة ألف، في الحقيقة الأمر قائم على معاوضة، وإنما احتال بالهبة من أجل أن لا يعترض الشريك فيشتريه، وبناء على ذلك تكون الهبة في الظاهر والبيع في الباطن، فهذا يعتبر من التحيل لإسقاط الشفعة؛ لأنه لا شفعة في هبة، ويقاس على ذلك الصور التي يقصد بها المتعاقدان إسقاط الشفعة عن الأجنبي. فلا يجوز للمسلم أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وقد بينا نصوص الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تدل على تحريم التحيل على الشرع، وأن الواجب على المسلم أن يلتزم ما أمره الله بالتزامه، والتحيل على الشريعة فيه إثمان: الإثم الأول: تغيير شرع الله عز وجل بإحقاق الباطل وإبطال الحق. والإثم الثاني: عصيان ما أمر الله عز وجل به وما نهى عنه، فما أمر به يصير بالحيلة منهيا عنه، وما نهى عنه يصير بالحيلة مأمورا به أو -على الأقل- مباحا، والله حرمه ومنع العباد منه، ولذلك أمر الله عز وجل عباده بالتسليم، وأخبر سبحانه وتعالى وأقسم بنفسه أنه لا يؤمن مؤمن إلا إذا سلم بحكمه والتزم بشريعته: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء:65] فلابد من التسليم والإذعان لله عز وجل طواعية له سبحانه وتعالى، وتذللا وتقربا، مع العلم أنه لا أحكم من حكمه، ولا أتم من شرعه سبحانه وتعالى، فمن ذلك الشفعة. لقد جبلت النفوس على حب المال، وإذا اشترى إنسان شيئا وثبت لأخيه المسلم حق الشفعة ربما حرك الشيطان في نفسه كوامن الشح والبخل، فيضن عن إعطاء أخيه المسلم حقه الذي أعطاه الله عز وجل إياه، فيسعى بالحيلة لإسقاط الشفعة، ويتحيل على هذا الحق لأخيه المسلم حتى لا يمكنه منه، فيأتي بأمر أو يتصرف تصرفا إما فيما بينه وبين البائع أو بإخباره للشريك أنه موهوب له أو نحو ذلك من أساليب الحيلة، فهذا كله حرام ولا يجوز للمسلم أن يفعله، وعلى من فعله التوبة من ذلك بالاستغفار والندم، وإخبار صاحب الحق وهو الشريك أن الشقص والنصيب انتقل إليه بالبيع، وإخباره كذلك بقيمة البيع، حتى يتمكن من حقه فإن شاء شفع وإن شاء ترك. تعريف الشفعة لغة الشفعة: مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وقال بعض العلماء: سمي هذا العقد بهذا الاسم لأن الشريكين إذا اشتركا في عقار واحد، وأراد أحدهما البيع فشفع صاحبه بعد البيع، فإنه يضم نصيب صاحبه إلى نصيبه، وحينئذ يكون نصيبه شفعا بعد أن كان وترا، مثال ذلك: لو كنت مع رجل تملكان أرضا مقسومة بينكما بالنصف، فنصيبك نصف الأرض ونصيبه النصف الآخر، فلو باع صاحبك هذا النصيب الذي له وطلبت الشفعة فإنك حينئذ قد ضممت نصيب صاحبك إلى نصيبك فصار نصيبك شفعا بعد أن كان وترا، وتملك الأرض كلها، هذا العقد عرفه بعض العلماء -كما سيذكره المصنف رحمه الله-: بأنه استحقاق انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه بنفس العوض الذي باعها به. والعلماء رحمهم الله ذكروا باب الشفعة بعد باب الغصب لمناسبة وهي: أن الشفعة تكون بالقوة والقهر، فأنت إذا كنت شريكا لرجل في أرض ثم باع نصيبه وأردت الشفعة؛ فإنك تأخذ نصيبه ممن اشتراه ولو لم يرض، فحينئذ تأخذ بنفس القيمة وبنفس الثمن الذي باع به شريكك، وبناء على ذلك قد لا يكون راضيا -أي: الذي اشترى من شريكك، ومن مقاسمك- بالبيع ولكنك تأخذها منه استحقاقا شرعيا ثبتت به السنة من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. حكم الشفعة هذا النوع من العقود مشروع بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك بإجماع العلماء رحمهم الله، أما السنة فقد ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري، واتفق الشيخان على إخراج الجملة الأولى منه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) واختلف العلماء في اللفظة الأخيرة: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق) هل هي مدرجة من كلام الراوي أو هي مرفوعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ وصحح غير واحد من العلماء أنها مرفوعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف أنه قال رضي الله عنه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكلمة (قضى) تحتمل أمرين: تحتمل السنة القولية، وتحتمل السنة الفعلية، فأما بالنسبة للسنة القولية فإن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالشفعة، ويثبت الشفعة للشريك مع شريكه، فإذا أثبتها عليه الصلاة والسلام عبر الصحابي وقال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأن سنته يحكم بها ويقضى بها فصلا بين الخصوم، فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالرجوع إلى سنته وهديه للفصل في الخصومات والنزاعات؛ ولذلك يقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الوجه الثاني: يكون المراد من قوله: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أنه رفعت إليه قضية فحكم فيها عليه الصلاة والسلام بهذا الحكم، وحينئذ يكون قوله: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم) على ظاهره أي: حكم عليه الصلاة والسلام وقضى بذلك فتكون سنة فعلية من هديه عليه الصلاة والسلام، وسواء قلنا: إنها سنة قولية أو سنة فعلية؛ فكل يحتج به، لكن الفائدة أننا إذا قلنا: (قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) تكون من أقضيته عليه الصلاة والسلام، ولذلك عد الإمام القرطبي رحمه الله هذا الحديث من أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ألف بعض العلماء في ذلك، ومن أشهر ما ألف في ذلك كتاب القرطبي المشهور: أقضية النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بين الصحابة. كانت الشفعة موجودة في الجاهلية، وكان يعرفها أهل الجاهلية، فجاء الإسلام وأقرها؛ ولذلك تعتبر من العقود التي كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام؛ لوجود المصالح المترتبة على إجازتها وحلها، وكذلك ترتب درء المفاسد على اعتبارها والعمل بها. وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بصقبه) وكذلك قال في حديث الترمذي وأبي داود في سننه من حديث سمرة: (جار الدار أحق بالدار) فهذا الحديث يدل على ثبوت الشفعة في الجار، وأنه إذا باع جارك الذي تشترك معه في طريق واحد أو منفعة واحدة كبئر واحدة -كما في المزارع- فإنه من حقك أن تشتري وأن تشفع؛ لورود الرواية الأخرى: (إذا كان طريقهما واحدا) دل هذا الحديث على مشروعية الشفعة بالجوار وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه المسألة وبيانها وبيان خلاف العلماء رحمهم الله فيها والقول الراجح ودليله إن شاء الله تعالى. وأما دليل الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله والسلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة على مشروعية الشفعة وثبوتها، وأنها سنة وهدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف في ذلك الأصم، وخلافه شذوذ يحكى ولا يعول عليه، أي: لا يعتد بخلافه؛ لأنه خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وإجماع السلف رحمهم الله، قضى بهذه الشفعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكذلك يحكى عن أبي بكر الصديق وعمر، وبناء على ذلك لا يعتد بخلاف من خالف في مشروعيتها. تعريف الشفعة شرعا يقول رحمه الله: [باب الشفعة] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الشفعة. قال رحمه الله تعالى: [وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد] . قوله: (استحقاق) بعض العلماء يضيف عليه ويقول: (استحقاق الشريك) وهذا الاستحقاق ينتقل إلى الورثة على قول بعض العلماء، فهو للمالك الأصلي وكذلك لورثته؛ لأن الورثة يرثون الأعيان والاستحقاقات، وإذا كان لمورثهم استحقاق فإنهم يرثونه. قال رحمه الله: [استحقاق] استفعال من الحق، والمراد بذلك أن الشفعة تثبت للشريك الحق في أن ينتزع هذه الحصة (استحقاق الشريك انتزاعه) فالشيء المستحق هو الانتزاع (انتزاع حصة شريكه) إذا لابد من وجود شركة ولابد من وجود خلطة في عقار على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى. (فيكون استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه) (حصة) القدر الذي باعه شريكه، فلو أنه كان يملك شقصا أو مساحة من الأرض فباع بعضها فالشفعة ثابتة في الحق الذي باعه. (انتزاع): ولذلك يقول العلماء: الشفعة تؤخذ قهرا، وليست اختيارية؛ فليس للأجنبي الخيار في قبول البيع أو عدم قبوله بل تؤخذ منه بالقوة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه من هنا ناسبت أن تذكر بعد باب الغصب؛ لأن الغصب هو: الاستيلاء على الأموال قهرا؛ لكن الفرق بينهما أن الغصب بدون عوض، والشفعة بعوض، والغصب غير مشروع، والشفعة من المشروع. وقوله: [استحقاق انتزاع حصة شريكة] هذا الانتزاع القهري في الحقيقة اختلف فيه العلماء: بعض العلماء يقول: هذا الانتزاع أصل شرعي وليس بمستثنى من الأصول ولا بخارج عن القياس، يعني: هو بذاته باب مستقل أقرته الشريعة دون استثناء، وهذا مذهب البعض من العلماء رحمهم الله، واختاره الإمام ابن القيم وغيره من أهل العلم رحمة الله عليهم. وذهب جمهور العلماء إلى أن الشفعة مستثناة من الأصل، والمراد بالاستثناء من الأصل أن الأصل يقتضي أن من باع ما يملكه إلى مشتر أو إلى آخر بعوض بيعا صحيحا تام الشروط فإنه لا ينتزع هذا المملوك الذي بيع ممن اشتراه وهو الأجنبي إلا بحق. فالأصل الشرعي يقتضي أن الأجنبي حينما اشترى نصيب شريكي أنني لا أرغمه ولا أفرض عليه بيعه لي، ولهذا فإن كلام العلماء عندما يقولون: الشفعة خارجة عن الأصول يعني: استثنيت من الأصول، فالأصل الشرعي يقتضي أنه لا يصح أن نقهر شخصا على البيع وأن نأخذ النصيب منه دون رضاه، ما الدليل على أن الأصل يقتضي ذلك؟ قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض} [النساء:29] وهذا الأجنبي لا يرضى لأنه اشترى من أجل أن يبقى، ولا يرضى أن يشترى منه النصيب الذي اشتراه بنفس القيمة، صحيح لو أعطي ربحا ربما رضي، ولكن أن يؤخذ منه بدون رضاه بالقوة لاشك أن هذا مستثنى من الأصول. لو سأل سائل فقال: ما هو الأصل؟ نقول: الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه وبرضاه، واستثنت الشريعة هذا لأنه من باب تعارض مفسدتين، روعي دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، وهذه القاعدة سبق أن ذكرنا أدلتها من الكتاب والسنة أنه إذا تعارضت مفسدتان قدمت الشريعة المفسدة العظمى فأمرت بارتكاب الصغرى دفعا للمفسدة العظمى والمفسدة هنا داخلة على الشريك وقد بينا ذلك ووضحناه ولو فتح هذا الباب لتضرر الناس، ولذلك نقول: إنها مستثناة من الأصول؛ لأن الأصل يقتضي أن المسلم لا ينتزع منه ماله إلا برضا منه وقد ينعدم الرضا في الشفعة. مسألة القياس فبعض العلماء يقول: إن الشفعة استحسان، يعني: أشبه بالاستحسان من جهة دفع الضرر ومن أمثلة ذلك: جواز رد المبيع بعد وجود العيب فيه، فأنت لو اشتريت سيارة مثلا فإن البيع إذا تم وعقدت الصفقة على هذه السيارة مستوفية للشروط الشرعية وأخذتها، ثم وجدت في السيارة عيبا فمن حقك أن تفسخ البيع وأن ترد المبيع، هذا الحق أثبتته الشريعة لك دفعا للضرر وبناء على ذلك فسخ عقد البيع، ورد بنفس الثمن لوجود الضرر، فلا فرق بين الشفعة وبين رد المبيعات بالعيب؛ لأننا في العيب ندفع الضرر عن المشتري، وهنا ندفع الضرر عن الشريك، وكما أن الشريعة فسخت بيعا لوجود ضرر على المشتري كذلك تفسخ البيع وتعطي الحق لمن يترتب عليه الضرر أن يدفع هذا الضرر فيشتري النصيب ممن اشتراه بالثمن الذي استقر عليه العقد. قال: [استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه] وهذا الشخص المشفوع منه هو الذي انتقلت إليه، ويشترط أن تنتقل إليه عن طريق المعاوضة بالبيع، فلو انتقلت إليه بالهبة فليس من حقك أن تشفع، لو أن شخصا كان شريكا معك في أرض ثم قال: وهبت أرضي لأخي، وكانت هبة صحيحة فليس من حقك أن تشفع؛ لأن الشفعة قضي بها بالثمن والبيع والمعاوضات، وأما بالنسبة لانتقالها بالهبة فهذا قول جماهير السلف والخلف، حتى إن بعض العلماء يقول: كاد يكون عليه الإجماع. إنها إذا لم تنتقل بالبيع من حيث الجملة -وإلا فيه تفصيل- فلا شفعة فيها، والأمور التي تستثنى وتخرج من عقد البيع سيأتي إن شاء الله بيانها. قال: [بثمنه الذي استقر عليه العقد] أي: تكون الشفعة للشريك بنفس الثمن الذي استقر عليه العقد بين الشريك البائع وبين الأجنبي المشتري لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وبناء على ذلك تختص بالبيع كما ذكرنا؛ لأنه هو الذي فيه المعاوضات. قال رحمه الله: [استحقاق انتزاع حصة الشريك] لما قال المصنف: (حصة) يعني أنه المصنف يرى أن الشفعة تختص بالأعيان، ولا تقع الشفعة في المنافع، ومن أمثلة المنافع الإجارة، ومن أمثلتها في زماننا لو قلنا في الشفعة: إنها مستحقة بالجوار، فاستأجرت نصف عمارة، واستأجر غيرك النصف الآخر، فإذا قلنا: تثبت الشفعة في المنافع والإجارة كما تثبت في البيع، فلو أنكما اشتركتما في إجارة عمارة لموسم الحج بمائة ألف، ثم أراد صاحبك أن يبيع نصيبه، بمعنى أن يدخل أجنبيا شريكا لك في هذه الإجارة فأدخله بمائة وعشرين ألفا؛ فحينئذ من حقك أن تشفع وتطالب بهذه الشفعة دفعا لهذا الضرر بدخول الشريك الأجنبي عليك، إذا في هذه الحالة يكون الانتزاع شاملا للأعيان والمنافع على القول بأنها لا تختص بالأعيان وإنما تشمل المنافع، وإن كان الأقوى والأشبه أنها تختص بالمبيعات ولا تشمل عقد الإيجار. الحكم والفوائد من مشروعية الشفعة أما بالنسبة للحكم والفوائد التي يمكن أن نستفيدها من مشروعية الشفعة: فأولا: تصوير الشفعة تركناه إلى التعريف الاصطلاحي الذي سيذكره المصنف رحمه الله، فهو ذكر تعريفه الاصطلاحي ولذلك لن نذكر التعريف الاصطلاحي لأنه موجود في المتن. الشفعة تقوم على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الاشتراك في العقارات. والصورة الثانية: أن يكون في المنقولات. فالشفعة المجمع عليها والمعمول بها هي الشفعة التي تكون في العقارات التي لم تقسم، ولذلك سنمثل ونصور الشفعة بهذا الشيء المجمع عليه، ومثال ذلك: لو أنك اشتركت مع رجل فاشتريتما أرضا بمائة ألف دفع كل منكم نصفها، ثم بدا لصاحبك أن يبيع النصف الذي يملكه -قبل أن تقسم الأرض بينكما- بمائة ألف، فباعه لرجل آخر، فالشريعة تعطيك الحق متى ما علمت بهذا البيع أن تقول: أنا شافع، فإذا قلت: أنا شافع، وطلبت الشفعة؛ من حقك أن تأخذ هذا النصف الذي باعه شريكه بنفس الثمن الذي اتفق عليه الطرفان حتى ولو لم يرض. قضى بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح مشروعا لحكم عظيمة: منها: دفع الضرر الذي قد يقع عليك بقسمة العقار؛ لأن الشريك القديم ربما يرضى بكونك معه في العقار ولا يقاسمك، لكن إذا جاء الأجنبي ربما قال لك: أريد أن أميز نصفي عن نصفك، فأنت تتضرر، مثلا: لو كانت المزرعة مشتركة بينكما أو كان المخطط مشتركا بينكما فإنك تستطيع أن تنتفع بجميع مصالحه وأن ترتفق بذلك؛ لكن إذا دخل هذا الأجنبي ربما أدخل عليك الضرر، وببيع صاحبك لنصفه كأنه ميز نصفه عن نصفك. الضرر الثاني: أنه ليس كل شريك ترضى به، فقد ترضى بالشريك الأول ولا ترضى بالشريك الثاني، وقد تأمن الشريك الأول ولا تأمن الشريك الثاني، فقد يكون عند الإنسان شركة مع رجل في أرض يحتاج إلى إخراج أهله أو عرضه لها كالمزارع ونحوها، فيأمن شريكا ولا يأمن شريكا آخر، وقد يتضرر بشريك أكثر من غيره، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا} [ص:24] والخلطاء يعني: الشركاء؛ ولذلك ما ترك القرآن شيئا، كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: (ما من شيء إلا وهو في كتاب الله) حتى نفسية الشركاء وتعاملهم، والأضرار والمفاسد المترتبة على الإنسان منفردا أو مشتركا مع غيره بينها كتاب الله عز وجل. (وإن كثيرا من الخلطاء) بين أن الغالب والأكثر حصول الضرر بالشركات، فإذا كانت هذه قاعدة، وهي: (أن الشراكة توجب الضرر) وأن اجتماع الاثنين فأكثر في شيء الغالب أن فيه ضرر، وأنه لا يأمن من هذا الأجنبي الذي دخل عليه؛ فإن الشريعة أعطت القديم الحق في دفع هذا الضرر، وبناء على ذلك تنظر إلى حكمة الشريعة: فأنت إذا دخل عليك أجنبي في أرضك إن كنت ترضاه ستسكت وستترك البيع كما هو وتقول: رضيت بك بدلا عن فلان، وقد يكون خيرا من الشريك الأول، ولكن إذا كان فيه ضرر فإنك لا ترضى بذلك، وحينئذ لو جعلت الشريعة الشريك مكتوف اليد لتضرر، ولو أنها أجازت له أن يسترد بأي ثمن لضرت طالب الشفعة فعدلت بين الناس، قالت: من حقك أن تشتري هذا النصيب بنفس الثمن لا تزيد ولا تنقص منه، فلا يطالب الأجنبي بزيادة، فلو اشترى بمائة ألف، وقال: أريد مائة وعشرين، تمنعه الشريعة من الزيادة، وتقول: ليس لك إلا المائة وحدها، وهذا عين العدل أخذ ماله ودفع الضرر، ثم إذا أراد أن يشتري عقارا ثانيا فله ذلك، لكن هذا العقار الذي فيه شركة وخلطة لا ينبغي أن يفتح بابه، ولا ينبغي أن تكون معاملة البيع سببا في إيقاع الضرر على المسلم، فدفع الله عز وجل هذا الضرر بإثبات الشفعة وشرعها لعباده، ولله في ذلك الحكمة التامة البالغة كما قال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) [الأنعام:115] سبحانه وتعالى. هذا الباب يتكلم العلماء فيه عن الشفيع وهو الذي له حق طلب الشفعة، ويتكلم العلماء فيه عن الشخص الذي يشفع منه ويؤخذ النصيب منه وهو الأجنبي المشتري، وكذلك يتكلم العلماء فيه على المحل الذي تكون فيه الشفعة وهو النصيب الذي باعه الشريك، ما هو محل الشفعة؟ وما الذي تقع فيه الشفعة؟ وما الذي لا تقع فيه الشفعة؟ وما الحكم إذا تغير هذا المحل بزيادة أو نقص؟ كل ذلك يبين العلماء رحمهم الله أحكامه في باب الشفعة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة المرأة الصالحة من متاع الدنيا السؤال كنت من الشباب المتحمسين لطلب العلم والدعوة، فلما تزوجت بامرأة ليست بملتزمة هبطت معنوياتي، وانعدمت أعمالي في الدعوة، وانصرفت عن طلب العلم؛ لأني انشغلت بأمور زوجتي، وأكثر شيء انشغلت به هو انشغالي في هم الديون بسبب الزواج فكانت أيامي كلها مشاكل ومصائب بين زوجتي وبين أصحابي، وحصلت أمور الفراق بيني وبين والدي ووالدتي وإخواني، وعشت في مشاكل لا تنتهي، وأنا الآن أبحث عن الحلول والخروج من هذه المشاكل، وأتمنى أن أرجع إلى طريقتي الأولى، على أن مشاكلي مع زوجتي بسبب المصاريف، ومشاكلي مع الشباب في أمور نفسية من الاستفزاز والغلظة في النصح، وفقكم الله أرشدوني إلى ما يصلح حالي بيني وبين زوجتي، والرجوع إلى طريق العلم والدعوة، وجزاكم الله خيرا؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهيئ لنا ولك الرشد، وأن يعيذنا وإياك ومن حضر ومن سمع من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، فإن هذا الزواج فتنة ومحنة عليك، وهو من أسوأ أنواع الفتن وهي فتنة الدين، وليس من ذات الزواج فالزواج ليس بفتنة إنما هو خير وبركة على الإنسان، وإنما جاءتك الفتنة حينما لم تظفر بذات الدين، وحينما تساهلت في أمور دينك، وأخذت امرأة وتركت ما هو خير منها في دينها واستقامتها، وقد زكاها الله عز وجل من فوق سبع سماوات: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة:221] فأنت لو اتقيت الله عز وجل في أول أمرك لما حدث لك هذا، فإنه من يتق الله يجعل له فرجا ومخرجا. أما الأمر الثاني: فإنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الشؤم في المرأة) والشؤم الذي في المرأة إذا تزوجها الرجل فتح الله عليه أبواب البلاء، فمن النساء من هن بعيدات عن الله عز وجل، والشؤم فيهن ظاهر، وهذا أمر ثبت به النص ودل عليه، ولذلك يتزوج الرجل المرأة الصالحة فيفتح الله عليه أبواب الرزق، ويفتح الله عليه أبواب السرور وأبواب الخير والبركة في ماله وأهله وولده، ويتزوج من هي بخلاف ذلك فتكسد تجارته، وتسوء أحواله حتى مع ربه والعياذ بالله، ومما حدث في بعض من نعرفهم أنه كان من ألزم الناس للصفوف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأحرصهم على ذكر الله عز وجل، وكان طالب علم، وكان في أيامه في نشوة عظيمة في طلب العلم، فأراد أن يتزوج فكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجمال وهو عندي أهم شيء، أهم ما ينبغي الجمال، فكان ينصحه إخوانه ويقولون له: اتق الله! الدين أهم، عليك أن تتقي الله عز وجل، فتزوج امرأة جميلة سيئة في دينها، فكان أول ما ابتدأت به أن أصبح لا يشهد الصفوف الأول، ثم بعد ذلك أصبح يتخلف عن الجماعة، ثم بعد ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- انقطع عن الصلاة مع الجماعة إلا قليلا، ثم بعد ذلك -والعياذ بالله- تغيرت هيئته ومنظره وحلق لحيته وانتكس والعياذ بالله. نسأل الله العظيم أن يدفع عنا الشرور والشؤم كله، فالشؤم كله في معصية الله وفي أهل المعاصي، فالقرب منهم شر، ولذلك: لما أراد الرجل التوبة في آخر عمره وقد قتل مائة نفس آخرها عابد جاء إلى عالم فسأله: هل لي من توبة؟ قال: وما يمنعك منها ولكن قريتك قرية سوء فاذهب إلى قرية كذا فإن فيها قوما صالحين، فخرج إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق -في القصة المشهورة المعروفة- فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله إليهم ملكا أن قيسوا ما بين القريتين وفي رواية: (أن الله رمى بصدره إلى قرية الصالحين) يقول بعض العلماء: أتعجب من هذا الحديث؟ فإن الله جعل الصالحين الذين هم مستقيمون على طاعة الله ومرضاته خيرا للإنسان حتى في حسن الخاتمة؛ لأنه خرج وهو يحبهم، وخرج وهو يريد أن يكون معهم وفي زمرتهم فما خيبه الله جل جلاله. فالإنسان إذا كان هذا حاله في رفقة الناس الذين قد لا يرافقهم إلا في العشية أو الضحى فكيف بامرأة لا يفارقها إلا قليلا؟ فعلى المسلم أن يحرص في اختياره للزوجة التي تخاف الله عز وجل، فإذا ساءت أو تغيرت أو تنكبت قال لها: اتق الله، فرعدت فرائصها من خشية الله عز وجل. الدين كله خير، ومن ظن أن الدين شر فإنه -والعياذ بالله- يصير شقيا طريدا من رحمة الله، الدين كله خير: خير لك في زوجتك خير لك في ولدك في أهلك، وانظر إلى الناس منذ عهد قبل ثلاثين سنة أو أربعين سنة كانوا ينشئون أبناءهم على الدين، وأهم شيء عندهم الدين، فكانت هذه حياة الناس وهم في أشد الفقر، ومع ذلك ما وجدنا أحدا مات من الجوع، وجدناهم في عزة وكرامة، وتجد الرجل حافي القدمين عاري الجسد إذا استنصره أخوه نصره، وإذا استعان به بعد الله أعانه، وتجد فيه كمال النخوة والأخوة والشيمة والوفاء، حتى وهو فقير يذهب يتدين من أجل أن يقري ضيفه ويذبح له، هذه كلها معان كانت موجودة عندما كنا نحس أن الدين لنا ولأبنائنا. ثم نشأت ناشئة يقولون: إن الدين تعقيد للولد وللذرية، ولا أريد امرأة متدينة، فهي تعقدني وتضيق علي، فتزوج التي لا دين عندها فدمرت حياته وأشقته، وتنكب بها عن صراط الله عز وجل، فقفلت عنه -والعياذ بالله- أبواب الخير؛ لأن أبواب الخير كلها لا تأتي إلا من طاعة الله عز وجل، فالمرأة العاصية البعيدة عن طاعة الله كلها بلاء وشر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) الشر يأتي من العصيان، فالمرأة التي تخاف الله وتراقبه كلها خير. فلما أصبح الناس يخافون من الدين وأصبحوا يتغربون عنه، فيقول قائلهم: ما أريد امرأة متدينة، ما أريد أولادي يتدينون، حتى جاء اليوم الذي يقف فيه الابن على والده فيهزأ حتى من ثوبه، وجاء اليوم الذي يرى فيه الأب ابنه مكشوف الساقين فيموت كمدا وغيظا أن ولده الذي كان يعرفه برجولته وفحولته أشبه بالمرأة في ضياعه وتكسره، نسأل الله السلامة والعافية. كل من انصرف عن الدين وظن بالدين ظن السوء فإن الله يخذله ويبتليه من حيث ظن؛ لأن الله عظيم، ومن يكابر الله فإن الله يهلكه ويمقته، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل إذا أراد أن يختار امرأة فيختار المرأة الصالحة. أما هذه المرأة إن كانت سببا في بعدك عن والديك، وبعدك عن طاعة الله فإما أن تأمرها بطاعة الله وتلتزم وتعطيها ثلاثة أيام أو أسبوعا بالكثير تلتزم فيه إلتزاما صادقا، تتأدب فيه مع والديك وأهلك، وتقيم فيه حق الله عز وجل وحق أهلك وإلا فطلقها، وأسأل الله أن يبدلك خيرا منها، فهذه المرأة لا خير فيها، وهي شؤم عليك، وما دامت بهذه المثابة بعيدة عن الله عز وجل وعن طاعته، فوالله لا تجني منها خيرا، وعلى هذا إذا أردت النجاة بنفسك فانج، وإذا أردت أن تستمر فيما أنت عليه فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعافينا من هذا البلاء، فإنه من أعظم البلاء أن يرى الإنسان النار أمام عينيه ويتقحمها على بصيرة، وهذه المرأة شقاء لك في دينك ودنياك وآخرتك. وإذا تزوجت المرأة راقبها في دينك، وراقبها في أهلك وولدك وبالأخص في الوالدين، وراقبها مع قرابتك كأخواتك، فامرأة تحببك في والديك وتأمرك ببرهما، وتحثك وتحضك على الوفاء لهما والإحسان إليهما وإكرام صحبتهما فإنها المرأة الصالحة، والمرأة التي تأمرك بإخوانك أن تصلهم ولا تقطعهم، وأن تحسن إليهم ولا تسيء، وأن تصلهم ببرك وحنانك وإحسانك وتكون معهم في الشدائد فإنها نعم المرأة والله، ونعم الفراش للإنسان، هذه هي المرأة التي ينبغي أن يحرص عليها الإنسان وأن يعض عليها، وإذا وجدها يكرمها ويحسن إليها حتى تثبت على طاعة الله، وتكون خيرا له في دينه ودنياه وآخرته. أما إذا وجدتها تبعدك عن والديك وتحتقر والديك وتسبهما في حضرتك، أو تنزع ثقتك من والديك، أو تسيء ظنونك بوالديك، أو تبعدك عن إخوانك وأخواتك وأهلك وقرابتك فذكرها بالله، فإن التزمت بطاعة الله وإلا فبادر بفراقها؛ لأن هذه المرأة سينتقل بلاؤها إليك، وستؤثر عليك يوما من الأيام، أو على الأقل -وليس بقليل- ستؤثر على أولادك فينشئون عاقين لك والعياذ بالله، فكما أمرتك بالعقوق فستأمر من تحتها وتحثهم على ذلك وتحضهم، وعلى الإنسان أن يتقي الله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} [الطلاق:2] ، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [الطلاق:4] ومن يتق الله فإن الله يجعل له من كل ضيق فرجا ومخرجا، فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وكل شيء علمنا أن فيه خيارا بين الدين والدنيا فلنقدم الدين على كل شيء، ومن كان لله كان الله له، ومن حسنت نيته حسنت عاقبته، وأصلح الله له في أموره كلها، ويسر له الخير حيثما توجه. ولذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد السفر فقال: (يا رسول الله! إني أريد السفر فزودني، قال: زودك الله التقوى، قال: زدني، قال: وغفر ذنبك، قال: زدني، قال: ويسر لك الخير حيثما توجهت) والخير لا يتيسر للعبد حيثما توجه إلا إذا كان كل من حوله يعينه على الخير ويثبته عليه، ومن ذلك المرأة تكون صالحة دينة تخاف الله، والصالحة التي زكاها الله عز وجل من فوق سبع سماوات: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء:34] تأمنها على دينك تأمنها على صلاتك تأمنها على طاعتك لربك، إذا نمت عن الصلاة أيقظتك، وإذا أردت أن تزكي مالك ذكرتك بالزكاة وحثتك عليها وخوفتك من ربك، كذلك أيضا تأمنها على أهلك وولدك وقرابتك، وعلى الناس أجمعين، فمثل هذه المرأة إذا ظفر بها الإنسان فليحسن إليها، وليكن عونا لها على طاعة الله، وليشكر ما يكون منها من الخير. ولتكن هذه القصة عبرة لكل ملتزم، فإن الإنسان الصالح الذي وفقه الله لزوجة صالحة عليه أن يحمد الله على العافية، وبمثل هذه الحوادث يحس كل ملتزم عنده امرأة صالحة أنها أعظم من الجوهرة النفيسة وأغلى والله، والمرأة الصالحة في زمان الفتن جواز الائتمام بالمأموم إذا لم يدرك مع إمامه ركعة فأكثر الجواب المأموم تبعا لإمامه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فهو تابع وغير متبوع، ولو قلنا: إن المأموم يصير إماما، فإن هذا لا يتحقق بوصف الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة بين المأموم والإمام، والقسمة لا تقتضي التشريك، فدل على أن المأموم لا يكون إماما ومؤموما في وقت واحد، وبناء على ذلك نص العلماء على أنه لا يقتدى بالمأموم لا في حال متابعته للإمام، ولا في حال إتمامه، بشرط أن يكون قد أدرك مع الإمام ركعة فأكثر، أما لو أنه أدرك الإمام في التشهد الأخير أو أدركه بعد الرفع من الركوع الأخير فإنه في حكم المنفرد، وهناك فرق بين إدراك فضيلة الإمامة وإدراك حكم الإتمام، ولذلك إذا أدرك الإمام بعد رفعه من الركعة الثانية يوم الجمعة يتمها ظهرا، فدل على أنه غير مرتبط بالإمام؛ لأنه لو كانت مرتبطة بالإمام لأتمها جمعة ولصلى ركعتين. السؤال ما حكم من صلى خلف مأموم قام ليكمل صلاته بعد انتهاء الصلاة مع الجماعة، فهل صلاته صحيحة وجزاكم الله خيرا؟ فبناء على ذلك قال جمهور العلماء: هناك فرق بين إدراك الجماعة حكما وبين إدراكها فضلا، فهو بإدراكه ولو قبل تسليمة الإمام بلحظة واحدة فقد أدرك فضيلة الجماعة؛ ولذلك لا يجوز له أن ينتظر حتى يسلم الإمام ما دام داخل المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدركتم فصلوا) فنهى عن الشذوذ والخروج عن جماعة المسلمين، ولذلك قال للرجلين لما رآهما لم يصليا: (ألستما بمسلمين؟) وأمر المأموم أن يتابع الإمام وأن لا يرفع رأسه قبله، كل هذا لكي لا يحدث شذوذ عن جماعة المسلمين مادام وأنهم في مسجد واحد، وأمر من صلى في بيته أن يعيد الجماعة، كل هذا يؤكد أهمية الجماعة نفسها خلافا لما قاله بعض أهل الرأي من بعض فقهاء الحنفية وغيرهم أنه يجوز له إذا لم يدرك الركوع الأخير أن يبقى حتى يسلم الإمام أو يحدث جماعة ثانية، ولذلك من قال بهذا القول لو قلنا له: يحدث جماعة ثانية، فالإجماع على أنه لا يجوز إحداث جماعة ثانية مادامت جماعة المسجد منعقدة، وهذا هو المحفوظ في كلام العلماء والأئمة رحمهم الله. فإذا كان لا يجوز إحداث الجماعة الثانية فمعنى ذلك أن الحق للجماعة الأولى، والجماعة الأولى لا تنتهي إلا بالتسليم، أضف إلى نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما أدركتم فصلوا) فدل على أن من أدرك الإمام ولو قبل التسليم بلحظة يجب عليه أن يصلي، وكذلك من الخطأ لو أدرك الإمام وهو ساجد أن يقف، فتجد بعض الناس يقف وينتظر حتى يرفع الإمام من السجود وهذا من الخطأ؛ لأن هذه السجدة يرفعك الله بها درجات، وأقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا، وتكفر بها الخطيئات، وقمن أن يستجاب للعبد، كل هذه الفضائل يتركها الإنسان من تخذيل الشيطان له. ولذلك نقول: إن المأموم ملزم بمتابعة إمامه وصلاته بصلاة الإمام، فإذا سلم الإمام ولم يدرك معه شيئا إلا التشهد أو السجدة الأخيرة أو السجدتين أو الرفع من الركوع فإنه يجوز حينئذ أن يصير إماما؛ لأنه منفرد، ولذلك بالإجماع يكون في حكم المنفرد، ويقوم ويصلي الصلاة وهي تامة، وتكون الركعة الأولى ركعة أولى لصلاته؛ لأنه لم يدرك مع الإمام شيئا، فلو دخلت مع رجل بعد رفع الإمام من الركوع الأخير، فإذا سلم الإمام ائتم بك وصحت لكما جماعة، ولكن وقعت الجماعة بعد تسليم الإمام وحصلتم على الفضيلة؛ لأن الشرع رغب في صلاة المسلم جماعة أكثر من صلاته منفردا، وحث عليه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين -وفي رواية بخمس وعشرين- درجة) وبناء على ذلك فإنه يجوز للمأموم أن يأتم بالمأموم إذا لم يدرك مع إمامه شيئا كركعة فأكثر، أما لو أدرك الركعة فأكثر فإنه لا يجوز أن يأتم به، والله تعالى أعلم. المبطون شهيد بأي نوع من أنواع المرض الجواب كل من مات بمرض البطن فإنه شهيد، والشهادة على مراتب ودرجات أعظمها وأفضلها وأجلها عند الله سبحانه وتعالى الشهادة في سبيل الله، من قتل وهو مقبل غير مدبر لإعلاء كلمة الله لا حمية ولا شجاعة ولا رياء ولا سمعة، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل واستشهد فإن هذا أفضل أنواع الشهادة، ثم الشهادة في سبيل الله تختلف على مراتب، والشهداء عند الله عز وجل على مراتب، يفضل بعضهم على بعض، فأعظم ما تكون الشهادة إذا كان البلاء عظيما، وتختلف هذه الشهادة العظيمة باختلاف الأحوال، فقد يستشهد الإنسان وما في جسده موضع إلا وفيه طعنة أو ضربة في ذات الله عز وجل، وقد يستشهد وهو لا يهاب الموت. السؤال هل من يموت بمرض البطن يعتبر شهيدا من شهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كذلك مرض السرطان عافانا الله وإياكم؟ يعني: هناك أمور تفضل بها الشهادة باطنة وظاهرة، فالأمور الباطنة ما يكون في قلبه من حب للجنة وشوق إليها، حتى إن في بعض الأحيان ربما يكون الإنسان في الجهاد ويرى موقفا فيخاف من الموت طبيعة وفطرة، ولكن إذا كمل إيمانه ووصل إلى مراتب اليقين تصبح الجنة بين عينيه كما قال الصحابي رضي الله عنه: (إني لأجد ريح الجنة دون أحد) وكان هذا وهو في الحياة، فلما كمل طلبه للجنة وبيعه لنفسه لله وفي الله قال: (والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد) ، وهذا شيء فوق خيال الإنسان وفوق تصوره، أنه في الدنيا ولم تقبض روحه ولكن أبى الله إلا أن يبشره بالجنة قبل أن يخرج من الدنيا، (إني لأجد ريح الجنة دون أحد) وهذا كمال اليقين وكمال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فتسلم لموعود الله مؤمنا بما عند الله عز وجل، كأن الجنة بين عينيك، وإذا كملت شهادة الإنسان عظمت منزلته وارتفعت، ثم شهادة الشهيد العالم ليس كالشهيد الذي هو دون ذلك، فإذا أراد الله أن يعظم للعبد مرتبة الشهادة جمع له بين العلم والشهادة، فيكون في أعلى المراتب التي نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم من أهلها. وأما بالنسبة لشهادة البطن فتكون بالأمراض التي تصيب الإنسان سواء كانت -أعاذنا الله وإياكم- من مرض السرطان أو كانت بالقرحة أو غير ذلك من الأمراض، حتى ذكر بعض العلماء أنه لو ابتلع شيئا وهو لا يعرف أن فيه الضرر ثم تسمم جوفه أو شيئا من الحديد وهو لا يدري فقطع جوفه ومات بسبب ذلك أنه يعتبر مبطونا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا شهداء أمتي قليل، ثم ذكر عليه الصلاة والسلام: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، وصاحب الهدم شهيد، والنفساء شهيد) إلى آخر الحديث، فعد عليه الصلاة والسلام من الشهداء من مات في بطنه، نسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا شهادة في سبيله، وأن يتقبل ذلك خالصا لوجه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم. التجاوز عن المعسرين من أفضل الأعمال الجواب هذا من ربا الآخرة إذا سامحته في خمسمائة أعطاك الله أضعافها؛ لكنه ربا طيب وربا مباح وربا مشروع، والله عز وجل يربي الصدقات كما أخبر سبحانه وتعالى أي: يزيدها ويضاعفها، يتلقاها بيمينه وكلتا يدي الرحمن يمين كما في الصحيح، فيربيها وفي رواية فينميها، (فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه -والفلو: هو صغير الخيل- حتى يجدها يوم القيامة أعظم ما تكون) ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: لا ينبغي للإنسان إذا نوى الصدقة أن يتأخر، يعني: ممكن أن تأتي على باب المسجد وتجد السائل وتقول: إذا خرجت أعطيه فهذا الوقت الذي أخرت فيه الصدقة لو أعطيتها السائل يضاعف الله فيه صدقتك أضعافا كثيرة لا يعلمها إلا الله، وهذا هو الربا الذي يربيه الله عز وجل في الصدقات. السؤال أقرضت شخصا خمسمائة ريال، وبعد فترة طلب مني المسامحة والإعفاء فهل يجوز لي أن أسامحه وأعفيه، وهل يدخل ذلك في ربا الجاهلية؟ وهذا مما ندب الله عز وجل إليه، ومن أفضل الصدقة وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى الصدقة على المديون، خاصة إذا كان معسرا أو كان في ضائقة واهتم واغتم لدينك، فجئته ووقفت عليه وقلت له: إني مسامحك لوجه الله، أو إني قد عفوت عن المال أو أنت في حل من المال الذي أعطيتك، فإن هذا من أحب ما يكون، فالتجاوز عن المعسر والتسامح معه كل ذلك من القربات، والباقيات الصالحات التي يجدها الإنسان في الحياة وبعد الممات، ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (كان فيمن كان قبلكم رجل يعطي الناس ماله دينا وقرضا، وكان يوصي أعوانه ويقول: إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا) . الرحمة ما تكون في عبد إلا أصاب خير الدنيا والآخرة، هذه الرحمة التي وصف الله بها المؤمنين فقال: {رحماء بينهم} [الفتح:29] فيقول: (إذا وجدتم معسرا فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا) بخ بخ! إذا أعطى الله الدنيا للعبد فجعل الآخرة نصب عينيه، فهو الموفق السعيد وهذا العبد الصالح لما كانت التجارة بين يديه والدنيا بين يديه جعل الآخرة نصب عينيه، فهو يخاطب من تحته ويخاطب أعوانه قائلا: (إذا وجدتم معسرا فتجازوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا) ففي الصحيح أنه يلقى الله عز وجل يوم القيامة فيقول الله لملائكته: (نحن أحق بالتجاوز عن عبدي، تجاوزوا عن عبدي فقد غفرت له) . فهذه من أحب الأعمال إلى الله، وأحب القربات إلى الله سبحانه وتعالى، وبالأخص إذا كانت في حق المحتاجين والمعسرين كأصحاب الأسر الفقيرة والأيتام والأرامل، فمسامحتهم والتجاوز عنهم، كل ذلك مما يؤذن برحمة الله للعبد وحصول البركة والخير في المال والولد، فإن الصدقة خيرها عظيم ونفعها عميم، نسأل الله العظيم أن يوفقنا لما يرضيه والله تعالى أعلم. لزوم إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين الجواب هذا فيه تفصيل: إذا كانت على الشخص أكثر من يمين وأراد أن يكفر عنها فالواجب في كل يمين أن يطعم عشرة مساكين، فإذا أراد أن يطعم شخصا واحدا لا يصح ولا يجزيه عن العشرة؛ لأن الله عز وجل أمر بإطعام العشرة وكسوتهم، فإذا أطعم شخصا واحدا لم يتحقق شرط الشرع ولا وصفه، بناء على ذلك يجب عليه أن يطعم عشرة مساكين، لكن لو أنه نوى اليمين الأولى فأعطى لجاره محمد كفارة وتصدق عليه في اليوم الأول، ثم أعطى تسعة من الجيران المساكين الباقية فحينئذ سقطت اليمين الأولى، فيأتي في اليوم الثاني أو يأتي بعد ساعة بعد أن فرغ بنيته من اليمين الأول شرع في التكفير عن اليمين الثانية، فأطعمه وأعطاه فلا بأس على هذا الوجه أن يكون الإطعام لمسكين واحد في أيمان متفرقة، لا أن يحسب المسكين في اليمين الواحد متعددا، فإن هذا لا يعتبر إطعاما للعشرة على الشرط الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. السؤال هل يجوز إعطاء المسكين الواحد كفارة خمسة أيمان أو فدية عدة محذورات؟ وبالنسبة للفدية قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أطعم فرقا بين ستة مساكين) وبناء على ذلك لابد وأن يكون الفرق -الفرق الذي هو ثلاثة آصع- مفرقا بين ستة مساكين، معناه: أن لكل مسكين نصف صاع، وعلى هذا لابد أن يكونوا ستة مساكين بالنص والحديث، والله تعالى أعلم. أحكام الله عز وجل فيها المصلحة للعباد السؤال أشكل علي أن ثبوت الشفعة قد يؤدي إلى تقاعس الناس عن الشراء لأنهم يعلمون أنهم إذا شروا ما تثبت فيه الشفعة سوف ينتزع منهم؟ أما بعد: ينبغي في الإشكال أن يكون المستشكل دقيق النظر يعني: كون الشفعة تؤدي إلى تقاعس الناس عن الشراء ليس على عمومها، لأن الشفعة أصلا ما تقع إلا في الأشياء التي فيها شركة، وليست كل الأشياء التي تباع فيها شركة، بل لو قال قائل: إن هذا من أندر ما يكون أن يبيع الشريك نصيبه ما تقع إلا في العقارات التي فيها شركة، والغالب أن العقارات لا شركة فيها، ولذلك مسألة أن يتعطل الناس أو أن هذا يؤدي إلى فساد السوق أو إلى الإضرار بالشراء ليس بوارد، يكون واردا لو كان هذا هو الأغلب أو هو الأعم، وحينئذ يكون فيه تضييق ويكون فيه ما ذكر من كونه يعيق الناس عن الشراء. ثانيا: أن الحالة الخاصة إذا ثبت أنها لا تقع إلا في النادر أو في القليل فإنها لا تؤثر، فإن النادر لا يضر؛ لأن النادر قليل والقليل محتمل الضرر، وعلى هذا نقول: على الله الأمر، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، وثق ثقة تامة أنك لن تجد عقدا شرعيا أحله الله عز وجل في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو بهديه وتستشكل فيه شيئا إلا وجدت أضعافه إذا لم تقل بشرعيته، يعني: إذا كان مشروعية هذا العقد فيه إشكال واحد فعدم مشروعيته فيه إشكالات، وعلى هذا لا يمكن لشخص أن يجعل مثل هذا عائقا أو مشكلا يمنع من التسليم بمثل هذا الحكم، رضينا بالله ربا، ورضينا به حكما فاصلا يقص الحق وهو خير الفاصلين سبحانه وتعالى. وبناء على ذلك لا ضرر على السوق ولا مفسدة فيه. ثم الجواب الأخير أن نقول: إنما يكون المشتري متعرضا للشفعة إذا طالب الشريك، فلربما يرضى الشريك أو يسكت، وحينئذ أيضا هذا أمر آخر يضاف إلى ما ذكرناه وهو أنها لا تثبت إلا في أشياء نادرة، ثم أيضا لا يقع فيها إلا إذا اعترض الشريك، وقد يعترض وقد لا يعترض، وبناء على ذلك لا يكون هذا أمرا مشكلا مانعا للتسليم بحكم الله عز وجل والرضا به، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الشفعة ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (380) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [2] الشفعة حق من حقوق الشراكة، وهي مأخوذة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإذا اشترك رجلان في عقار وأراد أحدهما البيع، فللشريك أن يشفع ويضم نصيب صاحبه إلى نصيبه فيصير نصيبه شفعا بعد أن كان وترا، وكما أن للشفعة أحوالا تثبت فيها، فلها كذلك أحوال تسقط فيها. الشفعة التي يصح ثبوتها للشريك بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وتثبت الشفعة لشريك في أرض تجب قسمتها] هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله فيها أن يبين محل الشفعة، هل كل شيء يمكن للإنسان إذا كان شريكا للغير فيه أن يكون شافعا إذا باع؟ عرفنا أنه لو اشترك اثنان في عمارة أو أرض ولم تقسم أنه لكل واحد منهما الحق أن يشفع إذا باع الآخر، لكن لو فرض أنه قسم الشيء المملوك بين الاثنين فأكثر، فعرف كل واحد منهما نصيبه فهل الشفعة ثابتة لو باع أحدهم نصيبه؟ هذه المسألة تعرف بالشفعة في العقار المقسوم. الصورة الثانية: لو اشترك الاثنان في غير عقار كما لو اشتركا في سيارة -فالسيارة من المنقولات- قيمتها مائة ألف، ودفع كل واحد منهما خمسين ألفا، ثم باع أحدهما نصيبه بسبعين ألفا فقال الآخر: أريد الشفعة. فهل من حقه أن يشفع؟ وبعبارة أخرى: هل تثبت الشفعة في المنقولات كما تثبت في العقارات؟ أولا: اتفق العلماء رحمهم الله على أن الشفعة ثابتة ومشروعة إذا كان الشريكان يشتركان في أرض، أي: في عقار ولم يقسم، ومن أمثلة ذلك في زماننا العقارات البور التي لم تبن ولم تستغل مثل أراضي المخططات، فلو أن اثنين لهما مخطط واحد اشترياه بمليون مثلا، أو قطعة أرض كامنة ليس فيها بناء ولا غرس (بور) اشترياها بمليون، كل منهما يملك النصف أو لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث فباع واحد منهما بالإجماع للآخر حق الشفعة؛ لأن الأرض أو العقار الذي لم يقسم بالإجماع تقع فيه الشفعة، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه في الصحيح: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الشفعة ثابتة في العقار الذي لم يقسم: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) . هذا الحديث يدل على مسألتين: المسألة الأولى: أن الشفعة في العقارات؛ لأنه قال: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فدل على أن محل الشفعة إنما هو العقارات لا المنقولات، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، بناء على ذلك كل شيء من غير العقارات -من غير الأراضي- لا شفعة فيه، فإذا باع أحد الشريكين نصفه الذي في السيارة أو نصفه في صفقة طعام، أو شريكان في تجارة ألبسة أو غير ذلك فباع أحدهما نصيبه فليس للآخر حق الشفعة إذا كان من المنقولات، الشفعة تنحصر فقط في العقارات. ثم العقارات تنقسم إلى قسمين: العقار الذي لم يقسم، ولم يعرف كل واحد من الشريكين نصيبه، والعقار الذي قسم وميز فيه نصيب كل واحد منهما عن الآخر، فإذا كان العقار لم يقسم كأرض اشترك فيها اثنان ولم يقسماها بينهما، سواء كانت مبنية كالعمارة أو كانت فيها غلة كالمزارع ونحوها، أو كانت أرض (بور) فجميع هذه الأنواع من العقارات تثبت فيها الشفعة. أما إذا كان العقار قد قسم ومن أمثلته: لو اشترى اثنان أرضا ثم اتفقا على أن تقسم هذه الأرض بينهما بقدر حصة كل واحد منهما من رأس المال، فاتفقا على قسمتها مناصفة، فقسمت وبني الجدار بين الطرفين، أو اتفقا على أن يجعلا طريقا بينهما فحينئذ انفصل كل منهما عن الآخر، فوقعت الحدود، وصرفت الطرق، ولذلك الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق وفي رواية: صرفت الطرق -بعضهم يقول بالتشديد وبعضهم بالتخفيف، أي: تبينت الطرق- فلا شفعة) فقسم هذا الحديث الناس في الشركة إلى قسمين: عقار لم يقسم، وعقار قسم وعرف كل شريك نصيبه. فإذا كان العقار لم يقسم قلنا بالإجماع لا شفعة فيه، وأما إذا قسم وعرف كل واحد منهما نصيبه فاختلف العلماء رحمهم الله فيه، هل من حقك أن تشفع إذا كان العقار قد قسم وفصل كل واحد منكما نصيبه عن الآخر، أو ليس من حقك؟ كذلك يتبع هذه المسألة، هل من حقك أن تشفع في عقار جارك الذي يلاصقك؟ فلو أن جارك باع عمارته والعمارة ملاصقة لعمارتك، أو باع مزرعته وهي ملاصقة لمزرعتك، فهل المجاورة في العقار يثبت الشفعة أو لا؟ ظاهر الحديث اختصاص المسألة بمجاورة الدور، فكلام العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا شفعة للجار في دار جاره، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله من حيث الجملة المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع. القول الثاني: تثبت الشفعة في العقار الذي قسم، وتثبت الشفعة لجار الدار إذا باع جاره داره، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم. هناك قول ثالث توسط بين القولين وهو: إذا باع الجار داره وكانت ملاصقة لدارك، والطريق الذي بينكما واحد، وبينكما مرفق أو مصلحة مشتركة، كأن يبيع مزرعته، ومزرعتك ومزرعته تستقيان من بئر واحدة، فحينئذ من حقك الشفعة، فأصحاب القول الثالث يقولون: تثبت الشفعة في العقار الذي قسم، وللجار في أرض جاره بشرط اشتراكهما في مرفق من المرافق، إما طريق، أو بئر أو نحو ذلك من المصالح المشتركة حتى يثبت الضرر، بحيث إذا جاء جار غريب غير الجار الذي كنت ترتاح له أو كان معك سابقا تضررت منه. والجمهور حين قالوا: لا تثبت الشفعة للجار، استدلوا بالحديث الذي تقدم معنا في الصحيح عن جابر رضي الله عنهما: (قضى رسول الله صلى عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) هذا الحديث وجه الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الشفعة إذا عرف كل واحد نصيبه، فدل على أن الجار لا يملك الشفعة في أرض جاره. وأما أصحاب القول الثاني فقد استدلوا بأحاديث منها: ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار أحق بصقبه) . والصقب اختلف في تفسيره: فمن العلماء من حمله على العموم واستدل به على مسألتنا. ومنهم من قال: إن المراد بالصقب الإحسان والبر والصلة، فالجار ينبغي للإنسان أن يتوخى وأن يكون شديد الحرص على الإحسان إليه والبر، وهو أحق ببر جاره من سائر الناس، بناء على هذا الحديث (الجار أحق بصقبه) من حيث العموم يدل على الشفعة، أكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في السنن: (جار الدار أحق بالشفعة في دار جاره، ينتظر بها إن كان غائبا) هذا الحديث نص على أن جار الدار من حقه أن يشفع فيأخذ دار جاره إذا بيعت. أما الذين قالوا بالتفصيل فقد استدلوا برواية عند أحمد في مسنده وأبي داود والترمذي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بدار جاره، ينتظر بها إذا كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا) وفي الحقيقة هذا القول اختاره جمع من العلماء من فقهاء الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله عليهم، وبعض المتأخرين كالإمام الشوكاني وغيرهم رحمهم الله، وهو أعدل الأقوال إن شاء الله وأولاها بالصواب؛ لأنه يجمع بين النصوص. فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالأصل أنه إذا عرف كل واحد نصيبه فلا شفعة، وقوله: (إذا كان طريقهما واحدا) تخصيص من عموم، والقاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنحن نسلم بالأحاديث التي أثبتت الشفعة في مال لم يقسم، ونسلم بالأحاديث التي أثبتت الشفعة في الجوار، بشرط وجود مصلحة ومرفق مشترك بينهما؛ ولأن العقل والنظر الصحيح يدل عليه، فإنهما إذا كانا شريكين في بئر واحدة، كأن تكون مزرعتان وبئرهما واحد، وجاء جار غير الجار الذي أنت ألفته ورضيته، ربما أضر بك وضايقك، وحصل من ذلك الأذية والضرر كما يحصل في حال اختلاط الاثنين في ملك واحد. وعلى هذا فإنه تثبت الشفعة لجار الدار إذا أراد أن يشفع في دار جاره بشرط أن يكون الطريق واحدا، وكذلك تثبت الشفعة لصاحب المزرعة إذا باع جاره مزرعته وكانت هناك مرافق بينهما مشتركة، كالعين الواحدة، والنهر الواحد، والسيل الواحد الذي يستقيان منه، والبئر الواحدة التي يستقيان منها، وبهذا يجمع بين النصوص، وعليه فإنه يعتبر تخصيصا من العموم الدال على أنه لا شفعة من حيث الأصل إلا في الشريك المقاسم. ما تثبت فيه الشفعة قال رحمه الله: [ويتبعها الغرس والبناء لا الثمرة والزرع] ويتبع الشفعة في الأرض الغرس والبناء، فإذا كنتما شريكان في مزرعة فزرعتما فيها فباع شريكك نصيبه، فإن الشفعة تثبت في الأرض والغرس تابع، وكذلك لو اشتريتما أرضا وبنيتما فيها فالشفعة ثابتة في الأرض والبناء تابع لها، وبناء على ذلك تثبت الشفعة في الأراضي وفي الدور وفي المزارع، فلا تختص بالأرض فقط إذا كانت بورا يعني: غير مبنية ولا مزروعة، بل تشمل الأرض البور وكذلك الأرض المستغلة التي فيها زرع أو بناء. قوله: (لا الثمرة والزرع) ، أي: لا تثبت الشفعة في الثمرة إذا باعها وقد أبرت، صورة المسألة: اثنان مشتركان في مزرعة، باع أحدهما نصفه من هذه المزرعة لرجل، واشترط المشتري الثمرة وكان النخل قد أبر، فحينئذ أصبحت الصفقة فيها شيئان: الأرض مع ما عليها من الغرس، والثمرة التي هي نتاج الغرس، فالأرض مستحقة بالعقد، والثمرة مستحقة بالشرط، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في كتاب البيوع، فإذا حصلت شفعة في أرض بيعت وفيها غرس والغرس له ثمرة ووقع البيع، أو فيها نخل قد أبرت وثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فهذا الأجنبي الذي اشترى الأرض واشترط ثمرتها لو اعترض الشريك وقال: أنا شافع فإنه يستحق استرداد الأرض والزرع ولا يستحق استرداد الثمرة؛ لأن الشفعة إنما هي في العقارات لا المنقولات، والزرع منقول لكنه وقع تبعا، والثمرة استحقت بالشرط -بترتب العقد- ولم تستحق بالعقد نفسه. قال: [فلا شفعة لجار] الفاء للتفريع، إذا ثبت أن الشفعة تثبت في الأرض التي لم تقسم فلا شفعة للجار، وقد بينا هذه المسألة، فلو سأل سائل: هل من حق الجار أن يشفع في أرض جاره إذا بيعت؟ قلنا: الجواب عن ذلك فيه تفصيل: إن كان طريقهما واحدا كان من حقه، وإذا لم يكن طريقهما واحدا فليس من حقه أن يشفع. متى تثبت الشفعة ومتى تسقط قال رحمه الله: [وهي على الفور وقت علمه] (وهي) -أي: الشفعة- (على الفور) أي: لا يجوز للشريك أن يتأخر في طلب الشفعة، وهذا شرط من شروط ثبوت الشفعة، أنه بمجرد علمك أن شريكك قد باع تقول: أنا شافع، فبمجرد العلم تشفع، فإذا كنت في مكان بعيد عن أرضك، أو عن الموضع الذي فيه أرضك تشهد عدلين أنك شافع وتقول: اشهدا أني شافع، فإذا لم يطالب بها فورا فقد سقط حقه. مثال ذلك: لو أن اثنين كانا شريكين في أرض، فباع زيد نصيبه، فلما علم عمرو سكت، مثلا: جاءه شخص عصرا وقال له: إن زيدا قد باع نصيبه فسكت، فلما جاءت صلاة المغرب قال: أريد أن أشفع، أو لما جاء من الغد قال: أريد أن أشفع نقول: سقط حقك؛ لأن الشفعة لا تثبت إلا إذا طالبت بها على الفور، وهذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، ولذلك قضى به أئمة السلف، وممن قضى بذلك شريح الكندي رحمه الله قاضي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أربعة من الخلفاء الراشدين تولى هذا الإمام الجليل رحمه الله القضاء لهم، وكان يقول: الشفعة لمن واثبها، يعني: بادر وعجل بها. ومفهوم ذلك: لا شفعة لمن لم يعجل بطلب الشفعة، ويروى هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يصح ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نبه على ذلك الإمام الحافظ الزيلعي رحمه الله في نصب الراية، والأقوى أنه من قول شريح وقضائه، أن الشفعة لمن بادر، وأجمع العلماء على ما هو منصوص عليه في كتب أهل العلم، ولا يعرف مخالف أن الشفعة معجلة، ولو قلنا: إن الشفعة يجوز تأخيرها لانفتح بسبب ذلك باب من الضرر لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، فيأتي شخص ويشتري من الشريك، فيسكت الشريك الآخر ويتركه حتى يبني الأرض، ثم بعد خمس سنوات أو ست يقول: أنا شافع، فهذا يفتح على الناس بابا عظيما من الضرر. ولذلك قال بعض العلماء: الشفعة ضعيفة تسقط بالأقل يعني: تسقط بأوهن الأشياء، فهي ثابتة صحيحة، لكن جعل الشرع سقوطها لأنها على خلاف الأصل، فتسقط بأوهن الأشياء، وهذه عبارة أكثر من واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، أن الشفعة ضعيفة وتسقط بأوهن الأشياء، وعلى هذا فلو تأخر عن المطالبة فهمنا من سكوته أنه راض بدخول الشريك، ويكون إهمالا منه وتقصيرا، ويسقط حقه بذلك في الشفاعة. قال رحمه الله: [فإن لم يطلبها إذا بلا عذر بطلت] (فإذا لم يطلبها) يعني: لم يطلب الشفعة (إذا) أي: إذا علم فالتنوين عوض عن جملة ولم يطالب بالشفعة وقت علمه سقط حقه. قال رحمه الله: [بلا عذر] إذا الشرط في إسقاط حق الشريك في مطالبته بالشفعة أن لا يكون عنده عذر، أما لو كان عنده عذر فإنه لا يسقط حقه؛ لأن المعذور معذور، وقد عذر الله عز وجل في حقوقه وعذر في حقوق عباده، فإذا كان عنده عذر فتأخر عن المطالبة لوجود هذا العذر فإنه حينئذ لا يسقط حقه، وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى بعض المسائل التي تنبني على هذا. قال رحمه الله: [وإن قال للمشتري: بعني أو صالحني، أو كذب العدل، أو طلب أخذ البعض سقطت] تسقط الشفعة إما باللفظ الصريح أو بالشيء الضمني سواء كان من الأقوال أو كان من الأفعال، فإذا كان هناك شريكان باع أحدهما وعلم الآخر فقال: لا أريد الشفعة، فهذا مسقط للشفعة، ويكون سقوطها هنا باللفظ الصريح: (لا أريد الشفعة) (لست بشافع) (أبرأتك من الشفعة) (لا شفعة لي) كل هذا من الألفاظ الدالة على أنه ليس بشافع، فإذا تلفظ بلفظ صريح يدل على إسقاط حقه فلا إشكال في سقوط الشفعة، لكن هناك ألفاظ أو تصرفات تصدر من الشريك توجب سقوط الشفعة في حقه، فمثلا: إذا قال للمشتري الجديد: (بعني) فمعناه أنه قد رضي بملكيته، كان المفروض أن يقول: أنا شافع، لكن حينما قال له: (بعني) فمعناه أنه قد اعترف بملكيته، ورضي بدخوله شريكا له، فإذا قال له: بعني أثبت له اليد. ولذلك هناك عبارات ليست صريحة في الدلالة على شيء، لكنها تتضمن الدلالة عليه، فأنت إذا جئت إلى رجلين مختصمين يقول أحدهما للآخر: أعطني حقي الذي هو ألف ريال، فقال له: يا أخي! أعطيتك الألف، فإذا قال: أعطيتك الألف اعترف أنه قد أخذ منه ألفا، هو لم يقل: أعترف أن لك عندي ألفا وإنما قال: أعطيتك الألف، فمعناه أنه قد أقر أن في ذمته ألفا لهذا المدعي، ويدعي هو أنه قد ردها، فإذا قد نستفيد من بعض الألفاظ الدلالة على غيرها. فهو إذا قال له: بعني، دل على أنه قد رضي بكونه شريكا له؛ لأنه لا يبيع إلا من يملك، ولا ملكية إلا إذا دخل شريكا له بالعقار، ولا يدخل شريكا له في العقار إلا إذا أسقط حقه في الشفعة، ولذلك يقول العلماء: إنه إذا قال للشريك: بعني، فقد سقط حقه في الشفعة. قال: [أو صالحني] إذا قال له: صالحني، عدل عن حقه إلى المصالحة، وبناء على ذلك يكون اعترافا ضمنيا بإسقاط حقه في الشفعة. قال: [أو كذب العدل] جاءه رجل معروف بالصدق ومعروف أنه لا يكذب، أو يعرف أمانته واستقامته، والعدل: هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، والعدل الذي ترضى شهادته كما قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] فالعدل هو الذي يرضى في الشهادة ويرضى في الأخبار، فلو جاءه رجل من قرابته يعرفه أمينا صادقا لا يكذب، وقال له: شريكك باع نصيبه، فقال له: لا ما باع نصيبه، وسكت ولم يطالب بشفعته، فمعناه أنه قد بلغه خبر البيع فلم يطالب بحقه فسقطت الشفعة؛ لأنها على الفور، فلما لم يبادر بها يكون تكذيبه للعدل واقعا في غير موقعه، كما لو رأى الشيء؛ لأن العادل يصدقه، وإذا قال له: إن فلانا قد باع فمعنى ذلك أنه لا عذر له في تكذيب هذا البيع، ولا عذر له في المطالبة بالشفعة، فلما لم يكن عنده عذر في جميع ذلك سقط حقه في الشفعة، وحينئذ لو طالب بها بعد ذلك فإنه لا شفعة له. قال: [أو طلب أخذ البعض سقطت] لو قال للمشتري الجديد أو الأجنبي الذي اشترى: هذه الألف متر التي اشتريتها أشتري منك نصفها، أو أنا شافع في نصفها، إذا قال: أشتري سقط حقه، إذا قال: أنا شافع في نصفها سقط حقه في الكل؛ لأنه لابد من أخذ الكل أو ترك الكل، فلا تتجزأ الشفعة ولا تتبعض. الأسئلة إذا شفع الشافع في أرض فعليه دفع المبلغ كاملا إذا اشترط المشتري الثمرة السؤال إذا شفع شريك في أرض مزروعة وكان المشتري قد اشترط الثمرة فهل يدفع الشافع المبلغ كاملا أم أنه ينقص منه بمقدار ثمن الثمرة؟ الجواب الثمرة تستحق بالشرط، وقد ذكرنا هذا في باب البيع، وبناء على ذلك يدفع قيمة الصفقة كاملة، وأما الثمرة فإنها مستحقة بالشرط وليست مستحقة بالثمن، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها، وذكرنا مذهب الجمهور والعلماء رحمهم الله، استنادا لحديث ابن عمر في الصحيحين: (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فهذا الحديث يدل على أن الثمرة تتبع الأصل وهو النخل، وإذا كانت تتبع الأصل والنخل معناه أنها لا قيمة لها، وليست بمستحقة بالعوض، ولذلك جاز استحقاقها بالعقد؛ لأنها قبل بدوء صلاحها ممكن أن تستحق بالعقد، وممكن أن تستحق بالشرط كما ذكرنا، وعلى هذا فإنه يأخذ الأرض والنخل ولا يملك الثمرة، والله تعالى أعلم. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم من صلى بالناس إماما فغير نيته من فرض إلى فرض آخر دون علمهم السؤال صلى أحد الشباب مرة بجماعة صلاة العصر، فلما كبر تكبيرة الإحرام كان يظن أنها صلاة الظهر وبعد تكبيرة الإحرام مباشرة تذكر أنها صلاة العصر فخرج مباشرة من صلاته بتسليم، ثم كبر مرة ثانية تكبيرة إحرام جديدة بنية لصلاة العصر، كل ذلك فعله والمأمومون خلفه لم يعلموا بتسليمه من الأولى وخروجه منها حيث لم يخبرهم بذلك ولم يشعروا بذلك، وصلوا خلفه بتكبيرته الأولى، فما حكم صلاة المأمومين خلفه في هذه الحالة؟ الجواب هذه المسألة فيها مسائل: المسألة الأولى: من كبر ظانا أنه قد صلى الظهر ثم تبين أنه لم يصلها، فإنه لا يصح أن ينتقل من فرض إلى فرض؛ لأن نيته للظهر بطلت حيث أن ذمته قد برئت من صلاة الظهر، ولا تصلى الصلاة مرتين على أنها صلاة واحدة كما في حديث أم المؤمنين حفصة: (نهى أن تعاد الصلاة مرتين) يعني: أن يعتقد كليهما فرضا؛ لأن الله فرض عليك فرضا واحدا، إذا ثبت هذا لا يمكن أن تكون ظهرا، فبطلت نيته عند تكبيرة الإحرام للظهر، وبطلت نيته للعصر؛ لأن العصر لا تصح نيته إلا مقارنة لتكبيرة الإحرام أو سابقة لتكبيرة الإحرام، ولا تصح نية الفريضة بعد تكبيرة الإحرام؛ لأنها تكون مع تكبيرة الإحرام ويجوز سبقها بتكبيرة الإحرام، بالزمن اليسير. إذا ثبت هذا فنحن نتكلم الآن عن الإمام، كان المنبغي من فقه الإمامة أن يبقى على نية النافلة؛ لأنها امتنعت ظهرا فريضة فتنتقل نافلة خلافا لبعض الحنابلة الذين يقولون: إنها لا تصح فرضا ولا نفلا، فيقلبها نافلة وتصبح له نافلة، يصلي بهم متنفلا وهم مفترضون، ويصح أن يصلي المفترض وراء المتنفل، فقدر الله وما شاء فعل، فلو أنه استمر بنية النافلة لصحت الصلاة له ولهم؛ صحت له نافلة، وصحت لهم اقتداء فريضة ومجزئة وتبرأ ذمتهم، لكن عندما سلم وخرج عن الصلاة الأولى حينئذ لا يجوز أن يسبق المأموم إمامه في تكبيرة الإحرام، وما يمكن أن يقع اقتداء للمأموم بإمام قد سبقه المأموم بتكبيرة الإحرام، ولذلك قالوا: من أحرم منفردا لا ينتقل مأموما، فأصبحوا منفردين، ولو استخلف صحت، على قول من يرى الاستخلاف في هذه الحالة، فالاستخلاف لوجود العذر يصح، فصار عذرا شرعيا كالعذر الذي يتعلق بالطهارة ونحوها. لكن كونه قد سبقت تكبيرتهم؛ لأنه الآن في صلاة ثانية بالنسبة له، أحرم الإمام بصلاة غير الصلاة التي أحرم وراءه فيها المؤتمون، فلا يصح أن يكون إمامهم؛ لأن المأموم يسبق الإمام بتكبيرة الإحرام في صور مستثناة منها: إذا كبر وهو إمام مستخلف، يعني: تأخر الإمام فقدمنا شخصا، فحضر الإمام أثناء تقدم الشخص يجوز أن يدخل الإمام ويكبر تكبيرة الإحرام ويؤخر الشخص أو يجعله عن يمينه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر في الصلح بين حيين من بني عوف، فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم ائتم به أبو بكر، فهذه سبق فيها تكبير المأموم لتكبير إمامه، ومن أمثلتها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه مرض الوفاة بين العباس وعلي رضي الله عنهما يهادى بينهما رآه أبو بكر فذهب يتأخر، فأشار إليه أن مكانك، وجاء وصلى عليه الصلاة والسلام عن يسار أبي بكر، هو الإمام وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر. هنا تقدم تكبير المأموم وهم الصحابة على تكبير إمامهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا للعذر، وهذه المسألة مستثناة من الأصل؛ لأن الأصل وقوع تكبيرة المأموم وراء تكبيرة الإمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فاستثنيت بالنص، واستثنيت بحق الإمامة، ولذلك يقول العلماء: هذا لشرف العلم؛ لأن الإمام لا يتقدم على الناس إلا وهو أعلمهم وأعرفهم بكتاب الله، فإذا حضر كان من حقه أن يتقدم، وفيه دليل على الاعتراف بفضل ذي الفضل؛ لأن الإمام صاحب حق، وعندما تأخر تأخر لعذر، فإذا حضر لا يصلي وراء غيره بل يرجع إلى مكانه؛ لأن الشريعة تبقي له الحق، وتعترف بفضله حينما صار إماما راتبا في غالب أحوال الناس في ائتمامهم به. الشاهد من هذا: ما عندنا مسألة نستثني فيها تقدم تكبير المأموم على الإمام إلا هذه المسألة، ومسألتنا ليست منها. يبقى السؤال: ما حكم صلاة المأمومين؟ صلاة المأمومين عند فقهاء الحنابلة وطائفة من أهل العلم باطلة، لأنهم نووا وأحرموا ودخلوا بصلاتهم قبل أن يكبر الإمام بهم، وبناء على ذلك سبقت تكبيرة الإحرام من المأمومين تكبيرة الإمام، فإذا نظرت إلى كونهم ائتموا به في هذه الصلاة وهم معتقدون أنه إمام فإن هذه النية باطلة؛ لأنها ليست مترتبة على الصلاة الحقيقية التي هم نووها، ولذلك يحكم ببطلان صلاتهم لوجود المفارقة بينهم وبين الإمام، ولا يحرم الإمام عنهم في مثل هذه الصلاة؛ لأنه أحرم بصلاة جديدة عقب إحرامهم، فيحكم بإعادتهم لهذه الصلاة على هذا الوجه، وعليه فالأحوط لهم أن يعيدوا هذه الصلاة، والله تعالى أعلم. مداخلة: الإمام صلاته باطلة أو صحيحة؟ الجواب: بالنسبة للإمام تعتبر صلاته صحيحة، وأما بالنسبة للمأمومين فالأفضل لهم والأكمل والأحوط أن يعيدون هذه الصلاة. حكم تداخل الطواف بالبيت دون الفصل بركعتي الطواف السؤال هل يجوز وصل الطواف سبعة أشواط بسبعة أخرى من غير فصل بركعتي الطواف؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فللعلماء في هذه المسألة وجهان: من أهل العلم من يرى أن كل أسبوع ينبغي أن يصلي بعده الركعتين ولا يصل أسبوعا بأسبوع، وبناء على هذا القول لو وصل أسبوعا بأسبوع فصلى فإنه يكون في حكم من طاف مرة واحدة، أي: أسبوعا واحدا، ولا يقولون بالانفصال، وإنما يحكمون بالتداخل. وقال بعض العلماء كما هو قول طائفة من السلف: يجوز، ويؤثر عن إبراهيم النخعي رحمه الله من أئمة التابعين أنه رخص أن يطوف ثلاثة أسابيع سبعا سبعا سبعا وأسبوعين ثم يصلي بعد ذلك ركعتين ركعتين لكل أسبوع، فيرى بأنه يمكن أن يؤخر الصلوات وأن يبدأ بالطواف. من صور هذه المسألة: قد يكون الإنسان في بعض الأحيان محتاجا إلى ذلك كما لو طاف بعد صلاة الفجر، فالوقت فيه خلاف هل يصلي ركعتي الطواف أو لا يصلي؟ فإذا قيل بالحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة من ليل أو نهار) إذا قيل به أنه أصل وأنه يصلي في كل وقت، حينئذ يكون الأمر فيه سعة، لكن إذا نظر إلى أنه يقوله: (لا تمنعوا أحدا طاف) المراد به عدم التعرض للطائف، وأما بالنسبة للصلاة نفسها فإنه قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح) فهذان حديثان متعارضان أحدهما قصد منه رفع يد المكلفين عن منع الطائف وعن التعرض لمن يصلي ومن دخل في هذا المسجد؛ لأن بني عبد مناف كانوا هم المسئولون عن سدانة البيت، ولذلك نهوا عن التعرض، فأمروا أن لا يتعرضوا لمن طاف بالبيت، فيكون المقصود من الحديث: عدم التعرض فيكون أعم من موضع النزاع. فتقول: الأصل عندي أنه لا صلاة بعد صلاة الصبح، وأعتبر هذا الحديث عاما دخله التخصيص بدليل أنه لو دخل والصلاة مقامة هل يصلي ركعتي الطواف؟ لا يصلي ركعتي الطواف، فإذا معنى ذلك أن عمومه دخله التخصيص وخصصته بدليل وحدث؛ لأنك ترى أن هذا نص في الأمر الذي جاء من أجله وهو الصلاة المفروضة، ويقول لك القائل الذي يستثني: إن هذا نص في الوقت أنه لا يصلي، فإذا قيل: إنه لا يصلي ركعتي الطواف بعد الفجر كما كان فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد، كان إذا طاف بعد صلاة الصبح لم يصل الركعتين حتى تطلع الشمس، ومأثور أيضا عن بعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن إذا طفن بالبيت خاصة طواف الوداع، يؤخرن ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس. فإذا احتاج الإنسان إلى تأخير ركعتي الطواف كأن يطوف أسبوعا ثم أسبوعا ثم أسبوعا بعد صلاة الصبح ويريد أن يستكثر من الخير، ثم يجمع هذه الأسابيع بركعتي الطواف من كل أسبوع بعد الفراغ منها، فهذا نوع من الاحتياج، لكن من حيث الترجيح بين القولين، والذي تطمئن إليه النفس الاقتصار على السنة والوارد ما أمكن، وهو أنه لا يجمع بين أسبوعين فيصلي ركعتين من كل أسبوع، بل عليه أن يفصل وخاصة في الطوافات الواجبة واللازمة، وإذا ثبت هذا فعلى الإنسان أن يحتاط، لكن لو احتاج إلى ذلك وفعله من باب الزيادة في الخير أو الحرص على الطواف بالبيت فله وجه إذا ترجح عنده قول من يقول بجواز التداخل، والله تعالى أعلم. إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير السؤال وردت أحاديث تدل على احترام الرجل المسلم كبير السن، والسؤال: متى نستثني هذا الأصل، ويشكل علي قضية وجود كبار السن في المجالس، فهل أبدأ بالسلام أو سقي الشراب ونحوه من الجهة اليمنى أو بكبار السن، بارك الله فيكم؟ الجواب تقدير الكبير واحترامه وإجلاله سنة من سنن المرسلين، ومن هدي الأخيار والصالحين، لا يعرف الفضل إلا أهله، ولا يحسن إلى كبار السن إلا من قذف الله الرحمة في قلوبهم، فكبير السن محتاج إلى من يرحمه ويكرمه ويجله، والشريعة تأمر بأشياء لأسباب ومقتضيات، فمما يعينك على ذلك أو يكشف لك جلية الأمر أنك إذا نظرت إلى كبير السن وقد وهن عظمه وخارت قواه وتولى أصحابه، كان بالأمس يخرج إلى أصحابه وأحبابه فإذا به اليوم يخرج إما لعيادة مريض منهم أو تشييع ميتهم أو يخرج لعلاج؛ لأنه قطعت به الدنيا فأصبح أحوج ما يكون إلى كلمة طيبة وإلى تقدير وإجلال، وإلى من يشعره أن له مكانا بين المسلمين، ومن هنا قال رسول الرحمة صلوات الله وسلامه عليه الذي بعثه الله رحمة للعالمين وقال: (أنا رحمة مهداة) يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير) . فإذا تفكرت في هذه المشاعر، وتفكرت لو كنت مكانه فإذا بأصحابك كلهم قد ولوا وانقضوا أو أصبح كل واحد منهم طريح الفراش: اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يؤذنا بذهاب لم يبلغ المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب فإذا أحببت أقواما وإخوانا لك في الله، أو أقرباء أعزة عليك، فأصبحت لا ترى منهم أحدا، أو لا تسمع لهم خبرا، فإن القلب يتفطر من هذه الأشجان والأحزان، فيحتاج كبير السن إلى من يقدر له هذه العواطف، فهو في داخل نفسه يعيش كثيرا من الآلام، ولا شك أن الله يرفع بها درجته، ويعظم بها أجره، ويجبر بها كسره؛ لأن في الله سلوة عن كل شيء، ولذلك جعلت الشريعة كبير السن له الحق حتى في الإمامة في الصلاة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لـ مالك بن حويرث ومن معه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما) رحم صلوات الله وسلامه عليه الصغير والكبير، ومن رحمته بالكبير أنه قال: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) وطبق ذلك فلما أتاه أبو قحافة رضي الله عنه والد أبي بكر يوم الفتح وقد أصبح أبيض شعر الرأس نظر إليه عليه الصلاة والسلام وقال: (أثقلتم على الشيخ هلا تركتموه حتى نأتيه في منزله) صلوات ربي وسلامه عليه، وكأنه يشعر الأمة ويشعر الناس أنه إن جاءني أبو قحافة أمام الناس فله حق لكبره، وله حق لسنه. فالكبير يقدر ويكرم ولا يهان، ويعز ولا يذل، ويرفع ولا يوضع، إذا جاء في المجالس فليكن له أطيب المجالس وأكرمها وأرفعها؛ لأن (من إجلال الله إجلال ذي الشيبة الكبير) وإذا تكلم ننصت إليه ونستمع، وإذا أشار برأي أخذنا برأيه، فهم أهل التجربة والمعرفة، ويقولون: إن كبار السن أعقل الناس؛ لأنهم مرت عليهم التجارب، والشباب فيه طيش واستعجال وتهور، ولا يمكن أن يكبح جماح هذا التهور إلا حكمة الكبار والمشايخ العقلاء؛ لأن هذا الكبير لما مرت عليه ويلات الدهر جعلته يحتاط في الأمور ولا يستعجل بها، فإذا اصطدمت مع الوالد أو مع العم أو مع كبير السن في قضية فوجدته يتشدد أو يضيق فيها فاعلم أن ذلك ليس من فراغ، وإنما من طول تجربة. فمن إجلال الكبير توقيره في المجلس، فيعطى أفضل المجالس، وإياك أن يراك الله في مجلس أرفع من كبير السن إلا إذا كان مجلس علم يؤمر برفعك؛ لأن عمر بن الخطاب كان يرفع مجلس ابن عباس رضي الله عنهما لمكان العلم، وهذا أمر مستثنى، أما أن تجلس وكبير السن دونك في المجلس فيأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام، بل ينبغي علينا أن نكبرهم ونكرمهم، وإذا دخلت في حفلة أو في مكان أو في ضيافة سواء كانت لك أو لقريبك ووجدت كبير السن في مجلس فخذ بيده وأجلسه في المكان الذي يليق به. ومن سنن المرسلين أن يوقر الكبار في مجالسهم، وأن تكون صدور المجالس لكبار السن، وأن يكون الحديث أول ما يكون لكبار السن، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثت قضية قتل عبد الله بن سهل في خيبر فجاء محيصة يتكلم وكان أصغر القوم فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: (كبر كبر) يعني: اترك أخاك الذي هو أكبر منك يتكلم أولا. حتى في الصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم سلما) . فالسن له حق وقدر، والشريعة جاءت بإعطاء أهل الحقوق حقوقهم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، ونشتكي إلى الله عز وجل حينما يدخل الإنسان إلى المناسبات والمجالس فيجد كبار السن في أطراف المجالس، وتجد كبير السن يحضر المناسبات فقل أن يجد من يقدر خطواته التي يمشيها من بيته، لو كنا نعيش أشجان كبار السن وأحزانهم، كان بمجرد ما تراه يأتيك في مناسبة تقبل رأسه وتجله وتكرمه؛ لأنك تحسب أن الخطوة منه بآلاف الخطوات من غيره، وأن مجيئه إليك في شفاعة أو في حاجة أنه شيء كبير عندك، فلنتق الله عز وجل ونقدر كبار السن، ولنعلم الناس توقير الكبير وإجلاله، إننا إن فعلنا ذلك كان أتقى لربنا وأهدى في اتباع سنة نبينا. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بمحاسن الأخلاق، وأن يصرف عنا شرها وسيئها لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو. طالب العلم وأهمية معرفة الأصول والمستثنيات السؤال متى نقول عن مسألة في الحديث إنها تعتبر أصلا ونستثني بعض الصور كالمزرعتين اللتين لهما بئر واحدة، ومتى نبقى على الأصل فنمنع القياس والاجتهاد؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أما ما سألت عنه أخي في الله! من قضية الأصل، هذه المسألة تعتبر من أهم المسائل لطالب العلم، والعالم وطالب العلم الذي يعرف الأصول ويعرف القواعد العامة والمستثنيات يمكنه أن يفهم الشريعة، فلا يمكننا أن نفهم حكم الله عز وجل إلا إذا عرفنا ما هو الأصل وما هو المستثنى من الأصل، فلا نجعل الأصل فرعا، ولا نجعل الفرع أصلا، بل نعطي كل شيء حقه وقدره كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] . فهناك أشياء تسمى الأصول، وخذها قاعدة: أن أي شيء في العبادة أو في المعاملة إذا كان أصلا فابق عليه ولا تخرج عنه إلا بدليل، من عرف هذا سلم من الإشكال في ذهنه وفكره، وسلم من الخطأ في تصرفه، فأنت مثلا في العبادة تقول: الأصل في العبادة التوقيف، فلا أتعبد ولا أتقرب لله عز وجل إلا بدليل، ومعنى توقيفي: أي هذا شيء موقوف على النص من الكتاب والسنة، لو جاء شخص وقال: إذا صليت المغرب فقم في الركعة الثانية قل في التشهد ادع بالعلم ويفتح الله عز وجل عليك العلم، ويقول لك: سؤال العلم مشروع، والدعاء في الصلاة مشروع، تقول له: يا أخي! الأصل أنه لا يجوز أن يحدث الإنسان أمرا وتشريعا للناس يحصرهم فيه في وقت معين أو زمان معين لذكر معين ودعاء معين إلا بدليل؛ لأن طلب العلم وسؤال الله العلم إعانة، وما قال الله عز وجل ولا قال رسوله عليه الصلاة والسلام أننا ندعوه ونسأل العلم في السجود -مثلا- أو نسأل العلم في حال التشهد، فهذه كلها ضوابط وثوابت ينبغي أن يقف عندها المسلم: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة:169] فمن عرف الأصل لا يمكنه أن يقول على الله ما لا يعلم، بل يقول ما علمه ربه أن يقول، فيلتزم الأصل ولا يخرج عنه. فنحن إذا علمنا أن الأصل في هذه العبادة توقيفي نقف، ومن هنا يختلف العلماء، فإذا جئت مثلا لبعض المسائل تجد بعض العلماء يقول: أغلب هذا الأصل، وبعضهم يقول: أنا أفهم من هذا النص أنه أصل. فمثلا: الذكر بين السجدتين، نجد العلماء رحمهم الله يقولون: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب اغفر لي! رب اغفر لي!) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين أنه قال: (اللهم اهدني وارحمني وعافني وارفعني واجبرني) إلى آخر الدعاء المأثور، هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور يقولون: ما بين السجدتين موضع للدعاء، لكن يشرع للإنسان أن يدعو، والأفضل والأكمل أن يدعو بالوارد. فإذا قال قائل: لا يجوز الدعاء في هذا الموضع! ونبه على ذلك شراح الحديث، فقالوا: هذا الدعاء أصل في أن هذا الموضع للدعاء، إذا لو جئت تقول: لا يجوز أن يقول إلا: (رب اغفر لي رب اغفر لي) ويقول: (اللهم اهدني وارحمني) كما ورد، ولا يجوز في السجود أن يدعو إلا بما ورد، ولا يجوز أن يدعو بعد التشهد إلا بما ورد، نقول: إنه ليس بملزم بدعاء معين كما يقول الجمهور، وفرق بين (ملزم) وبين (الأفضل) ، فيقال: ليس بملزم بهذا الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم به الصحابة، بدليل أنه لما جاءت هذه السنة جاءت من صحابي واحد سمعه يقول: (رب اغفر لي) بين السجدتين إذا لو كان لا يجوز لأحد أن يدعو بغير هذا الدعاء لقال: أيها الناس! إذا كنتم بين السجدتين فقولوا: كذا وكذا ولا تزيدوا، فلما صار الموضع موضع دعاء دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم صار أصلا، ومسلك الجمهور في ذلك أنهم يقولون: نعتبره أصلا في مشروعية الدعاء. هناك بعض العلماء كأصحاب الحديث رحمهم الله وبعض المتأخرين يرى أنه يتقيد بالوارد ويستند إلى الأصل، والصلاة -في الحقيقة- من حيث الأصل العام أذكارها توقيفية، لكن هناك أصل عام وأصل طارئ، فورود الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء يعتبره العلماء رحمهم الله أصلا طارئا، فمسألة الأصل مهمة في فهم كلام العلماء وعباراتهم. وبالمناسبة: لا أعرف أحدا من أهل العلم يقول: إن قول: (رب اغفر لي ولوالدي) بين السجدتين بدعة، لأني سمعت بعض طلاب العلم يقول: لا يجوز أن تقول بين السجدتين (رب اغفر لي ولوالدي) سبحان الله العظيم! إن كان النبي صلى الله عليه وسلم امتنع لسبب أتمتنع الأمة التي أمرت أن يترحم الإنسان على والديه وأن يدعو لهما؛ لأن هذا صار بدعة؟! وبالمناسبة لا ينبغي لأحد أن يقبل قولا مني أو من متأخر ما لم يعلم كلام العلماء والسلف، أئمة السلف كتبهم موجودة وكلامهم موجود في شرح الأحاديث ودلالاتها، الأصول عندهم واضحة، والثوابت واضحة، فليس تقرير الأصل منا نحن المتأخرين، تقرير الأصول في كلام المتقدمين ومن ضوابطهم، وليس هذا تعصبا بل إحقاقا للحق، لأنهم أهل العلم الذين ينبغي أن يرجع إليهم، وأهل العلم الذين ينبغي أن يقتدى بهم، وينبغي أن يعلم العلم عن طريقهم، فنحن لنا سلفنا كم الأئمة ولا نعرف أحدا منهم يقول: إن هذا بدعة، نعم لو قال: رب اغفر لي بين السجدتين (ثلاثا) فهذا بدعة، هذا هو الذي كان بعض العلماء المتأخرين رحمة الله عليهم يشدد فيه، أن تخصيص الثلاث لا أصل له، وأنه أقرب إلى البدعة من السنة، أما نفس الدعاء للوالدين والترحم على الوالدين فليس ببدعة. ولذلك فإن طالب العلم الذي لا يفرق بين الأصول وبين المعاني المستنبطة من الأصول يقع في كثير من الأخطاء، فلابد أن نعلم أن الأصول يجب الوقوف عندها وعدم التقدم والتأخر عنها. ومن أمثلة مسألة الأصل في العبادات: إذا رفع رأسه من الركوع، هل الأصل فيه الإرسال أو القبض؟ إذا نظرت إلى الأصل العام أنه لا يجوز أن يحرك العبد يده قابضا ولا أن يضع يده على وضع معين إلا بدليل، فهذا أصل عام يقتضي الوقوف على الإرسال حتى يدل الدليل على القبض كما دل صراحة عليه قبل الركوع، إذا قلت: يقبض يديه، نقول: الأصل الخاص في الصلاة أنه لما كبر ودخل في الصلاة وقرأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه وضعها على صدره قبل الركوع، فقالوا: نستصحب ما قبل الركوع إلى ما بعد الركوع. فهل قوله: (حتى رجع كل فقار إلى موضعه) يدل على أن المراد به القيام الخاص الذي قبل الركوع؟ هذا وجه؛ لأنه يرى أن الأصل في القيام القبض، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام وضع اليمنى على اليسرى، فلما رفع رأسه من الركوع قال الراوي: اعتدل قائما، هل اعتدل قائما كاعتداله الأول؟ لأن اعتداله قائما راجع إلى اعتدال معروف مألوف، فقالوا: يقبض. والذين قالوا: (اعتدل قائما) قالوا: نتمسك بالأصل أن الاعتدال في ذاته يستلزم أن يرسل يديه لا أن يقبضهما، فالذي يقبض لا حرج عليه، والذي يرسل لا حرج عليه، فعندما تعرف الأصل، وتعرف أنه حتى الأصل الذي تستدل به له أصل آخر يعارضه وله وجهه يستطيع الإنسان أن يفهم قوله وأن يفهم قول من خالفه. ولذلك وجدنا الأئمة والسلف رحمة الله عليهم يتناظرون ويختلفون وتؤلف الكتب، والله يا إخوان! إن من الواجب علينا أن نقرأ كتب العلماء المتقدمين ليس للعلم فقط بل لأدب العلم، تجد الرجل متمسكا بقول يعتقد أن الدليل قد دل عليه، وأن من يتبعه من الأئمة قد سار على حق وهدى فيقول: لا يجوز كذا وكذا لقوله تعالى كذا وكذا ووجه الدلالة كذا وقال الشافعي رحمه الله: يجوز، لا يقول: وخالف هذه السنة الشافعي، ولا يقيم الدنيا على الإمام الشافعي أو الإمام أبي حنيفة أو الإمام أحمد أو الإمام مالك أبدا، كانوا يعرفون قدرهم؛ لأن العالم يعرف قدر العالم، ومن عرف العلم يعرف أهله، ولا يعرف الفضل إلا أهله، ومن عرف مسالك العلماء عذر من خالفه، وعرف كيف أن من خالفه له حجة. وثق ثقة تامة أنك لن تجد عالما يشنع على عالم عن ورود نص لقول ثان يستدل به من خالفه إلا وجدته يقع في نفس الأسلوب، ومن أمثلة ذلك مسألتنا: مسألة الاستثناء من الأصول، فتجد الشخص يتمسك بعموم ويشنع على من استثنى من العموم، ثم يأتي يرجح في مسألة ثانية ويستثني من هذا الأصل وتأتي لتفرق الاستثناءين فلا تجد فرقا، كما قال الإمام الشافعي: أبى الله أن يتم إلا كتابه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء:82] . فالبشر بشر، فلا يستطيع الإنسان أن يعرف العلم إلا إذا عرف الأصل، ومن فائدة معرفة الأصل: أنك إذا تمسكت بالأصل في مسألة ما، وجاءك شخص يريد أن يناظرك أو يناقشك ويعترض عليك تقول له: ما هو الأصل بيني وبينك، هل الأصل جواز هذا الأمر أو تحريمه؟ فإذا قال: الأصل جوازه، تقول: أعطني دليلا على حرمته، فنحن متفقون أو كل منا متفق مع الآخر على الحل فأعطني الدليل على التحريم، وقس على هذا سواء في العبادات أو المعاملات، لابد من معرفة الأصول، يبقى السؤال: كيف نعرف الأصول؟ هناك شيء يسمى: باب، وهناك شيء يسمى: مسألة، فهناك أصول للأبواب، وهناك أصول للمسائل، فأصول الأبواب مثلا تقول: البيع باب من أبواب المعاملات، النكاح باب من أبواب المعاملات، نفس البيع ينقسم إلى مسائل، وقد تجعل المسألة في البيع بمثابة الباب، يعني: تجعلها أصلا في البيع، لكن من حيث الأصل العام الباب الذي هو باب البيع تنظر إليه هل الشريعة أقرت هذا الباب على جهة العموم أو على جهة الخصوص؟ إذا أقرته على جهة العموم فهو أصل، وإذا أقرته على جهة الخصوص فهو مستثنى، فالبيع قال الله عز وجل فيه: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275] فأين العموم وأين الخصوص؟ نقول: العموم البيع والخصوص الربا، فالأصل حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه، ثم باب الربا نفسه باب خاص، توضيح قول المصنف (وإن قال المشتري: بعني أو صالحني) السؤال نرجو منكم توضيح قول المصنف: [وإن قال للمشتري: يعني أو صالحني] ؟ الجواب هناك عبارات في المتن لا نشرحها ولا نتوسع في شرحها؛ لأنها تقدمت معنا، فنحن قلنا: إذا قال: بعني أو صالحني، أنا ما نسيت العبارة ولا تركتها، لكن طالب العلم ينبغي أن يكون على درجة من الفهم والذكاء والضبط، ونحن دائما نقول: الضابط في هذه المسألة أن يأتي بشيء يدل ضمنا على الرضا، فإذا قال له: صالحني. فمعناه أنك ما تصالح شخصا إلا وله حق، فلا يمكن أن تصالحه وهو لا حق له عندك، فإذا جاء وقال له: صالحني، معناه أنه اعترف أنه يملك هذا النصيب، فسواء قال له: بعني أو قال له: صالحني. ومعنى (صالحني) ما أعطيك القيمة كاملة، فالصلح يقتضي أن يتفاوضا على ما دون القيمة، فمثلا: هو اشترى بمائة ألف يقول له: ما رأيك لو اصطلحنا على تسعين ألفا، أو على ثمانين ألفا؟ فهذا خلاف الأصل، وهذه فائدة قولنا: إن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل، لماذا قال العلماء: إن الشفعة خارجة عن القياس؟ لأجل إذا جاءوا يدخلون مسائل غريبة نقول: إنها خلاف الشفعة الشرعية فتبطل، ومن المناقضات أن تجد الشخص يقول لك: الشفعة أصل، ثم إذا جاء إلى هذه المسألة يقول: لا يجوز وإذا قال: بعني أو صالحني سقطت الشفعة. لماذا أسقطتها ما دام أنها هي أصل؟ لا تسقط إلا إذا قلت إنها مستثناة من الأصل، فلا تصح إلا بالصورة الواردة، والصورة الواردة أن يدفع تمام القيمة وأن يقول: أنا شافع ولا يقول: أنا مصالح ولا يقول: أنا مشتر، فإن قال: صالحني أو قال: بعني فقد اعترف ضمنا بسقوط حقه بالشفعة، وعلى هذا فإن هذه العبارة في المصالحة أو البيع أو قوله: أعطني إياها هبة أو تصدق علي، كل هذه تدل على سقوط الشفعة، فالأمر لا يختص بالبيع أو المصالحة، ونحن دائما نقول في المتون: ينبغي أن يعلم أن العلماء رحمهم الله إذا ذكروا القواعد ذكروا الأمثلة كضوابط يمكن لطالب العلم أن يلحق بها غيرها، وأن يعرف أصلها الذي بنيت عليه أو تفرعت منه، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الشفعة ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (381) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [3] الشفعة لا تكون إلا بين الشركاء، فيجوز أن يكون الشافع واحدا من الشركاء أو كلهم، فتنقسم الشفعة على قدر الأنصبة في الأصل. ومن أحكام الشفعة أنها تثبت في العقار، وإن كان مع منقول فيفصل، ولو تلف جزء من العقار قبل الشفعة ألزم الشافع بدفع قيمة الباقي دون التالف. وصايا لطلاب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا ولكم في هذه الأوقات، وأن يجعلها عونا على طاعته ومحبته ومرضاته، فإن الله إذا أحب عبده بارك له في عمره، ويسر له الخير في أوقاته، فإن العمر يمضي إما للإنسان وإما على الإنسان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وإن خير ما يبارك بسببه في الأعمار والأوقات طاعة الله جل جلاله، وهي التي تؤذن بالبركة في العمر، والبركة في الفراغ وأوقات العطل، فمن ضحى لوجه الله عز وجل واغتنم أيام فراغه وعطلته فيما ينفعه في دينه أو دنياه أو آخرته فإن الله يحبه، ويجعل ذلك العمل منه وسيلة صالحة فيما بينه وبين الله عز وجل، وإن خير الطاعات الموصلة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى طلب العلم والحرص على التزود من العلم النافع، والموروث من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الذي يحيي الله به قلوب العباد، ويصلح به حال العبد في الدنيا والمعاد، يرفع به درجته ويعظم به أجره، ويكفر به خطيئته، فالحمد لله على فضله، والشكر له على توفيقه وإحسانه وبره، فكم من محروم من العلم حال بينه وبين العلم ما حال من العوائق! ولكن الله لا ييسر العلم ولا يسهله إلا لمن أحب، ومن تيسير العلم تيسير مجالسه وسهولة ذلك من الله جل جلاله، حينما يبعد عن الإنسان الشواغل والمشاغل، فلنحمد الله جميعا على توفيقه ونشكره على فضله ومنه. الإخلاص في عمارة الأوقات بطاعة الله عز وجل وإن مما ينبغي أن نتواصى به جميعنا: التواصي بالإخلاص في عمارة الأوقات في طاعة الله عز وجل، فالإنسان إذا بارك الله له في عمره، فقضاه في طلب العلم أو في طاعة أو في قربة أو في صلة رحم أو في بر والد أو والدة أو غير ذلك من الطاعات لا ينقصه إلا أن يسأل الله الإخلاص، فيوطن طالب العلم نفسه دائما على الإخلاص، وقد قال بعض العلماء: لو أن العالم يوصي طلابه في كل مجلس بل في كل ساعة بالإخلاص لوجه الله ما كان ذلك كثيرا على حق الله سبحانه. الإخلاص هو الخير كله، وجماع الخير كله في الإخلاص لله جل جلاله أن يقصد الإنسان وجه الله، وأن يخرج إلى حلق العلم يبتغي ما عند الله، وأن يجلس في حلق العلم يبتغي مرضاة الله سبحانه وتعالى، فعندها إذا أخلص لله قلبه أصلح الله له ظاهره، وفتح له أبواب رحمته، حتى ولو جلس في مجلس العلم ولم يفهم ما يقال فإن الله ينفعه بهذا المجلس، فقد تغفر ذنوبه، وتستر عيوبه، وتفرج كروبه. العلم كله خير وبركة العلم كله خير وبركة، فمن الناس من يعطيه الله العلم كاملا، فيأخذه بضبطه وإتقانه والإخلاص لوجه الله فيه، ويحفظ كل مسألة، ويضبط كل ما يقال، ثم ينفعه الله عز وجل بالعمل وبالتعليم. ومن الناس من هو دون ذلك، فليس هناك أعظم بركة من هذا العلم؛ لأنه مأخوذ من القرآن والله يقول: {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص:29] وإذا بارك الله في الأصل بارك في فروعه، والفرع تابع لأصله، فإذا أراد الإنسان أن يبارك الله له في علمه أتقنه على أتم الوجوه، فإذا جلس في مجلس العلم ولم يتقن المسائل كلها فليحمد الله جل جلاله أن الله بارك له في عمره فمرت عليه الساعة في ذكر الله عز وجل، وليحمد الله جل جلاله من كل قلبه أن الله آواه؛ وأن الله سبحانه وتعالى جعله يأوي إلى مجالس العلم، وإلى رياض الذكر، فهذه نعمة وكفى بها نعمة! (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فقد يحرم الإنسان مجالس العلم إذا لم يشعر بقدرها، فأنت مستفيد في مجلس العلم مهما كان حالك ما كنت متقيا لله مخلصا لوجه الله عز وجل. ترك السآمة والملل من كثرة المسائل الأمر الثالث: ربما أن الإنسان تصعب عليه المسائل ويريد ضبطها فتكثر عليه، فيجد نوعا من السآمة والملل لكثرة المسائل، فلا ينبغي للإنسان أن يسأم، ولا ينبغي لطالب العلم الحق أن يمل: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) وشتان ما بينهما! أحدهما: يخوض في غمار رحمة الله عز وجل، والآخر يخوض في الملهيات والمهلكات حتى تهلكه والعياذ بالله، فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك، فكما ترى -ولله المثل الأعلى- التاجر وهو في تجارته يسهر ليله، ويتعب جسمه، ويذل نفسه في بعض الأحيان، فلا يستكثر أن يقف موقفا يتوسل ويرجو فيه الخادم والعامل عنده من أجل أن يربح الألف والألفين، ولربما قال العامل: إني أريد أن أخرج، فيقول: أرجوك أن تبقى معي نصف ساعة أو ساعة، يذل نفسه من أجل الدنيا، وأنت والله أشرف وأعظم وأكمل عند الله سبحانه وتعالى متى ما صبرت ولم تمل، فإن الله يمتحن كل من جلس في مجالس العلم بالشواغل ويمتحنه بالثناء والمدح والسمعة والرياء والسآمة والملل، فلا يمل الإنسان، ومن يمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إنا أمة أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بما سواه أذلنا الله، فلا عز لنا إلا بهذا العلم. والله إن هذه الكلمات والمسائل ربما تراها أنها يسيرة، ولكن ضبطها وإتقانها رفعة للعبد في الدنيا والآخرة، ويخلف الله لك بهذا العلم الهيبة والمحبة والإكرام والإجلال في صدور الناس متى ما اتقيت الله عز وجل، ولتعلم أن كل مسألة تتعلمها وتضبطها وتعطيها حقها من الإتقان لوجه الله وفي الله وابتغاء ما عند الله ما هي إلا درجات لك عند الله سبحانه وتعالى، فلتستقل أو تستكثر. فينبغي علينا دائما التواصي بحقوق هذا العلم، خاصة إذا أصبحت المجالس بالساعة والساعتين والثلاث، وكان العلماء رحمهم الله يجلسون من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وهم في مذاكرة العلم ومدارسته ومناقشة المسائل. وإذا كنا نأخذ الفصل في مجلس أو مجلسين، فهم يأخذون السطر والسطرين ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وهذا ليس لأنهم في ضبطهم وإتقانهم فيهم ضعف لا والله، هم القوم أهل العلم والمعرفة والإتقان، وزمانهم قليل الفتن والمحن، لكنهم يريدون ضبط كل مسألة، فتقرأ الكلمة، وتشرح لغة واصطلاحا، ويبين حكمها ودليلها، ثم يبين الخلاف فيها، ثم القول الراجح من بعد هذا كله، وكل ذلك يعرض على طلاب العلم، وكان الشيخ يجلس إلى العشرة إلى الخمسة عشر، وبعد أن يحفظ طلاب العلم المسألة يسأل هذا ثم هذا حتى يتم المسألة عليهم كلهم، فيمضي الوقت كله في مذاكرة هذين السطرين، وهذا كله من باب الإتقان والحرص، فهم يتدارسون السطرين في ثلاثة أو أربع أو خمس ساعات كلما جاءت ساعة يزداد شوقهم للعلم أكثر، وتزداد محبتهم وإجلالهم للعلم أكثر، لكن إذا كثرت الغفلة وتأخر الزمان صار العلم أصعب، وصار الصبر في مجلس العلم أصعب، فلذلك يحتاج طالب العلم دائما أن يوصى بأن يصبر، وإذا زادت الشواغل للإنسان وصعب عليه التفرغ للعلم، وصعب عليه ضبط العلم فإن درجته عند الله أكبر، وثوابه عند الله أكثر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حال هذا الزمان وأمثاله: (للعامل فيهن -أي: في مثل هذه الأيام الكثيرة الفتن والمحن والشواغل- مثل أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعوانا، وهم لا يجدون على الحق أعوانا) . كان السلف يجدون العون من النفس الصالحة المؤمنة اللوامة التي تلوم الإنسان على كل ثانية وعلى كل لحظة، وكانوا يجدون على الحق أعوانا من قرنائهم، وكانوا يجدون على الحق أعوانا حتى من أبنائهم وذرياتهم وأزواجهم، ولكن اليوم لو أراد الإنسان أن يتفرغ لأيام يطلب فيها العلم شغل بأهله وشغل بولده، وشغل بمشاغل تحيط به من كل حدب وصوب. أن يشعر طالب العلم أن العلم قريب إلى قلبه النقطة الأخيرة التي أحب أن أنبه عليها: ينبغي على طالب العلم أن يشعر أن هذا العلم قريب إلى قلبه، حتى ولو كانت المسألة غريبة فهي لا تبتعد عن العلم، يعني: من الأمور التي يحرم بها طالب العلم ضبط العلم، أن يحس أن المسألة غريبة وعجيبة وأنها بعيدة عن حاله وأنها فلا يزال يبتعد عنها فتبتعد عنه، وحينئذ يحرم درجتها وأجرها، فيجب على طالب العلم -خاصة المتفرغ لطلبه- أن يجعله شيئا عظيما فرض عليه أن يتقنه، وكم من مسائل تعلمناها ما كنا والله نظن أننا نسأل عنها فضلا عن أن نبتلى بها، فإذا بنا في يوم من الأيام تقع لنا هذه المسألة ونحتاج إلى جوابها لأنفسنا، وإذا بنا نبتلى بالسؤال عنها أمام الناس وأمام الأمة فنفع الله بها ما شاء. لا تبتعد عن العلم، فالعلم هو بذاته بعيد عنك؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الجنة محفوفة بالمكاره، فكيف إذا ابتعد الإنسان عنه؟ ولو حاول الإنسان أن يقترب منه تباعد العلم عنه حتى يعظم أجره، ولذلك إذا أردت أن تحفظ سورة من القرآن ربما تجلس الشهور وأنت تريد إتقانها وضبطها حتى تصل إلى ما تريد، يمتحن الله بذلك صبرك وحبك، فإذا وفقت لأكمل الدرجات وأفضلها أعطاك الله حفظها على أتم الوجه وأكمله. الشاهد من هذا: ألا نشعر أن مسائل هذا العلم بعيدة عنا، والله إن الأمة بخير ما اعتزت بهذا الدين، والاعتزاز بالدين أول ما يبدأ بالعلماء وطلاب العلم، لا تقل: هذه مسائل غريبة، ولا تقل: الفقهاء يهتمون بأشياء غريبة أبدا، تدرس المسائل وتتقنها؛ لأنها كلها مبنية على الكتاب والسنة، وعلى أصول صحيحة اقتضاها علماء الشريعة والأمة، فتصحب لهذه المسائل في قلبك المحبة والإجلال والرغبة؛ لأنك إذا رغبت شيئا أتقنته، وإذا أحببت شيئا طلبته، والسبب الذي يجعل طالب العلم يسأم ويمل ويعرض عن مجالس العلم أو يسأم من مجالس العلم هو عدم شعوره بعظم هذا العلم. ولما أحس الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بعظم شأن الوحي -كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم- كانوا يجلسون في العشر الآيات لا يتجاوزوها حتى يتعلموها، ويعلموا حلالها وحرامها ويعملوا بها، فأعطوا العلم والعمل، وبورك لهم فيه، يقفون عند عشر آيات وهم جهابذة الحفظ والفهم، وأهل اللسان والبيان! وكان الرجل منهم يعرف مدلولات الكلام والألفاظ عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وظاهره وباطنه، ومفهومه ومنطوقه، كل هذا كان عندهم بين أيديهم كالشيء السهل المنال، ومع ذلك كانوا لا يتجاوزن العشر الآيات، فلما أتقنوا العلم على أتم وجوهه، وصبروا على منازله وأحواله، وصابروا بورك لهم في العلم. فينبغي علينا -وبخاصة طلاب العلم- أن نحب هذا العلم، وأن نعتز بهذا الدين، والله لو كنا في أصعب مسألة من مسائل الحيض والنفاس فهو ديننا، وهي شريعتنا التي بها نعتز وبها نفتخر، وحينما نرى أهل الدنيا وهم يتعلمون الكيمياء والفيزياء ويصبرون ويفتخرون، وتجد الهندسي يفتخر بهندسته، والكهربائي يفتخر بعمله، وكلا يتباهى ويسمو ويعلو بما عنده من حطام الدنيا، فكيف وأنت تشتري سلعة الله الغالية؟! كيف بمن يطلب العلم؟! كيف بمن يطلب الوحي؟! فينبغي علينا أن نعتز بكل مسألة وبكل حكم وبكل شرع؛ لأنه {تنزيل من حكيم حميد} [فصلت:42] . فلما كان السلف الصالح رحمهم الله والتابعون لهم بإحسان على هذا النحو من استشعارهم لهذا العلم المبارك، فأعطوه خالص حبهم وصادق ودهم سلو بهذا العلم، فللعلم سلوة والله! تنسي الإنسان لذة النفس والأهل والمال والولد، من أعطي العلم كله بورك له في هذا العلم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم. جواز الشفعة لأكثر من شخص يقول المصنف رحمه الله تعالى: [والشفعة لاثنين بقدر حقيهما] هذه المسألة من مسائل الشفعة مفرعة على ما تقدم، فقد بينا أن الله عز وجل شرع الشفعة للشريك، وبينا محل تلك الشفعة، فلا إشكال أنه لو كان معك شريك لم يقاسم وباع نصيبه فأردت أن تشفع كان لك ذلك، لكن السؤال لو كانت الأرض التي وقعت فيها الشفعة بين ثلاثة أشخاص أنت ومعك شريكان، إذا باع واحد من الشريكين، فحينئذ يرد السؤال: هل الشفعة تكون لواحد منكما أو تكون لكليكما؟ وإذا كانت لك ولمن معك وهو الشريك الثاني، فهل تقسم بينكما بالسوية أو تكون على قدر الملك؟ المسألة الأولى: الشفعة تثبت للاثنين معا وللثلاثة وللأربعة أي: لبقية الشركاء الذين لهم شراكة مع البائع في هذا العقار الذي لم يقسم، إذا تثبت الشفعة لأكثر من واحد، وهذا قول جمهرة أهل العلم رحمهم الله، والسلف والخلف كلهم على أن الشفعة تثبت لأكثر من واحد، وأنها لا تختص بالاثنين فقط إذا باع أحدهما، بل يمكن أن تكون الشفعة لأكثر من واحد. المسألة الثانية: إذا كانت لأكثر من واحد فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن يكون نصيب الشخصين الباقيين بقدر واحد، مثل: لو أن ثلاثة اشتروا أرضا بثلاثمائة ألف ريال، فباع واحد منهما فمعنى ذلك: أنه قد بيع ثلث الأرض، والاثنان الباقيان كل منهما يملك ثلثا من الأرض كلها، فإذا كان لكل واحد منهما مثل نصيب الآخر ما فيه إشكال؛ لأنهما سيقتسمان الشفعة، فنقول لكل واحد منهما: لك الحق أن تشفع في النصف، فإذا كانت الأرض بثلاثمائة ألف فباع واحد منا -ونحن ثلاثة- نصيبه بمائتي ألف، هذا النصيب الذي باعه بهذا المبلغ يقال لي ولمن معي: اشفعا في هذا النصيب الذي بيع بالنصف، فيدفع كل واحد منكما مائة ألف، ويأخذ نصف الأرض المباعة الذي هو سدس الأرض كلها، إذا الشفعة للاثنين المتبقيين بقدر حقيهما. لكن المشكلة لو كانت الأرض التي بيعت لثلاثة شركاء أحدهم يملك الربع، والثاني له الربع، والثالث له النصف، فباع أحد الاثنين الأولين ربع الأرض الذي يملكه، لو فرضنا أن زيدا وعمرا ومحمدا اشتروا أرضا، وكان محمد له نصف الأرض، وزيد له الربع، وعمرو له الربع، فباع زيد نصيبه الذي هو ربع الأرض فحينئذ يرد السؤال: كيف تكون الشفعة؟ هل هي بعدد الرءوس أو بقدر النصيب؟ إذا قلت: بعدد الرءوس تقسم الأرض بين الاثنين، فإذا كانوا اثنان يشفع كل واحد منهما في نصف الربع الذي هو الثمن، ويأخذه بنصف القيمة. وإذا قلت: يأخذون الأرض بقدر الحصة -وهو الصحيح- يصبح لمحمد الحق في أن يشفع في ثلثي الربع، وعمرو يشفع في الباقي وهو ثلث الربع؛ لأنها بقدر حصته، وبناء على ذلك إذا تعدد الشركاء فكانوا ثلاثة فأكثر، فباع واحد نصيبه نظرنا إلى حصة الباقين وأعطيناهم حق الشفعة كلا بقدر حصته، إن كان الثلث فالثلث، وإن كان الربع فالربع، وإن كان النصف فالنصف على التفصيل الذي تقدم. إذا أولا: الشفعة لا تختص بما إذا كان الشافع واحدا بل تشمل أكثر من شافع في الأرض الواحدة، حتى ولو كانوا أكثر من شريكين. المسألة الثانية: إذا ثبت أنها تكون لأكثر من شريكين فإنها تكون بقدر الحصص والحق لا بعدد الرءوس، وهذا على أصح قولي العلماء رحمهم الله؛ لأن الشفعة استحقت بالملك، وهذا يملك من الأرض أكثر مما يملكه أخوه، فاستحق أن يشفع بقدر ما ملك. فهذا مراد المصنف رحمه الله في قوله: (والشفعة لاثنين) أي: فأكثر (بقدر حقيهما) وذلك إذا تبقيا، وليس المراد بـ (اثنين) أنه إذا باع أحدهما والآخر أراد أن يشفع، إنما المراد إذا كان بقية الشركاء اثنين فأكثر. قال رحمه الله: [فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك] إذا قلنا: إن الاثنين فأكثر لهم حق المقاسمة في هذا النصيب الذي بيع فإن أحد الاثنين إذا قال: لا أريد، يرد السؤال: هل تشفع بقدر الحصة أو يجب عليك أخذ الكل؟ قال رحمه الله: إما أن يأخذ الكل أو يدع، أي: إما أن يأخذ النصف كله الذي بيع أو الربع كله الذي بيع أو الثلث كله الذي بيع وإلا امتنع عليه أن يأخذ قدر حصته، فيأخذ قدر حصته إذا زاحمه شريكه، أما إذا تراجع شريكه فنقول: إما أن تأخذ الكل وإما أن تترك الكل، وهذه المسألة فيها إجماع من أهل العلم رحمهم الله، وحكى الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر رحمه الله في كتابه المشهور الإجماع، بين فيه أن أهل العلم اتفقوا على أنه إذا كان الشركاء اثنين فأكثر ورجع أحد الشركاء عن الشفعة نقول للآخر: إما أن تأخذ الكل أو تترك. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الشفعة مجزأة على قدر النصيب قال رحمه الله: [وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه، أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحدهما] كل هذه المسائل فروع على ما تقدم، وهي تجزئة الشفعة على قدر النصيب والحصص، وكذلك على حسب الضرر الداخل، فلو أنك شريك مع واحد في أرض، واشتريتما هذه الأرض بمائة ألف، ولكل واحد منكما نصفها، فباع صاحبك نصفه الذي يملكه على اثنين بمائتي ألف، وكل منهما أخذ ربعا؛ لأنه إذا كان له النصف فتكون منقسمة بينهما على ربع، فلو اشتراه زيد وعمرو من شريكك، فيجوز لك أن تشتري من زيد أو تشتري من عمرو، فتدفع حصة واحد منهما وتشتريها؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر، فيجوز لك أن ترضى بشريك وترفض الآخر، فإذا رضيت بأحدهما شريكا لك قلت: أنا أريد أن أشفع في نصيب زيد، أو أنا أرضى بعمرو ولا أرضى بزيد، أو العكس أرضى بزيد ولا أرضى بعمرو، أو الضرر يأتيني من زيد ولا يأتيني من عمرو، فاشتريت نصيب زيد، كان لك أن تأخذ نصيب زيد، ولك أن تأخذ نصيب عمرو، ولذلك في هذه الحالة يجوز التشطير وتفريق الصفقة؛ لأن كلا منهما له نصيب، كما لو باع أحد الشركاء جاز لك أن تشفع في نصيبه. قال: [وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه] اشترى اثنان حق واحد، أو واحد اشترى حق اثنين عكس المسألة التي قلنا، الأول: زيد الذي هو شريكك وعمرو باعا نصيبيهما إلى واحد وهو بكر فبكر لما اشترى منهما لك أن تشتري. وقلنا أنه باع زيد نصيبه إلى اثنين فلك أن تشتري من أحدهما وتترك الآخر، وبينا السبب وهو أنك تخشى الضرر من أحدهما ولا تخشاه من الآخر. فإذا كان في الصورة الأولى يشتري اثنان، فهنا على العكس؛ يشتري واحد، ويكون معك شريكان، فلو فرضنا أنكم اشتريتم قطعة أرض بتسعين ألفا، فدفع كل واحد منكم ثلاثين ألفا، فقسمت الأرض على ثلاثة -يعني: من حيث الأصل أثلاثا- فلو كان معك زيد وعمرو فباع الاثنان نصيبيهما إلى بكر، فاشترى بكر الثلثين اللذين كانا لزيد وعمرو بمائة ألف، فمن حقك أن تقول: أنا شافع في نصيب زيد أو شافع في نصيب عمرو، يعني: تخصص جزءا مما بيع؛ لأنه ربما دخل عليك بالضرر في النصف ولا يدخل عليك في الربع، ويدخل عليك في الثلثين ولا يدخل عليك في الثلث الواحد، ولذلك قالوا: يجوز أن تشتري نصيب أحدهما كما لو باع كل واحد منهما لأي شخص أجنبي. فيقولون: لو أن زيدا وعمرا باعا لبكر، فنقول: من حقك أن تقول: أنا أشتري نصيب زيد، أو أشتري نصيب عمرو فحينئذ لا إشكال، قالوا: هذا مثلما إذا اشترى اثنان أجنبيان من حقك أن تشري من أحدهما وتترك الآخر، فالأولى راجعة إلى دخول الضرر بالشخص، والثانية راجعة إلى دخول الضرر بالنصيب؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر من جهة الشريك الأجنبي إذا دخل عليك، فهذا راجع إلى الرءوس (الشركاء) وإما أن يدخل عليك الضرر في قدر الحصة، فإذا كنت تشارك اثنين وكل واحد منكم له الثلث، فليس هذا كمثل شخص يشاركك وله الثلثان، فالضرر هنا أعظم؛ لأنه أكبر منك وسيضر بمصالحك أكثر، فلك أن تدفع الضرر عن نفسك بشراء أحد النصيبين دون الآخر، كما لو باع زيد إلى خالد وباع عمرو إلى بكر كان من حقك أن تأخذ ما باعه زيد أو باعه عمرو وتفرق الصفقة، هذا بالنسبة إذا باع كل منهما إلى شخص واحد. فإذا إذا باع الشريكان لشخص واحد أو باعا لشخصين فمن حقك أن تشفع، إن شئت أخذت الكل في كل المسائل ولا إشكال، وإن شئت أخذت البعض بقدر حصته وذلك جائز لك؛ دفعا لضرر أجنبي دخيل عليك، إذا أردت أن تخرجه كلية، أو تخرج واحدا وتبقي الثاني في المسألة الأولى، أو دفعا للحظ والنصيب الزائد الذي تتضرر بزيادته، فقد تقبل بشريك يساويك ولا تقبل بشريك هو أكثر منك؛ لأن المضرة ستكون أعظم، ويكون تصرفه أكثر، ويكون استحقاقه بالتصرف في الأعيان أكثر مما لو كان مالكا لثلث أو كان مالكا لما هو دون نصيبك. حكم التفريق بين الصفقة في الشفعة قال: [أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة] صورة المسألة: لو كان لك شريك في أرض بداخل مكة، وأيضا هناك أرض خارج مكة سواء هذا الشريك أو غيره، نأخذ المسألة الأولى: لو اشتركت مع محمد في أرض بداخل مكة وأرض بخارج مكة مناصفة بينكما، اشتريتما الأرض مثلا بمليون، فكانت التي في داخل مكة بنصف مليون، والتي في خارج مكة بنصف مليون، وكنت أتت تملك نصفها وهو يملك نصفها، فباع محمد نصيبه من الأرض التي في داخل مكة، ونصيبه من الأرض التي في خارج مكة في صفقة واحدة، واشترى خالد كلا النصيبين -مثلا- بمليون، فمن حقك عندها أن تقول: أريد أن أشفع في نصيبي من الأرض التي في داخل مكة، ولا أريد أن أشفع بنصيبي الذي في خارجها، ولك أن تعكس فتقول: أشفع في الأرض التي في خارج مكة، ولا أريد أن أشفع في الأرض التي بداخل مكة. فإذا اشترى النصيبين من شريكك بصفقة واحدة جاز لك أن تفرق الصفقة ولو كانا بصفقة واحدة، وجاز لك أن تشتري أيضا النصيب بالثمن الذي باعهما به إذا كنت شريكا له في هذه وهذه، لكن لو كنت شريكا له في الأرض التي في داخل مكة، وعنده أرض في خارج مكة مع شريك آخر، فاشترى منه الأجنبي هذه الأرض التي بداخل مكة والتي في خارج مكة في صفقة واحدة بمليون، في هذه الحالة لو قلت: أريد أن أشفع، فأنت تريد أن تفرق الصفقة الواحدة، بحيث نعرف كم كانت قيمة الأرض التي بمكة؟ وكم قيمة الأرض التي بخارج مكة؟ فتفرق الصفقة الواحدة، ولذلك قال رحمه الله: [صفقة واحدة] يعني: اشتراهما من شخص واحد صفقة واحدة، ففي هذه الحالة تفرق الصفقة، ما يقال: إنهما صفقة واحدة ولا نفرق الصفقة، كما هو مذهب بعض العلماء أن الصفقة الواحدة لا تجزأ ولا تفرق، والصحيح أنها تفرق، ونقول لأهل الخبرة: قدروا الأرض التي في مكة، كم قيمتها؟ فإذا قدرت قلنا له: إذا أردت الشفعة ادفع هذه القيمة وخذ الأرض. قال: [فللشفيع أخذ أحدهما] أخذ أحد النصيبين، ولا بأس بذلك على التفصيل الذي ذكرناه. حكم تفريق الصفقة في الشفعة إذا وقعت بين عقار ومنقول قال الله: [وإن باع شقصا وسيفا أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن] هذه المسائل كلها يدخلها العلماء رحمهم الله من باب إثبات قوة الشفعة وضعفها، ففي بعض الأحيان تكون الشفعة جارية على الثمن وعلى البيع المعهود المعروف فلا إشكال، وفي بعض الأحيان تجري الشفعة على صور غريبة فيرد السؤال هل ترجع إلى الأصل أو تعتبر مستثناة ولها أحكام تخصها؟ فالأصل أن الإنسان يبيع العقار وتكون الشفعة في بيعة واحدة مستقلة، إذا باع العقار مع عقار ثان قلنا: إن له أن يشفع، فيرد السؤال الآن من باب القسمة العقلية: هل إذا جمع بين العقار والمنقول يكون الحكم بثبوت الشفعة أو نقول: إن هذه المسألة مستثناة ولا تثبت فيها الشفعة؟ الجواب أنه كما حكمنا بتجزئة الصفقة في العقارين -وأكثر من العقارين لو وقع ذلك- فإننا نجزئ الصفقة إذا وقعت بين عقار ومنقول، فنجعل قيمة العقار على حدة وقيمة المنقول على حدة ونثبت الشفعة في العقار، فأورد رحمه الله الشقص والسيف كمثال، وإلا قد يبيع شقصا وطعاما، فمثلا لو قال له: أبيعك نصف أرضي التي بداخل مكة في المكان الفلاني مع مائة صاع من الأرز أو مع مائة كيس من الأرز، مثلا: بخمسمائة ألف، قال: قبلت، هذا جمع بين العقار والمنقول، أو قال له: يا فلان! عندي سيارة وعندي نصف أرض، وأنا أعاني من ضائقة وأحتاج إلى نصف مليون، فما رأيك لو أعطيتك السيارة مع نصف الأرض التي لي بمكة بنصف مليون، قال: قبلت، إذا باعه عقارا وباعه مع العقار منقولا. ففي هذه الحالة ننظر كم قيمة الطعام أو السيارة في الصفقة، وكم حظ النصف من الأرض من الصفقة التي هي نصف المليون، فوجدنا أن أهل الخبرة يقولون: هذه الأرض قيمتها ثلاثمائة ألف والسيارة أو الطعام قيمته مائتان، فنقول حينئذ: تجزأ الصفقة ويعرف نصيب العقار من نصيب المنقول، ويؤمر الشفيع بدفع ما يستحقه نصيب البائع من الأرض. الحكم فيما لو تلف جزء من المبيع وأراد الشفعة قال: [أو تلف بعض المبيع] هذه المسألة صورتها: لو اشتريتما أرضا في مخطط، وهذه الأرض جاء سيل فاجتاحها أو كانت على بحر فغرقت، وبقي ربعها لم يصبه شيء، وشريكك كان قد باع نصف هذه الأرض، وهذا النصف الذي باعه قبل أن تشفع جاءت هذه الكارثة فاجتاحت ما اجتاحت من الأرض فتلف بعض المبيع، فيرد السؤال هل من حق الشريك والشفيع أن يشفع فيما بقي من الأرض أو ليس من حقه؟ الجواب كما جزأنا في حال الصفقات نجزئ في حال الإتلاف والفساد، فلو كان هناك مزرعة قيمتها مليون ريال، وباع شريكك نصيبه بخمسمائة ألف، ثم جاء إعصار وأحرق نصف الأرض وبقي نصفها، فهل من حقك أن تشفع؟ وإذا شفعت فهل يقدر التالف فتسقط قيمته أم أنه يجب عليك أن تدفع القيمة كاملة؟ قال بعض العلماء: إذا نزلت مصيبة بالأرض وأتلفت بعضها أو أتلفت بعض الزرع فنقصت القيمة ينظر إلى قدر التالف ويحسب من قيمة الشفعة، فإذا كان هذا النصف الذي باعه شريكك من المزرعة وهي سليمة طيبة قيمته خمسمائة ألف، ثم بعد التلف أصبحت القيمة مائتين وخمسين ألفا، ففي هذه الحالة يقولون: إنه يسقط قيمة التالف وتشفع وتعطي القيمة مائتين وخمسين ألفا، يعني: التالف لا يحسب، ولا تشفع بأصل القيمة، إنما تشفع بقدر الحصة مما تبقى. مناسبة هذه المسألة أنها تابعة لمسائل تجزئة الصفقة، فكما أنها تجزأت الصفقة في حال الجمع بين العقار وغيره -سواء كان من جنسه أو غير جنسه- كذلك في صورة العكس وهي النقص، فهناك حصلت زيادة فتجزأت، وهنا حصل نقص فتجزأت، ونقول: من باع نصيبه من أرض ثم تلف شيء من ذلك النصيب وبقي شيء فإن الشفيع يطالب بدفع قيمة الأرض بعد التلف لا قيمتها الأصلية، أي: لا نقول له: ادفع نصف مليون إنما نقول: ادفع مائتين وخمسين ألفا إذا كانت قيمة الأرض بعد حدوث هذه الحادثة أو الكارثة تساوي هذا القدر. قال: [فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن] كما ذكرنا؛ لأن هذا الضرر والفساد والإتلاف لا يتحمله الشفيع. حكم الشفعة في شراكة الوقف يقول المصنف رحمه الله: [ولا شفعة بشركة وقف] هذه المسألة تحتاج إلى شيء من الشرح والتوضيح، لكن محله إن شاء الله في باب الوقف، عند العلماء خلاف إذا أوقفت شيئا من أرض أو نحوها كالمزارع ونحوها فهل يزول ملكك عنه بالكلية ويصبح ملكا لله عز وجل أم أن ملكيته تبقى؟ إذا قلنا: إن الوقف تزول الملكية عنه بمجرد إيقاف صاحبه له، فحينئذ لن تستطيع أن تثبت الشفعة؛ لأن الشفعة يشترط فيها أن يكون الشفيع مالكا، والواقف لا يملك الأرض، ولذلك هذا مقرر على أصل وهو أنه يشترط في الشفعة أن يشفع في شيء يملكه، ولو أنك كنت شريكا مع شخص ثم بعت نصيبك أو وهبته ثم باع هذا الشخص نصيبه أو وهبه أو تصرف فيه، ليس من حقك بعد الهبة وبعد البيع أن تأتي وتشفع؛ لأنه زال ملكك، فإذا زالت ملكية الشفيع عن نصيبه الذي يستحق بسببه الشفعة قبل أن يطالب بالشفعة وقبل الحكم بالشفعة فإنه حينئذ تسقط الشفعة، فهو إذا أوقف الأرض أزال ملكيته عنها، فإذا أزال ملكيته من الذي يشفع؟ ومن هنا قال رحمه الله: [لا شفعة في شركة وقف] وتكون الشركة في الوقف عامة وخاصة، الأوقاف الخاصة مثل أن يقول: وقف على أولادي، ويخصص الوقف بأولاده، أو لبني فلان ويخصصهم، ويكون الوقف عاما كأن يقول: لفقراء المسلمين ومساكينهم من المجاهدين ونحو ذلك، وهذا فيه نوع من العموم النسبي. فالشاهد هنا إذا قلت: إن الوقف لا يملك، يصبح في هذه الحالة إذا كان النصف المتبقي وقفا، وباع شريك الوقف، من هو شريك الوقف؟ مثاله: لو أنك مع شخص اشتريتما أرضا، فقام هذا الشخص وأوقف أرضه لله عز وجل على أي وجه من أوجه الأوقاف، فلما أوقفها بعت أنت نصيبك، ليس من حقه أن يشفع بشركة الوقف؛ لأن ملكيته قد زالت بالوقف، ومن شرط ثبوت الشفعة أن يكون الشفيع مالكا حتى يستحق أن يدفع الضرر عن نفسه، قالوا: في هذه الحالة لا شفعة للوقف، وبناء عليه يكون إسقاط الشفعة بشركة الوقف مبنيا على عدم وجود الملكية. حكم الشفعة في ملك غير سابق قال رحمه الله: [ولا غير ملك سابق] لا يستحق الإنسان الشفعة إلا إذا كان له ملك سابق للبيع، أما لو وقعت ملكيته بعد شراء الأجنبي فحينئذ لا شفعة له، لو كان -مثلا- هناك أرض بين زيد وعمر، فباع زيد لخالد، وباع عمرو لك أنت، ووقع بيع زيد لخالد قبل أن تشتري، فليس من حقك -بعد أن تشتري- أن تقول: أنا شافع؛ لأن البيع وقع قبل ملكيتك للنصيب الذي تستحق به الشفعة، وهذه كلها أمثلة يقصد منها المصنف التنبيه على بعض الأمور أو الشروط التي ينبغي توفرها، فلابد من وجود الملك ولابد من أن يكون الملك سابقا لصفقة البيع. مثال آخر: لو كان الملك متراخيا بغير البيع، مثلا: لو كان والد الإنسان معه شريك في أرض، فباع شريك الوالد أرضه، ووقع البيع في محرم، وبلغ الوالد لكنه سكت فسقط حقه في الشفعة، ثم توفي الوالد وانتقل النصيب إلى الورثة، فقال الورثة: نحن نريد أن نشفع في هذا البيع فنشتري نصيب شريك والدنا، نقول: إن ملككم لم يكن سابقا للبيع وإنما وقع بعد البيع فلا تستحقون به الشفعة، إذا لابد من أن يكون هناك ملك، فأخرج هذا الشرط الوقفية؛ لأن الوقفية لا ملك فيها كما سيأتي إن شاء الله تفصيله. ثانيا: يشترط أن يكون هذا الملك سابقا، فإن كان الملك متأخرا فإنه لا يؤثر ولا يوجب ثبوت الشفعة. حكم شفعة الكافر على المسلم قال رحمه الله: [ولا لكافر على مسلم] أجمع العلماء على ثبوت الشفعة للمسلم على المسلم، وللذمي على الذمي، والخلاف لو وقعت الشفعة من ذمي على مسلم، فهناك ثلاث صور مجمع عليها: شفعة المسلم على المسلم، والذمي على الذمي، والمسلم على الذمي، لكن المسألة الخلافية هي الرابعة وهي: شفعة الذمي على المسلم. وهذه المسألة تقع إذا كان أهل الذمة في أرض واشترك مسلم وذمي في أرض، فلو اشترك مسلم وذمي في أرض، فإن باع الذمي سواء باع على ذمي مثله أو باع على مسلم فمن حق المسلم أن يشفع، وهذا ليس فيه إشكال، لكن إن باع المسلم ننظر في بيعه إما أن يقع على ذمي فتصبح شفعة ذمي على ذمي وهي جائزة لعموم الأدلة، وإما أن تقع البيعة من مسلم على مسلم فحينئذ يرد السؤال هل للذمي شريك المسلم أن يشفع فيأخذ هذا النصيب من المسلم الداخل عليه؟ هذا في حال ما إذا باع مسلم على مسلم وكان شريكا لذمي. أو كان هناك ذميان، فباع أحدهما نصيبه إلى مسلم، فحينئذ سيشفع الذمي الثاني على مسلم، هل من حقه أن يشفع على المسلم؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، ووقع فيها قضاء لأئمة السلف كـ عمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، وحاصل ما ذكروه في هذه المسألة أن فيها قولين: القول الأول: لا شفعة للذمي على المسلم، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، ولا يستحق الذمي أن يأخذ النصيب من المسلم إذا بيع له سواء كان البيع من مسلم أو ذمي، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف رحمه الله: أنه لا شفعة لكافر على مسلم. القول الثاني: أن الذمي يستحق الشفعة على المسلم وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك تعتبر هذه المسألة من مفردات المذهب الحنبلي، والمفردات عند العلماء هي: المسائل الفقهية التي انفرد فيها مذهب عن بقية المذاهب الأخرى، فهناك مفردات في المذهب الحنفي، ومفردات للمذهب المالكي والشافعي والحنبلي، ومن أنفس الكتب التي ألفت في المفردات ما ألفه الحافظ ابن كثير في كتابه المشهور: المسائل التي انفرد فيها الإمام الشافعي عن إخوانه من الأئمة، وذكر فيها مفردات المذهب الشافعي، كذلك مفردات المذهب الحنبلي جاء فيها نظم وشرح هذا النظم في الكتاب المشهور منح الشفاء الشافيات في شرح المفردات للإمام شيخ الحنابلة الجهبذ العلامة البهوتي رحمه الله برحمته الواسعة، وهو من أنفس الكتب التي يذكر فيها مفردات مذهب أحمد. انفرد الحنابلة فقالوا: الذمي لا يشفع على مسلم، وهذا القول له أدلة، وتكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله كلاما نفيسا، وذكر الحجج والأدلة في كتابه النفيس: أحكام أهل الذمة، وذكر فيه أكثر من عشرة أوجه لترجيح القول القائل: بأنه لا شفعة للذمي على المسلم؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وفي أخذ النصيب من المسلم قهر له وعلو عليه. ثانيا: أن الإسلام هو دين الله عز وجل، والمقصود إعلاء كلمته، ونشره في الأرض، حتى لا يكون للكافر سلطان على المسلم حتى في الأموال. فقالوا: في هذه الحالة إذا اشترى المسلم هذا النصيب وجاء الكافر واستكثر وتقوى على المسلم فيكون قد استظهر في أمر زائد عن حقه، ومما يؤكد هذا -حسبما قالوا- أن الله عز وجل شرع لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا الكفار أن نضطرهم إلى أضيق الطريق، وأن لا نبدأهم بالسلام، مع أنهم معنا في مكان واحد، لكن لابد أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة؛ لأنهم إذا لم يشعروا بذلك استعلوا على المسلمين، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من السنن العمرية التي وضعها وجرى العمل عليها عند العلماء، وكاد يكون إجماعا، على أن الكافر إذا كان بين المسلمين لا يبني بناء يعلو به فوق المسلمين، فيكشف به عوراتهم، أو يكون له تميز أو علو عن المسلمين؛ لأن المقصود أن تكون كلمة الله هي الغالبة، وكما يكون الشعار للإسلام معنى يكون له حسا. فإذا جاء الكافر يستظهر على المسلم بشراء النصيب، ويستظهر باتساع رقعته وملكيته بين المسلمين هذا لا شك أنه سيضر بمصالح المسلمين، وسيجعل له سلطانا على المسلمين، والله عز وجل يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ونحن بالشفعة نجعل للكافر على المسلم سبيلا. فتكلم ابن القيم في هذا كلاما نفسيا بأدلته النقلية والعقلية من أكثر من عشرة وجوه، وبين أن مقاصد الشريعة -بل حتى إن المقصود من الشفعة- قد لا تتحقق إذا مكنا الكافر من أن يشفع على مسلم؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، وهل هناك أضر من كافر لا يدين دين الحق يستعلي على المسلم بماله؟! ولذلك لاشك أن من تأمل أصول الشريعة يقوي هذا الوجه، ويرى أن القول بثبوت الشفعة للكافر لا يخلو من نظر إذا كان على مسلم؛ لأن العمومات تخصص، وهناك قواعد وأصول للشريعة تخصص ما هو أقل درجة منها، فأنت إذا نظرت إلى نصوص الكتاب والسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي والقولي من كف شعار الكفار، وعدم إعطائهم القوة لاستظهارهم على المسلمين ترى أن القول بعدم ثبوت الشفعة لهم أقوى وأظهر، وأنهم يصوغون القول بتخصيص عموم الأدلة الواردة؛ ولأن الأدلة في الأصل إنما وردت للمسلمين والكفار تبع، والتابع لا يقوى اندراجه تحت الأصل من كل وجه إذا عارض ما هو أقوى وأرجح أصولا ومعنى، ولذلك نقول: إن القول بإسقاط الشفعة للذمي على المسلم أقوى وأظهر، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الشفعة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (382) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [4] الشفعة حق للشركاء، إلا أنها تسقط في بعض الأحوال كأن يكون نصيب الشريك تصرف فيه بوقف أو هبة أو رهن. وكما أن للشريك الحق في الشفعة إلا أنها تسقط إذا توؤفي قبل المطالبة بها، ولا يستحقها ورثته إلا إذا طلبها قبل الوفاة. الأحوال التي تسقط فيها الشفعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت الشفعة] صورة المسألة تقع إذا اشترى شخص نصيب شريكك وقبل علمك، وقبل أن تشفع أوقف هذا النصيب، فمثلا: لو كانت هناك أرض بينك وبين شريكك، فباع شريكك إلى رجل فأوقف هذا الرجل نصيبه على بناته وذريته وعلى وجه من وجوه الخير، أو سبله، فما الحكم؟ وهذا يتأتى فيما لو قسم الحاكم في حال غيبتك، فمثلا: اشتريتما أرضا في مخطط بخمسمائة ألف وكان له نصفها، ثم باع النصف الذي له على شخص، وأحب هذا الشخص أن يبني مسجدا، فأوقف هذه الأرض للمسجد، فلما أوقفها احتاج في هذه الحالة أن يطالب الحاكم والقاضي في حال غيبتك أن يقسم بينه وبينك؛ لأنه ما يستطيع أن يوقف مجهولا، ولابد أن يحدد نصيبه الذي عليه الوقفية. فالقاضي قضى بأن هذه الأرض تقسم فقسمت، فإذا قسمت في هذه الحالة أصبح هذا الوقف جارا لك، فهو ملاصق لملكك وقد تكون المنافع واحدة، كما لو إذا كانت أرضا فأوقف نصفها، ففي هذه الحالة يقول بعض العلماء: تثبت الشفعة بعد المقاسمة في صور منها هذه الصور وهي حال غيبتك البعيدة إذا طلب من القاضي أو الحاكم أن يقسم وقسم، فميز نصيبك من نصيبه، فتبقى أنت على شفعتك، مع أنها قد قسمت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) وبينا هذا في مسألة قسمة العقار، لكن إذا وقعت القسمة قبل علمك وقبل مجيئك كما إذا قضى بها القاضي، فإذا وقعت على هذا الوجه وميز القسمان، وجئت وأردت أن تشفع فإنه إذا تصرف بالوقفية لا شفعة لك؛ لأنه في هذه الحالة الوقفية لا يمكن تداركها، ويبقى النصيب وقفا ولا شفعة لك فيه. قال: [أو هبته] وقد بينا فيما مضى أنه يشترط في ثبوت الشفعة أن تكون منتقلة بالمعاوضات، فإذا كان صاحبك أو شريكك قد وهب هذا النصيب لشخص، فإنك لا تستطيع أن تشفع؛ لأنه انتقل بهبة ولم ينتقل بالعوض، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة معاوضة ولم يقض بها وقفا، ولذلك لا شفعة في وقف ولا موهوب. قال: [أو رهنه] وهكذا لو رهنه، فعلى أحد قولي العلماء رحمهم الله أنه ليس من حقك أن تشفع حتى ينتهي وقت الرهن، وقد فصلنا مسائل الرهن: إما أن يباع، وإما أن يبقى ملكا، أو تعود الأرض كما كانت في حالتها الأولى؛ لأنه في حالة الرهن لو قيل بفسخه فيه ضرر على الطرف الثاني وهو صاحب الدين، ولذلك يقول بعض العلماء بجواز الرهن بمثل هذا، ويكون على طريق المقاسمة لأجل أن يتحقق فيه القبض. ولو أن شريكك أوصى بهذا النصيب، فإنه إذا لا ينتقل، يعني: لا يسقط حقك في الشفعة؛ لأن الوصية موقوفة إلى ما بعد الموت، وهي تصرف مسند إلى ما بعد الموت، وبناء على ذلك إذا أوصى وقبل أن يموت جئت أنت وشفعت فمن حقك أن تشفع، هذا إذا اشترى شخص نصيب شريكك وتصرف به بالوصية، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تلغي الوصية وتسترد النصيب. من أمثلة ذلك: لو كان معك شريك في مزرعة بينكما مناصفة، فباع شريكك نصيبه بمائة ألف إلى رجل، هذا الرجل الذي اشترى منه أوصى أن نصف هذه المزرعة يكون في وجوه الخير والبر، فقد أوصى بشيء مستحق بالشفعة، فإذا جئت من حقك أن تطالب بالشفعة وتسقط الوصية؛ لأن الوصية لا تسقط الاستحقاق في الشفعة. الأحوال التي لا تسقط فيها الشفعة وقوله: [لا بوصية] إلا إذا كان بوصية فمن حقك أن تشفع، وسقطت الشفعة في الوقف، وفي الهبة؛ فأنت ما تستطيع أن تسترد الموهوب ولا تستطيع أن تشفع في شيء وهبه غيرك. قال: [سقطت الشفعة] لأن الشفعة استحقت بالبيع الأول، وسقطت بالوقفية وهي التصرف الثاني، وهكذا بالنسبة للمسألة الثانية في الهبة، الشفعة استحقت بالبيع من شريكك وسقطت بالهبة من المشتري، فإذا وهب المشتري سقطت شفعتك. قال: [وببيع فله أخذه بأحد البيعين] كل الكلام هنا إذا كان المشتري من شريكك أوقف أو وهب أو وصى، قلنا: تسقط الشفعة في الاثنين الأولين ولا تسقط في الوصية. يبقى السؤال لو أن هذا المشتري أخذ نصيب شريكك من المزرعة بخمسمائة ألف، فباعه على شخص ثان بأقل أو أكثر أو مثل، فالسؤال: لما باع للشخص الثاني هل تسقط شفعتك بهذا البيع أو لا؟ قالوا: لا تسقط الشفعة بالبيع، وهذا قول جمهرة أهل العلم رحمة الله عليهم، حتى إن بعضهم يحكي الإجماع أنه لا يزال حقك في الشفعة ثابتا. لكن يرد السؤال: هل من حقك أن تشفع بالثمن الأول أو بالثمن الثاني؟ إذا كان الثمن واحدا ما فيه إشكال؛ تدفع للثاني خمسمائة ألف فيرجع على الأول، أو يفسخ البيع وتأخذ النصيب بالشفعة ويكون المبلغ للأول، يكون وجهك على البائع الذي هو شريكك، ثم يرد للمشتري حقه وينتهي وتثبت الشفعة؛ لكن الإشكال إذا باع المشتري الثاني بأقل أو بأكثر، فمثلا: شريكك باع بخمسمائة ألف، ثم باع المشتري من شريكك بأربعمائة ألف، فالأفضل لك أن تأخذه من الثاني بأربعمائة ألف ويرجع على الأول إذا أحب الرجوع؛ لأنه رضي بالخسارة، فتأخذ النصيب بأربعمائة ألف، فهذا أفضل لك. لكن إذا كان العكس؛ شريكك باع بخمسمائة ألف، وباع المشتري الثاني بمليون، فحينئذ الأفضل لك أن تأخذ من شريكك، وتكون شفعتك ببيعة شريكك لا ببيعة المشتري، وعلى هذا يكون لك الخيار؛ إن شئت أخذت بالبيع الأول، وإن شئت أخذت بالبيع الثاني، وهذا في حال اختلاف البيعتين. للمشتري الغلة والنماء المنفصل إذا تأخر الشفيع لعذر قال رحمه الله: [وللمشتري الغلة والنماء المنفصل، والزرع والثمرة الظاهرة] . بالنسبة للشفعة إذا وقعت في العقار، إما أن يكون العقار جامدا مثل: الأراضي والمخططات، ولا يبنى عليها ولا تزرع وتبقى على حالها، حينئذ لا إشكال إذا بقيت على حالها. ولكن الإشكال إذا تصرف المشتري بزيادة أو نقص أو كانت الأرض ذاتها فيها بناء وله غلة، فما الحكم في هذه الغلة في حالة ما إذا طالت المدة بين شفعتك وأخذك للنصيب وبين البيع؟ وهذا يقع فيما لو كان لك أرض أو مزرعة مع شخص، وباع شريكك، ومكثت خمس سنوات لا تعلم بالبيع، فخلال الخمس سنوات نتاج الأرض وغلتها لمن تكون؟ فهذا أمر يحتاج إلى بحث، ويدل على كمال الشريعة الإسلامية، فالشريعة الإسلامية لما كانت تنزيلا من حكيم حميد عليم بعباده، حكيم في شرعه سبحانه وتعالى، {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] علم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، أتت تعالج حتى المسائل الطارئة، ولذلك القوانين الوضعية تعجز عن معالجة المشكلات إلا بعد حدوثها، فهي لا تقنن للأشياء قبل الحدوث؛ لأنها عاجزة، ومن بشر ناقص، وتتأثر بالأعراف وبالأشخاص وبالأزمنة وبالأمكنة. فبعد وجود المشاكل تحدث قضايا وضعية، فيأتي ما يسمونه بالمشرع، وهو المخلوق الناقص العاجز، لكي يجمع قضاء فلان وقضاء فلان وقضاء فلان ويلفق من بين هذه الأقضية قضاء، وهذا موجود، فالآن بعض التشريعات الوضعية تعتمد على القضاء الغربي في أوربا وكان في عصور مظلمة، فيأتون في زمان ويجمعون قضاء من البلد الفلاني، ومحكمة النقض في البلد الفلاني، ومحكمة الاستئناف في البلد الفلاني، فيجمعون منها تصورات، ثم من هذه التصورات تخرج المواد، مثل ما يسمونه بالتشريعات والتقنينات، ولما كانت هذه التقنينات حدثت في عصور قد لا تلائم هذا العصر ولا تتفق معه ولا تسايره، فيحتاجون عندها إلى تجديد وتغيير، ولذلك لن تجد أعقد من أحكامها ولا أكثر قصورا منها؛ لأنها لا يمكن أن تعالج بشكل كامل، ولا يمكن أن تضع الحلول بشكل كامل. وإذا بفقهاء الشريعة وعلمائها لا يعالجون فقط المشاكل التي في عصرهم، وإنما يضعون قواعد مستنبطة من أصول الشريعة لما يسمى بالطوارئ والآثار المترتبة على العقود، وهذا في خلال القرن الأول والثاني وازدهر كثيرا في أواخر الثاني والثالث، في عصور بني العباس لما فتحت الدنيا على الناس، فأصبحت المسائل تتعدد والمشكلات تكثر في آخر القرن الأول؛ لأن الصحابة كان عندهم الورع، وكانوا لا يفتون إلا في مسائل الواقع، وكانوا يسألون السائل: أوقع هذا؟ فإن قال: وقع أفتوا واستعانوا بالله وقضوا، وإذا قال: لم يقع، يقولون: دعوه حتى يقع، فكان عندهم من الخوف والورع، وهذا أحسن. ثم جاء من بعدهم -لأن الأمة كلما تأخر زمانها ضعف علمها وفقهها- فاحتاجوا أن ينصحوا لمن يأتي من الأمة، فجاءوا بما يسمى بالفرضيات، وهذه الفرضيات منها ما هو مبني على أصول، فهي ليست فرضيات من فراغ ومنها هذه المسائل، يعني: يكون العقل يعمل ويفكر في الشريعة، فتجد الفقه مرتبا منظما، حتى الأشياء التي يمكن أن تطرأ في بعض العصور دون بعضها، يقول الله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3] ، فهذا الدين هو الكتاب السنة. فكل ما تفرع على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كامل، ولذلك تجد الآية الواحدة تحتمل عشرة أوجه، والعشرة الأوجه هذه صالحة لكل زمان ومكان، وتجد الحديث يختلف فيه العلماء على ثلاثة أوجه -نفس المنهج الذي استنبطت منه الثلاثة الأوجه- تعالج مسائل يستفاد منها في غير هذا الحديث فضلا عن هذا الحديث، فهذا كله من كمال الشريعة، فالعلماء رحمهم الله يذكرون المسائل النازلة، والمسائل التي هي آثار وطوارئ قد تتجدد وتطرأ على القول والحكم بالشريعة. قال رحمه الله: [وللمشتري الغلة] الشريعة أثبتت حكم الشفعة، فيرد السؤال إذا وقعت الشفعة متأخرة، وحصل ما بين وقت البيع وبين الطلب بالشفعة نماء أو غلة، وهذا يقع -مثلا- في البستان، فلو كان لك بستان مع شريك ووقع البيع في شهر محرم، فقام شريكك بعد ذلك وباع نصيبه بثمره فلم تعلم بالبيع إلا بعد أن بدأ صلاح الثمرة، وبعد أن جذت الثمرة جئت وقلت: أنا شافع، فهل الثمرة تكون لك أنت الشافع، لأنك تستحق هذا النصيب من الأول بدليل أنك أخذته بنفس القيمة فيكون ملكا لك بثمرته؛ لأن الفرع تابع لأصله، أم أن الثمرة تكون للمشتري، وتملك الأرض والأصول ولا تملك الثمرة؟ فصلنا هذه المسألة في مسألة رد المبيع بالعيب، وذكرنا أنه إذا كانت هناك ثمرة ونماء أنه يكون للمشتري، وبينا عدل الشريعة الإسلامية ودقتها في هذا، وبناء عليه فإن الحكم هنا أن الشريعة لا تضطرب، ولذلك تجدها كالبناء المحكم المتماسك، فكما أنها قضت هناك بأن المشتري يده يد ضمان فيستحق الثمرة، كذلك هنا المشتري يده يد ضمان ويستحق الثمرة، وبناء عليه يقول المصنف رحمه الله: إن هذا النماء يكون ملكا للمشتري، والثمرة التي بدأ صلاحها أو أبرت كلها ملك للمشتري؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت فيها ملكية المشتري. قال: [وللمشتري الغلة والنماء المنفصل والزرع والثمرة الظاهرة] (للمشتري الغلة) الغلة أو المحصول، (والنماء) الزيادة المنفصلة لا المتصلة، فإذا كان مثلا: نخل تغير حاله، كأن يكون باعه الشريك وهو عطشان، فشاء الله وأنزل المطر فتحسن حال النخل وامتلأ، وأصبح بحال طيبة، هذا نماء متصل لا يملكه المشتري وإنما يبقى مع العين، ولذلك لا يستحق إلا النماء المنفصل، وهو الغلة والجزة الظاهرة، فمثلا: لو كانت الأرض مزروعة بالبرسيم وذكرنا هذا في خيار العيب ونحوها من المسائل، أن هناك ما يتبع المبيع وما لا يتبعه في مسألة باب بيع الأصول والثمار، وفي هذه الحالة إذا باعه أرضا مزروعة بالبرسيم، فإذا جزها قبل علم الشريك بالبيع، مثلا: بقيت معه لمدة سنة، فنقول: يملك هذا الذي جزه وهو إنما جز وباع ملكا له؛ لأنه على ضمانته. قال: [والزرع والثمرة الظاهرة] لا المخفية فإنه لا يملكها، وهي ثمرة السنة القادمة، كما لو شفعت وكانت المدة بين الشفعة وبين البيع هي مدة الكن، وهي الثلاثة الأشهر التي تستكن فيها الثمرة بعد جذاذها من النخل، وقبل ظهور الثمرة الجديدة للعام الجديد. حكم المشتري إذا بنى وغرس قال رحمه الله: [فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويغرم نقصه، ولربه أخذه بلا ضرر] قوله: (فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه) هذه المسألة حقيقة فيها إشكال عند العلماء رحمهم الله، يبيع شريكك نصيبه ولا تعلم أنه باع، ويشتري أجنبي هذا النصيب، فيقوم ببنائه أو يقوم بالغرس فيه، فحينئذ يرد السؤال إذا جئت تشفع ما حكم هذا البناء والغرس؟ أنت تستحق الأرض أرضا بيضاء، ولكن المشتري تصرف في الأرض فزاد فيها بالبناء أو زاد فيها بالعمران، فإن تصرف المشتري ينقسم إلى قسمين: إما أن يتصرف بشيء لا يدوم في الأرض، وإما أن يتصرف بشيء يدوم ويبقى في الأرض، فالذي لا يدوم في الأرض مثلا كأن يتصرف بشيء مؤقت، مثل ما ذكرنا في غلة الزرع، أو يضع بيوتا جاهزة، فهذه لا تدوم بل يمكن أن ترفع وتنقل وليس فيها إشكال، لكن المشكلة أن يتصرف بالدوام مثل البناء، أو الغرس، أو حفر الآبار، وقد ذكرنا أنواع الاستحداثات في كتاب الغصب، وبينا أن العروق منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، فاثنان ظاهران وهما: البناء والغرس، واثنان باطنان وهما: الآبار والعيون، إذا ثبت هذا فإذا تصرف المشتري فيما اشتراه وهو نصيب شريكك قبل أن تشفع، فحينئذ يرد السؤال: هل من حقك أن تجبره على رفع جميع ما أحدث، أم تجبر أنت على شراء ما أحدث ويجبر هو على بيعه، أو تصطلحان؟ فلو قلنا: إنه يرفع ما أحدث، الفترة التي مضت واستفاد من الأرض فيها بغرس أو نحوه هل لك الأجرة فيها أو لا؟ كلها مسائل تحتاج إلى نظر، من أهل العلم رحمهم الله من قال: إن المشتري إذا تصرف في الأرض قبل أن تشفع فإن تصرفه لاغ، ولذلك من حقك إجباره على قلع الغرس وهدم البناء، وهذا هو مذهب الشافعية ومن وافقهم، وفي الحقيقة أنه أقوى المذاهب والأقوال، ولهم في ذلك مسلك فقهي دقيق، حاصله أنهم يرون أن المشتري لما اشترى من صاحبك وشريكك، كان المنبغي أن لا يتصرف حتى يستأذنك؛ لأن الشريك مع شريكه في مثل هذا لا يتصرف باستحداث أرض، فإذا كنت شريكا مع شخص، وجاء يريد أن يبني أو يريد أن يغرس، ليس من حقه أن يبني ولا يغرس حتى يستأذنك؛ لأن كل جزء من الأرض مشترك بينكما، فليس من حقه أن يبني فيه حتى يستأذنك، ولذلك يقولون: يسقط استحقاقه في هذا التصرف، ويكون تصرفه في غير موضعه، فيتحمل مسئولية ما بنى وغرس، وفي الحقيقة هذا القول من حيث الأصول قول صحيح وهو الأشبه إن شاء الله بالرجحان والاعتبار، وبناء على ذلك يسقط حقه، ويطالب برفع غرسه وإزالة بنائه. إذا أردت أن تشتري منه البناء، أو تشتري منه الغرس فلك ذلك، وإذا أردت أن تشتريه واصطلحتما على ذلك فهذا لا إشكال فيه أما من حيث الأصل فليس من حقه أن يبني ويستحدث فيما هو ملك مشترك بينكما إلا بإذنك. قال: [وقلعه ويغرم نقصه] يقولون: له الحق أن يطالب فيه، فإذا قلعه يغرم النقص، وهذا يثبت أن الشريك لما تصرف يثبت له اليد، وهذا القول لا يخلو من نظر، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله أنه يضمن له النقص، وإذا قلع المشتري الغرس والبناء يضمن نقص الأرض، لما دخل على الشريك من الضرر، كما سبق بيانه في كتاب الغصب، إذا بنى الغاصب واستحدث في الأرض المغصوبة؛ لأن تصرف الشريك هنا على غير وجهه. قال: [ولربه أخذه بلا ضرر] (ولربه أخذه) يعني: أخذ ذلك النصيب (بلا ضرر) كما لو كانت قيمته نازلة وكان السوق كاسدا، ففيه مضرة على المشتري إذا طالبه ببيعه، لكن نحن بينا في هذه المسألة أن المشتري لا يستحق التصرف فيها، ثم إذا أراد الشفيع أن يشفع وأن يشتري ذلك يشتريه بحقه أو يصطلحا. بطلان الشفعة إذا مات الشفيع قبل طلبها قال رحمه الله: [وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت] وإن مات الشفيع قبل أن يطالب بشفعته بطلت الشفعة؛ لأن الشفعة لا تورث، لكن لو طالب فإن الورثة يرثون استحقاق المطالب به، وقد تقدم معنا هذا فيمن يشفع، مثال هذه المسألة: لو أن شريكين باع أحدهما نصيبه إلى زيد، وتوفي الشريك الذي له حق الشفعة قبل أن يطالب بشفعته، فإنه يسقط الحق ولا يرث الورثة ما كان لمورثهم من المطالبة بالشفعة، ولذلك يقولون: الشفعة ضعيفة تسقط بأوهن الأسباب؛ لأنها خارجة عن الأصل، وقد ذكرنا هذا وبيناه. يرث الورثة الشفعة إذا مات الشفيع بعد المطالبة قال رحمه الله: [وبعده لوارثه ويأخذ بكل الثمن] وبعد الطلب إذا طالب بالشفعة وتوفي قبل أن يحكم القاضي بشفعته يرث ورثته المطالبة بالشفعة، و السؤال هل يختص الحكم بالعصبة ويشمل ذلك الأبناء الذكور دون الإناث وأبناء العم ونحوهم من العصبة، أم أن الشفعة تشمل جميع الورثة؟ و الجواب ما دام أن الميت طالب بها ثبت الحق للورثة على حسب نصيبهم، فالزوجة إذا كان له ولد تستحق وتطالب بالشفعة وتدفع الثمن، ثم السبعة الأثمان للأبناء ذكورا وإناثا على حسب نصيبهم، فيدفع كل من المال على قدر حصته من التركة على الأصل المعروف في علم المواريث، فمثلا: لو كان الميت أو الشفيع الذي طالب بالشفعة له ثلاثة أولاد: ابن ذكر وبنتان، في هذه الحالة يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وتكون المسألة على أربعة أنصبة، نصيبان للذكر، واثنان كل واحد منهما لواحدة من البنتين، إذا ثبت هذا أنها منقسمة على أربعة أنصبة، وتوفي مورثهم وقد طالب بالشفعة، وكانت الأرض قد بيعت بأربعة آلاف، نقول للابن الذكر: ادفع ألفين وتستحق نصف نصيب الشريك، ونطالب كل واحدة من البنات أن تدفع ألفا وتستحق ربع نصيب الشريك وبقدر حصصهم من التركة، وهذا القول يقول به جمع من العلماء، وممن اختاره من أئمة السلف الإمام الشافعي نفسه وهي من مسائل المختصر، وبين رحمه الله أنه يستحقها الورثة. قال: [فإن عجز عن بعضه سقطت شفعته] فإن عجز عن بعض ذلك النصيب سقطت شفعته، هذا شرط من شروط الشفعة، أنه يدفع المبلغ كاملا، فإن عجز عن بعض المبلغ لا يستحق الشفيع الشفعة، بل لابد من دفع الثمن الذي بيعت به الأرض كاملا، لو قال: أدفع النصف ولا أقدر على النصف الباقي نقول: ليس من حقك النصف فقط، ولو قال: أدفع ثلاثة أرباع وأنا عاجز عن الربع الباقي سقطت شفعته، فإما أن يأخذ الكل أو يدع الكل إلا في المسائل التي فصلنا فيها في تفريق الصفقة ونحوها، ففيها تفصيل، أما من حيث الأصل إذا أردت أن تشفع في نصيب شريكك تأخذه كله بالثمن الذي بيع به كاملا، لا ضرر ولا ضرار، فلو قلنا: إنه من حقك أن تأخذ ببعض الثمن أضررنا بالمشتري، فلا يجوز أن يضر بالمشتري كما لا يجوز أن يضر بالشريك. استحقاق الشفيع نصيب شريكه بما باعه مؤجلا أو عاجلا قال رحمه الله: [والمؤجل يأخذه المليء به، وضده بكفيل مليء] لو باع شريكك نصيبه بالتقسيط بمائة ألف مؤجلة مقسطة على عشر سنوات، تستحق أخذ هذا النصيب مؤجلا إلى عشر سنوات بالأقساط التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن الشفعة تثبت بنفس الذي وقع بين المتعاقدين، إن كان مؤجلا فمؤجل، وإن كان معجلا فمعجل، وبناء على ذلك إذا كانت مؤجلة تأخذها مؤجلة لكن بشرط أن تكون مليئا قادرا على السداد، أما لو كان الشفيع عاجزا عن السداد أو معروفا بالفقر وقلة ذات اليد وليس عنده مال، ويخشى أنه يضر بالمشتري، نقول في هذه الحالة: من حقك أن تأخذه مؤجلا بشرط أن تحضر كفيلا مليئا يكفلك ويضمنك أنك إذا لم تسدد يسدد عليك، على ما تقرر معنا في باب الكفالة. فمن حقك إذا كنت مشتريا أن تطالب الشفيع أن يحضر كفيلا، تقول: أنا ما أستطيع أن أخاطر وأبيعك وأنت ضعيف أو فقير؛ لأن هذا يضر بمصالحي، وهذا معلوم أن الفقير يضر بمصالحك وربما عجز عن السداد فأصبح مفلسا، فالشريعة عدلت وقالت: من حقه أن يأخذ نصيبك لكن بالعدل، وذلك بأن يسدد كما تسدد، وعلى هذا فإنه إذا اتفق على هذا الوجه صحت الشفعة، أما أن يأخذه مؤجلا على وجه مخاطر لصاحب الحق فهذا لا يصح. قال: [وضده بكفيل مليء] (وضده) يعني: بالثمن المؤجل من عاجل، يعني: إذا كان غير مليء يأتي (بكفيل مليء) بكفيل قادر على السداد يرضاه صاحبه. الأسئلة حكم الشفعة في الأرض التالفة إذا استصلحها المشتري السؤال إذا ما أتلف نصيب شريكي الذي باعه وقام الذي اشتراه بإصلاحه فهل لي الشفعة، وهل أعطيه قيمة الإصلاح؟ الجواب إذا كان التلف موجودا حال البيع، وبيع النصيب تالفا فإنك تدفع قيمة الشيء التالف، هذا من حيث الأصل؛ لأنه ليس من حقه أن يتصرف في هذا الشيء إلا بعد إذن صاحب الملك ويتراضيان على ذلك، فإن رضيت بإصلاحه وأردت دفع العوض له كان لك ذلك، وإلا أخذ ما استصلحه على التفصيل الذي ذكرناه في الغرس والبناء، والله تعالى أعلم. مسألة إذا أقيمت الصلاة وما زال بعضهم يصلي السنة السؤال إذا أقيمت الصلاة وقد شرعت في صلاة السنة الراتبة وتحية المسجد فهل الأفضل أن أقطعها أم أتمها؟ الجواب في هذه المسألة تفصيل، فإذا كانت الإقامة قد وقعت ويمكنك أن تتمها قال الله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33] ولأن إتمامها زيادة في الأجر وعظم في المثوبة، ولا ينبغي للمسلم أن يذهب بذلك الخير، وأما إذا ضاق الوقت وغلب على ظنك أنك لو أتممت فاتتك الركعة الأولى أو فاتك ركوع الإمام فإنه يجب عليك التسليم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) واستثنى العلماء المسألة الأولى؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لو أقيمت الصلاة وأنت في التشهد الأخير أنك تتم الصلاة، وعلى هذا يكون ما قارب هذه المسألة مما غلب على ظنك أنك تدرك فيه الإمام يعتبر مستنثى من هذا الحديث، والله تعالى أعلم. أهمية الأذكار والأوراد للمسلم السؤال نرجو منكم بيان أهمية الأوراد والأذكار بالنسبة لكل مسلم؟ الجواب من نعم الله عز وجل العظيمة على العبد أن جعل الأذكار حرزا له من كل بلاء وشر وفتنة، كلمات طيبات مباركات، يقولها المؤمن وتقولها المؤمنة، مشتملة على توحيد الله والاعتصام به والالتجاء إليه، وتفويض الأمر إلى الله، فيحفظ الله بها عبده، ويعصم بها أمته، فيمسي في أمان الله، ويصبح في حرز من الله، لا يتسلط عليه معها عدو، ولا يتمكن منه شرير، محفوظ بحفظ الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، يقولها المؤمن بقلب موقن، ولسان صادق؛ فتفتح لها أبواب السماوات، مشتملة على الاعتصام والالتجاء والعوذ واللوذ بالله جل جلاله، فإذا به يحفظ بحفظ الله عز وجل من أمور لم تخطر له على باب، ويعلم الله جل جلاله أنه لولاه سبحانه ثم هذه الأذكار لما أصبح من مسائه ولما أمسى من صباحه. فالموت أقرب للإنسان من شراك نعله، ولو تأمل الإنسان أن روحه وجسده مسخر مقدر بلطف من الله جل جلاله فوق العقل، الأطباء يقولون: في الدم نسبة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) لهلك الإنسان في ساعته، والأطباء يقفون عاجزين مستسلمين إذا حدث أي اختلاف يفضي بالإنسان إلى الموت، ولا يستطيع أحد أن يتكلم، ولا يستطيع أن يعرف شيئا وإذا بهم يقولون: هنا ينتهي الطب، وهنا تقف عقولنا ويبقى الأمر لله جل جلاله، وهو لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، فتجد هذه الأشياء التي تفضي بهلاك الأنفس لا تختص بالصغير ولا بالكبير، يعني: قد يحدث خلل في رجل عاجز كبير السن، يغلب على الظن أنه ميت فيقول قائل: نعم لكبر سنه، فإذا بالله جل جلاله يأتيهم بطفل ما يبلغ حتى سنوات، ويوضع بين أيديهم، وإذا بهم يستسلمون، ثم يأتيهم بالشاب القوي الجلد في صحته وعافيته، وفجأة يحدث له ذلك، أو تأتيه السكتة أو يأتيه -نسأل الله السلامة والعافية- ما يأتيه وإذا بهم يقفون عاجزين، ما ينجيهم إلا الله جل جلاله. شرع الله هذه الأذكار والأوراد حرزا من الشرور الظاهرة والباطنة من الشرور المجتمعة والمنفردة من أي شيء يصيبك في دينك أو دنياك، فالأذكار عصمة من الله جل جلاله للعبد، وهذه الكلمات يقولها الإنسان ملتجئا إلى الله، فتكتب له حسنات تلاوتها إذا كانت من الآيات، وأجر ذكرها إذا كانت من الأحاديث، فما أكرم الله جل جلاله! وما أعظم رحمته بعباده! هذا والله هو الكرم وهذا هو الجود! مع أنها حرز لك، فهل وجدت أحدا يحرسك ثم مع ذلك يعطيك؟! لا يكون هذا إلا من الله وحده، ولذلك الناس اليوم في غفلة، وأبسط شيء -وليس بالبسيط- إذا ركبت وأنت في السفر، ولنضرب مثلا بشيء موجود الآن: تركب الطائرة فتقول: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، إي والله سبحان الله الذي سخر هذا المخلوق العجيب، لو كان يوجد بالذكاء والله إن الأقدمين أكثر منا ذكاء، ولو كان يوجد بالقوة والله إن الأولين أشد وأقوى منا كما أخبر الله عز وجل، أكثر منا قوة! وأكثر منا أموالا! وأكثر منا صحة! ولكن الله سبحانه يعطي الأول ويعطي الآخر لأنه كريم، فتقف أمام هذا المخلوق العجيب، والذي صنع الطائرة حائر كيف تطير؟ صنع الطائرة وهو لا يدري كيف تطير هذه الطائرة! فالله هو الذي فتح باب رحمته وسخر هذا المخلوق العجيب للناس. والذي نريد أن نعرف فضله هو الذكر وفائدته، يقول الإنسان الأذكار قبل أن يركب طائرة، وقلبه يرجف من الخوف وليس له معاذ ولا ملاذ إلا إلى الله جل جلاله، أمة تحمل بين السماء والأرض -الأربعمائة والثلاثمائة والمائتان والمائة- يحملون في شدة الحر وإذا بهم في برد، ويحملون في شدة البرد وإذا بهم في دفء، ويمضون الساعات بطعامهم وشرابهم، ولربما أغدقت عليهم المترفات التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ثم يسيرون في أمان من الله جل جلاله، يقول بعض الخبراء: لو حدث أقل خلل في الجهاز الكهربائي يمكن أن تنفجر هذه الطائرة بمن فيها، فلا يبقى فيها أحد، ويقول بعض مشايخنا: لولا أن المشاهد أن أغلب الرحلات تسلم، لما جاز للمسلم أن يركبها، لكن الحمد لله أكثر الأحوال السلامة، لكن من الذي سلم؟ الله سبحانه لا إله إلا هو! ولكن ما أظلم الإنسان كما وصفه ربه: {ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] ! ومن أظلم الظلم ظلمه لنفسه وكفرانه لنعمة ربه، يحمله الله هذا المحمل بين السماء والأرض، وقد تلا الأذكار وسأل الله جل جلاله، فإذا نزل إلى الأرض لا يمكن أن يذكر الله، وقل أن تجد أحدا منذ أن تطأ رجله المطار يلهج لسانه بالثناء على الله بما هو أهله، ولكنه يخرج ويسرح ويمرح غافلا عن النعمة والحفظ الذي حفظه الله جل وعلا، لو تصور الواحد منا أنه في ليلة بل والله لو في ساعة مر عليك كرب ومعك أهلك وأبناؤك -لا قدر الله- وقدر الله لك سبحانه من ينجيك من هذا الكرب، لو كنت على خوف أن تهلك أنت وذريتك ومن معك فجاء شخص وأنجاك من هذا لبقيت عمرك كله تتحدث بفضله عليك، يا لله العجب! وأنت ما من طرفة عين وما من لحظة إلا والله يحفظك، له معقبات من بين يديك ومن خلفك، ومن أمامك، ومن تحتك، وعن يمينك، وعن شمالك تحفظك مما لم يكتبه الله عز وجل أن يصيبك. الأذكار حفظ عظيم من الله جل جلاله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله جل جلاله، فلما نزلت عليه المعوذات ترك سائر التعاويذ واقتصر على المعوذتين، الشرور الظاهرة والشرور الباطنة، الشرور الروحية والشرور المحسوسة كل هذا جمعته المعوذتان {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق} [الفلق:1 - 2] هل هناك شيء يخرج عن خلقة الله جل جلاله؟! الله أكبر! (قل أعوذ) : ألوذ وألتجئ وأعتصم، لكن يقولها المؤمن وهو يستشعر ما معنى أعوذ؟ ويستشعر أن السماء تتفتح بهذا الدعاء، ولذلك ربما يقولها المسحور فيعذب ساحره، ويقولها المسحور فيتعذب بها حتى الجني والقرين، وتجده يجد من الشدة واللأواء كلما اتصل القلب بالله جل جلاله: {قل أعوذ برب الفلق} [الفلق:1] هاتان السورتان سورة الفلق وسورة الناس جعلهما الله عز وجل حلا لعقدة السحر الذي أصيب به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أشد السحر لما سحره لبيد بن الأعصم عليه لعنة الله {قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب} [الفلق:1 - 3] الغاسق: الذي هو النجم، و (إذا وقب) إذا دخل وتعمق، وغالب ابتداء الليل ساعة انتشار الشياطين، بعد غروب الشمس إلى اشتباك النجوم، ولذلك نهي عن إطلاق الصبية في مثل هذا الوقت: (من شر ما خلق) إذا قلت: (من شر ما خلق) شمل هذا جميع الشرور التي تكون على الأرض أو بين السماء والأرض أو تنزل من السماء على العباد؛ لأن الله يحفظك بقدرته سبحانه وتعالى بهذه الكلمة اليسيرة: {من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق:2 - 5] لأن الضرر يأتيك من وجهين: إما أن يكون الضرر يأتيك بالسحر وخاصة الأذى الروحي، يأتيك بتسلط {ومن شر النفاثات في العقد} [الفلق:4] والضرر إما أن يكون مقصودا أو غير مقصود، فالنفاثات في العقد غالبا تضر وممن يريد بك الشر فيستعين بالجن بأقصى أنواع الاستعانة وهذا غالبا ما يكون في السحر؛ لأنه ما يؤثر السحر إلا إذا تقرب الساحر فذبح للجن، أو نذر لهم أو فعل فعل الجن، ولذلك بعض السحرة يطلب ممن يأتيه أن يذبح للجن، فهذا غاية التقرب لغاية الشر وهو إبليس وجنوده لعنهم الله، فإذا نجوت من هذا بقي الذي يأتيك عن غير قصد؛ لأنه ربما شخص يراك وهو لا يعرفك ويرى عليك نعمة من نعم الله فيبهر من هذه النعمة فينسى ذكر الله فتصيبك العين، والعين حق، فانظر حكمة القرآن! {ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق:4 - 5] . بعد هذا بقيت الشرور التي في النفس وهي الوساوس والخطرات، الآن كفيت الشرور الظاهرة فما بقي أحد لا من أعدائك ولا ممن لا يقصدك إلا وقد حفظت منه بهذه السورة العظيمة إذا بك تقول: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس} [الناس:1 - 3] ما ألذ الثناء على الله جل جلاله! فكل شيء إذا مدحته وأطريته ربما علمت أو تيقنت أنك مبالغ إلا الله جل جلاله، فإنك مهما أثنيت عليه فإنك مقصر في حقه سبحانه وتعالى، ما أحد يستطيع أن يبلغ الغاية في مدحه قال صلى الله عليه وسلم: (لا نحصي ثناء عليك) . {ملك الناس} [الناس:2] يعني: أن تخاف من الناس، من بعض الأمور التي جعلها الله سبحانه وتعالى بأيديهم لكنك في ذات الوقت تحس أنهم مملوكون وأنهم عباد لله: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس} [الناس:1 - 2] . فالله سبحانه وتعالى مالك الدنيا ومالك الآخرة ومالك الجن والإنس: {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون:88] من هذا الذي خرج عن ملك الله جل جلاله؟ {ملك الناس * إله الناس} [الناس:2 - 3] المعبود الحق، الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، {من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس} [الناس:4 - 6] التأثير الفكري، فكما أن الشروط محسوسة تكون أيضا معنوية غير محسوسة: {من الجنة والناس} [الناس:6] وقد يكون هذا الوسواس الخناس أقرب الناس إلى الشخص، فقد يكون الولد، وقد يكون الوالد، وقد تكون الوالدة، وقد تكون الزوجة، وقد يكون وجوب انتظار الغائب بالشفعة حتى يرجع السؤال فضيلة الشيخ أشكل علي حديث (جار الدار أحق بالشفعة في دار جاره، ينتظر بها في حال غيبته) في قوله صلى الله عليه وسلم: (ينتظر بها في حال غيبته) هل ينتظر صاحب الدار في بيع داره إلى أن يعود جاره من سفره، أم المقصود أنه يبيعها ولجاره حق الشفعة حتى لو تأخر إلى سنة في سفره، وكيف تكون صورة الشفعة في هذه الحالة إذا بنى المشتري على الأرض التي اشتراها؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالجواب هو الوجه الثاني، وهو أن المراد من الحديث في قول أهل العلم رحمهم الله والشراح، وهو المحفوظ أنه ينتظر الشريك حتى يعود ثم يقال له: شريكك باع، هل تريد أن تشفع أو لا تريد؟ وعلى هذا لا تسقط الشفعة بطول الغيبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ينتظر بها -أي: ينتظر بشفعته- إن كان غائبا) وعلى هذا يكون الحديث دالا على مسألتين: المسألة الأولى: أنه إذا كان حاضرا فحكمه واضح إما أن يطلب الشفعة وإما لا. المسألة الثانية: إن كان غائبا فإنه يجب انتظاره ولو كان إلى سنوات عديدة، وهذا نص عليه العلماء، وجمهرة أهل العلم على أنه ولو غاب مائة سنة فإنه باق على شفعته إذا حضر؛ لأن الشفعة لا تسقط بطول المدة، وأما مسألة البناء والغرس فقد تقدم بيانها وتفصيل أحكامها، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الشفعة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (383) صـــــ(1) إلى صــ(7) شرح زاد المستقنع - باب الشفعة [5] إن مما حفظه الشارع وحرص عليه سلامة الصدور من الشحناء والضغناء التي تقع بسبب المعاملات أو البيوع، ولذلك شرع الشفعة، والشفعة قد يكون فيها بعض الخلاف إذا حصل عيب أو تلف شيء من العقار، أو اختلف في القدر والقيمة فكل هذه لها حلول في شرع الله وهدي رسوله، وفيها تفاصيل بينها أهل العلم. إذا اختلف الشفيع والشريك في ثمن المبيع وعدمت البينة فالقول قول المشتري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ويقبل في الخلف مع عدم البينة قول المشتري] (ويقبل في الخلف) عند اختلاف الشفيع والشريك، هذه مسألة من مسائل القضاء، وقد ذكرنا غير مرة أن العلماء رحمهم الله من منهجهم أنهم يذكرون مسائل القضاء في الأبواب الخاصة، فيذكرون مسائل الاختلاف في الرهن في باب الرهن، ومسائل الاختلاف في الشركة في باب الشركة، والوكالة في باب الوكالة، وهنا ذكروا الاختلاف في الشفعة في باب الشفعة، وقلنا: إن الأصل أن تذكر هذه المسائل في باب القضاء؛ لأنها من باب الخصومة والنزاع؛ لأنهم افتقروا فيها إلى معرفة المدعي والمدعى عليه، ومن الذي يكون القول قوله، وبينا أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل مفرقة على هذه الأبواب؛ لأنها في داخل هذه الأبواب قد تختص بأحكام معينة، فحينئذ يكون من الأفضل والأكثر ضبطا أن تذكر في هذه الأماكن الخاصة. فذكر المصنف رحمه الله رحمه الله مسائل الاختلاف في الشفعة، ولما كانت الشفعة تفتقر إلى معرفة الثمن الذي باع به الشريك للأجنبي، بحيث يتمكن الشفيع من المطالبة بالنصيب بذلك الثمن، فإنه إذا اتفق المشتري الذي دخل مع الشفيع على الثمن فلا إشكال، كأن يقول: اشتريت هذا النصيب بمائة ألف، فصدقه الشفيع، فحينئذ تلزمه ولا إشكال، لكن الإشكال لو اختلف الشفيع مع المشتري، فقال المشتري: اشتريت هذا النصيب بمائة ألف، وبطبيعة الحال لابد وأن يدعي الشفيع ثمنا أقل، ويقول: بل اشتريت النصيب بثمانين أو بسبعين ألفا؛ لأنه يدعي أنه قد طلب ما هو أكثر، فحينئذ يقع الخلاف بين المشتري وبين الشفيع. فهل نصدق المشتري أم نصدق الشفيع؟ الشفيع يدعي أن الثمن أقل، والمشتري يدعي ثمنا أكثر، فهل نقول: إن السبعين ألفا أو الثمانين ألفا التي يدعيها الشفيع متفق عليها بين الطرفين، والخلاف فيما زاد وهو ثلاثون ألفا أو عشرون ألفا، فهل نصدق الشفيع أم نصدق المشتري؟ هذه هي المسألة إن وجدت بينة كشهود يشهدون أنه تم البيع بمائة ألف ألزمنا الشفيع بدفع مائة ألف، وإن وجدت بينة تشهد بأن البيع وقع بثمانين ألفا ألزمنا المشتري أن يأخذ الثمانين وتتم الشفعة. إذا: إذا وجدت بينة ووجد شهود يشهدون بأحد الثمنين حكمنا بها. حسنا! لو وجدت بينة تشهد بالأمرين بينة تشهد للشفيع، وبينة تشهد للشريك، بينة تقول: البيع بثمانين ألفا، وشهود يشهدون ويقولون: البيع بمائة ألف، فهل نصدق هذه البينة أم هذه البينة؟ بعض العلماء يرى في هذه المسألة أن الأصل عند اختلاف البينتين تصديق قول المشتري، فيغلب ويرجح البينة التي مع المشتري، وبناء على ذلك إن وجدت بينة لا تعارض غيرها مما هو مثلها فإننا حينئذ نحكم بالبينة سواء شهدت للشفيع أو شهدت للمشتري. أما إذا لم توجد بينة، وقال المشتري: اشتريت بمائة ألف، وقال الشفيع: بل اشتريت بثمانين ألفا، فحينئذ يقول بعض العلماء: نصدق المشتري، والقول قوله، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، وعضد أصحاب هذا القول قولهم بأن المشتري أدرى بما اشترى به، فعلمه أقوى وأوثق، والأصل أن القول للمشتري والبائع لأنهما هما اللذان عقدا الصفقة فيؤتمنان على القول فالقول قولهما. فإذا قال الشفيع قولا ناقصا عن هذا القول الذي قاله المشتري نطالبه بالبينة؛ لأنه خارج عن الأصل، وكل من خرج عن الأصل فهو مدع، وكل من وافق الأصل فإنه مدعى عليه، والقول قوله مع اليمين. بناء على ذلك نقول للمشتري إذا لم يصدقه الشفيع: احلف بالله أنك اشتريت هذا النصيب بمائة ألف، فإن حلف ثبتت له المائة ألف، أما إذا قال: لا أحلف ونكل عن اليمين رددنا اليمين على الشفيع كما هو معروف في منهج القضاء والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة إلى أن قال: فإن أبى فلطالب بها قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فإن نكل عن اليمين يطالب الشفيع بحلفها ثم يحكم له بالثمانين ألفا هذا بالنسبة للخلاف بين الشفيع وبين المشتري. بعض الأحيان يقع الخلاف في صفة البيع، فيتفقان على المائة ألف كأن يقول المشتري: اشتريتها بمائة ألف، فيقول الشفيع: نعم اشتريتها بمائة ألف، ولكنها مؤجلة وليست معجلة ليست بنقد، فحينئذ يتفقان على القدر، ويختلفان في صفة العقد هل هو معجل أو مؤجل، الشفيع يقول: مؤجل، والمشتري يقول: معجل؛ لأن من مصلحة المشتري أن تكون المائة ألف نقدا، ومن مصلحة الشفيع أن تكون مقسطة أو مؤجلة، فإذا اختلفا في صفة الحكم، بعض العلماء يقول: الأصل في النقد التعجيل، لكن في الحقيقة المشتري أدرى بما اشترى به، ونصدقه والقول قوله حتى يعطينا المدعي وهو الشفيع دليلا على صدق ما قاله وادعاه من قدر الصفقة الذي هو الثمن أو صفة العقد. يبقى السؤال لو أن المشتري -الذي هو زيد- اشترى من شريكي فإن الشريك بائع، فإذا جئت أنا أشفع من زيد وجئت آخذ النصيب الذي اشتراه يقول بعض العلماء: هل نطالب البائع بالشهادة لو اختلف الشفيع مع المشتري في المسألة الماضية، فقال المشتري: اشتريت بمائة ألفا، وقال الشفيع: بل اشتريت بثمانين ألفا، فقال المشتري: اسألوا البائع بكم باعني، فرجعنا إلى البائع فقال: بمائة ألف، فهل شهادة البائع تقوم مقام البينة أو تعتبر مرجحا لقول المشتري؟ في أغلب الأحيان لا يشهد البائع مع المشتري إذا كان المشتري صادقا، لكن من أهل العلم رحمهم الله من قال: البائع لا نقبل شهادته في هذه المسألة، والسبب في هذا أن البائع إذا شهد بالثمن شهد لحض نفسه؛ لأن الثمن هذا مستحق له هو، وسيأتينا إن شاء الله في كتاب القضاء أن الشهادة يشترط في قبولها أن لا يجر بالشهادة لنفسه نفعا، ولا يدفع عنه ضررا بشهادته، يعني يشترط في قبولنا للشهادة أن لا ينتفع الشاهد بشهادته في جلب خير أو دفع شر، فإذا كان الشاهد ينبني ويترتب على شهادته حصول نفع له، أو دفع ضرر عنه فإنه لا تقبل شهادته، والدليل على ذلك حديث الحاكم في مسنده، وصححه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين) والظنين: هو المتهم، قال تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} [التكوير:24] (على قراءة ظنين) أي: بمتهم عليه الصلاة والسلام، فالظنين: المتهم، قالوا: ومن التهمة أن يجر لنفسه نفعا، مثل شريكان ادعى أحدهما أن فلانا اشترى من فلان شركة بمائة ألف، فقال الآخر: بل اشتريت بسبعين ألفا، فجاء الشريك الثاني يريد أن يشهد، والشريك الثاني له نصف الشركة، فمعناه أنه إذا حكمنا بشهادته فإنه سينتفع بنصف شهادته، فحينئذ تكون الشهادة شهادة تهمة فلا تقبل هذه الشهادة، ويعتبر وجود التهمة والظنة موجبا لرد شهادته. هنا البائع إذا شهد أنه باع بمائة ألف، وهو الثمن الأكثر؛ لأن الخلاف الآن عندنا إذا قال الشفيع: بل اشتريت بثمانين ألفا، فقال المشتري: اشتريت بمائة ألف، فمعناه أن هناك عشرين ألفا اختلفا فيها، فالبائع من مصلحته أن يقول: بعت بمائة ألف؛ لأنه يثبت له عشرين ألفا زائدة على الثمانين ألفا المتفق عليها في الخصومة، ولذلك قال بعض العلماء: لا نقبل شهادة البائع من هذا الوجه. وقال بعض أهل العلم: إذا شهد البائع لأحد الطرفين صدقنا شهادته وعملنا بها؛ لأن التهمة تعتبر مؤثرة بشرط أن تكون قوية، والتهمة هنا ضعيفة، خاصة إذا كان قد تم العقد وأعطاه، وحصل بينهما القبض والثمن فحينئذ لا يجر لنفسه أي نفع؛ لأنه بعد قبضه للمائة ألف انتهت منفعته، فحينئذ قالوا: التهمة هنا ضعيفة، والتهمة تعتبر قوية إذا كانت مؤثرة، وهذا أمر حرره أبو البركات ابن تيمية في النكت، فبين رحمه الله أن التهمة لا تكون مؤثرة إلا إذا كانت قوية، أما إذا كانت ضعيفة فإنها غير مؤثرة. بناء على هذا القول يمكن أن نسأل البائع، ويمكن أن يستشهد أحد الخصمين بالبائع، فلو قال البائع: بعت بثمانين صدقنا الشفيع، ولو قال: بعت بمائة ألف صدقنا المشتري، وأوجبنا على الشفيع أن يدفع مائة ألف. وهكذا الحال في صفة العقد فلو قال: اشتريت بمائة ألف، فقال: معجلة؟ قال: لا، بل مؤجلة بأقساط، فلو قال البائع: بعتها مؤجلة بأقساط صدقنا الشفيع، ولو قال: بعتها نقدا وفورا فإننا نصدق المشتري ونحكم على البائع بالدفع فورا، ويعتبر قول البائع دليلا على صدق الدعوى. إذا شهد البائع تكون هناك يمين مع شهادته تتم بها البينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قضى بالشاهد مع اليمين، والقضاء بالشاهد مع اليمين محله الحقوق المالية، وهنا اليمين متعلقة بالحقوق المالية أو ما يئول إلى المال كما في الديات ونحوها. وعلى هذا فإننا نقبل القول الذي شهدت به البينة أو شهد به البائع مع ضعف التهمة، أو نقبل قول المشتري إذا لم توجد بينة ولم يشهد البائع لأحد الخصمين. الحالة التي يعتمد فيها قول المشتري عند الاختلاف في قيمة القدر المشفوع قال رحمه الله: [فإن قال: اشتريته بألف أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر] . فلو قال المشتري: اشتريته بألف أخذ الشفيع النصيب بالألف أو بهذا القدر الذي قاله المشتري، وهذا مبني على القاعدة أننا نصدق المشتري لأنه أعلم وأدرى بما اشترى به، ونلزم الشفيع بدفع ذلك المبلغ، هكذا لو قال: اشتريت بمائة ألف نقدا، قال الشفيع: بل اشتريت بها مقسطة ومؤجلة، نقول: لا، القول قول المشتري ونلزم الشفيع بقوله. (ولو أثبت البائع أكثر) (لو) تشير إلى خلاف مذهبي، يعني: نحكم بقول المشتري ولو شهد البائع ضده، كأن المصنف رحمه الله رجح القول الذي يقول: لا أقبل شهادة البائع، هناك من يقول: أقبل شهادة البائع إذا شهد بالأقل؛ لأنه لا يجر نفعا، بحيث لو اختلفوا بثمانين ألفا أو مائة ألف وقال البائع: ثمانين ألفا أقبل قوله؛ لأنه لا مصلحة له في الزيادة، والمحل المختصم فيه وهو العشرون ألفا لا يثبت له؛ لأن الخلاف في العشرين الزائدة، والحقيقة إذا تأملت القول الذي يفرق بين القليل والكثير في قبول شهادة البائع من حيث الأصول وجدته قولا قويا جدا من حيث الأصول التي قررناها، ويتفق مع الأصل الذي قلناه: أنه إذا ضعفت التهمة وجب قبول الشهادة؛ لأن الله أوجب علينا قبول شهادة معروف بالأمانة مرضي القول، فإذا كان البائع عدلا مقبول الشهادة وشهد؛ الأصل قبول شهادته، فإذا جاء يشهد بالثمن الأقل ما يدخل على نفسه نفعا، لكن لو شهد بالمائة ألف فمعنى ذلك أن القاضي سيقضي أن البيع قد تم بمائة ألف، فلو حصل خلاف بين هذا البائع الذي شهد وبين الذي اشترى منه مستقبلا فإنه يلزمه بدفع العشرين الزائدة، وإذا أرغم بدفع العشرين الزائدة بناء على أنه ثبت عند الحاكم أن البيع قد تم بمائة ألف فمعنى ذلك أنه سيأخذ العشرين لمصلحة نفسه. ومن هنا يقوى قول من قال بالتفصيل، فالمصنف هنا يشير إلى مذهب من يقول بالتفصيل، يقول: أقبل شهادة البائع بشرط: أن لا تتضمن النفع وذلك بالزيادة، فقال: (ولو بأكثر) . مسألة: إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري قال رحمه الله: [وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري وجبت] . هذا نوع آخر من الخلاف، المشتري من مصلحته أن يقول: أخذت النصيب بدون بيع، يعني: بدون معاوضة كما ذكرنا، لأنه إذا قال: أخذته هبة، أو أخذته مهرا لابنتي فإنه في هذه الحالة لا تثبت الشفعة، فهو سيدعي أنه انتقل إليه النصيب بدون عوض وليس هناك بيع، جاء البائع فقال: بل بعته، وشهد البائع أنه قد باع، البائع إذا شهد وقال: إنه قد باع يقبل قوله كما ذكر المصنف رحمه الله ويعمل به، ويثبت للشفيع حق الشفعة الذي هو الشريك الثاني بناء على شهادة البائع. لكن هذا مشكل لماذا لا نقبل قول البائع في القدر ونقبله هنا في إثبات البيع؟ لو قال قائل: إن البائع هناك يثبت لنفسه نفعا نقول: أيضا هنا يثبت لنفسه نفعا؛ لأن المشتري يقول: أخذته هبة، والبائع يقول: بل بعته، فلا يثبت العشرين ألفا بل يثبت المائة ألف لنفسه، فالشهادة هنا تثبت نفعا كما تثبت هناك النفع، ولذلك اختلفت مخارج بعض العلماء في هذا، ومن أنسب ما قالوا: لأنه في الصورة الأولى يوافق المشتري على أنه اشترى، فالتهمة قوية، لكن في الصورة الثانية نقبل قول البائع لأن المشتري لا يوافق على أنه اشترى، فحينئذ يكون خصما للبائع سواء قبلت شهادته أو لم تقبل شهادة البائع، وهذا وجه الفرق بين المسألتين. وعلى هذا فإن البائع إذا قال: بعت، حكمنا بثبوت الشفعة، وإذا ادعى المشتري أنه أخذ النصيب هبة وعطية أو مهرا على القول أن المهر لا تثبت فيه الشفعة، ووافقه البائع فلا إشكال، وإن خالفه حكم بقول البائع فيما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأنه في هذه الحالة يثبت البيع والمعاوضة، وهو الأصل. السؤال الآن: لماذا نقبل قول البائع أنه باع، والمشتري يقول: أخذته هبة؟ لماذا نجعل قول البائع هو الأصل، ونجعل قول المشتري خارجا عن الأصل، مع أننا نعتبر قول المشتري في الأصل هو الأصل؟ قالوا: لأنه إذا قال البائع: بعت، وقال المشتري: أخذته هبة فهل الأصل أن الإنسان يأخذ أموال الناس بعوض أم بدون عوض؟ نقول: الأصل أخذها بعوض، فإذا قول البائع أنه باع متفق مع الأصل، وكل من وافق الأصل يكون قول من قال بخلاف قوله دعوى يطالب صاحبها بإثباتها بالدليل والبينة. الضمان في الشفعة إذا وجد العيب قال رحمه الله: [وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع] . العهدة أصلها من العهد، وإذا تعهد الإنسان فمعناه أنه قد أخذ على نفسه الميثاق بفعل الشيء أو تركه، والعهد من أعظم الأشياء وأصعبها، فالمسلم إذا قيل له: تعهد بشيء فليعلم أن الله سيسأله بين يديه عن هذا الشيء ولو كان من أحقر الأشياء {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء:34] وبالأخص إذا كان عهدا لله، ولذلك يقول العلماء رحمهم الله: ما عاهد أحد ربه فنكث عهده إلا ابتلي بالنفاق إلا أن يرحمه الله برحمته، ولذلك قال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة:75 - 77] فهذا يدل على عظم العهد، إذا قيل لك: عهد الله أن تفعل، عهد الله أن تترك، فإياك أن تقبل هذا العهد إلا أن تضطر إليه! إلا أن يتوب الإنسان من قلبه فيتوب الله عز وجل عليه، فإن الله عز وجل قد تاب عن الشرك الذي هو أعظم الأشياء، لكن الشاهد أن العهد أمره عظيم. فالعهد أصله الميثاق، لكن العهدة هنا المراد بها ضمان السلعة، وهذه المسألة في الحقيقة كانت في القديم تباع بعض الأشياء التي لا يمكن للمشتري أن يعرف حقيقتها إلا بعد مرور زمن ومدة، فمثلا كانوا ربما يشتري أحدهم الدواب من الإبل والبقر والغنم، لكن ما يستطيع أن يكشف حقيقتها إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فقد يشتريها على أنها حلوب، ثم يتبين أنها ليست حلوبا، ولا يمكن أن يتبين ذلك عند شرائها، فربما تكون محقنة مصراة كما تقدم معنا في البيع، فإذا بقيت ثلاثة أيام انكشف أمرها هل هي حلوب أم ليست بحلوب، كذلك يشتري الفرس على أنه جيد وأنه سباق، فإذا أخذه وركبه المرة الأولى والمرة الثانية ما يمكن أن يتبين صفاته إلا بعد مدة. وهكذا في الرقيق ربما كان به مرض، ربما كان مجنونا جنونا متقطعا، فيباع حال الإفاقة، لكن بعد شهور يتبين أن به هذا الضرر، فهذا شيء يسمونه العهدة، وقد ورد فيه قضاء عن بعض الصحابة كـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قضوا بالعهدة في الأرقاء، وورد عن أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك والإمام الشافعي عنهما قضاء بالعهدة والضمان بالدواب ونحوها. وفي زماننا لا يزال يوجد عندنا ما يسمى بالضمان، كالضمان الذي يكون في السيارات تضمن الشركة السيارة بمسافة محدودة، أو بمدة محدودة يمكن للمشتري أن يختبر هذا الشيء الذي اشتراه، وفي الأجهزة الكهربائية ونحوها، الضمان هو الذي يسميه العلماء العهدة، فكان موجودا. يعني: إذا كان العالم لا يعرفه إلا في عصرنا الحديث بسبب التقدم، فقد عرفه السلف رحمهم الله والأئمة، وهذا من سمو الشريعة الإسلامية التي عرفت حقوق الناس من قديم الزمن، ما وجدت هذه الحقوق واعترف بها بعد أن تفتح الناس وعرفوا كيف يعيشون في هذه الحياة، لكن الشريعة لما كانت تنزيلا من حكيم حميد كان ضمان الحقوق معروفا وكان ضمان حق المشتري معروفا حتى عند أئمة السلف رحمة الله عليهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر) وفي رواية: (حبسها ثلاثا) أي: حبسها ثلاثة أيام ليكتشف هل هي حلوب أم ليست بحلوب؟ فهذا لا يمكن أن يكون إلا بالضمان، لكنه ضمان من الشريعة، فالشريعة عندها عهدة، فيكون ضمان البائع للسلعة على صورتين: إما أن يضمن ضمانا ملزما لا خيار له فيه، ولا يتحقق بمدة، ولا قدر له من حيث الزمان، وهذا النوع من العهدة والضمان هو ضمان العيوب، فأي عيب في السلعة ولو اكتشف بعد سنوات يوجب الرد، ولو كتب البائع على مائة فاتورة، ولو ملأ جميع وثائق البيع أنه بريء من العيب لا يغنيه ذلك شيئا، لو قال: البضاعة لا ترد ولا تستبدل واشترط هذه الشروط (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) لأن الشريعة لا تجيز شروطا تسقط حقوق الناس، ولا تجيز شروطا تعين على ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، هذا أمر مفروغ منه. فإذا ثبت هذا يأتي النوع الثاني من العهدة التي تكتشف فيها حقيقة السلعة، لو أن الشريك باع نصيبه من العمارة، أو باع نصيبه من المزرعة، أو باع نصيبه من الأرض ثم تبين وجود عيب في هذا النصيب، من الذي اكتشف العيب، اكتشفه إما الشفيع بعد أخذه بالشفعة، أو المشتري بعد شرائه من الشريك، في هذه الحالة إذا وجد العيب في المحل الذي وقعت عليه الشفعة يكون وجه الشفيع على المشتري، ووجه المشتري على الشريك الأصلي الذي باع، هذا هو المراد بقوله رحمه الله: وعهدة الشفيع على المشتري، يعني: يطالب المشتري بضمان حقه، فيما الشفيع وجد من العيوب في المبيع من العقارات، وكذلك أيضا يطالب المشتري البائع بضمان حقه فيأخذ حقه من المشتري، والمشتري يأخذ حقه من البائع في ضمان العيوب الموجودة في النصيب المباع. الأسئلة نصيحة في احترام العلماء وتقديرهم وترك النقد لكتبهم وأقوالهم السؤال قول المصنف رحمه الله في الشفعة: (وإن تصرف مشتريه بوقفه أو هبته أو رهنه لا بوصية سقطت) ألا يكون ذلك تكرارا حيث ذكر ذلك رحمه الله بمفهوم قوله في تعريف الشفعة: (وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي) ؟ الجواب الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن واله. أما بعد: فبناء الفروع على الأصول، وذكر المسائل المفصلة والتي تشتمل على التفصيل بعد تلك التعاريف المجملة ليس بتكرار، يعني: إذا ذكر المصنف رحمه الله في تعريفه، وطبق التعريف بالمسائل التي تفصل هذا التعريف لا يكون تكرارا؛ لأنه محتاج إليه، فلو أنه قال: هي استحقاق الشريك انتزاع حصته ممن انتقلت إليه بعوض وسكت، إذا: ليس له هنا داع أن يتكلم عن الشفعة كلها، وإلا كان تكرارا، فهذا كله تفصيل وبيان، ولذلك يقولون: بناء الفروع على الأصول محتاج إليه، فالتعريف أصل، والمسائل فروع مبنية على هذا الأصل الذي تعرف به حقيقة التعريف، ويتمكن طالب العلم من الضبط أكثر. وأنبه على مسألة: وهي أن الشريعة كلها تكرار، وهذا التكرار له مغاز عظيمة جدا، حتى إن البعض تجده يقول: إن المحاضرات مكررة، والكلام مكرر، فنقول: القرآن مليء بالتكرار، والتكرار من أقوى الأساليب في الإقناع وثبوت الحق في نفسية المخاطب إلى درجة أن تصبح هذه الحقائق من المسلمات التي لا جدل فيها، والشيء إذا كرر على الإنسان يثبت، وأنت في صلاتك تكرر، وأركان الدين قائمة على التكرار، والمؤذن يأتي بأذان بلفظ مخصوص كل يوم خمس مرات، ثم تأتي وتقول: لم يشتمل على التوحيد، وعلى أقدس شيء وأعظم شيء حتى يصل إلى درجة أن الإنسان ما يمكن أن يقبل أي جدال أو نقاش في هذا الشيء المكرر، وقصص الأنبياء تكرر في القرآن حتى توصل إلى حد القناعة والتسليم، ولذلك لما كانت الأمة الإسلامية ممنوعة من دخول الأفكار عليها، ودائما تكرر لها البدهيات والموروثات -كما يقولون- كانت في حصن حصين، وحرز مكين من الله سبحانه وتعالى، وما إن أصبحنا نمل، حتى إن الشخص صار يجد في نفسه الكسل عن سماع المكرر، فلو يجد شخص عنوان محاضرة عن الصبر يحس أنه شيء مكرر، لكن لو أنني أذهب وأحضر المحاضرة وأستمع هذه المرة والمرة الثانية والثالثة يصبح موضوع الصبر عندي عقيدة لا تقبل النقاش، ومبدأ لا يمكن أن أحيد عنه بشعرة، هذه أمور ما جاءت من فراغ، التكرار في مجالس العلم لا يمل، لأنك إذا أحببت شيئا ألفته وتلذذت بتكراره، فإذا كان هذا من شرع الله ومن كتابه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تمله أذن، ولا تسأمه نفس، بل إن الإنسان يفرح ويحب أن يكرر هذا الشيء، ويعاد كرة ومرة. فالعلماء رحمهم الله لا يكررون -بالتجربة والاستقراء- هذه المتون وهذا الكلام الموجود فيها إلا لتعلم أنه لا يضع المتن الفقهي إلا عالم مشهود له بالعلم، ولذلك خذ كتب الطبقات، لو جئت الأئمة والعلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في مذهب الإمام أحمد لوجدت أنهم كثر، قد لا يحصون عددا في كل قرن وزمان، بل في القرن الواحد، لو تأخذ أئمة الحنابلة في القرن السادس أو الخامس أو الرابع أو الثالث الهجري الذين بلغوا درجة الاجتهاد قد تجد بعضهم وقد لا تجد بعضهم؛ لأن الأموات الذين لم يحصوا ولم يذكروا أكثر، فإذا كان الأمر بهذه الصفة في أمم -ما من مائة من الزمان تمر إلا وفيها جهابذة العلم- ويبقى المتن عشرة قرون أو يبقى أحد عشر قرنا وهو يدرس ويقرأ، ونأتي في القرن الخامس عشر لنقول: هذا تكرار في المتن! يا إخوان! ينبغي أن نعرف منزلتنا، أنا لا أتهكم في السائل، أنا أتهكم في أشياء كانت معروفة عندما كان الإنسان يعرف قدر غيره، وأنبه على أمور من الآفات عند طالب العلم، تعود طلاب العلم اليوم على مسألة النقد، ولذلك دائما مسألة التكرار تضاد النقد؛ لأن الشيء المكرر ما يستطيع الإنسان يقبل فيه قولا ولا يتراجع عنه، لكن إذا كان الشيء فيه مدخل للنقد تصبح المسلمات والبدهيات محل شك، ولذلك تجد الطالب في بعض الأنشطة التي تكون ثقافية أو نحوها يعود على قراءة الكتب ونقدها، نقول: لماذا؟ يقول: حتى تكون له شخصية! شخصية جاهلة متهورة في تخطئة السلف، وقد جاءني طالب ذات مرة وقال: أعطي كتاب زاد المعاد للإمام ابن القيم لأربعة أشخاص لدراسته ونقده وهم طلاب ثانوية! يعني: لابد على الإنسان أن يخاف من الله عز وجل ويعلم أن العلم أمانة ومسئولية. التكرار والعيوب الموجودة في كتب العلماء تحتاج إلى تمحيص تحتاج إلى مراجعة تحتاج إلى سبر واختبار وكم من عائب قولا سليما وآفته من الفهم السقيم ينبغي أن يعلم أن هذا العلم عرض على دواوين وأئمة وعلماء وجهابذة، إن كان بالورع والصلاح فالله أعلم ولا نزكيهم على الله قد يكونون أتقى لله منا، وإن كان زمانهم الذي ملئ بالعلم والصلاح والخير أبلغ في ضبط العلم من الزمان الذي فيه الفتن، فأين يذهب عن الإنسان رشده وهو يرى هذه الحقائق التي تهيئ قبول هذا الحق والرضا به؟! اليوم ينبغي علينا أن نتعلم ضبط ما قاله العلماء، أول شيء لابد أن تفهم ماذا يقال في المتون، اترك مسألة النقد، يقول العلماء لطالب العلم: تعلم ثم تكلم، أولا يتعلم وليس يتكلم ثم يتعلم، نتعلم ما هي هذه العبارات؟ ما هي معاني هذه المتون والكلمات التي اختيرت؟ والله إن بعض الكلمات تختار بعناية وتجمع أكثر من ثلاثة احتمالات؛ لأن المذهب يحتمل أكثر من احتمال، ما يأتون بكلام غير محتمل، يأتون بكلام محتمل حتى يجمع بصورة أوسع الخلاف الموجود داخل المذهب. فأقول: لا ينبغي لطالب العلم أن يتسرع في النقد، وليس معنى هذا أن نقبل الغث والسمين، إنما معنى هذا أن نتكلم بعلم، والخطوات المطلوبة كما يلي: أولا: فهم طالب العلم لكلام العلماء، والعناية بالعبارات والجمل. ثانيا: معرفة معاني هذه الكلمات، والاعتناء بالجمل كما وردت عن العلماء لا يزاد فيها ولا ينقص منها، ثم معرفة ما معنى هذه الجملة، ولماذا قال المصنف كذا ولم يقل كذا؟ كما هو موجود في الشروح والحواشي والتقريرات التي ألفها أهل العلم. ثالثا: معرفة الدليل الذي دل على هذه المسألة التي تضمنتها الجملة، وبعدما تفهم وتعرف الدليل تبقى على هذا الحق الذي له دليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجد دليلا أقوى منه، أو حجة محكمة ناسخة للذي اعتقدته أولا، فتحيد عنه لأنك تعرف أن الحق في غيره، وهذا إذا انتقلت إلى درجة ثانية وهي درجة الاجتهاد، أما وأنت في طلب العلم لا تشوش على نفسك، ولا تذهب يمنة ولا يسرة، المهم عندنا الآن أن تفهم كلام العلماء، وأن تعلم أنك إذا جلست في أي مجلس علم وسمعت أحكاما ومسائل فاعلم أنها تنقل من ذمة العالم إلى ذمتك، وأنت مسئول أمام الله عز وجل عن هذه الكلمات، فاعتن بها وبضبط الدليل حتى تجد دليلا أصح منه متى ما طلبت درجة الاجتهاد، ولذلك فلابد لطالب العلم أن ينضبط بهذا المنهج الذي أدركنا عليه أهل العلم رحمة الله عليهم، ويترك عنه التشويشات، ويترك عنه سوء الظن بالعلماء والقول: إنهم يخطئون وإنهم بشر فهذه كلمة حق أريد بها باطل، الخوارج قالوا: لا حكم إلا لله وهي كلمة حق، فهل أحد يقول: الحكم لغير الله، قال علي رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل) الذي يأتي يقول لك: العلماء بشر يخطئون ويصيبون، ما وجدت إلا العلماء بشر، ما وجدت أن الله يقول: {لكن الراسخون في العلم} [النساء:162] ما وجدت أن الله يقول: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9] ، لكن نقول: إنهم بشر ونقف عند هذا الحد ما ينبغي هذا، العلماء ورثة الأنبياء، والله يقول عن نبيه: {قل إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف:110] لكن ماذا بعدها: {يوحى إلي} [الكهف:110] ما وقف على مقامه البشري عليه الصلاة والسلام، لكن قال: (إنما أنا بشر مثلكم) وأكد هذا فقال: (مثلكم) ، ثم قال: (يوحى إلي) فالذي يأتي ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فنقول: أليس برسول من الله عز وجل؟! فينبغي أن نجمع هذا مع هذا لأنه من العدل الذي أمر الله به، وإذا قال: العالم بشر، نقول: نعم هو بشر، لكن الله فضله بالعلم، وفضله بأنوار الوحي التي في صدره {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت:49] . ومما ينبغي علينا كطلاب علم فعله -وهذا روح العلم- أننا إذا كنا نقرأ دواوين السلف الصالح والأئمة لابد من أحد شعورين: إما شعور بالثقة حينما نعرف قدرهم ونعرف منازلهم وما فضلهم الله به، فعندها يفتح الله عز وجل على العبد، وأقول بالمناسبة خاصة الفقة فيه أخذ وعطاء، وفيه مسائل خلافية، وفيه ردود ومناقشات، والله إني لأقرأ الكلام للعالم وعندي أكثر من نقد عليه، فما إن أشعر بأنه أعلم، وأن الله فضله بذلك العلم وإذا بتلك الإشكالات حينما أعيد النظر المرة الأولى يتبدد بعضها ثم الثانية يتبدد بعضها ثم الثالثة يتبدد بعضها حتى تنكشف للإنسان الحقيقة، كالشخص الذي يخرج للشمس فإنه إذا كان في ظلام وداخل بيته ما يستطيع أن يتبين شعاع الشمس، وهكذا في العلم؛ فالطالب كان قبلا في جهل، فإذا خرج فجأة للعلم لم يتبين له بوضوح. ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم طفرة وغرور، وآخره كسرة وخشية لله سبحانه وتعالى) لماذا؟ لأنه في آخره عرف العلم وعرف قدره، وكم من مرة كنا نجلس مع العلماء من مشايخنا وهم يشرحون ونحب أن نأتي بكثير من الانتقادات في طريقة الشرح وأسلوبه، لكن والله ما إن تعلمنا حتى وجدنا أنهم أسمى وأرفع بكثير، عندما أحسسنا بالعبء الذي يحملونه، فأنت إذا كان عندك شعور بأن هذا من أهل العلم، وهذا العالم صاحب المتن من أهل العلم، وممن زكي علمه، ويكفيك أن الله أبقى كتابه قرونا وردحا من الزمن، يدل على أن مذهب هذا الإمام من أئمة السنة والجماعة وغيره من المتون التي عرف أهلها بالصلاح والاستقامة، والحرص على دليل الكتاب والسنة، والتجرد |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوديعة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (384) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الوديعة [1] لقد حث الإسلام على حفظ الودائع وصيانتها، وهي مما توثق الروابط بين المسلمين وتزيدها صلابة، وفي طيات هذا الدرس العديد من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالوديعة وما يترتب على التفريط فيها. تعريف الوديعة لغة واصطلاحا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوديعة] . الوديعة في لغة العرب مأخوذة من الودع، يقال: ودع الشيء إذا تركه، ومنه قول الحق تبارك وتعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى:3] ما ودعك يعني: ما تركك، وما قلى، يعني: ما هجرك؛ لأن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن، فقالت امرأة تهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم: ما أظن نجيك إلا قلاك، فأنزل الله عز وجل: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى:1 - 3] أقسم الله بالضحى الذي هو بداية النهار فكنايته عن النهار كله، {والليل إذا سجى} [الضحى:2] الذي هو ابتداء الليل، فأقسم الله بابتداء الليل وبابتداء النهار، والزمان كله إما ليل أو نهار، ثم قال تعالى: {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى:3] يعني: ما تركك، فالودع هو الترك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وغيره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فقوله: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم صلاة الجمعة، (أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) فلا ينتفعون بموعظة أبدا، فالقلب إذا ختم عليه -والعياذ بالله- لو صبت عليه مواعظ الدنيا لم تؤثر فيه شيئا، نسأل الله السلامة؛ لأنه يغلق عليه تماما. فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) يعني: عن تركهم شهود صلاة الجمعة، فالودع هنا بمعنى الترك. وأما الوديعة في اصطلاح العلماء، فأهل العلم رحمهم الله إذا أطلقوا هذا المصطلح الشرعي فإنهم يعنون به التوكيل في حفظ مال ونحوه. وبعضهم يقول: تسليط الغير على حفظ المملوك أو المحترم شرعا، والمعنى متقارب، فإذا كان عندك مال وأردت حفظه عند شخص فقلت له: خذ هذا المال وديعة عندك فقد وكلته، وأقمته مقام نفسك بحفظ هذا المال ورعايته وصيانته، فالوديعة توكيل وتفويض من الشخص المالك للغير في أن يحفظ المال، فنزله منزلته، وذلك لأنك لن تودع إلا عند من تأتمنه؛ لأن الوديعة أمانة، فتوكيل الغير المراد به التفويض في حفظ المال، مثل أن تقول له: هذه مائة ألف ضعها عندك وديعة، وهذا كيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، هذا كله يعتبر توكيل بشيء مخصوص وهو الحفظ. ولما قال العلماء: الوديعة توكيل معناه أنه تنطبق على الوديعة ما ينطبق على الوكالة، فلا بد أن تكون الوديعة -أي: الإيداع وطلب الحفظ- صادرة من شخص له حق أن يودع، أو يصح من مثله أن يودع، ومثل هذا البالغ العاقل الرشيد الذي له حق التصرف في المال، فلا تصح الوديعة من صبي إلا إذا كان مميزا مأذونا له بالتجارة فهذا يستثنى؛ لأننا إذا أذنا للصبي بالتجارة فإن من لازم الإذن بالتجارة أنه يحتاج إلى حفظ ماله، والقاعدة أن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فإذا أذن الوالد لولده أن يتاجر بماله، فجلس في دكانه، فإنه يصح لمثله أن يوكل، ويصح لمثله أن يودع إذا كان في حدود ما فوض إليه كما تقدم معنا في باب الوكالة. كذلك: لا تصح الوديعة من مجنون، فلو أن شخصا مجنونا أعطى مالا لشخص، وقال: هذا وديعة عندك لم تنطبق عليه أحكام الوديعة، وهكذا بالنسبة للمحجور عليه لسفه، فإنه ليس له حق التصرف في ذلك، وليس له حق إيداعه. كذلك من يودع عنده يشترط فيه أن يكون عاقلا، وأن يكون رشيدا، وأن يكون حرا، وأن يكون بالغا إلا على التفصيل الذي ذكرناه في المأذون له بالتجارة، والسبب في ذلك أنه إذا لم يكن عاقلا فإنه لا يستطيع أن يحفظ ماله فضلا عن أن يحفظ أموال الآخرين، فمثله ليس بأهل لأن يحفظ الوديعة؛ ولأن الغالب فيه أن يضيع المال، فيفوت المقصود من حفظ الوديعة. قول العلماء رحمهم الله: توكيل الغير في حفظ المال ونحوه، وبعض العلماء يقول: توكيل الغير في حفظ المملوك أو المحترم شرعا، مثلا: المال يشمل الذهب والفضة وغيرها من سائر الأشياء، بل قد تقول له: عمارتي وديعة عندك، فهو يشمل الأموال والعقارات، ولكن قول بعض العلماء أو المحترم شرعا يشمل ما ليس مملوكا، فالقرآن محترم شرعا وليس بمملوك -على قول من يقول لا يجوز بيعه- فحينئذ يدخل في الوديعة، يمكن أن يأخذ مصحفا ويقول لشخص: هذا وديعة عندك، فهو ليس بمال على القول بأنه لا يجوز بيعه، وهذا مذهب طائفة من العلماء: ومنع بيعه لدى ابن حنبل وكرهه لدى ابن شافع جلي وقد تقدمت معنا هذه المسألة في البيع، فإذا قلنا: إن الوديعة تختص بالأموال يشكل علينا أن هناك أشياء ليست بأموال وليست في حكم الأموال ويقال: إنها وديعة وتأخذ حكم الوديعة، كما مثلنا بالقرآن وما في حكمه. الأدلة على مشروعية الوديعة والحكمة من تشريعها الوديعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، أما كتاب الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] ، فأمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات، وهذا يدل على أنها كانت محفوظة عند أهلها، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم: هذه الآية الكريمة أصل في مشروعية الوديعة، وأصل في جواز الإيداع عند الغير، وأنه يجب على من استودع أن يحفظ الوديعة وأن يرد الأمانات إلى أهلها. ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) . وأجمع أهل العلم رحمهم الله على مشروعية الوديعة، وأنه يشرع للإنسان أن يحفظ ماله عند الغير، ويشرع له -أيضا- أن يقوم بحفظ أموال الناس، لكن الواجب على المسلم أن لا يتحمل مسئولية حفظ الأموال ومسئولية الودائع إلا إذا غلب على ظنه أنه يحفظ حقوق الناس، وأنه لا يخاطر بهذه الحقوق، ولا يجوز لمسلم أن يضر بمصالح إخوانه المسلمين فيمكنهم من الإيداع عنده والغالب على ظنه أن ودائعهم لا تحفظ؛ لأن هذا خلاف النصيحة. ومن الحكم المستفادة من شرعية الوديعة أنها تعين على جلب المصالح ودفع المفاسد والمضار، ففيها مصلحة للشخص الذي يملك مالا ولا يستطيع حفظه، كما لو أن شخصا أراد السفر وغلب على ظنه أنه لو سافر يضيع ماله أو يتعرض للتلف، فاستودعه شخصا؛ فإن هذا يدفع عنه الضرر ويحقق له مصلحة بقاء المال، كذلك فيه مصلحة للشخص الذي توضع عنده الودائع، لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الكبير، ولما فيها من التراحم والتواصل والتعاطف؛ لأن المسلم لا يحفظ مال أخيه المسلم إلا إذا رحمه، وأحس بما بينه وبين أخيه من أخوة الإسلام التي توجب عليه أن يحسن إليه وأن يبذل له ما يستطيع بذله خاصة عند حاجته ومن ذلك الوديعة، ففي الوديعة خير كثير، ولذلك تزداد المحبة بين الناس بالودائع، فلو أن شخصا له مائة ألف وقال للآخر: ضعها عندك وديعة، فإن الشخص الذي يدفع الوديعة سيشعر أن أخاه أحسن إليه فيحبه؛ لأن القلوب جبلت على محبة من أحسن إليها. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم لطالما استعبد الناس إحسان فالإحسان يوجب محبة الناس وإكرامهم للمحسن. كذلك أيضا الوديعة فيها خير بالنسبة للشخص الذي يقوم بالوديعة، فإنه إذا جاءه أخوه وقال له: ضع هذه المائة ألف أمانة عندك فإنه سيشعر أن أخاه يثق فيه، وأن أخاه قد أنزله منزلة من بين سائر الناس إذ ائتمنه على عورة من عوراته، أو على حق من حقوقه، أو على أمواله، وهذا يدل على أن منزلة المودع عنده كبيرة، ولذلك ما أقبح أن يخون الإنسان هذه الأمانة أو يضيع هذه الوديعة، ومن هنا كان يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن من سنن الله عز وجل أنه ما خان أحد وديعته ولا فرط فيها ولا ضيعها إلا عاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة، وتأتي العواقب على أسوأ ما يكون، خاصة إذا كان في إنكار الوديعة وجحود الوديعة فإن الله يخذله. وكان العلماء يستشهدون بالحادثة المشهورة التي وقعت في زمان بني العباس، أن رجلا أراد الحج إلى بيت الله الحرام، وكان معه هميان أو كمر، وجمع فيه ماله وتجارة عمره، وكان بداخله من الجواهر الغالية الثمن التي هي كل ما يملكه في حياته، فجاء إلى رجل في السوق يعرفه بينه وبينه مودة ومعاملة في التجارة، فقال له: خذ هذا الكمر والهميان أمانة ووديعة عندك حتى أحج وأرجع، فذهب إلى الحج ولما رجع اشترى له هدية من باب المكافأة، فلما دخل عليه إذا بالرجل يتنكر له، سلم عليه فرد عليه السلام بجفاء، فجلس بجواره يظن أنه منكوب أو مكروب فقال له: أولا تعرفني؟ قال: لا أعرفك، من أنت؟ قال: أنا فلان الفلاني، قال: ما أعرفك، فأنكر معرفته، فقال له: بلى أنت تعرفني وقد استودعتك مالي، قال: لا أعرفك وليس لك عندي مال، فحاول الرجل أن يسترد ما أودعه عند صاحبه المرة والمرتين والثلاث حتى يئس منه، فانطلق إلى الخليفة يقال أنه المعتضد رحمه الله، وكان المعتضد من أقوى الخلفاء فراسة ودهاء وذكاء، وشكا إليه ما وجد، فقال له: اذهب إلى الرجل وأمهله ثلاثة أيام، واجلس كل يوم باب دكانه لعله يعرفك أو يتذكرك، فلما مضت ثلاثة أيام رجع إليه وقال: لم يصنع شيئا، بل طردني من أمام الدكان، وقال: لا أراك بعد اليوم تجلس في هذا المكان. فقال له الخليفة المعتضد رحمه الله: إذا كان من الغد فإني داخل السوق، فإذا دخلت السوق فسأمر بك فكن على مجلسك، وسأسلم عليك وأنت جالس مكانك فلا تتحرك، ولا تبد اهتماما ولا تحدث أي شيء، وأعتني بك ولا تعتن بي، ثم أنصرف عنك، وانظر ماذا يكون من الرجل، فانطلق رحمه الله ومر عليه وهو بالسوق، فلما مر عليه قام السوق وقعد لدخول الخليفة فيه، فلما مر على الرجل سلم عليه فرد عليه السلام كأي شخص، فسأله عن حاله وعن حال أولاده وأهله وإذا به على حاله لم يتحرك فيه شيء، فلما مضى الخليفة إذا بالرجل قد أصابه الرعب مما نظر، الخليفة يسلم عليه ولا يبالي ولا يكترث به، وإذا بالخليفة يسأل عن أولاده وأهله، فعند ذلك استدعاه المودع عنده ولاطفه وقال له: ربما أني نسيت من أنت؟ فقال المودع: أنا فلان بن فلان، تذكرت وديعتي؟ قال: نعم، قال: فأخرج له الهميان -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا بالخائن قد خاف من المخلوق أكثر من خوفه من الخالق، قال: فأخرج له الهميان فإذا هو بعينه، فأخذ الهميان وانطلق إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين! هذا الرجل وهذا ما صنع، فأمر به رحمه الله فجلده في السوق، وعزره تعزيرا بليغا. فهذه عاقبته في الدنيا، وعاقبته في الآخرة أشد وأنكى، قل أن يخون أحد وديعة إلا عجل الله له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) يقولون: حتى منع الشخص أن يخون الأمانة مع وجود الأذية، مع أن الله يقول: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، فلا يقابل المسيء بالإساءة في الأمانة؛ فإذا خان فلا تخن أنت؛ فإن الأمانة أمرها عظيم. يقول المصنف رحمه الله: (باب الوديعة) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالودائع، وحقوق الناس المحفوظة عند الغير، وهذا يشمل بيان حقيقة الوديعة، ويشمل عقد الوديعة، وما يترتب عليه من سقوط الضمان وعدمه، ومتى يكون الشخص المودع عنده ضامنا، ومتى يكون أمينا لا يلزمه الضمان. الأمر المترتب على من تعدى أو فرط في الوديعة قال رحمه الله تعالى: [إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن] . يقول المصنف رحمه الله: إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن، وإذا شئت فقل بدل هذه العبارة: إن الوديعة أمانة، ويد المودع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى؛ لأن إسقاط الضمان مع عدم التفريط والتعدي لا يكون إلا في يد الأمانة، وقد تكلمنا غير مرة في مسائل المعاملات على أن اليد تنقسم إلى يد ضمان ويد أمانة، يد الأمانة هي اليد التي لا نلزمها بالضمان إلا إذا تعدت أو فرطت، فلو حصل شيء سماوي مثل الصواعق والأعاصير فأتلفت وأحرقت هذا الشيء المودع دون أن تفرط ودون أن تتسبب في إحراقه فإنه لا ضمان عليك، هذه يد أمانة لا ضمان على الإنسان فيها إلا إذا تعدى أو فرط، وبناء على ذلك تستطيع أن تختصر الجملة وتقول: إن الوديعة أمانة، ويد المودع عنده يد أمانة لا يضمن إلا إذا فرط أو تعدى. تقدم معنا مسألة التفريط فهناك أسباب لابد من وجودها وتوفرها إذا قصر الشخص في هذه الأسباب كلها أو بعضها وحصل الضرر فإنه يضمن. مثال قديم: لو قال شخص لآخر: خذ هذه الناقة وديعة عندك، فمن المعلوم أن الناقة إذا آوت فإنها تعقل؛ فإذا حل عقالها فهذا تفريط، وحينئذ يلزمه الضمان، ويخرج عن كون يده يد أمانة إلى كونه ضامنا، فلو فرت هذه الناقة لزمه ضمانها، لا نقول: إنه مودع عنده، وأنه مؤتمن ويده يد أمانة، نقول: يده يد أمانة ما لم يفرط. مثال آخر في زماننا: لو قال له: خذ هذه السيارة واجعلها عندك وديعة لا أسمح لك بركوبها ولا استخدامها، اجعلها عندك وديعة واحفظها في داخل الحوش، فأوقفها خارج الحوش، ثم حصل حريق فاحتقرت السيارة، نقول: عليه الضمان لأنه فرط؛ فقد أمره أن يضعها في حرز معين فلم يضعها في ذلك الحرز فيضمن. قال له: هذا مبلغ عشرة آلاف ريال احفظه عندك، أخذ المبلغ منه فوضعه على مكتبه دون أن يحفظه ثم ذهب، ثم جاء سارق وسرق المبلغ، فمن المعلوم أن العشرة آلاف لا توضع على المكتب، وإنما توضع في الأدراج وتحفظ وتصان، ولكنه لم يقم بصيانة المال، فهذا تفريط وإهمال، فالتفريط والإهمال يوجب الضمان على المودع؛ فليس له أن يقول: يدي يد أمانة لا أضمن، ونقول: يدك يد أمانة بشرط أن لا تفرط، ولكنك فرطت في حقوق الناس، ولذلك يلزمك ضمان هذه الوديعة. والتعدي مجاوزة الحد، ويكون التعدي بتجاوز الحدود سواء كانت شرعية أو كانت عرفية، وهذه الحدود التي تعرف بالشرع أو بالعرف تصان بها الودائع، فإذا تجاوز المودع عنده هذا الحد، فحينئذ نقول: قد تعدى، أو تجاوز هذا الحد، ففي هذه الحالة يكون التعدي منه موجبا للضمان. مثال للتعدي فإذا قال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك في المزرعة ولا تستعملها، فأخذها واستعملها فهذا تعد؛ لأنه وضع له حدا وقال له: لا تستعملها. وإذا قال له: خذ هذه السيارة، آذن لك أن تستخدمها في ذهابك إلى المسجد ورجوعك، ولا آذن لك بغير ذلك، فخرج بها للنزهة والسفر، فهذا تعد. إذا قال له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، وآذن لك أن تستفيد منها بشرط أن لا تتجاوز السرعة بها عن مائة، فتعدى وتجاوز المائة والعشرين فلو حصل تلف أو حادث فإنه يضمن. إذا: الوديعة لا تضمن إذا لم يتعد ولم يفرط، وسيذكر المؤلف رحمه الله صورا جميلة هي تقارب السبعة أو الثمانية، وبعضهم يوصلها إلى التسعة، وهذه الصور كلها يخرج فيها المودع عن كونه أمينا إلى كونه ضامنا، ولذلك المسائل في الوديعة غالبها يدور حول سؤال واحد: متى يكون المودع ملزما بالضمان ومتى يسقط عنه الضمان، متى نبقيه على الأصل فنقول: لا ضمان عليه، ومتى نخرجه عن هذا الأصل ونقول: ليست يده يد أمانة ويلزمه الضمان، وهذا الذي يبحثه العلماء رحمهم الله في مسائل الوديعة، ولما بحث أهل العلم رحمهم الله هذه المسائل بحثوها بالأمثلة، ويجعلون لكل سبب من أسباب الضمان ضابطا، وربما في بعض الأحيان هذه الأسباب يدخل بعضها تحت بعض، يعني: التعدي والتفريط ممكن أن تعتبره أصلا للجميع، فإما متعد وإما مفرط، ولا يخرج عن كونه متعديا أو مفرطا كما سيأتي. الإيداع يكون بالقول والفعل الوديعة عقد من العقود على أصح أقوال العلماء، بناء على ذلك الوديعة يكون عقدها بالأقوال وبالأفعال، وقد تكون هناك أفعال معروفة تدل على الايداع، الوديعة تكون بالأقوال يقول له: خذ هذه السيارة وديعة عندك، فهذا صريح، أو يقول: خذ هذه السيارة واحفظها، وهذا ضمني، فعندنا لفظ صريح في الإيداع، ولفظ دال على الإيداع ضمنا مثل احفظها اتركها عندك أبقها عندك، وفي عرفنا نقول: خليها عندك، لكن هذا يدل على أنه يريد الوديعة. إذا الوديعة تكون بالقول. وتكون بالأفعال كل عرف بحسبه، فإذا وجدت أفعال معينة تدل على أنه يريد الإيداع مثلا: شخص معروف أنه يحفظ ودائع الناس، فيعطيه شخص شيئا محفوظا، يعطيه صندوقا، أو يعطيه كيسا مربوطا ويكتب عليه اسمه، جرت العادة أنه يحفظ هذه الودائع بدون مقابل، فيأتي ويودعها عنده، قد لا يتكلم وإنما يأتي إليه مباشرة ويعطيه الصندوق، فيكتب البيانات الموجودة على الصندوق، مواصفات الصندوق ثم يكتب: ثلاثة أشهر أربعة أشهر دون أن يتكلم، حينئذ نعلم أنها وديعة. الطالب يريد أن يسافر إلى أهله جرت العادة أنه يجمع متاعه في سكنه الطلابي ونحوه، ويأتي ويغلف ما عنده ثم يضعها في مكان معد لهذه الأمور، نعرف أن هذه الأفعال دالة على الوديعة. فإما أن تكون معرفة الإيداع عن طريق الألفاظ صريحة كانت أو غير صريحة، وإما أن يكون الإيداع معروفا بالأفعال، والأفعال تنزل منزلة الأقوال كما بينا في مسألة بيع المعاطاة. فالوديعة تقوم على الإيجاب والقبول، فإذا قال له: أودعتك هذه السيارة، فإنه يقول: قبلت، وفي زماننا يقول: لا يهمك، لا تشيل هم، لا يكون في بالك شيء، هذه كلها ألفاظ جرى العرف بها للدلالة على الرضا. الوديعة عقد جائز لا لازم يرد السؤال هل الوديعة تعتبر من العقود اللازمة التي لا يملك أحد الطرفين الرجوع عنها إلا برضا الطرفين معا، أم هي عقد جائز؟ تقدم معنا مسألة العقود الجائزة في أول البيوع، المسألة التي معنا الآن: لو جاء شخص ووضع سيارته عند شخص وقال له: هذه السيارة وديعة عندك شهرا، ثم جاء بعد يوم أو يومين وقال: أعطني سيارتي، هل تقول له: لا، أنت وضعتها وديعة عندي شهرا فلا تأخذها إلا بعد شهر؟ هذا معنى لزوم العقد فلا يملك أحد المتعاقدين الرجوع إلا إذا رضي الآخر، مثل البيع إذا تم بين الطرفين لم يملك أحدهما الرجوع إلا إذا رضي الطرف الثاني، فهل الوديعة لازمة أو جائزة؟ الوديعة من العقود الجائزة من الطرفين، أي: سواء رجع صاحب الوديعة أو رجع الشخص الذي تكفل بالوديعة. فلو جاء شخص وقال لك: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة شهرا، فقلت: قبلت، ثم بعد ساعة طرأ لك ظرف فقلت له: لا أستطيع خذ السيارة، ورددتها فإن من حقك ذلك، أي: أنك لست بملزم في عقد الوديعة. إذا: عقد الوديعة ليس بلازم، وإنما هو من العقود الجائزة للطرفين للمودع والمودع، لا يلزم أحدهما به، إنما يلزم بمضمون الوديعة يلزم المودع بأن يقوم بالوديعة بحقوقها وواجباتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى. من أحكام الوديعة وجوب الحفظ والرعاية والصيانة على المودع، فيقوم بحفظ مال أخيه المسلم ورعايته على الوجه التام، ويترتب عليها أنه لا يضمن لأن يده يد أمانة، ومن أحكام المودع أنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها ودفعها إليه متى طلبها. المعتبر في الحرز الذي توضع فيه الوديعة قال المصنف رحمه الله: [ويلزمه حفظها في حرز مثلها] . (ويلزمه) أي: المودع (حفظها) أي: حفظ الوديعة، (في حرز) الحرز دائما يكون صيانة ووقاية للشيء، فالحرز واق بإذن الله عز وجل للأشياء، مثلا: السيارات لها حرز، الدواب لها حرز، الأموال لها حرز، كل شيء له حرز، حرز الأموال في الصناديق المقفلة والخزانات الحديدية التي تحفظ المال بإذن الله عز وجل، لكن لا يمكن أن نقول أن حرز الأموال أكياس الورق، ليس هناك أحد يضع عشرة آلاف في بيته في كيس ورق؛ لأن كيس الورق ليس بحرز للمال، ولا بحفظ للمال. كذلك يكون الحرز للدواب الزريبة؛ زريبة الإبل، زريبة الغنم، زريبة البقر، توضع هذه الحيوانات في زرائبها، وقس على هذه المسألة غيرها من المسائل. فيجب على المودع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، فلو أعطاه ذهبا، فحرز الذهب الخزانة من الحديد. فإذا وضع الذهب في صندوق حديد مقفل، واحتاط فوضعه في داخل الدار -إذ لابد أن يكون هناك وعاء يحفظ المال- وكان المكان الذي يوضع فيه الذهب أمينا، فجاء شخص واعتدى على البيت وسرق هذا الصندوق، فإنه في هذه الحالة لا يلزمه ضمان؛ لأنه وضع الذهب في حرز مثله الذي هو الصندوق المقفل، في مكان أمين في داخل البيت، لكن لو جاء ووضع الصندوق المقفل أمام الناس أمام داره، فلا شك أن هذا يعرضه للسرقة ويعرضه للأخذ، فهو وإن وضعه في وعائه لكنه لم يضعه في مكانه المأمون الذي يمكن أن يكون محفوظا فيه. ولو أعطاه سيارة وقال له: خذ هذه السيارة وضعها عندك وديعة -والسيارات تحفظ في جراش مخصوص- فجاء ووضعها في جراش البيت وأقفل عليها الجراش، فلو حصل شيء أو ضرر أو احترق بيته واحترقت السيارة؛ وهي في جراش البيت بدون تفريط وبدون تعد منه ولم يمكنه إخراجها فحينئذ لا ضمان عليه؛ لأنه حفظ السيارة في حرز مثلها، ولم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه. إذا: يجب على المودع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها. بقي شيء: لو اختصم اثنان المودع والمودع الذي هو صاحب الوديعة، وقال له: فرطت إذ لم تحفظ وديعتي في حرز مثلها، قال المودع: بل حفظت وديعتك ولا ضمان علي، واختصما عند القاضي، فماذا يفعل القاضي؟ يسأل أهل الخبرة عن هذا الشيء الذي كانت فيه الوديعة هل هو في حرز مثلها أم لا، هذه المسألة تتفرع على القاعدة المشهورة عند العلماء وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس: العادة محكمة، وهي الرجوع إلى الأعراف في الأشياء سواء في قيم المتلفات، أو في حرز ونحو ذلك، يرجع إلى أهل الخبرة ويقال: هل حرز الذهب في مثل هذا؟ هل السيارات تحرز في مثل هذا؟ هل الكتب تحرز في مثل هذا؟ فإذا جرى العرف أن مثل هذه الأشياء التي وضعت فيها الوديعة حرز لمثلها فإنه لا ضمان عليه. المترتب على إحراز الوديعة في غير المكان الذي عينه المودع قال المصنف رحمه الله: [فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن] . هناك قرابة تسعة أسباب سيذكرها المؤلف يخرج بها المودع عن كونه أمينا إلى كونه ضامنا، وبعضهم يختصرها وبعضهم يفصل فيها، فهنا سيشرح بالتفصيل بالنسبة للحرز، يجب الضمان على المودع إذا قصر في حفظ الوديعة، إذا التقصير في حفظ الوديعة هو السبب الأول من أسباب كون المودع ضامنا. التقصير في حفظ الوديعة يكون بعدم حفظها في حرز مثلها كما ذكرنا، ويكون التقصير أيضا بمخالفة صاحب الوديعة فيما عينه. مثلا لو قال له: هذا الكيلو من الذهب ضعه وديعة عندك، قال له: قبلت حفظه، قال: سآتي بعد شهر وآخذه منك، إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وديعة عندك وسكت صاحب الوديعة فهنا نرجع إلى الأصل، ونحتكم إلى العرف هل وضعها في حرز مثلها عرفا أو لا. إذا قال له: خذ هذا الكيلو من الذهب وضعه في صندوق الدكان -والرجل المودع تاجر وعنده صناديق في الدكان وعنده صناديق في البيت- فقال له المودع: ضعها في صندوق الدكان، فجاء ووضعها في صندوق الدكان فاحترق الدكان، فلا ضمان عليه؛ لأنه التزم بالتعيين الذي عينه له صاحب الوديعة، فأصبح صاحب الوديعة هو المسئول عن وديعته، لأنه قال: ضعها في صندوق الدكان، ففعل ورقع الاحتراق ولم يكن هناك تعد من صاحب الدكان فإنه لا ضمان عليه. لو قال له: ضعها في صندوق الدكان فذهب ووضعها في صندوق البيت، أو ووضعها في خزنته في المزرعة أو خارج المدينة، فإنه بمجرد مخالفته لأمر صاحب الوديعة يلزمه الضمان، ولذلك ينبغي أن يتقيد بأمر صاحب الوديعة. قال المصنف رحمه الله: (فإن عينه صاحبها فأحرزها بدونه ضمن) . فإن عينها يعني: عين الحرز، فأحرزه يعني: أحرز الشيء المراد حفظه والقيام عليه بدونه، يعني: في غير المكان الذي أمره به، لكن هذا الغير ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون مثل الحرز الذي طلب منه، وإما أن يكون أفضل منه، وإما أن يكون أدنى منه، فلو قال له: خذ هذه المائة ألف وضعها في صندوق من خشب، فذهب ووضعها في صندوق حديد، إذا: عين صاحب الوديعة، فوضع المودع الوديعة فيما هو أفضل مما عين، هذه صورة الأفضل أن يأمره أن يضعها في صندوق خشب فيضعها في حديد، يأمره أن يضعها في صندوق من حديد عنده في الدكان من نوع ضعيف وعنده صندوق في البيت من نوع جيد فيضعها في البيت؛ لأن فالبيت أستر وأضمن وأيضا الحديد الذي فيه أجود، فهنا يكون أفضل وأجود من جهة المكان ومن جهة المحل الموضوعة فيه. كذلك يكون الحرز أدنى منه عكس ما سبق، كما لو أمره أن يضعها في صندوق من حديد فوضعها في صندوق من خشب، قال له: ضعها في البيت فوضعها في الدكان، فالخطر الذي في الدكان أشد منه في الخطر الموجود في البيت، ففي هذه الحالة يكون الحرز الذي اختاره أقل وأردأ. وقد يكون الحرز مثله ومساويا كما لو كان الضرر الموجود في الدكان كالضرر الموجود في البيت، واحتمال الضياع الموجود في الدكان موجود في البيت بنسبة واحدة، والصندوق الذي وضعها في البيت مثل الصندوق الذي وضعها في الدكان، مثله نوعه ووضعه، فإذا إما أن يحرزها فيما هو أضمن وأحفظ، وإما أن يكون حرزه دون ذلك، وإما أن يكون حرزه مساويا لما أمره به. فإن كان طلب منه حرزا معينا فأحرزه في مثله أو أفضل منه فلا ضمان، قالوا: لأنه لما أحرز في مثله وافق قوله ولم يخالفه، وكان بذلك غير متعد ولا مفرط؛ لأنه مثله لا فرق بينهما، تيسر له هذا المثل فوضعه فيه، لكن لو أحرز فيما دون ذلك حينئذ يكون مفرطا ويلزمه الضمان. قال المصنف رحمه اللا: [وبمثله أو أفضل فلا] . (وبمثله) بمثل ما أمر به ومساويا له، (أو أفضل) يعني: أن الحرز أقوى حفظا وأكثر صيانة، كما لو قال: ضعها في وعاء من زجاج فوضعها في الحديد، ووعاء الحديد أبلغ فهو لا شك أفضل. قطع العلف عن الدابة المودعة دون إذن صاحبها قال المصنف رحمه الله: [وإن قطع العلف عن الدابة بغير قول صاحبها ضمن] . هذا السبب الثاني: التضييع للوديعة، التضييع للوديعة يضيع أكلها، وعلاجها ودواءها، لو قال له: خذ هذا الفرس وديعة عندك، آخذه منك بعد شهر، أخذ الفرس فقطع عنه الطعام فمات الفرس، أو أصابه الهزال، أو لم يقطع عنه الطعام لكن كان طعامه رديئا أو قليلا فمرض الفرس، فإنه في هذه الحالة يضمن، لكن لو قال له صاحب الفرس: أطعمه كل يوم من نوع كذا وكذا من الطعام سواء كان فرسا أو فحلا أو ناقة أو شاة، كما لو قال: أطعم شياهي من الشعير، أعطها كل يوم صاعين من شعير، ثم بعد ثلاثة أيام قال: أعطها صاعا واحدا، فأنقص الطعام لكن بإذن صاحب الوديعة، إذا أذن له وقال له: أنقص الطعام، أو قال: اقطع عنها الطعام فإنه في هذه الحالة لا ضمان عليه، لكن السؤال لو قال له: لا تطعم البهيمة، فهل من حقه أن يفعل ذلك؟ الجواب إذا قال له: لا تطعم البهيمة، يقول له: هذا محرم؛ لأنه تعذيب للحيوان وإفساد في الأرض، وهذا لا يأمر الله عز وجل به؛ لأن من الإفساد في الأرض إهلاك الدواب، لو كان يريد تذكيتها وذبحها فلا بأس، أما لو حبس عنها الطعام ماتت وصارت ميتة لا ينتفع بها، وهذا لا شك من إضاعة المال، وقد نهى الله عن إضاعة المال فهل نطيعه، فالجواب أن يقول له: إما أن تأخذ وديعتك أو تسمح لي بإطعامها، أما أن يطيعه في معصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
إذا عين المودع جيب المودع مكانا للوديعة فتركها في كمه قال المصنف رحمه الله: [وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده ضمن، وعكسه بعكسه] . هذا سبب ثالث يتعلق بالتعيين والمخالفة في التعيين، وبعض العلماء يجعل هذا السبب والسبب الأول الذي ذكرناه واحدا، لكن ذكر العلماء مسألة الكم والجيب؛ لأن الجيب أحفظ من الكم، لأنهم كانوا يضعون الأشياء بأكمامهم، فالكم ليس في الحرز كالجيب، فالجيب أحفظ وأصون، ولذلك يقولون: الكم قد تسقط منه الأشياء بخلاف الجيب فإنه يحفظ الأشياء أكثر، فلو أعطاه شيئا وقال له: ضعفه في كمك، فوضعه في جيبه فالجيب أحرز، فحينئذ لا ضمان عليه ولو سرق، ولو قال له: ضعه في جيبك فوضعه في كمه وسرق أو سقط وتلف فإنه حينئذ يضمن لأنه خالف. إذا عين صاحب الوديعة مكانا أو صفة وجب عليه أن يلتزم بذلك؛ لأنه صاحب المال وهو أدرى بماله وأدرى بطريقة الحفظ، فلا يجوز له أن يخالفه، فإذا خالفه ضمن، في بعض الأحيان قد يكون وضع الشيء في يده أحفظ منه في جيبه، مثلا: يقول له: هذا الشيء ضعه في جيبك، فوضعه في يده، فالوضع في الجيب قد يكون مفضيا للهلاك أكثر من اليد، مثلا: لو أعطاه بيض دجاج بيضة أو بيضتين، وقال له: ضعها في كيس، لو وضعها في جيبه ودخل في زحام فانكسرت، فوضعها في الجيب أخطر من وضعها في اليد؛ لأنه يمكنه أن يقيها من الكسر بيده، لكن لماذا العلماء اختاروا الكم؟ لأن أغلب الأشياء حفظها في الجيب أقوى من حفظها في اليد والكم، وعلى هذا فإنه لا يمتنع أن توجد بعض الأشياء التي يكون المخالفة فيها في اليد والجيب تكون من حق المودع أن تكون في اليد أكثر من وضعها في الجيب. نقل المودع الوديعة إلى طرف ثالث قال المصنف رحمه الله: [وإن دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها لم يضمن] . هنا سبب آخر نقل الوديعة من عنده إلى طرف ثالث، هو ينقله بنفسه إلى شخص ثالث عنهما، في هذه الحالة من حيث الأصل لا ينقل الوديعة، من حيث الأصل هو مطالب بحفظها، لكن قد تأتي ظروف وأحوال ينقل فيها الوديعة إلى الغير، ويكون ذلك أصون وأحفظ وأمكن لرعاية الوديعة، فإذا دفع الوديعة إلى شخص آخر وكان هذا الشخص يأتمنه على ماله، ومن عادته أن يضع عنده ماله، فإنه ينزل منزلته، فقه المسألة أن الشخص المودع إذا قال له: خذ سيارتي وديعة عندك معناه أنه نزله منزلة نفسه، ولذلك يصدق في قوله ويؤتمن؛ لأنه ليس هناك أحد يعطي سيارته أو ماله إلا لشخص ينزله منزلة نفسه، ومن هنا قالوا: المودع أمين، فإذا أعطاه سيارته أو أعطاه أي شيء من أملاكه وقال له: ضعه عندك وديعة، فمعناه أنه نزله منزلة نفسه في حفظه وصيانته، فإذا نزله منزلة نفسه في حفظه، فإنه إذا قام هذا الشخص بنقل الوديعة إلى مكان هو يأمن بهذا ويحفظه لنفسه كان بمثابة المودع نفسه؛ لأنه رضيه متسلطا على ماله، ولذلك بعض العلماء يقول: تسليط الغير على حفظ المال، فتضمنت الوديعة التوكيل والتفويض، وبناء على ذلك فهو إذا وكل غيره وفوض غيره وكان ذلك الغير يوكله على ماله هو بنفسه فقد رضي لأخيه ما رضي لنفسه، وحينئذ يكون مثل ما لو نقل الوديعة إلى حرز يماثل الحرز الذي أمره بوضعها فيه، فانتقلت من عنده إلى شخص مثل نفسه ونزله منزلة نفسه فلا ضمان عليه. أو إلى شخص من عادة صاحب الوديعة أنه يضع أمواله عنده ويودع عنده، فإذا نقل الوديعة إليه فلا ضمان عليه. قال المصنف رحمه الله: [وعكسه الأجنبي والحاكم، ولا يطالبان إن جهلا] . وعكسه الأجنبي، يعني: شخص أجنبي، أجنبي هنا أصل المجانبة بمعنى البعد، مادة جنب تطلب بمعنى القرب وتطلق بمعنى البعد، تقول: فلان بجنبي يعني: قريب مني، وفلان مجانبني بمعنى: أنه مباعد ومبتعد عني، ومنه الجنابة لأنها تبعد الإنسان عن الصلاة والطواف بالبيت ودخول المسجد إذا تلبس بها، فهي من ألفاظ الأضداد، فمقصود العلماء بالأجنبي هو الطرف الثالث الذي يضع عنده المودع الوديعة؛ فإذا قلت له: هذه السيارة وديعة عندك، هذا المنزل وديعة عندك، فأنت قد حددت الشخص الذي تكون عنده الوديعة، فإذا صرف الوديعة إلى طرف ثالث فهو أجنبي بالنسبة لكما كمتعاقدين أي أن كل واحد من الناس غيركما يعتبر أجنبيا؛ لأنه ليس داخلا في العقد، فهو أجنبي بهذا المعنى، لكن إذا كان هذا الأجنبي تضع عنده مالك وتأتمنه على مالك، وتضع عنده الأشياء التي تهمك فأنت قد نزلت وديعة أخيك منزلة وديعتك ولا إشكال كما لو حفظتها عندك. فإن خرجت عن هذا المكان الذي هو أنت المودع ومن يأتمنه صاحب الوديعة ومن تأتمنه أنت، صارت إلى أجنبي، فإنه يجب عليك الضمان بصرفها، وهذا من أسباب الضمان أن يصرفها لأجنبي. ومن هو الأجنبي؟ الأجنبي هنا هو الذي لا تضع ودائعك عنده ولا يضع صاحب الوديعة، يعني: لا يؤتمن على وديعته لا من المودع ولا من المودع، ففي هذه الحالة يجب الضمان. قال رحمه الله: (وعكسه الأجنبي والحاكم) لو جاء ووضعها عند القاضي فإنه يضمن؛ لأنه لم يؤمر بوضعها عند أجنبي، والقاضي أجنبي، صحيح أن له ولاية عامة على أموال الناس، لكن بشرط ألا يكون هذا على سبيل حقوق الناس نفسها، فالوديعة حق لصاحبها يودعها إلى من يريد. القاضي أجنبي عن هذا، ولايته عامة على الأموال التي لا يعرف صاحبها، لكن الأموال التي عرف أصحابها والودائع التي يعرف أصحابها لا سلطان للقاضي عليها، فإذا أودعها عند القاضي فالقاضي منزل منزلة الأجنبي، وحينئذ يضمن. ولا يطالبان إن جهلا، لا يطالبان بضمانها إن جهلا، لو أن المودع أعطى السيارة لأجنبي، فتلفت عند الأجنبي ولم يكن يأتمنه لا هو ولا المودع عنده، فإنها إذا تلفت وجب الضمان على المودع، والأجنبي إن فرط وحصل منه تعد أقام المودع دعوى ضد هذا المفرط وطالبه بالضمان، لكن لو تلفت بآفة سماوية كالمزرعة تحترق أو يأتي سيل ويجرفها فإنه يجب على الأجنبي أن يضمنها للمودع، وعلى المودع أن يضمنها لرب الوديعة وصاحبها، هذا إذا علم، أما إذا لم يعلم الأجنبي أو الحاكم وتلفت بآفة سماوية فإنه لا ضمان عليه؛ لأنها في حكم الوديعة؛ لأنه يظن أنها ماله، فلما استودعه قبل الأجنبي هذه الوديعة، على أنها مال للمودع، فعنده شبهة تسقط عنه الضمان، من الذي يضمن الآن؟ المودع. صورة المسألة: عندك سيارة أعطيتها لزيد، وقلت: يا زيد! خذ هذه السيارة وديعة عندك، فأخذ زيد السيارة وذهب بها إلى شخص لا يودع عنده ولا تودع أنت عنده؛ فهو أجنبي، فأخذ الشخص هذه السيارة وأوقفها في بيته ولم يتعد ولم يفرط، فالشخص الأجنبي حين قبل من زيد سيارته قبلها على أي أساس؟ على أنها وديعة، فعنده شبهة أنه مؤتمن، وإلا ما كان يدخل نفسه في شيء يوجب الضمان عليه، فلما قبل وهو يظن أنه يملك السيارة وأدخلها في حرز مثلها وجاءت صاعقة فأحرقتها أو جاء سارق وسرقها نقول: هذا الشخص الأجنبي الذي يجهل أنها وديعة عندك وقبلها على أنها وديعة لا ضمان عليه لأنه لا يعلم، لكن إن علم أن هذه السيارة لصاحبها الفلاني، وأن المودع تعدى وأعطاه إياها فإنه يضمن، هذا معنى قوله: إن جهلا، فإن علم الحاكم والأجنبي أنه صرف الوديعة عن محلها ضمن، ويكون ضمانهما للمودع، والمودع يضمن لصاحب الوديعة، لكن إذا جهلا يكون الضمان فقط على المودع، ولا يضمن الحاكم ولا الأجنبي. حال الوديعة عند سفر المودع قال المصنف رحمه الله: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة] . شرع المصنف رحمه الله في بيان موجب من موجبات الضمان في الوديعة، فإذا أعطى إنسان إنسانا وديعة فلا يخلو من قسمين: القسم الأول له حالتان: الحالة الأولى: أن يأذن له بالسفر بها إذا أراد أن يسافر. الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر. والقسم الثاني: أن يسكت. فإذا ألزمه بأخذها معه، فإنه حيئنذ يجب عليه أخذ الوديعة إذا أمره، ويكون مخيرا إذا خيره. فإن قال له -وهذه الحالة الأولى، وهي حالة الإذن-: إذا سافرت فإن شئت فخذها معك، وإن شئت فأبقها فيكون حينئذ مخيرا. كرجل أعطى رجلا ساعة ثمينة وقال له: هذه الساعة وديعة عندك، وكان طالبا يدرس في مكان ففي مدة الدراسة يجلس في سكنه ثم يسافر في العطل، فقال له: إذا سافرت في العطلة؛ فإن شئت أخذتها وإن شئت حفظتها في درجك أو في مسكنك. في هذه الحالة خيره بين الأمرين؛ فإن سافر بها فلا ضمان عليه، وإن أبقاها في درجه فلا ضمان عليه؛ فهو مخير بين الأمرين؛ لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة. الحالة الثانية: أن يلزمه بأخذها معه إذا سافر فيقول له: هذه الساعة وديعة عندك، ولكن إذا سافرت فخذها معك، هذه السيارة أمانة ووديعة عندك فإذا سافرت فلا تبقها، وسافر بها، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يتركها، فإذا تركها وحصل شيء ضمن، وإذا سافر بالسيارة وحصل عليها ضرر بحيث لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه، لأنه التزم ما أمره به صاحب الوديعة. هناك حالة أخرى تقتضيها القسمة العقلية تلتحق بهذا القسم: وهي أن ينهاه عن إخراجها، فيقول له: إذا سافرت فلا تأخذها. إذا إما أن يأمره صاحب الوديعة بأخذ الوديعة معه إذا سافر، أو يأمره بإبقائها إذا سافر، أو يخيره بين الأمرين، فإن أمره بالإبقاء أو بالأخذ وخالف ضمن، وإن خيره فلا ضمان عليه، سواء أبقاها أو أخذها، ففي هذه الصور الثلاث تكلم صاحب الوديعة، وأمر، أو نهى، أو أذن، كل هذا نعتبره موجبا للضمان في حال المخالفة، ولا يوجب الضمان إذا لم يخالف المودع. وإذا سكت صاحب الوديعة؛ يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن غاب حملها معه إن كان أحرز، وإلا أودعها ثقة] . إذا في حال سفر المودع إذا سكت صاحب الوديعة-وهذا هو القسم الثاني إذا سكت صاحب الوديعة فلم يأمره ولم ينهاه ولم يأذن له، في هذه الحالة نقول: ما هو الأصلح والأفضل لهذه الودائع؟ هل بقاؤها في السكن، أو بقاؤها في الخزائن، أو بقاؤها عند ثقة، والسفر بدونها أفضل وأكثر أمانا أو العكس؟ فحينئذ نحاسبه على حسب العرف؛ فإن كان السفر بها يوجب حفظها أكثر ويمنع من ضياعها وسرقتها، فحينئذ يجب عليه السفر بها، فإن لم يسافر بها فقد قصر فيلزمه الضمان، وأما إذا كان الأفضل أن يبقيها -لأن السفر فيه خطر عليه، وقد يتأخر تسليمها الى أصحابها كما لو كان من بلد بعيد ويصعب عليه ردها إلى أصحابها أو يتحمل أصحابها المشقة- فالذي يجب حينئذ أن يحفظ الوديعة عند الثقة الأمين. أما الدليل على كونه يعطي الوديعة أمينا وثقة، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الهجرة، وأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة، قام بإعطاء الودائع لـ أم أيمن رضي الله عنها وأرضاها حاضنته، وأمر عليا أن يرد هذه الودائع إلى أهلها، فلم يسافر صلى الله عليه وسلم بالودائع، وإنما تركها وأمر عليا رضي الله عنه أن يقوم بردها إلى أصحابها وأهلها. وبناء على ذلك قال العلماء: من السنة إذا كان هناك الثقة والعدل الذي يرضى لحفظ الوديعة والغالب أنك إذا سافرت بها عرضت الوديعة الى الخطر، فإنك تحتاط في صيانتها فتعطيها إلى الثقة حتى تتمكن من القيام بما أوجب الله عليك. ولذلك قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58] . أمرنا بأداء الأمانات إلى أهلها، والأمر بالشيء أمر بلازمه، فلا تستطيع أن تؤديها إلا إذا حفظتها، فلما كان السفر بها يؤدي إلى ضياعها وعرقلتها عن أهلها ولربما يؤدي إلى سرقتها، فإنه يجب عليك أن تحتاط بإعطاء ثقة هذه الودائع ليردها إلى أهلها. التصرف في الودائع والانتفاع بها قال المصنف رحمه الله: [ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها، أو ثوبا فلبسه، أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها، أو رفع الختم ونحوه، أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن] . (ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها): ومن أودع دابة فركبها لغير نفعها، هذه مسألة التصرف في الودائع بالركوب والانتفاع. مثل رحمه الله بالدابة: في القديم كان الرجل يعطي الرجل حصانه ويعطيه ناقته ونحو ذلك مما يركب من الدواب. فإذا قال له: خذ هذا البعير وديعة عندك وجب عليه أن يحفظه، وأن لا يتصرف فيه، لأنه مؤتمن، وأن لا يقوم باستغلال هذا الشيء الذي أودع عنده؛ لأن استغلاله بالعمل والحركة يضر بذلك الشيء. الدابة إذا ركبها الإنسان فإن هذا قد يضر بالدابة، وقد يعرضها للتلف، وقد يعرضها للعطب، وقد يعرضها لحصول ضرر في جسدها، ولذلك ينبغي أن يحفظها وأن لا يتصرف بها. فشرع المصنف رحمه الله في بيان سبب من أسباب الضمان وهو التصرف في الودائع. إذا تصرف في الوديعة بركوبها كما مثل المصنف بالدابة، أو السيارة في زماننا، فإذا أعطاه سيارة وركبها بمجرد ركوبه للسيارة وإخراجها من حرزها يكون ضامنا، فلو حصل عطل في السيارة، أو ضرر حتى ولو لم يكن بيده يعني لم يكن بوسعه إنما كان بسبب سماوي، أو اعتدى عليه أحد أو سرق منها شيء ولم يعثر على سارقه، فإنه يضمن ذلك كله؛ لأن يده اعتدت بإخراج الوديعة. إذا لا يجوز لمن وضعت عنده وديعة أن ينتفع بها بالركوب أو الاستخدام ما لم يأذن له صاحبها، فإذا قال له صاحبها: أذنت لك بركوب السيارة وجب عليه أن يتقيد بهذا الإذن، فإذا كان إذنا في داخل المدينة فيكون غير ضامن إذا ركبها داخل المدينة، وضامنا إذا ركبها خارج المدينة، إذا قال له: أذنت لك أن تركبها لقضاء مصلحة ما، فخرج عن هذه المصلحة إلى مصلحة ثانية وجب عليه الضمان. إذا من أودع دابة وفي زماننا السيارة؛ فلا يخلو صاحب الوديعة من حالتين: إما أن يأذن له بالتصرف فيها، وإما أن لا يأذن له فيمنعه من التصرف فيها بركوبها واستغلالها، فإن أذن له بركوبها واستغلالها والانتفاع بها لم يخل إذنه من حالتين: إما أن يكون مطلقا، وإما أن يكون مقيدا. يقول له: هذه سيارتي وديعة عندك، وإذا شئت فاركبها في أي وقت وفي أي ساعة فقد أذنت لك، بمعنى أنه فوض إليه أن ينتفع ويرتزق بالمعروف، فلا يضمن في هذه الحالة إذا قيد أو أطلق إلا إذا اعتدى، فلو حمل السيارة حمولتها وفوق طاقتها فحينئذ يضمن، ولا نعتبر إذن صاحب الوديعة؛ لأن إذنه بالمعروف، وكونه يحمل السيارة فوق ما تحتمل خارج عن المعروف، فيجب عليه ضمانها. الحالة الثانية: أن لا يأذن له بركوبها، ولا يأذن له بالانتفاع، قال له: يا محمد! هذه سيارتي وديعة عندك، هذا مسجلي وديعة عندك، هذه ساعتي وديعة عندك، هذا قلمي وديعة عندك، فالواجب أن يحفظ الوديعة كما هي، فإن احتاج إلى إخراجها كالسيارة تركب، والدابة كما ذكر المصنف تركب، فيجوز له أن يركبها ويخرجها إذا كان في مصلحة الوديعة نفسها، مثلا السيارات في زماننا إذا جلست وديعة عند الإنسان سنة، ربما تتضرر بطول الوقوف، ربما أخرجها بسبب انتقاله إلى بيت آخر أو إصلاح شيء فيها لازم، فهذا الإخراج إخراج بالمعروف لا ضمان عليه، لكن لو أخرجها لمصلحته هو، كأن يصل إلى مكان أو يوصل منقطعا، فإنه يجب عليه الضمان. إذا الضابط عندنا أن الوديعة من حيث الأصل لا يتصرف فيها الإنسان إلا بإذن صاحبها -الذي هو المودع- فإن خرج عن حدود هذا الإذن، أو تصرف تصرفا خارجا عن المعروف وجب عليه الضمان، وبناء على ذلك لا يضمن إذا أبقاها، ولا يضمن في حدود ما أذن له، ولا يضمن إذا كان تصرفه بالمعروف. هذا كله متعلق بمسألة التصرف في الودائع. الآن الأدوات الكهربائية الموجودة في زماننا؛ كالغسالات، والثلاجات، والمكيفات؛ لو أن شخصا أعطى شخصا مكيفا وديعة، أو أعطاه ثلاجة وديعة، وجب عليه أن يحفظها، وعدم تحريكها وتشغيلها؛ لأنه لا مصلحة له في تشغيلها، فإذا جاء صاحبه ولو بعد عشرات السنين يعطيه إياها كما هي، لكن هناك أشياء لابد من استصلاحها ولابد من تحريكها حتى يكون ذلك أرفق وأحفظ بها، فهو لما أذن له بحفظها من حفظها أن يغير زيتها، من حفظها أن يتفقدها عند الحاجة. إذا الإذن بالشيء إذن بلازمه ومن لوازم الحفظ القيام بذلك، فلا ضمان عليه إذا تصرف في حدود المعروف. (أو ثوبا فلبسه) إذا قال له: خذ هذا الثوب وديعة عندك، فأخذه فالواجب عليه أن يحفظه وأن لا يلبسه وأن لا يعرضه للتلف، فإذا أخذه وحفظه وصانه حتى جاء صاحبه فدفعه إليه فلا إشكال أنه لا ضمان عليه، فلو أخذه وحفظه وجاء ضرر على الثوب من حريق أو نحوه دون تعد أو تفريط، فلا ضمان عليه، لكن لو أنه لبس الثوب، فأثناء دخوله لمكان انشق الثوب، أثناء قفزه لحفرة انقطع الثوب مثلا، فهذه كلها أضرار دخلت على الثوب بسبب اللبس، ففي هذه الحالة إذا كان لبس الثوب بالمعروف؛ بمعنى أنه خاف على الثوب الضرر فلبسه، كيف يخاف على الثوب الضرر؟ كالعثة مثلا؛ لأن الثوب إذا ترك في مكان فيه عثة مدة تصيبه العثة فتؤثر عليه، فحينئذ لابد أن ينقله إلى مكان آخر ليس فيه عثة، افرض أن بيته كله فيه عثة وليس هناك أمين يضع عنده الثوب، فحينئذ يلبس الثوب أو يحمله معه إذا أمكنه الحمل دون ضرر. (أو دراهم فأخرجها من محرز ثم ردها) أو كانت الوديعة دراهم فأخرجها من محرز، هذه كلها أمثلة مثل بها المصنف رحمه الله، الدابة تخرج إلى الضمان بالركوب وفيها منفعة الركوب، الثوب فيه منفعة اللبس، الدراهم معروف منافعها، وقد يأخذها لمنفعته ويتزين بها ويتجمل بها، كما في الحلي ونحوه إذا كان من ذهب أو فضة. مسألة الدراهم؛ إذا أعطى إنسان إنسانا دراهم، أو نقودا ورقية، فالواجب عليه إذا أعطاه إياها وديعة أن يحفظ عين المعطى، أن يحفظ عين الورق، ولا يتصرف في ذلك الورق ولا يستبدل به ورقا آخر، فإن فعل ذلك وجب عليه الضمان. بل إن الفقهاء يعتبرون إخراجها من محرز فقط يعني لو أعطاه إياها داخل محفظة وقال له: خذ هذه المحفظة فيها خمسة آلاف ريال وديعة عندك، فأخرجها فقط ونظر فيها وجب عليه الضمان؛ لأن الوديعة تحفظ كما هي. إذا كانت هذه الخمسة آلاف الموجودة في المحفظة ردت بعينها، وردت داخل المحفظة، ومع ذلك وجب عليه الضمان بالإخراج فقط؛ لأنها أمانة، والشريعة تنظر إلى حقيقة الوديعة كوديعة، فما بالك إذا أخذ الخمسة آلاف واشترى بها وباع، أو أعطاها شخصا آخر، ثم رد مثلها في العدد هل تكون وديعة؟ الجواب لا. ومن هنا تتفرع مسائل الوديعة المصرفية الموجودة في زماننا، فالودائع المصرفية في زماننا، تنقسم إلى أقسام: هناك ودائع توضع لسحبها عند الحاجة، وهناك ودائع توضع كما هي وتؤخذ دون أن يتصرف البنك أو المصرف بأي تصرف تحفظ بعينها كما هي، ويمكن العميل من أخذ عين ماله وعين الشيء المودع دون أي تصرف للبنك. القسم الأول: يعرف في زماننا بالحساب الجاري، والحساب الجاري: أن يضع الشخص مبلغا من المال في البنك تحت رقم معين، والتزام البنك أنه يمكنه من سحب المبلغ كله أو بعضه متى شاء وفي أي وقت، فلو جاء مثلا بمليون ووضعها في البنك، وبعد دقيقة جاء وسحبها، مكنه البنك من سحبها، يلتزم بهذا، وأيضا يلتزم البنك بإعطاء هذا المبلغ الذي وضع في الحساب الجاري للشخص نفسه ولغيره، وكالة بطرق معينة عن طريق الشيك، ونحو ذلك من الوثائق التي تثبت التوكيل بالسحب وأخذ المبلغ. بالنسبة لهذا النوع، وهو وضع المال في حساب معين، وسحبه عند الحاجة، لا تنبطق عليه أوصاف الودائع، لا من قريب ولا من بعيد، فليس هو في وديعة حقيقة، فتسميته وديعة مصرفية من ناحية العرف، وجريان هذا الاسم لا يمت إلى الحقيقة من جهة المصطلح الشرعي بصلة؛ لأن الوديعة تترك كما هي، ويؤخذ عين المال المودع. إذا ثبت هذا تفرع عليه أن المال إذا وضع يكون حكمه حكم القرض، بمعنى أنه بمجرد ما تضع مبلغا في الحساب أصبحت مقرضا للبنك ذلك المبلغ؛ لأنه لا ينطبق عليه وصف الوديعة، فليس بملتزم أن يرد لك عين المال، وليس بملتزم بحفظ المال، إنما التزم لك بمثل المال في أي وقت تشاؤه، إما أصالة أو نيابة بوكالة لشخص آخر. وقد تكلمنا على مسائل الوديعة المصرفية وفصلنا في أحكامها في دروس الربا والصرف، وبينا المشروع منها والممنوع وبينا المصطلحات الموجودة في زماننا، وحتى القوانين الوضعية توافق الشريعة الإسلامية في كون الوديعة المصرفية قرض وليست بوديعة، فتسيمتها وديعة ليس له حقيقة من جهة المصطلح الشرعي، وهذا أمر نحب أن ننبه عليه طالب العلم حتى لا يكون هناك اغترار بالاسم، وهنا ننبه على أنه ربما يكون هناك اختيار لبعض المصطلحات الشرعية من قبل عامة الناس وينخدع بها طالب العلم، وربما يظن أنها وديعة ويخضع لها أحكام الوديعة وهي ليست كذلك، وهذه هي فائدة التعريفات الاصطلاحية. فائدة وضع العلماء رحمة الله عليهم بالتعريف الاصطلاحي للمصطلحات الشرعية إنما هو معرفة ما تنطبق عليه حقيقة المصطلح الشرعي وما لا تنطبق عليه، حتى لا يصبح هناك تلاعب، وإلا ادعى كل إنسان ما شاء وألصقت المعاملات الشرعية بما ليس منها. لذلك لابد من تطبيق ضوابط الوديعة على الحساب الجاري، فلما طبقناها وجدناها أنها لا تنطبق على ذلك، يصبح حكمها حكم القرض، إذا أثبتنا أن حكمها حكم القرض يصبح أخذ أي فائدة سواء كان من العميل شرطا أو عرفا يعتبر موجبا للحكم بتحريمها، لأنها من الربا كما تقدم بيانه وتفصيله في دروس الربا والصرف. أما النوع الثاني من الودائع الموجودة في البنوك فهي الوديعة المستندية، وهذا النوع من الودائع يقوم العميل فيه باستئجار صندوق معين برقم يمكنه البنك من أخذ هذا المفتاح، وفتح هذا الصندوق، ووضع ما شاء فيه، وسحب ما شاء دون أن يكون هناك للبنك أي نظر للشيء المودع سواء كان مالا، أو جواهر، أو مستندات، فهذا النوع لا شك أنه تنطبق عليه حقيقة الوديعة، هذا النوع الذي هو استئجار الصناديق البنكية لوضع الوثائق والمستندات ووضع الأموال، ووضع الجواهر، أو الأشياء النفيسة، لا شك أنه تنطبق عليه ضوابط الوديعة الش الأسئلة حكم من تأخر عن دفع الوديعة في الوقت المحدد فتلف السؤال هل يضمن الشخص إذا حدد له المودع وقتا محددا ثم انقضى هذا الوقت فتلفت العين بعد مضي الوقت بيوم أو يومين؟ الجواب نعم يضمن إذا حدد له وقتا للدفع وحدد له الدفع إلى شخص معين فتأخر في الدفع عن الوقت المحدد تخرج يده من يد الأمانة إلى يد الضمان، لكن بشرط أن لا يوجد عذر للتأخير، فإن وجد عذر للتأخير فإنه حينئذ لا ضمان عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوديعة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (385) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب الوديعة [2] في طيات هذا الدرس العديد من المسائل والأحكام منها: حكم التصرف في الودائع والانتفاع بها دون إذن صاحبها، واختلاف المودع مع المودع في رد الوديعة أو تلفها، وقول ورثة المودع في رد الوديعة أو تلفها وغير ذلك. شرح زاد المستقنع - باب إحياء الموات [1] وقد حث الإسلام على إحياء الموات، ورغب في ذلك، وملك الأرض الموات لمن يحييها، لذلك أولى أهل العلم هذا الباب اهتماما كبيرا؛ فذكروا في طيات مؤلفاتهم شروط وضوابط الإحياء، والمسائل المتفرعة عنها كالإقطاع، وهل هو خاص بالإمام أم لا، ومسألة الحمى، والسبق إلى المباح، واشتراك الناس في موارد المياه، والمرافق العامة وغيرها. إحياء الموات تعريفه وشروطه وأدلة مشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب إحياء الموات] : الحي ضد الميت، والإحياء لا شك أنه مما اختص به سبحانه وتعالى، فهو وحده لا شريك له الذي يحيي الموتى، لكن التعبير بالإحياء هنا نسبي، ويكون في الجمادات، حيث يقوم المكلف باستحداث العمران فيها، بناء، أو غرسا، أو استصلاحا، ويعتبر هذا إحياء نسبيا، فلذلك يقول العلماء: باب إحياء الموات، فإذا كان الإحياء مما اختص به الله سبحانه وتعالى فلماذا يعبر العلماء بهذا التعبير؟ و الجواب تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح عنه: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) فعبر بالإحياء ولهذا توسع فيه العلماء؛ لأن المراد به: الإحياء النسبي. وقوله رحمه الله: إحياء الموات: المراد بالموات: الأراضي البور. والأراضي التي تحيا ويحكم بإحيائها فيها تفصيل، فقد تكون الأرض ميتة لكنها ملك للغير فلا يصح إحياؤها، فالمراد بقوله: الموات: موات مخصوص؛ فهو إحياء لشيء مخصوص على صفة مخصوصة من شخص مخصوص، فليس على إطلاقه. والأصل في هذا الباب حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وجاء عن غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ جابر رضي الله عنه عند أحمد في المسند، وأبي داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، وفي رواية من حديث عائشة (وليس لعرق ظالم حق) ، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول على مشروعية إحياء الأرض الميتة، وقوله: (من أحيا) صيغة من صيغ العموم، فيشمل الصغير، والكبير، والذكر، والأنثى. ويختلف الإحياء بحسب اختلاف الأراضي وما يقصد منها، فتارة يكون الإحياء بالبناء، فإذا كان بالبناء فلا بد من وجود شيء يصدق عليه أنه إحياء بالبناء كما سيأتي، وتارة يكون بالغرس، فيغرس الأرض بالنخل أو الزروع، ويكون هذا إحياء بالزراعة، وتارة يكون الإحياء بحفر البئر، فإذا حفر بئرا في مكان فقد أحياه، وهذه البئر قد تحفرها القبيلة من أجل سقي الدواب، وقد يحفرها الإنسان من أجل سقي دوابه، أو سقي مزرعته، حتى ولو كانت بعيدة عن مزرعته، فيكون لها حريم، وتكون لها حرمة. وقوله: (من أحيا أرضا) : أرضا نكرة، والنكرة تفيد العموم، وبناء عليه أخذ بعض العلماء من ذلك عموم الأراضي، لكن المسألة فيها تفصيل كما ذكرنا، فهذه الصيغة الدالة على العموم قد جاء ما يخصصها، ويفيد أن الحكم ليس على العموم من كل وجه، وهو قوله: (ليس لعرق ظالم حق) فدل على أن الأرض إذا كانت ملكا للغير وهي ميتة، ثم جاء شخص وأحياها، وهو يعلم أنها ملك لفلان فقد ظلمه، أو لم يعلم ثم علم واستمر مالكا لها، فقد ظلم ببقائه، فليس له فيها حق، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق) ، العروق تنقسم إلى أربعة أقسام -كما ذكرنا في باب الغصب- عرقين ظاهرين، وعرقين باطنين. فمن اعتدى على أرض ميتة، لأخيه المسلم، فأحياها وهو يعلم أنها ملك لأخيه المسلم، فيكون العرق منه ظالما إما بظاهر وإما بباطن، فالعرق الظاهر الظالم يكون بشيئين: بالبناء فيها- وهذا اعتداء-، وبالغرس فيها -وهذا اعتداء-، والعرق الباطن الظالم يكون بشيئين: بحفر البئر في الأرض، وبإجراء النهر من الآبار والعيون ونحوها، فهذا كله يعتبر لاغيا شرعا، وبينا الأحكام المترتبة على اغتصاب الأرضين، وذكرنا الوعيد الشديد الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فالشاهد من هذا أن إحياء الأرض يشترط فيه ألا تكون الأرض ملكا للغير، وهذا الشرط الأول. والشرط الثاني: أن تكون الأرض خالية عن الاختصاصات، والاختصاصات المراد بها: المصالح والمرافق العامة للمسلمين، التي تعلقت بها مصالح خاصة؛ مثل الطرقات فقد تعلقت بها مصلحة المسلمين بالمشي عليها، ومثل الأماكن التي يتجمع فيها الناس داخل المدن أو حتى خارج المدن في بعض الأحيان، ومثل أن يكون هناك مكان مختص بشيء، كأن تكون هناك أماكن لرمي النفايات خارج المدينة، وهي أرض ميتة، فلا يجوز لأحد إحياؤها؛ لأنه تعلق بها مصلحة جماعة المسلمين، فلابد أن تكون الأرض ميتة بورا، ويكون الإحياء -كما ذكرنا- بالغرس، والبناء، والحفر. ويجري مجرى الإحياء: كف الماء عن الأرض، وهذا يقع عند الفيضانات من النهر أو السيل إذا غطى المناطق الصحراوية، فقام أحد بسحب هذا الماء من منطقة منها، وهيأها حتى أصبحت صالحة للزراعة، فهذه التهيئة إحياء. وفي حكم هذا تحجير الرياض، والمراد بالرياض: الروضات التي تكون في القرى، فيتخذون فيها أماكن لزرع الحبوب على الجبال ونحوها، ويحجرونها، ولا يبنون عليها ولا يزرعونها زرعا ثابتا كالنخيل ونحوه، بل زراعتهم تكون موسمية في مواسم المطر، فيحجرونها بتنظيف الأرض، ويضعون بجوانبها الحجار، فهذا نوع من الإحياء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا) يشمل هذا كله. ومعنى قول المؤلف رحمه الله (باب إحياء الموات) : أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بإحياء الأرض الميتة، وما يترتب لمن أحياها إذا ثبت إحياؤه لها، من حيث انتفاعه بها ومليكته لها. وهذا الباب اعتنى به المحدثون، واعتنى به الفقهاء، فكثير من كتب الحديث اعتنت به، وأعني بكتب الحديث غير الصحيحين، التي ذكر مصنفوها حديث: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، وهم من كان هذا الحديث على شرطه، فهناك بعض الأبواب لا يوجد فيها إلا حديث واحد، فإذا لم يوجد فيها إلا حديث واحد فإن الأبواب تكون بحسب شرط المخرج، فهو ينظر إلى الحديث هل هو من شرطه أو لا؟ فإذا كان من شرطه ذكره، وإلا فلا. قال رحمه الله تعالى: [وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم] . أي: هي الأرض المنفكة التي لا تعلق فيها بالاختصاصات، مثل الطرق، والأماكن التي يخرج الناس إليها في حال نزول المطر، والأماكن التي تكون قريبة من المدن يتنزهون فيها، والأماكن التي يرمون فيها نفاياتهم، ولذلك يقولون: هناك حريم للمدن، وحريم للبيوت، وحريم للآبار، فحريم المدن: أماكن يمنع أن يستغلها شخص لمصلحته حتى لا يضر بمصلحة الجماعة، فالأماكن التي وضعت -مثلا- لرمي النفايات لا نقول عنها: هي ميتة، ولو جاء شخص وزرع فيها أو بنى عليها فقد أحياها! لكن نقول: فيها تعلق بمصلحة جماعة المسلمين، فلا يصح إحياؤها، وكذلك الطرق التي يمشون عليها، فقد تكون هناك طرق من أراض ميتة تعتبر مسالك لنقل الناس في أسفارهم أو نقلهم داخل المدن، فلا يجوز إحياؤها، ولا يجوز التسلط عليها بحجة الإحياء، والاختصاصات تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ففي القديم كانت هناك مراع، والمراعي التي تكون لإبل الصدقة تسمى حمى، يخصها ولي الأمر لدواب المسلمين؛ لأنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله فيحتاج بيت مال المسلمين إلى توفير الخيل والإبل، بحيث لو حدث حادث تكون الظهر -الخيل والإبل- جاهزة، فمثلا لو كان بيت المال فيه ألف ناقة، فهذه الألف تحتاج إلى مرعى لتأكل منه، ولا يمكن أن تكون قريبة من المدينة إلا إذا هيئت لها أرض محمية يمنع منها الناس، فيمنع منها الخاصة لمنفعة العامة، وعلى هذا ذكروا القاعدة المشهورة: يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، فهنا تدفع مضرة عامة بإحداث الحمى. والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع، وهو على مسافة أكثر من ثلاثين فرسخا من المدينة، وبعضهم يقول: من جهة النقيعة المعروفة الآن، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حمى الربذة، وهي المشهورة الموجودة الآن، ومن الحمى الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم العطن الموجود في المدينة، وهو بجوار مسجد السبق، فهذه المنطقة كان يفيض عليها شعب من شعاب جبل سلع، وكانت مرتعا مخضرا، فكان يحميها لإبل الصدقة، وهل إبل بيت مال المسلمين، فهذه كلها اختصاصات، فلو جاء أحد يحيي شيئا من هذه الأماكن فقد عطل مصالح بيت مال المسلمين، فلا يجوز الإحياء في مثل هذا المكان الذي تعلقت به مصالح بيت مال المسلمين، كالطرقات ونحوها. وقوله: (وملك معصوم) أي: لا يتعلق به ملك معصوم، فإذا كانت الأرض التي يراد إحياؤها ليست ملكا لأحد، خالية عن الاختصاص؛ جاز إحياؤها، لكن إذا كانت ملكا لأحد؛ فإما أن تكون ملكيته لها بالشراء، وإما أن تكون ملكيته لها بالإحياء، فلو أن شخصا جاء إلى أرض بيضاء وبنى عليها أو غرس فيها، ثم تبين أنها ملك لغيره، فلا نقول ببطلان الإحياء إلا بالتفصيل، فإن كانت هذه الأرض ملكها السابق بالشراء فحينئذ الإحياء لاغ؛ لأن يده ثبتت عليها بالشراء والملك، لكن لو كان السابق ملكها بالإحياء، ثم عطلها حتى ماتت، ثم جاء الثاني وأحياها؛ ففيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يبطل الإحياء الثاني الإحياء الأول أم لا؟ فعند بعض العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك وغيره من فقهاء المدينة: أن من أحيا أرضا، ثم تخلى عنها حتى رجعت بورا، رجعت كما كانت لعامة المسلمين، فمن سبق إليها وأحياها فهي ملك له. وهذا القول من يتأمل فيه يجد أن فيه مصلحة عظيمة، خاصة في هذا الزمن الذي تجد الشخص فيه يأتي ويتكلف حتى يحيي الأرض ويأخذ الصك عليها، ثم بعد ذلك يتركها، والشريعة ما شرعت الإحياء لفراغ، وإنما شرعته لمصالح الجماعة؛ كي تحفز الناس لما فيه مصلحتهم، فيبني الرجل مثلا بيتا، أو يجعل له مزرعة فينفع وينتفع، لكن أن يأتي ويعطل هذه الأرض، فيقيم عليها مسكنا أو بناء ثم يأخذ الصك، ثم تصبح الأرض جرداء بيضاء ما فيها شيء، ثم كل من جاء ليحييها يقول له: لا؛ هذه الأرض لي، وقد قضى القاضي لي بها، فهذا يضر بمصالح الناس، ويخرج مقصود الشرع من الإحياء، فمقصوده عمران المدن، ووجود الزرع، أما هذا الإحياء فهو تعطيل للناس، وإذا قلنا: إذا ماتت الأرض المحياة فتبقى في ملك من أحياها، فهذا مسائل في إحياء الموات بينا المراد بإحياء الموات، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإذن بإحياء الموات، وقد قصدت الشريعة الإسلامية من تمليك المحيي للأرض مساعدة الناس ومعونتهم، والرفق بهم، وإحياء الموات يعين على حصول الخير لعموم المسلمين وخصوصهم، فيحصل الخير لعمومهم بإحياء الأراضي بالزراعة، فيستغني المسلمون عن غيرهم بوجود الزرع والنبات، وكذلك يكون فيه منفعة خاصة للمحيي، كما لو بنى بيتا ليسكنه، ويستر عورته، ويكون فيه الرفق له ولأهله. ومن عادة العلماء رحمهم الله في هذا الباب أن يبينوا بعض المسائل التي تفرعت عن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إحياء الموات، وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، والضعيف منها شهدت الأصول باعتباره، أو جرى عمل السلف رحمهم الله به، ولذلك يعتنون ببيان أمور منها: أولا: من الذي يحيي الأرض؟ ومن له حق الإحياء؟ ثانيا: ما هي الأرض التي يجوز إحياؤها، وإذا أحياها إنسان حكم بملكيته لها؟ ثالثا: ما هي حقيقة الإحياء التي اشترطها عليه الصلاة والسلام للحكم بملكية المحيي؟ كما يبينون حقيقة الإحياء؛ لأنها تختلف بحسب اختلاف المقاصد، فإحياء الأرض بالزراعة يحتاج إلى ضوابط، وإحياء الأرض بالبناء يحتاج إلى ضوابط؛ ومن هنا لزم بيان هذه المسائل في باب إحياء الموات. وبعض أهل العلم يلحق بمسائل إحياء الموات مسائل (الاختصاصات) ، كمن جلس في مكان عام لكل الناس لمصلحة مثل المسجد؛ فمتى يحكم بكونه أحق بالجلوس في هذا المكان؟ وهكذا من جلس في طريق، فوضع بضاعته ليبيعها، وعرضها وبسطها على الأرض؛ فمتى يكون أحق بهذا المكان من غيره؟ ونحو ذلك من المسائل، التي يذكرونها في باب إحياء الموات؛ لأنها وإن كانت استحقاقا خاصا لمدة معينة، فهي في حكم الإحياء من جهة الاستحقاق. حكم إحياء الكافر للموات قال رحمه الله: [فمن أحياها ملكها] . فمن أحيا الأرض الميتة بالزراعة -وسنبين كيف يكون الإحياء بالزراعة- أو بالبناء فيها فقد ملكها، أي: حكم له بها، فيكون مالكا لها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، فدل قوله: (فهي له) على أنه يملكها. وقد ذكر المصنف القاعدة العامة: (من أحياها ملكها) أي: حكم الشرع له بملكيتها، فلو نازعه أحد بعد إحيائه إياها، وثبوت ملكيته لتلك الأرض؛ فإنه لا يستحق شيئا من تلك الأرض، وإنما هي ملك لمن أحياها. قال رحمه الله: [من مسلم وكافر] . (من) بيانية، أي: سواء كان المحيي مسلما أو كافرا، والمسلم إذا أحيا مواتا في أرض المسلمين فلا إشكال في ملكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، لكن هل يجوز للكافر الإحياء في بلاد المسلمين؟ والبلاد التي يكون فيها كفار معاهدون أهل ذمة، فأحيا أحدهم أرضا مواتا فيها، فهل يملكها؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فمنهم من يقول: الكافر لا يحيي في أرض المسلمين ألبتة، وليس له حق إحياء أرض في أرض المسلمين حتى ولو كان من أهل الذمة؛ لأن المسلمين قد فتحوا هذه الأرض وأصبحت تابعة للمسلمين، فلا إحياء لكافر؛ لأن مقصود الشرع أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فأحل الله لأهل الكتاب إذا صالحوا المسلمين أن يبقوا في ديارهم، وأن يتركوا على ما هم عليه، لكن لا يتوسعوا وتصبح لهم شوكة بسبب إكثارهم من ملكية الأراضي، وأشد من هذا وأعظم إذا جاءوا إلى بلاد المسلمين، وأرادوا الإحياء فيها، وبالأخص في جزيرة العرب، فإن النص فيها واضح؛ ولذلك لم يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر اليهود حينما كانوا بخيبر، ولم يحكم لهم بإحياء، بل قال عليه الصلاة والسلام ليهود خيبر -كما في الصحيحين- لما عاملهم على سقي الأرض: (نقركم فيها ما شاء الله) ؛ فلم يجعلهم ثابتي اليد على الأرض، ولم يجعل لهم سلطانا عليها. وعلى هذا: فالقول بأن الكافر لا إحياء له قول صحيح، وهو مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ومقاصد الشريعة تدل على ذلك؛ لأن من مقصود الشرع: أن يكون الكافر تحت المسلم، وألا يكون له سلطان على المسلم، ولو فتح لهم مثل هذا -خاصة في بلاد المسلمين- فإن الشوكة تكون لهم، وتكون لهم القوة، وقد يضر ذلك بمصالح المسلمين، وقد يضيق هذا على من يريد الإحياء من المسلمين؛ وعلى هذا لا يفتح لهم الباب، والقول بمنعهم هو الأوجه والأرجح. ومن أهل العلم من أحل لهم الإحياء مطلقا، وهو قول المصنف رحمه الله، ومن أهل العلم من قيد ذلك فقال: إذا أذن لهم الإمام أن يحيوا في ديارهم فلهم ذلك، ولهم أن يملكوا، وإذا لم يأذن لهم فإنهم لا يملكون. والقول بعدم فتح باب الإحياء لهم أصح، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) ، وهم إذ ذاك أهل ذمة وتحت سلطان المسلمين، وقد فصلنا هذه المسائل في باب أحكام الذمة، وبينا أن مقصود الشريعة التضييق عليهم حتى يسلموا، فإذا نظرت إلى حكمة الشرع في أن الذمي إذا كان تحت حكم المسلمين لا يبدأ بالسلام، وإذا مشى في الطريق اضطر إلى أضيقه، ولا يرفع داره فوق دار المسلمين، ولا يكون لهم شعار ظاهر، فيصبح الشعار والظهور كله للإسلام؛ فيحس الذمي بالذلة والصغار، وهذا هو مقصود الإسلام؛ ولذلك قال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29] ، فإذا شعروا بالذلة والصغار فإن ذلك يدفعهم لاعتناق الإسلام، وينفر ذلك المسلم عن الردة، حتى حديثي الإسلام يتألف قلوبهم إلى الإسلام بما يكون من حسن المعاملة، والتضييق عليهم إنما جاز للضرورة، وقد نبه على هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في كلامه على بعض المسائل التي اختلف فيها في مساواة الذمي بالمسلم. فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يكون للكفار ملك بالأحياء في بلاد المسلمين. ومن أجازوا ذلك استدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ، والعموم يخصص بالشريعة العامة، وخاصة في هذا الزمان، فلا يشك المسلم بحصول الضرر لحرص الكفار على التمكن من ديار المسلمين، ولا مانع من تخصيص العموم، إذ أن العموم خوطب به المسلمون، وإذا كان المخاطب به هم المسلمون فالحكم يكون لهم، وعلى هذا: لا يدخل أهل الذمة في هذا العموم، فهو عام مخصص بعرف الشرع أي: أن الشرع جعل الخطاب للمسلمين وقال: (من أحيا) ، ومما يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) أي: بشرط ألا يكون فيها حق لمسلم، وأراضي المسلمين التي لم تحيا وهي في بلادهم ملك لعامة المسلمين، وإذا مكن الكافر منها فلا شك أنه يخالف مقاصد الشريعة العامة، فالعموم هنا لا يخلو من نظر كما ذكرنا. قال رحمه الله: [بإذن الإمام وعدمه] . أي: سواء أذن الإمام أو لم يأذن. قال رحمه الله: [في دار الإسلام وغيرها] . أي: سواء أحيا في دار الإسلام أو في غير دار المسلمين كدار الحرب، فإذا كان الكفار ممن وقع بينهم وبين المسلمين حرب، وأحيا مسلم دارا فيها؛ فإنه يملكها. وقد ذكرنا مسألة: إذا فتحنا بلاد الكفار، وكان فيها ملك للمسلمين، فهل ترتفع عنها يد المسلم لكونها صارت مفتوحة عنوة أو لا؟ فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الجهاد. قال رحمه الله: [والعنوة وغيرها] . أي: سواء فتحت عنوة أو فتحت صلحا. ضوابط إحياء الموات قال المصنف رحمه الله: [ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته] . الأراضي التي يقع عليها الإحياء الأصل أنها تكون خارج المدن، أما ما داخل المدن فالغالب فيها أنها مملوكة أو أنها من مصالح المسلمين ومرافقهم العامة، فالمناطق التي تحيا غالبا تكون في ضواحي المدن، وضواحي المدن تنقسم إلى قسمين: ما قرب من المدينة، وما بعد عنها. أما القريب منها فلا مجال لإحيائه إن كان هذا القريب متصلا بالمدينة، وتتعلق به مصالح أهلها، فلا يفتح باب الإحياء فيه، ولا يمكن أحد من الإحياء فيه، مثل الأماكن القريبة من المدن التي يرمي فيها الناس الفضلات والنفايات، أو الأماكن التي للفروسية والسباق بالخيول كما كان في القديم، أو أماكن اعتاد الناس أن يخرجوا ويتنزهوا فيها، وعرف أنها متنزه للناس، وقد كان العقيق -مع أنه داخل حدود المدينة- متنزها للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا إذا نزل الغيث خرجوا إليه، وأثر هذا عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من المدينة، لكنه يعتبر متنزها ومتنفسا للناس فلا يملك؛ لأن تمليكه لمن يحييه يضر بمصالح المسلمين، فكل ما كان قريبا لا يمكن تمليكه لمن يحييه إذا أضر بالمصالح. ومن هنا نعلم أنه لا يصح الإحياء في عرفات بالنسبة لأهل مكة، مع أنها خارج حدود الحرم، وهذا مبني على أنها مشعر، وإحياؤها يضر بمصالح المسلمين، وهكذا منى ومزدلفة، فجمهرة العلماء رحمهم الله سلفا وخلفا على أنها لا تملك، ولا يملك أحد أرضا فيها مهما كان، ولو ادعى أنه يريد إحياؤها فلا ملكية له ولا عبرة بهذا الإحياء؛ لأن منى مناخ من سبق، وتمليكها يضر بالناس في مشاعرهم؛ لأنها هيئت وأعدت من أجل أداء المناسك، فلا يملك أحد فيها ألبتة، واختار هذا القول سماحة الشيخ العلامة الإمام الجليل محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله برحمته الواسعة كما في فتاويه، ونبه أنه لا ملكية لأحد في هذه المشاعر، ولا يثبت لأحد استحقاق الملك فيها، ولا شك أن هذا القول هو القول الحق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (منى مناخ من سبق) ، فيتضرر بالإحياء فيها الحاج الذي يؤدي المناسك، فلا يملك أحد شيئا في هذه المواطن؛ لأنها جعلت لعموم المسلمين، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه أحيا شيئا فيها؛ لأنها ليست من جنس ما يمكن الإحياء فيه. وهل هناك مصلحة في مضايقة من يؤدي هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؟! فلذلك لا شك أن المشاعر ليست من الأماكن التي يحيا فيها، وهكذا بالنسبة للمتنزهات، ومواقف السيارات القريبة من المدن، ونحو ذلك، فهذه كلها لا تملك بالإحياء، ومن أراد الإحياء فليذهب إلى غيرها، وهذا مبني على القاعدة التي نبه عليها العلماء، وهي: الضرر يزال، فلو أننا قلنا بشرعية الإحياء مطلقا لتضرر من يرتفق بهذه المصالح، والضرر لا يسمح به، بل الشريعة تأمر بزواله، ومما يدخل في هذه القاعدة -كما ذكر العلماء- أن يكون هناك مرفق لجماعة المسلمين، فيريد شخص مصلحة خاصة من هذا المرفق بحيث يضر بالجماعة، فهي مصلحة فرد تضر بالجماعة، فهل نقدم مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة أم نقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد؟ لا شك أن حكم الله عز وجل أن تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، فكيف إذا كانت مصلحة الجماعة دينية شرعية؟! فالحكم بها أولى وأحرى، ومما يدخل في هذه القاعدة ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات أنه إذا رخص التاجر سعر السلعة وحصل الإضرار بالسوق، فلا يقر؛ فهي مصلحة فرد يحصل بها الضرر للجماعة، فلا تقر الشريعة هذه المصلحة الخاصة بضرر عام، وإنما تدفع الضرر العام بالضرر الخاص، ومن قواعدها: إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى روعيت العظمى بارتكاب الصغرى. حقيقة الإحياء قال رحمه الله تعالى: [ومن أحاط مواتا] . حفر بئر في أرض موات قال المصنف رحمه الله: [أو حفر بئرا فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عين ونحوها] . الآبار على نوعين: النوع الأول: ما يقوم على الجمة، وهي الآبار التي تكون في الأراضي الغنية بالماء، بحيث لو حفرت مترا أو مترين أو ثلاثة أمتار تمتلئ؛ لأن الأرض مليئة بالماء، فإذا حفر هذا القدر جاءت الجمة واجتمعت في البئر، فإذا نزحت الماء عادت مرة ثانية، فمثل هذا الماء إذا كان كافيا لإحياء الأرض، وكان نصف البئر المحفور يكفي ماؤه لإحياء الأرض فلا إشكال، فيحفر ويحيي الأرض، لكن إذا كان الماء قليلا لا يكفي لإحياء الأرض، وكان من يعرف الزراعة يعرف أن هذا الماء لا يمكن صاحبه أن يزرع الأرض؛ فلا يكفي هذا للحكم بإحياء الأرض. النوع الثاني: الآبار الجوفية، فهذه ماؤها غير ماء الأولى، الأولى لو حصل جفاف -كما لو قل المطر أو قحط الناس- انقطعت مياهها لأنها سطحية، ولذلك مثل هذه الآبار السطحية خاصة في المناطق النائية التي يقل فيها الماء، لا يكون مثلها موجبا للحكم بالإحياء، وعلى القاضي أن يحتاط في مثل هذا؛ لأنه ربما خدع في وقت امتلاء البئر، فيظن أن الأرض يمكن إحياؤها بهذا القدر من الماء، والواقع أن مثل هذا لا يكفي، لكن المياه الجوفية التي يكون الماء موجودا فيها غالبا، فإنها سبب لحياة الأرض، فمثل هذه الآبار لا شك أنها تثبت الملكية بها. وللبئر حريم سيبينه المصنف، لكن نحن نتكلم هنا على أن حفره للبئر في الأرض التي سورها نوع من الإحياء، فإذا أرادها للزراعة أو للسكنى وحفر فيها بئرا؛ فهذا نوع من الإحياء، والبئر ينتفع بها حتى إذا كانت الأرض للسكنى، فيكون البئر للبيت كما في القديم أو للزراعة، ويكون إحياؤها بذلك الماء. وقوله: (أو أجراه إليه من عين ونحوها) أي: أو أجرى الماء إلى الأرض المحياة من عين، أو من غيرها، كأن يحفر في مكان تتوافر فيه المياه، ويجري الماء عن طريق القناطر أو عن طريق المواسير -كما هو موجود في زماننا- إلى هذا الموضع الذي ليس فيه ماء، وقد كانوا في القديم يستقون من العيون، بواسطة القناطر والمجاري التي تأتي من العيون والخيوف وتسقي المزارع، وتجري القنطرة من بئر بعيدة أو من عين بعيدة، فإذا حفر بئرا بعيدة، وأوصل ماءها إلى نفس المكان المحيا، فإنه نوع من الإحياء. نزح الماء عن أرض مغمورة وحبسه عنها قال رحمه الله: [أو حبسه عنه] . هنا الصورة عكسية، في الأول الأرض يابسة، وهنا الأرض مليئة مغمورة، فإذا كانت الأرض مغمورة كواد في النيل أو الفرات أو دجلة، فغمر النهر الأرض، فيقوم المحيي فيحول بين الماء وبين الأرض، فيحبس الماء عن أرضه، ويضع الحواجز التي تمنعه، فتنكشف الأرض، وتصلح للزراعة، وتكون خصبة، فهذا نوع من الإحياء، فهو يكشف الماء ثم بعد ذلك يدخره حتى يستقي منه، لكن بشرط: ألا يضر بالنهر، فإذا أضر به كأن يدفن جزءا منه فلا يحق له ذلك؛ لأن هذا التضييق سيضر بالطرف الثاني من النهر، وإذا ضاق مجرى النهر قوي دفعه على ما بعده، فيكون دفعه شديدا كحال الفيضانات والأمطار ومثل هذا اعتداء، ولذلك يحكم العلماء بأن النهر لابد له من حمى عن يمينه وعن يساره، وهما ضفتا النهر أو ضفتا الوادي، فهذه حمى لا يجوز لأحد أن يدخل فيها فيضيق مجرى النهر، ولذلك قالوا: لا يملك بالإحياء ما كان داخل مجاري السيول؛ لأنه إذا دخل مجاري السيول فإما أن يعرض نفسه للخطر، فيغرق وتغرق دوابه ويفسد ماله ويذهب زرعه، وهذا موجود، ومن سنن الله عز وجل أن من غلب على الماء في مجاري الأنهار والسيول أن الله عز وجل يسلط عليه السيول الجارفة، وإما أن يضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي، فإذا ضيق مجرى النهر أو مجرى الوادي أضر بمن هو أعلى منه، وبمن هو دونه، فإذا كان مجرى الوادي مائة متر، فضيقه بدخوله فيه حتى صار خمسين مترا، فمعنى ذلك: أن الماء سينحبس، فإذا جاء السيل فإنه سيضر بالناس ويؤذيهم؛ ولذلك لا يجوز الإحياء بسحب الماء أو الدخول على المجاري، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله، أنه لا يضر بالنهر ولا يضر بمن يستقي من النهر. قال رحمه الله: [ليزرع] . اللام: للتعليل، أي: يحوط الأرض، ويحفر فيها، أو يجري لها الماء من بعيد بقصد الزراعة، فهذا إحياء للزراعة، كذلك من الإحياء للزراعة حراثة الأرض، وتنظيف الأرض من الحجارة، وتنظيفها من الشجر حتى يزرع فيها، وتكون صالحة للزرع، وكل هذا يعتبر من الإحياء. قال رحمه الله: [فقد أحياها] . أي: إذا حصل منه هذا فإنه يكون محييا لها؛ لأنه إحياء خاص، وهو الإحياء بالزراعة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
إحاطة الأرض وزراعتها هنا فصل المصنف رحمه الله حقيقة الإحياء، فكأن سائلا سأل: كيف يكون الإحياء؟ فقال رحمه الله برحمته الواسعة: (ومن أحاط مواتا) ، فالأرض إذا كانت على طبيعتها مواتا، فلابد من فصلها عن غيرها، فالإحاطة تكون بالسور، أو برفع الأرض، أو بالتحجير بوضع جدار من الحجارة بعضها على بعض، أو من الخشب، أو الإحاطة بالأسلاك الشائكة الموجودة في زماننا، أو غير الشائكة من الزنك أو الحديد أو غير ذلك مما تحصل به الإحاطة، والمقصود فصل ما يريد إحياءه عما هو من أصل الموارد، فلابد أن يفصل أرضه؛ لأنه سيحكم له بملكية هذه الأرض، والملكية تنصب على معين لا على مجهول، فلابد -لكي نحكم له بالملكية- أن يحدد ما يحييه، ويكون التحديد -كما ذكرنا- بالإحاطة، والإحاطة قد تكون من جنس الأرض نفسها كرفع العقوم، وهو أن يرفع عقم التراب، فيحيط أرضا مثلا مائة متر في مائة متر، فهذه الإحاطة بالتراب نوع من الإحياء، لكن ليست كل الإحياء، فهناك مرحلتان للإحياء: المرحلة الأولى: تهيئة الأرض للإحياء، والمرحلة الثانية: إثبات الإحياء بالغرس أو البناء أو نحو ذلك، فإذا رفع عقوم الأرض، وبين عقومها، فحينئذ يشرع في الإحياء، وإذا سوى الأرض وجعلها مستوية، فجعل أعلاها مستويا مع أسفلها، وساوى الأرض، فهذا شروع في الإحياء، وكذلك الرياض التي تكون على الجبال، وعلى مجاري الأنهار أو العيون إذا حجرها ووضع الحجارة حولها بحيث إذا جاء الماء ينحبس في نصيبه حتى يسقيه، ثم يرسل ما زاد عن حاجته، فهذا نوع من الشروع في الإحياء، وهذا الشروع في الإحياء لا يثبت الملكية، فلا يكون مالكا بمجرد بناء سور أو بناء عقم؛ لأن من بنى سورا على أرض لم يحيها حقيقة، إذ لو فتح هذا الباب فقد يأتي شخص إلى أرض واسعة (كيلو في كيلو) ، ويبني عليها سورا ويقول: أحييت هذه الأرض كلها! إنما يكون الإحياء إما بالزراعة وإما بالبناء، أو نحو ذلك مما يقصد به الإحياء، ومن الإحياء أن يجمع بين زراعتها وبنائها، أو يجعلها مستودعات أو نحو ذلك، لكن مجرد بناء السور أو الإحاطة لا يكفي. فإذا أحاط الأرض وقلنا: لا يملك بمجرد الإحاطة، فيرد السؤال ما هي فائدة قولنا: إن الإحاطة شروع في الإحياء؟ نقول: إنه بهذه الإحاطة يكون له حق السبق، بحيث لو جاء منافس يريد أن يحيي نفس الأرض نمنعه منها، ونقول لمن أحاطها: يا فلان! أحي هذه الأرض وإلا مكنا غيرك منها. إذا: التحجير والإحاطة دون وجود إحياء فعلي في نفس الأرض لا يقتضي الحكم بالملكية، بل لابد من وجود الإحياء الحقيقي بزراعة أو استغلال يثبت بمثله الإحياء، فلو أنه حجر الأرض ونازعه غيره؛ قلنا: إن هذا التحجير يوجب الحكم بالسبق. يرد سؤال: لو أن شخصا بنى سورا على أرض كبيرة، ولم يحدث فيها بناء ولا زرعا، ولم يحيها إحياء يثبت بمثله الملكية، وتم هذا البناء للسور ومكث مدة، ثم جاء أحد يريد أن يحيي هذه الأرض، فقال له: أنا بنيت الجدار، لكنه لم يحدث شيئا، فهل يبقى الوضع هكذا على مر السنين والدهور مع أنه قد يفعل هذا حيلة فيبني الجدار ويحجر؟ هذا يسمى التحجير، ويروى فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وفي سنده الحسن بن عمارة ضعيف- أنه قضى فيمن حجر أرضا ثلاث سنين، ثم لم يفعل خلال الثلاث السنوات شيئا، أنه يمكن غيره من الإحياء، ويرفع الأول يده، فنقول له: خلال الثلاث السنوات إذا أحييت ملكت، وأما إذا لم تحي فغيرك أحق، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يؤجل ثلاث سنوات لإحيائها بالزراعة أو نحو ذلك. وهذا القول لا شك أنه يقفل باب الضرر الموجود في زماننا، فقد يأتي الشخص ويرفع عقم الأرض، ولا يحدث فيها شيئا ألبتة، ويأتي الثاني ويبني جدارا على أرض ولا يحدث فيها أي إحياء، ثم يمتنع من تمكين غيره منها، فلا شك أن في هذا إضرارا وتضييقا على المسلمين؛ وتصور المدينة أو القرية إذا أصبح كل شخص يبني سورا طال أو قصر، وإذا بالناس يتباعدون، ولو أراد شخص أن يخرج خارج المدينة ليرتفق لا يجد مرفقا أو منتزها إلا بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين كيلو مترا! فكأنهم حبسوا في مدنهم! فهذا تضييق على الناس؛ ولذلك: لابد من وضع ضوابط شرعية، فلا يستغل كل شخص قضية الإحياء حتى يضيق على المسلمين في مصالحهم. إذا: الإحاطة لا تكفي في الإحياء، بل هذا تحجير. حريم البئر حريم البئر غير المطوية البئر الصغرى التي تكون غير مطوية وغيرة ثابتة، محفورة باليد وما فيها طي، ومثل هذا النوع من الآبار مؤقت قد ينهدم ولا يبقى، لكن البئر العادية المبنية المطوية تبقى قرونا؛ لأنها ثابتة، لكن الآبار غير المطوية وغير المعتنى بها تبقى مؤقتا، وقد يحفرها الشخص ثم يرتحل عنها؛ فيعطى من الحريم ما يناسبه، ومن العلماء رحمهم الله من عمل بهذا الحديث المرفوع وجعله أصلا، ومنهم من قال: هذا أمر مختلف بحسب العرف، فنمكن صاحب البئر من أخذ حمى للبئر على قدر حاجته، فمثلا: قبيلة حفرت بئرا فتحتاج حريما إلى خمسين ذراعا، والقبائل الصغرى ليست كالكبرى، فمثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس، وهذا مذهب الجمهور، وهذا قول قوي؛ لأنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عمل بهذا المرفوع، فلا بأس، وقد جرى عليه العمل عند بعض السلف رحمهم الله. قوله: (خمسين ذراعا من كل جانب) لأن الناس عندما يردون على الآبار يستقون لدوابهم ما يريدون من مكان معين، والبئر في بعض الأحيان يكون لها منزح للماء وبرك وحياض في جهة معينة يستقى منها، لكن بالنسبة للبئر عموما قد يستقي منها العشرة في آن واحد، كالبئر الكبيرة، وكل واحد له رشاء، وماؤها قريب ما تحتاج إلى بكرة ونحوها فينزح الناس منها، لكن إذا كان للبئر بكرة واحدة -يعني دلو واحد- فيحتاج الناس إلى حياض، وإلى قنطرة تسني إلى الحياض، وإلى ترتيب، فلذلك: ترك الأمر إلى اختلاف الأحوال واختلاف الأشخاص أنسب وأولى. قوله: (وحريم البدية نصفها) . حريم الشيء حرمته، والمراد بذلك: ما ذكرناه أن هذه البئر تحتاج إلى مثل الحمى تحمى به حتى تبقى، وحتى يتمكن صاحبها الذي احتفرها من أخذ مصلحته التي يريدها منها برفق. حريم البئر المطوية (البئر العادية) نسبة إلى عاد، ومن عادة العرب أن القديم تنسبه إلى عاد، فالشيء القديم يقال عنه: العادي، والمراد بها هنا: البئر المطوية، وتكون إلى عين ومجرى، وما تكون بئرا مؤقتة كالتي تجتمع بالجمة. وكانوا في القديم يحفرون الآبار من أجل أن يستقوا لأنفسهم أو يحفروها سبيلا للناس، أو يحفرها الرجل لخاصته مثل المزرعة، وقد نص العلماء رحمهم الله أنه لو حفر أحد بئرا واستخرج الماء من البئر فإن لهذه البئر حريما، والحريم يشبه الحمى؛ لأن من حفر بئرا يحتاج إلى مسافة معينة ليستفيد من هذه البئر، فكانوا في القديم، تحفر قبيلة بئرا في مكان ما، فيقال: هذه بئر بني فلان، فيحتاجون إلى سقي دوابهم، فإذا جاءوا بدوابهم فإنهم يحتاجون إلى مكان متسع حتى يشربوا، ويحتاجون إلى أحواض ليكون فيها الماء، فالماء ينزح من البئر ويوضع في هذه الحياض حتى ترده الإبل والدواب، فهذا شيء رتبه العلماء رحمهم الله، ونظروا إلى أن الأعراف جارية بوجود مصالح مرتبطة بالبئر، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نص على أن حريم البئر العادية خمسون ذراعا، والبدية خمسة وعشرون ذراعا، لكن من حيث العمل عند العلماء رحمهم الله أن حريم البئر مرتبط بمصلحة هذه البئر، فقد يطول وقد يقصر على حسب اختلاف المراد من هذه البئر. إقطاع الأرض الموات لمن يحييها قال رحمه الله: [وللإمام إقطاع موات لمن يحييه ولا يملكه] . قال رحمه الله: (وللإمام) اللام: للاختصاص، الإقطاع مثل المنحة، وفيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمن أهل العلم من قال: يجوز للإمام أن يقطع وأن يمنح ولا يجوز لمن دونه ذلك، فيختص الإقطاع بالإمام وحده، وقالوا: إنه لا يقطع إلا في شيء فيه مصلحة للمسلمين؛ لأن أراضي المسلمين لهم جميعا، ولا يجوز تخصيص بعضهم دون بعض إلا إذا وجدت مصلحة للمسلمين في ذلك التخصيص، وهذا هو الأصل الشرعي، وهو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت الإقطاع عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث وائل بن حجر الكندي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا بحضرموت، وكذلك أقطع عليه الصلاة والسلام الحارث بن بلال رضي الله عنه وأرضاه بالعقيق -ويقال: إنه العقيق الذي قرب الطائف- أقطعه منجما، ولما كان زمان عمر رضي الله عنه وأرضاه قال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقطعك لتحييه، ولم يقطعك من أجل أن تحتجزه من دون الناس، فما أحييته فهو لك، وما لم تحيه فالناس معك فيه سواء، فدلت هذه السنة العمرية على أن الإقطاع نفسه لا يقتضي التمليك، وأنه ولو قلنا بصحة الإقطاع لا يكون تمليكا على أصح قولي العلماء رحمهم الله لدلالة السنة عليه، فيكون أولية وسبق، فإن أحياها وتعهدها وتولاها ثبتت ملكيته، وأما إذا لم يتمكن من ذلك فقد جاء عن عمر رضي الله عنه ما يدل على اعتبار الثلاث سنين مهلة للإحياء، فإن رجلا أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا، ثم تأخر في إحيائها، فجاء قوم وأحيوها، فاختصم معهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: لو كان أبو بكر أقطعك إياها لتركتك، يعني: لأن المدة لم تصل إلى ثلاث سنوات، أما وقد أقطعك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحيه فلا تملكه -أي: لا ملك لك- لو كنت تريده لأحييته، فيكون فائدة الإقطاع سبق الأولوية وكونه أحق من غيره حتى يقوم بعمارة الأرض، وإلا لو فتح الإقطاع عموما لأضر بمصالح المسلمين، ومن هنا قالوا: إنه لابد من قيامه بالإحياء، وتعهده ذلك المكان بما يكون به الإحياء الموجب لثبوت الملكية. وبين رحمه الله بهذه الجملة مسائل: إقطاع الإمام للأرض المسألة الأولى: أن من حق الإمام الإقطاع، وهذا مبني على مصلحة المسلمين كما ذكرنا؛ لأنه نائب عنهم، فما كانت المصلحة في إقطاعه أقطعه، وما لا مصلحة في إقطاعه فلا يقطع فيه، وهكذا ما أضر بهم فضيق عليهم فإنه لا يقطع فيه، فيكون الإقطاع لما فيه المصلحة. تمليك الأرض بشرط الإحياء المسألة الثانية: إذا أقطع شخصا فإن أحياه كان ما أقطعه ملكا له على قضاء عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهي سنة عمرية أن من أحيا ما أقطع يملكه، كما قال للحارث: فما أحييته فهو لك، وما لم تحيه فلا تحتجزه من دون المسلمين، أي: ليس لك حق أن تحتجزه من دون المسلمين. المسألة الثالثة: مفهوم قوله: ولا يملكه -أي: لا يملكه بالإقطاع- أنه لا يصح بيعه قبل إحيائه، فحينئذ لا تثبت له يد الملكية بمجرد الإقطاع حتى يكون منه إحياء، وهو والمسلمون في ذلك سواء؛ مادام أنه لم يحيه، ولم تكن له يد عليه. إقطاع الجلوس في الطرق لمن يبيع فيها قال رحمه الله: [وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس] . للإمام الإقطاع للجلوس في الطرقات، والمراد بهذه المسألة الباعة، كانوا في القديم يختصمون في الطرقات؛ لأن الباعة يبسطون ما يبيعونه على الطريق من أجل أن يشتري الناس منهم، فللإمام الإقطاع للجلوس في الطرقات من أجل البيع وعرض السلع، فيحدد أماكن ويقول: المكان الأول لفلان والثاني لفلان وهكذا لأنه لو تركهم ربما حصلت فتنة بين الناس وحصل ضرر، فله الحق أن يتدخل من أجل كف بعضهم عن بعض تحقيقا للمصلحة، ودرءا للمفسدة، فيجعل لهم من يرتبهم، ويقسم بينهم الأماكن بالعدل والسوية، وإن حصلت مشاحة أو استواء أقرع بينهم أو نظر إلى ما يوجب تفضيل بعضهم على بعض مما يأذن به الشرع، فهذا إقطاع للجلوس على الطرقات، لكن بشرط: ألا يضر هذا الجلوس بالمسلمين، فإن كانت الأماكن التي أقطعت تضيق الطريق وتؤدي إلى ضيق الناس أثناء خروجهم من المساجد أو من المجتمعات أو نحوها؛ فحينئذ لا يقطع مثل هذا، بل يقطع على وجه لا ضرر فيه، ومما يضر بالناس في مشيهم في هذا الطريق زحام الناس على الباعة، فأصحاب البيوت يتضررون في خروجهم ودخولهم، ويتضرر نساؤهم، ويطلع على عوراتهم، فإن كان كذلك لم يقطع في مثل هذا، ومراد المصنف أن الحكم العام ينبغي ألا يضر بالمصالح الموجودة للمسلمين في ذلك المكان، ولذلك لابد من ترتيب هذا الأمر، والنظر إلى مصالح الناس، ومراعاة عدم حصول الضرر عليهم، وهذا الضرر قد يكون حسيا كالزحام الشديد في الطريق، وقد يكون معنويا كصياح الناس ولغطهم، لا سيما إذا كان الإقطاع لهم بجوار المستشفيات أو بجوار الأماكن التي يكون فيها مرضى، أو فيها كبار السن، أو فيها مدارس، فيكون هذا إزعاجا لهم، فكل شيء ينبغي أن يترتب، ويوضع في مكانه، فيكون الإقطاع على وجه لا ضرر فيه، والشريعة لا تأذن بالمصلحة التي فيها ضرر، إنما تريد المصلحة التي لا ضرر فيها، أو يكون الضرر فيها مقبولا وسائغا، ولذلك لابد أن يراعي الإمام عدم الإضرار بالناس. قال رحمه الله: [ويكون أحق بجلوسها] . ويكون المقطع أحق بالجلوس في هذا المكان ولا يملكه، فكونه أذن له بالجلوس في هذا المكان لا يقتضي ملكيته، فلو أزيل هذا الشارع مثلا لم يعط شيئا عوضا عنه؛ لأنه لا يملك المكان بهذا الإقطاع، ولا يجوز أن يبيعه، فلو جاء وقال: أنا أخذت محلا في المكان الفلاني لأبيع فيه في الموسم، فلا يجوز أن يقول لشخص: اشتر المكانه مني؛ لأنه لا يملكه، وشرط الشراء والبيع: أن يكون البائع مالكا لما يبيعه، وهذا ليس بمالك، ولذلك لا يصح بيعه، لكن بعض أهل العلم يرخص في أخذه العوض للتنازل، وهذا مبني على مسألة: هل يجوز المعاوضة والنزول عن الاستحقاق أو لا؟ فبعض العلماء يرخص في هذا. لكن تجويز أن يبيع استحقاقا لا يخلو من نظر، خاصة في مثل هذا؛ لأنك إذا جئت تنظر إلى أن الإقطاع من أجل مصلحة المسلمين، فإذا تأخر عن ذلك وقال: لا أريد، وأريد غيري، فيخرج حتى يمكن من هو أحق منه، وهذا هو الذي كان يختاره بعض مشايخنا: أن الاستحقاق لا يحق فيه أخذ العوض حتى ولو كان سابقا، والسبب في هذا: أننا لو جئنا -مثلا- إلى أماكن نريد أن نقطعها لأشخاص من أجل البيع فيها في الموسم، فرضنا أنها خمسمائة مكان، وتقدم ألف شخص، فإذا أقطعت هذه الأماكن، فإن الخمسمائة شخص سيأخذون هذه الأماكن، والخمسمائة الثانية من الأشخاص أولهم يستحق المكان الذي ينسحب منه أي شخص من السابقين؛ لأن كل مكان يخلو من الخمسمائة الأولى يستحق للخمسمائة الثانية، فهناك من هو أحق، فكيف يقدم من هو متراخ، ويكون ذلك للعوض؟ فلذلك كثيرا ما يحدث الضرر بمثل هذه الفتوى، فتجد من يتقدم لهذه الأماكن وهو لا يريدها، ولم يفكر في يوم من الأيام أن يبيع فيها، إنما مراده أن يأخذها حتى يقول: أنا أخذتها وسبقت، فأبيعها وآخذ عوضا، فهو لا يريد إلا المتاجرة بهذا الاستحقاق، ولذلك قفل الباب في مثل هذا والمنع منه؛ أولى وأحرى إن شاء الله. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب إحياء الموات) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (386) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب إحياء الموات [2] الشريعة الإسلامية تسد كل باب يدعو إلى البغضاء والتنازع، وتنظم وترتب الأمور التي قد يحدث فيها تخاصم، فمن ذلك أنه من سبق الى مكان مباح فهو أولى به، وإن سبق إليه اثنان ولم يمكن اشتراكهما فيه أقرع بينهما، وقد تكلم العلماء في أحكام السبق إلى مكان في المسجد، وحجز مكان فيه، وحكم من قام من مجلسه ثم رجع إليه، وهذا كله يدل على كمال الشريعة وحكمتها. السبق معتبر في الإقطاع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن غير إقطاع لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال] . هذه المسألة؛ ما فائدتها وتعلقها؟! المصنف رحمه الله رتب المسائل: فتكلم عن مسائل الإحياء وحقيقة الإحياء، ثم تكلم عن الإقطاع؛ لأن الإقطاع تكون الملكية فيه بعد الإحياء، فأثبت للمقطع الحق في السبق، ثم بين أنه لا يملك، وبين أن الإقطاع إما أن يكون للأرض من أجل أن تحيا، وإما أن يكون لأرض من أجل الجلوس، فبعد أن بين الإقطاع الأخف -وهو الذي للجلوس- شرع في مسألة المجالس، فمن يستحق المجلس ويقدم على غيره؟ ومتى يحكم للشخص بأنه أحق بهذا المكان الذي جلس فيه، بحيث لا يجوز لغيره أن يزاحمه فيه؟ نتكلم عن هذه المسألة: فأولا: نذكر الأحقية بالسبق، وثانيا: هل هذه الأحقية تثبت؟ هناك أماكن إذا جلس فيها الإنسان وسبق إليها يبقى على الدوام، مثل أماكن البيع، مثلا: شخص من عادته أن يبسط بسطته في أول الطريق، ما أقطعه أحد، لكن يأتي ويضع فراشه في هذا المكان، ويبسط بسطته، ويأتي البائع الثاني بجواره والثالث والرابع، فما دام قماشه موجودا -كما ذكر المصنف- فهو أحق، فهو عادة يبسط بالنهار، فإذا غابت الشمس حمل متاعه وذهب وجاء في اليوم الثاني، فمن أهل العلم من يقول: كل مكان سبق إليه إنسان، وجرى العرف بجلوسه فيه لبيع أو غرض غير محرم شرعا، فهو أحق به، وقد يكون هذا الغرض مما يتناوب، فالأماكن التي تكون ليلية ويأتي الشخص فيها ليلا ويبسط قماشه فيها كل ليلة، ويداوم على ذلك المكان، فهو أحق به من غيره، فلو جاء في الليلة الثانية وقد سبقه جاره وجلس في مكانه فإنه لا يستحقه، فما دام أنهما في صنعة واحدة وفي عمل واحد وسبق هذا فيحكم له بالسبق ما داما في هذا المكان، ثم يفصل فيه على الأحوال، فإذا كانوا يبيعون في الليل فهو أحق به ليلا، وإذا كانوا يبيعون في النهار فهو أحق به نهارا، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله فيرون أن مداومته على المكان في هذه المدة المؤقتة تثبت أحقيته فيه. وهذا بالنسبة للأمور الدنيوية مثل: البسطات المعروفة في زماننا للبيع، وقد تكون بعربية يوقفها في هذا المكان، أو بسيارته يوقفها في هذا المكان، فالمسألة واحدة، ففي القديم كان القماش، وفي زماننا السيارة، والعربية، وأي شيء يكون به عرض السلع على حسب اختلاف المبيعات واختلاف الأعراف فيما تحمل به تلك المبيعات. اعتبار التخصيص شرعا ويتفرع على مسألة حجز مكان في المسجد، حجز مكان لدرس الشيخ، فهل يجوز حجز مكان له أو لا؟ فعلى القول الأول أنه اعتاد أن يأتي واعتاد أن يجلس فيه يصبح له رخصة، وعلى القول الثاني هل نترخص أو نأخذ بالأصل؟ هذه المسألة كان أحد المشايخ رحمة الله عليه يلاطف فيها ويقول: مما يدل على جوازه للشيخ أن النفوس طابت، يعني: النفوس تطيب بذلك، ولذلك يوسع فيه أكثر من غيره، فيجوز للشيخ والمفتي أن يختص بمكان من أجل أن يعرفه الناس داخل المسجد فيقصدونه للفتوى، لا سيما في المساجد الكبيرة كالحرمين ونحوها، ولابد أن يكون ذلك له مكان معين حتى يكون ذلك أسهل للناس لو أرادوا السؤال والفتوى، وقد كان بعض السلف رحمهم الله لا يجلس إلى سارية بعينها، ومنهم الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، مع أنه كان آية في العلم والفتوى، وممن ورث علم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا الإمام العظيم لا يجلس إلى سارية بعينها خوفا من الشهرة، لكن في ذلك الزمان كان العلماء موجودين، والأئمة متناثرين، لكن في زماننا الأمر صعب، وقد يأتي السائل وقد تعلق به سفره، وتعلقت به رفقة، وحصل حرج، وقد يأتي السائل قبل أن يؤدي عمرته كما في المسجد الحرام ويحتاج إلى أسئلة مباشرة وعاجلة، فإذا كان لا يعرف مكان من يفتي، ولا يعرف مكان من يوجهه؛ فإن هذا يضر بمصالح الناس، فخففوا في هذا لتعلق حاجة المصلين به، حتى أن أحد المشايخ رحمة الله عليه قال لبعض المشايخ ممن يقوي القول بأنه لا يستحق المكان حتى ولو عاد: إن قلت بهذا فلا تقدم إماما؛ لأن الإمام في الأصل يحجز له هذا المكان؛ لأنه سيتقدم ويصلي بهم، فتعلقت به مصلحة الجماعة، فرأى شيخنا رحمه الله أن تعلق مصلحة الجماعة بالإمام، وإذن الشرع به، يدل على أن كل إنسان تعلقت به مصلحة دينية داخل المسجد فلا بأس باختصاصه بمكان، ويكون الأمر على السعة، ويدخل فيه القارئ تبعا للشيخ، ويقاس عليه من هذا الوجه؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلابد أن يكون له مكان قريب حتى يتسنى له أن يسمع الحاضرين. القرعة بين سابقين إلى مباح قال رحمه الله: [وإن سبق اثنان اقترعا] . (إن سبق اثنان) يعني: تنافس اثنان على مكان، (اقترعا) يعني: أجريت القرعة بينهما لتحديد المستحق، وقد ذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلى أن القرعة من حيث الجملة يحتكم إليها، وهذا في حالة ضرورة أو حاجة، والأصل في شرعية القرعة قوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات:141] ، وذلك أن يونس بن متى عليه الصلاة والسلام لما كان في المركب قالوا: لا نجاة لنا إلا برمي واحد منا، فاستهموا فخرجت القرعة على يونس -بلاء من الله عز وجل- فرمي في البحر، والمساهمة هنا هي: الاقتراع، فأخذ العلماء رحمهم الله مشروعية القرعة عند الازدحام، فلو كان أناس -مثلا- في مركب وتعرضوا للغرق، ولا نجاة لهم إلا أن يغرق واحد لنجاة الجماعة، فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يقرع بينهم، ويلقى من خرجت عليه القرعة، ونحن لا نفتي بهذا، لكن نقول: إنه قد جرى لدى أهل العلم إعمال القرعة، ومن ذلك أيضا: لو أن اثنين ازدحما في مكان وجاءا في وقت واحد، ولا نعرف من منهما السابق، فالمكان لا يقبل التشريك، أو الاستحقاق لا يقبل التشريك، فدخلا معا، ولا فضل لأحدهما على الآخر، فما الحكم؟ يفصل بينهما بالقرعة، وقالوا: القرعة خيار من الله، فمن اختاره الله لذلك فهو أحق به. السبق إلى المسجد هذا بالنسبة لأمور الدنيا، يبقى السؤال عن المسألة إن تعلقت بالسبق في أمور الدين، فمثلا المساجد فيها أماكن يجلس الإنسان فيها للصلاة وللذكر ولقراءة القرآن، ويجلس فيها لطلب العلم، ويجلس فيها للفتوى حيث يأتي من يستفتيه، وقد ذكرنا أن من انتاب مكانا واعتاد عليه، وأصبح ديدنه أنه يجلس في هذا المكان، ولهذا المكان مواسم معينة؛ فهو أحق به، وفرع على ذلك بعض الأئمة رحمة الله عليهم مسألة المسجد، فقال: من كان من عادته أن يداوم على الصلوات المفروضة في مكان معين، بحيث أن هذا المكان ما يسبقه إليه أحد، فإنه في هذه الحالة يكون أحق بهذا المكان، ويشمل ذلك مكان الصلاة، أو المعتكف، فالمعتكف إذا جلس في هذا المكان، واستوطن هذا المكان، ثم خرج بعد ذلك ورجع، فالمكان له على هذا القول، وكذلك إذا خرج بعد الفروض إلى بيته ثم رجع إلى ذلك المكان في فرض العصر والظهر والمغرب والعشاء والفجر فإنه أحق به. وفي الحقيقة أن هذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه ورد النهي عن توطن الإنسان لمكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه، ولو قيل بهذا القول فلا شك أنه بعيد عن ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) ، والمراد بذلك: أن يبكروا بالحضور للمساجد، وألا يسبقهم من هو دونهم، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يليه أولو الأحلام والنهى والعقول حتى يعقلوا عنه، ولهذا يستحب عند أهل العلم أن يقرب منهم الأكبر؛ لأنهم أكثر وعيا وأضبط، لكن لا يمنع أن الأصغر يتقدم، حتى في الصف الأول ما دام أنه سبق، وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أسبق الصحابة، وكان يقدمه عمر رضي الله عنه ويجعله في مقدمة المجلس، وأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، فهذا لا يمنع إذا عرف فضل الشخص، لكن نحن نتكلم عن الغالب، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة لا تنضبط في المساجد، ولا يفتح الباب لكل من جلس إلى سارية أو جلس في مكان من المسجد أن يصبح هذا المكان محجورا عليه؛ فإن المساجد لها حرمة عظيمة، والناس فيها سواسية، وجعل التفضيل فيها بالتقوى، أما أمور الدنيا فلا بأس فيها عند الحاجة دفعا للضرر عن الناس، أما أمور الدين فلا، والقياس في هذا لا يخلو من نظر، ولذلك لم يجر عمل السلف على ترتب أماكنهم في المساجد، إذ لو كان هذا لفعله الصحابة رضوان الله عليهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله مع الخلفاء ولعرفت أماكنهم. فنقول: من سبق إلى المكان فهو أحق به، سواء كان سبق غيره في فرض غير هذا الفرض أو لا، ونبقي المساجد على حرمتها، ويشدد في المساجد أكثر من غيرها، فإن المساجد بيوت الله عز وجل، وأمور الدين لا ينبغي أن يفضل فيها أحد إلا بتقوى الله عز وجل، والناس في بيوت الله سواسية، ليس من حق أحد أن يحجز مكانا بفراش أو يحجزه بشخص يستأجره للجلوس فيه، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر آثما من وجهين: الوجه الأول: ظلمه لإخوانه المسلمين بمنعهم من الصلاة في هذا المكان، وتعطيله من ذكر الله عز وجل. الوجه الثاني: عدم رعايته لحرمة المسجد، ولذلك يقول بعض العلماء: الأذية في المسجد أعظم من الأذية خارج المسجد؛ لأن الإثم فيها أعظم لمكان حرمة المكان، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكانا في المسجد إلا في حالة واحدة، وهي ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وأضاف بعض العلماء -كالإمام النووي رحمه الله- كلمة: (في المسجد) ، لكن لا أعرفها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكون هناك روايات، لكن الرواية مطلقة: (من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) وقوله: (لحاجته) ، فسرها جمهرة الشراح على قضاء الحاجة، ومعنى ذلك أنه مرابط في المسجد، أي: جالس في المسجد، والله يعلم أنه ما قام من هذا المكان إلا من أجل أن يقضي حاجته، فهو مضطر، أو من أجل أن يتوضأ كأن يحدث وهو جالس فيخرج للوضوء، فهذا هو الذي يرخص له، أما لو قام لحلقة علم ووضع سجادة في مكانه فلا يجوز له ذلك؛ لأن المسجد أرضه كلها مقصود عمارتها بذكر الله عز وجل، فمن جلس في هذا المكان يذكر الله فهو أحق به مدة جلوسه، فإذا قام عنه لقضاء الحاجة فهو أحق به إذا عاد للنص، بشرط: أن يتغيب بقدر الحاجة، ولا يزيد على ذلك حتى لا يضر بالناس، أما إذا قام لطاعة مثل طلب العلم أو السلام على إنسان أو تشييع جنازة أو نحو ذلك فإنه مخير بين أمرين: الجلوس في المكان ومراعاة فضل الجلوس فيه، أو الذهاب إلى هذه الطاعة، فإن اختار الذهاب إلى الطاعة من طلب علم وشهود جنازة ونحو ذلك لم يجز له أن يمنع غيره من عمارة المكان بذكر الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لهذا الأمر خاصة، وأما غيره فإنه محرم، ومن ذلك واستئجار الناس ووضع الناس أو السجاجيد ونحوها لحجز الأماكن، فيذهب إلى بيته ليأكل ويشرب وربما ينام -نسأل الله السلامة والعافية- ثم يرجع إلى المسجد، فإذا وجد أحدا في مكانه سبه وشتمه وأضره، ولربما ركض ظهره أمام الناس، وربما حصل من الفتنة ما الله به عليم في بيوت الله عز وجل، حتى في الحرمين الذين هما أعظم حرمة عند الله سبحانه وتعالى، وقد يكون هذا في الصفوف الأول، وقد يكون هذا من أناس لا ينبغي لمثلهم أن يحدث هذا ككبار السن ونحوهم الذين هم أهل العقل وأهل الروية، فيحدث من الضرر ما الله به عليم بسبب هذا الحجز، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -وهذا قول بعض أهل العلم- أنه لو وضع سجادته وذهب إلى بيته لغير ما استثني في الشرع -أنه يعتبر غاصبا للأرض، وشكك في صحة صلاته؛ لأن مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أن الأرض المغصوبة لا تصح الصلاة عليها، فإذا غصب مكانا وصلى فيه -سواء في المسجد أو خارجه- لم تصح صلاته، فالأمر عظيم، وإن كان مذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة، لكن نقول: انظروا كيف شدة السلف رحمهم الله وتعظيمهم لبيوت الله وتعظيمهم لحرمتها! فالواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يتسبب في الإضرار بغيره، فهذا المكان هو وغيره فيه على حد سواء ما لم يخرج لقضاء حاجته ثم يعود، فإنه أحق به من غيره كما هو نصه عليه الصلاة والسلام. نظام الري من الماء المباح قال رحمه الله: [ولمن في أعلى الماء المباح السقي، وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه] . هذه المسألة متعلقة بالباب من جهة الاستحقاق، كما أن إحياء الموات فيه استحقاق كما ذكرنا في مسائل الإقطاع ومسائل الأمكنة ونحوها، فشرع المصنف في مسألة استحقاق في السقي بالماء، وهذه المسألة تحدث فيها الخصومات والنزاعات، حتى وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حينما كان الصحابة رضوان الله عليهم يستقون من شراج الحرة، إذا كان هناك نهر، أو سيل، أو عين جارية، وهذه يستقى منها بالترتيب، والحكم فيها أن الأقرب يقدم على الأبعد، فيستقي من هو أقرب إلى العين حتى يصيب القدر الذي حدده الشرع، ثم يجب عليه بعد ذلك أن يرسل الماء للذي بعده، ثم الذي بعده يستقي حتى يصيب القوام الذي حده الشرع، ثم يرسل الماء لمن بعده وهكذا. والأصل في هذه القضية ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه مع الأنصاري عندما اختصما في بعض مياه شراج الحرة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى في شراج الحرة -وفي رواية: في مهزور ومذينيب من شراج الحرة- أن يسقي الأعلى فالأعلى) ، ومهزور ومذينيب كانا واديين يسيلان من شرقي المدينة إلى وسطها، ومن ثم إلى بطحان ومن بطحان إلى مجمع الأسياف، والحرة المراد بها الحرة التي تسمى اليوم: الحرة الشرقية، وكانت تسمى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: بحرة واقم، فالحرة الشرقية كان يقال لها: حرة واقم، والحرة الغربية كان يقال لها: حرة الوبرة، والحرة الشرقية كانت أغنى ماء من الغربية، والغربية كانت فيها خيوف وعيون أيضا، ومهزور ومذينيب واديان يأتيان من أعلى الحرة الشرقية ويفيضان إلى جهة مسجد بلال الموجود في زماننا، فيلتقيان مع قربان وادي رانوناء الذي ينزل من وسط قباء من أمام المسجد ووادي بطحان، وتلتقي هذه الأربعة السيول قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تفيض إلى السيح الذي سمي سيحا لسوح الماء فيه وكثرته، فهذان الواديان كانا في أعلى الحرة، وكان الصحابة يحدث بينهم بعض الخصومة بسبب إرسال الماء وعدمه، فقضى عليه الصلاة والسلام في مهزور ومذينيب من شراج الحرة أن يسقي الأعلى ثم يرسل الماء إلى من دونه، فجعل الحق للأقرب إلى العين أو الأقرب إلى النهر، فيسقي مزرعته. وما هو قدر السقيا؟ جاء أنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الزبير وقد اختصما على الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: (اسق يا زبير! ثم أرسل الماء، فقال له الأنصاري: أن كان ابن عمتك! -فزل بذلك لسانه رضي الله عنه وأرضاه وقال هذه الكلمة- فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: اسق يا زبير! حتى يبلغ الماء الجدار، ثم أرسل الماء) قال بعض الرواة: إنهم حزروا الجدار إلى قريب من الكعبين، وهذا الحزر -كما يقول بعض العلماء- محل نظر؛ لأن الجدار لا يصل إلى الكعبين، وهذا الحديث يحتمل أن يكون الأصل أنه يسقي إلى حد الكعبين كما أمره في أول الأمر، وكما جاء في بعض الروايات المنفصلة، فلما اعترض الأنصاري عزره النبي صلى الله عليه وسلم للاعتراض على الحكم، ولذلك يعتبر هذا من الجفاء، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من أساء الأدب مع القاضي فيجب على القاضي أن يعزره، ولا يسامحه القاضي؛ لأن الحق ليس للقاضي وإنما للشرع، قال الناظم: ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب (ومن جفا القاضي) أي: قال له: ظلمتني، أو قال: ما حكمت بالعدل، أو: ما هذا بعدل، ولا بإنصاف. فيعزره حتى ولو كان القاضي طابت نفسه أن يسامح فيسامح الحق لنفسه، لكن مجلس القضاء مجلس شرع، فالتهكم به والاستخفاف به يعتبر استهزاء بالشرع واستخفافا به، ومن هنا قال بعض العلماء: الاستهزاء بالعلماء استهزاء بالشرع، ولذلك قال الله فيمن استهزأ بالقراء: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة:66] ، وهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أجبن عند اللقاء، وأكثر عند الطمع، وأقل عند الفزع، فأنزل الله هذه الآية؛ لأنهم استهزءوا بحملة كتاب الله عز وجل. فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزره لقوله: أن كان ابن عمتك؛ لأن الزبير ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم صفية رضي الله عنها وأرضاها، فغضب عليه الصلاة والسلام وعزره بهذا. فبناء على ذلك: لا يسقي إلى الجدر؛ لأن الجدار فوق الكعبين بكثير، فالجدار قد يكون نصف قامة الإنسان، فالسقيا إلى هذا القدر كثير، لكن بعض العلماء رحمة الله عليه يقول: إن الزرع لا يمكن سقيه إلى الجدار الحقيقي فحزرهم بالكعبين مبني على أن الجدر تختلف، ففي بعض الأحيان تكون جدر -خاصة في الأماكن التي فيها العيون- صغيرة؛ حتى يتمكن الثاني من السقي بعد الأول، فيكون فيها منافذ للماء، فيكون قدر الكعبين مصمتا ومغلقا، وما زاد عن الكعبين فيه جدار، ولكن الماء يتسرب منه مثل الحجارة المرصوصة الموجودة إلى الآن في رياض الجبال ونحوها مثل الخيوف، فيخرج الماء من بين الحجارة، فهذا قد يكون فيه تحديد الكعبين واردا. فدل هذا الحديث على أن الحق للأعلى، ثم يرسل إلى من بعده ولو قل الماء، فيسقي حتى يتم قوامه ثم بعد ذلك يرسل إلى من بعده. حكم الاستقاء من غير استحقاق السؤال إذا كنا نقول: إن السقي من العيون يكون للأعلى فالأعلى، فتتفرع المسألة الموجودة في زماننا، فقد تكون هناك عيون، ويأتي شخص، ويسحب الماء من العين، بالوايت مثلا، فتضعف العين ولا ترسل إلى من بعده، مع أنه ليس من أهل تلك الأرض، ولا يعتبر له استحقاق فيها، فإذا جاء ودخل فقد تخطى ترتيب الشرع؛ لأن ترتيب الشرع أن يسقي الأعلى فالأعلى، ولو فتح الباب للخارج عن هذه القسمة فمعنى ذلك أنه قد لا يصل الماء إلى الآخرين، خاصة باستخدام (المواطير) التي تسحب الماء بكثرة، فقد يأتي -مثلا- عشرون أو ثلاثون (وايتا) فما يبقى شيء من ماء العين، فلابد من بيان حكم الشرع في هذا. فيقال: إن المزارع والخيوف التي حول العين أحق ممن بعد؛ بدليل: أن الشرع جعل الثاني لا يسقي إلا بعد الأول، وجعل القرب من العين موجب للاستحقاق، فبناء عليه: لا يجوز دخول هذا الساقي من خارج إلا بتفصيل: إن كان هذا الساقي يريد الماء للشرب لإنقاذ الأرواح، ولم يجد مكانا يستقي منه إلا هذا، فهذه حالات ضرورة تحتاج إلى المقارنة بين المزارع وسقيهم بالآلات وسقيهم بالعين، فإن كان عندهم بدل عن هذه العين وأمكنهم السقي بالنواضح وبالآلات ونحوها صرفوا إليها، وجاز لهذا أن يأخذ الماء منها؛ لأنه سينقذ الأرواح والأنفس، لكن هل يجوز له أن يتاجر بالماء، أو لا يجوز إلا من أجل إنقاذ الأنفس، هذا يحتاج إلى نظر. وقد تجد بعض أصحاب البيوت يسقي من العين مع وجود أنابيب توصل الماء إلى البيوت لكنها أكثر كلفة، فيملأ خزاناته من العين حتى يكون أربح له، فحينئذ يمنع؛ لأن الشرع جعل الاستحقاق للأقرب، وهو ليس بأقرب ولا في حكم الأقرب، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يقول: إذا كانت العين مرسلة، وكان أهل الزرع يستقون منها نهارا، فيجوز لهذا المستقي أن يصرف إليه الماء ليلا، فيأتي ويملأ (الوايت) في الليل ولا يملؤه نهارا؛ لأن النهار تعلقت به مصلحة أصحاب الزرع، فيتوسط بين الحقين، لكن في بعض الأحيان يستقي أهل المزارع ليلا ونهارا، ولذلك لابد من التفصيل في هذا، وظاهر الحديث: أن الأقرب إلى العين أحق من الأبعد، فلا يجوز للأبعد أن يدخل على عين خاصة للبساتين تستقي منها، فيضر بمصالح المزارعين على الوجه الذي ذكرنا. اتخاذ الإمام الحمى قال رحمه الله: [وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم] . وللإمام -على الاختصاص- حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم، والمراد بالحمى: أن يمنع الناس من الرعي في موضع مخصوص، ويجعل هذا الموضع لدواب المسلمين ولدواب الصدقة ولإبل الجهاد، فيتركها في ذلك المكان ترعى، فله الحق في ذلك، وهكذا في زماننا لو حمى الإمام أماكن يحتاج إليها لحماية الناس، أو مرتفعات من أجل حمايتهم، فتكون أماكن محمية؛ فلا بأس بذلك، وغير هذا لا حمى، فليس هناك حمى إلا ما حمى الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله) ، فلا يجوز للإمام أن يحمي مكانا إلا إذا تعلقت به مصلحة المسلمين في ذلك الحمى، فيمنعهم من الرعي فيه من أجل دواب المسلمين، ولا يمنعهم لذات المكان، أما أن يمنعهم لذات المكان حتى يصير جميلا أو محلا للنزهة أو نحو ذلك فهذا ليس له أصل، فالأصل أنه لا يحمى إلا ما فيه مصلحة للمسلمين، ولم يحدث عليهم ضررا، فلا يجوز أن يحمي مكانا فيه كسب لبعض الناس، مثل أماكن برية أو بحرية يصطادون فيها. فيضر بأرزاقهم، فهذا رزق جعله الله لهم، والسابق مالك له، فما يحمي الإمام شيئا إلا إذا وجدت المصلحة للمسلمين. اعتبار المصلحة الضرورية والمصالح تنقسم إلى ثلاثة مراتب: مصلحة ضرورية، ومصلحة حاجية، ومصلحة تحسينية تجميلية كمالية. فيحمى من أجل المصالح الضرورية التي يتوقف عليها حياة الناس، فإذا كانت حياة الناس موقوفة على حمى هذا المكان وجب أن يحمى، كما إذا خيف الضرر عليهم، فتحمى تكون أماكن تحصن من أجل أن يدفع منها العدو حتى لا يدخل منها ولا تكون ثغورا، فيقال -مثلا-: هذه الأماكن لا تزرعوا فيها، ويوضع فيها شيء لحراسة ثغور المسلمين، فهذه الحراسة التي جعلت في أرض محمية من أجل الحفاظ على أرواح المسلمين؛ هي مصلحة ضرورية، فيحمى مثل هذا المكا |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
اعتبار المصلحة الحاجية والمصلحة الحاجية التي يكون فيها رفق بمصالحهم، ولا تصل إلى درجة الخوف على النفس، إنما يتضررون لو فاتت هذه المصالح، فمثلا: الأماكن التي تلقى فيها النفايات، تبعد عن المدينة أو عن القرية ثلاثين كيلو مترا، فيقال للناس: هذا المكان محمي من أجل رمي الفضلات أو النفايات فيه، فلو لم نحم هذا المكان لا يموت الناس، ليست مصلحة ضرورية، لكنهم يتضررون؛ لأن الروائح الكريهة والنفايات لابد لها من مكان ترمى فيه، فلو عدم هذا المكان لأضر بالناس، ووقعوا في حرج وضيق، فصارت في مرتبة الحاجيات، فالضروريات هي الخوف على الأنفس أو الأطراف، والحاجيات ليس فيها خوف على الأنفس ولا على الأطراف، وإنما هي دون ذلك، بحيث يحصل الحرج والضيق إذا لم يمكنوا منها. اعتبار المصلحة التكميلية والمصلحة التكميلية الجمالية مثل الأشجار الجميلة، فهذه جمالية تحسينية، فالحمى يكون للضرورية والحاجية، وأما غير الضروري والحاجي فلا حمى فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا ما حمى الله ورسوله) ، فيختص الحكم بوجود الضرورة ووجود الحاجة، فإذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة فحينئذ يجوز الحمى، ويكون الحمى لا لذاته وإنما من أجل مصلحة المسلمين العامة. الأسئلة حكم صرف العملة في المسجد السؤال هل الصرف داخل المسجد داخل في عموم النهي عن البيع في المسجد؟ الجواب الصرف داخل المسجد كذلك؛ لأن الصرف نوع من البيوع، فلو كانت معه مائة فقال: اصرفها لي، فصرفها، فهذا عقد بيع، ولا يجوز فعله داخل المسجد، والله تعالى أعلم. تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ولا ثالث لهما السؤال هل من الذنوب ما ليس بصغائر ولا كبائر؟ الجواب الذنوب إما صغائر وإما كبائر، وإذا لم يكن كبيرة ولا صغيرة فليس ذنبا؛ لأن الله يقول: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] ، فجعل الذنوب منقسمة إلى كبيرة وصغيرة، ولذلك جمهرة أهل العلم رحمهم الله -وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عباس وغيره- على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقال بعض العلماء: لا صغائر ولا كبائر، والذنوب لا يقال فيها: صغير وكبير؛ لأن الله أعظم من أن يقال في معصيته: صغيرة، لكن قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما من لم يقل بالتقسيم فإنه لم يعرف الكبائر. يعني: لم يعرف ضابط الكبيرة من قال: لا يوجد صغائر وكبائر، والواقع: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بدليل الكتاب والسنة، أما دليل الكتاب: فكقول الله سبحانه وتعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] ، فوصف المنهيات بأن فيها كبائر، فقال: {كبائر ما تنهون عنه} [النساء:31] ، وكذلك قال تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات:7] ، فالكفر خروج من الملة، ثم جعل من بداخل الملة إما فاسقا وإما عاصيا، والفسوق: هو ارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر حتى تصل إلى حد الكبيرة، والعصيان: صغائر الذنوب. أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ... ) الحديث، فقال: (أكبر الكبائر) ، فوصف الذنب بأنه كبير، وأن الكبائر فيها أكبر، بصيغة (أفعل) التي تقتضي اشتراك الاثنين في الصفة، وأن أحدهما أقوى وأكبر من الآخر. فهذه النصوص كلها تدل على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فالذنب إما صغيرة وإما كبيرة، وكل معصية لله عز وجل إما أن تكون صغيرة أو كبيرة. كذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث الصحيح: (الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فقال: (مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل الذنب مكفرا إذا كان صغيرة، بشرط: اجتناب الكبيرة. فدل على أن الذنب إما كبير وإما صغير، وضابط الكبيرة هو: (كل ذنب سماه الله أو رسوله كبيرة، أو شرع الله له حدا في الدنيا، أو توعد عليه بعقوبة في الآخرة، أو بغضب، أو نفي إيمان، أو لعنة، أو نحو ذلك) ، فهذا ضابط الكبيرة، وهذا القول -أعني: ضابط الكبيرة- مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبه يقول الإمام أحمد رحمة الله عليه، واختاره جمع من العلماء، كالإمام أبي محمد علي بن حزم الظاهري رحمه الله، وجمع من الأئمة المتأخرين، وهو -إن شاء الله- من أجمع الضوابط للكبائر، والله تعالى أعلم. نسأل الله العظيم أن يسلمنا من صغائر الذنوب وكبائرها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. اشتراط المحرم وحكم المحصور السؤال امرأة أحرمت بالعمرة من الميقات وهي مريضة، فلما وصلت مكة لم تستطع أداء مناسك العمرة، علما أن مرضها لا يرجى برؤه، فما تفعل الآن؟ وجزاكم الله خيرا. الجواب نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم؛ أن يفرغ عليها الصبر، وأن يربط على قلبها وعلى قلب ذويها، وأن يعجل لها بالشفاء، وأن يتداركها برحمته وهو أرحم الراحمين. السنة إذا أرادت المرأة أن تحرم أو أراد الرجل أن يحرم وهو مريض غير واثق من نفسه من المرض أن يشترط، لحديث ضباعة رضي الله عنها، قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي) ، فهذه هي السنة، فإذا اشترطت المرأة فإنها تحل من إحرامها ولا شيء عليها؛ لأنها قد اشترطت، أما إذا لم تشترط ودخلت في نسك العمرة فعند العلماء خلاف: هل المريض محصر أو ليس بمحصر؟ وبعبارة أخرى: هل المرض يعد حصرا أم أن الحصر يختص بالعدو؟ فمن قال: إن المرض يكون إحصارا خاصة في الأمراض الخطيرة، التي تعجز المرأة معها بالكلية عن إتمام عمرتها، فإنه في هذه الحالة يكون حكمها حكم المحصر، فتذبح شاة وتتحلل لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196] ، فتذبح شاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أحصر عن مكة فنحر وتحلل من عمرته، والله تعالى أعلم. الانهزامية لدى بعض الآباء ونهيهم أبناءهم عن الخير السؤال والدتي حلفت أني لا أحضر للدورة، وحلفت أيمانا في أكثر من مجلس في أوقات متفرقة، ثم وافقت، فهل عليها كفارة يمين واحدة أو كفارات؟ وهل أكفر عنها من مالي؟ الجواب في هذا السؤال عدة جوانب: الجانب الأول: على الوالدين أن يتقي كل واحد منهما ربه في الأولاد، وأن نعلم أن صلاح الدين والدنيا والآخرة في صلاح أبنائنا، فهذه الذرية إذا صلحت بالدين واستقامت عليه فإن ذلك الخير ليس لأهل البيت فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المجتمع، بل قد يتعدى إلى الأمة، فكم من شاب صالح نشئ نشأة صالحة وأصبح إماما من أئمة المسلمين! فنفع الله به أمة. فلذلك: على الوالدين أن يتقوا الله عز وجل، وعلينا أن ننزع من قلوبنا هذا الشعور بالغربة تجاه الإسلام والدين، أصبح الدين عند البعض كأنه شيء بغيض، وهذا إن لم يكن عداء صريحا فهو عداء ضمني، فإذا كان الرجل يخاف إذا ذهب ابنه إلى المسجد، وإذا ذهب إلى حلقة، أو ذهب إلى عالم!! فما هذا الشعور؟! هذه غربة غربة كاملة وتامة؛ حيث يصير الإنسان منهزما إلى درجة -والعياذ بالله- أن يتخلى عن دينه، ويصبح عدوا لدينه حتى في معاملته مع أولاده!! بينما كان السلف رحمهم الله يفرح أحدهم الفرح الشديد إذا علم أن ابنه يذهب إلى حلقة علم، وإذا علم أنه يحفظ القرآن، أو يشهد مجالس الذكر، فيقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يذكر الله عز وجل، والحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئا. فما هذه الغربة التي يكون فيها الإنسان غريبا عن دينه إلى درجة أنه يخاف على ولده إذا ذهب دورة علمية! والسبب في هذا تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك تجدهم يحرصون دائما على تصوير الإسلام دائما في أبشع صورة؛ لأن قلوبهم مملوءة بالحقد على هذا الدين، وهذا الحقد على الدين ناشئ من أصل بينه الله عز وجل وهو: أن الكافر عدو لله عداوة بينة، فكل شيء قد يرضاه إلا الله، فما يريد شيئا اسمه الإسلام، ولا يريد شيئا اسمه الدين، ولذلك كل شيء يلصقونه بالدين، فالدين عندهم هو التخلف، والدين هو التحجر، والدين هو الهمجية، والدين هو الإرهاب، والدين هو كذا وكذا. ، وهذا كله عداوة لله عز وجل: {وكان الإنسان كفورا} [الإسراء:67] ، فمن كفر الإنسان بربه -والعياذ بالله-، واعتدائه لحدوده؛ هذه الغربة التي أصبح فيها الحق باطلا، والمعروف منكرا، فتجد الأم تحلف على ابنها أو تمنع ابنها، والأب يضيق على ولده لماذا هذا؟! سبحان الله! والله! إنك لتعجب من حلم الله على عباده! الله أكبر! يرى ابنه يذهب بالساعات والأيام والأسابيع بل والشهور مع قرناء السوء يمنة ويسرة وما يسأله يوما واحدا: أين بات؟ وما إن يراه ذهب إلى مسجد إلا جلس يسأله: أين ذهبت؟ ومع من جلست؟ وماذا فعلت؟ وماذا قلت؟ لماذا هذا؟ أما علمت أنه تصرف لا ينبغي للمسلم، وأن عواقبه وخيمة؟ فينبغي علينا أن نعتز بديننا وألا ننهزم، وألا نكون في الحضيض؛ لأنا أمة أعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة فيما سواه أذلنا الله، وإذا كان الإنسان يتخلى عن دينه وعن إسلامه حتى في أهله وولده! فهذه مصيبة عظيمة. فهذا أمر ينبغي على المسلم أن ينتبه له، إذ أن عواقبه وخيمة، فمن كفر نعمة الله آذنه الله بزوال نعمته وحلول نقمته؛ فإن الله غني عن العالمين، فالله ليس محتاجا لأحد، والله في غنى تام كامل عن خلقه: كما في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا) ، الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فلنستحي من الله، ولنتق الله عز وجل في أنفسنا، ولنملأ هذه القلوب محبة للدين؛ حتى نشعر -صغارا وكبارا وشبابا وشيبا- أن هذا الدين عز لنا وكرامة وشرف، وليس بذلة ولا بخوف، الأمان كله في الدين، والعزة كلها في الدين، والرفعة كلها في الدين، والصلاح أجمعه في دين الله عز وجل، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فالعزة ما تأتي إلا بدينه وطاعته سبحانه وتعالى، والاستقامة على منهجه. وهذا أمر عظيم جدا، إذا كان المقصود من منع الأم مثل هذا الشعور، وقد أصبح موجودا بين بعض الناس، والسبب في هذا: تضليل أعداء الإسلام للمسلمين، ولذلك يحرصون على جعل الإسلام في الصورة المشوهة، ألا شاهت وجوههم، وقطع الله دابرهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن الظالمين، فإذا كان الشعور نابعا من هذا فينبغي علاجه، وينبغي علينا أن نعيد النظر في قلوبنا، فإنها محل النظر من الله سبحانه وتعالى: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ، ولذلك عزت الأمة وسادت وبزت عندما كانت المرأة تعتز بدينها في أولادها وذريتها، ولم يكن ذلك بأن يتعلم الولد، أو بأن يصلي ويركع فقط، ما كان السلف رحمهم الله يعتزون فقط بالصلاة، لا، والله! بل كانوا يعتزون حينما تسيل دماء أبنائهم وذراريهم في سبيل الله عز وجل! فتقول المرأة: الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم، فكانت لا يقر قرارها حتى يشرفها الله عز وجل بشهادة أبنائها في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مقبلين غير مدبرين، صابرين مرابطين، فأين هذا من زماننا؟! فلذلك: ينبغي علينا أن نعيد النظر في هذا الشعور، وينبغي أن ينصح بعضنا بعضا وأن يوجه بعضنا بعضا، وأن يقول الابن لأمه ولأبيه: اتق الله عز وجل، ما يجوز هذا، ويذكره بالله عز وجل، وكراهية ذهاب الأبناء إلى حلق الذكر وطاعة الله عز وجل لا شك أنها عداوة لله عز وجل وعداوة لدينه، فلا يجوز هذا الشعور. الجانب الثاني: إذا كان منع الأم -وهي المسألة المهمة- لمصلحة متعلقة بها، أو خوف ضرر على الولد من أشياء موجودة في الطريق عند ذهابه، أو نحو ذلك من الأمور المبررة في حنان الأم وعاطفتها على ولدها؛ فلا بأس للأم أن تمنع ولدها، كأن يكون صغير السن وتخاف أن يتلقفه إنسان منحرف، فهذا شيء مبرر شرعا وسائغ؛ لأن الله جعل الوالدين موجهين لولدهما فيأمرانه بما فيه الخير، وينهيانه عما فيه الشر، فإذا كان الدافع للأم الخوف على الولد من ضرر فنعم؛ ويحق لها منعه. كذلك -أيضا- إذا وجدت مصلحة للأم أو مصلحة للوالد، كأن يكون عند الوالد عمل في تجارة أو دكان، ويتضرر بذهابك إذ لا يوجد من يساعده فهنا نقول: بر والديك، واجلس معهما والزمهما؛ فإن في ذلك خيرا كثيرا لك، فإن الذي أمرك بطلب العلم هو الذي أمرك ببر والديك، وانظر إلى أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يأتي من أكثر من ألف كيلو يقطعها مهاجرا إلى الله ورسوله، ويقول: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد - أي: من أجل أن أجاهد معك وأعلي كلمة الله- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) ، ولا أفضل ولا أكمل ولا أشرف من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم عنه، وهو يريد الجهاد، فجميع الفضائل يسرت له، ومع ذلك يقول له: (أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) . فأقول للأبناء: إذا كان الوالدان بحاجة فاحرص على قضاء حوائج الوالدين، وعند أن يأتيك الشيطان ويقول: بدلا من أن تجلس في ذكر الله تذهب وتجلس في دكان أو مزرعة في السخط واللغط والغفلة عن ذكر الله عز وجل! فنقول لك: متى ما شعرت أن الذي تعبده في المسجد هو الذي تعبده في سوقك وتعبده في متجرك وتعبده في دكانك؛ فإنك تتقي الله عز وجل، فإن كان يوجد فتنة فغض بصرك، لكن تحرص على رضا والديك، وتحرص على ألا يخرج والدك ولا والدتك من هذه الدنيا إلا وهما راضيان عنك، واحرص على أن تكون في خدمتهم وقضاء حوائجهم بنفس مطمئنة، ونفس مرتاحة مستجمة، وتكون مع والديك، ووالله! إني أعرف من طلاب العلم من كان يذهب إلى السوق وإلى أماكن لو أعطي عليها عشرات الألوف لا يذهب، لكن ذهب برا لوالديه وامتثالا لأمرهما؛ وطاعة لله وللرسول؛ فعوضه الله عز وجل من الخير والبركة ما الله به عليم! وكان يخرج قبل الأذان الأول للفجر لقضاء مصلحة دنيوية، فمن الله سبحانه وتعالى عليه بقيام الليل وأعطاه من الخير ما هو سبحانه به عليم! ابدأ ببر والديك، ولو كنت في سوق تبيع وتشتري -ولو في أضعف الأشياء- وربما تحس أنها تنقص من حالك أمام الناس، فاصبر للوالدين، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ولو كان والدك في أبسط الحرف فكن مع والدك، واحرص أن تجلس مع والدك، وأنت تحس أنها رحمة، ما تحس بالغضاضة ولا بالاحتقار، بل ينبغي على الابن أن يكون معتزا بوالديه، ومفتخرا بوالديه، مثلما اعتز بك والدك وهو يحملك ولعابك على فمك، ومثلما اعتز بك صغيرا يحملك أمام الناس فكذلك أنت تعتز به، وكم كنت في هموم وغموم فكشفها عنك! فتفي له كما وفى لك، وتكون ابنا صالحا كاملا في برك لوالديك، قد يبر الابن أبويه، ولكن يشعر في داخل قلبه أنه محتقر بسبب هذا البر! لا ينبغي هذا أبدا، البر الكامل ما ذكرناه، والله! أعرف أناسا أعطوا من مناصب الدنيا الشيء الكثير، ومع ذلك إذا جاء عند والده لا يجلس إلا عند رجليه، ومنهم من أبوه يبيع في السوق ويكون ولده عنده كأنه عامل في الدكان، ولا يشعر بأية غضاضة، وإذا كان غائبا يسأل عنهم، ويتصل بهم ويتفقدهم، ويدعو لهم، ويشعرهم بعظيم الود لهما، سواء غاب أو حضر امتثالا لأمر الباري تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} [الإسراء:24] . فإياك إذا منعك الوالدان لمصلحة قد يريدانها، أو تعلم أنهما محتاجان إليك -ولو كان حنانا- أو الوالد كبير في السن ضعيف يريدك بجانبه، وقد يقول لك: لا تخرج، فعندئذ نقول لك: لا تخرج، اجلس معه، وتقرب إليه، يقول الوالد رحمة الله عليه: دخلت على أحد الجيران -وكان بارا بوالده- ووالده في مرض الموت، ورأيته بحالة مدهشة مع والده، فلما رأيتها بكيت، وتمنيت أني مكانه رجاء رحمة الله عز وجل ومرضاته. عن علي وعمر رضي الله عنهما أنهما رأيا رجلا قد حكم التصرف في الأموال المؤتمن عليها السؤال ما الحكم فيمن يتصرف في الأموال المؤتمن عليها، علما بأنه لو جاء صاحب المال يطلبه أعطاه مباشرة ورد عليه ماله؟ فهل في ذلك حرج، علما بأن أصحاب الأموال يعلمون من المودع ذلك؟الجواب لا يجوز للمودع أن يتصرف في الوديعة إلا إذا أذن له ربها، فإن تصرف فهو آثم، ويلزمه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه، أما لو أخبرهم وأذنوا له ولم يمنعوه، فإن الوديعة حينئذ تكون قرضا له، إذا أخذها يكون حكمها حكم القرض، فالأصل الشرعي يقتضي أن الودائع تحفظ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا إذا أذن له ربها، فمن تصرف فيها على غير هذا الوجه فعليه أن يرد مثلها كاملة إلى أهلها، ثم يطلب من أهلها السماح إذا كان لم يستأذنهم من قبل. وعلم أهلها لا يكفي؛ لأنهم قد يعلمون منه هذا ولا يحبونه ولا يرضون، لكن يكونون مضطرين للإيداع عنده، ويعلمون أنه سيتصرف به، فالعلم لا يعتبر موجبا لسقوط الإثم، فلابد أن يتحلل من مظلمتهم في ذلك، وسؤالهم أن يحلوه، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب الجعالة ) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (387) صـــــ(1) إلى صــ(23) شرح زاد المستقنع - باب الجعالة لقد اعتنى العلماء بذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بباب الجعالة؛ كبيان حقيقتها، ومتى يجزم بكونها عقد جعل، فبينوا صفتها من حيث العمل المطلوب، وكونه مجهولا أو معلوما، وصفة الشيء المجعول، وهل يجوز أن يكون مجهولا، كما بينوا صفة عقد الجعالة: هل هو لازم أو جائز، ومتى يصير لازما، وحكم فسخ عقد الجعالة، وغيرها من المسائل الذي تكلم عنها العلماء في باب الجعالة. الجعالة وأحكامها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الجعالة] . الجعالة: مثلثة الجيم: جعالة وجعالة وجعالة، وهي الشيء الذي يضعه الإنسان لفعل مخصوص على وجه مخصوص. وهذا الفعل كرد الآبق والشارد، وفتح الشيء المقفل، (على وجه مخصوص) أي: على حسب ما يشترطه، فقد يشترط زمانا معينا كقوله: من رد بعيري الشارد خلال شهر، أو من رد سيارتي الضائعة خلال سنة، أو نحو ذلك. فهذا كله من الجعالة، فيقوم عقد الجعالة على وجود حاجة من الجاعل؛ كرد شيء مفقود له يشترط على شخص مخصوص، أو على العموم. وصيغة الجعالة على شخص أن يقول: يا محمد! إن رددت سيارتي الضائعة فلك ألف ريال؛ فحينئذ يقع عقد الجعالة بين شخصين معينين: الجاعل والمجعول له، وهو الشخص محمد، فلا يسري إلى غيره. وربما جعل الحكم عاما فقال: من رد علي بعيري فله ألف ريال. فقوله: (من) من صيغ العموم، فتشمل عموم الناس، ولا تختص في الطرف الثاني من العقد بشخص مخصوص. وهذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة. أدلة مشروعية الجعالة والأصل في مشروعية الجعالة: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرها وأذن بها، واستحل أخذ الجعل بذلك. ومن أهل العلم من يقول: إن مشروعيتها ثبتت بدليل الكتاب، وهذه المسألة مبنية على مسألة أصولية تقدمت الإشارة إليها غير مرة، وهي: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فقد جاء عن يوسف عليه السلام أنه قال: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72] . فجعل عليه الصلاة والسلام حمل البعير جعلا، وحمل البعير معروف بالعرف؛ لأن البعير يحمل وسقا كاملا من التمر، وهو ستون صاعا، فقال: من جاء بصواع الملك المفقود الضائع فنعطيه هذا القدر وهو ستون صاعا. فهذا الفعل من يوسف عليه السلام قصه الله عز وجل في كتابه، ولم يرد في شريعتنا ما يخالفه، فدل على أنه يجوز للإنسان إذا ضاع له شيء أو هرب منه شيء أو أعجزه فتح شيء أو نحو ذلك أن يجعل الجعل لمن يقوم به. وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في سفرة سافروها، فمروا على حي من أحياء العرب وسألوهم أن يضيفوهم، فامتنعوا وبخلوا عليهم، فشاء الله عز وجل أن لدغ سيد الحي، فلما لدغ ما تركوا شيئا إلا فعلوه لعلاجه فلم يفده شيئا، فقال بعضهم لبعض: إن هؤلاء الذين نزلوا عليكم قد يكون عندهم شيء، فلو سألتموهم، فجاءوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم: إن سيدنا قد لدغ وما تركنا من شيء إلا فعلناه، فلم يفده في شيء، فهل عندكم من شيء؟ وكان فيهم راق، فقال: إننا قد استضفناكم فلم تضيفونا، فوالله لا أرقي لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم، فقام رضي الله عنه ورقاه بفاتحة الكتاب، فشفاه الله عز وجل، وقام الرجل كأنما نشط من عقال، ليس فيه منقلبة -يعني: لم يتغير به حال- صحيحا كأن لم يصبه سوء، فأعطوهم الجعل كاملا ووفوا لهم، فلما أرادوا أن يقسموا الجعل، قال بعضهم لبعض: حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهوا ذلك، وأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) ، وفي رواية: (وما يدريك أنها رقية، خذوا القطيع واضربوا لي معكم بسهم، وضحك عليه الصلاة والسلام) . ووجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم أخذوا الجعل على معالجة هذا الرجل وشفائه بإذن الله عز وجل، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الجعل على الرقية. وقد تفرعت على هذا الحديث مسألة الرقية التي سننبه عليها -إن شاء الله تعالى- بعد بيان مشروعية الجعل. الدليل الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا على ماء، ولما نزلوا إذا برجل قد لدغ إما من حية أو من عقرب، فسألهم سائل وقال: إن بالماء رجلا لدغ، فهل عندكم من شيء؟ فقام رجل فرقاه بفاتحة الكتاب فشفاه الله عز وجل فأعطوه شاء، فلما أخذ الشاء وجاء إلى الصحابة غضبوا عليه وقالوا له: أخذت على كتاب الله أجرا! أخذت على كتاب الله أجرا! وما زالوا به حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنه قد أخذ على كتاب الله أجرا، فقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) . فهذا الحديث يدل على مشروعية أخذ الجعل، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يأخذوا الغنم والشاء لقاء شفاء اللديغ. كذلك حديث خارجة بن الصلد عن عمه رضي الله عنه وأرضاه، وهو من بني تميم وقد واختلفوا في اسمه فقيل: عبد الله بن عثير، وقيل غير ذلك، وهو من بني تميم، أنه (أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من الوفاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر، فنزل على موضع، فإذا فيه رجل مجنون مكبل بالحديد، فقال له أهل ذلك الحي: إنكم أتيتيم من عند هذا الرجل الذي جعل الله الخير على يده، فهل عندكم من شيء لهذا المريض؟ فقام رضي الله عنه وأرضاه ورقاه ثلاثة أيام، وكان يرقيه بالفاتحة مرتين في اليوم، يجمع بريقه ويتفل عليه رضي الله عنه وأرضاه، فلما كان اليوم الثالث شفي الرجل؛ فأعطوه جعلا، ومضى رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه، فقال عليه الصلاة والسلام: خذه، وأذن له بأخذه، وقال: لعمري من أخذ برقية باطل فلقد أخذت برقية حق) . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وبعض أصحاب السنن. فجميع هذه الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أصل عند أهل العلم في مشروعية أخذ الجعل إذا استعصى عليك شيء وصعب عليك أن تستأجر؛ لأن الفرق بين الجعل والإجارة: أن الإجارة تكلفك كثيرا، فلو جئت تستأجر شخصا للبحث عن سيارتك الضائعة لكلفك كثيرا، فمن سماحة الشريعة أنك تجعل له مالا على إحضار الشيء المفقود، أو الضائع، أو التائه، ثم بعد ذلك يقوم هذا الشخص بالبحث والتحري حتى يجده، فلا تتحمل بذلك المشقة والعناء خاصة من حيث الكلفة، وفي هذا رفق عظيم بالناس، وتيسير لهم في شرع الله تبارك وتعالى. أما من حيث الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الجعل، وأنه مأذون به شرعا. وأما بالنسبة للعقل: فإن الحاجة داعية إلى وجود الجعل؛ لأن الناس تحصل لهم الظروف من ضياع الأشياء وسقوطها والإهمال في حفظها إلى درجة يحصل بها شيء من فواتها، ففي مشروعية الجعالة يسر وتخفيف على الأمة. والعلماء رحمهم الله يعتنون بذكر جملة من المسائل المتعلقة بالجعالة كبيان حقيقتها، وما هي الجعالة؟ ومتى نجزم بكونه عقد جعل؟ ثم يبينون صفة الجعالة من حيث العمل المطلوب، وكونه مجهولا أو معلوما، وصفة الشيء المجعول ما الذي يجعل؟ وهل يجوز أن يكون مجهولا أو يشترط فيه العلم؟ ويبينون صفة عقد الجعالة: هل هو لازم أو جائز؟ وإذا كان جائزا -كما هو قول جماهير العلماء- فمتى يصير لازما؟ وإذا تعاقد اثنان على عقد الجعالة ففسخ أحدهم العقد فما الحكم؟ كل هذه المسائل يتكلم العلماء رحمهم الله عليها في باب الجعالة. وهناك مناسبة بين باب الجعالة والأبواب السابقة من الوديعة، من جهة كونها تكون في حفظ الأموال ورعايتها؛ لأن الذي يبحث عن المال يوصله إلى صاحبه، والوديعة يقصد منها حفظ المال حتى يعود إليها صاحبها، فهناك مناسبة بين البابين من هذا الوجه. من عقود الجعالة قال رحمه الله: [باب الجعالة] . أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بعقد الجعالة. ومن أشهر العقود الموجودة لعقد الجعالة في زماننا عقد الرقية. وقد انتشر هذا الباب في زماننا حتى احتاج كثير من الناس ومن طلاب العلم إلى معرفة جملة من الأحكام والمسائل التي ينبغي بيانها، حتى يستطيع الإنسان إذا أراد أن يقوم بالرقية أن يعطي الناس حقوقهم، دون أن يحصل شيء من الظلم، أو التعدي على حقوق الناس عن طريق الرقية بالجعل. ومن حيث الأصل الشرعي لا إشكال في جواز الرقية لقاء المال والجعل، ولكن ينبغي أن ينبه على أمور: منها ما يتعلق بالشخص الراقي، ومنها ما يتعلق بالشخص الذي يرقى، ومنها ما يتعلق بأهله. إذا خصص الجعل لشفاء المريض فلا يستحقه الراقي إلا بتمام شفائه فإذا اتفق العاقدان -الجاعل والمجعول له- على أنه إن شفي هذا الممسوس بإذن الله عز وجل فسيعطيه ألفا؛ لم يجز له أن يأخذ منها شيئا حتى يشفى شفاء تاما. وبناء على ذلك: فإن فعل بعض أصحاب الرقية كما يفعل الطبيب، فيجعل حالات كشف، وكلما جاءه مريض أخذ منه قدرا معينا؛ سبعين ريالا أو مائة ريال على الكشف، فهذا لا يستقيم مع مسألة الرقية، فالرقية باب مخصوص له ضوابطه، والجعل له أحكامه، والإجارة الطبية لها أحكامها، فهذا شيء وهذا شيء، وقد نبهنا على هذا غير مرة. وجمهرة أهل العلم -فهو شبه اتفاق بين العلماء- على أن الجعل إذا وضع على شيء فلا تستحقه -ولو جئت بثلاثة أرباع الشيء- إلا إذا جئت به تاما كاملا. ولو شفي هذا الممسوس وظلت تنتابه النوبة يوما في السنة؛ لم يشف، ولا يستحق الجعل كاملا حتى يشفى شفاء تاما كاملا؛ لأنه جعل المال من أجل شيء مخصوص يفوت بفواته كله أو بعضه. وهذا أمر لا يفرق فيه البعض، وهو أمر مهم جدا، حتى في أمور الطب؛ فإن الطبيب إذا جاءه المريض من أجل الشفاء وقال له: أعالجك وتشفى بإذن الله؛ لم يستحق أن يأخذ شيئا من المال حتى يشفى المريض شفاء تاما. ومن هنا يحصل -بعض الأحيان- أكل المال بالباطل، فإذا جاء المريض عند الطبيب ووصف له المرض، فشخص المرض وأعطاه دواء وعالجه، ثم تبين أن المرض ليس هو الذي قرره الطبيب؛ لم يستحق شيئا، ويكفي أن المريض يدفع أجرة كشفه، ثم يدفع أجرة التشخيص، ثم يدفع بعد ذلك أجرة علاج لا يمت إلى مرضه بصلة، فبأي حق أكل هذا المال؟ وبأي وجه؟ إنه بالباطل، فإذا المريض للعلاج وكشف عليه وقال: عندك كذا، وقرر أن عنده مرضا معينا، وعالجه على أن عنده مرضا، وتبين أنه ليس عنده ذلك المرض؛ فإنه يضمن له ذلك كله؛ لأنه غرر به؛ بل قد يعرضه للموت والهلاك؛ لأنه ربما يصرف له دواء يضر بصحته، وقد يؤدي إلى تلف أعضائه. فهذه الأمور لابد من وضع الموازين لها، ولابد من وضع الأمور فيها في نصابها، حتى لا تؤكل أموال الناس بالباطل، وسواء كان ذلك في الرقية أو في العلاج والمداواة، فأموال الناس محرمة إلا أن يأذن بها أهلها. فيشترط أن يكون هناك المقصود الذي من أجله شرعت الرقية، ومن أجله اتفق العاقدان على الجعل، ولابد من وجوده. كذلك مما يترتب على ما ذكرناه من الأمور التي ينبغي توفرها في الراقي: أنه لا يجوز أن يتقلد هذه الرقية من كان جاهلا، فالجاهل يعرض أرواح الناس وأجسادهم للضرر. وفي هذه الحالة أيضا إذا وضع في الحسبان معالجة النساء؛ والرقية على النساء فإن هذا يتضمن كشفا لعوراتهن، وسماعا لأصواتهن، وربما يكون فيها بعض الفتنة، وربما تكشفت، فلا يجوز أن يقوم بهذه الرقية وأن تكشف هذه المحظورات والمحرمات إلا عند الضرورة، ولمن هو أهل، أما أن يتقلد الرقية كل من هب ودب، وكل من أراد أن يقرأ على الناس يقوم بذلك فلا، ولابد أن يرجع إلى أهل الخبرة، وأن يسألهم وأن يتعلم منهم كيفية العلاج وآداب الرقية، وكيف يقوم بعمله على أتم الوجوه وأكملها. أمور يجب أن يتصف بها الذي يرقى كذلك ينبغي أن تتوفر في الشخص الذي يرقى أمور في بعض الأحوال خاصة إذا كان بإدراكه وشعوره: أولها وأعظمها: أن يوحد الله عز وجل، فما الراقي إلا سبب من الأسباب، فلا يجوز الاعتقاد في الناس، فيعتقد أن فلانا هو الذي تشفي رقيته؛ بل علينا أن نعتقد اعتقادا جازما أن الفضل والأمر كله لله سبحانه وتعالى: {وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} [هود:123] فإليه سبحانه يرجع الأمر كله، فترد الأمر كله لله سبحانه وتعالى. ومن تعلق بشيء وكله الله إلى ذلك الشيء، ومن وكله الله إلى غيره فقد خذله -نسأل الله السلامة والعافية- فيخرج الإنسان إلى الرقية من باب الأخذ بالمباح والأخذ بالأسباب، والأخذ بالرقية لا ينافي أصل التوكل، لكنه ينافي كمال التوكل، وهناك فرق بين أصل التوكل، وبين كمال التوكل. وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله كلاما نفيسا في رده على المتصوفة الذين يقولون: إن الإنسان لا يسترقي الإنسان؛ لأنه يطعن في توحيد المؤمن، وبين رحمه الله أن الله عز وجل جعل الدواء والداء، ومن التوكل على الله كون الإنسان آخذا بالأسباب بتناول الدواء. فسبحان من أنزل الداء وجعل له الدواء! فإذا وجدت أن الداء يشفى بإذن الله عز وجل؛ تعجبت وازددت إيمانا بالله سبحانه وتعالى، الذي وضع الخير في هذا تذهب إلى غصن شجرة فيه أوراق فتأخذها بقدر معين ويجعلها الله شفاء لمرض في صدر الإنسان أو بطنه، وتتعجب من شجرة في الصحراء، في أرض قاحلة، وإذا بالنفوس تبحث عنها؛ لأن الله جعل فيها الدواء!! عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (أتى الناس من هاهنا وهاهنا وقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء) ، ولذلك يقول العلماء: حكم التداوي الندب، فإن كان المرض روحيا مثل الأمراض النفسية، فأعظم دواء جعله الله لها كتابه سبحانه وتعالى، الذي فيه الخير والبركة. وأفضل ما يكون التداوي بالقرآن أن تقرأه بحضور قلب وخشوع، حتى يجعل الله لبلائك ودائك ومصيبتك فرجا ومخرجا، حتى لو كان الشخص مسحورا، فإنه إذا أكثر من تلاوة القرآن واستحضر قلبه عند سماع القرآن، ونظر أفضل القراء، الذين يتأثر بسماع تلاوتهم، فإن الله سبحانه وتعالى يجعل له فرجا ومخرجا. وكم سمعنا من قصص الصالحين من أهل الفضل والأخيار، الذين كمل إيمانهم بالله عز وجل -نحسبهم كذلك- حينما توكلوا على الله وهم في شدة البلاء؛ فأكثروا من تلاوة القرآن، فسحق الله من سحرهم، وأنزل بهم البلاء، فخرجوا من سحرهم من دون أن يمسهم السوء، وقد حصل هذا من أشخاص عديدين، فالشخص إذا سحر وأوذي وربط عن أهله -ومنهم من ربط عن الخير ودعوته- فأكثر من تلاوة القرآن؛ جعل الله له بكتابه فرجا ومخرجا. فيعتقد الإنسان في قرارة قلبه أن هناك أسبابا جعلها الله عز وجل، ولا يعتقد في الراقي، إنما يعتقد في الآيات والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها تشتمل على التوحيد، كحديث: (أذهب الباس رب الناس) (أذهب) سؤال وابتهال ودعاء. (أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)، فهو توحيد ودعاء، وثناء على الله بما هو أهله، وهو رب الجنة ورب الناس، رب كل شيء ومليكه، (واشف) دعاء وابتهال ومسألة، والله يحب أن تدعوه: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} [الأنعام:43] (واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) فلا زيد ولا عمرو ولا الطبيب ولو كان من أمهر الأطباء، فقد يعالج المريض اليوم وفي الغد يموت الطبيب ويعيش المريض؛ لأن الله بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ولربما منعك الطبيب مما فيه الدواء، ولربما قال لك: لا تتناول كذا، وعلم الله أن شفاءك فيه. فلا أحد يستطيع أن يجاوز حده قدره؛ لأن الله عز وجل وضعه عند هذا الحد، فلا يتعلق المخلوق بالمخلوق وإنما يتعلق بالخالق، ولا يتعلق بمن لا يملك له ضرا ولا نفعا؛ بل يتعلق بالله سبحانه وتعالى. فهذا أمر مهم جدا في الشخص الذي يرقى؛ أن يكون تعلقه بالله سبحانه وتعالى، وتوكله على الله سبحانه وتعالى، ومن التوكل على الله أنه إذا جاء لشخص يرقيه ورقاه ولم تنفع رقيته؛ فليعلم أن الله يريد به خيرا، فقد يكون هذا البلاء وهذه المصيبة التي حلت به يريد الله أن يرفع بها درجته، ويعلي بها منزلته، ولذلك فلا يتعجل الفرج بقراءة زيد أو عمرو، حتى لا يصبح عنده ضعف؛ لأن النفوس مجبولة على التعلق بمن أحسن إليها، وقد يأتي فيها دواخن من وسوسة الشيطان، فتعييه الحيلة، ثم إذا بربه يأذن بشفائه في يوم لم يحسب له من حساب، فإذا به كأن لم يكن به شيء، فيزداد محبة لله سبحانه وتعالى، واعترافا بفضله، والتجاء إليه سبحانه. ومسألة طلب الرقية: قلنا: إنها تنافي كمال الإيمان؛ لحديث السبعين الذين لا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فطلب الرقية ينافي الكمال، والأكمل أن تتوكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن ترقي نفسك، وأن تكثر من ذكر الله عز وجل، وأن تحافظ على الأذكار. وأما أهل الذي يريد أن يرقى، فعليهم النصيحة، فلا يذهبون به إلا لمن يوثق بدينه وأمانته، فلا يذهبون للمشعوذين، ولا إلى من فيهم شبهة. وتستطيع أن تعرف الشخص الصادق من الشخص الكاذب، فتجد الشخص الذي يرقي ورقيته شرعية يتكلم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم كلاما واضحا معلوما معروفا، مأخوذا من نور الكتاب والسنة، وأما الذي عنده شركيات وخرافات وطلاسم، وعنده تعاويذ ما أنزل الله بها من سلطان، فتجده يتمتم ويهمهم، وربما يكتب الحروز بكلمات غير مفهومة، وربما -والعياذ بالله- يستخدم الجن، فبلغ من تقربه لهم -والعياذ بالله- أن يعكس آيات القرآن في حروزه نسأل الله السلامة والعافية. فلا يجوز للمسلم، ولا يجوز لأهل المريض أن يذهبوا لأمثال هؤلاء، ولا يذهب الشخص للرقية حتى يسأل عن الراقي، فإن شهد له بخير وعرف بالاستقامة، والمحافظة على الصلوات، والخوف من الله عز وجل، وتحري السنة؛ ذهب إليه وإلا فلا. كذلك ينبغي على الإنسان إذا أصابه مثل هذا البلاء -أي: الأمور التي تحتاج إلى رقية- أن يقتصر فيها على الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء وهو مذهب طائفة: إنه لا رقية إلا من عين أو حمة، ويخصون الرقية بهذا حتى لا ينفتح الباب. فالأفضل والأكمل أن الإنسان ينحصر دائما في المحل الذي يضطر إليه، وما زاد على ذلك فالأفضل فيه أن يفوض لله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه، حتى يجعله الله عز وجل من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه، وهو أرحم الراحمين. أمور يجب أن يتصف بها الراقي فأما بالنسبة للشخص الذي يقوم بالرقية فلابد أن يتصف بعدة أمور: الأمر الأول: ينبغي عليه أن يصحح نيته فيما بينه وبين الله عز وجل، وأن يصلح سريرته في مداواته ومعالجته للناس، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته زكى الله علانيته. فأول ما يجب عليه أن يصدق مع الله عز وجل، وأن لا يجعل الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، ولا غاية رغبته وسؤله، فمن جعل الدنيا كذلك جعل الله الفقر بين عينيه، فهو فقير ولو كان أغنى الناس، وفتح عليه أبواب الدنيا حتى أصبح يلهث فيها، فلا يبالي الله به في أي أوديتها هلك. فالواجب على الإنسان أن يعلم أن الآخرة هي الأصل، خاصة وأنه يرقي الناس بكتاب الله، وبما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلم أن هناك جانبا شرعيا لابد من حفظه. الأمر الثاني: أن يعتقد أنه لا حول له ولا قوة في معالجة الناس، وأن الحول حول الله، وأن القوة من الله وحده لا شريك له. ولذلك فإن من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وكان أفضل الخلق عند الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ، فإن الشيطان يتسلط على الراقي بالوساوس والخطرات، ويأتيه من أبواب لم تخطر له على بال، وقد يأتيه من باب يظن الرجل الراقي أنه باب خير، وإذا به باب فتنة عليه في دينه ودنياه. فالواجب عليه أن يوطن نفسه بالله عز وجل، ومن ذكر الله عصمه من هذه الوساوس، فهو إذا اعتقد في جميع أمره وشأنه وما أصبح ولا أمسى إلا وهو بريء من حوله وقوته، كثير الالتجاء إلى الله، كثير الاعتماد على الله؛ إلا كفاه الله أمره، وأصبح بخير حال. وإذا أصبح يعتقد أنه وصل إلى درجة يؤثر فيها على الناس، وإلى درجة تنفع فيها رقيته، وأنه الشخص الذي إذا رقى وضعت لرقيته القبول والتأثير؛ فقد يهلكه الله عز وجل بهذا الاعتقاد. وأكثر ما تأتي الآفات من نيات القلوب: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] ، ومفهوم ذلك: إذا سلب هذا الخير فبقدر ما يسلب من هذا الخير بقدر ما يكون محروما والعياذ بالله! فالواجب تصحيح النية، واعتقاد الفضل لله وحده لا شريك له، الذي علمه ما لم يكن يعلم، علمه كيفية الرقية، وعمله ما يرقي به، وفتح له من أبواب الفضل؛ فيعتقد دائما أنه لله ومع الله، ولا حول له ولا قوة إلا بالله عز وجل. الأمر الثالث: تعلم الرقية، فلا يرقي الناس جاهل يتعلم. ولابد أن يتعلم أمورا في الرقية منها: ما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية؟ وما الذي ورد عنه من صحاح الأحاديث والأخبار والآثار التي شرعت للرقية؟ فلا يرقي الناس بشيء من عنده، ولا يأتي للناس ببدع ومحدثات، وإنما يوطن نفسه بالخوف من الله والأمانة والنصيحة لهذه الأمة ولعامتها، ويتحرى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن كان على السنة أصاب الإخلاص، وهداه الله الصراط المستقيم، وبارك له. الأمر الرابع: عليه أن يجعل هذا الهدي الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطبقا على الصفة الواردة، فلا يزيد عليها ولا ينتقص منها؛ بل يتعلم الوارد ثم يتقيد به، ولا يزيد عليه ولا ينقص منه، ويحاول قدر استطاعته عند قراءة الأذكار وقراءة القرآن أن يكون مستحضرا لعظمة الله جل جلاله، ومستحضرا لهيبته سبحانه وتعالى، فهي الخير كله والبركة كلها؛ لأن المعرفة بالله والإيمان به وتوحيده والإخلاص له عز وجل خير للعبد في جميع أحواله، ولو كان الإنسان في أي حالة فإنه يمكنه أن يوحد الله على تلك الحالة، ففي أي حالة من الأحوال يستطيع أن يتفكر ويعتبر ويدكر. فإذا كان في حال رقيته كلها يتلو كلام الله، ويستشعر أثناء تلاوته عظيم البركة التي وضعها الله عز وجل في كتابه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص:29] بحيث إذا رقي به المريض شفي، وإذا قرئ على اللديغ نشط كأنما نشط من عقال، وإذا قرئ على الممسوس إذا به يفيق. ووالله إن العقول لتحار! فكم رأيت بعيني شخصا يرقى فتراه أمامك كالطفل الصغير، وإذا به بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بآيات الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم إذا به يخرج من تلك البلية ومن ذلك البلاء كأن لم يكن به شيء، وقد يكون لا يعرف حتى نفسه التي بين جنبيه، وإذا به يرجع في أقل من طرفة العين بقدرة الله جل جلاله الذي هو على كل شيء قدير! فعندها تعلم أنه لا يمكن أن يخرج عن أمر الله في هذا الكون ولا في غيره شيء: {قل من بيده ملكوت كل شيء} [المؤمنون:88] . فينبغي لأهل الرقية أن يكونوا من أكمل الناس توحيدا وإخلاصا لو اعتبروا وادكروا، والراقي الذي يصل إلى هذه الدرجة ترى من سمته أنه يزداد توحيدا لله وتعظيما له سبحانه وتعالى، فأبشر منه بكل خير. أما الراقي الذي يبدأ أول رقيته وهو لا يعرف شيئا، فقد يستدرجه الشيطان. وكيف يعرف صلاح الراقي؟ يعرف كما إذا جاء المريض يشتكي فقال له: -إذا كان موحدا مؤمنا- أنا ليس عندي شيء من الأمر، بل الأمر لله إن شاء الله يشفيك ويداويك، فنسأل الله أن يذهب عنك الباس، وأبشر بخير، فالله رحيم بعباده، ولطيف بهم فيغرس في القلوب الإيمان. وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، والإمام أحمد رحمه الله لما دخلت عليه امرأة فقالت: يا إمام! إن ابني مريض فادع الله أن يشفيه. قال: يا أمة الله! إنك مضطرة، والله يجيب دعاء المضطر. فلما خرجت رفع كفه وقال: اللهم اشف مريضها. فقيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: أخشى إن شفى الله ولدها أن تقول: شفى الله ولدي بدعوة أحمد، فهو يريدها أن تقول: شفى الله مريضي بدعائي وإخلاصي وتوحيدي له. والله ينزل البلاء من أجل أن ندعوه، فإذا دعوته وأجاب دعاءك ازددت إيمانا به، وتوحيدا وإخلاصا له، وعرفت أنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه، فسبحان من أنزل الداء والدواء! وسبحان من لا يعجزه شيء! فإذا بالراقي يزداد إيمانا. وقد أدركت رجلا كبير السن كان من حملة كتاب الله، ومن خيار عباده، فجاءته امرأة في لدغة حية، فقرأ عليها ورقاها، ثم جلسنا من بعد صلاة الفجر حتى انبلج النهار في الضحى، وقد كانت بحالة كادت أن تموت، وأهلها يصيحون ويقولون: إن شاء الله يضع الله البركة، وجعل هذا الرجل يرقيها من بعد صلاة الفجر حتى شفاها الله، ثم قامت وهي تعاني بعض الشيء، فلما صار الضحى جاءه البشير وقاله له: الحمد لله لقد شفيت. فبكى وقال: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، وما ضحك وما اغتر بنفسه. فالراقي ينبغي أن يوطن نفسه على الإيمان بالله؛ لأن الجن والشياطين تخادع، وربما يستدرج؛ وهذا باب خطير. ولذلك تجد بعض القراء الصالحين الناصحين إذا ابتدأ الرقية بدأ بكتاب الله يرقي به، ولا يتكلم مع أحد، ولو حاولت الجن أن تقطعه فلا يلتفت إليهم؛ لأنه مشغول بلذة كلام الله، ولا يمكن الشيطان من ذلك؛ لأن الشيطان يريد أن يقطعه عن التلاوة والذكر؛ لأن التلاوة والذكر تتنزل لها الملائكة، وهم لا يريدون أن يستمر في خشوعه، فيشغلونه بالأحاديث والأخبار. ولذلك تجد بعض القراء إذا رقى شفي الإنسان شفاء تاما، ومنهم من هو بين بين، فالواجب على الراقي أن لا يجعل من رقيته ما يخسر به دينه وآخرته، وعليه أن يجعل من الرقية ما يعنيه على الإيمان بالله والإخلاص لله عز وجل، ولذلك إذا كمل هذا الشعور عنده عف عن الدنيا ولم يلتفت إلى المال، ولا إلى شيء من زخرف الدنيا، وإنما يلتفت إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وحده. أحكام ومسائل في باب الجعالة قال رحمه الله تعالى: [وهي أن يجعل شيئا معلوما] . قوله: (وهي) أي: الجعالة. وقوله: (أن يجعل شيئا معلوما) تصوير للمسألة؛ وليس تعريفا لأن فيه دورا، لأنك ما عرفت مادة جعل؛ فلا يصح أن تقول: الصلاة أن يصلي؛ لأنه ما عرف حقيقة الصلاة، ولا الجعالة أن يجعل، ولا الوديعة أن يودع، ولا البيع أن يبيع؛ فهو إلى الآن لم يعرف الجعالة، فكيف تقول له: أن يجعل؛ لأن الجعل يحتاج إلى تعريف. فمراد المصنف هنا أن يصوره، وأن يجعل له شيئا معلوما. إذا اختلف الجاعل مع العامل قدم قول الجاعل قال رحمه الله: [ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجاعل] . هذه المسألة تعرف: بمسألة الاختلاف، وقد تقدمت الإشارة إليها غير مرة، إذا حصل الاختلاف في البيع بين البائع والمشتري، وفي الرهن بين الراهن والمرتهن، وفي الشفعة إذا اختلف الشفيع والمشتري، كل هذا قد تقدم معنا. وهنا نتعرض لمسألة اختلاف الجاعل والشخص الذي يقوم بالبحث، فإذا اختلفوا في الشيء المجعول، وكان الباحث قد ذهب وبحث فوجد السيارة فجاء بها إلى صاحبها فقال: أعطني الجعل، فقال: هذه ألف، فقال الباحث: أنت قلت: سأعطيك ألفين. فإن اختلفوا في قدر الجعل أو نوعه كأن يقول له: هذه سيارتك قد وجدتها أعطني الجعل، فأعطاه ألف ريال، فقال: نحن اتفقنا على ألف دولار، والألف ريال قيمتها غير الألف دولار؛ لأنها ربما تساوي ثلاثة أضعافها، فيختلفون هنا في نوع الجعل، وقد يختلفون في جنسه: هل هو ذهب أو فضة؟ فمثلا يقول له: هذه سيارتك وأعطني نصيبي الربع كيلو من الذهب، فيقول: لا. أنا قلت: ربع كيلو من فضة، فيختلفون في جنسها هل هو ذهب أو فضة؟ فإذا اختلفوا في الجعل؛ فالقول قول الجاعل مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه، فنقول للجاعل: ما الذي وضعته؟ لأنه أدرى ما الذي وضعه، فإن قال: وضعت ألف ريال، وخصمه يقول: بل ألف دولار، فنقول: أحضر شهودا يشهدون أنها ألف دولار، وإلا حلف الجاعل وبرئ. إذا: القول قول الجاعل مع يمينه، وهذا تنطبق عليه القواعد: أولا: أن الجاعل أعلم بما جعل، ويكون الشخص الذي يدعي الزيادة مدع، و (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أناس وأموالهم) . ثانيا: أن الجاعل غارم، والقاعدة عند بعض العلماء: (أن الغارم دائما مدعى عليه) ؛ فتنطبق عليه الضوابط. وكذلك لو قال له- مثلا-: أعطني ثلاثة آلاف ريال، فقال: أنا جعلت ألفين. فكلا الطرفين متفق على أنها ألفان، والخلاف في الألف الثالثة، فلو قال له: هي ألفان. فقال: بل ثلاثة آلاف. فنقول: أعطه الألفين وأقم دليلا على الألف الزائدة، بأنه فعلا وضعها لك. إذا: ينطبق عليها قاعدة: (الأصل واليقين) ، فنبقى على اليقين والشك نلغيه؛ لأن الأصل براءة الذمة منه حتى يدل الدليل على شغلها. إذا: القول قول الجاعل بيمينه، ما لم يقم المدعي -وهو الشخص المجعول له- بينة تدل على صدق دعواه. من عمل عملا لغيره بغير جعل لم يستحق عوضا قال رحمه الله: [ومن رد لقطة أو ضالة، أو عمل لغيره عملا بغير جعل؛ لم يستحق عوضا] . من حيث الأصل: أن من قام بعمل دون أن يتفق مع صاحبه على شيء فنعتبر عمله محض تبرع؛ لأنه عمله على ظاهر حاله محض تبرع، ومحض بر وإحسان، فلا نستطيع أن نلزم الناس بدفع عوض وأجرة لمن يقوم بأعمال لم يلتزم بها. ولو فتح هذا الباب لانفتح باب عظيم عظيم لأكل أموال الناس، فقد توقف سيارتك وإذا بشخص يغسلها، ويقول: أعطني أجرة غسيل السيارة، وإذا بآخر يلمع الباب ويقول: أعطني أجرة البويا التي لمعتها، وينفتح باب عظيم لأكل أموال الناس. وأنا لا أريد هذا الشيء، ولي الحق أن أطلبه، ولي الحق أن لا أطلبه، فهذا مالي ولي مطلق التصرف فيه بإذن الله عز وجل، وبإذن الشرع لي. إذا: لا نستطيع أن نلزم الناس بدفع تكاليف أعمال الغير التي لم يلتزموا بها، ودلالة الظاهر محتكم إليها، وإذا لم يوجد عقد بين الطرفين نقول لهذا الشخص الذي عمل العمل: هل ألزمك أحد بهذا؟ فإن قال: لا. فنقول: إذا ظاهر حالك يدل على أنك متبرع، فنقبله منك تبرعا ولا نلزم الطرف الثاني بالدفع، هذا من حيث الأصل. ولو جاء شخص ورفع لك ساقطا، أو حفظ لك شيئا ضائعا أو نحو ذلك، فمن حيث الأصل لا يستحق شيئا، إلا إذا كان هناك عقد. وفي هذه المسألة سنة عمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد قضى في بعض الأشياء بوجود استحقاق فيها، واستثنى مذهب الحنابلة رحمهم الله هذه الأشياء، وهناك خلاف عند العلماء في مثل هذه السنن: هل هي سنن مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينقص فيها من حيث القدر المجعول فيها أم أنها سنن تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيكون فعل عمر أصلا في جوازها، ثم تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة في ضبطها وتقديرها؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله. ما يستحقه من رد العبد الآبق قال رحمه الله: [لم يستحق عوضا إلا دينارا أو اثني عشر درهما عن رد الآبق] . هذا في مسألة رد الآبق، فقد جعل فيه اثني عشر درهما، وقد فرق عمر رضي الله عنه بين الشيء الذي في داخل المدن، والشيء الذي في خارج المدن، ففرق رضي الله عنه في رد الآبق؛ لأنه إذا فر عن صاحبه وأتي به من خارج المدينة أعطي من أتى به دينارا أو أعطي اثني عشر درهما؛ لأن الدينار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى زمان عبد الملك حيث ضرب الدينار الإسلامي -كان يعادل اثني عشر درهما، فجعل على التخيير، إما أن يعطيه دينارا من الذهب أو يعطيه عدله من الفضة، وهذه السنة العمرية، بعض العلماء يقول فيها: إنها مؤقتة، فننظر إلى قيمة الدينار وما يعادله في جميع الأزمنة، كما في زماننا فينظر إلى ما يعادله فيعطه، وبعض العلماء يقول: إن ذلك الزمان تقدر فيه الكلفة بدينار، ففي كل زمان يقدره بحسب الموجود، ولهذه المسألة نظائر: منها: إعطاء الشاة أو مائتي درهم إذا كان هناك مثلا سن واجب من الإبل، وعجز صاحب الإبل عن وجود هذه السن فأعطى ما دونها، فيعطي الفرق بين السن شاة، أو مائتي درهم، كما ورد في حديث أبي بكر رضي الله عنه في كتاب الصدقة. وبعض العلماء يقول: الشاة والمائتا درهم سنة توقيفية لجميع الأزمنة، ففي بعض الأحيان تكون الشاة فعلا تعادل السن، وفرق ما بين السن والسن، وفي بعض الأحيان يكون الفرق بين البعير الذي في سن الجذعة والبعير المسن ثلاثة آلاف ريال، أو أربعة آلاف ريال، وتجد الثلاثة آلاف تعادل ثلاث شياه، والأربعة آلاف تعادل أربع شياه. فإذا قلنا: إنها سنة توقيفية، بقينا على الأصل (أنها شاة أو مائتا درهم) ، وإذا قلنا: إنها سنة اجتهادية فيدفع الفرق بينهما، ويصبح في هذه الحالة يختلف الحكم باختلاف الأزمنة والأمكنة، فنقدر لكل زمان الفرق بين السن. هذا وجه. ومن نظائرها في الحمى: حمى النبي صلى الله عليه وسلم، وحمى وأبي بكر وعمر والصحابة، فهل يبقى الحمى إلى يوم الدين حمى؟ أو يمكن نزعه بحيث لو قلنا: إن في ذلك الزمان كان مرتعا، واحتيج لإبل الصدقة مثل الربذة، فإذا قيل: إنها حمى فتبقى حمى إلى يوم الدين، لا تغير ولا تبدل، وإذا قيل: إنها حمى لمصلحة واجتهاد، فإذا وجد غيره وانتقل إلى غيره رجع إلى الأصل من كونه أرضا مواتا يمكن إحياؤها، والحكم في هذا مشهور، وهذا ظاهر مذهب الحنابلة، واختاره صاحب الأمصار كما نص عليه أنه يبقى التشريع إلى الأبد، ولا يغير فيه. قال رحمه الله: [ويرجع بنفقته أيضا] . وهذا مذهب طائفة من العلماء، وهو أنه يرجع بالنفقة، فالعبد إذا وجده فإنه يحتاج أن يطعمه ويسقيه، وربما وجده عاريا فكساه، فإذا قام بهذه الأمور لحفظه حتى جاء به إلى صاحبه، فكلفه ذلك مائتي ريال، فهل من حقه أن يطالب بالنفقة؟ مذهب بعض العلماء: أن من حقه أن يطالب بالنفقة؛ لأن المال ماله، وحفظ المال من لازمه أن يوجد هذا الشيء فله أن يعود على صاحبه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
وفي الحقيقة هذه المسألة فتح الباب فيها صعب؛ لأنها مخالفة للأصل، ولذلك لا تخلو من نظر وبحث، وحاصل ذلك: أن الأصل يقتضي أن من قام بعمل دون عقد فإنه لا يستحق شيئا، ولما فتح هذا الباب رتبت عليها مسائل: منها: أنه لو شردت دابة من إنسان، فأمسكها آخر وحفظها وقام بسقيها، والإحسان إليها، وكلفه ذلك، فإنه يرجع بنفقها أيضا على هذا القول الذي اختاره المصنف رحمه الله. وهذه المسائل كلها مخالفة للأصل، وقد سبق أن قلنا: أن المسائل: أصل، ومستثنى من الأصل، وإذا استثني من الأصل هل يقاس عليه أو لا؟ فإذا كان قضاء عمر رضي الله عنه برد الآبق مستثنى، فهل يقاس غيره عليه؟ من حيث الأصل لا يقاس غيره؛ لأنه فعل بمحض البر والإحسان، فلا نطالب صاحبه بدفع مال له. وقد يسأل سائل ويقول: لماذا لا ندفع له كلفة إحضاره؟ فنقول: سكوت صاحب المال عن وضع جعل وعن التعهد والالتزام بالجعل يبرئ ذمته، وهذا هو الأصل. وأخوه المسلم حينما جاءه ووجد هذا الشيء هناك، فإذا فاته حض من دنياه فهناك حض في الآخرة، فإننا نجد الشريعة تبقي أشياء لأخوة الإسلام ولمعاني الأخوة؛ بل قد تفسد المعاملة وتلغيها بسبب معارضتها للأخوة، وربما منعت ما أحله الله لمعارضته للأصول كقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) ، ونهى عليه الصلاة والسلام أن يسوم المسلم على سوم أخيه، مع أن البيع جائز، والسوم جائز، لكن إذا أضر بالأخوة منع، فإذا كان الإنسان المسلم لا يستشعر الأخوة الإسلامية، وقد يبحث عن ضالة أخيه المسلم من أجل أن يأخذ نفقتها، فيكون هذا أمرا مؤثرا في محبة المسلمين وتعاطفهم. وما دام أن الله أعطاك القدرة على أن تجد هذا الشيء وتعثر عليه، فلماذا لا تحفظه لأخيك المسلم وترده له، ولا يكون لك منه شيء، فقد قال صلى الله عليه وسلم في بداية الهجرة لما أتى المهاجرون إلى المدينة، قال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤجرها) ، ورواية مسلم: (ولا يؤاجرها) ، فنهاهم عن الإجارة، وهي مباحة؛ لأن حالة المهاجرين حينما هاجروا في أول الأمر لا تسمح لهم أن يدفعوا الأجرة، ثم بعد ذلك رخص في شراء الأراضي؛ لأن الأمر اتسع وأصبح الناس في سعة. ففي بعض الأحيان يضيع الشيء من عندي ولا أستطيع أن أدفع تكاليفه، ولا أستطيع أن أدفع شيئا لمن وجده، ففتح باب المعاوضة لا يخلو من نظر وبحث؛ لأن هناك أصولا معروفة من هدي الشرع ينبغي الاحتكام إليها، ولعل الأشبه أنه لا يأخذ شيئا، لكن لا ينبغي لصاحب الشيء أن يفوت المكافأة والإحسان لأخيه المسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه) ، وهذا يدل على أنه يدخل تحت باب المكافأة، لكن لا يلزم بشيء لأنه لم يلتزم. وهذا هو الأشبه من حيث الأصول، والله أعلم. وجوب كون الجعالة معلومة على شيء معلوم أو مجهول وقوله: (أن يجعل له شيئا) نكرة تشمل القليل والكثير، فمن حقك أن تقول: من أحضر لي كذا أعطيه ريالا، وهذا قليل بالنسبة للعرف، أو أعطيه عشرة أو مائة، فكله جعالة، سواء كان قليلا أو كثيرا. وقوله: (معلوما) خرج به المجهول، فلا يجعل شيئا مجهولا، كما لو قال: من عثر على سيارتي الضائعة فأرضيه، أو أعطيه شيئا، أو أعطيه مالا، أو له مكافأة، فهذا لا يجوز؛ لأنه مبهم، والجعل مجهول، ولا يجوز أن يجعل جعلا مجهولا، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، فلا يقول: أعطيه مكافأة؛ لأنه ربما ذهب المسكين وتعب وظن أن المكافأة فوق ألف ريال، ولو علم أنها دون الألف ريال لما أتعب نفسه، فيأتي وإذا بها مائة ريال، فإذا جاء يقول: لماذا لم تعطني إلا مائة؟ قال: أنا قلت: لك مكافأة، وهذه مكافأة. إذا: لا يغرر بالناس، ولابد أن يكون الجعل معلوما، فلا يصح أن يقول: أرضيك، ولا يصح أن يقول: مكافأة، ولا يصح أن يقول: نعطيه ثوبا، أو نعطيه سيارة، حتى يصف الثوب الذي سيعطيه أو السيارة التي سيعطيه، بمعنى: أن يحدد الثواب والجعل الذي وضعه؛ لقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72] ، والحمل معروف -كما ذكرنا- في الوصف وهو ستون صاعا، فقال: {حمل بعير} ؛ لأنه معروف بالعرف، فيجوز أن يطلقه لمعرفته عن طريق العرف. فقوله رحمه الله: (أن يجعل شيئا معلوما) ، أي: أن يجعل شيئا معلوما ببداية العقل، ويقول له: هذا الشيء المعلوم، وهو يشمل جميع الأموال، سواء كانت من الأعيان من الحيوانات أو من غيرها، فكل ذلك يصح حتى ولو كان من العقار، فإن قال: من وجد لي سيارتي الضائعة أعطيه أرضية في موضع كذا وكذا، فيصح أن يجعل الشيء من العقار، فهذا عام شامل لجميل الأموال. قال رحمه الله: [لمن يعمل له عملا معلوما] . كقوله: إن خطت لي قميصا من نوع كذا وكذا، أو خطت لي ثوبا من نوع كذا وكذا، والجعالة قد تكون في بعض صور الإجارة المحرمة، توسعة من الله على العباد، فيقول له: من خاط لي قميصا من نوع كذا وكذا، أو خاط لي ثوبا من نوع كذا وكذا، أعطيه كذا وكذا. إذا: لو قال مثلا: من خاط لي ثوبا من نوع كذا أعطيه مائة، فخياطة الخياط عمل معلوم، أو يقول: من بنى لي جدارا ثلاثة أمتار في مترين، فهذا معلوم، فيجوز على العمل المعلوم. وتجوز الجعالة على العمل المجهول، لقوله: [أو مجهولا] ، كأن يقول: من رد لي سيارتي الضائعة، والبحث عن السيارة الضائعة له وسائل عديدة وطرق متعددة، فإذا أطلق وقال: من رد لي سيارتي -أي: بأي طريقة وبأي وسيلة- أعطيه ألفا أو أعطيه ألفين. تحديد المدة في الجعالة قال رحمه الله: [مدة معلومة] . كأن يقول: من عثر على سيارتي المفقودة خلال هذا الشهر أعطيه عشرة آلاف ريال، أو من عثر على ابني الضائع خلال هذه الأسبوع أعطيه ألفا، فهذه مدة معلومة. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل يجوز أن يحدد مدة معلومة للبحث أم لا؟ وكلهم متفقون على أنه إذا أطلق وقال: من وجد سيارتي الضائعة، أو من وجد ابني الضائع، أو من وجد ساعتي المفقودة، أو من وجد كتابي أو مسجلي أو قلمي أعطيه كذا، ولم يحدد مدة، فكلهم متفقون على أنه يجوز. لكن الخلاف إذا حدد مدة معينة، فقال: من عثر على سيارتي خلال شهر رمضان، أو من عثر على سيارتي خلال سنة، أو من عثر على كتابي خلال يوم، أو خلال ساعة، فحدد مدة معلومة، فمذهب الجمهور على جواز ذلك، وقال بعض العلماء: لا يصح أن يحدد مدة معلومة، والأصح هو مذهب الجمهور. وقوله: [أو مجهولة] : كما ذكرنا، مثل أن يقول: من عثر على كتابي، ولم يحدد، ولذلك إذا قال: من عثر على سيارتي فتبقى إلى الأبد، إذا لم يفسخها ولم يوجد من قام ببعض العمل، فإذا فسخت فحينئذ تنفسخ على تفصيل سيذكره إن شاء الله تعالى. أمثلة استحقاق الجعل قال رحمه الله: [كرد عبد] . تمثيل لتقرير ما سبق، وقد كانوا قديما ربما فر العبد أو ضاع، فيقول: من رد لي عبدي الضائع فله كذا. قال: [ولقطة] . كأن تسقط منه ساعة فيقول: من وجد ساعتي من نوع كذا وكذا فله كذا وكذا. فهذه لقطة: من وجد ساعتي، من وجد قلمي، كأن يسقط القلم في المدرسة، أو في المكتب، أو في مكان معين ويقول: من وجد لي قلمي فأعطيه كذا وكذا، فهذه لقطة، فالقلم إذا سقط والتقطه أحد صار بحكم اللقطة، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكامها. قال: [وخياطة] . كأن يقول: من خاط لي قميصا، أو خاط لي ثوبا، ونحو ذلك. قال: [وبناء حائط] . كأن يقول: من بنى لي سورا على مزرعتي مائة متر في مائة في علو مترين أو متر ونصف، أعطيه ثلاثين ألفا. فهذا رخص فيه بعض العلماء على أنه من باب الجعالة. متى يستحق الجعل قال رحمه الله: [فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه] . قوله: (فمن) : من صيغ العموم. (فمن فعل) أي: رد الشارد، وعثر على اللقطة، وخاط القميص، وبنى الحائط، فمن فعل هذه الأشياء بعد قوله استحق الجعل. وقوله: (بعد علمه بقوله) إذا فعله بعد قوله فإنه يستحق الجعالة بلا إشكال؛ لأنه التزم، وهذا عقد بين الطرفين، سواء كان لمعلوم أو مطلق لعمل جميع الناس، فإذا فعل ذلك بعد قوله استحق الجعل؛ لأنه اشترط والتزم. ولذلك يكون كأنه التزم بالمال أن يدفعه عند وجود هذا الشيء الذي هو رد الآبق، والعثور على الضائع ونحوه، فإذا عثر عليه لزمه أن يدفع، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، فهو التزم أن يدفع له، فيجب عليه الوفاء بما التزم به، ويلزمه القاضي، فإذا حدد عشرة آلاف أو مبلغا معينا على رد الضائع وجيء له بالضائع؛ لزمه أن يدفعها لمن وجدها. وقوله: (استحقه) أي: استحق الجعل كاملا، لكن يشترط أن يكون الفعل كاملا، فلو أنه عثر على المفقود، وقبل أن يعطيه لصاحبه بساعة توفي، فإنه ينفسخ عقد الجعالة؛ لأنه ما أتم الفعل؛ إذ لابد أن يصل إلى الشخص نفسه، وحينئذ من حيث الأصل لا يستحق الجعل كاملا؛ لأنه لم يفعل فعلا كاملا. إذا: يستحق الجعل من قام به على وجهه، وعلى الشرط الموجود في قول الجاعل، أما لو فعل البعض فهذا فيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى. الاشتراك في الجعل قال رحمه الله: [والجماعة يقتسمونه] . بعد أن قرر أن من فعل بعد القول استحق الجعل كاملا، فإن كانوا جماعة اقتسموا؛ فلو فر بعير وشرد فانطلق ثلاثة أشخاص، فقال صاحب البعير: من أمسك لي بعيري الشارد أعطيه ثلاثة آلاف، فانطلق ثلاثة أشخاص وكلهم اجتمعوا على ذلك البعير وأمسكوه وجاءوا به، فإذا جاءوا به استحقوا ما جعله الجاعل ويقسم بينهم؛ لحديث الجعل: (قالوا: اقسموا. قالوا: والله لا نقسم حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله) ، فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يشكون في جوازه قال لهم: (اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، وضحك عليه الصلاة والسلام) . أي: أنه شيء مباح، فأذن بقسمته، فدل هذا على أن الجعل قد يقسم إذا كان هناك أكثر من شخص، أو طائفة اجتمعت في العثور على ضائع أو وجود شيء مفقود؛ فإنهم يستحقونه ويقسم الجعل بينهم على الشرط الذي التزم به صاحبه. استحقاق الجعل في أثناء القول قال رحمه الله: [وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه] . قوله: (وفي أثنائه) : صورة المسألة في أثناء قوله: كأن تضيع مني السيارة يوم السبت، فجعلت أبحث عنها يوم السبت كله، فبحث شخص دون أن يتعاقد معي، وعثر عليها يوم الأحد، وفي يوم الأحد أعلنت أن من أحضر السيارة أعطيه ألفا؛ فحينئذ يستحق ما بعد الإعلان لا ما قبله، فإن كان الذي بعد الإعلان له أجرة وله قدر، فحصل ما يوجب انتقالها إلى المعاوضة بالإجارة، ويستحق قدر الذي يكون بعد القول لا الذي قبله. وهذا في مسائل منها: مسألة الرجوع عن النفقة في البحث والتحري، ففي بعض الأحيان تلزم، وفي بعض الأحيان لا تلزم، كأن تقول: من بحث عن بعيري سأعطيه مائة ونفقته علي، فحينئذ يستحق النفقة التي بعد القول لا التي قبل القول؛ لأنك التزمت له من ذلك الوقت، فيستحقها بعد القول لا قبله. فقوله: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه) أي: قسط تمام الفعل ما بين القول والعثور على الشيء الذي ضاع من صاحبه. صحة فسخ عقد الجعالة من الطرفين قال رحمه الله: [ولكل فسخها] . شرع رحمه الله في صفة عقد الجعالة، فقال رحمه الله: [ولكل فسخها] . فعقد الجعالة عقد جائز، بمعنى: أن من حقك أن تفسخ متى شئت، ومن حق الشخص الذي يقوم بالبحث أن يفسخ عقد الجعالة، ولو أن شخصا قال: يا محمد! ابحث لي عن سيارتي الضائعة وأعطيك عشرة آلاف ريال. فقال: قبلت. فلما قال: قبلت التزم أن يبحث، ولو أنه بعد ما قال: قبلت، قال: لا أريد أن أبحث، فهل يلزم؟ الجواب لا يلزم؛ لأن هذا عقد جائز وليس ملزما به. لكن بالنسبة للشخص الذي وضع الجعل إذا قال: فسخت الجعالة، فحينئذ فيه تفصيل؛ لأنه في بعض الأحيان يفسخ الجعالة ويضر بمصالح الأشخاص الذين يبحثون، فمثلا يقول: من عثر على سيارتي أعطيه مائة ألف، فيذهب الناس ويتكبدون المشقة والعناء، وفي نفس الطريق وقبل وصولهم يقول: قد فسخت. إذا: في هذه الحالة صاحب الجعل أو المالك لا يستحق أن يرجع عن عقد الجعالة؛ وفي ذلك تفصيل: فإذا أضر رجوعه بحق العامل وجب عليه أن يدفع للعامل أجرة العمل ما بين الاتفاق والفسخ. وأما إذا كان لا يضر به، فإنه لا إشكال في كونه لا حرج عليه في الفسخ. كذلك ينفسخ عقد الجعالة بالموت، فلو أن الباحث بحث ووجد ثم مات قبل التسليم، فإن العقد في هذه الحالة ينفسخ، وكذلك لو قال: من عثر على سيارتي أعطيه عشرة آلاف، ثم توفي بعد ساعة وعثر عليها بعد ساعتين، أو قال: من عثر على سيارتي أعطيه عشرة آلاف ريال، ثم بعد ذلك زالت أهليته، فكل هذا يؤثر في العقد، والعقد ضعيف من العقود الجائزة، فإذا كان لا ضرر في الفسخ، فإنه يصح فسخها من العامل ومن رب الشيء المفقود. قال رحمه الله: [ولكل فسخها فمن العامل لا يستحق شيئا] . قوله: (من العامل) أي: إن وقع الفسخ من العامل فلا يستحق شيئا؛ لأنه فوت على نفسه المال، وفوت على نفسه الجعل، فيتحمل مسئولية نفسه، فلو أنه بحث سنة كاملة ولم يجد، ثم قال: لا أريد أن أتم البحث، فذلك له، ويكون قد أسقط حقه بفسخه. قال رحمه الله: [ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله] . فإن فسخت الجعالة من المالك والجاعل بعد شروع العامل، أو بعد شروع أكثر من شخص في البحث والتحري وقال: فسخت؛ لزمه أن يدفع له الأجرة ما بين قوله والفسخ، فمثلا: لو ضاعت السيارة، أو ضاعت الإبل، أو ضاعت الغنم في صحراء، والصحراء تبعد عن المدينة مائة كيلو، فخرج اثنان للبحث عنها، وبعد يومين فسخ الجاعل العقد، فكانوا قد وصلوا إلى المكان الذي فيه الشيء المفقود، فالسفر الذي تكبدوه للذهاب إلى ذلك الموضع يعتبر استحقاقا لهم على المالك والجاعل، فتقدر أجرة مثلهم، ويفسخ العقد، ويعطيهم حقهم في هذا العمل الذي عملوه؛ لأن في ذلك تفويتا عليهم، ويجب عليه أن يضمن لهم ذلك الحق. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة الجمع بين حديث: (تداووا) ، وحديث: (وإن شئت صبرت ولك الجنة) السؤال أشكل علي فهم هذين الحديثين: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله) . والحديث الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة التي أصيبت بالصرع: (اصبري ولك الجنة) ؟ الجواب حديث المرأة السوداء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض أصحابه يوما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟) وكانت مبشرة بالجنة إذ التزمت بشرطها وهي تمشي على وجه الأرض: (تلك المرأة السوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله أن يشفيني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر) . وهذا الحديث الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن الأصل التداوي، وهذه القضية قضية عين لا عموم لها، والقاعدة: (قضايا الأعيان لا تصبح دليلا للعموم) . فما هو ضابط قضية العين؟ قضية العين: أن تأتي على وجه لا يمكن إلحاق الغير بها، وتخالف أصلا، فإذا جاءت مخالفة للأصل فتخصها في قضية عين -هذا الشخص بعينه- مثلا شهادة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين، فهل يمكن أن نقيس غير زيد عليه؟ لا يمكن ذلك؛ بل نقول: هذه قضية عين لا تصلح دليلا للعموم. إذا: إذا وجد فيها ما يدل على التخصيص والاختصاص، فنقول: هذه قضية عين لا تصلح للعموم، فالمرأة لما كان شفاؤها بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم محتما قال: (إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر) ، فهذا أمر فيه اشتراط من جهة الشرط: (إن شئت صبرت ولك الجنة) ، فاختارت الصبر، وهذا لا يطعن في مسألة التداوي، ولا يعارضها؛ لأن هذا شيء من الغيب، وشفاؤها محقق أنه لو دعا لها واستجيبت دعوته عليه الصلاة والسلام ستشفى. إذا: قضية العين فيها واردة، ويكون ورود هذه الحادثة تعليما للأمة وتوجيها لكل مبتلى، خاصة بالأمراض النفسية والأمراض الروحية، أنها سبيل إلى الجنة إذا صبر عليها العبد واحتسب الهم والغم والأحزان، والأمراض النفسية مثل الصرع وفي حكمها الجنون، لا شك أن الصبر عليها من أعظم الأسباب الموجبة لغفران الذنب؛ لأن البلاء يغفر الله به ذنوب العبد، وبناء على هذا فقصة المرأة تكون قضية عين، ولا تصح لأن تكون دليلا للعموم. الوجه الثاني: أن المرأة لم تعارض الحديث؛ لأن الحديث يقول: (تداووا عباد الله) ، والدعاء خارج عن الدواء الذي أمر به من حيث هو؛ لأن التداوي شيء والدعاء شيء آخر، فالدعاء بين العبد وبين ربه، والرقية تكون من التداوي وفيها أدعية، لكن التابع ليس أصلا، فجاءت تبعا ولم تأت أصلا. فجعل التداوي في الوسائل المعروفة مثل: الأسقية، والأشياء الموجودة في الأعشاب ونحوها مما يتداوى بها العبد، فجاء الشرع لبيان أن التداوي بها لا يعارض ولا ينافي التوكل ولا يضاده، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن شئت دعوت لك) يصبح خاصا من عام. ويكون التعارض لو كان عاما مع عام، وهنا لا تعارض؛ لأنه حديث خاص في نوع خاص وهو الدعاء، وحديث عام في التداوي الذي يشمل الأسقية والأدوية، والرقية من الدعاء تبع له ولا تكون أصلا. لكن الدعاء هنا جاء أصلا: (إن شئت دعوت لك) أي: فشفيتي بدعائي، فيكون خاصا من عام، والخاص من العام لا يقتضي المعارضة من كل وجه أبدا. فمثلا: تقول: لو أن شخصا قال: أريد أن أتداوى، وقال شخص آخر: بل أسأل الله عز وجل أن يشفيني، وسأستمر على الدعاء، فليس هناك تعارض بين هذا وهذا، فيدعو هذا، وإذا أراد أن يتداوى تداوى، فيكون هذا خاصا من عام، ولا تعارض، بمعنى: أن كونه يدعو لا يعارض التداوي، إنما تكون المعارضة بين الحديثين لو كان الدعاء غير التداوي، فيضاده من كل وجه، كأن يقول عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله) ، ثم يأتي حديث آخر ويقول: (لا تتداووا) فهذا تعارض، أما إذا جاء: (تداووا عباد الله) ، وجاء الدعاء كنوع من أنواع التداوي، وأعرضت عنه المرأة توكلا على الله، فهذا إعراض عن خاص لا عام. فلذلك لا يعتبر اختيار المرأة للجنة والصبر معارضا لمسألة التداوي، وعلى هذا يمكن أن يكون هذا جمعا بين الحديثين. الوجه الثالث: أن الشريعة من حيث هي فيها الحسن والأحسن، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت دعوت لك) دواء وعلاجا لها، وهذا حسن، والأحسن أن تتوكل وتفوض أمرها إلى الله إذا وجدت الضمان، وقد قال بعض العلماء: إن وثق من نفسه. كما في حديث الرقية، قالوا: يترك الرقية إذا وثق من نفسه. ولذلك الذي تكون الرقية شفاء له، ويغلب على ظنه أنه إذا لم يسترق يضعف إيمانه فيتسخط على القضاء والقدر، فقد تكون الرقية واجبة عليه؛ لأن التداوي واجب في بعض الأحيان؛ لإنقاذ نفسه، أو خشية الفتنة. فعلى هذا نقول: إن حديث التداوي لا يعارض حديث المرأة من هذا الوجه. والله تعالى أعلم. اشتراط العلم في استحقاق الجعل السؤال ذكر المصنف رحمه الله تعالى في تعريف الجعالة عملا معلوما أو مجهولا مدة معلومة أو مجهولة، فلم يجعل العلم بالعمل والمدة شرطا لأخذ الجعالة، ثم قال بعد ذلك: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه) ، فكيف جعل العلم شرطا في استحقاق الجعل في هذا؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. المسألة من حيث الالتزام: أن صاحب الشيء الضائع إذا التزم فله صورتان: الصورة الأولى: أن يلتزم لشخص مخصوص، فلا يلزمه غيره، فإذا قال: يا محمد! ابحث لي عن سيارتي الضائعة، فوجدها بكر أو عمر، فلا يلتزم بدفعها لعمر، وتصبح المسألة تابعة للمسألة التي ذكرناها: (من وجد شيئا ضائعا) ، هذا من حيث التزامه للشخص المخصوص. أما من حيث التزامه عموما وقوله: (من وجد) ، فكل من وجد فإنه قد التزم له أن يعطيه هذا الجعل في ظاهر العبارة بعد علم الشخص الذي وجد ذلك الشيء بالمكافأة والجعل؛ لأنه نوى في قرارة قلبه والتزم بهذا العقد من حيث الأصل إذا كان يعلم بالجعل. أما إذا كان لا يعلم بالجعل فصحيح أن الذي وضع الجعل وضعه لجميع المسلمين، لكن لمن رضي أن يتعاقد معه، وهو لم يتعاقد معه، فذهب ووجد هذا البعير الشارد وليس في نيته أن يأخذ عوضا، فيبقى على نيته، ويكون محض تبرع وبر وإحسان. هذا من حيث الأصل الشرعي. وقد فرق رحمه الله بين أن يعلم وبين أن لا يعلم، لكن هذا لا يقع في المعاملة مع الله، وبعض الفقهاء يقيس هذا على المعاملة مع الله، وهذا ضعيف جدا، ويقولون: إنك لا تنال الأجر إلا إذا استشعرت الثواب الموضوع على العمل، وهذا لا ينطبق على كرم الله سبحانه وتعالى وما أعده لعباده. فما ورد من الأحاديث في الفضائل فعمله العامل مستشعرا للثواب أو غير مستشعر له؛ فإن الله يعطيه ذلك الثواب، وجماهير العلماء رحمهم الله على ذلك، وقد فعل الصحابة أعمالا، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون لهم من الأجر والمثوبة، وما كان عندهم علم أنهم سيعطون؛ لأن هذا القول نسي أصلا، وهو أن هناك فرقا بين مسألة الجعل وبين مسألة المعاملة مع الله. والفرق بينهما: أن الشخص عندما يذهب ويجد بعيرا شاردا، ويعرف أنه لفلان ويأتي به إليه، ما خطر على باله أنه يأخذ شيئا، لكن الذي يعمل الطاعة فهو بمجرد إيمانه يعمل الصالحات ويثاب عليها وينوي ثوابها، بمعنى: أن أي عمل تعمله من الأعمال الصالحة تستشعر أن الله سيجزيك عنه. فهناك فرق واضح بين الشخص الذي يعمل العمل الصالح وينتظر الثواب من الله، وبين المتصوفة الذين يقولون: لا نعمل طلبا لجنته ولا خوفا من ناره -أعوذ بالله! - فلسنا بأتقى لله عز وجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين عملوا خوفا من النار وطلبا للجنة. فنعمل خوفا من عذاب الله ونرجو رحمة الله، ولا يقدح ذلك في توكلنا ولا في إيماننا؛ لأنه ليس هناك أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعلى درجة منه، وهو يخاف من نار الله عز وجل ويرجو جنته، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، وهو يسأل الله عز وجل: (اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها) أما هؤلاء فيقولون: الإنسان يعبد الله لأنه ربه فلا يعبده من أجل جنته أو ناره!! فالعامل من حيث هو يعمل للعمل الصالح، وهو يعلم أن هناك جزاء وثوابا: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم} [النحل:97] ، فجعل الجزاء مرتبا على العمل. فبناء على ذلك لا نستطيع أن نقيس عملا بدون العلم بالتعاقد؛ لأن المخلوق مع المخلوق لابد من التعاقد بينهما، وأما المخلوق مع الخالق فهذه مسألة قد تكلم عليها شيخ الإسلام رحمه الله وأشار إليها في مصطلح العقد، والعلماء تكلموا عليها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] . وبعض المفسرين من السلف كـ الحسن البصري وغيره أخذ هذا اللفظ على عمومه، وقال: إن العقد يقع بين المخلوق والخالق: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} [التوبة:111] ، فجعله تعاقدا: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} [التوبة:111] ، وكقوله لله علي أن أصوم، لله علي أن أعتق، لله علي أن أفعل كذا وكذا، فهناك تعاقد بين المخلوق والخالق، وهناك تعاقد أصلي من الخالق، أن أي عمل صالح لا يضيعه: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} [آل عمران:195] . فلا نستطيع أن نقول: أن الثواب لا يحصل على الأعمال الصالحة إلا بالنية، مثلا: ليلة القدر، يقولون: لا يغفر له ما تقدم من ذنبه إذا أحيا العشر الأواخر وليس في نيته أن يغفر الله له ما تقدم له من ذنبه، وهذا غير صحيح، فسواء نوى أو لم ينو فالله سبحانه وتعالى أكرم من يعامل، فله الفضل والمنة التامة الكاملة. فمسألة النية ليست واردة هنا؛ لأن قياس هذا على مسألة الجعل والاستحقاقات في تعاقد المخلوق وتغليب النظر والفقه على هذا ضعيف، ولذلك يبقى الأصل أن المخلوق ينال الأجر ولو لم يكن عنده شعور بذلك الأجر، لكن ينبغي أن يكون عنده الأساس وهو الإخلاص لله، ورجاء الثواب من الله عز وجل، وهذا يكفي إجمالا من حيث الإجمال، ومسألة التفصيل: أن يعلم أنه إذا قام هذه العشر الأواخر وأصاب ليلة القدر يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويطلب منه ذلك، فليس هذا بوارد، إنما هو محض فضل من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن قياس هذه المسألة على المسألة التي وردت أن المخلوق مع المخلوق لا يكون له تعاقد وهو في الجعل إلا بعد علمه. والله تعالى أعلم. الشراكة في الجعالة بالرفقة السؤال كيف توزع وتقسم الجعالة على الصحابة كلهم مع أن القارئ كان واحدا؟ الجواب قد استشكل بعض العلماء هذا الحديث، لكنهم يقولون: تكون الشراكة في بعض الأحيان بالرفقة. فإذا سافر فإنهم يشتركون جماعة في الغنم والغرم، فالضرر الذي يأتي يأتي عليهم كلهم، والنفع يأتي لهم كلهم، وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم كان يقول: هذا الحديث فيه هذا الإشكال، ويمكن أن يجاب عنه: أنه كان يمكن لكل شخص منهم أن يرقي، فلما اختار أحدهم أن يرقي صارت الكلفة عليه، والأجرة للجميع. ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (واضربوا لي معكم بسهم وضحك) ؛ لأن الشرع له وجه؛ فإن الرقية جاءت من دلالته عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أنزلت عليه الفاتحة، ويكون على هذا قوله: (اضربوا لي معكم بسهم وضحك) أي: كما استحققتم أنتم بحكم أن كلا منكم كان يمكن أن يرقي، فإن الشرع له وجه من جهة أن الفاتحة كانت من شرع الله عز وجل ومن دينه. والله تعالى أعلم. حكم وضع الجعالة على المسابقات ونحوها السؤال هل تكون الجعالة بالأمور المعنوية كأن يقول المعلم لطلابه: من حل مسألة كذا فله عشر درجات، ونحو ذلك؟ الجواب السنة واضحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة المسابقة: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) ، فهذا نص واضح ليس فيه أي إشكال، فنؤمن بما جاء ونلتزم ونسلم به، فلا يجوز وضع الجوائز إلا على هذه الثلاثة، والسبب: أن الجوائز تحدث الشحناء والبغضاء، وتحدث نوعا من التنافس، وما تنافس قوم غالبا إلا حرص أحدهم أن يكون هو الأسبق. قال بعض العلماء: فاستثنيت هذه الثلاثة الأشياء لأمور لا تعارض الأصل الذي منع منه في وضع الجوائز؛ لأن: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) كلها في الجهاد في سبيل الله، كما تقدم معنا في باب السبق، فحينما يسبقك أخوك وتراه يسبقك فإنك تفرح؛ لأنه سيكون أعظم نكاية للعدو، وسيكون أقوى في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وحينما يكون أكثر رميا منك تفرح لما سيكون له من حسن البلاء في العدو والنكاية بهم. وقالوا: إنها أجيزت لوجود الحاجة إليها في الجهاد. وأيا ما كان فإن هذا نص واضح بأنه لا يجوز وضع المسابقات؛ لأنها تحدث الشحناء والبغضاء بين الناس إلا فيما استثنى الشرع. وعلى هذا: فالمسابقة الثقافية داخلة تحت هذا العموم، والحديث يقول: (لا سبق) أي: لا جعل يجعل على السباق إلا في هذه الثلاث، فنلتزم بهذه السنة ولا نفتح مجال القياس والرأي، ولو قلنا: إنها باب الجعل، فقد خالفت الجعل، فالجعل أن تحتاج الشيء كبعيرك الشارد تحتاجه وأنت عاجز عنه، وسيارتك الضائعة تحتاجها وأنت عاجز عنها، وجدارك الساقط، وقلمك الضائع، فالجعل يكون في شيء تحتاجه وأنت عاجز عنه. لكن المسابقة ماذا يحتاج منها؟ هو يعرفها ويعلمها، فأين الجعل من إيجاد شيء، ولذلك لا منفعة فيها، ومن هنا يقول العلماء: لا يصح الجعل إذا لم توحد مشقة على العامل، وقد ذكر هذه المسألة الإمام النووي وغيره وأشار إليها في الروضة: كما لو قال: من أخبرني بوقت خروج فلان فله كذا. قالوا: لم يستحق؛ لأن الإخبار بالخروج ليس فيه أي عناء ولا أي جهد. هذا إذا كان العامل لم يتحمل مشقة، فكيف إذا كان الجاعل لا مصلحة له؟ فأي مصلحة للجاعل حينما يقول: من حل المسألة الفلانية وهو يعلم حلها؟ إذا: لا مصلحة له في معرفتها. وقد يقول قائل: المصلحة أن الطلاب يتنافسون. فنقول: نعم. يتنافسون ويتباغضون ويتحاسدون بسبب هذا التنافس، ولذلك رأينا بأعيننا أن الطلاب إذا وضع لهم الجعل على مسابقة حقد بعضهم على بعض، حتى لقد رأيت بعيني من بعض الزملاء أنهم كانوا إذا جرت بينهم مسابقة في الحفظ تمنى بعضهم أن يخطئ أخوه في القرآن وفي كتاب الله عز وجل، ناهيك عن أنه إذا كان صغيرا وأعطي الجعل على حفظ كتاب الله عز وجل ينشأ متعلق القلب بهذه الدنيا، وربما يمر عليه العام كاملا ولا يراجع القرآن إلا إذا أعطي مسجدا يقوم فيه للتراويح، أو طلب للمسابقة، أما غير ذلك فلا. وكتاب الله والأمور العلمية ينبغي صيانتها من الدنيا ما أمكن، وينبغي حفظها والمحافظة عليها، ومن صان العلم صانه الله في الدنيا والآخرة، ومن حفظ العلم لآخرته حفظه الله في دنياه وآخرته، وبارك له في هذا العلم، وبارك له فيما يجد. ولذلك تجد من يتعلق بالحوافز والجوائز تدخل عليه من الفتن الشيء الكثير، ولا يبارك له في علمه، ولا ينتفع؛ حتى إن نفسه ربما ضعفت عن الاحتساب إذا لم يوجد الثواب، وتجده متقاعسا في الأمور التي يكون فيها نفع للعامة، ولا يبارك له في علمه كالشخص الذي يصون علمه عن أن ينافس به أحدا. وانظر إلى طالب العلم يأتي مع طالب علم آخر، ويأتون إلى أجل المسائل الفقهية أو الشرعية ويتنافسان ماذا نريد من تنافس الاثنين؟ حتى نعلم من هو أعلم فالأفضل لك أن لا تتعالم بعلمك، والأفضل لك أن لا تشعر الناس أنك أعلم. إذا: هذه المسابقات لا تتفق مع مقاصد الشريعة، ولا تتفق مع معالي الإخلاص والتوحيد التي من أجلها قامت هذه الشريعة؛ لأنها تفسد النيات، وتحدث الدخن بين طلاب العلم مع بعضهم ومع معلميهم، فينبغي صيانة العلم عن مثل هذا. والأعظم بلاء والأشد إذا كانت الأشياء المسئول عنها في الثقافة أشياء لا ينتفع بها المسلم، فربما كانت عن تاريخ ميلاد كافر أو فاجر أو عاهر، وفي هذه الحالة إذا وضعت هذه الأسئلة عن تاريخ كافر أو فاجر، يصبح أبناء المسلمين متعلقين بقراءة كتب الكفار، ويصبح عندهم نوع من التغليب اللاشعوري، فيذهب ويشتري الكتب التي تتحدث عن تاريخ الكفار، فإذا قيل له: ماذا تريد منها؟ فيقول: ربما أسأل عنها فيزيد من ثقافتي، ويصبح الذي يجيب عن هذه الأسئلة الغريبة محل إشادة أنه أوسع معلومة! فهذه أمور تجر إلى مفاسد وأضرار، ولذلك ينبغي إغلاق هذا الباب؛ لأنه إذا فتح في أمور الدين فتح علينا في أمور الدنيا، وحصل في ذلك من الضرر ما الله به عليم، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وصيانة العلم وحفظه، ومن حفظ العلم وصانه كما قال الشاعر رحمه الله برحمته الواسعة: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولذلك من حفظ العلم حفظ الله له كرامة العلم في وجهه وفي أهله وماله وحيثما كان، ويبارك له في علمه ما صانه وجعله لآخرته، فيتكلم به لله، ويتعلمه لله، ويعلمه لله، أما إذا فتحت أمور الدنيا خاصة على النشء والصغار فإن هذا يعودهم على التعلق بالدنيا. ولنا في سفلنا الصالح أسوة، فقد قادوا الأمة والعالم من المحيط إلى المحيط وكانت مدارس المسلمين منتشرة في كل صقع، وما كانوا يعرفون مسابقة، ولا جوائز؛ بل كانوا يثنون الركب في حلق العلم، محتسبين الأجر عند الله سبحانه وتعالى، مبتغين الثواب منه سبحانه وتعالى، فبارك الله لهم، وبارك في علمهم، وبقي علمهم إلى اليوم خالدا، حتى إنك تجد كتاب العالم من علماء المسلمين محفوظا في دول الكفر على أنه تراث، فسبحان الله! لأن اليد خطت لله، والعلم دون لله، فسخر الله عدوه أن يحفظه. وهذه كلها آيات وعبر في الإخلاص والتوحيد؛ ولذلك تجد بعض حفظة كتاب الله عز وجل يحفظ من أجل جوائز الدنيا، فإذا به ميت القلب لا ينتفع بالقرآن، نسأل الله السلامة والعافية. وربما تجد الشخص عنده نصف القرآن لكنه مخلص لله، يقوم به الليل، ويبكي من آياته إذا تلاها، وينتفع بها، وتجد الرجل يأتي ويلقي القرآن من أجمل ما يكون قراءة، ولم يدخل في قلبه منها أثر، فالإخلاص لابد منه. فالواجب علينا أن نجعل الآخرة وما عند الله نصب أعيننا: {تلك الدار الآخرة} [القصص:83] انظر إلى هذه الآية وتأملها كما يقول أهل العلم: ما قال: الدار الآخرة؛ بل قال: (( تلك )) ، وهذا إشارة إلى العلو ورفعة المنزلة {تلك الدار الآخرة} [القصص:83] ، فقد علت وسمت فعلا أهلها وسموا عن حطام الدنيا؛ لأن الدنيا ضرتها تماما، فمن أراد الدنيا فإنه لا يريد الآخرة: {تلك الدار الآخرة نجعلها} [القصص:83] ويجعل الله لك الآخرة متى؟ (للذين) اللام تفيد الاختصاص: {للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} [القصص:83] ، الذين اتقوا الله في هذا العلم {والعاقبة للمتقين} [القصص:83] . فينبغي على أهل العلم صيانة العلم، وينبغي أن يعود طالب العلم من الصغر على طلب العلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله عز وجل، حتى يبارك له في علمه، فإذا فعلنا ذلك وجدنا الخير والبركة، ووجدنا من يستطيع أن يخرج من بيته من الصباح ولا يرجع إلى بيته إلا في الليل، وهو عاكف في بيت من بيوت الله يعلم أبناء المسلمين، أما إذا وضعت على ذلك الحوافز والجوائز فربما تعلق قلبه بها، والقلب إذا تعلق بشيء فتن به، نسأل الله السلامة والعافية. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن: (الدنيا معلونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالما أو متعلما) أي: من أراد وجه الله، وإلا فما عدا ذلك فهو ممحوق البركة. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن أراد بهذا العلم وجهه، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، وأن يصرف عنا فتنة العلم ما ظهر منها وما بطن. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب اللقطة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (388) صـــــ(1) إلى صــ(32) شرح زاد المستقنع - باب اللقطة الإنسان في حياته معرض لضياع ماله عنه، وبما أن الضائع غالبا ما يجده إنسان آخر ويلتقطه؛ فلهذا وضعت الشريعة للقطة أحكاما تتعلق بمن يأخذ اللقطة، وما الشيء الذي يجوز له التقاطه، وما الذي لا يجوز له التقاطه، وكيف يعرفها حتى يجد صاحبها، وما هو المال الذي يعرف والذي لا يعرف، وما الذي يترتب على عدم مجيء صاحبها، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بباب اللقطة، وهذا كله من كمال الشريعة وشمولها. اللقطة وأحكامها وقد ذكر المصنف رحمه الله باب اللقطة بعد باب الجعالة، والمناسبة: أن باب الجعالة تضمن جملة من المسائل والأحكام التي غالبا ما يكون فيها الجعل في الأشياء الضائعة، واللقطة من الضائعات، فهناك توافق بين باب الجعالة وبين باب اللقطة. وقوله رحمه الله: (باب اللقطة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة باللقطة. ضابط المال الذي يأخذ حكم اللقطة قال رحمه الله: [وتتبعه همة] ، الاهتمام بالشيء: العناية به، والأموال منها ما يهتم به الإنسان، ومنها ما لا يكترث به، فالفقهاء رحمهم الله يريدون أن يفرقوا بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة العامة والشيء الذي لا يأخذ هذه الأحكام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في سنته، فلما قال جابر رضي الله عنه: (خفف عنا في السوط والعصا) ، هذا يدل على أن الشيء اليسير لا يحتاج إلى تعريف به، ولا يأخذ حكم اللقطة العامة. إذا: نحتاج إلى وضع ضابط، ووضع ميزان نفرق به بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة، وبين لشيء الذي لا يأخذ حكم اللقطة، فوضعوا ضابطا وهو: همة أوساط الناس، وقالوا: وسط؛ لأنه دائما في التقديرات الغالبة ينظر إلى أوساط الناس، فمثلا: قاعدة: العادة محكمة، لما جاء العلماء يضعون قاعدة الاحتكام إلى العرف وضعوا الضابط الغالب، فالغالب هو الذي يكون في الوسط، ليس لأهل الغنى ولا لأهل الفقر، فكذلك هنا بالنسبة للأموال، لا ننظر إلى الأشياء الغالية ولا إلى الأشياء الرخيصة، ولكن ننظر إلى الأشياء الوسط، ونجعلها هي التي تسري عليها أحكام اللقطة، فنقول: من باب أولى إذا كانت أغلى من هذه، وعلى هذا وضع المصنف رحمه الله قيد: أوساط، والوسط هو المقام الذي يكون بين الطرفين: الغالي والرخيص، فاللقطة هي الشيء الذي ليس بالرخيص جدا، بل كان رخصه تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يمكن أن يكون الرخيص عندي قيمته مائة ريال لغناي، وقد يكون عندي الرخيص قيمته ألف ريال، وقد يكون عشرة آلاف ريال وهكذا. إذا: ننظر إلى أوساط المجتمع، وهذا يختلف باختلاف الأعراف، والأزمنة والأمكنة، فالقاضي والشيخ والمفتي وطالب العلم إذا سئل عن شيء: هل هو لقطة أم لا؟ فينبغي أن ينظر إلى الوسط، والمصنف رحمه الله ابتدأ بهذه الجملة؛ لأن أول ما تبحث من أحكام اللقطة أن تعرف ما هو الشيء الوسط الذي تتبعه همة أوساط الناس، حتى تقول بعد ذلك: يجب تعريفه، ويجب كذا وكذا من أحكام اللقطة، فهو يقول: نضع ضابطا لأوساط الناس. وأوساط الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فقد تجد مجتمعا يكون وسط المال فيه ألف ريال، بحيث أن ما دون الألف يكون شيئا يسيرا. وقد تجد زمنا الوسط فيه مائة ريال، بحيث أن ما نزل عن المائة يكون يسيرا، وقد يكون العشرة ريال، فيرد هذا إلى كل عرف بحسبه. قال رحمه الله: (وتتبعه همة أوساط الناس) أي: يهتم صاحبه بالبحث عنه؛ لأننا لا نستطيع أن نكلف شخصا أن يعتني بما لا يريده صاحبه، أي: لا ينشغل به صاحبه، ففي ذلك عناء ومشقة، وأحكام اللقطة صعبة، والتعريف باللقطة فيه عناء ومشقة. أحوال الملتقط من جهة قصد التعريف وعدمه قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك] . قوله: (من حيوان) (من) بيانية، على التفصيل الذي تقدم معنا فيما يجوز أخذه من الحيوانات وغيرها، وقوله: (وله التقاط) ، هذا الالتقاط على التفصيل الذي ذكرناه، وقد بين المصنف هذا هنا؛ لأن الأحكام المتعلقة بالالتقاط مفرعة عن معرفة الشيء الذي يلتقط، فبعد أن بين رحمه الله الشيء الذي يلتقط، بين أحوال التقاط اللقطة، فالذي يلتقط اللقطة يلتقطها على صور: الصورة الأولى: أن يلتقطها بقصد تعريفها وردها إلى صاحبها، والصورة الثانية: أن يلتقطها بقصد أن يملكها وأن يأخذها. ففي الصورة الأولى إذا أخذها بقصد تعريفها، والوصول إلى صاحبها، إن كانت من جنس ما تنطبق عليها أحكام اللقطة فلا إشكال، فيعرفها ثم بعد انتهاء مدة التعريف يكون مالكا لها، كما سيأتي. الصورة الثانية: من أخذ اللقطة قاصدا أن يملكها مباشرة، كمن وجد قلما أو كتابا له قيمة، ولا يستطيع أن يجد صاحبه، أو وجد ذهبا أو فضة، فحملها وقال: أريد أن أنفق من هذا المال، فهذا حكمه حكم الغاصب، أي أنه في الصورة الأولى يكون حكمه حكم الملتقط، وفي الثانية يكون حكمه حكم الغاصب، ففي الأولى لا يضمن، وفي الثانية يضمن. فائدة هذه المسألة: أنه لو التقط على الوجه الأول، ونيته فيما بينه وبين الله أن هذه العشرة الآلاف التي وجدها سيوصلها إلى صاحبها، فأخذها عنده، فضاعت، أو سرقت من دون تعد ولا تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه ما تعدى ولا فرط، ويده يد أمانة، لكن لو أخذها من أجل أن ينفقها، ولم يفكر لا في تعريفها ولا في شيء، إنما قال: الحمد لله على هذا الرزق الذي جاءنا -والبعض يحمد الله حتى ولو كان المال من سرقة! - فأخذ هذا المال وفي نيته أن يصرفه، وقال: أريد الآن أن آخذه حتى أسدد ضائقة، أو أشتري شيئا، فلما أخذها ابتلاه الله في الليلة التي أخذها بأنه سرق منه أو ضاع منه، فلو عرف صاحبها، وجب أن يرد عليه المال، فهو في الأول أمين وفي الثاني غاصب، وهذه فائدة النية في الالتقاط. فيفصل في الالتقاط بهذا: فإن التقطها بالوجه المعروف، كانت يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى وفرط، أما إذا وجد شيئا وفي نيته أن يأخذه لحظه وأهله، دون قصد التعريف، فإنه في هذه الحالة يكون ضامنا، وحكمه حكم الغاصب. وقوله: (إن أمن نفسه على ذلك) ، هذا شرط، وهو أن يأمن نفسه على المال الذي أخذه، قال: [وإلا فهوكغاصب] ، ومفهوم الشرط أنه إذا لم يأخذها على هذه النية، وأخذها من أجل أن ينفق على نفسه -ولذلك تجده يأخذها ولا يريد أحدا أن يشعر أنه أخذ هذا المال، ولا يريد أحدا أن ينتبه له؛ لأنه يريد أن يأخذه لنفسه- (وإلا فهو كغاصب) أي: فحكمه حكم الغاصب، كما تقدم. حكم التقاط اللقطة قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره، إن أمن نفسه على ذلك، وإلا فهو كغاصب] . يقول المصنف رحمه الله: (وله) أي: للشخص الواجد للضائع (التقاط) أي: أخذ الشيء الضال أو الضائع من غير الذي ذكرناه وهي الأشياء اليسيرة التي ليس لها قيمة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل أن لا يلتقطها، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل والأعظم أجرا أن يحتسب ويأخذه صيانة لمال أخيه المسلم، ومن أهل العلم من قال: إن المسألة على الإباحة، فلا نقول الأفضل الأخذ، أو الأفضل الترك إلا بالتفصيل، فإن كان الشخص يأمن على نفسه، فيعرف من نفسه أنها لا تتعلق بهذا الشيء، وأنه سوف يقوم بحقوق التعريف، وأن يده سوف تكون يد أمانة ومحافظة على الشيء، ويغلب على ظنه أنه سوف يوصل الشيء إلى صاحبه، أو أن صاحبه سوف يعود؛ فإنه يأخذه. وألحق بهذه الأحوال حالة ذكرها بعض العلماء ونصوا فيها على وجوب الأخذ، وهي: أن يكون الموضع الذي وجد فيه المال فيه سراق أو فساق، أو أناس لا يحفظون حدود الله وحقوق المسلمين، بحيث يأخذونها وربما استغلوها في أشياء محرمة، فيجب على الإنسان أن يأخذها في هذه الحالة، بحيث يأمن على نفسه الفتنة، ويغلب على ظنه أن هذا المال لو ترك فيأخذه فاسق، وقد يستعين به على حرام، ويغلب على ظنه أنه قد يجد صاحبه، ففي هذه الأحوال يجب عليه أن يأخذه، فإن خاف، أو وجد غيره ممن يمكن أن يقوم بهذا الأمر، فغلب على ظنه أنه إن لم يأخذه فإنه سيأتي إنسان صالح، ويغلب على ظنه أنه سيقع في يد إنسان غيره ممن يقوم بحقوق التعريف، وهذا الغير أفضل منه؛ فالأفضل الترك، ويروى هذا عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر أنهم كانوا يكرهون أخذ اللقطة، ويكرهون التعرض لها؛ لما في ذلك الورع، وابتعاد الإنسان عن المسئولية، هذا إذا خاف على نفسه، وإذا وجد الغير ولم يأمن على نفسه الفتنة. أما إذا وجد الغير وغلب على ظنه أنه لو أخذ هذا المال فإنه يفتن به، وربما لم يأمن نفسه عليه؛ لأن النفوس تختلف والأزمنة تختلف، وربما تأتي الضائقات والحاجة، فتضطر الإنسان إلى أخذ ما حرم الله عليه، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين؛ لأن الإنسان إذا غلبه الدين كذب في قوله، وأخلف في وعده؛ لأنه يقهر على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من غلبة الدين لهذا؛ وهو ذل بالنهار وهم بالليل، فالإنسان إذا غلب على ظنه أنه سيهتم بهذا الأمر، ويشغله عما هو أفضل، ويوجد غيره ممن يقومون به؛ فالأفضل أن يتركه إلى ذلك الغير، والأفضل له التورع وصيانة نفسه. وفي حكم هذه المسألة أيضا إذا كان الموضع أهله أهل شر؛ بحيث لو أخذ هذا المال تسبب له بفتنة واتهم بالسرقة، وتعرض للضرر، فيكون تركه حينئذ مقدما على أخذه. فيفصل في مسألة أخذ اللقطة أو تركها بهذا التفصيل: أن الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال مختلفة، والإنسان يتقي الله على قدر استطاعته، فما كان موافقا لشرع الله بحيث يتأكد الحكم بوجوب أخذ اللقطة فيه، أو ندبها واستحبابها، فإنه يحكم له بوجوب الأخذ واستحبابه، وما كان بالعكس فعلى العكس، وما انتفت فيه الموانع، وانتفت فيه الدوافع، فإنه يبقى على الأصل وهو الحل. ولذلك قال المصنف: (وله) فنص على مرتبة الإباحة، أي: يجوز له أن يأخذها، وهذا على سبيل التخيير، ويبقى التفصيل، فتارة يجب، وتارة يسقط هذا الحل، لوجود العارض عند وجود الموانع. حكم التقاط الشيء اليسير وقوله: (فأما الرغيف) الفاء للتفريع، أي: إذا ثبت أن اللقطة مال ضائع عن صاحبه، وتتبعه همة مالكه، فإنه إذا كان رغيفا، أي: شيئا لا قيمة له، فإنه لا يعتبر لقطة، فهو أراد أن يفرع من التعريف السابق، بحيث يخرج ما ليس بلقطة من التعريف، فقال: (فأما الرغيف فلا تتبعه همة صاحبه) ، ولكن قد يكون -مثلا- مجمع من الناس في نزهة، والرغيف عندهم له قيمة، أو رفقة في سفر من الفقراء والضعفاء، فلا نستطيع أن نقول: إن من وجد الرغيف فهو له؛ لأن الرغيف هنا يختلف عن الوضع العام، والمؤلف يتكلم عن الغالب، وإلا فقد يكون الرغيف له شأن، خاصة في أيام المجاعة والشدة، فتتبعه همة صاحبه، فهذا التعبير إنما هو للغالب، والفقهاء يختارون أمثلة للغالب. قال: (والسوط) وهو الذي يضرب به الناس ونحوه، والمراد: مما لا تتبعه همة الناس، ولا قيمة له ذات بال، فيملك بلا تعريف، أي أن صاحبه إذا فقده ووجدته، فإننا نحكم بانتقال ما في يده إليه، فتملكه بمجرد ما تأخذه بدون تعريف، كما يقول بعض العلماء: فهو لواجده، ومنهم من يقول: فهو لملتقطه، وهنا قال المصنف: (فيملك بلا تعريف) ، فأراد أن يبين أن الشيء التافه واليسير، كالسوط الذي لا تتبعه همة صاحبه، يملك بلا تعريف، لكن في بعض الأحيان إذا كنا نستطيع معرفة صاحب السوط فنرده إلى صاحبه، وليست المسألة هكذا مطلقة، ولكن المراد: الغالب، مثل: الرغيف، فإنه لا تتبعه همة صاحبه، ولكن إن كان في موضع وفي حال يمكن الحصول فيه على صاحبه، فيجب أن يرد إلى صاحبه؛ لأن أموال الناس مملوكة لأصحابها، ولا يحكم بالانتقال متى أمكن ردها إلى أهلها. ما يحرم التقاطه وضابطه قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما، حرم أخذه] لما بين رحمه الله الشيء الصغير الذي لا قيمة له، ولا تتبعه همة صاحبه، شرع في ضده وعكسه، فقال: (وما امتنع من سبع صغير) . ومن المعلوم أن الآيات والأحاديث إذا جاءت فإما أن تأتي نصا في شيء معين، فتختص بذلك المعين، وإما أن تأتي على سبيل التعبد، فلا يبحث في علتها، وإما أن تأتي على سبيل التعقل ومعرفة معناها حتى يقاس غيرها عليها وهي الأصول. إذا: عندنا نصوص لا يمكن أبدا أن نجاوزها عن موضعها، كما لو جاءت في مخصوص خص به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} [الأحزاب:52] ، فهذا نص خاص به عليه الصلاة والسلام، ويحكم بالخصوص، فهو خاص أراد به الخصوص، وهناك خاص جاء على سبيل التعبد، فلا نستطيع أن نقدم أو نؤخر فيه، حيث جاء كوضوح الشمس أنه تعبد، كما جاء في فرضية صلاة الظهر بعد الزوال، فما نستطيع أن نحدث صلاة ثانية قياسا على صلاة الظهر، ولا نستطيع أن نحدث عبادة قياسا على هذه العبادة، ولكن هذا شيء تعبدي نقتصر فيه على هذا الوجه الذي جاء. وأما ما أريد به العموم، فيكون قاعدة ينبني عليها غيرها، وأصلا يتفرع عليه ما لا يحصى من المسائل، وهذا هو منهج الشريعة في أكثر النصوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3] ، فالكمال أن تكون نصوص الشريعة قواعد عامة، حتى تصلح لكل زمان ومكان، ومن أمثلة ذلك: مسألة اللقطة، عندما جاء الحديث في ضالة الإبل، قال عليه الصلاة والسلام: (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشعر حتى يلقاها صاحبها) هذا اللفظ من الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يتعرض الإنسان لضالة الإبل، لكن هل المراد بذلك الإبل فقط، بحيث لا يقاس عليها غيرها، ونقول بأن غيرها يلتقط ويأخذ حكم اللقطة، أم أن المراد بذلك أن الإبل تمتنع وتدفع، ويقاس على الإبل غيرها مما يأخذ حكمها؟ لا شك أن الأمر هو الصحيح. ولما جاء ذكر الغنم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) فأسقط كلمة: (لك) فيبقى إما لأخيك أو للذئب، المالك هو أخوك المسلم، وقيل: لأخيك، أي: إذا ما أخذتها أنت فسيأتي شخص آخر ويأخذها، لكن على الأصل نقول: قوله: لأخيك من باب المقابلة، (إنما هي لك) فيقاس غيرك إذا كان مكانك، وهذا أنسب، بمعنى: إنما هي لك أو لأخيك مالكها إن وجدها، فهذا أفضل؛ لأنه لما قال: (لك) نزل غيرك من وجدها كما وجدتها، فإذا أسقطنا (لك) بقيت (لأخيك) أو للذئب، لأخيك إن وجدها، (أو للذئب) إن لم يجدها، فلما ذكر الذئب دل على أن في الحيوان الضال معنى، وهو كونه يدفع عن نفسه أو لا يدفع، فوجدنا أن الغنم لا يمكن أن تدفع عن نفسها صغار السباع، أما كبار السباع فلا يمكن لا للإبل ولا للغنم أن تدفعها. فلما قرر عليه الصلاة والسلام أن الإبل تترك على حالها، فمعناه: أن هناك علة لهذا الترك، وهي قوله: (معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر) ، لكن الغنم يمكن أن تجد شيئا تستقي به، ويمكن أن تسير المسافات الشاسعة، لكن لا يمكن أن تدفع الذئب، فقوله: (أو للذئب) يدل على أن مسألة اعتداء السبع عليها مؤثرة في الحكم، وأن هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على العلة التي من أجلها شدد في الإبل، ويسر وخفف في الغنم، ومن هنا استنبط العلماء المعنى، فقالوا: لا يستطيع أن يدفع من صغار السبع، فمثلا: الناقة تستطيع أن تدفع لو جاءها صغير الذئب، أو جاءها صغير الأسد، أو السباع العادية؛ لأن الإبل شديد البطش، فيمكن أن يدفع، وعلى هذا قالوا: إن العلة هي كونه يدفع عن نفسه، وجعلوا الضابط صغار السبع؛ لأن كبار السباع تعتدي على الإبل ومع ذلك جعل الإبل سائدة هائمة حتى يلقاها ربها، فدل ذلك على أن العلة كونها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها صغار السبع. ما يلحق بالإبل في حرمة التقاطه قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير] . كالإبل كما ذكر عليه الصلاة السلام، ويقاس على ذلك الضباء، والوعول، وتيس الجبل، وبقر الوحش، فإذا وجدت ظبيا فإنه يجوز صيده، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه من المباحات، وقد أحله الله عز وجل لعباده، وكذلك الوعل وتيس الجبل، كلها أحلها الله عز وجل، فالمصنف لما قال: (وما امتنع من سبع صغير) مراده أن يكون هذا الظبي ملكا لشخص، فالظباء والوعول والريم والغزلان إذا كانت ملكا لأشخاص، وضلت وضاعت، فإنها تترك حتى يلقوها؛ لأنها تدفع عن نفسها صغار السباع، وكذلك يدخل في هذا ما يدفع عن نفسه من صغار السباع بالتوحش والفرار، حتى ولو كان من الطير، وبناء على هذا: فالحمام الذي يربى في البيت، لا يجوز لأحد أن يأخذه؛ لأنه يمتنع من نفسه، ويمكنه أن يدفع عن نفسه، حتى يرجع إلى ربه وصاحبه. فهذه ينطبق عليها أنه لا يؤوي الضالة إلا ضال؛ إذ ما المعنى أن يأخذه إلا الاعتداء على مال أخيه المسلم، فيترك حتى يعود إلى صاحبه ومالكه، إلا إذا كان المتلفظ يعرف صاحبها، فأخذها على نية أن يعطيها لصاحبها، فلا إشكال، أما إذا لم يعرف صاحب هذه الحمام، وعرف أنه من النوع البيتي الذي يربى، فإنه يطرده عنه ولا يجوز أخذه، وهو في مثل هذا كالإبل التي تدفع عن نفسها، ويمكن للحمام أن يعيش حتى يرجع إلى صاحبه. قال رحمه الله: [كثور وجمل] . الثور والجمل يدفع، وكذلك البقر القوي، ومن أهل العلم من جعل البقر خارجا عن حكم الإبل، والصحيح أنه يأخذ حكمها؛ لأن جريرا رضي الله عنه وأرضاه أعطاه حكم الإبل، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) ، والسبب في التفريق بين الإبل وبين والبقر: أن الإبل تصبر أكثر من البقر، والبقر إذا ضاع في الفيافي والصحراء فغالبا ما يهلك، بخلاف الإبل فإنها تصبر على الماء أكثر، والبقر أضعف في الصبر من هذا الوجه، وإلا فمن حيث القوة، ومن حيث الوصف، هناك شبه بين البقر وبين الإبل. وبالمناسبة: بعض العلماء يلحق البقر بالإبل في أكثر المسائل الشرعية، يقولون: وجدنا الشريعة تجعل الإبل والبقر في حكم واحد، فمثلا: يضحى بالبقرة عن سبعة، ويضحى بالبدنة عن سبعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن نسائه بالبقر، فجعل البقر محلا للتشريك كالإبل، فأنزلها منزلة الإبل. ومن هنا قالوا: إن البقر تنحر ولا تذبح، قياسا على الإبل، ومن أهل العلم من جعل البقر تارة تلتحق بالإبل وتارة لا تلتحق بالإبل، وتختلف أحكامه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) ، ففرق بين الإبل والبقر، وأجيب: بأن هذا من باب الفضل لا من جهة الحكم، وقد يتفق الاثنان حكما ويختلفان فضلا، فيكون أحدهما أفضل من الآخر، ولكن هذا لا يقتضي عدم تشريكهما في الحكم. قال رحمه الله: [ونحوهما] ، أي: ما يكون قويا يستطيع الدفع عن نفسه، [حرم أخذه] أي: لا يدخل في جواز الالتقاط. فأصبحت الأشياء والأموال منها ما يجوز أخذه، ومنها ما يحرم أخذه، ومنها ما يجب أخذه مما يكون الغالب فيه الضياع أو التلف، فيجب على الإنسان أن يأخذه، أو إذا كان يعرف صاحبه، فيجب عليه أن يأخذه حتى يعطيه إلى صاحبه. أركان اللقطة يقول المصنف رحمه الله: (باب اللقطة) أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق باللقطة، ويشمل ذلك: (الركن الأول) : وهو الشيء الملتقط، و (الركن الثاني) وهو الشخص الملتقط، و (الركن الثالث) : وهو صفة الالتقاط، والأحكام المترتبة على هذه الأركان الثلاثة، فيبين لنا من هو الذي يجوز له الالتقاط، والذي لا يجوز له الالتقاط، وما الحكم إذا التقط غير الأهل، ومن يتولى عنه. والركن الثاني: الشيء الملتقط، على التفصيل الذي ذكرناه فيما يجوز التقاطه وما لا يجوز التقاطه. والركن الثالث: صفة الالتقاط، سواء من جهة كونه يلتقط بقصد الملكية، أو يلتقط بقصد التعريف، وتارة يكون في حكم الغاصب، وتارة يكون في حكم الملتقط، وأخذ بهذا يبين الأحكام المتعلقة بهذه الأركان الثلاثة. تعريف اللقطة قال رحمه الله تعالى: [وهي مال أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس، فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف] . استفتح المصنف باب اللقطة ببيان حقيقة اللقطة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن عادة العلماء رحمهم الله أن يبدءوا أولا بالتعريف؛ لأنه عن طريق التعريف يمكن للإنسان أن يحكم على الشيء، قال رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) والمال: هو كل شيء له قيمة، وسمي بذلك لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ويشمل ذلك الذهب والفضة وغيرهما، فاللقطة مال، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، أو الأكسية، أو الأغطية، أو الأغذية، أو الأقلام أو الكتب، أو غير ذلك مما له قيمة. وقوله رحمه الله: (وهي مال) ، هذا العموم له تخصيص، وسيأتي -إن شاء الله- أن اللقطة تختص بالذهب والفضة وما في حكمها، دون بهيمة الأنعام، فهذا النوع من الضائعات والضوال له حكم خاص. وقوله: (وهي مال أو مختص) اختصاص الإنسان بالشيء تميزه به دون غيره، والخاص ضد العام، ومعنى ذلك: أنه شيء يثبت لك على سبيل الرخصة وعلى سبيل الخصوصية، وتكون مختصا به، ومن أمثلة ذلك: كلب الصيد، فلو قال المصنف: (اللقطة مال) وسكت، لم يشمل كلب الصيد؛ لأن ذلك كلب الصيد يمكن أن يضيع من صاحبه، ويأخذ حكم اللقطة، إذا كان قد اختص به الإنسان، حيث أذن له الشرع أن يصيد به، أو كلب حراسة أذن له أن يستخدمه في الحراسة، فمثل هذا لو ضاع فإنه يأخذ حكم اللقطة؛ من تعريفه ورده إلى صاحبه. وقوله: (ضل عن ربه) ضل بمعنى: تاه، فإما أن يضل عن ربه، أو يسقط من صاحبه، كالنقود تكون في جيب الإنسان ثم تسقط، وهذا الوصف وهو قوله: (ضل) يخرج به المسروق والمغصوب، فلا يسمى لقطة؛ لأنه أخذ من صاحبه قهرا، والذي يؤخذ من صاحبه على سبيل الخفية، إما خلسة، أو غفلة، فهو سرقة، فلا يأخذ حكم اللقطة، واللقطة نعرف أنها ضلت عن صاحبها بأن نجدها ساقطة في الطرقات، أو نجدها -مثلا- في أماكن الجلوس، فمن عادة الناس أنهم إذا جلسوا أن يضعوا أمتعتهم بجوارهم، فإذا وجدنا الكيس من المال أو الحقيبة فيها المال أو الأغراض في نفس المكان أو بجوار المكان، فنعلم أن صاحبها قد نسيها، فلم تضل هي ولكن صاحبها غفل عنها حتى نسيها في المكان، والمراد من هذا: أن صاحبها افتقدها، سواء كان ذلك بإهمال منه، أو كان بأي سبب من الأسباب، فكل شيء ضاع من صاحبه، فإنه يحكم بكونه لقطة من حيث الجملة. أقسام اللقطة من حيث القيمة وقوله: (وتتبعه همة أوساط الناس) اللقطة تنقسم إلى قسمين: فإما أن تكون شيئا له قيمة، وإما أن تكون شيئا لا قيمة له، فلما قال المصنف رحمه الله: (مال) هذا عام، ولو نظرت إلى الشيء الغالي فهو مال، وإذا نظرت إلى الشيء التافه فهو مال، فالتمرة هي مال، والقلم يعتبر مالا، والدفتر يعتبر مالا؛ لأن له قيمة، وقد يكون شيئا نفيسا قيمته عشرات ومئات الألوف، فهو مال، إذا قوله رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) عام، والشريعة خصصت هذا العموم، وبينت أن اللقطة التي لا تتبعها همة صاحبها، وهي الشيء اليسير الذي لا قيمة له، أو له قيمة ليست بذات بال في أوساط الناس، مرخص فيها ومخفف في أمرها، والأصل في ذلك: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على تمرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، فالتمرة مال، وقد كان الرجل ينزح الدلو الواحد بتمرة واحدة، فلها قيمة، ولربما كان طعام الرجل ليومه من تمرة واحدة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، وهذا الورع من أتم ما يكون، فقد تورع عليه الصلاة والسلام عنها، وقوله: (لأكلتها) يدل على أن يد صاحبها قد خلت عنها، وهذا يدل على أن الشيء الذي ليست له قيمة، ولا تتبعه همة صاحبه، بمعنى: أنه لا يطلبه، ولا يبحث عنه، كالتمرة إذا سقطت من الإنسان فإنه لا يبحث عنها غالبا، وهكذا الحفنة اليسيرة من الأرز في زماننا، والحفنة من البر والحفنة من التمر، يخفف في حكمها، ولا يجب تعريفها، ولا تأخذ أحكام اللقطة العامة. ومن الأدلة أيضا حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: (خفف علينا -وفي رواية: رخص لنا- في السوط والعصا يأخذه واجده) ، والسوط هو الذي تضرب به الدواب، فلو وجده الإنسان فإنه يأخذه مع أنه بحكم اللقطة، ولكن لما كان السوط لا تتبعه همة صاحبه، وكذلك العصا ونحوها لا تتبعها همة صاحبها؛ خفف فيها، ففي زماننا لو وجد قلما رخيصا فيأخذه واجده، وهكذا بالنسبة للثياب، إذا كان الملبوس لا قيمة له، وقيمته يسيرة ليست بذات بال، فيجوز للإنسان إذا أخذه أن يملكه مباشرة، ولا يحتاج إلى تعريف. أقسام اللقطة ومن أجمع الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام اللقطة: حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإذا أتاك صاحبها فأعطها إليه، وإلا فشأنك بها، فإن جاء ربها يطلبها يوما من الدهر، فأعطها له. ثم سأله عن ضالة الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها. ثم سأله عن ضالة الغنم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه، هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الأحكام، فبين مشروعية التقاط اللقطة، ما لم تكن من ضالة الإبل، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أخذ ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر) ، فحرم أخذها، وحمل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) ، وقد عمل بذلك جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإنه كان في سفر، وكان معه بهمه وبقره، فجاءت بقرة ودخلت بين البقر، فطردها رضي الله عنه، وأمر بطردها، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) . ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين النوعين، وبين أن هناك شيئا يجوز التقاطه، وشيئا لا يجوز التقاطه. فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف وكاءها وعفاصها) ، (والوكاء) : هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص) : هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، فالعفاص: المراد به الوعاء الذي تحفظ فيه اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، والمعنى: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، أي: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، وكذلك أيضا اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل؟ فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل بها على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه. ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة، وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف. وقد اشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأت صاحبها فإنه يملكها -أي: يملك اللقطة حكما- واجدها، ولذلك قال: (فهي وديعة عندك) ، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكما، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكما لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها فلا تقل له: ولقد عرفتها سنة ولم تأت، فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها، فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكما، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، قال: (فإن جاء صاحبها يطلبها يوما من الدهر) ، وهذا فيه دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد -مثلا- من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأت خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعا موجبا للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت. فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه، وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكما، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه؛ لأن المال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع. ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهو: ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها) ، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة؛ لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إلى مكانها ومرعاها، وربما باع الرجل إبله في مكان بعيد جدا قد يبلغ مئات الكيلو مترات، ثم يفاجأ يوما من الأيام وقد رجعت إليه الإبل، وهذا معروف، ومن ذلك القصة المعروفة للجرمي، لما أجلت خزاعة جرهما عن البيت، أي: أبعدتهم عن مكة، وابتعدوا أكثر من ثلاثمائة كيلو مترا، ثم حنت إبلهم، ونزحت إلى مكة، ودخلت حتى نحرت في مكة، وهي التي صارت فيها القضية المعروفة، وفيها الأبيات المشهورة: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر فأسباب هذه الأبيات: أن الإبل حنت إلى مرعاها بمكة، وقد كانوا على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو مترا، وهذا يكون حتى بين العشية والضحى، فالإبل ربما تجلس ثلاثة أيام وأربعة أيام في مكانها الجديد، ثم تحن إلى مرعاها القديم. إذا: ضالة الإبل لها حكم خاص، وقد خصتها الشريعة بهذا الحكم، وهو أنه لا يتعرض لها الإنسان، فهي تدفع عن نفسها، فلو هجم عليها صغار (السباع) فهي تدفع عن نفسها، ولذلك لا يتعرض لها أبدا. وأما النوع الثالث الذي اشتمل عليه الحديث فهو: ضالة الغنم، ولما سئل عنها عليه الصلاة والسلام خفف في حكمها وقال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) ، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا النوع من الضوال -وهو الغنم- لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا يستطيع أن يبقى في المكان الذي هو فيه، فإذا ترك أكله الذئب، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، أو يأتي صاحبها فيجدها، ولكننا إذا لم نجد صاحبها، ودلنا على هذا أنه لو كان موجودا لما أصبحت في العراء، فالاحتمال الثالث أن تأخذها. وانظر إلى حكمة الشريعة كيف اشتمل هذا الحديث على الثلاثة أنواع: النوع الأول: الضعيف الذي لا يمكن أن يجد صاحبه، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه، وبقاؤه ضياع وتلف، وهو الغنم، فتملك بالأخذ، ثم النوع الثاني: وهو الذي تتبعه همة صاحبه، ويحصل عنه السؤال والبحث والتحري، وهي لقطة الذهب والفضة، والنوع الثالث: والذي هو أعلى، فيمكنه أن يدفع عن نفسه، ويمكنه أن يبقى في مكانه مدة طويلة، وهو ضالة الإبل، فأعطت الشريعة الإسلامية لكل نوع حكمه، وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، الذي قص الحق وهو خير الفاصلين، قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] . فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم، قال: (اعرف وكاءها وعفاصها) ، (والوكاء) : هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص) : هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، (فالعفاص) : المراد به الوعاء الذي تحفظ به اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، يعني: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، يعني: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، كذلك أيضا، اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه، ثم بين عليه الصلاة والسلام أنه يعرفها سنة، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف، واشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأت صاحبها فإنه يملكها أي: يملك اللقطة حكما واجدها، ولذلك قال: فهي وديعة عندك، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكما، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكما لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها لا تقول له: والله عرفتها سنة ولم تأت فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكما، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، (فإن جاء صاحبها يطلبها يوما من الدهر) هذا فهي دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد مثلا من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأت خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعا موجبا للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت، فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكما، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه، فالمال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع. ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهي ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها) ، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة، لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إل أحكام تعريف اللقطة قال رحمه الله: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولا] . ما تقدم من الأشياء الملتقطة التي تأخذ حكم اللقطة يجب تعريفها، والتعريف مأخوذ من المعرفة، والمراد بذلك: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي يتوصل من خلالها إلى معرفة صاحبها. حكم اللقطة بعد انتهاء وقت التعريف قال رحمه الله: [ويملكه بعده حكما، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها، فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه] . (ويملكه) أي: يملك المال الملتقط، (بعده) أي: بعد التعريف سنة، (حكما) لا حقيقة، بحيث يتصرف فيه فيجوز له هبته، أو التصدق به، لكن يتصرف به حكما لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبه يوما يطلبه ووصفه بالصفة التي يعرف بها؛ وجب عليه أن يضمن له مثله إذا لم يكن موجودا، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فليكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يطلبها يوما من الدهر فأدها إليه) . لكنه لا يتصرف بالمال إلا بعد أن يعرف صفاته، فيكتب جنس النقود: ذهب أو فضة، ثم يكتب نوعها إذا كانت من الفضة -مثلا- ريالات أو من الدراهم، أو من أي عملة من العملات، وهل هي من فئة المائة ريال أو من فئة الخمسمائة، وهل هي محفوظة برباط أو مفرقة، وهل كلها في موضع واحد في حقيبة، أم مفرقة في مواضع، وإذا كانت موضوعة في شيء كأن تكون داخل كتاب هل هي مفرقة أو مجموعة، فيكتب الصفات التي يمكن أن يتوصل بها إليها. وتنقسم الصفات إلى: صفات خارجة عن الشيء الملتقط، وصفات ملتصقة بالشيء الملتقط، فالشيء الخارج مثل: الوعاء والرباط، وأرقام الحقيبة إذا أمكنه أن يعرفها، وكذلك نوعية الحقيبة ولونها، وهل هي قديمة أو جديدة، وصفة الحالة التي كانت عليها، والمكان الذي وجدها فيه، مثلا: في السوق، أو في الكرسي الذي يجلس عليه الإنسان، فالإنسان غالبا يتذكر مثل هذه الأشياء، فهذه الصفات الخارجة يضبطها ويكتبها، وهذا أحوط، فيكتب ملاحظات المكان الذي وجدها فيه، والصفات التي وجدها عليها في هذه الحقيبة. كذلك أيضا الصفات للمال نفسه، من جهة نوعه وقدره، وفي زماننا نوعية العملة، وقد يكون المال مشتركا من الريالات والدولارات، وقد تكون ثلاث عملات، فيكتب صفات هذه العملات وصفات وضعها في الحقيبة، وهل معها شيء آخر أو ليس معها، كل هذا يكتبه ويدونه، ثم يتصرف في المال، فيبيعه أو يهبه أو يتصدق به لمن يشاء، فإذا جاء صاحب اللقطة يسأله يوما من الدهر قرب الزمن أو بعد، فالواجب عليه أن يضمن إذا وصف بالصفات المعتبرة. إعطاء اللقطة لصاحبها إذا جاء وما يشترط فيه وفي الحقيقة لا يكلف صاحب اللقطة أن يصف صفات دقيقة؛ بل يكفي لو وصف صفات غير مكتملة ولكنها تدل على صدقه، والرجل معروف بالأمانة فنرضى به؛ إذ ليس كل أحد يستطيع أن يتذكر، فقد يضع الشخص المال في الحقيبة وهو لا يعرف هل هو مربوط أم لا، مثل الأشخاص الذين يكونون في تجارة، فتارة يربط المال وتارة لا يربطه، فلا يستطيع أن يتذكر أن هذا الشيء على هذه الصفة، فلا يحرج صاحبها ذلك الإحراج، بل هناك دلائل تدل فعلا على صدقه، فمثلا: شخص جاء وقال: لقد ضاعت علي حقيبة من النوع الفلاني، وكان ضياعها في المطار، أو في محطة السيارات الفلانية، وكان ذلك يوم الجمعة، وكنت أضعها بين رجلي تحت الكرسي، لكنه لا يستطيع أن يقول لك: الذي بداخلها من فئات المئات أو من فئات الخمسينات، لكنه يقول: إنها عشرة آلاف ريال، أخذتها ووضعتها في الحقيبة، وفي بعض الأحيان يمكن أن يصف لك وصفا صحيحا من الخارج لكنه يعجز أن يعرف ما بداخلها، ويعطي شيئا تقريبيا يغلب على الظن معه أنه ماله، وهو رجل معروف بالأمانة والاستقامة ومتدين، وفيه خير، فإذا جاء وقال: في اليوم الفلاني بعت واشتريت، فأدخلت مالا وأخرجت مالا، وقد خرجت من البيت ومعي عشرون ألف ريال، وبعت واشتريت بحدود خمسة آلاف ريال، وأظن أن المبلغ ما بين خمسة عشر ألف ريال وعشرين ألف ريال، فلا ينقص عن خمسة عشر ولا يزيد عن عشرين، فعندما تنظر إلى هذا الكلام، مع أمانة الرجل وعدالته، وشهود الناس له على صدقه، تطمئن غالبا له. إذا: الوصف من صاحب الوديعة لا يشدد عليه إلا في أحوال، مثل أن يعرف منه الاحتيال والكذب، وقد سبق أن جاء بعض الأشخاص وعرفوا بعض الصفات، أو استطاعوا أن يطلبوا بعض الصفات، حتى يغلب على الظن انحصارها في الصفة الفلانية، ففي هذه الحالة يحتاط الإنسان. فإذا: لا بد من النصيحة، وهذا يختلف باختلاف الأحوال وظروف الأشخاص، فإن المال إذا كان بين أمة معروفة بالصدق ليس كحال ما لو كان على العكس. وقوله: [فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه] . فلم يحدد زمانا معينا، ولا وقتا معينا، فهو حق لا يسقط بالتقادم -كما ذكرنا- بل يلزمه ويجب عليه دفع اللقطة إلى صاحبها. وقت انتهاء التعريف باللقطة قال رحمه الله: (حولا) أي: سنة. وقد اختلف العلماء في القدر الذي تعرف فيه اللقطة، فورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بالتعريف ثلاث سنين، ومن أهل العلم من ضعف الرواية عنه في ذلك؛ لأن الرواية فيها شك، حيث قال: (لا أدري قال: ثلاثا أو سنة) فضعفت؛ لأن في الرواية الصحيحة (حولا وسنة) ، فالثابت في السنة أنه يعرفها سنة كاملة، وعليه العمل عند جمهرة أهل العلم. فإذا قلنا: إن السنة هي الحد الأعلى، فتختلف الأموال واللقطات بحسب غلائها وقيمتها وتتبع همة صاحبها، فإذا كانت -مثلا- مائة ريال، فإنه تتبعها همة صاحبها، لكنها ليست بذلك المال الكثير الذي يكلف ملتقطه بالتعريف سنة، فيخفف في المدة، فيمكن أن تكون إلى ثلاثة أشهر، أو إلى ثلث السنة أو ربعها وهو ثلاثة أشهر، أو نصفها وهو ستة أشهر، فيكون ذلك على حسب الأموال نفسها، فإن كان المال له بال كعشرة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، وله همة وله حاجة بحيث إن صاحبه قد يبحث عنه طيلة العام، فإنه يعرف سنة كاملة. هذا من حيث مدة التعريف، فيعرف سنة كحد أعلى، وبعد السنة يحكم بملكيته. وأما إذا كان دون المال الكثير، وتتبعه همة صاحبه ولكنه ليس بذاك الذي له قيمة غالية، كالكتب أو الثياب أو الملبوسات أو الساعات أو نحوها، فيمكن أن يعرف بعض السنة، ولذلك أفتى الإمام أحمد رحمه الله بالتعريف إلى شهر، وبالتعريف إلى ثلاثة أشهر، وبعضهم يفتي بالتعريف إلى جمعة واحدة، وذلك إذا كان الشيء تتبعه همة صاحبه، ولكنه ليس بذلك الشيء الذي له القيمة التي يكلف لأجلها بالتعريف سنة كاملة. (حولا) أي: سنة؛ لأن السنة فيها جميع الفصول، وإذا سقط منه في أيام من السنة، فربما لا يعود إلا فيما هو قريب منها أو مثلها، فالسنة هي غاية نهاية اليأس غالبا، فإذا مرت سنة فإننا نقول: إنه ضائع عن صاحبه، فجعلت السنة كحد أعلى. مكان التعريف باللقطة قال رحمه الله: (في مجامع الناس) . فيكون التعريف في مجموعة من الناس؛ لأنه حق ضائع، فكل شخص من أهل ذلك الموضع يحتمل أن يكون صاحب المال، فالتعريف يكون في مجامع الناس. ومجامع الناس مثل: أمام المساجد، بشرط أن لا يشوش على المصلين والذاكرين، وفي الأسواق العامة والخاصة؛ لأن الناس تجتمع فيها، والحدائق التي يجلس فيها الناس، وهكذا بالنسبة للأماكن الخاصة التي يرتادونها؛ كالمدارس ونحوها، والدوائر إذا كانت قريبة منها، فيكون التعريف في المجامع. وقوله: (غير المساجد) ، أي: داخل المساجد، فيجوز أن يعرف عند باب المسجد، بشرط أن لا يزعج الناس، ومن هنا يفرق بين وضع ورقة الضائعات داخل المسجد وخارج المسجد، فإنه منهي عن نشد الضالة داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا قال: أيكم رأى البعير الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا رده الله عليك، ثم قال: من رأيتموه ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك) ، وقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36] ، فالمساجد هي بيوت الله، وقد بنيت من أجل ذكر الله، ولم تبن لأمور الدنيا. وعلى ذلك فلا يجوز التعريف بالأشياء الضالة في المساجد، ولا نشدها في المساجد، ويجوز خارج المسجد، ويجوز أن يضع إعلانا، ولكن الأفضل أن لا يوضع على أبواب المساجد؛ لأن الإعلانات على أبواب المساجد لا تجوز، فمثلا: إذا كانوا يريدون استئجار محل، أو ينشدون شيئا ضائعا، فسينشغل الناس عن ذكر الله، ولذلك فإن الأفضل والأحسن صيانة المساجد، بحيث تكون على أطراف الجدران خارجة عن المسجد، أما أن يوضع على الباب نفسه فسيؤدي إلى مضايقة الناس ومضايقة الداخل والخارج، وقد يفتح الباب نفسه إلى داخل المسجد، فيكون حكمه حكم داخل المسجد، فلا يجوز وضع إعلانات الضالة على الأبواب، إلا إذا كان الباب إلى الخارج، وبشرط ألا يضر، لكن المشاهد أنه يضر، وأنه يشغل الناس عند خروجهم. وعلى هذا فينبغي أن يكون الإعلان في ركن المسجد، أو في طرف المسجد، أو بعيدا من الباب، ولا يضيق على الداخل والخارج، ولو وضعه على الباب فضيق على الداخل والخارج فإنه يحمل الوزر في ذلك، حتى الإعلان عن محاضرة يؤدي إلى تزاحم الناس عند المداخل، ولذلك فلا ينبغي أن يتسبب الإنسان بأذية المصلين الداخلين أو الخارجين، فيوضع الإعلان في مكان خاص، وكون الشخص يحرص على أن يعرف الكل، هذا ليس بمهم، المهم أننا نتقي الله عز وجل، ونضع لوحة الإعلان في مكان بعيد عن الباب، ومن يريد الخير سيأتي، فلو جاء عشرة من الذين يريدون الخير وممن هم أهل الخير، فإن هذا أفضل من الغثاء الذين لا خير في حضورهم، وقد يكون حضورهم فيه ضرر. حكم تعريف اللقطة وقد اختلف العلماء رحمهم الله: إذا وجدت مالا وكان المال مما تتبعه همة صاحبه، وحكمنا بكونه لقطة، فهل التعريف به واجب أو ليس بواجب؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله، أصحهما: أن التعريف واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وعليه جرى أمر الخلفاء الراشدين في فتاوى بعضهم، كـ عمر وعلي رضي الله عنهما وغيرهما، فقد أفتوا بالتعريف وألزموا به وأمروا به. وقت التعريف ابتداء ثم هذا التعريف فيه تفصيل عند العلماء، فيرى بعض أئمة السلف والعلماء رحمة الله عليهم أن الأسبوع الأول الذي وجد فيه المال يكون التعريف فيه أشد، بحيث يعرف فيه في كل يوم، ففي اليوم الأول والأسبوع الأول الأمر أشد، ففي اليوم الأول لا يقتصر على مجرد وجدانه؛ بل عليه أن يسعى بالسؤال والتحري في موضع المال الذي وجده فيه، أو في المظان، فإذا كان الموضع الذي وجد فيه المال فلاة، وبجوار الفلاة منتدى يرتاده الناس، أو مسجد يصلي فيه الناس، فيحرص على أقرب المواضع مما هو مظنة أن يجد صاحب المال فيه، أو يرتاده صاحب المال، فيسعى في اليوم الأول، ويكون جهده في التعريف أكثر من الأيام التالية؛ لأنه في اليوم الأول تكون الهمة أشد، والاعتناء أكبر. ومن الخطأ أن تجد البعض بمجرد أن يأخذ المال يذهب به إلى بيته، فيصير الالتقاط سببا في إضاعة المال على أصحابه، لأنه إذا لم يذهب به ربما جاء صاحبه ووجده في مكانه، فيصبح التقاطه على هذا الوجه مخالفا لمقصود الشرع، وعلى ذلك جعل العلماء رحمهم الله اليوم الأول من الالتقاط أشد من غيره، والتعريف فيه آكد من غيره، خاصة إذا وجدت الأمارة، أو القرينة، أو العلامة، كأن يكون -مثلا- مقصودا لعبادة كيوم الجمعة، فلو سقط المال في يوم جمعة -وهنا أمارة من الزمان على أن صاحبه سيعود إليه- فينتظر إذا وجد المال بعد صلاة الجمعة ويقف عنده ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، ويسأل ويراقب من يأتي ويبحث، وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، فينصح لصاحب المال. وحبذا لو أن الخطباء يتعرضون لمثل هذه المسائل التي تتضمن بعض التنبيه على السنن الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما تعم به البلوى، فالناس اليوم -إلا من رحم الله- بمجرد أن يأخذ المال يذهب به، وربما يجده في بلد غير بلده، فيسافر بالمال، فيغرر بحق صاحب الحق. ولذلك فيجب أن يكون التعريف في اليوم الأول آكد وأشد، ثم الأسبوع الأول عند طائفة من أهل العلم يعرف فيه يوميا؛ لأن الغالب أن هذا الأسبوع يبحث به صاحبه، فإن لم يتيسر له العودة في اليوم الأول لعذر؛ تيسر له في اليوم الثاني، وإن لم يتيسر له في اليوم الثاني، تيسر له في اليوم الثالث إلى الجمعة، فإنه ربما لم يتيسر له في أيام العمل، فيأتي يوم الخميس والجمعة ويبحث عن ماله في موضعه. هذا بالنسبة للواجب في التعريف من حيث الأصل، أن حكمه الوجوب، ويكون في الأيام الأول آكد منه من الأيام الأخر، ثم بعد ذلك إذا قلنا بالتعريف سنة، فمن أهل العلم من قال: يؤكد التعريف أسبوعيا، ففي كل جمعة يقوم في الناس، أو يضع إعلانا، ويتحرى عن صاحبه ويسأل، ومن أهل العلم من قال: إذا بحث عن صاحبه في اليوم الأول والأسبوع الأول، انتقل الحكم إلى الشهر، وكلما جاء شهر يجدد التعريف والسؤال والبحث والتحري عن صاحب المال حتى يجده، فالحكم أن التعريف لازم له. ويصح أن يعرف بنفسه، أو يوكل غيره، فيقوم بنفسه ويقول: أيها الناس! ويذكر الشيء مجملا كما سيأتي في صورة التعريف، أو يوكل، أي: يقول لشخص: قم وناد: من ضاع له شيء فليأتني، من أجل أن يتعرف على الشيء الضائع، فيصح التعريف بوكالة من شخص آخر. التعريف باللقطة أما صفة التعريف: فالواجب أن يحذر، فلا يذكر من المال ما يمكن أن يتمكن من معرفته به، أي: لا يذكر الصفات التي تختص بذلك المال، أو يهتدى إليه عن طريقها، وإنما يقول: من ضاع له شيء فليأت، ولا يقول: من ضاع له ذهب، أو من ضاعت له حقيبة، فإن بعض العلماء يرى أن يجمل عموما؛ لأن أهل الشر ربما تجمعوا عليه أربعة أو خمسة، فلو قال: من ضاعت عليه حقيبة؟ لأتى الأول وسيعرف أن المال في حقيبة، فإذا قال له: ما لونها؟ قال: بيضاء، فإذا قال: ليست بيضاء، فيأتي الثاني فيقول: حمراء وخضراء، فيقرب أهل الشر إلى المال، ولذلك الأفضل والأحسن أن يبهم، فيقول: من ضاع له شيء فليأت، وإذا قلنا -على الوجه الأول-: إنه يبهم، فيشمل ذلك النقود وغيرها، وعلى الوجه الثاني يصح أن يقول -مثلا-: من ضاعت عليه ساعة؟ من ضاع له قلم أو كتاب؟ فيحدد الجنس، ويمكن أن يحدد النوع، لكن القول الأول أحوط وأفضل وأولى، فإنه أكثر دلالة على صدق صاحب الشيء؛ لأنه لو جاء أحدهم وقال: ضاعت علي حقيبة حمراء، وفيها عشرة آلاف ريال، ففي هذه الحالة تطمئن له؛ لأنك ما ذكرت له شيئا، لكن لو أنك قلت: من ضاعت عليه حقيبة وفيها نقود فليأت -على قول الإجمال- فسيأتي الأول ويقول: ضاعت علي حقيبة صفراء، فيها -مثلا- عشرة آلاف، والثاني يقول: ثمانية آلاف، حتى يصلوا إلى عين المال، فإنه يمكن إذا كانوا ستة أو سبعة أشخاص أن يعرفوا قدر المال، ولذلك فإن الاحتياط في هذا الأمر أولى، فيأخذ الإنسان بالاحتياط، نصيحة لصاحب المال، ولصاحب الحق. تعريف اللقطة إذا كان الملتقط قاصرا قال رحمه الله: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما] . هذه الجملة شرع فيها المصنف رحمه الله في بيان الركن الثاني، فعندما بين اللقطة، وصفة الالتقاط، شرع في بيان الشخص الملتقط، فلا بد أن يكون بالغا عاقلا، ولا يكون صبيا أو مجنونا أو سفيها، فالصبي ليس له ولاية على نفسه؛ وإذا كان لا يلي على نفسه فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، فإذا التقط الصبيان مالا وجاءوا به، فإننا نطالب ولي الصبي أن يقوم مقامه، فوالد الصبي يقوم بتعريف المال على الصفة التي ذكرناها، ووالد المجنون كذلك، أو المسئول عنه، فإن كان محجورا عليه لسفه، أو كان رقيقا، فالسيد يقوم مقام عبده إلا إذا أذن له بذلك. حكم أخذ ما يظهر أن صاحبه تركه قصدا قال رحمه الله: [ومن ترك حيوانا بفلاة لانقطاعه، أو عجز ربه عنه، ملكه آخذه] . عند العلماء شيء يسمى: (الأصل) ، وشيء يسمى: (الظاهر) ، ففي الشريعة تتعلق بعض الأحكام بالأصول ونقول: الأصل كذا، ونلقي الحكم على هذا الأصل، فمثلا: إذا كان عندك ماء في البيت وحوله أطفال، أو سقطت نجاسة حوله، وأنت لا تدري هل سقطت في الماء نجاسة أم لا؟ فنقول: الأصل واليقين أنه طاهر، ولا يحكم بنجاسته، أو كان عندك فراش يلعب عليه أطفال، فيحتمل أن البول أصابه أو أن النجاسة أصابته، فنقول: اليقين أنه ما حدث شيء من هذا، فهو طاهر حتى تتأكد وتتيقن من أن هناك نجاسة، فتبقى على الأصل دائما حتى تجد ما ينقلك عن الأصل، وهناك شيء يسمى: دلالة الظاهر، والظاهر يحتكم إليه ويعمل به، والشريعة أناطت به أحكاما، فيبني عليها المسلم، ولا ينتقل إلى ضد ذلك الظاهر حتى يدل الدليل على خلافه. فبالنسبة للحيوان، إذا كان الحيوان من جنس ما يأخذ حكم اللقطة، ولكن جاءت دلائل على أن صاحبه لا يريده، أو على أن صاحبه قد تخلى عنه، فهذه الدلائل إن كانت بصريح قوله، كأن يقول: أيها الناس! من يريد أن يأخذ هذا المال فليأخذه، فهذا صريح القول، وهناك دليل ظاهر، ليس بقولي لكنه فعلي، فتستبيح به الشيء، فتأكل وتشرب وتعتبره حلالا بهذا الظاهر، كما لو أن شخصا فتح على جدار بيته صنبورا وأخرجه على الطريق، ووضع براد الماء، فصار الناس يشربون من هذا الماء، فبمجرد أن تمر على هذا الصنبور تعلم أن صاحبه قد أذن بالشرب منه، وهذه دلالة الظاهر. ولو بنى مسجدا وفتح أبوابه علمنا أنه قد أوقف هذا المسجد، مع أنه لم يتلفظ بذلك، وليس هناك دليل صريح من عباراته، لكن دلالة الظاهر دالة على أنه قد تصدق بهذا الشيء. وأيضا: في القديم كان الناس على الخير ولا يزالون -وقد رأيت هذا بعيني على مسارح المدينة- فقد كانوا إذا أرادوا الصدقة بالنخل يغرس صاحب البستان نخلات خارج السور، ويسقيها من داخل المزرعة، فكل من مر يعلم أن هذه النخلات صدقة، وإلى الآن ما زالت توجد في قباء في بعض المزارع من مزارع قدماء المدينة، فتجد السور مبنيا وهناك أربع نخلات خارج السور، فهذه دلالة ظاهر على أنها صدقة، لكن لا يستطيع أحد أن يأتي إلى داخل السور ويدخل إلى النخل ويقول: إنه مباح؛ لأن السور حينما بني عليه دل على أنه لصاحبه، وأن صاحبه لم يأذن بالدخول فيه. فهذه كلها دلالة ظاهر، يعمل بها ويحتكم إليها على تفصيل في القول. ومن دلالة الظاهر: أنهم كانوا في القديم تسير القافلة من الإبل ثم يتركون أشياء وراءهم، فيعرف السابلة وابن السبيل أن هذه الأشياء تركت لمن جاء، فمثلا: تأتي إلى موقد وتجد فحما فتعرف أنهم تركوه استغناء عنه، فتملكه وتأخذه، فهذه دلالة ظاهر دالة على التنبيه والإذن بالانتفاع، ويكون تمليكا للمنفعة، وتارة يكون تمليكا للذات، فسواء كان تمليكا للمنفعة أو تمليكا للذات، فإنه يعمل بهذا الظاهر ويحتكم إليه. ومن هذا: المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله، فمن يترك حيوانا أو يترك مالا غير الحيوان، فهذه دلالة ظاهر دالة على الإذن بأخذه. ومن أمثلتها في الشريعة: تقليد الهدي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم) ، فكانت الإبل وبهيمة الأنعام تهدى إلى البيت، وتوضع القلائد عليها حتى يعلم كل شخص يجدها في الطريق أنها للهدي، فيحفظها ويسوقها إلى البيت، ثم إذا عطبت ولم تستطع السير ولم يمكن إيصالها إلى البيت، نحرت، ثم لطخ دمها في رقبتها للإشعار، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- عندما أراد أن يحج حجة الوداع أشعر هديه وقلد هديه، فهذا الإشعار فائدته: أنها لو عطبت دون البيت ومرضت وانقطع السير، فإنها تنحر؛ لأجل من يمر من أهل السبيل إذا وجد عليها الشعار عرف أنها من هدي البيت، وأنها صدقة، فيأكل، ولهذا فإن الشافعية لما منعوا بيع المعاطاة، ولم ينزلوا الصيغ القولية منزلة الفعلية، استثنوا مسألة الهدي؛ لأن النص فيها واضح، والسنة فيها ماضية، فالشريعة جعلت دلالة الظاهر منزلة منزلة التصريح عن الباطن، وبناء على ذلك فإذا وجد شيئا ودلت الدلائل على أن صاحبه تركه، وأذن بأخذه، فإنه يؤخذ ذلك الشيء، ويملكه واجده. وقوله: (لانقطاعه) أي: لعلة الانقطاع، (أو عجز صاحبه عنه) ففي بعض الأحيان يعجز الإنسان عن أن يسوق حيوانه معه، فيتركه، ويرى أن من المصلحة أن لا ينشغل به، كأن يكون حصل ما هو أهم، فحينئذ يملكه من وجده، ولا يأخذ حكم اللقطة، فيستثنى من أحكام اللقطة. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم أخذ النعل ونحوه لمن وجدها مكان نعله قال رحمه الله: [ومن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره، فلقطة] . انظر إلى الورع عند العلماء رحمهم الله، فإن الشخص يذهب ليصلي وينال أجر الجماعة، ويرجع إلى بيته بدون حذاء، فتقول له زوجته: أين حذاؤك؟ فيقول: سرقت، فيقع في إثم التهمة بالسرقة، فهنا يقول المصنف: (ومن أخذ) ولم يقل: (ومن سرق) ، ولذلك كان العلماء ينهون عن هذا، والشخص بنبغي له أن يتورع، فأنت إذا قلت: سرق، فإن هذا يعني أن الشخص الذي أخذ حذاءك سارق، وربما كان الشخص الذي أخذه كفيف البصر، فأخطأ في حذائك، أو شخصا استعجل ووقع يده على حذائك، ولربما ظن أنه مثل حذائه فأخذه، فإذا قلت: سرق، فهذه تهمة، ولذلك لا يقال: سرق، بل يقال: أخذ، أو لعلي وضعته في موضع غير الموضع الذي بحثت عنه فيه. قال رحمه الله: (ومن أخذ نعله) ، وهذا يقع كثيرا في مجامع الناس، فإنه يحصل الخطأ في أخذ الحذاء، وقد يكون هناك نوع من التعمد -نسأل الله السلامة والعافية- والإثم في هذا أعظم، فإنه إذا تقصد أخذ الحذاء وسرقته فهذا أعظم؛ لأن الظلم في بيوت الله أعظم من الظلم خارج بيوت الله عز وجل. ولأن من خرج من بيته لطاعة الله عز وجل فهو في ذمة الله عز وجل حتى يعود؛ لأنه خارج في طاعة الله وإلى بيوت الله، ولذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المصلي، فنهاه أن يشبك بين أصابعه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في صلاة) ، ولذلك كره العلماء رحمهم الله إذا خرج الإنسان إلى المصلى أن يبيع أو يشتري في طريقه إلى المسجد؛ لأنه في حكم المصلي، فلا يشتغل بشيء يلهيه عن الصلاة. إذا ثبت هذا، فإن الأمر في أخذ الأحذية والتقصد بأذية الناس وأخذ أحذيتهم من المساجد، يعتبر اعتداء على المال، واعتداء على حرمة المصلي، وانتهاكا لحرمة المسجد، والأدهى والأمر إذا كان هذا في يوم شديد الحر فإن المشقة تكون فيه أشد، فيرجع الإنسان حافيا في وهج الشمس، وهذا يضره أكثر، فكلما ترتب على سرقته ضرر، فإن الإثم فيه أشد، ولذلك يعظم الأمر بحسب ما ترتب عليه من ضرر -نسأل الله السلامة والعافية- ولذا لزم على الإنسان أن يحتاط، ولذلك كان بعض الفضلاء إذا وجد حذاء يشبه حذاءه لم يأخذه، حتى ولو كان يشبهه، ولو كان أقل منه قيمة وفيه شبه، بحيث يغلب على ظنه أنه قد أخذ حذاؤه، بحيث يقول: هذا بهذا، وحقي أجود، لكنه ما كان يأخذه، فيتركه حتى يأتي صاحبه، أو ينوي الصدقة به على من أخذه، وهو الأفضل، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، وقد كانوا يستبشرون بعظم البلاء في الطاعة، فكانوا يقولون: من دلائل القبول كثرة البلاء في الطاعة، وتجد الناس قديما عندما يريدون الحج يجدون المشقة في السفر، ويجلسون الأيام والشهور وهم في رحلة الحج، فالأجر أعظم والثواب أكثر، لكن إذا كان الإنسان لا يجد المشقة، فهذا من كرم الله عليه. حكم أخذ ما يشبه ما تملكه إذا وجدته موضعه عوضا عنه وقوله رحمه الله: [ومن أخذ نعله أو نحوه] . كمن أخذ قلمه، أو أخذ كتابه، وهذا يقع كثيرا في الأشياء المتشابهة، فقد يقع هذا في غير النعل، لكن النعل أكثر؛ لأن النعل يمكن أخذه بدون أن يدري الإنسان، لكن إذا كان صاحبه بجواره فلا يمكن، فإذا وضعت كتبا يشبه بعضها بعضا، أو وضعت ألبسة، كأن يضع الإنسان ألبسته مع قوم وجماعة من الناس، أو النساء في بعض الأحيان يخلعن لباسهن من العبي وغيرها، فيحصل كثير من الخطأ فيها، فالأفضل للإنسان أن ينوي الصدقة، وأن يحسن الظن بأخيه المسلم، والله يأجره؛ فالأفضل أن تنوي الصدقة حتى يكتب لك الأجر، فلا يتشدد الإنسان؛ لأنه لو أخطأ عليه أخوه فما عليه فيه تبعة، قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} [الأحزاب:5] ، وهو بشر فلا يؤاخذ على الخطأ، فالأفضل لك والأكمل أن تنوي به الصدقه حتى تحصل على الأجر. وقوله رحمه الله: [ووجد موضعه غيره، فلقطة] . أي: في موضع الحذاء، فبعض العلماء يقول كما ذكرنا: لا يأخذ الحذاء، وليس من حقه أن يأخذه، لاحتمال أن حذاءه سرق، وأن هذا الحذاء لغيره، لكن المصنف يقول: (ووجد موضعه غيره) ومعناه: أنه وجد مكان حذائه حذاء الغير، وهذا التفات للظاهر كما ذكرنا، وعند العلماء شيء يسمى: تعارض الأصل والظاهر، وقد ذكرنا الأصل والظاهر، ففي بعض الأحيان يتعارض الأصل والظاهر، فهل نقدم الأصل أو نقدم الظاهر؟ بعض العلماء يقدم الأصل، وبعضهم يقدم الظاهر، فالحذاء إذا وجده في موضع كالمسجد فالأصل أنه لغيره، أي: أنه ليس لقطة؛ لأنه مكان يرتاده الناس، وليس عندك دليل على أن صاحبه قد أضله، فتتركه، والظاهر أنه ما دام قد وضع حذاءه مكان حذائي فمعناه أن صاحبه قد أخطأ في حذائه، فتسري عليه أحكام اللقطة؛ لأن صاحبه لن يعود؛ لأنه أخذ حذاء بدل حذائه، لكن هذا ليس على كل حال؛ لأننا لو نظرنا لوجدنا أنه ربما أخذ حذاءك وجاء شخص مسكين يريد أن يصلي ووضع حذاءه مكان حذائك، فهو يريد أن يصلي ويخرج، وعندما يخرج لن يجد حذاءه، ولذلك فليس كل من وجد مكان حذائه حذاء آخر يأخذه على أنه بحكم اللقطة، فربما كان لشخص آخر غير الشخص الذي أخذ حذاءك، خاصة في مجامع الناس، مثل المساجد والمدارس والأماكن التي يكون فيها تجمع الناس، أو يدخل فيها أناس ويخرج أناس، فمن الصعوبة بمكان أن تقول: إن هذا الحذاء الذي وجدته مكان حذائي هو للذي أخذ حذائي، ويأخذ حكم اللقطة؛ لأن الأصل أنه لصاحبه حتى يدل الدليل على أنه بحكم اللقطة، وعلى هذا فلا يأخذ حكم اللقطة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الأسئلة السؤال هل تسري هذه الأحكام على لقطة الحرم؟ حكم لقطة الحرم الجواب اختلف العلماء رحمهم الله في لقطة الحرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرم: (ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد -وفي رواية: إلا لمعرف) ، فهذا يدل في ظاهره على أن لقطة الحرم لا يحل أخذها إلا بقصد التعريف، وأنها لا تملك، بل تعرف للأبد، هذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله وبعض السلف. ومن أهل العلم من فصل في هذا الحديث فقال: حديث الحرم لا يعارض أحاديث اللقطة، فالأصل العمل بأحاديث اللقطة لأنها عامة، وجاء حديث الحرم: (لا تلتقط لقطته) لأن الناس في لقطة الحرم ينتابهم شعور لا يوجد في غير لقطة الحرم في الغالب، وهذا الشعور مبني على أن مكة يأتيها الزوار دائما، فربما استخف الناس بلقطتها فيئسوا من أصحابها، فأخذوها للتملك، ولم يأخذوها للتعريف، فجاءت السنة بهذا المعنى؛ لأن الأحكام أيامها لم تستقر بعد، فبين عليه الصلاة والسلام أن لقطة الحرم لا تؤخذ بقصد الملك، وإنما تؤخذ بقصد التعريف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف -وفي رواية-: لمنشد) . وهذا الوجه يختاره الحافظ ابن حجر، وبعض الأئمة والشراح، وهو قوي جدا، وفيه الجمع بين النصوص. والذي يظهر أنه إذا عرفها وقام بها أنه يكفيه ذلك، لكن في الحقيقة لما وجد في زماننا من يقوم على هذه اللقطات، ووجدت مكاتب خاصة في الحرم، جرى العمل في فتوى بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، ومنهم الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، حيث يرى أنها لا تملك، وأنها تكون لبيت مال المسلمين، وهذا يكون باختيار من ولي الأمر، وولي الأمر إذا اختار قولا من أقوال العلماء وجب العمل به، وما دام أنه أخذ بهذه الفتوى -والشيخ عبد الله رحمه الله عليه إمام زمانه، وإمام الأئمة فقها وورعا، وفتاويه موزونة بالفقه، ويعتبر من الأئمة والعلماء الذين جمعوا بين فقه الأثر والنظر، ومن يعرف الفقه ويعرف فتاويه يعرف دقته وبعد نظره والتزامه بمنهج السلف رحمهم الله في تقرير الفتوى، وآداب الفتوى وضوابطها، وهو رحمه الله العالم العابد الذي تنعم العين بفتواه، وممن اختارهم الله برحمته الواسعة- فينبغي على الناس الالتزام بهذا ما دام أنه وضع وجرى العمل به، فتضم إلى بيت المال، ويكون حكمها حكم الصرف إلى بيت المال، فيعمل بهذه الفتوى، وحينئذ لا يجري على الخلاف الذي ذكرناه، والآن قد هيئت مكاتب للضائعات خاصة في داخل الحرم، فترد وتصرف إلى هذه المكاتب، وهي تتولى شأن هذه الضائعات، والله تعالى أعلم. حكم االزكاة عن اللقطة إذا بلغت النصاب السؤال هل تخرج الزكاة من اللقطة إذا بلغت نصاب الزكاة؟ الجواب لا تفرض الزكاة من اللقطة إذا كانت خلال السنة والحول؛ لأن الملكية لصاحبها، والزكاة لا تصح إلا بالنية، فلابد أن يكون صاحبها قد نوى زكاتها، فلو أخرجها من التقطها فلا تصلح زكاة؛ لأنه لم يؤمر بها، ويد صاحبها لم تزل إلى الأبد، بل هي باقية في يده، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (يملكها حكما) ، وعلى هذا فلا تجب زكاتها على الملتقط؛ لأنه ليس بالمالك الحقيقي، ولا بالموكل لإخراج زكاتها، والأصل في الزكاة أنها لا تصح إلا بالنية، ولا نية في ملك هذا، فلا تجب فيها الزكاة. وإذا قلنا: إنه لا تجب الزكاة على الملتقط، فإذا مضت سنوات ووجد صاحب اللقطة العشرة الآلاف، أو العشرين ألفا، فإنه يزكي عنها لسنة واحدة، هذا هو الذي عليه العمل عند جمهور العلماء رحمهم الله، أن المال إذا فات عن صاحبه ويئس منه ثم وجده، فإنه يزكيه عند وجدانه لسنة واحدة، وإن مضت عليه عدة سنوات. حكم الدعوة إلى المناسبات داخل المسجد السؤال هل تجوز الدعوة إلى الوليمة أو المناسبة في داخل المسجد؟ الجواب رخص فيها بعض أهل العلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد النكاح في داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه زوج الواهبة نفسها داخل المسجد، فقالوا: إن في النكاح معنى التعبد، أي: العبادة، فليس هو مثل البيع الذي يحرم أن يعامل به؛ لأن في النكاح شيئا من التعبد، ودعوة الناس إليه دعوة إلى المحبة والإلف، وتحقيق مقاصد الشريعة، ففيه وجه في الإذن به. ومن أهل العلم من منع الإجابة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا سمعتم الرجل ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك) قالوا: إن جملة (إن المساجد لم تبن لذلك) تعليلية، كقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بالماء والسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيبا ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) ، فدل على أنه منع نشد الضالة لأن المساجد بنيت للعبادة، والنكاح ليس بعبادة، والدعوة إلى الأكل ليست بذاتها عبادة في أصلها، فمنعوا من هذا، وإذا احتيط فهو أقرب، لكن إذا جرى العرف في موضع وعملوا بما رخص، فلا ينكر عليهم، ولا يشدد عليهم. حكم تملك الأرض ببناء الحائط عليها السؤال جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطا على أرض فهي له) ، ألا يفهم من هذا الحديث أن من أحاط السور على الأرض فقد أحياها وتملكها؟ الجواب ذكرنا في مسألة الإحياء أن الإحياء يكون على مراحل، ومنها: تسوية الأرض وبناء الحائط، وقلنا: إن بناء الحائط لا يوجب الملكية، فيشكل على ذلك هذا الحديث، وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة عند أحمد والترمذي، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف، ومن أهل العلم من صححه كله، وحكم باتصاله، كما هو صنيع الإمام الترمذي، ومنهم من ضعفه كله كما قال بذلك بعض أئمة الحديث، ومنهم من فصل فيه واستثنى بعض الأحاديث، وليس هذا الحديث منها. وهناك شيء مهم جدا في مسألة تحسين الأحاديث وتصحيحها والعمل بها إذا تضمنت معنى زائدا عن المعنى الثابت في الأصول، فالحديث الذي يأتي حسنا لغيره؛ أي: من روايات جمعت طرقها، ورقينا الحديث إلى درجة الحسن لغيره، فتدخله شبهة الرواية بالمعنى، فلا نجعل هذا الحديث معارضا لما هو أصح وثابت، فقوله: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) نص على الإحياء، (ومن بنى حائطا) فيه شيء من الرواية بالمعنى، وقد يطلق الحائط بمعنى البستان، ويكون في هذا نوع من التجوز في العبارة. لكن مسألة الاقتصار على الحائط نفسه أنه إحياء، فجمهرة أهل العلم على أنه ليس بإحياء، وفي ذلك سنة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بينا أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا) وجود الإحياء، فلو قلنا: إن بناء الحائط على ظاهره، والحديث فيه ما فيه، فإن هذا من الصعوبة بمكان، وتجد الآن أن بناء الحائط من أيسر ما يكون، ولربما جاء الرجل إلى قطعة من الأرض تبلغ الكيلومترات وأحاط بها في يوم أو يومين، وهذا تضييق على المسلمين، ومنع للمقصود من الإحياء، وحصول للضرر حتى على الناس من الإحياء بهذه الصورة، فكل شخص يبني له حائطا، وينتهي الإشكال، وفي هذا من الضرر ما الله به عليم، ولذلك فإن هذا الحديث -وإن كان بعض العلماء يرى تحسينه- لا يقوى على معارضة المحفوظ الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع معارضته للأصول، ولذلك ينبغي أن يكون الإحياء إحياء يثبت بمثله الحكم. الحكم في اشتباه الوعاءين بنجاسة وطهارة السؤال إذا اشتبه وعاءان أحدهما طهور والآخر نجس، فقد ذكرتم رحمكم الله في الدرس الخامس من الزاد أن هذا يجري على مذهب المصنف في التفريق بين القليل والكثير، والإشكال أن خليلا رحمه الله ذكر المسألة وهو لا يرى التفريق، فهل يمكن أن يقال: الوعاءان بعد اليقين بطهورية أحدهما ونجاسة الآخر، طرح فيهما شراب ونحوه مما لا يؤثر في الطهورية، فاختفت المعالم فلا يظهر لون ولا ريح، وجزاكم الله خيرا؟! الجواب في الحقيقة هذا إشكال جيد، والذي وضع هذا الإشكال أحسب أنه طالب علم، وهو إشكال في موضعه. ومختصر خليل هذا المتن معتمد عند متأخري المالكية، وقد اختصره من كتب كثيرة من مذهب المالكية، وهو من أوسع كتب المالكية التي بني عليها فقههم، خاصة من بعد القرن التاسع الهجري، والمالكية عندهم أن القليل الذي دون القلتين لو وقعت فيه نجاسة، فلا نحكم بنجاسته إلا إذا غيرت لونه أو طعمه أو رائحته. واشتباه وعاءين أحدهما طهور والآخر نجس يستقيم هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، الذين يقولون: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة ولو لم تغيره، فيمكن أن يحصل الاشتباه، لكن عند من يرى أننا نحكم بانتقال الطهور إلى النجاسة بالتغير الحقيقي، قد لا تقع هذه المسألة، وهذا في الغالب، والكلام الذي ذكرناه في الشرح كلام صحيح ومستقيم ويمشي على الأصول؛ لأن المالكي يفرق بوجود أحد الأوصاف الثلاثة: اللون أو الطعم أو الرائحة، فإذا اشتبه عنده طهور ونجس، ذهب إلى النجس في أوصافه، إما طعم النجاسة أو لونها أو رائحتها. وذكر خليل للمسألة لا يشكل على الذي ذكرنا؛ لأن خليلا ذكرها لاحتمال آحاد الصور، ومعنى هذا: أنه يمكن أن يوجد إناءان، أحدهما نجس والآخر طهور، وتغير لون الطهور، لكن طعمه لا يوجد فيه طعم النجاسة، ورائحة النجاسة لا توجد، لكن لونه كلون الدم، والذي عنده الوعاءان رجل كفيف البصر، ففي هذه الحالة لا يستطيع أن يرى اللون، أو مثلا: يتغير طعمه، ويكون الشخص مصابا بالزكام، فلا يشم الرائحة أو يجد النكهة، وهكذا إذا كان سقيما عليلا لا يستطيع أن يميز الطعم للسقم، فالفقيه يجد لهم مخرجا على كل حال. فـ خليل رحمه الله عندما ذكر هذا ذكره لآحاد الصور، ونحن ذكرناه للغالب؛ لأن الغالب في المذهب أنه يقع على هذا الوجه، وأنه يمكن أن يقع الاشتباه على مذهب الشافعية والحنابلة، لكن لا يقع على مذهب من يفرق بين النجس والطهور من جهة اللون والطعم والرائحة، إلا أنه لا يمنع وجود بعض الصور في الأحوال المنفردة على ما ذكرنا، وهذا لا يرد على ما ذكرنا، فيمكن أن يقال: إن الإمام خليلا رحمه الله نبه في ذلك على بعض الصور، والله تعالى أعلم. توضيح حديث: (رب مبلغ أوعى من سامع) السؤال هل يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من سامع) أن العالم قد يأتي بقول لم يسبق لأحد أن قال به؟ الجواب هذا أمر غريب! فقوله: (أوعى) الوعاء يحفظ الشيء، والمعنى: رب مبلغ أكثر حفظا من سامع، هذا وجه، وفي رواية: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ، وهذا ليس له علاقة من جهة أنه يستنبط مسائل لم يسبق إليها؛ لأن مراد الحديث: أن فتوح الله على العباد مختلفة، فهناك أناس أعطاهم الله الحفظ ولم يعطهم الفهم، ومنهم من أعطاهم الله الفهم ولم يعطهم الحفظ، ومنهم من جمع الله لهم بين الاثنين، وفضله، قال تعالى: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الجمعة:4] . فنبه عليه الصلاة والسلام إلى أن الشريعة تحفظ بالأمرين: بالحفظ والفهم، وهذا دليل على مسلك من يأخذ بظاهر النصوص، ومن يأخذ بمعنى النصوص، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ، فدل على أن العبرة بالفهم وبالوعي، ومن هنا قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص:29] ، فجعل العلة التدبر والفهم، والتدبر من الدبر، ودبر الشيء: آخره، ولن تستطيع أن تفهم الشيء إلا إذا بلغت إلى آخره، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى تدبر الأشياء إلا إذا كان على قدم راسخ من العلم، يدرك فيه ظاهرها وباطنها، وهذا يحتاج إلى قراءة النصوص ومعرفة الأصول والفروع، وكيف تبنى الأصول على الفروع، وكل هذا يفهم من منهج السلف، والأئمة المتقدمين رحمهم الله. أما أن يأتي بفهم في قرننا أو حتى بعد القرون الأولى ويقال: إن هذا فتح من الله، فينبغي عليك أن تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) ، ومعناه: أن تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يفت الطائفة المنصورة، وإذا مرت عشرة قرون، والأمة لم تفهم هذا الفهم، ثم يأتي رجل في القرن الرابع عشر فيستنبط فهما ما سبق إليه، فمعنى هذا أن تكون الأمة كلها في ضلال عن فهم الحديث، ويكون هذا على صواب، وما أظن أن أحدا هكذا؛ لأن الله تعالى يقول: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء:115] . وهذا ليس بالعلم؛ لأن العلم الحق الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات، زكاه بصفات منصوص عليها بآية في كتابه، قال تعالى: {بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف:4] ، فلا يكون العلم صادقا إلا إذا كان أثريا، وكان هذا الأثر مبنيا على نص ووحي؛ لأنه ربما يكون الأثر رأيا اجتهاديا ليس مبنيا على أصول، بل يصطدم مع الشريعة، والأثارة مبنية على علم، وهو الوحي الكتاب والسنة. إذا: لا نستطيع أن نفهم من النصوص فهما لم يفهمه سلفنا، ولا نستطيع أن نفسر القرآن بتفاسير عصرية تبالغ في جر القرآن وجر الآيات في تفسيرها، حتى نجد من يتبجح ومن ينتسب إلى فهم القرآن وهو ممن ليس عنده إيمان، ونقرأ تفسيره وكلامه وليس عنده إيمان بأصول التفسير، ولا يعرف منهج السلف في التفسير، ولا يعرف ماذا قال الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان في تفسير الآية، كقوله تعالى: {فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق:16 - 19] ، فلقد سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يقول: الآن نفكر أن نقول: إن معنى الآية هو الصعود إلى القمر؛ لأننا لا نصعد إلا آخر الشهر عند ضعف القمر لا إله إلا الله!! {فلا أقسم بالشفق} [الانشقاق:19] * {والليل وما وسق} [الانشقاق:17] * {والقمر إذا اتسق} [الانشقاق:18] آيات من الزمان مرتبة ترتيبا يقصد منه الكمال؛ لأن الله يقسم بأول الزمان وآخره، حتى يجمع الكل بقسمه سبحانه، ويقسم بأول الشيء وآخره للدلالة على ذلك الوقت بعينه، كقوله تعالى: {والضحى * والليل إذا سجى} [الضحى:1 - 2] ، {والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها} [الشمس:1 - 2] ، يقسم بالزمان والمكان تنبيها عليه، فقوله: (والقمر إذا اتسق) أي: اكتمل، وقوله: (لتركبن طبقا عن طبق) أئمة التفسير والصحابة يقولون: أي: أنكم ستمرون في المراحل التي فيها البرزخ، يبعثكم الله فيها، ثم طبق آخر، ومرحلة ثانية، ومراحل النشر، والخروج من القبور، ثم عرصات القيامة، من عرصة إلى عرصة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وهو الذي جادل فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن نأتي ونلغي هذا التفسير كله، ونقول: إن معناه الصعود إلى القمر؟! لماذا هذا التهور والجرأة على كتاب الله وكلام الله؟! أنترك كلام المشايخ والعلماء ونأخذ بهذه النظرية، والنظرية قابلة للأخذ والعطاء؟! فليس بمجرد أن نسمع بنظرية نقيم الدنيا ولا نقعدها، ونجر كتاب الله من أجل هذا الاكتشاف، حتى إذا جاء من يخطئ هذه النظرية نخطئ كتاب الله عز وجل!! لا يمكن هذا، ولا يجوز هذا، ولذلك ينبغي علينا التورع والتحفظ، وأن نضرب بالأفهام عرض الحائط إذا خالفت أقوال السلف، فنحن أمة قديمنا جديد وجديدنا قديم، لا صلاح لنا إلا بما سار عليه سلفنا وأئمتنا، وثق ثقة تامة أن كل شيء ينزع عن سلفك الصالح أنه ضلال مبين، وأي شيء ينهاك عن اتباع السلف أو يشكك في علمهم، أو يخفف من حبك لهم؛ فاعلم أنه بداية الضلال والنهاية، وإذا أردت أن تلقى الله على السبيل والمحجة والهداية فاستمسك بالذي كان عليه السلف الصالح رحمهم الله، ولا تعتقد في كتاب الله أي فهم، ولو قلت: هو من عندي، حتى تعرف من الذي قال بهذا الفهم، وهل هذا الفهم مبني على علم ونور اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأئمة المشهود لهم الذين زكاهم الله عز وجل، وجعلهم أئمة في هذه الأمة، واختارهم؛ كالسلف الصالح، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية والفضل، فإن كان ذلك فنعمت به العين، فليستمسك به الإنسان. ثم اعلم أن الاستمساك به أن تستمسك به بقوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) ، ومحدثات الفهم، ومحدثات المنهج، فأي شيء يخالف هذا المنهج الموروث، فإننا لا نقبله ولا نعمل به، والكرامة كل الكرامة في اتباع السلف رحمهم الله. وقد تجد ضالا أو مبتدعا يقول في دين الله ما لا علم له، فيكون جريئا على أقوال السلف ويضرب بها عرض الحائط، ويأتيك بفهم من عنده في كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغت به الجرأة في كتاب الله وسنة المصطفى هذا الحد، فلماذا لا تكون جريئا على التمسك بالحق؟ كما قال علي رضي الله عنه -وهو يتعجب من أهل الأهواء-: (فواعجبا من اجتماع هؤلاء على ضلالة، وتفرقكم على الحق!!) . فينبغي أن نستمسك بالحق، وأي فهم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل إلا من عالم له الحق، أن يتكلم في كتاب الله وسنة المصطفى، وما كان عليه السلف الصالح من أحاديث ونصوص، وما وضعوا لها من قواعد في شرحها وفهمها، ووالله لو أفنينا أعمارنا في تتبع ما قاله الأئمة في دواوين العلم في تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفنيت أعمارنا وما حصلنا من ذلك إلا على ما أذن الله لنا منه، فكيف يأتي الإنسان ويقول: إننا لا نحتاج إلى هذا كله، بل نفهم مباشرة؟! فربما يأتي الإنسان بفهم لا يفهمه الأوائل. فلا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يخون الأمة، وعلى كل طالب علم أن يتقي الله في علمه، فإذا جلس في مجلس علم، واستمع له الناس؛ فليعلم أنه على شفير جهنم، فقبل أن ينظر إلى مدح الناس، عليه أن ينظر إلى نار جهنم أمام عينيه إن زلت قدمه، أو أصابه الهوى في قلبه فأصبح يقول على الله ما لا علم له، فيجب أن لا تقول إلا بحجة، فإن الناس لم يأتوا يستمعون إليك -سواء في محاضرة أو في درس أو في كتاب تؤلفه في الإعجاز، أو غير ذلك من المسائل المستنبطة -إلا وهم يأمنونك على دين الله وعلى شرع الله، فينبغي أن تتقي الله فيما تقول، وتتقي الله فيما تقرر وفيما تبين، ولا بد أن نكون على شرع الله عز وجل الذي أمر به وأذن به لعباده، قال تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس:59] ، وقال تعالى: {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب} [يونس:60] ، ما ظنهم بالله سبحانه وتعالى؟! ولذلك قرن الله بالشرك أن نقول على الله ما لا علم لنا به، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يجمع بين العلم وبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأصل العلم الخشية من الله تعالى. فأقول: إن كل من يشككك في السلف، أو ينزع الثقة من السلف، بطريق مباشر أو غير مباشر، فلا تلتفت إليه ولا تعول عليه، ويكفيك ما عند السلف من العلماء المشهود لهم بالعلم، والذين اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذ بعلمهم ودع ما سوى ذلك، وإذا جاء شخص يقول: لا تتبع أحدا إلا أنا، وأنا صاحب السنة وحدي، فقد زكى نفسه على الله، والسلف تجدهم يقولون: قولي صواب يحتمل الخطأ، وهو كأنه يقول: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، ويأتي ويقول بلسان حاله: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا قولي أنا! بدليل أنه يأتي إلى المسألة ولا ينبه إلى أن هناك قولا مخالفا، فيختار هو باختياره وفهمه، ولا يقول: على قولين أصحهما، أو هناك قول ثان وثالث؛ ويقول الله تعالى، ويقول عليه الصلاة والسلام ضابط اللحية وحكم أخذ ما زاد منها على القبضة السؤال هل يجوز أخذ شيء من اللحية؟ أو أخذ شيء منها مما ينبت على الخدين؟ وما هو حد اللحية؟ وما صحة ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ ما فوق القبضة؟ الجواب اللحية عند العلماء فيها وجهان: فمن أهل العلم من قال: إن اللحية ما نبت على عظم اللحي والذاقن، فعظم اللحية الفكان، وعلى هذا فتخص هذا اللحية بما على الفكين، وما كان فوق مما على الوجنة أجازوا أخذه، وما نزل مما على الحلق أو على الرقبة وتحت الصدر مما يلي الرقبة يجوز أخذه، قالوا: إنه ليس بلحية، ولذلك لو نبت لشخص شعر على رقبته، ولم ينبت له على وجهه، فليست بلحية؛ لأن اللحية أصلها عند العرب من اللحي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أرخو اللحى) جاء مخصوصا بهذا الوجه. هذا ما ذهب إليه طائفة من العلماء رحمهم الله، فرخصوا في حلق شعر الوجنة، وهو الشعر الذي على الخدين، وقالوا: يجوز أخذه حلقا أو تخفيفا. وبعض أهل العلم يقول: إن التعبير باللحية هو الأصل، وما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك اعتبر أن اللحية ما نبت على الخدين، فلا يؤخذ منه شيء، وكذلك ما نبت على الرقبة مما يلي اللحية لا يؤخذ منه شيء. فمن ترجح عنده القول بأن اللحية على الضابط الأول وأخذ برخصته، فلا ينكر عليه، وله أئمة وله سلف، ومن أخذ بالقول الثاني، فذلك أتقى لربه وأورع، وهو أنه لا يأخذ مما على الخد شيئا؛ بل يتركه، لكن لا ينكر على من فعل ذلك؛ لأن له سلفا وله علماء، وهناك علماء أجلاء من أهل العلم من السابقين ومن الماضين ومن الأحياء يرى هذا القول، فلا ينكر عليه، ولا يحتقر العالم إذا بقيت لحيته على اللحي وتأول في ذلك قول من قال بهذا، فلا ينكر عليه لأن له وجها، وله سلفا، حتى إن قوله له أصل من اللغة، لكن الأورع والأتقى لله عز وجل أن يترك ذلك كله، وأن لا يؤخذ منه إلا السبلة وهي الشعر الذي تحت الشفقة السفلى، فقد كانت اليهود تتركها، ولذلك تجد الآن بعض الشباب يحلق اللحية كلها ويترك هذه السبلة، وهذا فعل اليهود، والسبلة قد خفف فيها بعض الصحابة حتى كان بعضهم يأخذها، ويأخذ بعضها ويخفف منها، ويقولون: إن هذا يرخص فيه من جهة العشرة الزوجية، فخففوا في هذا، وخففوا في الأخذ منها، ومن أطرافها، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمهم الله، فلا ينكر على من أخذ شيئا منها، لكن الأتقى أن يترك الإنسان ذلك كله، وأن يبقيه على الأصل، وهو إن شاء الله أولى بالصواب، وإنما ذكرنا هذا حتى لا ينكر على من خالف. أما ما ورد عن ابن عمر فقد ورد بأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وهو أصح ما ورد عن ابن عمر، فليس هناك رواية وردت عن ابن عمر أصح من هذه الرواية، وهي أنه كان إذا حج قبض على لحيته، وأخذ ما زاد، وهذا الفعل للعلماء فيه وجهان: فبعض العلماء يقول: ابن عمر هو الذي روى حديث اللحية، وقد كان من ألزم الصحابة للسنة فلا يعدل عنها، ولا يحيد عنها، فكيف وهو في النسك؟! والرواية عنه واردة أنه كان إذا حج واعتمر قبض على لحيته، وأخذ ما زاد عن القبضة، وما تطاير من العارضين، ولم يستمسك إلا بما هو من أصل اللحية، فقالوا: إن ابن عمر كان حريصا على السنة، حريصا على اتباعها، فلن يفعل شيئا إلا وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وبناء على هذا القول يرى أصحابه أنه في حكم المرفوع، حتى إن بعض العلماء في تكبيرات صلاة الجنازة يرفع اليدين، ويقول: إنه لا يعقل عن ابن عمر أنه يرفع يده في الصلاة إلا وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، قال: فإذا كان هذا في الصلاة فكيف في الأمور التي هي دون الصلاة! ولا شك أن ابن عمر كان يسمى: الأثري، من كثرة لزومه للسنة، فقد كان يخرج من المدينة إلى مكة ولا ينزل إلا في المكان الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومراده بذلك تحري السنة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم متابعة تامة كاملة، فقالوا: لا يعقل من مثل هذا أن يفعل هذا الفعل في النسك من نفسه، خاصة أن الحلق والتقصير من النسك، فقالوا: إن الأشبه فيه أنه مرفوع هذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: بناء على هذا الوجه تكون السنة في اللحية إرخاؤها، فما زاد عن القبضة فمحل الرخصة، إن شاء تركه، وإن شاء أخذ منه، فإن أخذ منه فبناء على القول بأن فعل ابن عمر يكون فعلا من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان؛ لأن الثابت عنه أنه كان إذا رجل لحيته ملأت صدره، وكان كث اللحية عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا يكون هذا الفعل في بعض الأحوال إذا كانت مرفوعة، أما إذا كان هذا الفعل من ابن عمر اجتهادا، كما يقول بعض العلماء أنه كان يتأول قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) [الفتح:27] ، فيحلق رأسه ويخفف من لحيته فيما زاد عن القبضة بالتفصيل الذي مضى؛ فيراه اجتهادا. وهذا القول في الحقيقة يسوغ فيه اجتهاد، فقوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) أقل ما يصدق عليه اللحية يكون ما فعله ابن عمر، فيكون تفسيرا، بحيث نقول: إن ما دون القبضة لا يؤخذ به؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه فسر اللحية بالقبضة فما فوق، فما دونها لا يجوز أخذه، والبعض يأخذ القبضة بأصبعه الإبهام والتي تليها، وهذه ليست بقبضة؛ بل هذا حلق؛ لأنه لا يبقى منها شيء، فلا ينبغي الاحتيال. وبعضهم يقول: المراد قبضة مطلقة، بحيث لو قبضت ابنته الصغيرة أو ابنه الصغير فهي قبضة، وهذا التلاعب لا ينبغي؛ بل يبقى كل على قبضته، فيقبض ويأخذ ما زاد عن قبضته، فإن أراد أن يأخذ بهذا القول فلا ينكر عليه، وإن أراد الأفضل والأكمل وهو أن يترك لحيته، فهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (باب اللقيط) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (389) صـــــ(1) إلى صــ(25) شرح زاد المستقنع - باب اللقيط هذه الشريعة السمحة جاءت بالرحمة والإحسان، تدعو الخلق إلى رحمة بعضهم بعضا، والإحسان إلى بعضهم بعضا، ومن ذلك ترغيبها في حفظ اللقيط والقيام بشئونه وما يحتاج إليه، وفي ذلك أحكام كثيرة، ومسائل متنوعة؛ بينها أهل العلم رحمهم الله. تعريف اللقيط لغة وما يتعلق به من أحكام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب اللقيط] : اللقيط هو: الشخص الذي يلتقطه الإنسان ولا يعرف والداه، مأخوذ من الالتقاط، وأصل الالتقاط: رفع الشيء من الأرض، والمراد باللقيط: الطفل الذي لم يعرف أبواه، إما أن يكون منبوذا بمعنى: أن والده أو والدته وضعاه تخلصا من تبعته، كما يقع -والعياذ بالله! - من المرأة في حال زناها، أو يكون من الوالد والوالدة بتواطؤ منهما، كما يقع من بعض ضعاف النفوس في حال الفقر؛ أنهم ربما تخلوا عن أولادهم. واللقيط له أحكام، تكلم العلماء رحمهم الله عليها، ووردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جملة من القضايا في حكم التقاط اللقيط، وما يترتب على ذلك الالتقاط. ومناسبة ذكر اللقيط بعد باب اللقطة: أنه نوع خاص مما يلتقط، ويرفع ويؤخذ، فاللقطة تقدم معنا أنها في الأموال، وأما اللقيط، فإنه في الإنسان خاصة، وسيأتي إن شاء الله تعريف اللقيط اصطلاحا كما سيذكره المصنف رحمه الله، ونبين حقيقته، فهو نوع خاص من الالتقاط، وتكون المناسبة بين باب اللقيط وباب اللقطة: أنه شروع في الخاص بعد العام؛ لأن الكل متعلق بالضائع والمفقود والموجود للغير. وهذا الباب يبين العلماء رحمهم الله فيه أمورا: الأمر الأول: حقيقة الملتقط، وهو الشخص الذي يلتقط. الأمر الثاني: حقيقة الشخص الذي يحق له الالتقاط. الأمر الثالث: صفة الالتقاط. فيبينون الأحكام والمسائل المتعلقة بوجوب النفقة عليه، وهل تكون من الملتقط أو من بيت مال المسلمين، والآثار المترتبة على هذا الالتقاط من حيث ولائه وميراثه وتبنيه، وغير ذلك من المسائل والأحكام التي تترتب على أخذ اللقيط. ولا يزال هذا الأمر موجودا في كل عصر، وفي كل زمان ومكان، ولا يختص وجود اللقيط بحال الخوف من الزنا أو الفقر، وإنما يقع في بعض الأحيان بسبب الضياع، كأن تفقد الأم صغيرها، أو يكون الولد مع والده، ثم يضيع عنه ويتيه، فكل هذا من أسباب وجود اللقيط. وقوله: (باب اللقيط) . أي: في هذا الموضع سنذكر جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بأحكام التقاط الأطفال. تعريف اللقيط اصطلاحا وأسباب وجوده قال المصنف رحمه الله: [وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل] . قوله: (وهو طفل) خرج البالغ، فالبالغ لا يوصف بكونه لقيطا، فمن بلغ لا نحكم بكونه لقيطا. ولكن لو أن بالغا وجده إنسان في مكان فيه أناس يخشى عليه منهم، وهو يستطيع حمايته ونصره وحفظه حتى يخرج من هذا البلاء، فإنه يجب عليه أن يحفظه، وأن يأخذه ويصونه وينصره؛ لأن من ولاية المسلم لأخيه المسلم أن ينصره ويحفظه وينصح له، وقد نص العلماء رحمهم الله: أنه لو جاء رجل غريب إلى موضع، وخشيت عليه أن يتعرض للضرر، أو غلب على ظنك أنه لو ترك وحده أوذي في ماله أو عرضه أو نفسه، فحينئذ وجب عليك نصرته؛ لأنه مسلم، والمسلم أخو المسلم لا يسلمه للضرر، ولا يخذله إذا استنصر به، وقد قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال:72] ، فالله سبحانه وتعالى أمر بنصرة المسلم، وقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما، أو مظلوما) ، فلا يجوز التخلي عن حفظ المسلم ورعايته، متى احتاج إلى حفظك بعد الله سبحانه وتعالى، وأمكنك أن تقوم بهذا الحفظ، ولم يوجد غيرك؛ وجب عليك ذلك، أما لو وجد غيرك وقام بهذا، فإنه فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين! والأطفال ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: من كان دون سن التمييز. القسم الثاني: من كان مميزا. من كان دون التمييز، فهذا بالإجماع لقيط، فإذا قلنا: التمييز من سبع سنوات، ووجدنا طفلا عمره سنة أو سنتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا أو ستا، فهو دون التمييز، وبالإجماع أنه يكون لقيطا. لكن إذا بلغ سن التمييز، ففيه قولان للعلماء: من أهل العلم من يقول: اللقيط من كان دون التمييز من الأطفال، أما من ميز وبلغ السابعة، أو العاشرة على قول، فليس لقيطا، وبعضهم يقول: يربط التمييز بالصفة، فالصبي المميز هو: الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمن كان كذلك فلا يعتبر لقيطا، ويتركه وشأنه إذا كان قد استقل بنفسه؛ لأنه في السابعة يستطيع أن يصرف نفسه، والصحيح أنه من كان دون البلوغ سواء كان مميزا أو دون التمييز، فإنه لقيط اعتبارا للغالب، وهو أن الشخص لا يكون خارجا عن هذا الوصف إذا وجد، إلا إذا كان بالغا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) ، فهو لا عقل عنده، ولا حلم عنده ولا يؤمن أن يدخل الضرر على نفسه، ولذلك احتاج إلى رعاية، وقد قرر العلماء: أن قوام الالتقاط وأساس الالتقاط وموجب الالتقاط إنما هو خوف الضرر؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يرعى نفسه في مثل هذه السن؛ وذلك لفقد العقل والإدراك وحسن التصرف في الأمور، فمن كان دون البلوغ فإنه ينطبق عليه ذلك. وقد يحسن تصرف بعض المميزين في بعض الأحوال وهذا نادر، والنادر لا حكم له. إذا: اللقيط هو: من كان دون البلوغ على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، سواء كان مميزا أو كان دون التمييز. وقوله: (طفل) عام يشمل الذكر ويشمل الأنثى، وهذا الطفل له صفات ذكرها بقوله: (لا يعرف نسبه) فخرج الذي يعرف نسبه، فلو جاء جار لجاره، أو ابن عم لقريبه، وقال له: إن أولادي كثر، وهذا ابني فلان، أريد أن أدفعه إليك، تحفظه وترعاه وتقوم عليه، فليس هذا لقيطا، وقد كان هذا من عادات الناس حتى في الجاهلية، فكان الأخ ربما يعين أخاه في رعاية أولاده، وهذا المنبغي على المسلم أنه إذا أحس أن أخاه بحاجة إلى إعانة؛ وذلك لكثرة ولده، وأحس أن هناك مشقة على أخيه وأهله؛ سعى في رعاية ولده مع ولده، وضم أولاده أو بعض أولاده إليه، تخفيفا عن أخيه، وهذا من أفضل البر، ومن أعظمه ثوابا، وأحسنه عاقبة، وبالأخص إذا كان القريب يتيما، كأن يموت أبوه، فيقول للأم: ضمي أولاد أخي إلي، أو اتركي أولاد أخي يأتون إلي، يطعمون من طعامي، أو يتولاهم بالرعاية والإحسان، فهذا لا يسمى: لقيطا، فلا يأخذ حكم اللقيط من كان والده معروفا ووالدته معروفة، أو والداه معروفين. فاللقيط هو مجهول الوالدين، فيوجد مثلا في مضيعة، كقافلة نزلت في مكان ونسيت هذا الولد، أو يوجد في برية، كأن يوجد في البساتين، أو يوجد في مجامع الناس، أو في الحدائق ونحوها، أو يكون ضائعا، كأن يوجد في الأسواق، أو في الأماكن التجارية التي ينتابها الناس، وهو يبكي لا يعرف والديه، أو يكون ممن لا يحسن الكلام, أو يكون طفلا في مهده يصيح ولا يعرف له والد، فهذا كله يأخذ حكم اللقيط، ويوصف بكونه لقيطا، لعموم قوله: (وهو طفل لا يعرف نسبه) ، والنسب في اللغة الإضافة، يقال: نسب الشيء إلى الشيء، إذا أضافه إليه، والنسب في اصطلاح العلماء هو: القرابة، ووصف القريب بكونه نسيبا؛ لأنه يضاف إلى قريبه، فيقال: محمد بن عبد الله، فهذه الإضافة نسبه، وكذلك يقال: ابن عم فلان، والنسب سمي: نسبا؛ لوجود الإضافة فيه. قوله: (ولا رقه) ، يعني: لا يعرف هل هو حر أو رقيق، فوجود الجهالة فيه مشترط للحكم بكونه لقيطا. قوله: (نبذ) ، أصل النبذ الطرح، وقد يطلق المنبوذ بمعنى المتروك من الناس، أي: الذي قد جفاه الناس وتركوه، فيطلق النبذ بمعنى: الجفاء كما قال تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا} [آل عمران:187] ، أي: جفوا كتب الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى، وكأنهم ألقوها وراء ظهورهم -نسأل الله السلامة والعافية- إعراضا عنها، وتركا للعمل بها. ويطلق النبذ بمعنى: الطرح، ومنه سمي النبيذ: نبيذا؛ لأنه ينبذ في الماء التمر أو نحوه، ثم يترك أياما حتى يوصف بكونه نبيذا، فالنبذ أصله الطرح، لكن هل اللقيط يكون منبوذا؟ اللقيط يترك في الحقيقة، وليس معناه أن أمه لا تريده، وليس معناه أن أباه لا يريده، ولكن المراد أن أمه أو أباه تجليا عنه لوجود ضرر كما في حالة -والعياذ بالله- زنا المرأة، فقد تزني المرأة بالغصب والقهر، وتستتر في حملها، وتختفي ولا تعلم أحدا بذلك، فإذا وضعت، أرادت أن تتخلص من تبعة هذا الضرر الذي دخل عليها، فتأخذ الولد إلى مكان وتتركه منبوذا، أي: متروكا. وقد يشق على والديه تبعة النفقة عليه، فيحمله والده أو تحمله والدته إلى مكان فيه أقوام أغنياء، فهي تحس أن الولد لو بقي عندها يتضرر، ولا تستطيع أن تأتيهم وتقول لهم: ربوا هذا الولد، فتتركه منبوذا حتى يشفقوا عليه , وتعطف قلوبهم عليه، فيحملوه، وقد تفعل ذلك لأسباب أخرى، وهذا حال النبذ، أما حال الترك والنسيان كما لو جاءت أمه إلى موضع ثم نسيته فيه. قوله: (أو ضل) كالطفل الذي يمشي ومعه والدته، ثم فجأة يتيه في زحام الناس، ولا يعرف أين ذهب، ويعجزها أن تجده، ففي هذه الحالة يكون ضائعا، وفي الحالة الأولى تكون هناك أسباب ودوافع للضياع من المرأة، أو من والد الطفل أو منهما معا، وفي الحالة الثانية: يكون ضياعه بسبب من الطفل نفسه لا من والديه. حفظ اللقيط فرض كفاية على المسلمين قال المصنف رحمه الله: [وأخذه فرض كفاية] . أي: وأخذ اللقيط فرض كفاية، والأصل في الالتقاط عمومات الشريعة وأصولها التي تدل على: أن المسلم مطالب برعاية أخيه المسلم ودفع الضرر عنه، وتحصيل الخير له ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهذه نسمة بريئة، كما لو وضعت قصدا والذنب ذنب غيرها، كأن تكون بنت زنا والعياذ بالله! فلا تحمل إثم غيرها، ولا خطيئة غيرها. ففي هذه الحالة فإن الشريعة أوجبت على المسلم أن يرعى أخاه المسلم، وأن يسعى في حفظ النفس المحرمة، ولذلك قال تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة:32] ، فالطفل الضائع لو لم يلتقطه أحد ربما أكله السبع، وربما داسته سيارة، أو نحو ذلك إذا كان في مكان خطر، فهو آيل إلى الهلاك إذا لم يلتقط، والله أمرنا بحفظ الأنفس المحرمة، وبين أن من أحياها وسعى في إحيائها -بتعاطي الأسباب- فكأنما أحيا الناس جميعا، قال بعض المفسرين: أي: في الأجر والثواب، فقوله: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) أي: أنه لو رحم هذه النفس، فإنه سيرحم كل الناس؛ لأن المعنى الموجود في هذه النفس موجود في غيرها. فلذلك أصول الشريعة العامة تدل على أن النفس المحرمة ينبغي السعي في استبقائها، ومن هنا قال العلماء: لو رأيت مسلما يغرق، وغلب على ظنك أنه يمكنك إنقاذه بسباحة أو رمي وسيلة تكون سببا في إنقاذه؛ فحينئذ يتعين عليك إنقاذه، ووجب عليك إنقاذه إذا لم يوجد غيرك يقوم بهذا. ومن هنا قالوا: التقاط اللقيط فرض؛ لأن حفظ الأنفس المحرمة والسعي في استبقائها واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه نفس محرمة ضائعة، إذا لم نسع في نجاتها فإنها هالكة، وقد قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2] ، فمن أبر البر أن يحفظ المسلم ولد غيره، فهذا من بره لأخيه المسلم، وقد جاء عن: عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما حكما بالتقاطه، فجاء عن سنين أبي جميلة أنه وجد لقيطا، وقيل: إن أهله وجدوا لقيطا، فذهب به إلى عمر فلم يجده، ثم جاءه في اليوم الثاني، فلما قدم على عمر، غضب عمر رضي الله عنه، وقال كلمة ثقيلة في حق الرجل، وكان من عادة عمر أنه يجعل على كل قبيلة وجماعة عريفا، فقال العريف -واسمه سنان: يا أمير المؤمنين! إن الرجل معروف بالخير -يقصد أبو جميلة سنين - فقال عمر: أو ذاك؟ قال: نعم، قال: إذا كان كذلك، فهو حر -يعني اللقيط- ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، وفي رواية: وعلينا رضاعه. فهذا يدل على مشروعية الالتقاط وضم اللقيط إلى ملتقطه، لقضاء عمر بذلك، ولا شك أن التقاط اللقيط من الأعمال الصالحة، والإجماع بين أهل العلم رحمهم الله منعقد على مشروعية الالتقاط في الجملة، وأنه يشرع على المسلم أن يلتقط اللقيط إذا وجده في ديار المسلمين. الحكم بحرية اللقيط على الأصل قال المؤلف رحمه الله: [وهو حر] . أي: أن اللقيط محكوم بحريته، قال العلماء: لأن الله جعل آدم وذريته من حيث الأصل أحرارا، والرق طارئ وعارض، فيصطحب الأصل بحريته، ولا نحكم بكونه رقيقا حتى يدل الدليل على كونه رقيقا، فيتبع من هو رقيق له، أما إذا لم يقم الدليل على ذلك بقينا على الأصل، فهو حر محكوم بحريته. والحر ضد الرقيق، والأصل في ذلك ما ذكرناه، وهو أن الأصل الحرية حتى يدل الدليل على الرق، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه -في قضائه في القصة التي سبق الإشارة إليها- أنه قال: وهو حر، ولك ولاؤه، فأثبت له الحرية، ويترتب على هذا الحكم مسائل، منها: مسألة جنايته على غيره، ومسألة جناية غيره عليه، وهل يملك أو لا يملك، فكل هذه مسائل تتفرع على الحكم بحريته، فلو أن هذا اللقيط اعتدى عليه أحد بعد سنة أو سنتين، كأن داسه بسيارته فمات، أو قتله بجناية خطأ، فإنه يلزمه دية، وتكون هذه الدية لبيت مال المسلمين، ولو فرضنا أنه جاء رجل وأقام شاهدين على أنه ولده، فحينئذ يحكم بكونه وارثا له، ويأخذ الدية ويستحقها. ولكن إذا حكم برقه فحينئذ يكون الأمر مختلفا، فدية الحر غير دية الرقيق، فيختلف الحكم من حيث الدية، وما يتبع الدية من مسائل الأحكام، وكذلك لو أنه جنى على شيء فكسره، وأتلفه، فالحكم يختلف إذا حكمنا بحريته وتتفرع مسائل: منها: أن يكون ولاؤه لبيت مال المسلمين، بمعنى: أن بيت مال المسلمين يحمل عنه العاقلة في جنايته، كما أن بيت مال المسلمين يستحق الدية إذا اعتدي عليه. حكم ما وجد مع اللقيط من المال الظاهر والمدفون والمتصل والقريب قال المصنف رحمه الله: [وما وجد معه أو تحته ظاهرا أو مدفونا طريا، أو متصلا به كحيوان وغيره أو قريبا منه؛ فله] قوله: (وما وجد معه) ، أي: إذا كان هذا اللقيط معه مال، حكمنا بملكيته للمال، وهذا ينبني على أن الصبي يملك، وقد اختلف الفقهاء: هل الصبي يملك أو لا يملك؟ إذا قلت: إن الصبي يملك، ففي هذه الحالة له يد على جميع ما معه من النقود، أو من اللباس، أو من الأشياء التي يجلس عليها، كالفراش ونحوه، وقد يكون فراشا ثمينا، أو يكون على دابة غالية الثمن، فجميع ما يتصل به من المال، يحكم بكونه مالكا له؛ لأنك إذا قلت: إنه لا يملك، فهذا المال يضم إلى بيت مال المسلمين؛ لأن صاحبه غير معروف، لكن لو قلت: إنه يملكه اللقيط، فهذا المال ينفق عليه. فهناك فرق بين قولنا: إنه يملك، أو لا يملك، والحكم عند العلماء أنه يملك، وجرت العادة خاصة إذا كان اللقيط من الزنا نسأل الله العافية! وكانت أمه ثرية غنية، أنها تشفق عليه، وتضع مالا كثيرا معه؛ لأنها تعلم أنه سينفق عليه سنوات، ومدة طويلة، فتضع المال بجانب الثوب الذي عليه، أو بين الثوب وبين صدره محمولا معه، أو في محفظة مربوطة به، أو ملتصقة بثيابه، أو تضع النقود تحت الولد بينه وبين فراشه، بحيث لو جاء أحد يحمله رأى النقود، فجميع هذه الأشياء يحكم بكون اللقيط مالكا لها، وإذا حكمت بكونه مالكا لها، جاز الصرف منها مباشرة، وهل يفتقر إلى حكم القاضي أو لا يفتقر؟ إذا قلنا بالقول الأول: إنه يملك، فإنه يصح بيعها مباشرة إذا كانت أعيانا، ولم تكن نقودا، ثم ينفق عليه منها، وإن قلنا: إنه لا يملك يرجع إلى القاضي، وينتظر حتى يحكم القاضي له، ويأذن له بالولاية عليه، ثم يأذن له بالتصرف فيما فيه مصلحته. وقوله: (أو تحته) ، أي: تحت الصدر مثلا أو بينه وبين فراشه، فهذه الأموال التي وجدت معه أو تحته، أو في جيبه، أو متصلة به؛ نحكم بكونها له، بدليل الظاهر، ونحن ذكرنا أن الدليل يكون أصلا، ويكون ظاهرا، فهذه من أدلة الظاهر، فإذا وجدنا لقيطا ووجدنا تحته نقودا، أو وجدنا في جيبه نقودا، فالظاهر من الحال أن وليه قد وضع هذه النقود لمصلحة هذا الصبي، وللقيام على شئونه، فنعمل بهذا الظاهر. وأما المال المستتر الخفي: مثل النقود المدفونة تحته، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يحكم بكونها من ماله أو لا يحكم بكونها من ماله؟! وسيأتي بيان الحكم في هذه المسألة. وقوله: (ظاهرا) بحيث يوجد دليل على الظاهر، والشريعة تحكم بالظاهر، ولذلك لو أن اثنين اختصما في بعير، أحدهما يركب في المقدمة، والثاني يركب في المؤخرة، فنحكم بكونه للذي في المقدمة؛ لأن ظاهر الحال أنه هو القائد، والقائد هو الذي يملك الدابة، ويتصرف فيها، وهكذا في زماننا لو اختصم اثنان في سيارة، أحدهما في مقعد السائق، والثاني في المقعد الخلفي، فإننا نحكم بالذي يقود؛ لأن الظاهر أنه مالك لهذا الشيء، وهكذا لو اختصما في شيء محمول، أحدهما يحمله، والثاني لا يحمله، فالظاهر يدل على أنه ملك للذي يحمله، فالظاهر تحكم به الشريعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كما في الحديث الصحيح: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) ، وهذا يدل على أن الظاهر يحتكم إليه، فنحن إذا ظهر لنا أن مع الصبي نقودا معلقة به، أو موضوعة في جيبه، أو موضوعة بجواره ملتصقة به، فإن هذا الظاهر يدلنا على أن هذه الأموال للذي وضعه، وقصد منها أن تكون لمصلحة اللقيط، فإذا قلت: إنها للقيط، فإنه يحكم بها له لما تقدم، أما لو لم تأخذ بهذا الظاهر، فإنه يصبح حكمه حكم اللقطة، فيصبح اللقيط له حكم، والمال الموجود معه له حكم آخر، والأول يعامل معاملة أحكام اللقيط والآدمي، والثاني -وهو المال الذي معه- يعامل معاملة اللقطة، والصحيح أنه ليس بلقطة، وإنما يؤخذ مع اللقيط ويكون ملكا له. وقوله: (أو مدفونا طريا) وذلك كما لو حمل اللقيط، ثم نبش الأرض تحته فوجد مالا، فهل نحكم بأن هذا المال المستتر الباطن حكمه حكم الظاهر؟!! من أهل العلم من قال: لا يحكم إلا بما مع اللقيط أو ملتصق به، كأن يكون بجواره، أو قريبا منه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الإنسان إذا جلس وضع رحله بجواره، ووضع متاعه بجواره، فما وجد بجوار اللقيط أعطيناه حكمه، والقاعدة تقول: ما قارب الشيء أخذ حكمه، فنحن نحكم للقيط بما قاربه؛ لأنه في حكم ماله وتابع له، لكن إذا كان مدفونا تحته فليس بملك له، ونعتبره لقطة، ويأخذ حكم اللقطة، سواء كان الحفر طريا، أو كان غير طري. ومن أهل العلم من فصل، وهو اختيار طائفة من العلماء، وممن اختاره القاضي ابن عقيل وغيره من فقهاء الحنابلة، فقالوا: إذا كانت الأرض التي تحت اللقيط هشة طرية، حديثة العهد بالنبش، وفيها مال؛ فإننا نعلم من دلالة الظاهر أنها موضوعة من أجل اللقيط، ويغلب الظن أنها للقيط، وحينئذ ينفق عليه منها، ويكون مالا له، وأما إذا كانت يابسة غير طرية، فنبشت ووجد مال، فنحكم بكونه لقطة، وتأخذ حكم اللقطة. وقوله: (أو متصلا به) أي: كحيوان متصل به، كأن يكون مربوطا بجواره، أو وجد متاع بجواره، كحقيبة فيها مال أو فيها ثياب له، ونحو ذلك. وقوله: (أو قريبا منه) أي: أن القريب منه يأخذ حكم المتصل به كالسجاد التي يجلس عليها، والفراش التي ينام عليها والحافظة التي يوضع فيها، فكل هذا يكون متصلا به. وقوله: (فله) ، أي: للصغير، فاللام للتمليك، والضمير عائد لهذا الطفل اللقيط، ويحكم بكونه مالكا له. الإنفاق على اللقيط من بيت مال المسلمين إذا لم يكن معه مال قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه منه وإلا فمن بيت مال المسلمين] قوله: (وينفق عليه منه) أي: ينفق ملتقطه من ذلك المال عليه؛ لأن المال ماله، فينفق عليه من ذلك المال. واللقيط إذا التقطه الإنسان فإنه لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يتبرع ملتقطه بالنفقة عليه، فإذا تبرع ملتقطه بالنفقة عليه، حفظ المال الذي معه، وإذا بلغ قال له: هذا مالك. الحالة الثانية: ألا يتبرع، فيقول: ما عندي مال، وأريد أن أنفق عليه، فحينئذ يبيع الأشياء التي معه إذا كانت لها قيمة، ولم يكن هناك نقد وسيولة، ويصرف عليه منها، فإذا صرف عليه ولم تكف المصاريف؛ رجع إلى بيت مال المسلمين، وهذا لمن يريد النفقة ويطالب بها، أما إذا تبرع من عنده فلا إشكال، وأما إذا لم يتبرع وأراد أن ينفق عليه من ماله، سواء كان غنيا أو فقيرا فإنه من حقه، فمن حق الملتقط أن يقول: لا أريد أن أنفق عليه؛ لأن الله لم يوجب علي نفقته، إلا في حالة ما إذا لو لم أنفق عليه لهلك، وكان في موضع لا يستطيع أن يأخذ له من بيت مال المسلمين، فينفق ويحتسب، وبعد أن يرجع له أن يطالب بيت المال، ويصرف عليه منه، على خلاف عند العلماء. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وشريح وغيرهما من أئمة السلف يقضون بأنه إذا أنفق عليه ناويا الرجوع فلابد أن يقيمه الحاكم، وبعضهم يقول: يحلفه بالله أنه أنفق عليه وفي نيته أن يرجع، وقد تقدمت معنا مسألة من قام بمعروف لأحد دون أن يكون بينهما تعاقد، فإنه لا يستحق أجره، فمن غسل سيارتك دون أن تأذن له بغسلها، أو أصلح دارك دون أن تأذن له بإصلاحه، فإنه لا يستحق الأجرة، والإنفاق على اللقيط مثل هذا، فحينئذ لو أنفق على اللقيط بدون أن يكون هناك عقد، فالأصل يقتضي أنه ما يعطى، لكن مسألة اللقيط خارجة عن الأصل؛ لأنه يتعذر أن يخاطب القاضي، أما لو أمكنه أن يثبت فلا إشكال، لكن قد يكون في موضع لا يتيسر له الإشهاد، أما لو تيسر له أن يشهد الشهود، ويقول: أنا سأنفق عليه وأرجع بنفقته على بيت المال، فإذا أتى بالشهود وشهدوا بذلك استحق نفقته بعد بلوغه، أو إذا رجع إلى القاضي وطالب بالنفقة. وقوله: (وإلا) استثناء أن يكون له مال غير كاف، أو لم يجد معه مالا، فمن بيت المال. أقوال العلماء في الحكم بإسلام اللقيط قال المصنف رحمه الله: [وهو مسلم] . أي: اللقيط محكوم بإسلامه. واللقيط إذا وجد له حالتان: الحالة الأولى: أن يوجد في بلاد المسلمين. الحالة الثانية: أن يوجد في غير بلاد المسلمين. ففي الحالة الأولى: إن وجدناه في بلاد هي من حيث الأصل بلاد إسلامية كالجزيرة مثلا، فهذا لا إشكال أن الولد محكوم بإسلامه، وسنذكر الدليل على ذلك. الحالة الثانية: أن تكون بلادا إسلامية مفتوحة، والحكم فيها للمسلمين على الغالب، وإذا كان الحكم على الغالب فلا يخلو من صورتين: الأولى: أن يكون من في هذه الأرض -المحكوم بكونها تابعة لبلاد المسلمين- مسلمون، فلا إشكال، مثل البلدان التي فتحت وأسلم أهلها، فحكمها إلى حكم النوع الأول، محكوم بإسلامها، ومحكوم بإسلام أطفالها إذا وجدوا، ويعاملون معاملة أطفال المسلمين. الصورة الثانية من الحالة الثانية: أن تكون بلاد المسلمين بالغلبة وبينهم كفار، كما لو كانوا أهل ذمة، فتحت بلادهم وأصبحت بلادا للمسلمين، لكن فيها أهل كتاب عوملوا معاملة أهل الذمة. ففي هذه الحالة إذا وجد بين المسلمين كفار من أهل الكتاب، فإذا وجد لقيط هل نقول: إنه للمسلمين أو نقول: إنه لأهل الذمة؟ الأمر محتمل، لكن قالوا: يأخذ حكم المسلمين، ونقول: إنه مسلم؛ لأن الغالب وجود المسلمين والشعار للمسلمين، فإن كان أغلبهم من الكفار، والمسلمون فيهم قلة، فمذهب الجمهور أنه يحكم بإسلامه، حتى قال بعض العلماء: لو كان في هذا البلد الذي فتحه المسلمون وبقي فيه الكفار على دينهم وكفرهم، ووجد بينهم مسلم واحد، ويمكن أن ينجب وأن يكون اللقيط له؛ فإننا نحكم بأن هذا الولد مسلم، لاحتمال أن يكون الولد لهذا المسلم. وبناء على ذلك، يصبح كون الدار دار إسلام أمرا مهما في الحكم، سواء كانت دار إسلام أصلية أو كانت دار إسلام مفتوحة، وصار لها حكم غلبة المسلمين عليها، فإن كانت مفتوحة والغالب فيها مسلمون فلا إشكال، وإن كانت مفتوحة والغالب فيها الكفار فلا إشكال أيضا؛ لأننا نغلب حكم الإسلام، والشبهة قائمة لاحتمال أن يكون هذا الولد من المسلمين، وما دام هناك احتمال للمسلم على هذا الوجه، ووجود الغلبة للمسلم، فإننا نحكم بكونه مسلما، لكن الإشكال إذا كانت بلاد كفر، فإن كانت بلاد كفر، وليس بينهم مسلم، فالولد كافر، ومحكوم بكفره، وسنذكر الدليل، وإن كانت بلاد كفر، وفيهم مسلمون، مثلما كان في القديم وإلى الآن تجار يسافرون إلى بلاد الكفر، أو طلاب يدرسون في بلاد الكفر دراسات دنيوية، فما دام أن بينهم مسلما، فيرد السؤال هل نحكم على ظاهر الدار ونقول: الولد كافر؛ لأن احتمال وجود المسلم فيه ضعيف أم نقول: الولد مسلم؛ لأن بينهم مسلما؟ فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله. فإن حكمنا بكون الولد مسلما، سواء في دار المسلمين المحضة، أو في دار المسلمين التي غالبها مسلمون، أو في دار فيها أهل ذمة وبينهم رجل مسلم، أو دار الكفار الذين بينهم مسلمون، ففي هذه الأحوال كلها نحكم لهذا الولد بالإسلام؛ لأن السنة دلت على أن الأصل في الإنسان الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، فحكم عليه الصلاة والسلام بأن المولود مولد على الفطرة، والفطرة هي التوحيد والإخلاص، كما قال طائفة من شراح الحديث رحمة الله عليهم، فيصبح الأصل كونه مسلما، ومن هنا قال بعض العلماء: لو ماتت النصرانية وفي بطنها جنين يقبل الجنين إلى القبلة، فيكون ظهرها إلى جهة القبلة ووجهها إلى غير القبلة؛ لأن الجنين الذي في بطنها إذا وجدت منه حركه ثم مات، يحكم بكونه في حكم المسلمين، وهذا مبني على أن الأصل في الإنسان أنه على الفطرة، وأن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. فإذا كان في بلاد المسلمين فالعمل على ظاهر الدار، وظاهر الدار يحتكم إليه، فإذا جئت في بلد إسلامية ومررت على شخص لا تدري أهو مسلم أو لا؟ فهل تسلم عليه أو لا؟ تسلم؛ لأن الدار دار إسلام، ولو وجدت ذبيحة فيها، وما تدري هل هي مذكاة شرعية أو لا؟ فتقول: الظاهر أنها من مسلم، وهذه المسألة يسمونها: العمل بحكم الظاهر، ويتفرع عليها ما لا يقل عن ثمانين مسألةمن المسائل الشرعية، فمسألة العمل على ظاهر الدار مسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، فإذا كان البلد بلدا مسلما حكمنا بالأصل. يرد سؤال عندما قال: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، كيف حكمنا أن أولاد النصارى في حكم النصارى، وأولاد المشركين في حكم المشركين، وأولاد المسلمين في حكم المسلمين؟ الولد من حيث الأصل ليس بمسلم ولا بكافر، وهذا من حيث تصرفاته وإقراراته واعتقاداته؛ لأنه ما عنده عقل، ولا عنده إدراك حتى نقول: إنه مسلم أو كافر، وهذه المسألة مفرعة على قاعدة تكلم عليها الإمام العز بن عبد السلام كلاما نفيسا في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، وهذه القاعدة تقول: (التقدير: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وتنزيل الموجود منزلة المعدوم) ، وهذه تتفرع عليها مسائل كثيرة جدا في العبادات والمعاملات، وقولهم: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) يدخل فيها مسألة الطفل، فالطفل في المهد، لا ينطق بالشهادتين؛ لأنه في سن لا يتكلم فيه، حتى ولو كان في سن يتكلم فيه، فإنه لا يعقل ما يقول، فحينئذ نزلنا المعدوم وهو الإسلام منزلة الموجود، وهذا من جهة التقدير والحكم، ولهذا أصل، فإن الإجماع منعقد على سريان هذا الحكم بتنزيل المعدوم منزلة الموجود، مثال ذلك: لو قتل شخص وهو نائم، كأن داسته سيارة وهو نائم فمات، فهل نقول: قتل مسلما أو كافرا، أو نقول: لا مسلما ولا كافرا؟ الإيمان حال النوم غير موجود، لكنه لما كان قبل نومه مؤمنا مسلما، بقي على هذا الأصل، فنزل المعدوم حال النوم منزلة الموجود؛ لأن النوم من الموت كما قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر:42] ، فالشاهد أنه نوع من الموت، ولذلك لا يكلف صاحبه فيه، فنزل الإسلام المفقود منزلة الموجود، وحكمنا بكون المقتول مسلما؛ لأنه قبل نومه كان مسلما، فيبقى على هذا الأصل، وينزل المعدوم حال نومه منزلة الموجود ونقول: بكونه مسلما، أما لو داس كافرا وهو نائم، فإننا نقول: داس كافرا؛ لأنه قبل نومه كان كافرا. وهذه القاعدة فيها مسائل كثيرة، ومنها مسألة أغرب من هذه، فقد ذكر الإمام العز بن عبد السلام في هذه القاعدة مسألة لو أطلق رمى على فريسة فقال: باسم الله، وقبل أن يصل السهم إلى الفريسة مات هذا الرامي، وبعده ماتت الفريسة، فهل نحكم بكونها مذكاة ذكاة شرعية أو لا؟ وهل تؤكل أو لا تؤكل؟ إذا قلت: إنه ينزل المعدوم منزلة الموجود، فهو لما أطلق السهم وهو ذاكر لله، وتوافرت شروط الذكاة الأصلية وحصل الإزهاق، فينزل المعدوم منزلة الموجود، ولها نظائر كثيرة منها: لو طرأ شيء يمنع الميراث كالقتل، وفيها مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات، فينزل فيها المعدوم منزلة الموجود، ومنها مسألة: اللقيط، فينزل الإسلام المعدوم منزلة الموجود، ويحكم بكونه مسلما، ويعامل معاملة المسلمين إذا حكمنا بكونه مسلما، فيترتب على ذلك مسائل في الجنايات وغيرها من الأحكام التي يفرق فيها بين الكافر وبين المسلم. ومما يتفرع على حكمنا بإسلامه: أن هذا اللقيط لو كان في بلد فيه يهود أو نصارى، فلما بلغ اختار اليهودية أو النصرانية، إن قلنا: إنه أثناء صباه محكوم بكونه مسلما، فلما بلغ كفر فتهود أو تنصر، وصار مرتدا، فحينئذ يستتاب فإن تاب وإلا قتل، أما إذا لم نحكم بكونه مسلما وتهود أو تنصر بعد البلوغ؛ والدار فيها قوم من أهل الذمة فإنه يلحق بهم ونأخذ منه الجزية، ولا يكون حكمه حكم المرتد ولا يقتل، فهناك فرق بين حكمنا بإسلامه وعدم حكمنا بإسلامه. وهناك مسائل كثيرة في الاستحقاقات، منها: إذا حكمنا بكونه مسلما، ثم تبين أن له أختا ادعت أنه أخوها، وبينه وبينها صلة ميراث، ثم ماتت وهي يهودية أو نصرانية، فما الحكم؟ كل هذا يتفرع على مسألة الحكم بكونه مسلما أو كافرا، إذا قلت: نحكم بكفره، ففي هذه الحالة لا يعطى من أموال بيت المسلمين، ولا يتحمل بيت مال المسلمين نفقته، وتلحق به أحكام الكفار، وإن حكمنا بكونه مسلما فلا إشكال على ما ذكرناه من الحقوق، فيصرف عليه من بيت مال المسلمين، ويكون ولاؤه للمسلمين غنما وغرما. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
حكم حضانة اللقيط وشرط الحاضن قال المصنف رحمه الله: [وحضانته لواجده الأمين] أي: أن حضانة اللقيط لواجده الأمين، وهذا شبه إجماع بين السلف رحمهم الله، فحضانته والقيام على أمره، وتعهد مصاريفه وتكاليفه والأمور المترتبة عليه يتولاها من وجده؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قضى بذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم، وهي سنة راشدة؛ ولأن واجده سبق غيره، ومن سبق إلى ما لم يسبق به فهو أحق، فالحضانة تكون لواجده. وشرط أن يكون الملتقط أمينا، وبناء على ذلك لو التقط اللقيط شخص معروف بالخيانة والعياذ بالله! أو ليست فيه أمانة، فقال بعض العلماء: ينزع منه اللقيط، ولا يبقى معه؛ لأنه ربما أخذه وباعه، وادعى أنه من مواليه، لذلك لا يؤمن عليه إذا كان فاسقا أو معروفا بالخيانة، ولأنه لو أعطي المال للنفقة عليه، ربما تركه وضيعه وأخذ المال وأكله، فلذلك لا تترك يده عليه، وقال بعض العلماء: الحضانة والكفالة تكون للواجد ولو كان خائنا، لكن يضم ولي الأمر عليه شخصا ثانيا أمينا، فيكون معه يراقبه، وكل هذا إثبات ليد الوجدان، فما دام أنه وجده فإنه أحق به من غيره، فإن كانت فيه صفة الخيانة قالوا: يمكن أن تجبر هذه الصفة بوجود شخص آخر معه، يراقبه، ويحفظ حقوق اللقيط. جواز الإنفاق على اللقيط بغير إذن الحاكم أو القاضي قال المصنف رحمه الله: [وينفق عليه بغير إذن حاكم] . قوله: (وينفق عليه بغير إذن حاكم) اختلف الفقهاء لو وجد إنسان لقيطا ووجد معه نقودا، هل يفتقر الحكم بالتصرف في هذه النقود بالنفقة على اللقيط إلى إذن وحكم القاضي أم أنه ينفق عليه مباشرة؟ الصحيح أنه لا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما يقوم عليه من وجده ويتعاهده بالمعروف، ويتحمل المسئولية، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي. حكم ميراث اللقيط وديته قال المصنف رحمه الله: [وميراثه وديته لبيت المال] . قوله: (وميراثه) أي: ميراث اللقيط. قوله: (وديته لبيت المال) أي: لو أن هذا اللقيط قتله شخص خطأ، فوجبت الدية، فإنها تصرف إلى بيت المال؛ وكذلك ميراثه إذا عرف والده، وليس له إلا والد، وثبت بشهادة الشهود أن هذا اللقيط ولد فلان، فورث من أبيه مثلا مائة ألف، ثم توفي قبل أن يبلغ ويتزوج ويكون له ذرية، فحينئذ ماله يذهب إلى بيت المال. وهكذا لو وجد شخص لقيطا، ووجد معه عشرة آلاف ريال، ثم بعد يوم أو يومين توفي هذا اللقيط، فماذا يصنع بالعشرة آلاف؟ تضم إلى بيت المال، ويرثه بيت المال، وهذا عين العدل؛ لأن بيت المال يتحمل خسارته، فله غنمه، وعليه غرمه، فبيت مال المسلمين هو الذي يقوم بالنفقة على اللقيط، والقيام بكل ما يحتاج إليه في نفقته، فإذا كان للقيط ميراث وتوفي فحينئذ استحقه بيت المال، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عائشة عند أبي داود، وهذا الحديث مجمع على العمل به-: (الخراج بالضمان) ومثله القاعدة المعروفة (الغنم بالغرم) ، فلما غرم بيت مال المسلمين عليه، غنم ميراثه، وبعض العلماء يقولون: يؤخذ هذا الإرث، ويصرف على اللقطة، ويكون إرث اللقيط للقيط آخر بالمجانسة، يعني: يكون في بيت مال المسلمين ونصرفه للقيط ومن في حكمه. حكم الولاية على اللقيط قال المصنف رحمه الله: [ووليه في العمد الإمام، يتخير بين القصاص والدية] . إذا عرفنا أن بيت المال يتحمل نفقته وخسارته، ويتولى ماله الموروث، يبقى السؤال في استحقاقات أخرى، فلو أن هذا اللقيط جنى عليه شخص وقتله عمدا، فما الحكم؟ هو لا يعرف له قريب فمن الذي يتولى أمره؟ فهل أمره إلى عموم المسلمين أم إلى ولاة المسلمين؟ إذا لم يكن له ولي يرث حق القود والقصاص، فإن ولي أمر المسلمين هو وليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فالسلطان ولي من لا ولي له) ، فحينئذ ولي الأمر هو الذي ينظر ويخير. وبعض العلماء يقول: ليس من حقه أن يطلب القصاص، ويسقط القصاص في هذه الحالة؛ لوجود الشبهة؛ لأن القصاص يكون للشخص الذي يملك، فلو أن أحدا قطع يدا لإنسان، فهذا الإنسان المجني عليه له أن يعفو أو يطلب القصاص، لكن إذا قتل ما نستطيع أن ننزل غيره منزلته؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ونشك هل السلطان وليه من كل وجه أو من بعض الوجوه؟ فحينئذ لا نستطيع أن نستبيح دم القاتل بإذن السلطان من هذا الباب. والصحيح أن السلطان وليه، وأن من حق السلطان -إذا رأى المصلحة- أن يأمر بقتل قاتله، وإن رأى المصلحة أن يأخذ الدية أخذها منه، فينظر للأصلح فيقضي به ويحكم به. بيان مسألة ادعاء اللقيط قال المصنف رحمه الله: [وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده؛ لحق به ولو بعد موت اللقيط] هذه مسألة ادعاء اللقيط، إذا ادعى اللقيط شخص، وقال: هذا ولدي، فإن كان مسلما، فإننا نحكم بإقراره، ويضم هذا الولد إليه ويحكم به ما دام أنه ليس له منازع، لكن بشرط أن يكون هذا الشخص يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، وإذا كان لا يتأتى من مثله أن يولد له، فقد قام الحس على تكذيب دعواه، والدعوى إذا كذبها الحس الصادق، فإننا نحكم بسقوطها، فلو أن رجلا في الثلاثين من عمره ادعى أنه والد اللقيط الذي لا يعرف والده، وقد بلغ اللقيط خمسا وعشرين سنة، فهذا دعاء كاذب؛ لأنه لا يمكن للشخص أن يولد له وعمره خمس سنوات، فالحس يكذب هذه الدعوى فتسقط. إذا: يشترط إذا كان مسلما أن يتأتى من مثله أن يولد له هذا اللقيط، فإذا لم يتأت من مثله أن يولد له، فحينئذ لا يحكم بكونه ولدا له. وقوله: (أو امرأة ذات زوج مسلم) أي: فيصبح في هذه الحالة أبواه مسلمين، فلو ادعت وقالت: هذا الولد ولده، فإننا نصدق المرأة؛ لأنه ربما هي التي فرطت في الولد، أو ضاع منها الولد، ونصدق الرجل؛ لأنه إذا أقر على نفسه، فمعناه: أنه سيقر على نفسه بهذا الولد، ويتحمل تبعة نسبته إليه، وفي الأصل أننا نصدق إقراره حتى يدل الدليل على كذبه في الإقرار، فما عندنا دليل على كذب الرجل ولا كذب المرأة، فنحكم بكونه ولدا لهذا الرجل وولدا لهذه المرأة. وقوله: (أو كافر أنه ولده) ، أي: تقول المرأة: هذا ولدي من فلان النصراني حينما كنت على النصرانية، فهي كانت ذات زوج كافر، ثم أسلمت وادعت هذا اللقيط، فحينئذ يضم اللقيط إليها. وقوله: (لحق به) كما ذكرنا. وقوله: (ولو بعد موت اللقيط) ، فيه خلاف، فبعض العلماء يرى: أن الدعوى تصح ما دام حيا، لكن بعد موته لا يحكم بهذه الدعوى، وأشار المصنف رحمه الله إلى ذلك بقوله: (ولو بعد موته) ، والصحيح أنه يقبل إقرار كل منهما، في حال حياة اللقيط، وبعد موته، لكن إذا ادعى بعد الموت أنه ولده، فهناك تهمة هي أنه سيأخذ الميراث، وخاصة إذا كان له ابن، فحينئذ يكون الإقرار فيه شبهة جر المنفعة، والإقرار إذا دخلته التهمة يكون ضعيفا؛ لأن التهمة تسقط الشهادة وتسقط الإقرار، فالإقرار بليغ وحجة لكن وجود التهمة فيه توجب ضعف العمل به، وبعض العلماء طعن في الإقرار بعد الموت؛ لأن كونه يسكت في حياته كلها، ثم بعد موته عندما أصبح لا عبء فيه ولا كلفة ولا عناء فيه، بل سيرثه، يأتي يدعي أنهولده، فيصبح هذا الأمر موجبا للتهمة في صدقه. حكم ادعاء الكافر للقيط قال المصنف رحمه الله: [ولا يتبع الكافر في دينه، إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه] المراد بهذا هو الاحتياط لحق اللقيط، لا نقول بكونه كافرا ويأخذ حكم أولاد الكفار إلا إذا قامت البينة، بينما إذا أقر الرجل أو أقرت المرأة نقبل ذلك، ولكن نرفع عنه حكم الإسلام، بل يحكم بكونه مسلما، فالإقرار من الكافر محدود ولا يتعدى للقيط، فنقبل الإقرار على نفسه، ونضمه إليه، ونحكم بكونه ولده، ولكن لا نحكم بكونه منتقلا عن الإسلام إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه، فأولاد الكفار من حيث الأصل يتبعون آباءهم وأمهاتهم، فيحكم بكفرهم من حيث الأصل العام، وبذلك يعاملون في الظاهر، كما أن أولاد المسلمين يعاملون في الظاهر بحكم المسلمين، فهذا من حيث التبعية، فهناك حكم من حيث الأصل، وهناك حكم من حيث التبعية. قد يسأل سائل ويقول: قد يتعارض هذا مع حديث: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، لكن لا يوجد إشكال ففي الغالب أنه سيتبع والديه، وهذا من جهة التبعية، والحكم بالكفر يكون بالتبعية، كما أن أبوي المسلم سيبقيانه على الفطرة. وقوله: (ببينة) ، تقدم معنا: أن البينة مأخوذة من البيان، وهي ما يظهر الحق ويكشف وجه الصواب، فالبينة سميت بذلك؛ لأنها تكشف الحق، وتظهر وجه الصواب، فلا يلتبس الأمر بها، وجعل الله عز وجل البينة شهادة الشاهدين، إلا ما اشترط أكثر من شاهدين كشهادة الزنا، فهذه البينة إذا ثبتت حكم بها، وهي الشاهدان العدلان. وقوله: (أنه ولد على فراشه) . أي: أنه ولد على فراش الكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ، فراش الكافر زوجته، فيقال: ولد اللقيط على فراشه، فحينئذ نلحقه بهذا الكافر؛ لأن الولد للفراش، والفراش هي المرأة، فإن كان زوجها مسلما فمسلم، وإن كان كافرا فكافر. حكم اعتراف اللقيط بالرق أو الكفر قال المصنف رحمه الله: [وإن اعترف بالرق مع سبق مناف، أو قال: إنه كافر لم يقبل منه] . تقدمت معنا هذه المسألة في الوديعة، وذكرنا: أن الاعتراف بالشيء مع السبق المنافي يوجب التهمة في الاعتراف، والصفة في ذلك أنه يكذب نفسه، وما نلمس العذر على وجود الاختلاف في الحالين، فإذا وجد العذر قبل منه، وقد فصلنا هذه المسألة في الوديعة. وقوله: (أو قال: إنه كافر لم يقبل منه) ؛ لأنه خلاف الأصل. بيان مسألة ادعاء جماعة للقيط، وحجية القيافة قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة، وإلا فمن ألحقته القافة به] أي: إن ادعى اللقيط جماعة أكثر من واحد، ففي هذه المسألة تفصيل: أن يدعيه اثنان، ويتنازل أحدهما للآخر، أو تدعيه جماعة، ويتنازل بعضهم لبعض، فيرجع بعضهم عن دعواه، فحينئذ لا إشكال، فالولد للمدعي الذي رجع غيره عن معارضته. أما أن يدعيه اثنان وكل منهما يصر على قوله بأن هذا الولد ولده، فهل نحكم بقول هذا أو بقول هذا؟ نحن ذكرنا: أنه إذا أقر شخص أنه ولده حكم له، فلو أن اثنين كل واحد منهما يقول: هذا ولدي، ففي هذه الحالة إما أن يقيما بينة، أو يقيم أحدهما بينة ويعجز الثاني، فإذا أقام أحدهما بينة وعجز الثاني حكمنا للذي أقام البينة، أما لو أقام كل منهما بينة، فالعلماء مختلفون في هذه المسألة، قيل: تسقط البينتان ثم نرجع إلى المرجح وهو القائف، والقائف هو: الذي يعرف الولد عن طريق الأثر، فينظر إلى الصبي، وينظر إلى الرجلين، ويلحقه بأقواهما شبها، فنرجع إلى القائف لترجيح أحد القولين. والقيافة دل الدليل على العمل بها، وأنها حجة مقبولة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بها، وبنى عليها أمورا، ففي الحديث الصحيح: (أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، تبرق أسارير وجهه من السرور والفرح، وقال لها: ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر آنفا إلى أسامة وزيد، وقد التحفا وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) ، وقد كان لون أسامة ووالده زيد مختلفين، وهو حب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكان يطعن فيهما أناس من أهل الجاهلية، ويقولون: كيف أن هذا ولد هذا؟! فمر هذا المدلجي، وكان بنو مدلج معروفين بالقيافة، ومعرفة الأثر، فلما نظر إليهما وهما ملتحفان، وأقدامهما بادية ظاهرة، وكانا مستترين، ولم ينظر إلى وجهيهما ولا يعرفهما، فلما نظر إلى الأقدام قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فكذب من يطعن في نسبيهما، والقيافة تعرف بالقدم، وتعرف بالساق، وتعرف بالوجه، وتعرف باليد، وتعرف بغير ذلك مثل المشي، فلو مشى الولد ممكن أن يشابه والده أو عمه أو قريبه. فالقيافة تقوم على هذه الصفات، ففيها دلائل ترجح إحدى البينتين، إما أن ترجح قول هذا أو قول هذا. ومما يدل على حجية القيافة أيضا: أنه لما لاعن عويمر العجلاني رضي الله عنه امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف الأيمان، وحلفت الأيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، يعني: إما أنها كاذبة أو هو كاذب، فلا يمكن أن يكونا صادقين، هذا يقول: إنها زنت، وهي تقول: إنها لم تزن، وحلف كل منهما الأيمان، فقال: حسابكما على الله، يعني: لما تعارضت الأدلة انتقلت المسألة من حكومة الدنيا إلى حكومة الآخرة؛ لأنه لا يوجد دليل نستطيع أن نحكم به، فارتفعت هذه المسألة عن قضاء الدنيا، ولذلك قال لها: (عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وفضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة) وذكرها بالله عز وجل لما أرادت أن تحلف يمينها الأخيرة، فلما حلفت وأصبح الأمر متعارضا قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إليه، فإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد صدق وهي كاذبة، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا، فقد كذب وهي صادقة والولد ولده) ، فجاءت به يشبه من اتهمت بالزنا به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لولا الأيمان، لكان لي معها شأن) ، فهذا يدل على أنها كانت كاذبة، وهو قال: (انظروا فإن جاءت به، خدلج الساقين، محمرا محدودبا) ، وذكر صفات في الخلقة، وهذا يدل على أن القيافة لها حجية، وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور على أنه يحتكم إليها من حيث الجملة، وأنها ترجح الأدلة من حيث الجملة. فلو أن اثنين ادعيا الولد، فنأتي بقائف، وهذا القائف ينبغي أن تتوافر فيه شروط من أهمها: العلم بالقيافة، ونعرف أنه قائف بالسماع، وهذا يسمى: شهادة السماع، يعني: أن نسمع الناس يقولون: إن فلانا يجيد علم القيافة، أو خبير بالقيافة، وأنه من أهل القيافة، فإذا سمعنا هذا واستفاض بين الناس، فشهادة السماع والاستفاضة محكوم بها ومعمول بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شهادة الناس حجة، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (سل جيرانك، فإن قالوا: أحسنت فقد أحسنت، وإن قالوا: أسأت فقد أسأت) ، فهذا في أمر الشرع وهو أعظم، فالناس يحتكم إليهم وإلى شهاداتهم، وبناء على هذا إذا اشتهر بينهم أنه قائف حكمنا بذلك، ويمكن أن نختبره بأن نأتي بولد لرجل معروف، وندخل هذا الرجل بين أربعة أو خمسة رجال، ونقول: انظر هذا الولد أخرج والده من بين هؤلاء الرجال، فإن استطاع أن يخرجه، وعرفنا منه الدقة والإصابة مرتين وثلاثا، فحينئذ نعرف أنه من أهل القيافة، ونحكم بقوله، فيجمع هؤلاء الذين ادعوا الولد ويؤتى بالولد، ويقال للقائف: ألحقه بأقواهما شبها، أو ألحقه بأبيه، فإذا نظر وحدد أحدهم، فحينئذ لا إشكال، فنحكم بكونه ولدا للذي حدد، لكن لو أن القائف قال: فيه شبه من الكل، وهذا قد يقع بعض الأحيان، فيقول القائف: إنه يشبه الكل، كما يقع بين أولاد العم أو بين أخوين يتنازعان ولدا لقيطا، فهذا يقول: هذا ولدي، ويقول الآخر: بل هو ولدي، وهذا يمكن أن يقع؛ كأن يسافر ولدان في سفرة واحدة، وأحدهما مات، والثاني فقد، فقال أحد الأبوين: ولدي الذي فقد، أصبحا يتنازعان، والشبه في الإخوة وأولاد العمومة أقوى من أي إنسان آخر، فحينئذ يكون الأمر أشد، وتكون المهمة على القائف أشد، وقد يقول القائف: الشبه فيهما، يعني: ما أستطيع أن أرجح هل هو لهذا أو هو لهذا؟! فإذا تحير القائف أو قال: الشبه فيهما، فذهب طائفة من العلماء إلى أنه يخير الولد بينهما، وجاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه ادعى والدان الولد اللقيط، فقال له: عمر اختر أيهما شئت، وفي رواية: والي من شئت منهما، يعني: الذي تختاره منهما هو والدك، والنفس تحن، ففي بعض الأحيان تجد الإنسان يحن إلى شخص أكثر من الآخر، ويقع هذا بين الأبناء، فهذا يعقوب عليه السلام يقول كما حكى عنه عز وجل: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} [يوسف:94] ، وكان منه على بعد مئات (الكيلومترات) ، فيقولون: يقع هذا في بعض الأحيان، وذكروا عن هلال بن أمية: أنه لما خرج ابنه أمية بن هلال إلى الجهاد، وكان من أبر الناس وأرضاهم لوالده، حتى ضرب به المثل في البر، فلما خرج إلى الجهاد، تعب أبوه وذهب بصره، واشتد عليه الأمر، حتى قال فيه الأشعار، فبلغ عمر أمره، فكتب إلى أبي عبيدة: إذا جاءك كتابي هذا، فلا تلبث حتى تبعث إلي بـ أمية بن هلال، وكان الأمر سرا، وقال: لا تخبر أحدا، فجاء أمية ولم يشعر عمر إلا وأمية على رأسه، وقال: أنا أمية بن هلال، فقال: اجلس، ما بلغ بك من برك بأبيك؟ فذكر أمورا من البر حتى بكى عمر رضي الله عنه، فقال له: احلب الناقة، ثم أمر بـ هلال فأتي به، فلما جاء هلال، قال: ما بلغ من بر ولدك بك؟ قال: كان يفعل وكان يفعل، فأجهش عمر بالبكاء مما ذكر من إحسان ولده له، وقال: يا هلال! أمل خيرا، ثم أعطاه اللبن، فلما شرب، قال: والله! يا أمير المؤمنين! إني لأجد ريح أمية في اللبن! فهذا حنان الوالدين، ونزعة الولد لوالديه، والوالدين للولد واضحة، وفي قصة سليمان مع المرأتين حين قال: ائتوني بسكين أذبحه بينهما، فقالت إحداهما: لا تفعل -يا نبي الله- هو ولدها، فالأم الحنون تنازلت عنه حتى لا يقتل. فهناك أمارات واضحة تدل على صدق المدعي، فـ عمر رضي الله عنه عمل بهذا، وقال للقيط: والي من شئت منهما. وأثر عن علي رضي الله عنه: أنه رد الأمر إلى الصبي، وقال له: والي من شئت منهما، يعني: إن شئت أن توالي هذا الأب أو هذا الأب، فكل منهما له دليله الذي يدل على أنك ولده، فيخيره بين الوالدين. وهذه المسألة واقعة في اللقيط وواقعة في مسألة الوطء بشبهة، فقد توطأ المرأة في طهر من رجلين شبهة، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في مسألة وطء المرأة من رجلين في طهر واحد، وحصل الاختلاف في الولد، ونزع الولد للاثنين؛ لأنه فيه شبه من هذا، وفيه شبه من هذا، فقال: والي من شئت، وعن علي أنه قضى بهذا أيضا. وبعض العلماء في مثل هذه المسائل يقول: إذا وجد الدليل من الطرفين فحينئذ تجرى القرعة، ومن خرجت له القرعة حكم له بالولد، ومن أهل العلم من لا يجري القرعة في هذا، والإمام ابن قدامة رحمه الله ذكر في المغني وفي العمدة مسائل الحكومة بالقرعة، وذكر أن القرعة تفصل في حال ادعاء المرأتين للولد، وفي حال ادعاء الرجلين للولد. وبناء على هذا الأصل: لو تعارض القائف مع قائف آخر، وصعب الترجيح، فإنه يحكم بالقرعة، ويرجح بين هذه الأقوال بها. ومن أهل العلم، من قال: اختلاف الثلاثة فأكثر في الولد اللقيط حكمه حكم الاثنين، وجعلوا قضاء علي وعمر رضي الله عنهما أصلا يقاس غيره عليه، ويرون أنه في هذه الحالة يمكن أن يترك الولد لخياره، ويختار من شاء من هؤلاء الذين ادعوه ولدا لهم. والخلاصة: أن الذي عنده بينة يحكم له ببينته، منفردا كان أو مجتمعا مع غيره، سواء كانوا اثنين أو أكثر، فالذي عنده بينة لا منازع له في بينته فاللقيط له؛ لأن المدعي مطالب بالبينة، فإذا أثبت البينة التي تدل على صدق قوله ودعواه حكمنا له بها، وأما إذا تعارض مع غيره، فكان عند غيره بينة، وتعارضت البينا |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
الأسئلة هل المجنون البالغ يكون لقيطا؟ السؤال قول المصنف: (طفل) ، هل يدخل المجنون البالغ في ذلك؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آلة وصحبه ومن والاه. البالغ بالإجماع لا يعد لقيطا، وإذا جن اللقيط بعد بلوغه فإنه يستصحب حكم الأصل، وهذا مثلما ذكرنا من المسائل المفرعة على الحكم بإسلامه، أنه إذا جن استصحبنا حكم الأصل، أما لو وجد مجنونا، فإننا في هذه الحالة نحث من وجده أن يقوم على رعايته إذا أمكنه ذلك، وإلا رفعه إلى السلطان أو الوالي ليتولى أمره، والله أعلم. حكم إلحاق اللقيط بنسب الملتقط ومحرمية أهل الملتقط السؤال ما حكم اللقيط من حيث نسبه، ومن حيث محرميته في أقارب الملتقط؟ الجواب أما من حيث النسب، فلا يجوز أن ينسب اللقيط إليه؛ لأنه ليس بوالده، وقد لعن الله عز وجل من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، وهذا أمره عظيم، فإذا كان ملتقطا له فإنه ينبغي عليه أن يحتاط، وألا ينسب اللقيط إليه؛ لأنه إذا نسبه إليه فقد ادعاه، والله يقول: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} [الأحزاب:5] ، فلا يجوز أن يدعي نسبة الولد إليه وهو ليس بولده، ثم يدخله على أهله وبناته، فينظر إلى عورات لا يحل له النظر إليها، ويصافحهن ويرث، وتقع المحاذير الشرعية، ويترتب على هذا مسائل شرعية صعبة، لكن الحل في مثل هذا إذا خشي من الفتنة أن يجعل اللقيط يرتضع من زوجته، حتى يصير بمثابة الابن في مسائل المحرمية، والتكشف ونحوها، ويحتاط إذا خشي أن ينسب اللقيط إليه، وذلك بأن يشهد شهودا على أن هذا لقيط وليس بولده، حتى يحفظ حقوق أولاده ولا يضيعها، والله تعالى أعلم. حكم زواج اللقيط وموضع زواجه السؤال إذا كبر هذا اللقيط فخطب، فمن يكون وليه في هذه الحالة؟ الجواب إذا كان رجلا، فإنه يخطب لنفسه، ويتزوج من يريد، ولا يشترط الولي للزوج؛ لأن الرجل يجوز له أن يزوج نفسه، لكن هذه المسألة عند بعض العلماء من المشتبهات، وتدخل في مسألة التورع؛ لأنه يخشى أن يخطب أخته، أو يخطب بنت أخته، أو يخطب قريبته، فمسألة النكاح فيها إشكال كبير من جهة إذا غلب على ظنه وجود والديه في بلده، أو تكون هناك شبهة بالزنا -والعياذ بالله! - أو يكون من غير زنا، فيخشى أن يتزوج قريبته. وبالنسبة لشبهة كونه ابن زنا يعرف ذلك بالأحوال والدلائل، فإذا وجد في مكان التقاطه نقود على صفة تبين تخلي والديه عنه، فالشبهة قائمة على أنه ابن زنا والعياذ بالله! وفي حالة ما إذا كان ابن زنا، فتفصل المسألة على خلاف العلماء، هل الزنا يؤثر في المحرمية أو لا يؤثر؟ فذهبت طائفة من العلماء إلى أن الزنا لا يؤثر كالشافعية ومن وافقهم، وذهبت طائفة أخرى من العلماء إلى أن الزنا يؤثر، فتحرم الأخت من الزنا، والعمة من الزنا، ويثبت الزنا المحرمية، كما تثبت في النسب، والقول بأن الزنا لا يؤثر ورد عن بعض الصحابة، مثل: عبد الله بن مسعود حيث قال: إن الحرام لا يحرم الحلال، فعلى هذا يمكن له أن يتزوج من الموضع؛ لأن الزنا لا يؤثر، ومذهب الجمهور إنه يؤثر؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، وقد ذكرنا هذا في مسألة المحارم، وهي: هل البنت من الزنا محرم؟ وهل الأخت من الزنا محرم؟ وهل يجوز نكاحها؟ وقلنا: إن هذا من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا بحرمته، فيكون القول الذي اخترناه، قريب من مذهب الجمهور، ففي هذه الحالة إذا كان اللقيط في موضع على صفة يغلب على الظن أن فيه شبهة الزنا، فإنه يبتعد عن البلد الذي وجد فيه، ويتعاطى أسبابا تبعده، حتى قال بعضهم: أحب أن يتزوج من موضع غير الموضع الذي وجد فيه، يعني: يتزوج من مكان آخر، حتى يبتعد عن الشبهة في هذا، وهذا مذهب بعض العلماء. إذا: لا بد أن تعرف أولا: هل هذا اللقيط من جنس الزنا أو من غيره؟! مثال من كان من جنس غير الزنا: الطفل الذي يكون ضائعا في مجامع الناس، فالغالب ألا يكون هذا ابن زنا؛ لأنه لا يصل بالأم أن تتهرب من الولد وعمره أربع سنوات أو خمس سنوات أو ست سنوات، وهذا لا يخفى، ولا يمكن أن تتهرب دون أن تضع في جيبه ما يقوم به، فالزنا له دلائل، وهناك دلائل تغلب على الظن وجود تهمة الزنا، وهناك دلائل تغلب على الظن أنه ليس بابن زنا، فإذا وجدت الدلائل التي يحكم بكونه ليس ابن زنا، فالأمر أشد وأعظم؛ لأنه في هذه الحالة يحتمل أن كل واحدة في هذه القرية، أو في هذه المدينة بينه وبينها صلة توجب المحرمية، فالأمر صعب جدا، ولذلك يكون الأمر فيه أشد مما لو كان من الزنا، فالمسألة ليست سهلة، فإن وقعت يفتى فيها، فالإنسان يتورع من مثل هذه المسائل، لكونها تحتاج إلى نظر، وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه المسألة في باب النكاح، وأشار إليها الإمام النووي رحمه الله، والإمام الماوردي، في الحاوي، والإمام ابن قدامة، وأشار إلى جملة من مسائلها المتفرقة في النكاح، فهي مسألة مشهورة عند العلماء، وفيها إشكال، إلا أنه إذا تعاطى الأسباب، وعمل على غالب الظن بالسلامة، فإن شاء الله لا بأس في نكاحه وزواجه، والله تعالى أعلم. عدم جواز الخروج من المسجد بعد الأذان للمؤذنين وغيرهم السؤال مؤذن يؤذن ثم يذهب إلى بيته، ويؤدي راتبة الظهر القبلية فيه، ثم يأتي ويقيم الصلاة، ويقول: إن الصلاة الراتبة في المنزل أفضل، فهل هذا العمل صحيح؟ الجواب حتى المؤذنين صاروا مجتهدين! يا إخوان! الاجتهاد في الأدلة والمسائل والأحكام ليس لكل أحد، كان العلماء رحمة الله عليهم الواحد منهم يجثو على ركبتيه، ولا يريد أن يفتي في المسألة، ولا يريد أن يجتهد، والأدلة أمامه، خوفا من الله سبحانه وتعالى وتورعا. ثم نقول: هذا اجتهاد خاطئ وفعل خاطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج من المسجد بعد الأذان، فلا يجوز الخروج بعد الأذان من المسجد إلا من عذر، وفعل الفضائل ليست بعذر، ولا يجوز طلب السنة بارتكاب النهي، وأداؤه السنة الراتبة في المسجد أفضل من أدائها في البيت، يقول أبو هريرة رضي الله عنه -لما رأى رجلا خرج من المسجد بعد الأذان-: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، فما يمكن أن نقول: اطلب سنة بمعصية الله، ولو أن رجلا يريد أن يقبل الحجر، وعلى الحجر الطيب، وقد نهي عن الطبيب للمحرم، فعليه أن يترك سنة التقبيل؛ لأنه إذا تعارض المسنون مع النهي وجب تقديم النهي، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عنه فانتهوا) ، فجعل مسألة النهي أعظم وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} [النور:63] ، فلذلك ينبغي على هذا المؤذن أن يتقي الله، وأن يبقى في المسجد، ولا يجوز له الخروج. وننبه أن الأئمة والمؤذنين وطلاب العلم والخطباء هم قدوة للناس، فلا ينبغي للمؤذن أن يؤذن ويخرج من المسجد، أو يخرج ويجلس خارج المسجد، أو في غرفته التي بالمسجد ثم يأتي عند الإقامة، ولماذا نتعالى على الناس؟ ولماذا نتميز على الناس؟ ولذلك ينبغي ترك الأماكن الخاصة التي لا يدخل منها إلا الخاصة، ولا يخرج الإنسان من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، ويكون هناك نوع من التحفظ والصيانة، وإذا كلف الإنسان ولاية من الولايات الشرعية، كالأذان والإمامة والفتيا والتعليم والتدريس، فينبغي أن ينتبه لمسألة القدوة، ويجب عليه أن يحفظ حق إمامته وأذانه، فهذا الذي يخرج من المسجد، هل نعلم أنه سيصلي السنة الراتبة في البيت؟! وهل كل الناس سيحسن به الظن؟! والناس إذا رأوا بأم أعينهم أن المؤذن دخل المسجد عند الإقامة، فمعنى ذلك أن يتأخذوا ولا يدخلوا إلا عند الإقامة؛ لأن المؤذن لم يدخل إلا عند الإقامة، فلذلك ينبغي أن نكون بعيدي النظر، وأن ننتبه لهذا، والواجب على المؤذنين أن يتحفظوا ما أمكن. وانظر إلى مسجد فيه مؤذن يؤذن، ثم يبقى فيه يقرأ كتاب الله عز وجل، أو يصلي، فوالله! إنه يعظم في عينك، ووالله! إن من الناس من يجل المؤذن أكثر مما يجل الإمام، مما يرى من حرص المؤذن على السنة، وحرصه على الخير، ولما فيه من بشائر الخير التي تدل على أنه أهل للأذان، فعلينا أن نشكر نعمة الله سبحانه تعالى، فإذا جعلت إماما، أو جعلت مؤذنا، فلتعلم أنك ما جعلت بحولك ولا بقوتك، وإنما بتفضيل الله لك، وتفضيل الله لك نابع من هذا الشرع والدين، فاحرص على أن تحبب الناس في هذا الدين، واحرص على أن ينظر الناس لهذا الدين نظرة الهيبة لا نظرة الاستخفاف، فإذا خرج المؤذن من المسجد بعد أذانه استخف الناس بالجلوس في المسجد، ولربما يطرأ أمر في المسجد يحتاج إليه، وربما يطرأ أمر مكروه لا قدر الله، فوجود المؤذن أمر مهم جدا، ولا ينبغي في الحقيقة الخروج، بل ولا ينبغي التميز نهائيا؛ لأن الدخول عند الإقامة من هدي الأئمة، ولذلك لا ينبغي أن يشابههم غيرهم من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عند إقامة الصلاة، وكان بلال -كما في الصحيح- إذا سمع الخشخشة من وراء الستر أقام الصلاة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوموا حتى تروني) ، فهذه الأمور يتميز بها الأئمة ولا يشاركهم فيها غيرهم، ولا ينبغي أن نتفضل على الناس ونتقدم على الناس إلا بتقديم الشرع، وكان المشايخ رحمة الله عليهم يشددون في هذا، حتى والله! إنهم كانوا إذا جلسوا في مجالس مميزة، وأراد من هو قريب منهم من طلاب العلم أن يجلس بجوارهم، فإنهم ينهرونه، وإذا جلس طالب العلم في مجلسهم قبل مجيئهم، شدوا عليه وأغلظوا عليه، فلا ينبغي الدخول من الأماكن الخاصة، أو التنفل في موضع الإمام، فهذا يترك للإمام، ونحن عندما نتقدم على الناس، ونتصدر على الناس، فهناك شيء من الآداب علينا أن نتحلى بها، فلا بد لطالب العلم والمؤذن ومن ينتسب للشرع أن يكون متحليا بالأكمل، وأن يكون عنده تحفظ، ويعلم ما الذي يترتب على فعله هذا، فكل شيء فيه تميز على الناس، وتصدر على الناس، سواء في الخروج أو الدخول، أو صفة الخروج أو صفة الدخول؛ فلا ينبغي أن تكون إلا لمن خص بهذا الحق، فالناس لهم حق، ولا يجوز أن يعلو عليهم أحد إلا بحق، فلو كان هناك مدخل خاص بالإمام، فلا يجوز أن يدخل كل أحد منه، فالإمام له فضل على جميع من في المسجد، فإذا جاء أي واحد ودخل مع الشيخ من مدخله مثلا، أو مع الإمام من مدخله؛ كان هذا نوعا من التميز، ولربما قد يقصد به التزكية لنفسه بأنه مع الشيخ، وتكون فتنة للتابع وفتنة للمتبوع، فطالب العلم التابع لمشايخه ينبغي عليه أن يحفظ حقوق الناس، ولا يتعالى على أحد من الناس، ولا يتميز في صفة ولا سمت إلا إذا فضله الله عز وجل بذلك. ولذلك كان بعض العلماء يكره إذا انتهت الصلاة أن يتقدم الشخص على الصف، إذا كان في الصف الأول، إلا إذا كان من ضرورة كمرض أو نحوه، وكانوا يستحبون أن يتأخر عن الصف؛ لأنه لما يتقدم على الصف فهذا تميز، وكذلك أداء السنة في مكان الإمام فيه تميز، ومن هنا نص بعض العلماء على أنه إذا صلى الإمام وانتهى من الأذكار، فإنه لا يبقى في مصلاه؛ لأنه جاز له التقدم لضرورة وحاجة وهي الإمامة، فإذا انتهى منها فلينتقل إلى مكان آخر. وكنا نرى بعض المشايخ الكبار، كان لهم موضع يجلسون فيه للفتوى، وما يجلس أحدهم في نفس المصلى، وكانوا يتكئون على سارية، أو مكان مخصوص يجلسون فيه بعد الجمعة أو بعد الصلاة، فينتقل الشيخ إلى هذا المكان ويجلس فيه، فالسائل يأتيه فيه، ولا يتميز على الناس، وهذا من التورع، والناس لهم حقوق ولا ينبغي التعالي عليهم، إلا باستحقاق شرعي. فالواجب على المؤذن: ألا يجتهد في فهم النصوص بغير علم، ومن قال في الدين برأيه فقد أخطأ ولو أصاب، وفي ذلك حديث، والحديث تكلم في سنده، لكن العمل عليه عند أهل العلم، ومعنى ذلك: أنه أخطأ بالجرأة على الاجتهاد، وهو ليس من أهل الاجتهاد، ولو أصاب الحق، فهذه الإصابة شيء آخر، ولكننا نتكلم عن كونه اجتهد وهو ليس بأهل للاجتهاد، كمن يتعاطى أسباب الضرر، وهو يعلم أنه لا يتحفظ منها. فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل، فلا يجتهد من عنده، حتى لا يكون ضالا في نفسه، وقد يجعله الله مضلا لغيره والعياذ بالله! إذا لم يتحفظ. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يقينا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الفرق بين اللقيط واليتيم وحكم كل منهما السؤال هل يأخذ اللقيط حكم اليتيم من كل وجه؟ الجواب اللقيط ليس بيتيم، ولا يجوز أن نحكم بأنه يتيم، أو يأخذ حكم اليتيم؛ لأن اليتيم هو من فقد أباه وهو دون البلوغ فهذا من جهة الآدمي، وأما من جهة الحيوان، فقالوا: اليتيم من فقد أمه. فليس هناك دليل على أن اللقيط يتيم، أو أن والده موجود أو غير موجود، فلذلك لا يأخذ اللقيط حكم اليتيم، لكن الشفقة عليه والإحسان إليه والبر به، وتفقده ونحو ذلك، لا شك أنه من أجل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) ، وهذا بسبب الرحمة، فإن كافل اليتيم إنما نزل هذه المنزلة وتبوأ هذه الدرجة العظيمة بسبب الإحسان إليه، وجعل الله لمن كفله هذا الثواب العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (خير البيوت بيت فيه يتيم يحسن إليه) ، فإذا دخل البيت كان بركة على أهله، وخيرا على أهله، وكان العلماء يستحبون أن يضم الإنسان إليه يتيما إذا أمكنه ذلك، كأن يذهب إلى دور الأيتام ويأخذ يتيما فيضمه إليه؛ حتى يضع الله الخير والبركة في بيته، فتبوأ كافل اليتيم لهذا كله من جهة الرحمة، وقد يكون اللقيط أشد من اليتيم؛ لأن اليتيم عرف أبويه، وعرف نسبه، ولكن اللقيط لم يعرف، واليتيم يتعذب دون البلوغ، فإذا بلغ واستوى على أشده كافح وانتفى عنه الضرر الذي كان موجودا عليه في حال يتمه، ولكن اللقيط لا يزال في حيرة من أمره، وعناء في نفسه، وانكسار في قلبه، حتى يواريه الثرى، فلا ينفك عنه هذا البلاء، كلما نظر إلى رجل ظنه أبا له، وكلما نظر إلى أم ظنها أما له، وتارة تنتزع الخواطر وإحسان الظن بوالديه إلى أنهما كانا فقيرين أو ضعيفين، وتارة تنتزعه الخواطر إلى إساءة الظن بأمه وأنها كانت زانية، فهو في شيء من العناء لا يخطر على بال، ولذلك فالتقاط اللقيط ليس كاليتيم؛ لأن اللقيط يؤذى ويضر، والناس تسأله: من أنت؟ ومن أمك؟ ومن أبوك؟ ومن أين جئت؟ فالأمر في حقه أشد وأعظم من جهة المشاعر، والرحمة في حقه قد تفوق اليتيم، إلا أن اليتيم إن تعلق بوالده كانت الرحمة به في بعض الأحيان أشد؛ لأنه قد يفقد والده بعد أن يكون مميزا، كأن يكون مثلا ابن سبع سنين، وأدرك والده يحمله ويأخذه ويذهب به ويجيء، وإذا به بعد فقد والده لا يحمل ولا يذهب به، وكلما رأى صبيا مع والده تقطع قلبه، وكلما رأى صبيا يكرم من والديه أصابته الحسرة، فالمشاعر الموجودة في اليتيم قد تفوقها مشاعر اللقيط، والله عز وجل يرحم الرحماء، فإن وقعت الرحمة إلى محتاج إليها، كان ثوابها من الله أعظم، وجزاؤها من الله أكبر، ويتولى أرحم الراحمين الرحمة بأضعاف ما رحم به المخلوق، ولذلك قال الله تعالى: (تجاوزوا عن عبدي فنحن أحق بالتجاوز منه) فصفح عن عبده في عرصات يوم القيامة؛ لأنه كان يرحم الناس، ويتجاوز عن المديونين، فكيف إذا رحم الضعيف الذي لا حول له ولا قوة؟ والرحمة كلما عظمت من المخلوق للمخلوق، ووقعت في موقعها، عظمت رحمة الله به، ولذلك قل أن تجد إنسانا معروفا بالرحمة وتسوء خاتمته، بل غالبا أن الذي يرحم الناس ويحسن إليهم يتولاه الله عز وجل بإحسانه وبره، وما ينتظره في الآخرة أعظم وأجل من ذلك، وما سكنت الرحمة في قلب إنسان إلا كان من السعداء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر عليه الأقرع بن حابس وهو يقبل ولده، فقال: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك) ، فالرحمة لا تدخل إلا في قلب سعيد، وما قام هذا الدين إلا على الرحمة، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إمام الرحماء وإمام الكرماء عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام رحيما بالناس، فالذي يرحم اللقيط ويحسن إليه ويتفقد مشاعره أجره عظيم. ولذلك قال بعض أهل العلم ممن أدركناه من مشايخنا: إن أمر اللقيط صعب؛ لأنك تحتاج أول شيء أن تقوم بحقوقه، وتتحفظ من أذيته، ويكون له داخل البيت وضع خاص؛ خاصة إذا لقط وهو صغير لم يميز الأمور، ولما يميز قد يبدأ يسأل: من أبوه؟ من أمه؟ ويكون الأمر في حقه صعبا ومحرجا، ولذلك أمر اللقيط فيه ثواب عظيم، وقد يفوق الإحسان إلى اليتيم، إذا اتقى لاقطه الله عز وجل، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه، وقد قال تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30] . حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه السؤال ما حكم إعطاء اليتيم من الزكاة للإنفاق عليه؟ الجواب اليتيم -من حيث الأصل- مرده إلى بيت مال المسلمين، ولذلك يصرف عليه من بيت مال المسلمين، وأما الزكاة فلا يعطى منها -من حيث الأصل- إذا كان ولي الأمر يتولى أمره، والأيتام الآن وجدت لهم دور أيتام، تقوم عليهم، ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، فحينئذ لا يستحقون من الزكاة؛ لأنه أسند أمرهم ولي الأمر إلى من يتفقدهم، فإن وجدت حاجة وعوز فحينئذ يمكن أن يصرف لهم من الزكاة، لكن هذا عند الضرورة، أما إذا صرف عليهم من بيت مال المسلمين، فإنهم يستكفون به، والله تعالى أعلم. حكم إعطاء اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه السؤال هل يعطى اللقيط من الزكاة للإنفاق عليه؟ الجواب اللقيط إذا كان له مصرف من بيت مال المسلمين، فإنه لا يعتبر محتاجا، ما دام أن بيت مال المسلمين يتكفل به، ففي هذه الحالة ما يعطى من الزكاة، والزكاة إنما تعطى للفقير والمسكين، ومن سمى الله عز وجل من أهلها، والله تعالى أعلم. حكم التعريف باللقيط عند وجدانه السؤال هل يجب التعريف باللقيط عند وجدانه والبحث عن والداه؟ الجواب نعم، في حالة وجدانه يعرف به إذا غلب على الظن الضياع، وتوضيح ذلك أنه إذا وجد صبيا أو صبية، وغلب على الظن أنه مفقود من والديه، فعليه أن يعلم أن هناك ضررا مترتبا على عدم رده لوالديه؛ لأن الأم تتضرر بفقدان ابنها أو بنتها، وتصيبها الوساوس، وربما فقدت عقلها، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام فقد بصره، وهو من أهل الصبر، وهو يعلم أن ولده سيعود إليه، فما ظنك بمن فقد ولده بدون عودة؟! ومن هنا لم يحل للمسلم أن يخرج إلى الجهاد حتى يستأذن والديه؛ لأنها مسألة فقد، فيعمل الوسيلة التي يكون بها رجوع الولد إلى والده، كأن تكون هذه الوسيلة عن طريق الإعلام، أو عن طريق نشر صورته، وغيرها من الوسائل التي يمكن أن يستدل بها عليه، فعلى لاقطه أن يستخدمها حتى يصل الولد إلى والديه، حتى وإن اضطر إلى تصويره، فإنه يفعل ذلك؛ لأن في ذلك رحمة بأمه وبأبيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد أن يبين للصحابة عظيم رحمة الله بخلقه، فإنه بين لهم عظيم ذلك حينما ضرب لهم المثل، ولله المثل الأتم الأكمل، وذلك أن امرأة جاءت تسعى سعيا حثيثا حين رأت ولدها، فأخذته فضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها) ، فالشاهد من هذا: أنه لما أراد أن يضرب المثل بعظيم رحمة الله اختار رحمة الأم بالولد، وجعل ذلك عند الفقد، فرجوع الابن لأمه والبنت لأمها له شأن عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، فالأمر عظيم، وما دام أنه يمكن الاتصال به، ويمكن السؤال والتحري والتعريف؛ فإنه يجب علينا أن نتعاطى ذلك؛ لأن السكوت عن ذلك فيه ضرر، وضياع لحقوق الولد، وإدخال للضرر على الولد مستقبلا، وإدخال الضرر على والديه، ولا يجوز إدخال الضرر على المسلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (لا ضرر ولا ضرار) ، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (390) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [1] مما ينفع الإنسان عند ربه في الدنيا بل والآخرة بعد موته أن يوقف وقفا لله تعالى، يدر عليه الحسنات كما لو كان حيا يعملها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على مشروعيته وفضله والحث عليه. الأدلة على مشروعية الوقف من الكتاب والسنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الوقف] هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب التي بحثها الفقهاء رحمهم الله، وبينوا مسائلها، وما اشتمل عليه هذا الكتاب من أحكام، ونظرا لعظم أمره، وعموم البلوى به في كل زمان ومكان، ناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في هذا الموضع. وعبر بالكتاب، لكي يفصله عن الأبواب السابقة، فالأبواب السابقة متعلقة بالمعاملات المالية، والوقف يجمع بين المعاملة المالية من وجه، وبين العبادة من وجه آخر، وهو من حيث الأصل تسبيل لله عز وجل، ولذلك يخرج عن معنى المعاوضة من هذا الوجه، وعبر بالكتاب حتى لا يظن أنه تابع للمعاوضات المالية. وإلا فالأصل أن العلماء رحمهم الله يخصون الكتاب بالأبواب الكثيرة، مثل أن يقال: كتاب المناسك ويقال: كتاب الصلاة؛ لأن أبوابه كثيرة، والوقف ليست له أبواب كثيرة؛ ولكنه منقطع عما قبله، فلو قال المصنف: باب الوقف؛ لظن ظان أنه تابع للمعاملات المالية التي تقدمت معنا في الدروس الماضية. وقوله رحمه الله: (كتاب الوقف) أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوقف. وهو: حبس أو تحبيس العين، وتسبيل المنفعة والثمرة، والمراد بالعين: العين الموقوفة، سواء كانت من العقارات، أو كانت من المنقولات، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا التعريف وحقيقته، حينما ذكره المصنف رحمه الله في صدر الكتاب. مشروعية الوقف من الكتاب والوقف يعتبر مشروعا بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة من العلماء رحمهم الله، فأما دليل الكتاب فإن الوقف داخل تحت عموم الآيات التي دلت على الطاعات والخير، والندب إلى البر، ولذلك يعتبره العلماء رحمهم الله من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله عز وجل به في كتابه بقوله سبحانه: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2] . وإن المسلم إذا أوقف بيته أو سبل مزرعته، خاصة إذا جعلها للضعفاء والفقراء والمساكين، أو أوقف مسجدا للصلاة فيه، وانتفع الناس بعبادة ربهم وذكرهم لله عز وجل في هذا الموضع الموقوف، وكذلك بحلق الذكر في تلك المساجد الموقوفة، أو جعل صدقة كتسبيل المياه من حفر الآبار، وسقي العطشى، سواء كانت داخل المدن، أو كانت خارج المدن، خاصة إذا كانت في السبل والمفازات التي تكون الحاجة فيها ماسة إلى وجود الماء، وهكذا إذا برده أو وضع البرادات للماء، أو الأسباب التي تعين على تهيئته للعطشى والمحتاجين، ونحو ذلك من أفعال البر؛ فلا يشك أحد أنه من التعاون على البر والتقوى، وأنه من طاعة الله عز وجل، فهو داخل في عموم الصدقات والإحسان إلى المسلمين. الوقف عند الصحابة رضي الله عنهم وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين. وكذلك أيضا أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذريته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يخص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلا: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا أوقف في سبيل الخير) . وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسبل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر) وذكر منهم: من أعطاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته. مشروعية الوقف من السنة وأما دليل السنة فإنه صريح في الدلالة على مشروعية الوقف، فالفرق بين دليل القرآن والسنة على مشروعية الوقف أن دليل القرآن عام، وأما دليل السنة فإنه ورد في الوقف بخصوصه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضا بخيبر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت حبست أصلها وسبلت -وفي رواية تصدقت- على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) . هذا الحديث فيه فوائد عظيمة أولها قول عبد الله بن عمر: (أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضا بخيبر) جاء في الرواية الأخرى أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضا بخيبر هي أعز ما أصبت من مال، فما تأمرني فيها) ؟ فانظر إلى فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الرجوع إلى العلماء، والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو الخير والأحظ للإنسان في دينه ودنياه وآخرته. فلا يزال العبد موفقا مسددا ملهما للصواب ما رجع إلى أهل العلم، وأحبهم، واستشارهم، فإن الله يضع له البركة في ذلك؛ لأن الدافع في الرجوع إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإجلال شعائر الدين، ولذلك يوفق من يرجع إليهم، ويسدد ويلهم الخير. فهذا الصحابي الجليل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، أصاب هذا المال الذي هو أعز ما يملك، فلم يتصرف فيه بمحض رأيه واجتهاده، مع أن التصرف مباح له شرعا، فلو أنه باعها أو تصدق بها أو فعل بها ما شاء، فإن ذلك له، وهذا بتمليك الله عز وجل له ما دام أنه تصرف بما أحل الله وشرع؛ ولكن كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بالرجوع إلى الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك عظمت منزلتهم، وارتفعت درجتهم، وأثنى الله عليهم من فوق سبع سماوات في كتابه، حتى بقي الثناء عليهم إلى يوم الدين يتلى في كتابه. كل هذا بمحبة الوحي والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال المسائل به، حتى يصيب الإنسان الأقوم، والأسلم، والأرشد له في دينه ودنياه وآخرته، ولا شك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب بمشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دينه ودنياه وآخرته. وانظر إلى الأسلوب حين يرجع الإنسان إلى من هو أعلم وأفضل: (فما تأمرني) ، ولم يقل: فماذا تشير علي؟ ولكن (فما تأمرني؟) وكأن الأمر أمره عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها) ، فالوقف: هو التحبيس، فإذا أوقف الإنسان فقد حبس العين الموقوفة، فقوله: (حبست) يعني أوقفت؛ لأن الشيء المحبوس موقوف عن الحركة وممنوع منها، فأصل الوقف الامتناع عن السير والحركة، يقال: وقفت الدابة؛ إذا أمسكت عن السير والحركة، ويقال: وقف الظل؛ إذا كانت الشمس في منتصف السماء وأمسكت عن الحركة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) وهذا بالنسبة للأرض، وقد كانت خيبر أرض زرع، وكانت من أفاضل أراضي الجزيرة من حيث الزراعة ووجود النخل فيها، وكانت عامرة بذلك، ولا تزال إلى اليوم فيها بقية باقية من ذلك العمران، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها) يعني حبست أصل الأرض، والمراد بذلك الأرض التي هي العين الموقوفة، وما عليها من الزروع والنخيل. قال عليه الصلاة والسلام: (وتصدقت بها -وفي رواية: وسبلت- وجعلت ثمرتها في ذوي القربى) فقوله: (وتصدقت بها) : يعني بنتاج الأرض، وهذا يقع في وقف المزارع، حيث توقف المزرعة فيشمل ذلك الأرض التي هي العقار المحبوس، وكذلك ما عليها من النخيل والزروع، (وحبست ثمرتها) : ثمرة النخيل كالتمر والرطب والبلح، وكذلك إذا كان فيها العنب أو غير ذلك من المزروعات، وتصدقت بثمرتها. فدل على أن العين تحبس، وأنه إذا أوقف مزرعة وسبلها؛ فإن ثمرتها تكون محبوسة، وذلك بصرفها في الوجه الذي خص الوقف به. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها) يعني الأرض: (لا تباع ولا توهب ولا تورث) إذا: معنى ذلك أن ملكية الواقف لها قد زالت، ومن هنا استدل طائفة من العلماء رحمهم الله على أن من أوقف شيئا فقد زال ملكه عنه. وبناء عليه يتفرع أن الشخص ربما أوقف مسجدا، وجعل يتصرف فيه دون أن يشترط نظارة المسجد له، ولربما ضمه إلى جهة مختصة بالمسجد؛ لكنه يتصرف فيه، ويأمر وينهى وكأنه يملكه، ولربما منع أو أخرج الناس من المسجد، فهذا مخالف للأصل؛ لأنه بإيقافه للمسجد خرج المسجد عن ملكيته، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الوقف يخرجه الإنسان من نفسه صدقة لله عز وجل. ولذلك يعتبر من المعاملة بين المخلوق والخالق، والله عز وجل يملك المخلوق وما ملك، ولكنه سبحانه وتعالى جعل ابن آدم مستخلفا في المال لكي يبتلي المحسن في إحسانه والمسيء في إساءته. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث) البيع أصل في المعاوضات، أي: لا يجوز لك أن تعاوض عليها، ولذلك أجمع العلماء من حيث الأصل على أن الوقف لا يباع إلا في مسألة، وهي أن تتعطل مصالح الوقف، كرجل أوقف مزرعة ثم إن هذه المزرعة نضب ماؤها وتعذر سقيها، واحتيج إلى الانتقال إلى مكان آخر، فحينئذ يرفع إلى القاضي، فيحكم القاضي بجواز بيعها، فتباع ثم يشترى بدلا منها ما يقوم مقامها. أما من حيث الأصل فلا يجوز بيع الوقف، فلو أوقف عمارة -مثلا- صدقة على المساكين، أو صدقة على طلاب العلم، أو رباطا لهم، ثم أراد أن يبيعها ويشتري غيرها؛ فنقول: لا يجوز بيع الوقف، والأصل أنه محبس، وممنوع صاحبه من التصرف فيه، إلا في حدود ما اشترط من نظارته لمصلحة الوقف. فلو أنه أوقف أرضا ثم وهبها لزيد أو وهبها لعمرو فإن الهبة لا تصح؛ لأن الهبة تفتقر إلى ملك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الملك زال ولا تصح الهبة. وتتفرع المسألة المشهورة من هبة أعضاء الآدمي، فإن الآدمي ليس بمالك لنفسه حتى تصح هبته، فلما كان الوقف قد زالت ملكيته عن الإنسان بالوقفية، لم تصح هبته للغير، فكذلك كل شيء لا يملكه الإنسان لا يملك الهبة فيه. ولما قال صلى الله عليه وسلم: (لا توهب ولا تورث) جمع عليه الصلاة والسلام بهذا الثلاثة الأصول: الانتقال بعوض، كما في البيع وجعل البيع أصلا له، والانتقال بدون عوض كما في الهبة، وهذا انتقال اختياري، والانتقال الجبري كما في الإرث، وانظر إلى بديع هذه السنة ودقتها، وهذا يدل على صحة القياس؛ لأن الشريعة جاءت بأصل لكل باب على حدة، حتى تنبه على غيره. فإذا تقرر هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث مشروعية الوقف، وبين جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على الوقف. فهذا الحديث يعتبر عند العلماء أصلا في مشروعية إيقاف المزارع والأرضين والعقارات، وتسبيل ثمرتها، وكذلك يعتبر أصلا يقاس عليه غيره، فيقال: يجوز أن يوقف الإنسان كل عين في حكم المزرعة من جهة بقائها ودوامها، كما سيأتي إن شاء الله في شروط صحة العين الموقوفة. أما الدليل الثاني: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أن سعدا رضي الله عنه جاءه وقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها) يعني ماتت فجأة، وكان سعد رضي الله عنه من أبر الناس بأمه (إن أمي افتلتت نفسها، وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟) وكانت قد توفيت وهو خارج المدينة في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفجع بها رضي الله عنه، وكان يحبها حبا شديدا، فلما أتى وأخبر بخبرها قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها وما أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) . وفي رواية في صحيح البخاري: (فجعل لها حائط الخراف) وحائط الخراف: بستان من بساتين المدينة، وقد كانت العرب تسمي البساتين بأسماء، أي: تصدق به عنها برا منه رضي الله عنه بأمه، فدل على مشروعية الصدقة عن الميت، ولو كانت بالوقف، فصح الوقف عن الحي، والوقف عن الميت. ومن أوقف على والديه جعل الله له الأجر من وجهين: أجر بر والديه، وأجر الصدقة، فهو مثاب من الوجهين كالصدقة على ذي القرابة، فإن الله يجعلها صدقة وبرا وصلة. فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر وقفية المزرعة وأجازها، وقد فعل ذلك رضي الله عنه استئذانا من النبي صلى الله عليه وسلم. أما الدليل الثالث من السنة: فما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية) . فقوله: (صدقة جارية) يدل على مشروعية الوقف؛ لأن الصدقات الجارية هي الصدقات المحبوسة الموقوفة، بحيث تبقى بعد موت صاحبها، كمن حفر بئرا أو أجرى نهرا أو قنطرة لسقي المزارع، وسقي الدواب، وسقي الناس، وكذلك الصدقة الجارية كمن بنى بيتا وجعله للضعفاء والفقراء والأيتام والمحتاجين، أو جعله لقرابته، صلة رحم لهم، أو جعله لطلاب العلم رباطا يستعينون به بعد الله عز وجل فيأوي إليه ضعيفهم. وكذلك لو أوقف كتبا، فإنها صدقة جارية؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة جارية) ، فلما أقر عليه الصلاة والسلام الوقف على هذا الوجه، أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته. فضل الوقف لوجه الله فهذا هو شأن الموفق السعيد، فالوقف لا يشك أنه مشروع، وأنه من خصال البر والطاعة، ولكن بشروط لا بد من توفرها، وهناك أسس لا يكون الوقف خيرا للعبد في دينه ودنياه وآخرته إلا إذا حققها، أولها وأساسها أن يوقف لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياء ولا سمعة، لا يطلب من الناس مدحا ولا ثناء، وإنما يوقف أمواله لوجه الله عز وجل يحتسب ثوابها عند الله سبحانه وتعالى. وكأنه تأمل ونظر وتفكر فوجد أن هذا المال لو بقي عنده انتفع به في الدنيا، فارتاحت نفسه، وارتاح أهله وولده، ووجد لذة هذا المال، سواء كان مزرعة أو عمارة أو أرضا، ولكن إذا تصدق به فإن الله يتقبل الصدقة من عبده الصالح بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له، فلا يزال تكثر صدقته، ويعظم أجره حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فيجد صدقته أضاعفا كثيرة، لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه وتعالى. ويتفاوت الناس في مضاعفة الله لهم في الصدقات على حسب نيتهم وعظم بلائهم في هذه الصدقة، فإذا نظر بين الأمرين وبين الخيارين، اختار ما عند الله على الدنيا، ومما ذكروا عن بعض الصالحين في زمان قريب أنه بنى بيتا أنفق عليه أكثر أمواله، وكان من أفضل البيوت وأحسنها بالمدينة، واستغرق بناؤه سنوات، فلما كمل بناؤه وأحسنه وأتمه وأدخل فيه أزواجه وذريته، فلما استقروا فيه من أول النهار جمعهم في الظهيرة وقال: يا أبنائي! كيف وجدتم البيت؟ قالوا: وجدناه من أحسن ما يكون. فكل يثني على صفة موجودة في البيت. فلما انتهوا وفرغوا من ثنائهم، قال: إني فكرت ونظرت ووجدت أن هذا البيت هو أعز ما أملكه في الدنيا، وأن أفضل ما يكون مني أن أقدمه صدقة لآخرتي، يقول لي الوالد رحمة الله عليه -نقل الثقة-: ما رد عليه أحد من أولاده أو زوجه؛ لأن العبد الصالح إذا حسنت نيته، ونشأ تنشئة صالحة، وجد ثمار هذا الصلاح حينما يأمر بطاعة الله أو يلتمس مرضاة الله، والعكس بالعكس، فمن يقصر في تربية ذريته وأهله وزوجه، ولا يكون قائما على البيت كما ينبغي أن يكون، يخذله الله في مثل هذه المواقف كما خذل دين الله. فالشاهد أنه ما رد عليه أحد، بل وافقوه كلهم، فيقسم هذا الرجل الثقة للوالد يقول: والله لقد خرجوا في عز الظهيرة في الشمس، في الصيف من بيتهم إلى بيتهم القديم، وما غابت الشمس إلى وهو مليء بالأيتام والأرامل وضعفة المسلمين. فالعبد الصالح إذا عظمت الآخرة في عينه، وأراد ما عند الله سبحانه وتعالى، هانت عليه الدنيا، وإذا أحس أنه يعامل الله سبحانه وتعالى فإنه يقدم على الوقف بكل شجاعة ورضا، ويبذل وقفه ويحس أنه الرابح والغانم، وأنه لا يخسر في المعاملة مع الله عز وجل شيئا. فأجمع العلماء رحمهم الله على أن الوقف من أعظم الطاعات وأجلها، ثم يختلف الوقف بحسب اختلاف أحواله، فالوقف الذي تكون الجهة المستحقة فيه جهة عامة ومصلحة عامة من مصالح الدين، فإن الأجر فيه أعظم، كبناء المساجد والمدارس، فإن المساجد نفعها وخيرها عام، خاصة إذا كانت من مساجد الجمعة، فإن الأجر فيها لا يقتصر على الجماعات وإنما يشمل الجمعة والجماعات. كذلك أيضا المساجد تتفاوت، فالمساجد إذا كانت في أمكنة عرف أهلها بالمحافظة والحرص على الصلوات، وربما لم يكن هناك مسجد غير هذا المسجد الذي بني، فلا شك أن الأجر فيها أعظم، والوقف في هذا المكان أفضل من الوقف في غيره. كذلك أيضا من المصالح العامة، وهي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى حفر الآبار، فإن الماء يحتاج إليه خاصة في الصيف، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غفر الذنوب بسقي الماء. فالبغي من بغايا بني إسرائيل مرت على كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش فرحمته فاستقت له من البئر، فغفر الله لها ذنوبها. فإذا كان هذا في كلب وبهيمة، فكيف إذا كان إحسانا بضعفة المسلمين في القرى والهجر البعيدة التي يحتاج أهلها إلى الماء، أو يطلبون الماء من أماكن بعيدة، أو يشتري الإنسان لهم سيارة لنقل الماء، فهذه الصدقة لا شك أن نفعها أعظم، وخيرها أعظم وبرها أكثر، فيكون الوقف على هذا الوجه أفضل من الوقف على غيره. كذلك الوقف على ذي القربى والإحسان إليهم أعظم أجرا، كما ثبت في حديث زينب -امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها أنها لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة على أقرباء زوجها، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها صدقة وصلة. أي أن الله يأجرها على أنها تصدقت ويأجرها على أنها صلة رحم. كذلك يفضل الوقف بحسب الغايات الموجودة فيه، ولذلك قرر الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس (قواعد الأحكام) في مسألة الفضائل أن الأعمال تتفاضل بحسب المقاصد والوسائل. فإذا نظرت إلى الوقف على طلبة العلم، من بناء البيوت لهم، أو إعانتهم على الكتب، كإيقاف المكتبات للقراءة والمراجعة والمذاكرة، وكذلك شراء الكتب وتحبيسها عليهم، ونحو ذلك من الأمور التي تعين طالب العلم على طلب العلم، فإن الوقف عليها أفضل؛ لأنه ليس هناك أحب إلى الله عز وجل من ذكره سبحانه وتعالى، وليس هناك أفضل من طلب العلم، والعلم أفضل من العبادة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) . فدل على أن الوقف على العلم أفضل من الوقف على غيره، ويقاس على ذلك بناء المساجد لتعليم أبناء المسلمين، وخاصة إذا وجدت الحاجة الماسة للمحافظة على عقيدتهم؛ كأن يكونوا في بلد يحتاج إلى بناء مدرسة ويخشى عليهم أن يضلوا عن سبيل الله، أو يصرفوا عن الإسلام بتهويدهم أو صرفهم بالنصرانية أو نحو ذلك. فإن بناء المساجد في مثل هذه المواضع أجره عظيم، وثوابه كبير، فالوقف في هذه الحالة يكون أفضل من هذا الوجه، فإذا عظم بلاء الوقف وعظم نفعه، وكان نفعه عاما، فالفضل فيه أعظم، والأجر فيه أكبر، ومما ذكره العلماء بناء البيوت في الطرقات نزلا للمسافرين كما كان في القديم، حيث كانوا يبنون على طرقات السابلة بنيانا يجعلونه سبيلا ووقفا على من نزل فيه من المسلمين. كل هذه الأعمال فضلت من جهة كونها عامة، والمصلحة فيها لا تختص بشخص، ولا بطائفة، ولا بجنس ولا بأفراد دون أفراد، وإنما نفعها عام، ففضلت من هذا الوجه. وأما بالنسبة للوقف الخاص، فالوقف الخاص لا بأس به، وهو مشروع، وسيأتي إن شاء الله بيان بعض المسائل المتعلقة به، ومن أمثلتها أن يوقف على ذريته، فإذا أوقف على ذريته أو قرابته، كأن يقول: صدقة على آل فلان، ويخص آل فلان، من قرابته، وقد يخصص القرابة فيجعلها في العصبة، وقد يعمم القرابة، ففي هذه الحالة ينفذ الوقف، ويتقيد بما قيده الواقف، كما سيأتي إن شاء الله في شرط الواقف. لكن يختلف من جهة الفضل، ومن جهة عظم الأجر وحسن البلاء، وأيا ما كان، فإن الواجب على من أراد أن يوقف، أن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد وقفا خاصا -أن يوقف على بعض ولده- أن يتحرى العدل، وقد ذكرنا قضية الزبير رضي الله عنه وأرضاه، وهي محل خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. ولذلك يقولون: قد يوقف الإنسان فيظلم بعض الورثة، ولا يسلم الإنسان غالبا من هذا الظلم إلا إذا رجع لأهل العلم وسألهم، فالواجب على من أراد أن يوقف أن يستشير العلماء، وأن يسألهم الرأي السديد في الوقف، وأن يتحرى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله. تعريف الوقف في الشرع قال رحمه الله تعالى: [وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة] (وهو) أي الوقف (تحبيس) يقال: حبس الشيء إذا منعه، ومنه الحبس؛ لأنه منع من الخروج، وقوله رحمه الله: (تحبيس الأصل) أي: سواء كان من العقارات كما ذكرنا في المزارع والدور، أو من المنقولات كالدواب والحيوانات ونحوها، وفي أزمنتنا السيارات فيمكن تسبيلها، مثل شراء السيارات لنقل طلبة العلم ولنقل الماء، وهذا من أعظم ما يكون فيه الأجر خاصة في هذا الزمان، فربما كان الناس يبعدون عشرات الكيلو مترات عن الآبار وتحصل المشقة لهم في سقي دوابهم، وسقي أهليهم وذويهم، فشراء مثل هذه السيارات يعتبر تحبيسا للأصل. (وتسبيل المنفعة): وقد ذكرنا أن هناك العين وهناك المنفعة، فالعين هي الرقبة ذاتها كالبيت والمزرعة، وأما المنفعة فهي المصلحة الناشئة من العين، مثلا: السيارة منفعتها الركوب، ومنفعتها الحمل عليها، فإذا أوقف مثلا سيارة نقل الماء فإنه يحبس العين وهي السيارة، لا تباع ولا توهب ولا تورث، والمنفعة وهي نقل الماء مسبلة على الجهة عممها أو خصصها، فهذا تحبيس للعين وتسبيل للمنفعة. كذلك أيضا لو أوقف بيتا أو عمارة وقال: هذه العمارة للمطلقات الفقيرات، أو الأرامل، أو للضعفة والفقراء ونحو ذلك، فإن الرقبة أو العين وهي البيت لا تباع ولا توهب ولا تورث، فحبست؛ لكن منفعة السكنى فيها والجلوس فيها لمن سمى عمم أو خصص، كذلك المسجد، فالعقار (الأرض) والبناء الذي عليه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن منفعة الجلوس فيه، والصلاة فيه، وذكر الله عز وجل فيه، من تلاوة القرآن، وطلب العلم، فإنه يعتبر منفعة مسبلة للمسلمين. إذا تحبيس العين وتسبيل الثمرة مستقى من قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها) ومن هنا نعلم أن العلماء رحمهم الله يحتاطون في التعريفات الشرعية حيث إنهم يأخذونها غالبا من السنة، ومن الأدلة التي دلت على حقيقة الشيء. فلما بين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث حقيقة الوقف، وقال: (إن شئت حبست أصلها وسبلت وتصدقت بثمرها) دل على أن حقيقة الوقف تحبيس العين وتسبيل المنفعة. بم يصح الوقف قال رحمه الله: [ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] قوله: (ويصح بالقول) : أي ويصح الوقف شرعا بالقول الدال عليه، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صريحا كقوله: أوقفت وحبست وسبلت، أو يكون كناية كقوله: حرمت أبدت تصدقت، فهذا كله من ألفاظ الوقف، ويختلف اللفظ الصريح عن الكناية من جهة أنه لا يحتاج إلى نية، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحكام اللفظ. فبين رحمه الله الركن الأول المتعلق بالوقف وهو الصيغة، فالوقف له صيغة، والصيغة تنقسم إلى قول وفعل، بعض العلماء يقول: الوقف لا يكون إلا بالقول فقط، ولا يقع الوقف بالفعل ولو دل عليه، فيرون أن الوقف لابد فيه من اللفظ، وأنه إذا لم يتلفظ لا يقع الوقف، كما يختاره أئمة الشافعية رحمهم الله، وهذا تقدم معنا في مسألة بيع المعاطاة، هل تشترط الصيغة أم أن الفعل ينزل منزلة القول، ولـ شيخ الإسلام رحمه الله برحمته الواسعة كلام نفيس في كتابه النفيس: القواعد النورانية، بين فيه إجماع السلف الصالح، وذكر فيه نصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال في الدلالة، فلا يشك المسلم بأن الشخص إذا بنى بناء على شكل المسجد، ثم فتح أبوابه وأذن للناس في الصلاة فيه دون أن يتكلم؛ أن هذا الفعل كما لو قال لهم: أوقفت. كذلك أيضا، لو أنه جاء إلى خزان ماء، فأخرج منه صنبور الماء ووضع كيزان الماء على الطرق العامة أو السابلة، أو أجرى قنطرة من الماء كما في القديم، انصبت في مكان عال لسقي الدواب أو سقي الناس، فلا يشك أحد أنه يقصد من هذا الفعل سقي المسلمين، ولا يحتاج أن يقول: وقفت أو أوقفت هذا، أو سبلت هذا أو حبست هذا، وإنما ننزل فعله منزلة قوله، ويكون الوقف ثابتا بالفعل كما هو ثابت بالقول. ولا شك أن هذا المذهب الذي يقول: إن الأفعال تنزل منزلة الأقوال هو المذهب الصواب إن شاء الله، خاصة وأن نصوص الكتاب والسنة تتضمنه، وكذلك إجماع السلف الصالح رحمهم الله يدل على أنهم كانوا ينزلون الأفعال منزلة الأقوال. إذا ثبت هذا فمعناه أن الصيغة التي هي ركن من أركان الوقف تكون بالقول وتكون بالفعل، فبين رحمه الله الصيغة بقوله: (ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه) . وقوله: (وبالفعل الدال عليه) : يشترط في الفعل أن تكون له دلالة، فإذا: ليس كل فعل نقبله ونلزم الناس بأنها أوقفت وحبست وسبلت، بل لابد وأن يتضمن ذلك الفعل دلالة كما ذكرنا، مثلا: البناء الذي يكون على شكل المسجد، وتجد فيه هذه القبة التي توضع على المساجد، وهي ليس من باب العبادة، إنما نشأت في أواخر عصور بني العباس، وكانت طريقة هندسية يراد منها إيصال الصوت. ولذلك المساجد التي تجد فيها هذه الفراغ يسري فيها الصوت أكثر من المساجد المصمتة التي تكون مثل الغرف، وهذا مجرب، ووجدنا هذا في بعض الأحيان، فكنا إذا انقطعت الكهرباء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الإمام في المحراب ونسمع صوته من آخر المسجد الأحمر. وهذا شيء ليس له علاقة بمسألة عبادة، إنما أن تحصر القباب في بنائها على الأولياء والقبور والمشاهد، فهذه من المنكرات والبدع التي ينبغي إزالتها وعدم جواز بقائها، لكني أتكلم أن القبة مما اصطلح الناس على وضعها في المساجد خاصة، لتأثيرها في نقل الصوت بداخل المسجد بشكل أوضح لا أنها أمر تعبدي. فإذا بنى إنسان بناء على شكل المسجد ووضع مثلا هذه القبة عليه، وأشرع المنارة، فهذا الفعل منه دال على أنه يريد أن يجعله مسجدا، وقد ثبت عن بلال رضي الله عنه في رواية حسنها بعض العلماء وبعضهم يقول: إنها ترتقي إلى درجة الصحيح لغيره، أن بلالا كان يؤذن أذانه الأول للفجر على سطح بيت الأنصارية بجوار المسجد، والرواية فيه مشهورة، وهي التي جاء فيها أنه كان يؤذن ثم يلعن المشركين، حتى إذا قارب الفجر للانبزاغ نزل رضي الله عنه فصعد ابن أم مكتوم وأذن. فالشاهد أنه كان يؤذن على مكان عال بقصد بلوغ الصوت لأنه كان يحتاج إلى ذلك. ثانيا: من فوائدها أنها تدل على المساجد، فأنت إذا جئت إلى بلد، وتريد أن تصلي وأنت لا تعرف البلد، ولا تعرف مساجده، لا تستطيع أن تستهدي للمسجد إلا بهذا البناء وهذه الأمارة. فالبناء على هيئة وشكل المسجد دال على إرادة وقفه مسجدا لله عز وجل. فإن فتح بابه، وأشرعه للناس جاز للغير أن يدخل فيه وأن يصلي فيه، ويعتبره وقفا، ويكون فعله منزلا منزلة قوله: أوقفت هذا المسجد لله عز وجل. ولما قال المؤلف: (يصح بالقول وبالفعل الدال عليه) لم يجعل الفعل موجبا للوقفية دون أن تكون فيه دلالة، والدلالة تنقسم إلى قسمين: الدلالة الخفية، والدلالة الظاهرة. والمعتبر عند العلماء رحمهم الله -الذين يقولون بأن الأفعال تنزل منزلة الأقوال- الدلالة الظاهرة لا الدلالة الخفية، فإن الوقف يوجب خروج المال عن ملكية صاحبه، ويوجب زوال يده عنه، والأصل أنه مالك، والأصل أنه متصرف فيه، فحينئذ لا نحكم بكونه وقفا إلا إذا كان قاصدا له ودالا عليه. بناء على ذلك لو أننا وجدنا شخصا أراد أن يقيم مسجدا في موضع، أو كان في الموضع مسجد، وهدم هذا المسجد من أجل البناء، فجاء وقال للناس: صلوا في الحوش عندي مثلا، صلوا في البيت نفهم أن قوله: صلوا في البيت ليس المراد به وقفية البيت للمسجد، وإنما مراده: ما دمتم محتاجين إلى مكان تصلون فيه، فإني قد وهبتكم بيتي ووهبتكم حوشي أو مكاني هذا من أجل الصلاة فيه حتى يتيسر بناء المسجد. فهذا الفعل غير دال على الوقف رغم دلالته في الظاهر، لكن بساط المجلس والحال الذي وقع فيه العرض من الشخص ليس دالا على الوقفية، فلا نعتبره موجبا للحكم بكون ذلك الموضع قد زالت ملكية صاحبه عنه أو صار وقفا أو مسجدا. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
إذا يشترط أن يكون الفعل دالا، وقلنا: العبرة بالدلالة الظاهرة لا بالدلالة الخفية. قال رحمه الله: [كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه] (كمن) الكاف للتشبيه، أي: كشخص جعل أرضه مسجدا، وأذن للناس بالصلاة فيه، وجعلها مسجدا، معناه: أن هيئة الأرض، وبناءه لها، وعمارته لها كانت على شكل المسجد، فحينئذ نعتبره وقفا، فمن فعل هذا الفعل نعتبره قد أوقف الأرض، فلو توفي وجاء ورثته، وقالوا: الأرض أرض مورثنا، ونريد أن نبيعها، نقول إنه لما بناه على هيئة المسجد وأشرعه للناس، وأذن للناس بالصلاة فيه، فإنها دلالة ظاهرة تنزل منزلة قوله: أوقفت هذه الأرض مسجدا. قوله: (وأذن للناس في الصلاة فيه) لابد من وجود الإذن، والإذن أصله الإباحة، يقال: أذنت له بالدخول: أي أبحت له الدخول، فالأصل أن الأرض لها حرمة، كبيوت الناس ومساكنهم، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإذن، فإذا بناه على هيئة المسجد وأذن للناس بالصلاة فيه؛ فإننا نعتبره فعلا دالا على الوقفية. لكنه قد يبنيه على هيئة وشكل المسجد، ولا يأذن لأحد بالصلاة فيه، يقول: أريد أن أبيعه بحيث من يشتريه يجعله مسجدا، وهذا سائغ ويجوز، كما لو اشترى سيارة مثلا لنقل طلاب العلم أو نحوها، وقصد من ذلك أن يبيعها على من يوقفها، فقال: أريد أن أبتاعها من أجل أن يشتريها من يريد إيقافها، فالمقصود أن يأذن بالصلاة فيه، فيوجب الفعل الدال على أنه قصد الوقفية وتسبيلها لله عز وجل. وإذا أذن وخرج منه القول واللفظ الدال على الوقفية، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: تنتقل الملكية عنه، وهذا على أصح قولي العلماء أن من أوقف وقفا عاما أو خاصا على جهة معينة، أو على أفراد، فإنه صدقة عليهم، مثل المسجد مثلا، تزول ملكيته عن ذلك الشيء، وإذا زالت ملكيته وامتنع بيعه، فلو أن هذا المسجد تهدم وأصبحت أرضه مثلا خالية، أو احتيج حاجة ماسة مثلا إلى هدمه وتعويضه بمسجد آخر، يرد الإشكال، فكيف نبيع هذا المسجد ولا مالك له؟ وبناء عليه قال العلماء: لابد من الرجوع إلى القاضي؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له، وهو من الأحباس المسبلة لوجه الله عز وجل، ومنه يقولون: ينتقل لله عز وجل، والقاضي والسلطان والإمام يتولى النظر في مثل هذه الأمور، فيكون منزلا منزلة من يملكه حتى يصح البيع ويكون بيعا شرعيا؛ لأن البيع لا بد فيه من وجود بائع ومشتر، والبائع لابد أن يكون مالكا، أو له ولاية. فالقاضي إذا تولى المسجد وباعه، فإنه يكون من باب الولاية لا من باب الملك، وهذه الولاية سببها أن الملك قد زال عن الأرض بإيقافها، سواء كانت مسجدا، أو كانت مقبرة أو غير ذلك مما سبل في وجوه الخير. قال: [أو مقبرة وأذن في الدفن فيها] المقبرة: واحدة المقابر، والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} [عبس:21] ، وجعل الله عز وجل من رحمته لبني آدم، وإكرامه لهم سبحانه أن الميت منهم لا يترك على وجه الأرض؛ لأنه إذا ترك على وجه الأرض أكلته السباع، وانتهشته الجوارح، وأنتن وآذى الناس وأضر. فمن حكمته سبحانه وتعالى أن علم وألهم بني آدم أن يقبر بعضهم بعضا، فالمقبرة يحتاج إليها لدفن الموتى، فإذا كان الإنسان يملك أرضا وأراد أن يجعلها لآخرته، وأن يكسب البر والثواب بإيقافها فأوقفها مقبرة، فإنه بفعله لتسويرها، وفتح بابها، وإذنه للناس إذنا ضمنيا أو إذنا صريحا أن يدخلوا موتاهم، وأن يقبروهم في ذلك الموضع؛ فإنه يكون هذا الفعل منه دالا على الوقفية، فتكون الأرض وقفا، إن كانت عامة فعامة، وإن كانت خاصة فخاصة، كأن تكون مقابر مخصوصة لآل بيت، كقرابته، فيقول: هذا الحوش أريده مقابر لي ولآل بيتي أو قرابتي، فيكون قد أوقفه على نفسه، وعلى أهل بيته. فكل من كان تنطبق عليه هذه الصفة، يجوز أن يقبر ويدفن فيها، لكنها تكون صدقة، ويكون وقفا، ويكون فعله دالا على الوقفية كقوله. الأسئلة حكم الجهر بالقراءة في الصلاة السؤال هل الجهر بالقراءة في الصلاة ركن من أركانها أم من المسنونات؟ سؤال: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، منهم من يوجب، ومنهم من لم يوجب ذلك، وهم كلهم متفقون على أنه ليس بركن، ولكنه يكون إما واجبا أو سنة، فمن أهل العلم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه سنة، فالذين قالوا بوجوبه قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر فيما جهر فيه، وأسر فيما أسر، وقد أعلمنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (فما جهر فيه جهرنا، وما أسر فيه أسررنا) فوجب التقيد بما ورد من سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . ومن أهل العلم من قال: الجهر سنة، وهذا هو الصحيح؛ أن الجهر سنة والإسرار سنة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في السرية، ولو كان الإسرار في السرية لازما، والجهر في الجهرية لازما لما جهر في السرية صلوات الله وسلامه عليه، كما في الحديث الصحيح في صلاة الظهر أنه كان يسمع الصحابة الآية والآيتين؛ لأنه لو كان الإسرار لازما، والجهر لازما، لا يغير ولا يبدل؛ لما خالف الصفة، فلما رفع صوته عليه الصلاة والسلام وجهر في السرية؛ نبه بالمثل على مثله وبالنظير على نظيره، فدل على أن الإسرار ليس بواجب، ولو كان واجبا لما خالفه. وفائدة الخلاف أنك لو نسيت في صلاة الصبح فصليت ركعتين ولم تجهر فيهما، فإذا قلنا: إن الجهر واجب لزمك سجود السهو القبلي، وإذا قلنا: إن الجهر سنة لا يلزم سجود السهو القبلي إلا على مذهب من يرى سجود السهو في المسنونات؛ لأن السهو عندهم من جهة دخول السهو بغض النظر عن كونه في واجب أو غير واجب، كما يختاره بعض المالكية وأهل الظاهر رحمة الله على الجميع. وأيا ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خير في مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام وسنته، فالعلماء مع أنهم اختلفوا في الجهر والإسرار، لكن الأولى ألا تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان من جهر تجهر وما كان من إسرار تسر. ولذلك يشرع إذا صلى الإنسان الفجر، حتى ولو لم يدرك مع الإمام إلا لتشهد فله أن يجهر بالقراءة، لا كما نجده من كثير من الناس إذا لم يدرك إلا التشهد الأخير فلا تسمع له صوتا، ولا تسمعه ينبس بكلمة، ولذلك ينبغي تنبيه هؤلاء على السنة، فيقال لهم: هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ومن علامات القبول وأماراته أن الإنسان يوفق لاتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في العبادة، بالتزام السنة والحرص عليها وتطبيقها كما وردت، مما يجعله الله عز وجل سببا لقبول عبادة الإنسان، وعظم أجره فيها، والله تعالى أعلم. حكم إمضاء الوقف المضر بالورثة السؤال إذا أضر الوقف بالورثة، كمن أوقف داره الوحيدة واحتاجها أولاده للسكنى، فهل يمضي الوقف أم يرد؟ الجواب هذا فيه حديث متكلم في سنده، أما إذا أوقف فإن وقفه ينفذ، ويخرج عن ملكيته، وليس للورثة سلطان على ما أوقفه مورثهم خارجا عنهم؛ لأنه زالت ملكيته عنه في حياته، كما لو باع ووهب في حياته، وبناء على ذلك لا سلطان للورثة على ما أوقفه مورثهم إلا في الحدود الشرعية. مثلا: إذا رأى الورثة أن بستان مورثهم الذي تصدق به على الفقراء قد ضيعه ناظر الوقف، وكان ناظر الوقف أجنبيا عنهم، فمن حقهم أن يشتكوه؛ لأن هذا من بر والدهم وقريبهم أن يبقى الوقف على أحسن الأحوال، فإذا وجدوا الناظر قد أخل به فهم أحق من يشتكيه، وأحق من يحرص على حصول الأجر لمورثهم. فمن البر الحرص على إبقاء أوقاف الموتى، فمن بر الوالدين، ومن بر الجد، ومن بر قرابة الوالدين من الموتى الحرص على بقاء أوقافهم التي ينتفعون بها بعد موتهم لحصول الأجر والثواب لهم، والله تعالى أعلم. حكم صرف الوقف غير المحدد على الأصناف الثمانية من أهل الصدقات السؤال إذا أوصى الواقف أن يتصدق بمزرعته ولم يذكر أي جهة، فهل تصرف للأصناف الثمانية من أهل الصدقات؟ الجواب بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: اختار طائفة من العلماء أنه إذا قال: تصدقت بهذه الأرض أو سبلت هذه الأرض فقال: هذه صدقة، فإنها تكون عامة. إذا قال للفقراء اختصت بالفقراء من بين الأصناف الثمانية، لكن إذا قال: صدقة، فمذهب طائفة من العلماء كما اختاره الإمام النووي والإمام ابن قدامة وغيرهم رحمة الله عليهم أنها تصرف في الأصناف الثمانية؛ لأنه مصطلح شرعي يكون مستحقا لجهته. ومن أهل العلم من قال: تصرف وتكون في عموم وجوه الخير والبر، وفائدة الخلاف أنه إذا كان منها سيولة أو نقد، فإذا قلنا: إنها خاصة بالأصناف الثمانية؛ صرفت لأهل الزكاة، وإذا قلنا: إنها لا تختص بالأصناف الثمانية جاز أن يؤخذ من سيولتها لطبع الكتب، ونشر العلم، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وإصلاح الطرقات وغير ذلك من وجوه الخير العامة؛ لأنه لم يخصص، وهذه كلها صدقات، فتكون صدقات عامة لعموم المسلمين، وتكون صدقات خاصة، وأيا ما كان فكلا القولين له وجه، لكن القول بأنها تكون لأهل الزكاة فيه احتياط، إلا أنه من جهة اللفظ والدلالة إذا قال: صدقة، أن هذا عام لا يختص بصنف، أو يشمل الأصناف الثمانية وغيرهم، ويكون في أوجه البر العامة؛ لأنه يشملها قوله: صدقة. فمثلا: لو قال: أريد أن أحبس هذه العمارة على أن تقسم غلتها أثلاثا: ثلث منها لإصلاح العمارة إذا تعطل شيء من منافعها، وثلث منها لورثتي، وثلث صدقة، إذا قال: الثلث صدقة، وجئنا وأخذنا هذا الثلث، وبنينا به مسجدا، فإن المسجد يوصف بكونه صدقة وطاعة؛ لأن الصدقة سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها، فكل ما كان من أعمال الخير والبر دالا على صدق إيمان صاحبه بالله عز وجل، وتصديقه بموعود الله عز وجل؛ فإنه يدخل في هذا المعنى العام. إذ لو كان مراده أهل الزكاة لقال: صدقة على أهل الزكاة، ولما قال: صدقة؛ فإن هذا اللفظ عام، لكن لو أنها اختصت بالضعفاء والفقراء الذين هم من أهل الزكاة واحتيط فيها فهذا أفضل، لأنه يخرج من الخلاف، ويوجب أكثر الأجر؛ لأنهم أحوج من يكون إلى هذه الصدقة والبر. حكم الأخذ من ماء المسجد السؤال إذا احتجت إلى الماء، فهل لي أن آخذ من ماء المسجد؟ الجواب إذا كان الماء مخصوصا بالمسجد فلا يجوز إخراجه عن المسجد، مثلا: الماء الذي في دورات المياه، فإنه لا يشك أحد أن صاحب المسجد قصد منه الوضوء، وقصد منه الطهارة، وقصد منه الإعانة على الصلاة، فكل ما كان داخلا في هذا الشيء الذي يدل عليه الحال، فإنه يجوز للإنسان أن يرتفق به. أما لو أخرجه عن هذا الحد كأن يملأ الماء ويذهب به إلى بيته من أجل الشرب أو غير ذلك، فإن هذا يضر بمصلحة المصلين، ويضر بمصلحة من في المسجد، والأشد من ذلك والأدهى أخذ المياه من دورات المياه لغسل السيارات، أو نحو ذلك من المصالح الخاصة، فهذا الأمر فيه أشد؛ لأن الماء موقوف، ودلالة الحال تدل على أنه مخصوص بهذا الموضع. فالماء الموجود في المسجد مخصوص بالمسجد؛ لأنه لو يريده خارج المسجد لأخرجه عن المسجد، ولذلك ينبغي أن يقيد به، ومن هنا قال أهل العلم: إذا وضع القرآن أو المصحف في المسجد لم يجز إخراجه، وإذا وضعت كتب العلم في مكتبة وخصت بها لم يجز إخراجها إلا إذا كانت -مثلا- المدرسة نفسها تابعة للمكتبة أو نحو ذلك مما هو في حكم التبعية لهذا الموضع الذي خصت به. فلا بد من التقيد في الأوقاف بأحوالها وصفاتها، ونحن قلنا: إن دلالة الأفعال كدلالة الأقوال، فصاحب المسجد إذا وضع خزانا على دورات المياه فلا يشك أحد أنه وضعه من أجل دورة المياه، فإذا أخرج للناس ماء من أجل أن يشربوا فهذا للسابل والطريق، لكن إذا أدخله إلى المسجد فما الذي دعاه أن يتكلف مئونة وعبء إدخاله إلى المسجد، إلا قصد أن يكون صدقة على من في المسجد. ويتفرع على هذا أنه لو وضع ثلاجة ماء من أجل أن يشرب منها الناس، فلا يجوز لأحد أن يتوضأ أو يغتسل منها؛ لأن هذا الماء مجعول من أجل الشرب، وليس بمجعول من أجل الوضوء أو الغسل، ولذلك إذا اغتسل أو توضأ منها الناس أضروا بمصلحة المبرد للماء -الثلاجة- ولربما تضررت، وإذا وضعت من أجل السقي جاءها المحتاج للسقي، لكن يجدها فارغة؛ كلما بردت فرغت من أجل الوضوء أو الاغتسال، أو قد يقل تبريدها وتقل مصلحتها، ويقل أجرها في نفع من يحتاج إلى الشرب الذي أوقفت عليه. فلابد من العناية بهذا، فما جعل وقفا على جهة أو على وجه فإنه يتقيد به، وهذا إن شاء الله سنبينه أكثر عند بياننا لشرط الواقف ولزوم التقيد به. حكم الجمع بين صلاتين متما للأولى وقاصرا للثانية السؤال هل يجوز أن يجمع بين صلاتين متما للأولى قاصرا الأخرى، وذلك أن الأولى دخل وقتها، وهو مقيم ثم سافر؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: قد سبق وأن ذكرنا مسألة الأصل وما يستثنى من الأصل، والجمع مستثنى من الأصل، والأصل أن تصلي كل صلاة في وقتها؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] ، فلما ألزمنا الله عز وجل بكل صلاة في وقتها، وحدد للصلوات الإتمام والكمال في الرباعية، التزم العلماء هذا الأصل، وما ورد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم استثناء خصوه بالوارد، وهذا هو الفقه، أي: أن تعرف الأصل فتستمسك به، وما وردت السنة به استثناء تقصر فيه على صفة السنة. من هنا شدد جمهور العلماء في مسألة الجمع وجعلوا له شروطا وضوابط؛ لأنه مخالف للأصل، ومرادنا بمخالف للأصل ليس المراد به مخالفة السنة، بل المخالف للأصل عندهم أن الأصل في الصلوات أنها مؤقتة، وهذا الأصل يدل عليه أكثر من دليل في الكتاب والسنة، والإجماع منعقد عليه. فخالف الأصل بمعنى أنه استثني من الأصل وجاء على خلافه، هذا معنى مخالفة الأصل، وخالف الأصل لأنك تجعل الأولى في وقت الثانية في جمع التأخير، كما في الظهر إذا صليتها مع العصر، والمغرب إذا صليتها مع العشاء، وتجعل الثانية في وقت الأولى كما في جمع التقديم؛ لأن الأصل أن تجعل الثانية المؤخرة في وقتها والأولى في وقتها، فإذا لا يشك أنها مخالفة لصورة الأصل الوارد، وهذه المخالفة مخالفة شرعية، وليس المراد به المخالفة المنكرة. فإذا قلت: إنه مخالفة للأصل، قال بعض العلماء: لا يقع جمع إلا إذا كان بين صلاتين مقصورتين إلا ما استثناه الشرع من صلاة المغرب مع العشاء، قالوا: الأصل أن الصلاة تقصر، فلما كان المغرب من جنس ما لا يقصر فإنه لا يقع الجمع في صلاة تقصر إذا كانت تامة؛ كأن يسافر في أول وقت الظهر ويجمعها إلى صلاة العصر، فحينئذ قالوا: إنه يصلي الظهر في وقتها، ويصلي العصر في وقتها، ولا يترخص بالجمع، بناء على هذا المذهب؛ لأن الأولى لم تقع مقصورة، والجمع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر، فلم يجمع بين صلاتين إحداهما تامة والأخرى مقصورة. قال بعض العلماء: إنه يمكن أن يجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر بناء على أن العبرة عندهم بآخر الوقت، فيجوز له أن يقدم العصر ويصليها مع الظهر، ولكن هذا الذي قال بالجواز يشترط أن يكون جمعك بعد خروجك، لا أن تجمع قبل الخروج؛ لأنك قبل الخروج مقيم، فإذا أردت أن تجمع والأولى تامة لا بد أن يقع خروجك للسفر قبل خروج وقت الأولى. مثال ذلك لو أذن الظهر وأنت بمكة لا تستطيع أن تجمع بين الظهر والعصر وأنت على نية السفر إلا إذا خرجت من حدود مكة قبل خروج وقت الظهر، فإذا خرجت قبل خروج وقت الظهر فالعلماء الذين يجيزون يقولون: يصلي الظهر أربعا ثم يضيف لها العصر، فصلى الظهر أربعا؛ لأنه خوطب بها أربعا بدخول الوقت، فلا يصح له أن يقصر، وجاز له أن يجمع العصر إليها؛ لأن موجب الرخصة بالجمع هو السفر، وهو مسافر، فقد جمع وحالته حالة سفر، هذا وجه من يجيز ويرخص، وله وجهه. ويقوي هذا بأن المغرب تضاف إلى العشاء والمغرب لا قصر لها؛ لكن ينقض هذا القياس؛ لأن المغرب ليست من جنس ما يقصر حتى يصح القياس، ومن هنا لو احتاط الإنسان فهذا أفضل وأكمل، ولكن لو وقع منه هذا الجمع ففيه وجه على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة لمن ابتلي بالوسوسة السؤال الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، فمن كان يقرأها ثم تأتيه الظنون والوساوس بأنه لم يقرأها فأعادها أكثر من مرة في الركعة الواحدة، فما الحكم في ذلك، وما توجيهكم فضيلة الشيخ في هذا الأمر؟ الجواب من ابتلي بالوسوسة فليشتك إلى الله عز وجل، وليكثر من سؤال الله سبحانه وتعالى أن يعافيه أو يربط على قلبه في هذا البلاء حتى يسلم من شره، ولا يكون للشيطان عليه سبيل. إذا ابتلي الإنسان ببلية يسأل الله رفع هذا البلاء، وإلا إذا لم يرفعه سبحانه وكتب أنه سيبقى مع هذا البلاء يسأله أن يفرغ عليه من اليقين والصبر والإحسان -مرتبة الإحسان التي هي صدق اللجوء إليه سبحانه- ما يخفف به عنه هذا البلاء ويجعله خيرا له في دينه ودنياه وآخرته. فالوسوسة أمرها عظيم، قد جعل الله عز وجل آياته حجابا وحرزا وحفظا لعباده من الوسوسة، وأمرهم أن يستعينوا به سبحانه وهو رب الجنة والناس، {من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس} [الناس:4 - 6] . فأمر نبيه وصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم، والأمر لأمته من بعده، أن يستعيذوا به من الوسوسة، وهذا يدل على عظيم خطرها وبلائها، والوسوسة قد تنزل على الإنسان بلاء من الله لكي يرفع درجته ويعظم أجره، وهذا في حال؛ كأن يبتلى بالوسوسة مثلا في طهارته فيسبغ ولا يغلو، فإذا توضأ مرتين، وتبين له أنه أخطأ في وسوسته كتب له أجر الوضوء مرتين، ولو صلى مرتين، وسوس في الأولى ثم صلى ثم تبين له بعد الانتهاء من الثانية أنه صلى مرتين أو ثلاثا كتب الله له أجر الفريضة ثلاثا. لو فعلها غيره كان مبتدعا، فهو الوحيد الذي ينال أجر الفضيلة مرتين؛ لأنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فهو مثاب فعلى ما ظنه واعتقده، وأمر بالبناء على غالب ظنه، فإذا وسوس وغلب على ظنه أنه لم يفعل ثم فعل كتب الله له الأجر مرتين. لكن لو فعلها وهو عاقل عالم وكرر مرتين؛ فإنه في المرة الثانية مبتدع، ولا أجر له ولا ثواب، ففي الحديث الصحيح (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى الصلاة مرتين) أي يعتقد كلا منهما فريضة، هذا من البدعة والحدث، لأن الله أوجب عليه صلاة واحدة وهو يصلي صلاتين والله يقول: {لا تغلوا في دينكم} [النساء:171] فقد غلا في دنيه، وزاد ما لم يأمره الله عز وجل بزيادته. المقصود أن الوسوسة تكون ابتلاء لرفع الدرجة للعبد من هذا الوجه، وتكون أيضا بسبب ذنب وخطيئة سلط الله عز وجل بها الشيطان على الإنسان، ومن أعظم ما يسلط به: عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأذية الصالحين والعلماء وغيبتهم وسبهم وشتمهم والاستهزاء بهم. وهذا سبب فتنة فاعل ذلك في دينه؛ لأن هذا الأمر -أذية المسلمين، وأذية القرابة كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم- مظنة الحرمان من الخير {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد:22 - 23] . فيصاب الإنسان بالبلاء بسبب الذنوب، ولذلك أخبر سبحانه وتعالى أن من يعش عن ذكره يقيض له شيطانا فهو له قرين، فالوسوسة من الشيطان، وقد يكون سببها الغفلة عن ذكر الله عز وجل، كأن يكون حافظا للقرآن فيترك مراجعة القرآن، ويترك مذاكرته، ويعرض عن القرآن حتى يهجره -نسأل الله السلامة والعافية- فيسلط الله عليه الوسوسة في وضوئه أو طهارته واستنجائه. أو يكون بسبب ذنب كالسخرية ممن ابتلي بذلك، كأن يأتي موسوس فيهزأ به أو يستخف به فيعافيه الله ويبتليه، أو يهزأ من شخص ذو عاهة، فيبتليه الله بعاهة وفتنة في دينه كالوسوسة، ومنها الوسوسة في الناس، والوسوسة في عقائدهم، والوسوسة في أفكارهم، والوسوسة في مناهجهم، والوسوسة في صلاحهم، وفي تقواهم، فيبتلى بالوسوسة؛ فيأتي إلى عبد صالح فيتشكك فيه ويدخل في قلبه شيئا من ذلك فيتسلط الشيطان عليه، لأن كل شيء فيه أذية للمسلمين دخل بدون حق إلى قلب المؤمن؛ فمعناه أن الشيطان قد تمكن من شعبة من شعب القلب؛ فإن كان الذي قد وسوس فيه الإنسان عبدا صالحا تقيا يحبه الله؛ فإن الله يجعل بلاء من يشك في أمثال هؤلاء أعظم، وبلاء من يؤذيهم أجل، كالوالدين مثلا فإن حقهم عظيم، فإذا أساء الإنسان الظن بهم ربما ابتلاه الله بالوسوسة في أهله وولده كما عق والديه، وهكذا بالنسبة للمظان الأخر، والذي يريد العافية من الوساوس والخطرات وتسلط الشيطان، فليستعصم بعصمة الله بالبعد عن الذنوب وكثرة الاستغفار. ولذلك كان بعض العلماء يوصي من ابتلي بالوسوسة يقول له: أكثر من استغفار الله، وقل: اللهم إني أستغفرك من ذنب سلط علي هذا البلاء، فإن الله يقول: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:79] ، وأي بلاء يبتلى به الإنسان، سواء كان في الشهوات أو الشبهات أو الشكوك، يسأل الله أن يغفر له ذنبا سلط عليه هذا البلاء. ولذلك أثر عن محمد بن سيرين أنه ابتلاه الله بالدين في آخر عمره، حتى أنه سجن فيه رحمه الله برحمته الواسعة، ولما توفي أنس رضي الله عنه كان قد أوصى أن محمدا يغسله، فما استطاعوا أن يغسلوه حتى أخرجوه رحمه الله برحمته الواسعة. ولما كان يوما من الأيام مع أصحابه قال: أعرف الذنب الذي من أجله ابتليت بالدين، قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس. فابتلاه الله عز وجل بالدين في آخر عمره، فلا يهزأ الإنسان من الناس، وإذا رأى موسوسا في وضوئه فلا يضحك منه ولا يستخف به، وإذا رأى ذا عاهة فليحمد الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول: {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم:24 - 25] ، الكلمة الطيبة إن رأيت مبتلى، فتقول له: اصبر واحتسب، فتصبح كلمة طيبة تؤتي أكلها كل حين؛ فكلما جاءه البلاء تذكر تصويرك له، وكلمتك له، ولربما بقيت معه إلى عمره، كلما تذكرها صبت في ميزان حسناتك حسنات وأجور ترفع بها درجات. فالإنسان يحرص دائما على البعد عن المظالم وأذية الناس، فلن يوفق إنسان في دينه إلا إذا استعصم بعصمة الله عز وجل، وابتعد عن الذنوب. والحل في هذا أن الفاتحة إذا قرأها الإنسان وشك هل قرأها أم لم يقرأها؛ فإن كان الشك بعد مضي وقت يغلب على الظن أنه قرأ فيه فحينئذ لا يلتفت إلى الوسوسة، بل يستصحب ويقوي نفسه بالدلائل، وقالوا: إنه إذا حصلت الوسوسة في الوضوء أو حصلت في القراءة، أن الأفضل والأكمل أن يكون معه إنسان، كالمرأة في بيتها تكون معها بنتها أو ابنها فتقرأ، حتى رخص بعض العلماء في مسألة الجهرية والسرية في الموسوسة أنها تقرأ وتنبس حتى تسمع نفسها وتستعين بالغير لإثبات ذلك قطعا للوسوسة عنها. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم العفو والعافية، ودوام العافية والمعافاة التامة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (391) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [2] من الأهمية بمكان أن يدرك المسلم ما يلحقه من العمل بعد موته، والوقف هو مما يلحق ثوابه العبد بعد موته، وللوقف أركان لابد من الإحاطة بها، وكل ركن من هذه الأركان له شروط يجب تحققها حتى تتوفر الصفة الشرعية للوقف. صيغ الوقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن للوقف أركانا لابد من وجودها حتى يتحقق الوقف، ومن هذه الأركان: الصيغة. والوقف يستلزم وجود الواقف، وهو الشخص المالك للشيء الموقوف، وهو الذي يصدر منه الوقف، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا الركن. فالركن الأول: الواقف، والركن الثاني: الشيء الموقوف، والمراد بالشيء الموقوف: المحل الذي يراد وقفه، سواء كان من المساجد أو غيرها، وسيذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بهذا الركن من أحكام. الركن الثالث: الصيغة، وهي التي تشتمل على العبارة الموجبة للحكم بالوقف، وفي حكمها الأفعال، وقد تقدم أنها تنزل منزلة الأقوال في الدلالة على الوقف. الركن الرابع: الموقوف عليه، كأن يوقف على أشخاص معينين؛ كأولاده وذريته، أو يوقف على شخص معين، كصديق له، أو على جهة معينة، كقوله للفقراء، أو لطلاب العلم، أو نحو ذلك ممن سيأتي إن شاء الله بيانه عند الحديث عن جهة الوقف العامة والخاصة. إذا: لابد من وجود الواقف -الشخص الذي يملك الوقف- وصيغة تدل على الوقفية، ومحل يراد ويقصد وقفه، وموقوف عليه يكون له منفعة ذلك الوقف. تعتبر صيغ الوقف غير الصريحة بأمور قال رحمه الله: [وتشترط النية مع الكناية] الكناية لا يحكم بالوقف بها إلا بأحد ثلاثة أمور: الأول: أن ينوي في قرارة قلبه، ونحن لا نستطيع أن نكشف عما في ضمائر الناس، ولا نستطيع أن نطلع على ما في قلوبهم، فذلك أمره إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور} [العاديات:9 - 10] ، وقال: {إنه عليم بذات الصدور} [الأنفال:43] ، فهو وحده سبحانه الذي يعلم ما في قرارة النفوس، وما انطوت عليه القلوب، لكن لنا حكم الظاهر، فإذا تلفظ بهذا اللفظ المحتمل، فإننا نتوقف؛ لأن اللفظ المتردد يوجب التوقف، فكل ما تردد بين شيئين لم يجز لك أن تصرفه إلى شيء دون آخر يحتمله إلا بدليل. ولذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] ، فلما كان خبر الفاسق مترددا بين كونه صدقا وبين كونه كذبا أوجب التوقف، فكل شيء متردد يوجب التوقف ما لم يقم الدليل على رجحان ظن من الظنون على بقيتها. فإذا كانت ألفاظ الكناية محتملة فإنا نتوقف ونقول: هذا لفظ لا يدل على الوقفية صراحة. اختصم إليك ورثة، وقال أحدهم: سمعت أبي يقول: سبلت مزرعتي، فقال بعضهم: هذا وقف، وقال بعضهم: قصد التسبيل في ذلك العام، نقول: إنه ليس من ألفاظ الوقف الصريحة ما لم يكن الميت قد صرح لهذا الذي يزعم الوقفية أنه قصد الوقفية؛ لأنه أمر متعلق بالنية، فإذا لم يصرح له فإنا نسأل: هل هناك لفظ آخر غير قوله: سبلت بمزرعتي؟ قال: ما قال إلا تصدقت بمزرعتي. فنقول: هي صدقة في ذلك العام قطعا من حيث الأصل؛ لكن لا يحكم بوقفيتها على الدوام ما لم يصرح بنيته أو يوجد دليل آخر من اقتران لفظ، أو وجود حكم من أحكام الوقف الخاصة به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن خلا لفظ الكناية عن هذه الثلاث فلا نحكم بالوقفية بمجرده؛ لأنه ليس بصريح. قال رحمه الله: [أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة] (أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة) هذا الأمر الثاني، وهو أن يقترن بقوله: (داري صدقة موقوفة) ، فإنه لما قال (داري صدقة) لم يدل على الوقفية صراحة؛ إنما يدل دلالة محتملة، فلما قال (موقوفة) دل هذا على أنها وقف، وأن لفظ (صدقة) لما وصف بكونه وقفا أوجب الحكم بالوقفية. وكذلك إذا قال: (داري صدقة مسبلة) ، (داري صدقة محبوسة) ، (داري صدقة مؤبدة) ، (صدقة محرمة) ، فهذه هي بقية الألفاظ الخمسة، وحينئذ فإننا نحكم بالوقفية. فهذا هو الأمر الثاني، فإما أن توجد النية، وهذا يفتقر إلى أن يخبرك الشخص المتلفظ، أو يخبر العدلين حتى يحكم بذلك إذا لم يكن موجودا كالميت ونحوه. أو يقترن بهذا اللفظ الذي هو من ألفاظ الكناية الثلاثة (تصدقت حرمت وأبدت) لفظ من ألفاظ الأوقاف سواء كان لفظا صريحا أو لفظ كناية؛ لأن الكناية مع الكناية عززت من المقصود وارتقت من الاحتمال إلى كونها أشبه بالصريح، فغلبت الظن بأنه قصد الوقفية، وحينئذ يحكم بكونه وقفا إذا اقترن بأحد الألفاظ الخمسة. والمراد بذلك أنك إذا اخترت لفظا من ألفاظ الكناية بقيت خمسة ألفاظ، ثلاثة صريحة، واثنان منها كناية، فإذا قال: تصدقت، أو قال: حرمت، أو قال: أبدت؛ فإنه لابد أن يضيف إليها لفظا من هذه الألفاظ الخمسة الباقية. قال رحمه الله: [أو حكم الوقف] هذا هو الأمر الثالث الذي نحكم بسببه بالوقفية إذا اقترن بالكناية، كأن يقول: (داري صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث) ، فالذي لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما هو الوقف، فإذا صرح بذلك فقد دل على أنه قصد بها صدقة الأوقاف، وأنه أراد تحبيسها وإيقافها، فيحكم بوقفها. فلا يحكم بالوقف بلفظ الكناية إلا مع أحد ثلاثة أمور: أولها: النية، وهذا يفتقر إلى كلام الشخص نفسه، وإخباره أنه قصد الوقفية. والأمر الثاني: اقتران لفظ من الألفاظ الخمسة الباقية. والأمر الثالث: أن يقرن بلفظ الكناية حكما من أحكام الوقف، فيقول: (مزرعتي صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث) ؛ فإن هذا من اختصاص الوقف، ومن أحكام الوقف، فيكون ذكر هذا الحكم دالا على إرادته للوقفية فيحكم بكون الوقف ظاهرا، وحينئذ يكون لفظ الكناية بمثابة الصريح الموجب للوقفية. صيغ الوقف غير الصريحة ثم قال رحمه الله: [وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت] ابتدأ بالصريح لأنه أقوى وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى. وقوله: (وكنايته) : من كن الشيء إذا استتر، ومنه الكن، وهو الشيء الذي يتقى به المطر، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما استسقى ونزل الغيث وفر الناس إلى الكن ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أني رسول الله) ، صلوات الله وسلامه عليه. فالكن أصله الاستتار، والكنايات ألفاظ تحتمل معنيين فأكثر، فإذا تلفظ بهذه الألفاظ احتمل أن يكون قصده الوقفية، واحتمل أن يكون قصده شيئا آخر مما يحتمله اللفظ. وبناء على ذلك لا نحكم بالوقفية بمجرد تلفظه بهذه الألفاظ المحتملة؛ لأن الله جعل لكل شيء حقه وقدره، فما كان صريحا نعامله معاملة الصريح، وما كان محتملا سألناه عن نيته، أو يذكر لفظا أو حكما يوجب الدلالة على الوقفية. قوله رحمه الله: (وكنايته) يعني: كناية الوقف. وقوله: (تصدقت) : إذا قال: تصدقت بمزرعتي، فيحتمل أمرين، يحتمل أنه تصدق بثمرة هذه السنة للفقراء، ولا يقصد الصدقة الأبدية؛ لأن الوقف صدقته أبدية، ويحتمل أن يكون مراده الوقفية، فقوله: تصدقت بمزرعتي، يحتمل أنه يقصد الوقفية إلى الأبد. فاللفظ محتمل ومتردد بين هذين المعنيين، فيسأل عن نيته، هل نويت حينما قلت: تصدقت بمزرعتي؛ الوقفية؟ إن قال: نعم. حكمنا بالوقفية، وإذا قال: لم أنو الوقفية، لم نحكم بها، هذا بالنسبة لما بينه وبين الله عز وجل من نيته، لكن لو قال: تصدقت بمزرعتي وقفا لله عز وجل فحينئذ لا إشكال؛ لأنه إذا قرن بها واحدا من الألفاظ الخمسة فقد أكد إرادته للوقفية كما سيأتي. وقوله: (وحرمت) التحريم يحتمل منع الإنسان نفسه من ذلك الشيء، كأن يقول: حرام علي أن آكل من مالي، حرام علي أن آكل من بستاني، حرام علي أن آكل طعامي، فهذا منهي عنه شرعا، لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، ويجعله حراما؛ لأن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله. وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها) . ولذلك قال تعالى لنبيه: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم:1] ، وهذا كله يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له؛ لكنه لو تلفظ بهذا اللفظ فقال: حرمت بستاني، احتمل أنه محرم لبستانه على نفسه، واحتمل أنه محرم لبستانه على أهله وولده وذريته وقرابته، واحتمل أن يكون محرما بستانه أن يباع، أو نحو ذلك من الاحتمالات. واحتمل أن يكون مقصوده الوقفية، فيقول حرمت بمعنى أنه جعله محرما عليه كأنه خرج عن ملكيته؛ لأن الشيء إذا خرج من ملكيتك صار ممنوعا عليك، لا تستطيع أن تتصرف فيه كمال الأجنبي، فمن أوقف أرضا، أو أوقف عقارا أو منقولا، فقد أخرجه عن ملكيته فصار بالوقفية كالمحرم عليه. فهو لفظ محتمل ويعتبر من ألفاظ الكناية، ولذلك لا يحكم بالوقفية بمجرد صدوره من المكلف. قوله: (وأبدت) الأبد: مدى الدهر، ولا يتقيد بزمان، والوقف مبني على التأبيد، ومن شرطه التأبيد، فلا يصح أن يكون مؤقتا، وليس لأحد أن يقول: أوقفت داري شهرا، ولا يصح أن يقول: أوقفت مزرعتي سنة، فإذا كان الوقف من صفاته التأبيد، وقال: أبدت مزرعتي، احتمل أن يقصد الوقفية، واحتمل أن يقصد غير الوقفية من الأمور التي يحتملها هذا اللفظ، وقد تكون هناك احتمالات عرفية، وقد تكون هناك احتمالات لفظية. فإذا قال: أبدت، فإنه لفظ متردد، ولا يدل على الوقفية صراحة، ومن هنا اعتبره العلماء من ألفاظ الكنايات، فلا نحكم بكونه وقفا حتى يضيف لفظا آخر مؤكدا لوقفيته، أو تكون هناك نية دالة على الوقفية، أو يقرن به حكما من أحكام الوقف فينصرف اللفظ إلى الوقفية. صيغ الوقف الصريحة شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الصيغة. والصيغة القولية تنقسم إلى قسمين: فمن وقف وكان وقفه باللفظ فلا يخلو من أن يكون لفظه صريحا: وذلك يكون بعبارة لا تحتمل إلا معنى الوقف، أو كناية: أي بعبارة محتملة للوقف وغيره، فللصريح حكم، وللكناية حكم. فقال رحمه الله: [وصريحه] الضمير عائد إلى الوقف والصريح هو الذي لا يحتمل معنى غير الوقف. قوله: [وقفت] والأصل في الوقفية هذا اللفظ، يقول: وقفت بيتي، وقفت عمارتي، وقفت مزرعتي، فهذا صريح في الوقفية. اللفظ الثاني [حبست] يقول: حبست مزرعتي صدقة للمساكين، حبست مزرعتي على ذريتي. اللفظ الثالث: [سبلت] ، كقوله: سبلت كتبي لطلبة العلم، فقوله: وقفت أو حبست أو سبلت، هذه ثلاثة ألفاظ أجمع العلماء رحمهم الله على أنها صريحة في الوقفية. ودليل كون هذه الألفاظ صريحة في الوقف السنة والإجماع، أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فاستخدم التحبيس وعبارة التسبيل، وبذلك نجد العلماء يطلقون على الأوقاف: الحبس، فيقال: ولا يجوز هذا إلا في الأحباس، أي الأوقاف. فالتحبيس والتسبيل وردت بهما السنة، والوقف هو الأصل، ولذلك يدل على الوقفية لغة وعرفا، فإذا قال شخص: وقفت منزلي، وقفت داري؛ فإنه إذا ثبت بشاهدة العدلين عند القاضي أنه قال هذه الكلمة حكم بالوقفية، فلو قال: قصدت غير الوقفية لم يقبل قوله؛ لأنها صريحة في الدلالة على الوقفية، ففائدة اعتباره صريحا أنك تحكم بالوقفية دون أن تتوقف على لفظ آخر، أو على نية، أو على شيء يقرن به ذلك اللفظ حتى يحكم بالوقفية. إذا صريح الوقف هذه الثلاثة الألفاظ، فمن قال: وقفت أو حبست أو سبلت، حكمنا بالوقفية، حتى قال بعض العلماء: إنها لا تفتقر إلى لفظ آخر حتى نحكم له بالوقفية، فصريح الوقف كصريح الطلاق، فإذا قال: طلقت زوجتي؛ حكمنا بالطلاق ولو قصد شيئا آخر، ما لم تقم بينة أو تقم قرينة دالة على أنه لا يريد الطلاق كما تقدم معنا في كتاب النكاح. إذا هذه ثلاثة ألفاظ، دل على كونها صريحة دليل السنة والإجماع، وفائدة اعتبارها صريحة: أننا نحكم بالوقفية بمجرد صدورها عن المكلف دون افتقار إلى لفظ أو إلى حكم أو إلى نية. وبعض العلماء يقول: إنه لو قال: وقفت، ولم يقصد الوقفية، ولم ينو الوقفية، وإنما قصد معنى آخر فإنه في الظاهر يحكم بالوقفية، لكن في الباطن لا تثبت الوقفية، كما لو قال: طلقت زوجتي، فإنها تطلق قضاء ولا تطلق ديانة كما تقدم معنا في كتاب النكاح. فقال رحمه الله: [وصريحه: وقفت وحبست وسبلت] . ما يشترط في الوقف قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما] شرع رحمه الله ببيان الشروط المتعلقة بالأوقاف، وشروط الأوقاف تنقسم إلى أقسام على حسب الأركان، فهناك شروط تتعلق بالشخص الواقف، وهناك شروط تتعلق بالشيء الذي يراد وقفه، وهناك شروط تتعلق بالجهة، أو بمن يوقف عليه. أن يكون الوقف على جهة قربة قال رحمه الله: [وأن يكون على بر، كالمساجد والقناطر والمساكين، والأقارب من مسلم وذمي، غير حربي وكنيسة ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة] في المثالين السابقين (كعقار وحيوان) العقار لا يزال إلى زماننا موجودا، والحيوان لا يزال إلى زماننا موجودا؛ ويدخل في حكم الحيوانات السيارات في زماننا، فلو أن شخصا أراد الخير، وأراد مرضاة الله عز وجل، فعلم أن هناك طلاب علم يفتقرون إلى وسيلة تنقلهم إلى مدارسهم، فأوقف سيارة لنقل طلاب العلم، أو طلبة التحفيظ، من أجل أن يحفظوا كتاب الله عز وجل في مسجد بعيد، فأوقف هذه السيارة من أجل نقلهم، أو أوقف سيارة لنقل المصابين والمرضى، كما في سيارات الإسعافات ونحوها، إن احتسب الأجر عند الله في مكان يفتقر إلى وجودها، فاشترى سيارة وقال هذه السيارة وقف لنقل المصاب والمريض، أو كانت في الجهاد في سبيل الله عز وجل لنقل المصابين، فهذه في حكم وقف الحيوان، يحبس الأصل التي هي رقبة السيارة، وتسبل منفعتها من الركوب عليها. وقد يكون للواقف احتياط في بقاء العين كما سيأتي إن شاء الله، فالسيارة قد تحتاج إلى مئونة كالدابة فتسري عليها أحكام الدواب، فالدواب كانت تحتاج إلى علف وتحتاج إلى رعاية من بيطرة ونحوها إذا مرضت أو أصابها شيء، فبعضهم يحتاط فيجعل الرقبة متصدقا بها، ويجعل جزءا من منافعها يستغل بحيث يكون ما يستغل موجبا لدفع التكاليف التي يحتاج إليها، ويمكن أن يوقف أكثر من سيارة، فيجعل بعضها للاستغلال من أجل أن تبقى الرقاب، وبقية السيارات التي يقصد بها الرفق، سواء كانت في إسعاف المرضى والمصابين، أو كانت لنقل طلاب العلم، أو غير ذلك مما يقصد به وجه الله والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. هكذا لو كان له قرابة، ويحتاجون إلى سيارة يتنقلون بها، فقال لهم: هذه السيارة أوقفتها عليكم، فأوقفها على قرابته من أجل أن يرتفقوا ويقضوا عليها مصالحهم، فهذا يمكن أن يكون من وقف الخير والبر، ويثاب الإنسان عليه، ويكون صدقة وصلة رحم. ونحو ذلك مما هو موجود في زماننا كالآلات، فالآلات مثلا يمكن أن توقف، كما في القديم كانت الآلات التي يجاهد بها من أسلحة القتال والجهاد في سبيل الله منها ما هو موقوف، وذكر العلماء في ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم للصدقة كما في الصحيحين فقال: منع خالد والعباس وابن جميل فقال صلى الله عليه وسلم: (وما تنقمون من خالد فإنه احتبس أدرعه ومتاعه في سبيل الله) ، فجعل الآلات الدروع التي يجاهد بها محبوسة، فدل هذا على جواز ومشروعية احتباس الآلات. وفي زماننا لو حبس أي آلات ينتفع بها في مصالح المسلمين عامة كحفر القبور، وآلات يشق بها الطرقات كما هو موجود الآن عندنا في بعض الوسائل التي يستعان بها لتكسير الصخور، ولحفر الآبار، ولشق الطرقات، فهذا كله مما يمكن إيقافه، فيحبس الأصل وتسبل ثمرته ومنفعته، ويكون وقفا على من سماه الواقف. قوله رحمه الله: [وأن يكون على بر] أي: ويشترط في صحة الوقف أن يكون على بر، والبر كلمة جامعة لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، وأكثر ما يكون البر في الأفعال، ولذلك عممه الله سبحانه وتعالى، فجعل من البر ما يكون من الاعتقادات والأعمال الظاهرة، ومنه الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وجعل من البر إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وجعل من البر الوفاء بالعهد، وجعل من البر الصدقة على المساكين وذوي القربى والمحتاجين. فهذا معنى البر العام، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى البر بالتقوى، فجعل البر تقواه سبحانه وتعالى إشارة إلى عمومه وشموله لأصول الإسلام ومحاسنه، كما قال سبحانه وتعالى: {ولكن البر من اتقى} [البقرة:189] ، فجعل البار الكامل في بره من اتقى الله سبحانه وتعالى. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
فدل على أن البر من الألفاظ العامة الشاملة لما يحبه الله ويرضاه من الطاعات والقربات، سواء كانت من الأمور المتعلقة بالاعتقاد، وهي أفضل البر وأحبه إلى الله سبحانه وتعالى، كالإيمان به سبحانه وتوحيده، وحسن الظن به جل جلاله، ومحبته، وخشيته، والاستعانة به، والتوكل عليه ونحو ذلك من أعمال القلوب، أو كانت من الأعمال الظاهرة من شعائر الإسلام العظيمة كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فلو أوقف شيئا، وقصد به البر صح وقفه، وبعض العلماء يقول: على بر ومعروف، والمعروف أكثر ما يكون في الأقوال، ولذلك يقال: أمر بالمعروف، ويجعل بعض العلماء بين البر والمعروف عموما وخصوصا، وإذا أوقف على بر يشمل فإنه وقف المساجد من أجل الصلاة فيها، وإقامة حلق الذكر والمحاضرات والدروس، هذا كله من البر الذي يحبه الله ويرضاه. كذلك أيضا لو أوقف كتبا يتعلم منها، ويستفاد منها، فهذه صدقة جارية تكون وقفا؛ لأنها على بر وعلى طاعة، كمن أوقف مصاحف يقرأ فيها الناس، ويتعلم أو يحفظ منها طلاب العلم، فإن أوقفها على مدرسة فغالبا ما تكون للحفظ، أو أوقفها على مسجد، فغالبا ما تكون للقراءة، وهذا كله من البر. كذلك يوقف بقصد الصلة للرحم، كأن يوقف على قرابته، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. فقوله رحمه الله: (أن يكون على بر) يعني يكون الوقف على بر، مفهوم ذلك أن الوقف لا يكون على معصية، فإذا أوقف على معصية الله عز وجل، فإنه وقف ممنوع، وليس بوقف مشروع. ومن هنا مثل العلماء رحمهم الله بوقفية آلات اللهو والمعازف، وكذلك الوقف على المعاصي، مثل قطع الطريق وإخافة الآمن، ونحو ذلك مما فيه ضرر على المسلمين عامهم أو خاصهم، فلا يجوز مثل هذا، وليس من الوقف الشرعي، بل هو وقف محرم ولا يعتد به. قوله رحمه الله: [كالمساجد] فإن المساجد تعتبر من أبر البر، وأعظم ما يكون من طاعة الله عز وجل بعد توحيده أن يقيم المسلم صلاته، والمساجد محل لإقامة الصلاة وذكر الله عز وجل، فالوقف عليها فيه أجر عظيم وثواب كبير، ثم يختلف البر في المساجد، فالبر في المساجد التي تقام فيها الجمعة أعظم من البر في المساجد التي تكون فيها الجماعات، مساجد الجمعة والجماعات أفضل من مساجد الجماعة فقط؛ لكن بعض العلماء يقول: مساجد الجماعة قد تكون أفضل من مساجد الجمعة من وجه، وهذا في أحوال خاصة؛ كأن يبني مسجدا في حي مكتظ بالناس يصلون فيه، ويمتلئ المسجد في الصلوات الخمس. فإذا حسبت ما يكون طيلة الأسبوع من الفروض الخمس مقرونا بمسجد تقام فيه الجمعة والجماعة، ولكن العدد قليل فقد يفوقه في الأجر من هذا الوجه، لكن هذا فيه نظر كما قال بعض مشايخنا رحمة الله عليه، وذلك أن الجمعة من حيث الأصل لها فضيلة، وصلاة الجمعة مفضلة بتفضيل الله عز وجل ليومها ولهذه الشعيرة، فوجود الفضل الخاص لها يعطي مزية في الوقف على مسجد مشتمل على المعنى العام، وهي في الصلوات الخمس دون هذه المزية الخاصة. فلا نستطيع أن ننزل الصلوات الخمس منزلة الجمعة من هذا الوجه، حتى إن بعض العلماء كان يرى أنها الصلاة الوسطى كما ذكرنا في الخلاف في تعيين الصلاة الوسطى، وإن كان الصحيح أنها صلاة العصر؛ لكن الشاهد أن الله سبحانه وتعالى فضل الجمعة وخصها بخصائص، فإذا أوقف على مسجد فيه جمعة وجماعات، فذلك أفضل من الإيقاف على مسجد فيه جماعة فقط. ثم ينبغي على من يوقف على المسجد أن يراعي أمورا تزيد في الخير والبر؛ فمثلا: إذا كان في موضع لا يدري هل يبقى أهله على الإسلام أو لا، أو أهله مقصرون في الصلاة، فليس مثل أن يكون بمثل موضع عرف أهله بالمحافظة على الصلوات ويغلب على الظن بقاء المسجد دهرا طويلا. فوقفية المساجد في الأماكن التي يستقر فيها الإسلام، ويكون الناس حريصين فيها على الصلوات أفضل، وكذلك في الأماكن النائية حيث الحاجة شديدة، كالبوادي ونحوها، حيث يكون الخير فيهم أكثر، والأجر فيهم أعظم مما لو أوقف في مكان لا يضمن أن أهله ينتكسون عن الإسلام أو يتحولوا عن الموضع الذي هم فيه، فتتفاضل المساجد بحسب ما يكون فيها من الخير والبر. ثم أيضا إذا أوقف على المسجد، وكان أهله حريصين على ذكر الله وإقامة المحاضرات ومجالس الذكر، والجلوس في المسجد أكثر من غيرهم، فالوقف على أمثال هؤلاء أفضل من الوقف على غيرهم. وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن الوقفية في الأماكن المفضلة أفضل من الوقفية في الأماكن المفضولة، فالمسجد في مكة والمدينة أفضل من غيرهما، فإن وقفية المسجد في الحرمين ليس كوقفية المسجد في غيرهما، وهذا راجع إلى التفضيل بالمكان؛ لأنه مزية فضل، ويقولون: إن هذا أعظم في أجره وأفضل مما لو صرفه في غيره. وقوله: (والقناطر) أي: بناء القناطر، وكانوا في القديم يحتاجون، القناطر تكون لمجرى الماء، كانوا يبنون القناطر للمياه يستقي منها الناس، ويسقون منها مزارعهم، ويسقون منها دوابهم، فهذه القناطر تكون مسبلة على عموم المسلمين، غالبا ما تكون الوقفية فيها على عموم المسلمين، فالأجر فيها أعظم، كالمساجد تكون على عموم المسلمين، ولا تختص بطائفة ولا بجنس، وغالبا ما تكون على عموم المسلمين مثلما كان في بعض المدن الإسلامية تجري الأنهار في داخلها، فوجود القناطر تحفظ المياه وتصونها، وجري الماء في القنطرة يسهل وصوله إلى الناس. وربما احتاجت القنطرة إلى بناء فبناها وأوقفها، فهذا لا شك أنه أفضل وأعظم أجرا، وتتفاضل القناطر أيضا بحسب ما يكون منها من النفع، فالقناطر التي ينتفع بها العامة، ويستقي منها الناس، وتسقى منها المزارع والدواب، ليست كالقناطر الخاصة التي تكون منحصرة، فالقناطر متفاوتة في الفضل بحسب ما يكون منها من الخير والبر. قوله: (والمساكين) : لأن المساكين يكون البر من جهة الرفق بهم؛ لأن الإحسان إلى المساكين والإنفاق عليهم من البر، فهذا تعبير بالشخص الذي يعطى، أو بالمحل الذي يوقف عليه، وقد تكون (المساكن) ؛ أي: (كالمساجد والقناطر والمساكن) ؛ لأن المساكن يؤوى إليها، فمثل بالمساجد التي فيها منافع دي وجود المنفعة مع بقاء العين الموقوفة فقال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما] (ويشترط فيه) يعني: في محل الوقف، فلا يقع الوقف على شيء إلا إذا استوفى شروطا، ولا نحكم بوقفية كل شيء، وبعبارة أخرى أن الوقف يختص بأشياء دون أشياء. وبناء على ذلك يرد السؤال ما هي الأشياء التي يمكن وقفها؟ الجواب كل عين فيها منفعة قابلة للانتقال بالتمليك، ودائمة لا تفوت العين بها. فلما قلنا: كل عين، خرجت المنافع؛ لأن الأشياء أعيان ومنافع، فالعين هي الرقبة مثل الدار والمزرعة، فكل عين لها منفعة يمكن أن يتعلق الوقف بالعين، ويمكن أن يتعلق بالمنفعة، فإذا تعلق بالعين تبعت المنفعة العين، وأما إذا تعلق بالمنفعة فإن هذا لا يستلزم وقفية العين. وبناء على ذلك فالوقف لا يصح إلا إذا كان بالعين، فلا يتعلق الوقف بالمنافع، ومن أمثلة المنافع السكنى، فلو أن شخصا ملك منفعة دار شهرا، كأن يستأجر عمارة لمدة شهر، أو يستأجر عمارة سنة، أو يستأجرها عشر سنوات، ثم قال: أوقفت هذه المنفعة عشر سنوات على طلاب العلم؛ فإنه لا يصح؛ لأن الوقف لا يتعلق بالمنافع. ولذلك يشترط في محل الوقف أن يكون من الأعيان لا من المنافع، وهكذا لو قال: أوقفت الركوب على الدابة، فلا يصح، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى هذا الشرط: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فجعل المنفعة تابعة للعين وجعل الوقفية متعلقة بالعين. ثانيا: أن تكون هذه العين مشتملة على منفعة لا تفوت بفواتها لو تعلقت الوقفية بها، فإذا أوقف عينا ولها منفعة وكانت المنفعة لا تتحقق إلا بذهاب العين لم تصح الوقفية، ومن أمثلة ذلك أن يوقف طعاما على فقير فإن انتفاع الفقير بالطعام لا يمكن أن يكون إلا بالأكل، وحينئذ تكون منفعة الموقوف مفضية إلى ذهاب عين الموقوف. ولا يصح الوقف على هذا الوجه، فلا يصح وقف الطعام على هذا الوجه؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذهاب عينه، والنبي صلى الله عليه وسلم عبر في الوقف بعبارتين (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمر) ، فلو قلنا بصحة وقفية الطعام ووقفية الأعيان التي تذهب بالانتفاع بها، فإن هذا يناقض الوقف؛ لأن الوقف حبس الشيء: (إن شئت حبست الأصل) ، وهو إذا قال أوقفت هذا الطعام صدقة على المسكين؛ فإن انتفاع المسكين مفتقر إلى فوات الطعام، والوقف حقيقته أن يبقى الأصل محبوسا، فلا تتحقق الوقفية، ولا يمكن أن يكون الطعام باقيا؛ لأنه يستنفد ويستهلك بالأكل. ومن هنا تخرجت أيضا مسألة وقفية الدراهم والدنانير، كأن يقول: هذه مائة ألف وقف على الفقراء والمساكين، فهذا لا يصح؛ لأن الذهب والفضة لا يصح وقفها في قول عامة أهل العلم كما حكاه الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره، فذكر أن وقف الأثمان لا يصح، لأنه لا يمكن أن ينتفع بالذهب والفضة إلا بالشراء وبذلها، فإذا منفعتها موجبة لذهاب عينها، والوقف يستلزم بقاء العين. فصار هناك تناقض بين حقيقة الوقف ووجود الثمرة والمقصود من التحبيس والوقفية، ومن هنا لا بد وأن تكون العين باقية، وألا يكون الانتفاع بهذه العين موجبا لفوات العين، إلا أن بعض العلماء استثنى من الذهب والفضة أن يكون من الحلي كالأسورة والقلائد ونحوها، فقال: يصح وقفية الحلي يعار للضعفاء والفقراء يتجملون به ويلبسونه، فهذا يخفف فيه بعض العلماء فيقول ستبقى القلادة، فحقيقة الوقفية منضبطة؛ لأن القلادة ستبقى، والمنفعة بالتزين ممكنة، وهذه مسألة لها أصل تقدم في مسألة إجارة الحلي، وأيا ما كان من حيث الأصل لا تصح وقفية الدراهم والدنانير، فلو قال: هذه مائة ألف وقف لم تصح وقفيتها. وهنا مسألة انتشرت في بعض البلدان الإسلامية، ويوجد من يفتي بها وهي مسألة عجيبة، يقولون: يمكن للغني بدل أن يعطي الفقراء والضعفاء أموال الزكاة، قال بعض المتأخرين والباحثين بأنه يجوز أن تؤخذ هذه الزكاة وتبنى بها عمائر، أو تبنى بها محلات تجارية قبل إعطائها للفقراء ثم يؤخذ ريع هذه العمائر ويتصدق به على الفقراء. يقول: هذا أفضل من أن نعطيهم النقود لأنهم يضيعونها أو يتلفونها، ثم إن هذا استثمار يدر عليهم أرباحا أكثر وأفضل مما لو أخذوا هذا المال، وهذه فتوى باطلة، لا تستند لاجتهاد صحيح؛ لأن الزكاة حق في المال للفقراء ومن سمى الله من أهل الزكاة كما قال تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم} [المعارج:24] ، فهذا يدل على أن الزكاة حق للمسكين، وإذا كانت حقا للمسكين؛ فإن بناء العمارة بها، أو شراء الأرض من أجل بناء العمائر عليها، أو ما يستغل أو يستثمر يفتقر إلى وجود الإذن من المالك، والفقير ما فوض الغني بأن يبني له، ولم يفوضه أن يقوم بهذا الاستثمار، فحينئذ يبنيها الغني على ملكه، ويصبح فعله هذا معطلا للزكاة، ولا يترتب عليه ملكية المساكين وأهل الزكاة لهذا المال. ثم إذا قلنا: إنها حق لمن سمى الله عز وجل من أهل الزكاة فمن الذي يستحق هذه العمائر من الأصناف الثمانية، ومن الذي تكون له هذه الاستثمارات؟ فمثل هذه الاجتهادات التي لا تستند إلى أصول صحيحة، ولا تتفرع على أصول علمية ذكرها العلماء والأئمة؛ فإنه لا يعول عليها، ولا يلتفت إليها وهي باطلة. فالشاهد من هذا أنه لا تصح وقفية الدراهم والدنانير؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بذهاب عينها؛ فإذا لا يمكن أن تبقى وقفا، وإذا انتفع بها تعطلت الوقفية، وإذا بقيت وحبست امتنعت عن المنفعة، فأصبح الأمر متناقضا، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: لا تصح وقفية الأثمان ولا المطعومات ولا الرياحين، ومثلوا بالرياحين؛ لأنها تشم وتعصر فإذا شمت تلفت وفسدت وذهب ما فيها من النكهة والرائحة، وإذا عصرت أيضا فسدت، فالمنفعة فيها موقوفة على إتلاف عينها، فلا تصح وقفيتها من هذا الوجه. قال رحمه الله: [ويشترط فيه المنفعة دائما من عين ينتفع به مع بقاء عينه] (دائما) لأن الوقف على التأبيد، وذلك كما أشرنا إلى أن الوقفية لا تصح مؤقتة، فلو قال: أوقفت داري شهرا، أو أوقفت مزرعتي سنة، فإن هذا لا يصح؛ لأن الوقف المؤقت باطل، فلابد وأن يكون الوقف على التأبيد، ولذلك يذكر العلماء من شروط صحة الوقف أن يكون على التأبيد. فإذا كان الوقف على التأبيد فهو أن تبقى العين غالبا، وأن يكون تحبيسها وإيقافها إلى الأبد. قال رحمه الله: [كعقار وحيوان] (كعقار) أي كما لو أوقف عقارا، كأن يوقف عمارة، أو يوقف بيتا، ويجعله مسكنا للأيتام والأرامل والمحتاجين، أو يوقف عمارة على طلاب العلم، أو على أهل العلم يأخذون ثمرتها وغلتها، فإذا أوقفها على طلاب العلم من أجل أن يسكنوا فيها كما في الأربطة فلا إشكال، ويكون استحقاقه من جهة السكن، وإذا أوقفها على أهل العلم على أنها تستغل ويكون لأهل العلم أخذ غلتها، فهذا شيء آخر، فيقسم نتاج الأجرة كما هو معلوم. [كعقار وحيوان] وقوله: (كعقار وحيوان) مثل رحمه الله بالعقار والمنقول، والحيوان مثل الإبل والبقر والغنم، بأن يوقف الدابة ويوقف منافعها، يحبس الأصل ويسبل الثمرة، وإذا سبل الثمرة في البهيمة، فإما أن يسبل ركوبها مثل البعير يجعله للركوب في سبيل الله عز وجل، سواء للجهاد في سبيل الله، كأن يقاتل عليه ويجاهد في سبيل الله عز وجل، وكذلك الفرس لو أوقفها في سبيل الله عز وجل، وتكون البهيمة محبسة الأصل مسبلة الثمرة أيضا بأن يتصدق بحليبها، فيجعل حليبها كما في البقرة أو في الشاة، يحبس أصلها ويجعل حليبها صدقة للضعفاء والفقراء. الأسئلة مسح البول دون غسله السؤال إذا أصاب البدن بول ثم مسح بالمنديل ونسي الغسل ولم يذكر إلا بعد الصلاة فما الحكم؟ الجواب الطهارة بالماء في غير القبل والدبر لازمة، ولا تحل الطهارة بالتراب أو الحجر ونحوه من الطاهرات محل الماء في تطهير البدن أو الثوب أو المكان إذا أصابته النجاسة، إلا في مسألة واحدة ذكرها بعض العلماء وهي أن يصيب الثوب نجاسة وليس عنده ماء فقالوا: يشرع أن يتيمم لهذه النجاسة التي عليه. هذا قول بعض العلماء، ويجعل الطهارة الترابية بدلا عن طهارة الماء، أما من حيث الأصل فالذي دل عليه الأصل أن الطهارة من النجاسة لا تكون إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقال: (اغسلي) ، وجعل تطهير النجس بالغسل، فهذا هو الأصل أنه يجب الغسل. والماء أصل لحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بول الأعرابي: (أريقوا عليه سجلا من ماء) ، ولم يجعل نشاف البول، ولا تبخره بالشمس موجبا للحكم بطهارة الموضع، خلافا للحنفية الذين يقولون إنه يمكن إذا ظهرت عليه الشمس فتبخرت النجاسة أن يحكم بطهارة المكان. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لابد من الغسل، وإذا ثبت هذا فالمنديل لا يعتبر مطهرا إلا في القبل والدبر إذا خرجت منهما نجاسة، فيعتبر في حكم الاستجمار؛ لأن الاستجمار يجوز بكل طاهر ما عدا العظم والروث، ونحوه من المحترمات، وكذلك ما لا ينقي. فإذا أنقى بالمنديل في القبل والدبر حكمنا بالجواز، بشرط أن لا يتجاوز الخارج الموضع والصفحتين فإذا تجاوز وجب الغسل، هذا من حيث الأصل. أما بالنسبة للمسألة المذكورة أنه أصابته النجاسة فمسحها بالمنديل ثم نسي غسلها ثم صلى، فأصح أقوال العلماء في هذه المسألة أن صلاته صحيحه إذا لم يتذكر إلا بعد السلام والفراغ من الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه وكانت فيهما نجاسة، فأتاه جبريل فأخبره أنهما ليستا بطاهرتين، فخلعهما عليه الصلاة والسلام ولم يعد الصلاة من أولها، فبنى على ما مضى، فدل على أن الكل إذا تم دون علمه أنه معذور وصلاته صحيحة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نتاج الدابة هل يعتبر تابعا للأصل السؤال من أوقف دابة فهل نتاجها وما في بطنها يعتبر وقفا، وهل يعتبر النتاج من الأصل أم من المنفعة؟ أثابكم الله. الجواب هذا يرجع فيه إلى شرط الواقف، وسيأتي التفصيل فيه، فإذا أوقف دابة قد يسبل ركوبها، ولا يسبل حليبها، وقد يسبل الدابة بحليبها وثمرتها؛ لكن الأصل أن الثمرة تتبع العين، وإذا سبلها على أن تكون منافعها كلها تابعة لها فلا إشكال، وتكون على المصرف الذي حدده. فلو قال مثلا: أوقفت هذه الدابة على أن حليبها يباع، وينفق عليها من حليبها، فحينئذ تكون الوقفية مختصة بالركوب ولا تشمل الشراب، وقد يقول: أوقفت هذه الدابة يشرب من حليبها، ولكن يستغل ظهرها من أجل أن ينفق عليها بقدر الحاجة أو النفقة عليها. فالمقصود أن هذا يختلف باختلاف شرط الواقف، ويتقيد في حكمه بشرط الواقف، والله تعالى أعلم. تجزؤ الوقف السؤال إذا كانت لدي دار فهل يجوز أن أسكن في دور وأوقف باقي الأدوار؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فأجاز بعض العلماء أن يوقف من الدار علويها، وأن يبقي أسفلها على الأصل، وممن اختار هذا القول الإمام النووي رحمه الله كما نص عليه في الروضة، وأشار إلى أنه وجه عند الشافعية رحمهم الله. فبناء على ذلك يرتفق بالأسفل منها ويوقف أعلاها، وقال بعض العلماء: إن أسفل الدار حكمه حكم أعلاه وأعلى الدار حكمه حكم الأسفل، ولا يمكن أن نحكم بالوقفية باختصاص الأعلى دون الأسفل ولا العكس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ، فجعل أسفل الشيء تابعا لأعلاه؛ ولأن الإجماع منعقد على أن من اعتكف في مسجد فصعد إلى سطوحه أنه لم يخرج عن المسجد؛ فدل على أنها سارية إلى الأعلى كما أنها ثابتة في الأسفل، ولذلك صح الطواف بالدور الثاني من بناء البيت، وصح الطواف على سطح المسجد الحرام؛ لأن أسفل الشيء وأعلاه في حكم واحد من هذا الوجه، إذا ثبت هذا فلا يصح أن تقول إن الأعلى موقوف دون الأسفل، أو الأسفل دون الأعلى. ومن هنا تتخرج مسألة ما إذا بنى مسجدا، وجعل تحته أماكن للاستغلال، أو جعل فوقه سكنا يستغل، فإذا قيل إن أسفل المسجد وأعلاه حكمه واحد، وهو الصحيح والأقوى من حيث الأصول؛ فإن هذا يمنع، ولا يمكن أن تكون أسافل المساجد لا حرمة لها كأعلاها، ولا أن يكون أعلاها خاليا من الحرمة كأسفلها. ولذلك فالأشبه بمثل هذا أن الحكم للأعلى والأسفل، ومن هنا نبهنا على مسألة شراء الشقق، فإن الشقة إذا اشتريت، وهي في الدور الثاني فإن هذا يوجب السؤال إذا كان الأصل أن فضاء الشيء تابع لأسفله فحينئذ تصبح الشقة تابعة للأسفل. فلو قلنا: إنه بنى دارا من شقتين في كل دور شقة؛ فلن يتحقق تقسيم الأرض بينهما؛ لأن الذين يبيعون الشقق يبنون فوق هذه الشقة أدوارا أخرى، ويبيعون الشقق، والمالك الحقيقي يقول: بعتك الشقة فقط أنا ما بعتك سطح الشقة، فهو مالك لسطحها، فإذا بنى عليها سيبيع ذاك الذي بناها، ثم يبني عليها آخر ويبيع الذي عليه. لكن لو أنه اشترى الشقة على أنه مشتر لنصف البيت، وأن هذا البيت بينهما فإنه يصح، ولا ينصب البيع على الشقة؛ ولكن يقول: أشتري منك هذه العمارة نصفها بمليون على أننا نقسم قسمة مهايا، يسمونها قسمة المهايا كما يقع بين الوارثين ونحوهم، تكون الشقة العليا لك والسفلى لي أو العكس؛ فحينئذ لا يكون الملكية لعين الشقة، وإنما تكون قسمة مهايا. فالمقصود أن مسألة العلوي تابع للسفلي مسألة مهمة جدا، لا يمكن أن نفرق فيها في الأحكام، فتارة نقول المعتكف لا يبطل اعتكافه إذا صعد إلى سطح المسجد؛ لأن أعلى المسجد من المسجد، ثم نقول يصح أن يوقف أعلى المسجد دون أسفله، فهذا تناقض، فإما أن يقال بأن الفضاء تابع للأسفل عموما، والأسفل يتبع علويه كما في البدروم أو نحوه، وإما أن يقال بالتفصيل، أما من تناقض في مسائل العبادات نعطيه حكما، وفي مسائل المعاملات نعطيه حكما فهذا ليس من الفقه. إنما الفقه أن يبنى على أصل واحد، وانتزعنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ، فقه هذا الحديث، جعل العلماء أسفل الأرض كأعلاها لأنه جعل العقوبة عليه مضاعفة بما يساوي الأرض كلها قال: (من سبع أراضين) ، فمع أنه اغتصب في الأرض العلوية، لكنه عذب بما سفل؛ لأنه من ملك الأعلى ملك الأسفل. ولأن الإجماع منعقد على أنك إذا ملكت أرضا فمن حقك أن تحفر فيها، حتى لو استطعت أن تصل إلى الأرض السابعة؛ لأن هذا ملك لك، فإذا لا نستطيع أن نقول: إنه يملك أعلى الأرض وأسفلها، ثم نقول بجواز وقفية أعلاها دون أسفلها أو العكس، فهذا تناقض. ولذلك فالأشبه أنه لا يكون المسجد إلا موقوفا كله أسفله وأعلاه، وتكون الحرمة لأعلاه كأسفله، ولا يجوز -بناء على هذا- أن تكون دورات المياه أسفل منه؛ لأنه في هذه الحالة كالمصلي فوق الحمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الحمام، وإذا كان علوي الشيء كسفليه فحينئذ لا يتأتى. فتقاس على هذه المسائل كلها ويقرر الأصل على هذا الوجه الذي يفهم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأقوى والأولى، والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الوقف) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (392) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [3] ليس كل شيء يجوز الوقف عليه، بل إن هناك أشياء يحرم الوقف عليها، منها: بناء الكنائس والوقف للكافر الحربي، ونسخ التوراة والإنجيل، وكتب أهل البدع والزندقة، وإذا أوقف على ذلك فإنه يصار إلى أقرب شيء موافق وشبيه للموقوف عليه في الشرع، والأصل أن العبد إذا أوقف وقفه بشروط غير ممنوعة شرعا، فإنه ينبغي العمل والتقيد بشروط الواقف وعدم العدول عنها. ما لا يجوز الوقف عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهناك وجوه لا يجوز الوقف عليها، وهي الوجوه التي حرمها الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عباده المؤمنين عن جملة من الأمور، فلا يجوز لهم أن يستحلوها كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها) . فالوقف على هذه الأشياء يعين على معصية الله عز وجل، ويعزز ويقوي هذا الأمر المحرم، ولذلك حظر الله عز وجل على عباده أن يكونوا سببا في المعونة على الإثم والعدوان، كما قال سبحانه وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] . وأعظم الإثم أن يعين على ما يؤثر في العقيدة والتوحيد، فإن إفساد إيمان الناس بالله، والتحريض على ما يصرفهم عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة؛ هو أعظم المنكر الذي حرمه الله عز وجل، فأنزل من أجل تحريمه كتبه، وأرسل رسله سبحانه وتعالى. عدم صحة الوقف على نفسه قال رحمه الله: [والوقف على نفسه] أي: لا يصح أن يوقف على نفسه؛ لأن الوقف إخراج للمال المملوك عن ملكيته لله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان على وجوه البر كما تقدم، فإذا أوقف على نفسه فإنه في هذه الحالة لم يصنع شيئا وليست هذه هي حقيقة الوقف. ومن هنا قال بعض العلماء: لا يصح وقف الإنسان على نفسه بغير خلاف، يعني لا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة، لكن لو أنه جعل لنفسه حظا في حال حياته من الوقف فإنه يصح، كأن يجعل له نصيبا من هذا الوقف مدة حياته. وهكذا لو اشترط النظارة فقال: هذا البيت يكون وقفا علي وعلى ذريتي من بعدي، ولكن لي حق النظارة في حال حياتي، ولو أوقف بيته على الفقراء والمساكين واشترط النظارة عليه؛ صح، فإذا اشترط النظارة لنفسه أو نصيبا من الوقف لنفسه، فإنه لا بأس بذلك. وقال بعض العلماء: إن الإمام أحمد رحمه الله قد نص على أنه إذا اشترط لنفسه جزءا أو شيئا مخصوصا مدة حياته أنه لا بأس بذلك ولا حرج عليه. عدم جواز الوصية على محرم قال رحمه الله: [وكذا الوصية] أي: ولا تجوز الوصية على الكنائس، ولا الوصية لنسخ كتب الأديان السماوية الأخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عمر رضي الله عنه يقرأ في صحف أهل الكتاب غضب عليه الصلاة والسلام فقال كما في الصحيح: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) . وهذا عمر رضي الله عنه الذي تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك صرفه عن شغل وقته، وإضاعة وقته في قراءتها (والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) ، فإذا كانت الوصية لهذه الأمور المحرمة فإنها تكون باطلة، لكن هل تبطل من أصلها أو تصرف إلى ما هو أقرب من وجوه الخير؟ على التفصيل المتقدم. الوقف على الحربي يقول المصنف رحمه الله: [غير حربي] أي: لأن الحربي المحارب لله ورسوله، محارب للمسلمين مباح الدم. مثلا: إذا وقعت حرب بين المسلمين والكفار؛ فإن هؤلاء من أهل الحرب ليس لهم حق على المسلمين، لمحاربتهم للمسلمين، ولذلك تستباح دماؤهم، وتباح أعراضهم، فتسبى ذراريهم ونساؤهم، وكذلك لا يجوز ولا يشرع أن يعاملوا معاملة الحسنى؛ لأنهم حاربوا الإسلام ومنعوا نشره، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يوقف عليهم؛ لأنه ليس ببر، بل يعينهم على المسلمين، فلا يشرع الوقف عليهم. الوقف على الكنائس ونحوها يقول رحمه الله: [وكنيسة] وكذلك الوقف على كنيسة لا يصح ولا يجوز؛ لأن الكنائس جاز استبقاؤها للضرورة، ولذلك فإذا هدمت لم تبن، وقد تقدم معنا أحكام الكنائس في أحكام أهل الذمة، وبينا الشروط العمرية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتلقي الأمة لها بالقبول. فلا يجوز الوقف على بناء الكنائس، سواء كانت في ديار المسلمين، أو كانت خارج ديار المسلمين، ولا يجوز المعونة على بنائها، ولا ما يقوي من نشاطها، فكل ذلك محظور؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فلما كان دين أهل الكتاب دينا منسوخا، فلا يجوز المعونة عليه. الوقف على نسخ التوراة والإنجيل يقول رحمه الله: [ونسخ التوراة والإنجيل] كما أن الوقف يكون على المحسوسات من بناء الكنائس محظورا كذلك يكون على المعنويات، وهي الأمور الفكرية التي تؤثر في عقائد الناس، من نسخ التوراة المنحرفة والإنجيل المحرف، وقد نسخ الله عز وجل العمل بالكتابين بكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله مهيمنا وناسخا للشرائع. فنسخ التوراة والإنجيل، لا يجوز الوقف عليه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى نسخ الكتب، سواء كانت من الكتب المنزلة، أو كانت كتب علم، فبقاء الدين موقوف على نسخ هذه الكتب، فنسخ التوراة والإنجيل مثال ضربه المصنف رحمه الله لكي يلحق به غيره. ومما يدخل في هذا كتب البدع؛ فإن الكتب التي تشتمل على البدع المنكرة من الأذكار والصلوات والأوراد التي لا أصل لها في الشرع، لا يجوز نسخها ولا المعونة عليها، ولا بثها بين الناس؛ لأن هذا يفسد عليهم دينهم وإخلاصهم لله عز وجل، ويجعلهم يعتقدون ما لم يأذن الله عز وجل باعتقاده، ويعتقدون نسبتها إلى الشرع، والشرع لم يأذن بهذه الأشياء ولم يأمر الله عز وجل بها. فلا يجوز الوقف على طبع كتب أهل البدع، سواء كانت في الأذكار أو كانت تحمل أفكارا تصرف الناس عن السنة، ومذهب أهل السنة، أو تشكك في عقائد الناس، أو توهن إيمان الإنسان بالله عز وجل، ككتب الزندقة والإلحاد والفلسفة التي تجعل الباطل حقا، وتجعل الحق باطلا، وهكذا مثل بعض العلماء بكتب السحر -أعاذنا الله وإياكم منه ومن أهله- وغير ذلك من الكتب التي تشتمل على أضرار دينية. وهكذا لو كانت الكتب تشتمل على أمور إباحية تفسد أخلاق الناس، أو تثير الغرائز، ونحو ذلك من الأمور المحرمة لا يجوز الوقف عليها؛ لأن ذلك كله يدخل في المعونة على الإثم والعدوان، والله حرم التعاون على الإثم والعدوان. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الوقف على مثل هذا، ويبقى السؤال إذا أوقف على كتب محرمة أو على كتب بدع وضلالة أو نحو ذلك، فهل يبطل الوقف من أصله، أو ينظر إلى قريبه وشبهه؟ هذه المسألة من أمثلتها أن يوقف مثلا على طبع كتب محرمة، ككتب البدع ونحو ذلك، ثم يعرض الأمر على القاضي بعد أن انتهى من وقفيته وأتمها، فهل نقول: الوقف صحيح، والجهة التي يصرف لها باطلة، فيصرف إلى أقرب شيء منها، أو نقول: الوقف باطل من أصله، ويرجع المال إلى صاحبه. قال بعض العلماء: إذا أوقف على أمر محرم، سواء كان بناء ما يحرم بناؤه، أو نسخ ما يحرم نسخه، فإن الوقف باطل من أصله، وبناء على ذلك يرجع المال إلى صاحبه. وعلى هذا القول لو أن ميتا أوقف داره على طريقة من طرق المبتدعة، أو على طبع كتب من الكتب المحرمة، من كتب البدع؛ فإن الورثة يستحقون هذا الذي أوقفه ويرجع ميراثا شرعيا؛ لأن الوقف باطل من أصله، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله. وبعض العلماء يرى أنه لما تلفظ بالوقف أخرج المال عن ملكيته، وحظر عليه الصرف في الممنوع، فوجب البذل للمشروع، فلو قال: أوقفت هذه الدار -مثلا- على الطريقة الفلانية، أو على البدعة الفلانية ولا يراها بدعة، أو على الشيء الفلاني وهو بدعة. فيقولون: نرى أنه قد أوقف، والأصل الإعمال، ولذلك نعمل وقفيته، ثم لما قال: على الطريقة الفلانية أو الأمر المبتدع الفلاني؛ فإنه يمنع صرف هذا الوقف إليه، ويصرف إلى ما أذن الله به، ثم يصرف بالأشبه والأقرب مما أوقف عليه. فإن كان أوقف على نسخ التوراة والإنجيل صرف إلى نسخ وطبع القرآن، وإذا كان طبع القرآن متيسرا؛ فإنه يصرف إلى طبع كتب العلم أو كتب التفاسير أو كتب الحديث؛ لأنها أشبه بالذي أوقف عليه، فلما أوقف على الممنوع نفذ وقفه من جهة الإخراج -أنه أخرجه عن ملكه- فنعمل هذا ونبقيه على ما هو عليه، ثم نمنع من صرف المال أو صرف الغلة إذا كان للوقف غلة إلى ذلك الممنوع، ونصرفها إلى أشبه شيء من المشروع. كذلك لو أوقف على أصحاب طريقة وقال: داري هذه أوقفتها من أجل الأذكار والصلوات والخلوات وهي أمور غير مشروعة، فنقول: تصرف لطلاب العلم. فالمقصود أنه إذا اعتقد أن هذا من المشروع؛ فإنه يلغى هذا الأمر المحرم، وننظر إلى ما هو أشبه، وهو الذي يذكر الله عز وجل، فوجدنا طالب العلم ذاكرا لله، وهو أشبه بوقفيته، ويقاس على هذا بقية المسائل. هذا القول الثاني اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وطائفة من المحققين، أن من أوقف على الممنوع ينفذ وقفه في الأصل؛ ولكن يصرف من الممنوع إلى المشروع، وهذا مبني على أنه قد أخرج من ذمته المال فنبقي إخراجه على ما هو عليه، ثم يصرف إلى الجهة التي أذن الله بها. قال رحمه الله: [وكتب زندقة] وهكذا كتب الزندقة، ومن أعظم ما يكون جرأة على الله سبحانه وتعالى الجرأة على إفساد عقائد الناس، وأعظم منكر على وجه الأرض أن يصرف الناس من التوحيد والفطرة والإخلاص لله عز وجل، إلى عبادة غير الله وتعظيم غير الله، وتنصب هذه الكتب أو هذه الأوقاف على إفساد عقائد الناس بتعظيم غير الله، فيصرف ما لله لغير الله سبحانه وتعالى، وهو أعظم الظلم {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:13] . (إن) التي تفيد التوكيد {الشرك لظلم} [لقمان:13] ، وصفه بالظلم، وجاء نكرة {لظلم عظيم} [لقمان:13] ثم يقول الله: (عظيم) ، وليس بعد عظيم الله عظيم، فمثل هذه التصرفات، مثل كتب الزندقة وكتب الإلحاد التي تدس فيها السموم لصرف الناس من التوحيد الخالص، ومن الفطرة السوية إلى غير ذلك مما فيه المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل في ذلك كتب الاستهزاء بالدين، أو التشكيك في الدين، أو التشكيك في الحقائق والثوابت الدينية، وكتب الاتجاهات الفكرية في كل زمان ومكان، حتى في الزمان المعاصر حيث تصرف من تعظيم الدين وحب الدين والتعلق بالدين، إلى الاستهزاء والسخرية به، ونحو ذلك من الأمور المنكرة. كل ذلك لا يجوز الوقف عليه، ومن فعل ذلك فقد أعان على أعظم الإثم واعتدى حدود الله عز وجل، ومن اعتدى حدود الله فقد حارب الله سبحانه وتعالى، ومن ذا الذي يقوى على محاربة الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تختلف، وله آيات بينات أنزلها سبحانه وتعالى بمن كفر بدينه وغير شرعه؛ فإنه لا يفلت من عقوبة الله العاجلة والآجلة. فلا يجوز طبع مثل هذه الكتب، ولا توزيعها، ولا نشرها، ولا الإشادة بها، بل ينبغي الحذر كل الحذر من ذلك الأمر، والعلماء نصوا على أنه لا تجوز الوقفية عليها، فينبغي أن يفهم طالب العلم أن المسألة ليست مسألة وقفية فحسب، لكن المسألة أن هذه وسيلة إلى أمر محرم، فيجمع جميع الأسباب، والوسائل، والأمور التي تعين على هذا المنكر العظيم، سواء كانت بالأقوال أو كانت بالأفعال، أو بالمادة أو بالمحسوسات أو بالمعنويات، أو بأي سبيل وبأي طريق كان هذا الإفساد، فإنه محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتغيير لدين الله عز وجل. وكل من طبع هذه الكتب، أو أعان على نشرها وتوزيعها، فمن ضل وأضل بها غيره فعليه إثمه وإثم من يضل إلى يوم القيامة والعياذ بالله {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت:13] ، فمثل هذه الأمور ينبغي الحذر منها، وعدم التساهل فيها، فكتب الزندقة حذر منها العلماء رحمهم الله في القديم، ولا زال أئمة الإسلام في كل عصر ومصر يحذرون من هذا، وينبغي قفل جميع الأسباب التي تعين على نشر الزندقة. الزندقة ما دخلت على المسلمين إلا في عصور ترجمة المنطق، ولما أدخلها المأمون على المسلمين حصلت المفاسد العظيمة، والشرور الكبيرة، فصار الباطل حقا، والحق باطلا، ولبس على الناس دينهم، فدخلت الأمة في النقاشات، وفي الاتجاهات الفكرية حتى أصبحت السنة كالبدعة في أنظار هؤلاء الذين زاغوا وأزاغوا. فمثل هذا المنكر العظيم لا يجوز المعونة عليه بطبع كتبه أو نشرها، حتى الإشادة بها، بل ينبغي للمسلم دائما أن يعلم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا ما قرره العلماء رحمهم الله، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، بين أن الوسائل إلى المنكرات تختلف آثامها على حسب عظم المنكر، فالوسيلة إلى الشرك أعظم من الوسيلة إلى الزنا، والوسيلة إلى القتل أعظم من الوسيلة إلى السرقة، فأعظم وسيلة ما كان وسيلة إلى الشرك؛ لأنه ليس بعد الشرك ذنب وإثم يعصى به الله سبحانه وتعالى. فإذا كان الفعل أو القول أو أي شيء يقدم عليه الإنسان وسيلة إلى هذا المنكر العظيم؛ فإنه في أسوء منازل الوسائل المحرمة. يذكر بعض العلماء رحمهم الله أن الزندقة لا تختص بالزندقة المباشرة، فقد تكون زندقة ضمنية مثل من يجرؤ على تفسير القرآن وتفسير السنة بالهوى والرأي، أو لي النصوص الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقتها، وعن تفسير السلف الصالح رحمهم الله لها، إلى تفسيرات توقع الناس في البلبلة، وتوقع الناس في ريب من هذا الكتاب الذي أنزله الله عز وجل هدى ونورا للعباد، كل هذه الأمور من المحرمات العظيمة. والوسائل التي هي في أعظم درجات الإثم أعظم إثما، وأعظم جرأة على الله عز وجل، ولكن ينبغي أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى متكفل بدينه، وأن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فوالله لو اجتمع أهل الأرض، جنهم وإنسهم، كبيرهم وصغيرهم، على أن يغيروا كلمة الله عز وجل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وليختلفن الليل والنهار ولا يمكن أن تتبدل كلمة الله سبحانه وتعالى، مهما رأيت من كتب الزندقة والهوى والجرأة على تغيير الحق والاستهزاء بالحق وأهل الحق، فاعلم أن لله سطوات، وأن الباطل مهما كان حاله، ومهما كان شأنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقذف بالحق عليه فيدمغه. ولكن لهذا الحق رجال يسخرهم الله عز وجل لهذه الأمة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، هم الذين يذبون عن الشريعة، وتغار قلوبهم وألسنتهم على الحق، فيصدعون بالحق، لا يبالون ب شروط الموقوف عليه قال رحمه الله: [ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معين يملك، لا ملك وحيوان وقبر وحمل لا قبوله ولا إخراجه عن يده] أي: ويشترط في الوقف إذا كان على غير مسجد ونحوه أن يكون على معين. والمعين: ضد المبهم والمجهول سواء حدد الجنس أو لم يحدده، فلو قال مثلا: داري هذه وقف على أحد هذين الرجلين لم يصح؛ لأننا لا ندري أيهما، ولم يحدد أي الرجلين، فلو جئنا نصرف لأحدهما احتمل أن يكون الآخر، فلا بد من التعيين. فلا يصح أن يقول مثلا: أوقفت داري هذه على رجل من المسلمين، أو على واحد منكم، دون أن يعين، ففي هذه الحالة لا يصح الوقف؛ لأنه وقف على مبهم، وقد نص الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام النووي أن من شرط صحة الوقف أن يكون على معين، وأن يكون هذا المعين يملك، فلا يصح أن يوقف على من لا يملك كما سيذكره المصنف رحمه الله. قوله (في غير مسجد) : المسجد إذا أوقفه الإنسان فهو ليس على معين؛ لأنه لعموم المسلمين، فإذا أوقف المسجد أو أوقف سبيلا للشرب، أو نحو ذلك، فهذا على غير معين، والوقف في هذه الحالة صحيح مع أنه لم يحدده بشخص معين أو جهة معينة. قوله: (أن يكون على معين) ، في بعض الأحيان يجعل التعيين بالشخص فيقول: داري هذه وقف على فلان وذريته من بعده، ويسميه، فحينئذ عين، وذريته من بعده مستحقين لهذا الوقف. وفي بعض الأحيان يعين بذكر صفة من الصفات كقوله: داري هذه وقف على الفقراء، داري هذه وقف على المساكين، داري هذه وقف على طلبة العلم، ونحو ذلك، فهذا ينظر فيه، فيكون كل من اتصف بهذه الصفة من الفقر والمسكنة وطلب العلم؛ مستحقا لهذا الوقف. قوله: (يملك) أي: يشترط أن يكون الوقف على معين، وأن يكون هذا المعين يملك، فخرج الحمل، لأنه لا يملك، وهكذا الملك، فلو قال: داري هذه وقف على ملك من الملائكة أو على الملائكة فهذا ليس بصحيح، ولا يصح الوقف على هذا الوجه، ولذلك قال: (لا ملك) ، وكل هذا تطبيق للشرط، أي لا يصح الوقف على ملك. وقال: (وحيوان) لأن الحيوان لا يملك، فلو قال -مثلا-: أوقفت مزرعتي هذه على أن يصرف ثلث منها طعمة للدواب، فهذا من الصدقات، أو قال -مثلا-: أوقفت هذا المال سقيا للدواب على الطريق، مثلما يقع في بعض الآبار تكون وقفا وسبيلا يستقى منها للدواب، فإذا أوقف على هذا الوجه فليس مراده أن يملك الحيوان، وإنما مراده الرفق بالحيوان بشربه وانتفاعه، فالوقف صحيح على هذا الوجه. وقال: (وقبر) ، أي: وهكذا لو أوقف على قبر، لأن الإنسان لا يملك بعد موته ملكا مستأنفا. وقال: [وحمل] ، أي: إذا سمى أثناء الوقف أو رتب، فإذا قال مثلا: داري هذه وقف على أولادي، وعنده جنين في بطن أمه لم يستحق شيئا في تلك السنة، ولو كانت المرأة حاملا به أثناء تلفظه بالوقف، فإذا خرج حيا فحينئذ يملك. ولذلك فمن حكم الله عز وجل وفي شرعه أن الجنين لا يرث إلا إذا استهل صارخا، أي: إذا خرج من بطن أمه حيا، ولو للحظة واحدة، وصرخ ثم مات فإنه يستحق الإرث، أما إذا نزل ميتا فإنه لا يستحق، لأن الجنين لا يملك. لا يشترط القبول من الموقوف عليه قال: [لا قبوله] أي: ولا يشترط قبول الموقوف عليه، وهذا مما يختص به الوقف كالوصية، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في الوصية وسيأتي إن شاء الله تعالى، فلو قال: أوقفت داري هذه على محمد وأولاده من بعده، فالوقف على الرجل وذريته من بعده، فلو جئنا نشترط القبول، فالقبول متيسر من محمد إذ كان حيا، لكن ذريته لا يمكن أن يتأتى منهم قبول، فالقبول ليس بشرط في صحة الوقف، فإذا أوقف الواقف نفذ وقفه ولو لم يقبل الموقوف عليه. لا يشترط مع الصيغة في الوقف أن يخرجه الواقف عن يده قال: [ولا إخراجه عن يده] (ولا إخراجه عن يده) : هذه المسألة سبقت الإشارة إليها، فمن أهل العلم من قال: إن مجرد صدور صيغة الوقف يعتبر ملزما للوقفية موجبا لثبوتها، فلو قال: داري هذه وقف، أو هذا المسجد وقف، أو هذا السبيل وقف على المسلمين؛ فإنه يحكم بالوقفية مباشرة، ولا يشترط أن يتصرف تصرفا يدل على خروجه عن ملكيته. فإذا تلفظ وحصلت الصيغة؛ فإن ذلك وحده كاف في الحكم بالوقفية، وقد بينا أن هذا هو أرجح قولي العلماء رحمهم الله في هذه المسألة. فإذا مجرد الصيغة وحصول التلفظ بالوقف كاف للحكم بثبوته والعمل به، ولا يشترط إخراجه كما يقول بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله. يتبع |
الساعة الآن : 02:40 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour