رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (399) سُورَةُ النُّورِ صـ 451 إلى صـ 458 [ ص: 451 ] الثانية : أن يقول له : يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أمه بعد إسلامه ، فعليه الحد ; كما لا يخفى . الثالثة : أن يقول له : يا زاني ، ولم يتعرض لكون ذلك قبل إسلامه أو بعده ، فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه ، فعليه الحد ، وإن قال : أردت بذلك زناه في زمن شركه ، فهل يقبل منه هذا التفسير ، ويسقط عنه الحد ، أو لا يقبل ذلك منه ، ويقام عليه الحد ، اهـ ، اختلف العلماء في ذلك ، وممن قال بأنه يحد ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك : مالك وأصحابه ، وصرح به الخرقي من الحنابلة ، وقال ابن قدامة في " المغني " : لا حد عليه ، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي : ومن قذف من كان مشركا ، وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله ، وحد القاذف إذا طالب المقذوف ، وكذلك من كان عبدا ، انتهى . المسألة العشرون : اعلم أن من قذف بنتا غير بالغة بالزنى ، أو قذف به ذكرا غير بالغ ، فقد اختلف أهل العلم : هل يجب على القاذف الحد أو لا يجب عليه ؟ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ; لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ويعزر ، قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة لكن مالكا غلب حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف ، وحماية عرض المقذوف أولى ; لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد ، قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع ، يحد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه ، قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك ، قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ; لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى ، اهـ محل الغرض منه بلفظه . وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة ، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر : إنه لا يحد ولكن يعزر ، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم ، ولا معرة تلحقه بذنب ; لأنه غير مؤاخذ ، ولو جاء قاذف الصبي بأربعة يشهدون على الصبي بالزنى فلا حد عليه إجماعا ، ولو كان قذفه قذفا على الحقيقة للزمه الحد بإقامة القاذف البينة على زناه ، وإن خالف في هذا جمع من أجلاء العلماء ، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له ، ولغيره عن قذف من لم يبلغ ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 452 ] المسألة الحادية والعشرون : اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة ، أن القاذف إن كان عاميا لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى ، وإن كان عالما بالعربية ، وقال : إنما أردت بقولي : زنأت بالهمزة معناه اللغوي ، ومعنى زنأت بالهمزة : لجأت إلى شيء ، أو صعدت في جبل ، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيما وهو صغير : أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل ومحل الشاهد منه قوله : زنأ في الجبل أي صعودا فيه ، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية ، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره ، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس ، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري ، ورواه هو وغيره على ما ذكرنا ، قال : وقالت أمه ترد على أبيه : أشبه أخي أو أشبهن أباكا أما أبي فلن تنال ذاكا تقصر أن تناله يداكا قاله في اللسان . المسألة الثانية والعشرون : فمن نفى رجلا عن جده أو عن أمه أو نسبه إلى شعب غير شعبه ، أو قبيلة غير قبيلته ، فذهب مالك : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه ; لأنه لم يدع عليها الزنا ، ولم ينف نسبه عن أبيه ، وإن نفاه عن جده لزمه الحد ، ولا حد عنده في نسبة جنس لغيره ، ولو أبيض لأسود ، قال في " المدونة " : إن قال لفارسي : يا رومي أو يا حبشي ، أو نحو هذا لم يحد ، وقال ابن القاسم : اختلف عن مالك في هذا ، وإني أرى ألا حد عليه ، إلا أن يقول : يا ابن الأسود ، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد ، وأما إن نسبه إلى حبشي ; كأن قال : يا ابن الحبشي وهو بربري ، فالحبشي والرومي في هذا سواء ، إذا كان بربريا . وقال ابن يونس : وسواء قال : يا حبشي أو يا ابن الحبشي والرومي ، أو يا ابن الرومي ، فإنه لا يحد ، وكذلك عنه في كتاب محمد ، قال الشيخ المواق : هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس ، فانظره أنت ، اهـ . وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنسا إلى غيره هو مشهور مذهب مالك ، وقد [ ص: 453 ] نص عليه في المدونة ، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب . قال مالك في " المدونة " : من قال لعربي : يا حبشي ، أو يا فارسي ، أو يا رومي ، فعليه الحد ; لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه ، ووجه كون من قال لرومي : يا حبشي مثلا لا يحد ، أن الظاهر أن مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله ، وهو استعمال معروف في العربية ، اهـ ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه ، بأن قال له : لست ابن جدك أنه لا حد عليه ; لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جده ، وكذلك لو نسب جنسا إلى غيره ; كقوله لعربي : يا نبطي ، فلا حد عليه عنده على المشهور ، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته ; لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال ، أو عدم الفصاحة ، ونحو ذلك ، فلا يتعين قصد القذف . وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش : يا نبطي ، فقال : لا حد عليه ، اهـ ، وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل : يا ابن ماء السماء ، أو نسبه إلى عمه أو خاله خلافا للمالكية ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه ونحوه ، أو زوج أمه الذي هو ربيبه ; لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة ، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة ، وقوله : ابن ماء السماء ، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء ، قالوا : وكان عامر بن حارثة : يلقب بماء السماء لكرمه ، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر ، قالوا : وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء ، لحسنها وجمالها ، وقيل لأولادها بني ماء السماء وهم ملوك العراق ، اهـ ، وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده ; كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير ، اهـ ، ومذهب الإمام أحمد : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه . واختلف عنه فيمن نفى رجلا عن قبيلته أو نسب جنسا لغيره ، قال ابن قدامة في " المغني " : وإذا نفى رجلا عن أبيه ، فعليه الحد ، نص عليه أحمد ، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته ، وبهذا قال إبراهيم النخعي ، وإسحاق ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وحماد ، اهـ . وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه بما ذكرناه قريبا ، ثم قال ابن قدامة [ ص: 454 ] في " المغني " : والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ; ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا ، فأشبه ما لو قال لأعجمي : إنك عربي ، ولو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه ، وعليه التعزير ، نص عليه أحمد ; لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع ، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه ، والأول أصح ، وبه قال مالك ، والشافعي ; لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه إليه ، ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف ، اهـ من " المغني " . وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا ، فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي ، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحد صاحبه ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية . وقد ذكر ابن قدامة في " المغني " : أن الأشعث بن قيس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول " : لا أوتى برجل يقول : إن قريشا ليست من كنانة إلا جلدته " ، اهـ ، وانظر إسناده . المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام كلمات متفرقة كمن قال لرجل : يا قرنان ، أو يا ديوث ، أو يا كشخان ، أو يا قرطبان ، أو يا معفوج ، أو يا قواد ، أو يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، أو يا مخنث ، أو قال لامرأة : يا قحبة . اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة ، فمذهب مالك : هو أن من قال لرجل : يا قرنان ، لزمه حد القذف لزوجته إن طلبته ; لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة ، وكذلك من قال لامرأة : يا قحبة ، لزمه الحد عند المالكية ، وكذلك من قال : يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، كل ذلك فيه حد القذف عند المالكية ، كما تقدمت الإشارة إليه ، قالوا : لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان ، وتجعل على بابها راية ، وكذلك لو قال له : يا مخنث ، لزمه الحد إن لم يحلف أنه لم يرد قذفا ، فإن حلف أنه لم يرده أدب ، ولم يحد . قاله في " المدونة " ، وإن قال له : يا ابن الفاسقة ، أو يا ابن الفاجرة ، أو يا فاسق ، أو يا فاجر أو يا حمار ابن الحمار ، أو يا كلب ، أو يا ثور ، أو يا خنزير ، ونحو ذلك فلا حد عليه ، ولكنه يعزر تعزيرا رادعا حسبما يراه الإمام ، ومذهب أبي حنيفة : أنه لو قال له : يا فاسق ، يا كافر ، يا خبيث ، يا لص ، يا فاجر ، يا منافق ، يا لوطي ، يا من يلعب بالصبيان ، يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا ديوث ، يا مخنث ، يا خائن ، يا ابن القحبة ، يا زنديق ، يا قرطبان ، يا مأوى الزواني أو اللصوص ، يا حرام ، [ ص: 455 ] أنه لا حد عليه في شيء من هذه الألفاظ ، وعليه التعزير ، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطا ، وأما لو قال له : يا كلب ، يا تيس ، يا حمار ، يا خنزير ، يا بقر ، يا حية ، يا حجام ، يا ببغاء ، يا مؤاجر ، يا ولد الحرام ، يا عيار ، يا ناكس ، يا منكوس ، يا سخرة ، يا ضحكة ، يا كشخان ، يا أبله ، يا مسوس ; فلا شيء عليه في شيء من هذه الألفاظ عند الحنفية ، ولا يعزر بها ، قال صاحب " تبيين الحقائق " : لا يعزر بهذه الألفاظ كلها ; لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحو ذلك ، ولا يريدون به الشتيمة ، ألا ترى أنهم يسمون به ويقولون : عياض بن حمار ، وسفيان الثوري ، وأبو ثور وجمل ; ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام ، وإنما يلحق بالقاذف ، وكل أحد يعلم أنه آدمي ، وليس بكلب ولا حمار وأن القاذف كاذب في ذلك ، وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله : يا كلب ، يا خنزير ; لأنه يراد به الشتم في عرفنا . وقال شمس الأئمة السرخسي : الأصح عندي أنه لا يعزر ، وقيل : إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر ; لأنه يعد شينا في حقه ، وتلحقه الوحشة بذلك ، وإن كان من العامة لا يعزر ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير قوله : يا رستاقي ، ويا ابن الأسود ، ويا ابن الحجام ، وهو ليس كذلك ، اهـ من " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه ، وأما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها ، فالأظهر عندنا أنها يجب فيها التعزير ; لأنها كلها شتم وعيب ، ولا يخفى أن من قال لإنسان : يا كلب ، يا خنزير ، يا حمار ، يا تيس ، يا بقر ، إلى آخره ، أن هذا شتم واضح لا خفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير ، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسة والصفات الذميمة كما لا يخفى ، فهو من نوع التشبيه الذي يسميه البلاغيون تشبيها بليغا ولا شك أن عاقلا قيل له : يا كلب ، أو يا خنزير مثلا أن ذلك يؤذيه ، ولا يشك أنه شتم ، فهو أذى ظاهر ، وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة ، وكونهم يسمون الرجل حمارا أو كلبا لا ينافي ذلك ; لأن من الناس من يسمي ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به ، والظاهر أنه إن قال لرجل : يا ابن الأسود ، وليس أبوه ولا أحد من أجداده بأسود ، أنه يلزمه الحد لأنه نفي لنسبه ، وكذلك قوله : يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجاما فهو قذف ; لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس [ ص: 456 ] بينه وبينه نسب ; كما هو قول المالكية ومن وافقهم . وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلا ، فيدعه خاليا بها ، وقيل : هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح ، وقيل : هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة ، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته ، اهـ منه . وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قال لرجل : يا ديوث ، أو يا كشخان ، فقال أحمد : يعزر ، وقال إبراهيم الحربي : الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته ، وقال ثعلب : القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته ، وقال : القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب ، ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث ، أو قريب منه ، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث ; لأنه قذفه بما لا حد فيه ، وقال خالد بن يزيد ، عن أبيه في الرجل يقول للرجل : يا قرنان إذا كان له أخوات ، أو بنات في الإسلام ضرب الحد ، يعني أنه قاذف لهن ، وقال خالد عن أبيه : القرنان عند العامة من له بنات ، والكشخان : من له أخوات ، يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن ، والقواد عند العامة : السمسار في الزنى ، والقذف بذلك كله يوجب التعزير ; لأنه قذف بما لا يوجب الحد ، اهـ من " المغني " ، وقال في " المغني " أيضا المنصوص عن أحمد فيمن قال : يا معفوج أن عليه الحد ، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره ، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول : أردت يا مفلوج ، أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا ، فلا حد عليه ; لأنه فسره بما لا حد فيه ، وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد ; كما لو صرح به . وقال صاحب " القاموس " : القرنان : الديوث المشارك في قرينته لزوجته ، اهـ منه ، وقال في " القاموس " أيضا : القرطبان بالفتح الديوث ، والذي لا غيرة له أو القواد ، اهـ منه ، وقال في " القاموس " : والتديث القيادة ، وفي " القاموس " تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر : الديوث ، وكشخه تكشيخا ، وكشخنه ، قال له : يا كشخان ، اهـ منه ، وهو بالخاء المعجمة ، وقال الجوهري في " صحاحه " : والديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له ، اهـ منه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه ، [ ص: 457 ] فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحد وجب التعزير ; لأجل الأذى ولا حد ، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى ، أو نفي النسب ، وكان ذلك معروفا أنه هو المقصود عرفا ، وجب الحد ; لأن العرف متبع في نحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة والعشرون : في حكم من قذف محصنا بعد موته ، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في " المدونة " : من قذف ميتا فلولده وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك ، ومن قام منهم أخذه بحده ، وإن كان ثم من هو أقرب منه ; لأنه عيب ، وليس للإخوة ، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام ، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام ، اهـ بواسطة نقل المواق . وحاصله : أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه ، وإن سفلوا أو واحد من أصوله ، وإن علوا ، ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الإخوة والعصبة ، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد ، فللإخوة والعصبة القيام ، ويحد للمقذوف بطلبهم ، هذا حاصل مذهب مالك في المسألة ، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أبا أو أما ، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم ; لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها ; لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه . وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حرا مسلما ، أما إذا قذفت وهي في الحياة ، فليس لولدها المطالبة ; لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا يقوم غيرها مقامها ، سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها ، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص ، وتعتبر حصانتها ; لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد ، وأما إن قذفت وهي ميتة ، فإن لولدها المطالبة ; لأنه قدح في نسبه ، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى ، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث ، ولذلك تعتبر الحصانة فيه ، ولا تعتبر الحصانة في أمه ; لأن القذف له ، وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال ، وهو قول أصحاب الرأي ; لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة ، فأشبه قذف المجنون ، وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة ، وينقسم بانقسام الميراث ، وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه ; لأنه ليس بمحصن ، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا ، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصنا حيا ولا ميتا ; لأنه إذا لم [ ص: 458 ] يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه ميتا أولى ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الملاعنة " : ومن رمى ولدها فعليه الحد " ، يعني : من رماه بأنه ولد زنى ، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك ، فبقذف غيره أولى ; ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين ، ولو كانا ميتين ، والحد إنما وجب للولد ; لأن الحد لا يورث عندهم ، فأما إن قذفت أمه بعد موتها ، وهو مشرك أو عبد ، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي ، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن ، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك ، وأبواه حران مسلمان فعليه الحد ، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد : لست لأبيك فعليه الحد ، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور ، وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده ، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه ; لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ، ولأن معنى هذا : أن أمك زنت فأتت بك من الزنى ، فإذا كان من الزنى منسوبا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها ، ولنا ما ذكرناه ; ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد ، لأن الكافر لا يرث المسلم ، والعبد لا يرث الحر ؛ ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف ميتة بحال ، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها ، والله أعلم ، اهـ بطوله من " المغني " . وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة ، إن كان لها أولاد ، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد ، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية ، إلا أنه عند المالكية لا يطلبه إلا الفروع والأصول ، ويحد بطلب كل منهم ، وإن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد ، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الإخوة والعصبة ، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت ، وأن الشافعية يقولون : إنه ينقسم بانقسام الميراث ، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور ، وأن الحنفية يقولون : إن الحد لا يورث ، وهو ظاهر المذهب الحنبلي ، وأن بعض أهل العلم قال : لا يحد من قذف ميتة بحال . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (400) سُورَةُ النُّورِ صـ 459 إلى صـ 466 قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم في هذه المسألة : أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية ، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي ; لأنه مقذوف بقذفها ، خلافا لما في كلام صاحب " المغني " ، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام ، ويحد له القاذف ، وقول صاحب " المغني " : تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى; لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه ، [ ص: 459 ] لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى ، فإنه هو لا ذنب له ، ولا يعتبر زانيا ، كما ترى . والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها ، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم ، وبطلب الولد ، وإن كانت حية ; لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة ، وإن كانت الأم لا ولد لها ، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة : هل يحد من قذف ميتا أو لا ؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها ، ولكل واحد من القولين وجه من النظر ; لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت ، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة ، ووجه الثاني : أن الميتة لا يصح منها الطلب ، فلا يحد بدون طلب ; ولأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف ، وإن كان كذبا بل يفرح به ; لأنه يكون له فيه حسنات ، وإن كان حقا ما رماه به ، فلا حاجة له بحده بعد موته ، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه ، اهـ . وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرا رادعا ولا يقام عليه الحد . واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا ، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق ، فقد قال بعض أهل العلم : إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به ، وهو مذهب مالك ، ومن وافقه . والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده ; لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد ، وهو يعلم أنه محق فيما قال ، والعلم عند الله تعالى . وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذفه هو - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ردة ، وخروج من دين الإسلام ، وهو ظاهر لا يخفى ، وأن حكمه القتل ، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته ؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال . وقال بعض أهل العلم : تقبل توبته إن تاب ، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب ، ولو من أعظم أنواع الكفر ، والله تعالى أعلم . المسألة الخامسة والعشرون : في حكم من قذف ولده . وقد اختلف أهل العلم في ذلك قال في " المغني " : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه ، سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء ، والحسن ، والشافعي ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وقال مالك ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو ثور ، وابن المنذر : عليه الحد لعموم الآية ; ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى . [ ص: 460 ] وأظهر القولين دليلا : أنه لا يحد الوالد لولده ; لعموم قوله : وبالوالدين إحسانا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : فلا تقل لهما أف [ 7 \ 23 ] ، فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه ، وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال ، لأنهم يقولون : إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسقا بالعقوق ; كما قال خليل في " مختصره " : وله حد أبيه وفسق ، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة ، والشرع لا يمكن أحدا من ارتكاب كبيرة ; كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه . المسألة السادسة والعشرون : في حكم من قتل أو أصاب حدا خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحق في الحرم ، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم ؟ اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب : الأول : أنه يستوفى منه الحق قصاصا كان أو حدا قتلا كان أو غيره . الثاني : أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم ، سواء كان قتلا أو غيره . الثالث : أنه يستوفى منه كل شيء من الحدود إلا القتل ، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم ، ولا في قصاص ، والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم . قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، وإسحاق ، ومجاهد ، والشعبي ، وأبي حنيفة وأصحابه . وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما : لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم فيه . والثانية : يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام " : فلا يسفك فيها دم " ، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ، ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب ، فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي ، وهي ظاهر المذهب . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في [ ص: 461 ] الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته ، حتى يخرج منه إلى أن قال : وقال مالك والشافعي وابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان ، اهـ محل الغرض منه . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم ، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ، ويذكر حتى يخرج ، وقال أبو يوسف : يخرج مضطرا إلى الحل ، وفعله ابن الزبير . وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس : من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع ، وعن مالك ، والشافعي : يجوز إقامة الحد مطلقا فيها ; لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، اهـ محل الغرض منه . وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " مشيرا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم ، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر ، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان ، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والحنفية ، وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة : إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ، ولا يقيم به حدا حتى يخرج منه من لجأ إليه ، اهـ محل الغرض منه . وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم ومناقشتها ، أما الذين قالوا : يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك ، والشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهم ، فقد استدلوا بأدلة : منها أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص ، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ، ولا زمان دون زمان ، وظاهرها شمول الحرم وغيره ، قالوا : والعمل بظواهر النصوص واجب ، ولا سيما إذا كثرت . ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة [ ص: 462 ] الحرم ; لأن أحق البلاد بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمه ، وطاعة الله في حرمه ليس فيها انتهاك له كما ترى . أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ " إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخزية ، فهو استدلال في غاية السقوط; لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط غلط غلطا فاحشا ; لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما ، قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغد من يوم الفتح ، فسمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال " : إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " ، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق ، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح - رضي الله عنه - وفي صحيح مسلم - رحمه الله - مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادا ومتنا . وإذا تقرر أن القائل : إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ; لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له فيه الحرم ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرمتها عادت كما كانت ، ففعله - صلى الله عليه وسلم - في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار ، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة ، كما ترى . وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص [ ص: 463 ] في غير النفس ، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه فيه " : فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " الحديث ، قالوا : تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره ، ولا يقاس غيره عليه ; لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس ، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان ، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح ، ويؤيده أن قوله " : دما " نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد ، أو غير ذلك . واستدلوا أيضا بقول ابن عمر - رضي الله عنهما - : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته ، قال المجد في المنتقى : حكاه أحمد في رواية الأثرم . وأما الذين قالوا بأن الحرم لا يستوفى فيه شيء من الحدود ، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره ، فقد استدلوا بقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، قالوا : وجملة ومن دخله كان آمنا خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام ، يستوجب أمن من دخل الحرم ، وعدم التعرض له بسوء ، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم . واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة ، كما روي عن ابن عباس ، أنه قال في الذي يصيب حدا ، ثم يلجأ إلى الحرم : يقام عليه الحد ، إذا خرج من الحرم ، قال المجد في " المنتقى " : حكاه أحمد في رواية الأثرم ، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال : يستوفى من اللاجئ إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا ، قتلا كان أو غيره ; لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله ، وفعل ذلك طاعة ، وتقرب إليه وليس في طاعة الله وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه ، وأجراها على الأصول ، وهو أولاها ، هو الجمع بين الأدلة ، وذلك بقول من قال : يضيق على الجاني اللاجئ إلى الحرم ، فلا يباع له ، ولا يشترى منه ، ولا يجالس ، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج ، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم ; لأن هذا القول جامع بين النصوص ، فقد جمع بين استيفاء الحق ، وكون ذلك ليس في الحرم ، وفي هذا خروج من الخلاف ، [ ص: 464 ] والعلم عند الله تعالى ، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية . قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، معنى : ويدرأ : يدفع ، والمراد بالعذاب هنا : الحد ، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : العذاب أن تشهد فاعل يدرأ ، أي : يدفع عنها الحد شهادتها أربع شهادات . والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله : ويدرأ عنها العذاب الحد من أوجه : الأول : منها سياق الآية ، فهو يدل على أن العذاب الذي تدرؤه عنها شهاداتها هو الحد . والثاني : أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أخر ، على الحد مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحد ; كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] ، فقوله : وليشهد عذابهما أي : حدهما بلا نزاع ، وذلك قوله تعالى في الإماء : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، أي : نصف ما على الحرائر من الجلد . وهذه الآية تدل على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجه عليها الحد بشهاداته ، وأن ذلك الحد المتوجه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية . ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها ، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج ، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف ، وتوجه إليها هي حد الزنى ، وتدفعه عنها شهاداتها . وظاهر القرآن أيضا أنه لو قذف زوجته ، وامتنع من اللعان أنه يحد حد القذف ، فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد ، وهذا هو الظاهر من الآيات [ ص: 465 ] القرآنية; لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ; ولكن الله بين خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته ، حيث قال : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين [ 24 \ 6 - 7 ] ، فلم يجعل له مخرجا من جلد ثمانين ، وعدم قبول الشهادة ، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البينة المبرئة له من الحد ، فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحد عليه ; لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه ، ولا شهادات تنوب عن الشهود ، فتعين أنه يحد لأنه قاذف ، ولم يأت بما يدفع عنه حد القذف ، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن أيمانها فعليها الحد ; لأن الله نص على أن الذي يدرأ عنها الحد هو شهاداتها في قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب الآية ، وممن قال إن الزوج يلزمه الحد إن نكل عن الشهادات الأئمة الثلاثة ، خلافا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس حتى يلاعن ، أو يكذب نفسه ، فيقام عليه حد القذف ، ومن قال بأنها إن شهد هو ، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها : مالك ، والشافعي ، والشعبي ، ومكحول ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ; كما نقله عنهم صاحب " المغني " . وهذا القول أصوب عندنا ; لأنه ظاهر قوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرآن إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة ، وقال أبو حنيفة ، وأحمد : لا حد عليها بنكولها عن الشهادات ، وتحبس أيضا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد . قال في " المغني " : وبهذا قال الحسن ، والأوزاعي ، وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن الحارث العكلي ، وعطاء الخراساني ، واحتج أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته ; لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما ، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها . وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا ; لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره ، فلا يعدل فيه عن ظاهر النص إلى القياس على مسألة أخرى ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 466 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين ، إلا بقذف الرجل زوجته قذفا يوجب عليه الحد لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى ، ونفي ولدها عنه ، وقول الجمهور هنا : إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول : رأيت بعيني ، أظهر عندي مما روي عن مالك من أنه لا يلزم اللعان ، حتى يصرح برؤية العين ; لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين . وقول الملاعن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - : رأت عيني وسمعت أذني ، لا يدل على أنه لو اقتصر على أنها زنت أن ذلك لا يكفي ، دون اشتراط رؤية العين ، وسماع الأذن كما لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى . |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (401) سُورَةُ النُّورِ صـ 467 إلى صـ 474 المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ 24 \ 6 ] إلى آخر الآيات ، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال : الأول : أنها شهادات ; لأن الله سماها في الآية شهادات . والثاني : أنها أيمان . والثالث : أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة . والرابع : عكسه ، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال : إنها شهادات لا يصح عنده اللعان ، إلا ممن تجوز شهادته ، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة ، ومن قال : إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين ، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة ، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول ، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود ، فيجب عليها حد الزنى ، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج ، وقيل : لا يحدون ، وممن قال : بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته ، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة - رحمه الله - ومن تبعه ، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنها أيمان مؤكدة بالشهادة ، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن ، مرادا بها اليمين ، مع دلالة القرائن على ذلك ، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور : الأول : التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ ص: 467 ] لأن لفظة بالله يمين فدل قوله : بالله على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين ، فقوله : أشهد بالله في معنى : أقسم بالله . الثاني : أن القرآن جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله : فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ 5 \ 107 ] ، ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ 5 \ 108 ] ، فقوله : أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين ، وهو واضح كما ترى . وقال القرطبي : ومنه قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ 63 \ 1 ] ; لأن قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة [ 63 \ 2 ] ، يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان ، هكذا قال ، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية ، والعلم عند الله تعالى . الثالث : ما قاله ابن العربي ، قال : والفيصل أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل ، معدوم في النظر ، اهـ منه بواسطة نقل القرطبي . وحاصل استدلاله هذا : أن استقراء الشريعة استقراء تاما يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكما على غيره ، وهو استدلال قوي ; لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة ; كما أوضحناه مرارا ، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه ; لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقا . الرابع : ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيها بالذي رميت به " : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " ، عند أحمد وأبي داود ، وقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانا ، وفي إسناد الرواية المذكورة عباد بن منصور ، تكلم فيه غير واحد ، ويقال : إنه كان قدريا إلى غير ذلك من أدلتهم . وأما الذين قالوا : إنها شهادات لا أيمان ، فاحتجوا بأن الله سماها شهادات في قوله : [ ص: 468 ] ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وفي قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات الآية ، وقوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الآية ، واستدلوا أيضا بحديث " : أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، اهـ ، قالوا : إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأمة ؛ لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم ، ولو كانت شهادات اللعان أيمانا لصح لعانهم ; لأنهم ممن تقبل يمينه ، وقال الزيلعي في " نصب الراية " ، في الحديث المذكور : قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عطاء ، عن أبيه عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهن : النصرانية تحت المسلم ، واليهودية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، انتهى . وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وقال : عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا " : أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، وليس بين العبد والحرة لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان " ، انتهى ، وقال الدارقطني : والوقاصي متروك الحديث ، ثم أخرجه عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب به ، قال : وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدا ، وتابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضا ، وروي عن الأوزاعي ، وابن جريج وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قوله ، ولم يرفعاه ، ثم أخرجه كذلك موقوفا ، ثم أخرجه عن عمار بن مطر ، ثنا حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عتاب بن أسيد " : ألا لعان بين أربع " فذكر نحوه ، قال : وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء ، انتهى ، وقال البيهقي في " المعرفة " : هذا حديث رواه عثمان بن عطاء ، ويزيد بن زريع الرملي ، عن عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : أربعة لا ملاعنة بينهم : النصرانية تحت المسلم " إلى آخره ، قال : وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط ، وابنه عثمان وابن زريع ضعيفان ، ورواه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وهو متروك الحديث ضعفه يحيى بن معين وغيره من الأئمة ، ورواه عمار بن مطر ، عن حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء . [ ص: 469 ] وروي عن ابن جريج والأوزاعي ، وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده موقوفا ، وفي ثبوته موقوفا أيضا نظر ، فإن راويه عن ابن جريج والأوزاعي عمرو بن هارون ، وليس بالقوي ، ورواه يحيى بن أبي أنيسة أيضا ، عن عمرو بن شعيب به موقوفا ، وهو متروك ، ونحن إنما نحتج بروايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده ، ولم نجد لهذا الحديث طريقا صحيحا إلى عمرو ، والله أعلم ، انتهى كلامه ، انتهى كلام صاحب " نصب الراية " . وقال صاحب " الجوهر النقي " : إن الحديث المذكور جيد الإسناد ، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان ; لاحتمال كون عدم الملاعنة من بين من ذكر في الحديث لعدم المكافأة . والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة ، للأدلة التي ذكرنا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة : اعلم أنه لا يجوز في اللعان ، الاعتماد على إتيان المرأة بالولد أسود ، وإن كانت بيضاء وزوجها أبيض ; لقصة الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه يعرض بنفي الولد الأسود باللعان ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هل لك من إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : ما ألوانها " ؟ قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءتها الورقة " ؟ قال : لعل عرقا نزعها ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، والقصة مشهورة ثابتة في الصحيحين ، وقد قدمناها مرارا ، وفيها الدلالة على أن سواد الولد لا يجوز أن يكون مستندا للرجل في اللعان ، كما ترى . المسألة الرابعة : اعلم أن التحقيق أن من قذف امرأة بالزنى قبل أن يتزوجها ثم تزوجها أنه إن لم يأت بأربعة شهداء على زناها أنه يجلد حد القذف ، ولا يقبل منه اللعان ; لأنها وقت القذف أجنبية محصنة داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية [ 24 \ 4 ] ، والزواج الواقع بعد ذلك لا يغير الحكم الثابت قبله ، فما يروى عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - من أنه إن قذفها قبل الزواج ، ثم تزوجها بعد القذف أنهما يلتعنان ، خلاف الظاهر عندنا من نص الآية الكريمة ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة : اعلم أن التحقيق أن الزوج إن قذف زوجته وأمها بالزنا ، ولم يأت [ ص: 470 ] بالبينة أنه يحد للأم حد القذف ; لأنه قذفها بالزنى وهي محصنة غير زوجة ، فهي داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، وأما البنت فإنه يلاعنها ; لأنه قذفها ، وهي زوجة له ، فتدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين إلى آخر آيات اللعان . وبما ذكرنا تعلم أن قول بعض الأئمة : إنه إن حد للأم سقط حد البنت ، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم ، أنه خلاف التحقيق الذي دلت عليه آيات القرآن ، وقد قال ابن العربي في القول المذكور : وهذا باطل جدا ، فإنه خصص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه ، اهـ ، وهو ظاهر . المسألة السادسة : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب : أن من قذف زوجته بالزنى ، ثم زنت قبل لعانه لها أنه لا حد عليه ولا لعان ; لأنه تبين بزناها قبل اللعان أنها غير محصنة ، ولا لعان في قذف غير المحصنة ، كما قدمنا أنه إن قذف أجنبية بالزنى ، ثم زنت قبل أن يقام عليه الحد أن الظاهر لنا سقوط الحد ; لأنه قد تبين بزناها أنها غير محصنة قبل استيفاء الحد ، فلا يحد بقذف من ظهر أنها غير محصنة ، وذكرنا الخلاف في ذلك . وحجة من قال : يحد إن كانت أجنبية ويلاعن إن كانت زوجة أن الحد واللعان قد وجبا وقت القذف فلا يسقطان بالزنى الطارئ ، وبينا أن الأظهر سقوط الحد واللعان ، لتبين عدم الإحصان قبل الحد وقبل اللعان ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة : اعلم أن من رمى زوجته الكبيرة التي لا تحمل لكبر سنها أنهما يلتعنان هو لدفع الحد ، وهي لدرء العذاب ، وأما إن رمى زوجته الصغيرة التي لا تحمل لصغرها ، فقد قدمنا خلاف العلماء : هل يلزمه حد القذف إن كانت صغيرة تطيق الوطء ، ولم تبلغ ؟ فعلى أنه يلزمه الحد يجب عليه أن يلتعن لدفع الحد ، وأما على القول : بأنه لا حد في قذف الصغيرة مطلقا فلا لعان عليه في قذفها ، وقد قدمنا الأظهر عندنا في ذلك ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثامنة : اعلم أنه إن نفى حمل زوجته فقد اختلف أهل العلم ، هل له أن يلاعنها ، وهي حامل لنفي ما في بطنها ، أو لا يجوز له اللعان حتى تضع الولد ؟ فذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه يلاعنها وهي حامل وينتفي عنه حملها باللعان ، وقال ابن حجر [ ص: 471 ] في " الفتح " ، بعد أن ساق أحاديث اللعان ، وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع ; لقوله في الحديث " : انظروا فإن جاءت " إلخ ، كما تقدم في حديث سهل ، وفي حديث ابن عباس ، وعند مسلم من حديث ابن مسعود ، فجاء ، يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " : لعلها أن تجيء به أسود جعدا " ، فجاءت به أسود جعدا ، وبه قال الجمهور ، خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم ; لأنه قد يكون نفخة . وحجة الجمهور : أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ، ودفع حد الرجم عن المرأة ، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا ، ولذلك شرع اللعان مع الآيسة . وقد اختلف في الصغيرة ، والجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . وقد قدمنا أن التعان قاذف الصغيرة مبني على أنه يحد لقذفها ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في حد قاذف الصغيرة المطيقة للوطء ، وذكرنا ما يظهر لنا رجحانه من ذلك . وأما الذين قالوا : لا تلاعن الحامل حتى تضع ولدها ، فقد استدلوا بأمرين : الأول : أن الحمل لا يتيقن وجوده قبل الوضع ; لأنه قد يكون انتفاخا وقد يكون ريحا . والثاني : هو ما جاء في بعض الروايات في أحاديث اللعان ، مما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر لعان الحامل حتى وضعت . ففي البخاري من حديث ابن عباس ، ما نصه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اللهم بين " ، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، الحديث . قالوا : فترتيبه فلاعن بالفاء على قوله : فوضعت شبيها بالرجل ، إلخ . دليل على أن اللعان كان بعد الوضع كما هو مدلول الفاء ، وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الرواية بما ذكر ابن حجر في " فتح الباري " ، فإنه قال في كلامه على الرواية المذكورة : ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة في حديث سهل بن سعد ، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع ، فعلى هذا تكون الفاء في قوله : فلاعن معقبة لقوله فأخبره بالذي وجد عليه امرأته ، وهذه الجملة التي ذكر ابن حجر أن جملة " فلاعن " معطوفة عليها مذكورة [ ص: 472 ] في حديث ابن عباس الذي ذكرنا محل الغرض منه . والذي يظهر لنا أن الحامل تلاعن قبل الوضع لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك ، ولما ذكره ابن حجر في كلامه الذي نقلناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن طلق امرأته ثم قذفها بعد الطلاق ، أنه إن كان قذفه لها بنفي حمل لم يعلم به إلا بعد الطلاق ، أنه يلاعنها لنفي ذلك الحمل عنه ، وإن كانت بائنا ، وأنه إن قذفها بالزنى بعد الطلاق حد ، ولم يلاعن لأن تأخيره القذف واللعان إلى زمن بعد الطلاق دليل على أنه قاذف ، والأظهر ولو كان الطلاق رجعيا ، ولم تنقض العدة ، وإن كانت الرجعية في حكم الزوجة ; لأن طلاقه إياها قبل القذف دليل على أنه لا يريد اللعان ويجلد ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : يلاعن الرجعية قبل انقضاء العدة ، لأنها في حكم الزوجة ، وهو مذهب أحمد المشهور ، ورواية أبي طالب عنه ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، وزيد ، والنخعي ، والزهري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي وله وجه من النظر ، والله أعلم . وقال القرطبي : لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة ، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه ، وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه ، فله أن يلاعنها هنا بعد العدة ، وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة ويرثها ; لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما ، اهـ منه ، ولا نص فيه ، وله وجه من النظر . وقال القرطبي أيضا : إذا قذفها بعد الطلاق نظرت ، فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه ، أو حمل يريد أن يتبرأ منه لاعن ، وإلا لم يلاعن ، وقال عثمان البتي : لا يلاعن بحال ، وقال أبو حنيفة : لا يلاعن في الوجهين ; لأنها ليست بزوجة ، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا بل هذا أولى ; لأن النكاح قد تقدم ، وهو يريد الانتفاء من النسب ، وتبرئته من ولد يلحق به ، فلا بد من اللعان ، وإذا لم يكن هناك حمل يرجى ، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به ، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، فوجب عليه الحد ، وبطل ما قاله البتي لظهور فساده ، انتهى كلام القرطبي . وقد قدمنا أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر; لأنها في حكم [ ص: 473 ] الزوجة ، وذكرنا ما يظهر لنا أنه أظهر الأقوال في ذلك ، وأقوال العلماء ، وفائدة لعانه أن يدفع عنه حد القذف ، وكون الرجعية كالزوجة قبل انقضاء العدة فيتوارثان ، ولا يجوز له تزوج أختها ، قبل انقضاء العدة ، ولا تزويج رابعة غيرها ; لأنها تكون كالخامسة نظرا إلى أن الرجعية كالزوجة ، يقتضي أن يقول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر ، وقد رأيت كثرة من قال به من أهل العلم ، ووجه القول بعدمه أنه لما طلقها عالما بزناها في زعمه ، دل ذلك على أنه تارك للعان ، وينبني على الخلاف المذكور ، ما لو ادعى أنها زنت بعد الطلاق الرجعي ، وقبل انقضاء العدة ، هل يحكم عليه بأنه قاذف ; لأنه رماها بزنى واقع بعد الفراق أو له أن يلاعنها لنفي الحد عنه بناء على أن الرجعية في حكم الزوجة . أما إن قذفها قبل أن يطلقها ثم طلقها بعد القذف ، فالأظهر أن له لعانها مطلقا ، ولو كان الطلاق بائنا ; لأن القذف وقع وهي زوجة غير مطلقة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والقاسم بن محمد ، ومكحول ، ومالك ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال الحارث العكلي ، وجابر بن زيد ، وقتادة والحكم : يجلد ، وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي : لا حد ولا لعان ; لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ، ولا يحد ; لأنه لم يقذف أجنبية . المسألة العاشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن ظهر بامرأته حمل ، وهو قائل إنه ليس منه إذا سكت عن نفي ذلك الحمل حتى وضعته ، ثم قال : إنه إنما سكت عن نفيه مدة الحمل رجاء أن يكون ريحا أو انتفاخا فينفش أو يسقط ميتا ، فيستريح بذلك من اللعان أنه يمكن من نفيه بلعان بعد الوضع ; لأن العذر الذي أبدى وجيه جدير بالقبول ، فإن بادر بنفيه فورا عند وضعه ، فلا ينبغي أن يختلف في أن له أن ينفيه بلعان ، وإن سكت عن نفيه بعد الوضع ، ثم أراد أن ينفيه بعد السكوت ، فهل له ذلك أو ليس له ؟ لأن سكوته بعد الوضع يعد رضى منه بالولد ، فلا يمكن من اللعان بعده . لم أعلم في هذه المسألة نصا من كتاب ، ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، قال القرطبي : قد اختلف في ذلك ونحن نقول : إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام ، فهو راض به وليس له نفيه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم ، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك ، وقال أبو حنيفة : لا أعتبر مدة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما مدة النفاس ، قال [ ص: 474 ] ابن القصار : والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه ، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا ؟ وإنما جعلنا الحد ثلاثة ; لأنه أول حد الكثرة ، وآخر حد القلة ، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة ، وكذلك ينبغي أن يكون هنا . وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع ، إذ لا شاهد لهما في الشريعة ، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة ، انتهى كلام القرطبي ، ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية ، وهي : هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا ؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله : وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر فالاحتجاج بالسكوتي نمى تفريعه عليه من تقدما وهو بفقد السخط والضد حري مع مضي مهلة للنظر فمن قال : إن السكوت لا يعد رضى ، قال : لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راض ، ومن قال : إنه يعد رضى ، قال : لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في البكر " : إذنها صماتها " ، وبعضهم يقول : تخصيص البكر بذلك ، يدل على أن غيرها ليس كذلك ، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروع الأئمة وأصولهم ، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى ، كالسكوت عن اللعان زمنا بعد العلم بموجبه ، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك ، ويكثر في فروع مذهب مالك جعل السكوت كالرضى . ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك : وحاضر لواهب من ماله ولم يغير ما رأى من حاله الحكم منعه القيام بانقضا مجلسه إذ صمته عين الرضى ولكل واحد من القولين وجه من النظر . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (402) سُورَةُ النُّورِ صـ 475 إلى صـ 482 والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إن سكت زمنا يغلب على الظن فيه [ ص: 475 ] عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى ، وإلا فلا ; لأن العرف محكم ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الحادية عشرة : اعلم أنه إن كان النكاح فاسدا ، وقذفها زوجها بالزنى إن كان لنفي نسب يلحق به في ذلك النكاح الفاسد ، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يلاعن لنفي النسب عنه ، وإن كان النكاح الفاسد يلحق فيه الولد ولكنه قذفها بالزنى ، وأراد اللعان لنفي الحد عنه ، فالأظهر أن له ذلك ; لأنها لما صارت يلحق به ولدها صارت في حكم الفراش ، قاله مالك في " المدونة " . وقال القرطبي : يلاعن في النكاح الفاسد زوجته ، لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه مجرى اللعان فيه ، اهـ منه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن النكاح الفاسد إن كان مجمعا على فساده ولا يلحق الولد فيه أن الزوج القاذف فيه لا يمكن من اللعان ، بل يحد حد القذف إن لم يأت بأربعة شهداء ، وهذا ظاهر لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثانية عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي في الذي يقذف زوجته الحامل بالزنى ، ثم يأتي بأربعة شهداء على زناها أن له أن يلاعن لنفي الحمل مع الشهود ; لأن شهادة البينة لا تفيد الزوج إلا درأ الحد عنه ، أما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان . وقال القرطبي - رحمه الله - : اختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده ؟ قال مالك والشافعي : يلاعن كان له شهود أو لم يكن ; لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد ، وأما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إنما جعل اللعان إذا لم يكن له شهود غير نفسه ; لقوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم اهـ منه . المسألة الثالثة عشرة : قال القرطبي أيضا في تفسيره : يفتقر اللعان إلى أربعة أشياء : عدد الألفاظ ، وهو أربع شهادات على ما تقدم ، والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كانت ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين فالكنيسة ، وإن كانا مجوسيين ففي [ ص: 476 ] بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين ، فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه ، والوقت : وذلك بعد صلاة العصر ، وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ، فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان ، اهـ منه ، مع أن مشهور مذهب مالك الذي هو مذهب القرطبي أنه لا ملاعنة بين كافرين وبعض ما ذكره لا يخلو من خلاف . المسألة الرابعة عشرة : اعلم أن الزوج لا يجوز له نفي الولد بلعان ، إلا بموجب يقتضي أن ذلك الولد ليس منه كأن تكون الزوجة زنت ، قبل أن يمسها الزوج أصلا ، أو زنت بعد أن وضعت ، ولم يمسها الزوج بعد الوضع حتى زنت ، أو زنت في طهر لم يمسها فيه ; لأن الحيضة قبل الزنى تدل على أن الحمل من الزنى الواقع بعد الحيض ، ولا يجوز له الاعتماد في نفي الحمل باللعان على شبه الولد بغيره ولا بسواد الولد ; كما قدمنا ، ولا بعزل لأن الماء قد يسبق نزعه فتحبل منه ، ولا بوطء في فخذين ; لأن الماء يسيل إلى الفرج فتحمل منه ، كما قدمنا . المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر فهما توأمان ، فلا يجوز نفي أحدهما ، دون الآخر ، فإن أقر الزوج بأحدهما لزمه قبول الآخر ، والظاهر أنه إن نفى أحدهما مع اعترافه بالثاني حد لقذفه ; كما قاله مالك وأصحابه ، ومن وافقهم . وقد أوضحنا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، ويعلم منه أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر ، فهما توأمان . وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر ، فاستحلق أحدهما ، ونفى الآخر لحقا به ; لأن الحمل الواحد ، لا يجوز أن يكون بعضه منه ، وبعضه من غيره ، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة ، فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه ، ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه ; لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن أن يكون منه ، ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا ، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه ، إلى أن قال : وإن استلحق أحد التوأمين ، وسكت عن الآخر لحقه ; لأنه لو نفاه للحقه ، فإذا سكت عنه كان أولى ، ولأن امرأته متى [ ص: 477 ] أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه بلعان ، وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر ، لحقاه جميعا . فإن قيل : ألا نفيتم المسكوت عنه ; لأنه قد نفى أخاه ، وهما حمل واحد . قلنا : لحوق النسب مبني على التغليب ، وهو يثبت لمجرد الإمكان ، وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا ، فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ، ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول ; لأن اللعان تناول الأول وحده ، ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ، ويحتمل أن ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان ; لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة ، فلا يحتاج إلى لعان ثان ، ذكره القاضي ، اهـ . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الأخير هو الأظهر ; لأن الحمل الواحد لا يحتاج إلى لعانين ، ثم قال في " المغني " متصلا بكلامه الأول : فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه ، وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا ، فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر ، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل ، فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ، ولا ينتفي بغير اللعان ; لأنه حمل منفرد ، وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه ، وإن كانت قد بانت باللعان ; لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول ، وإن لاعنها قبل وضع الأول ، فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني ; لأنها بانت باللعان ، وانقضت عدتها بوضع الأول ، وكان حملها الثاني بعد انقضاء العدة في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه ، ثم قال في " المغني " أيضا : وإن مات أحد التوأمين فله أن يلاعن لنفي نسبهما ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلزمه نسب الحي ، ولا يلاعن إلا لنفي الحد ; لأن الميت لا يصح نفيه باللعان ، فإن نسبه قد انقطع بموته ، فلا حاجة إلى نفيه باللعان ، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لكون النكاح قد انقطع ، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي ; لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه ، ويقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه ، فكان له نفي نسبه وإسقاط مؤنته كالحي ، وكما لو كان للميت ولد ، اهـ كلام صاحب " المغني " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر أنه إن كان للولد الميت الذي يراد نفيه بعد الموت ولد كان حكمه في اللعان كحكم الحي ; لأن ولده الحي لا ينتفي إلا بنفي أبيه ، فله اللعان لنفي نسب الميت لينتفي عنه ولده ، وهذا إن قلنا إن له أن يلاعن بعد هذه [ ص: 478 ] المدة الطويلة ; لأنه لم ينف الولد الميت إلا بعد أن عاش عمرا يولد له فيه ، وقد يكون معذورا بالغيبة زمنا طويلا ، وكذلك عند من يقول : إن السكوت لا يسقط اللعان مطلقا كما تقدم ، وكذلك إن أريد إلزامه بتكفين الولد الميت وتجهيزه ، فالأظهر أن له أن ينفيه عنه بلعان ليتخلص من مئونة تجهيزه وتكفينه ، والظاهر أنه إن نفى ولدا بعد موته ، فإن كانت أمه حية فلا بد من اللعان ; لأنه قاذف أمه ، وإن كانت الأم ميتة جرى على الخلاف في حد من قذف ميتة ، فعلى القول بالحد فله اللعان ، وعلى القول بعدمه فلا لعان ، وقد قدمنا الخلاف في ذلك ، ويعتضد ما ذكرنا بما تقدم قريبا من أن له اللعان لنفي الولد ; لأنه يجتمع به موجبان للعان ، وهما إسقاط الحد ونفي الولد ، وبه تعلم أن الأظهر عدم النظر إلى الولد الميت هل ترك مالا أو لا ؟ والعلم عند الله تعالى . تنبيه . اعلم أن أهل العلم اختلفوا في توأمي الملاعنة المنفيين باللعان ، هل يتوارثان توارث الشقيقين أو الأخوين لأم ؟ وقال ابن الحاجب من المالكية : هما شقيقان ، وقال خليل في " التوضيح " ، وهو شرحه لمختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي : إن كونهما شقيقين هو مشهور مذهب مالك ، وقال المغيرة من المالكية : يتوارثان توارث الأخوين لأم ، كالمشهور عند المالكية في توأمي الزانية والمغتصبة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أن توأمي الملاعنة يتوارثان توارث الأخوين لأم ، وأنهما لا يحكم لهما بحكم الشقيقين ; لأنهما لا يلحقان بأب معروف ، وإذا لم يكن لهما أب معروف فلا وجه لكونهما شقيقين ، ويوضح ذلك أنهما إنما ينسبان لأمهما ، وبه تعلم أن مشهور مذهب مالك في هذه المسألة خلاف الأظهر . وأما قول ابن نافع من المالكية : إن توأمي الزانية شقيقان ، فهو خلاف التحقيق ; لأن الزاني لا يلحق به نسب حتى يكون أبا لابنه من الزنى ، والرواية عن ابن القاسم بنحو قول ابن نافع ظاهرها السقوط ، كما ترى . وأما ما قاله ابن رشد في " البيان " من أن توأمي المسبية ، والمستأمنة شقيقان ، فوجهه ظاهر ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة عشرة : اعلم أنه إن تزوجها ثم قذفها بعد النكاح قائلا : إنها زنت قبل أن يتزوجها . فإن أهل العلم اختلفوا هل له لعانها نظرا إلى أن القذف وقع وهي زوجته أو [ ص: 479 ] يحد لقذفها ولا يمكن من اللعان نظرا إلى أنها وقت الزنى الذي قذفها به أجنبية منه ، وليست بزوجة . قال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذفها بعد تزوجها بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن ، سواء كان ثم ولد أو لم يكن ، وهو قول مالك وأبي ثور ، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي ، وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي : له أن يلاعن ; لأنه قذف امرأته ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم الآية ، ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح ، وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك ، وقال الشافعي : إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن ، وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان ، ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة فأشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق قذف الزوجة ; لأنه محتاج إليه ، لأنها غاظته وخانته ، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه ، وهاهنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنى ، فلا يشرع له طريق إلى نفيه ، اهـ من " المغني " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة أنه إن لم يكن ولد ، فلا يمكن الزوج من اللعان ، ويحد لقذفها إن لم يأت بأربعة شهداء ; لأنه قذفها وهي أجنبية ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية ، لأنه قاذف محصنة ليست بزوجة ، والنكاح الطارئ لا يغير الحكم الذي تقرر قبله كما ترى ، وإن كان هناك ولد يلحق به لو سكت ، وهو يعلم أنه ليس منه استنادا إلى بعض الأمور المسوغة لنفي الولد التي قدمناها أن له أن يلاعن لنفي الولد . والحاصل : أنه له اللعان لنفي الولد لا لدفع الحد فيما يظهر لنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة عشرة : فيما لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية ، فقيل : يلاعن ، وقيل : لا يلاعن ; لأن القذف إنما وقع بعد البينونة بالثلاث على القول بالبينونة بها ، وهو قول جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم . قال ابن قدامة في " المغني " : نقل مهنأ قال : سألت أحمد عن رجل قال لامرأته : أنت طالق يا زانية ثلاثا ، فقال : يلاعن ، قلت : إنهم يقولون يحد ، ولا يلزمها إلا واحدة ، قال : بئس ما يقولون فهذا يلاعن ; لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها ، فأشبه قذف الرجعية ، اهـ منه [ ص: 480 ] وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة عشرة : فيما لو جاءت زوجته بولد فنفاه فصدقته الزوجة في أن الولد من غيره ، فعلى الزوجة حد الزنى . واختلف أهل العلم هل ينتفي نسب الولد بتصادقهما بدون لعان ، أو لا ينتفي إلا بلعان ، وكلا القولين مروي عن مالك ، وأكثر الرواة عنه أنه لا ينتفي إلا بلعان . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أنه لا ينتفي عن الزوج إلا بلعانه ، ولا يسقط حقه من لحوق نسبه بتصديق أمه للزوج ; لأن للولد حقا في لحوق نسبه فلا يسقط إلا بلعان الزوج ، وأما الزوجة فلا يصح منها اللعان في هذه الصورة ; لأنها مقرة بصدق الزوج في دعواه . المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن الأظهر عندنا فيمن قذف امرأته فطالبت بحده لقذفها فأقام شاهدين على إقرارها بالزنى الذي قذفها به أن حكم هذه المسألة مبني على الاختلاف في الإقرار بالزنى ، هل يثبت بشاهدين كغيره من سائر الأقارير أو لا يثبت إلا بأربعة شهود ، فمن قال : يثبت بشاهدين يلزم قوله : أن الرجل لا يحد لقذفها ; لأن إقرارها بالزنى ثبت بالشاهدين ، وعلى القول الآخر يحد ; لأن إقرارها لم يثبت ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الأظهر أنهما إن شهدا عليه بأنه قذف امرأته وقذفهما أعني الشاهدين لم تقبل شهادتهما بقذف المرأة ; لأنهما لما ادعيا عليه أنه قذفهما صارا له عدوين ; لأن القذف يستوجب العداوة . قال ابن قدامة في " المغني " : فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة ، وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما ، وشهادة العدو لا تقبل على عدوه ، فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة ، فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ، ثم تاب وأعادها ، ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ، ثم أبرآه وزالت العداوة ، ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما ; لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ، ولو شهدا أنه قذف امرأته ، ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما ، بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه ، وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت ، وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها ; لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين ، وإن كانت بعد الحكم لم يبطل ; لأن الحكم تم قبل [ ص: 481 ] وجود المانع كظهور الفسق ، وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما ، لأنها ردت في البعض للتهمة ، فوجب أن ترد للكل ، وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد ، وقال في القديم : لا تقبل ; لأنهما يجران إلى أمهما نفعا ، وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشيء ; لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به ، وإن شهدا بطلاق الضرة ، ففيه وجهان : أحدهما : لا تقبل ؛ لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما . والثاني : تقبل ؛ لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا ، اهـ من " المغني " ، وكله لا نص فيه ولا يخلو بعضه من خلاف ، والأظهر عدم قبول شهادتهما بطلاق ضرة أمهما ; لأنهما متهمان بجر النفع لأمهما ، لأن طلاق الضرة فيه نفع لضرتها كما لا يخفى وشهادة الإنسان بما ينفع أمه لا تخلو من تهمة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى . المسألة العشرون : في اختلاف اللغات أو الأزمنة في القذف أو الإقرار به . قال ابن قدامة في " المغني " : ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية ، تمت الشهادة; لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ، ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين ، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها ، وشهد آخر أنه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه ، وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه أقر بأنه قذفها بالعربية ، أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة ، ففيه وجهان : أحدهما : تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة ; لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة ، وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف ; كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية ، وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية ، والآخر : لا تكمل الشهادة ، وهو مذهب الشافعي ; لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم يثبت ، كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة [ ص: 482 ] وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين ، انتهى من " المغني " . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة هي المعروفة عند العلماء بالشهادة هل تلفق في الأفعال والأقوال ، أو لا تلفق ؟ وبعضهم يقول تلفق في الأقوال دون الأفعال ، وبعضهم يقول : تلفق فيهما ، والفرق بينهما ليس بظاهر ، وقولهم : هما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما قد يقال فيه ، وكذلك الإقرار المختلف وقته أو لسانه هما إقراران لم تتم الشهادة على واحد منهما ، وهذه المسألة لا نص فيها وكل من الأقوال فيها له وجه من النظر ، والخلاف المذكور وعدم النص لا يبعد أن يكون شبهة تدرأ الحد ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الواحدة والعشرون : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من نفى حمل امرأته بلعان أنه ينتفي عنه ، ولا يلزمه لعان آخر بعد وضعه ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه تعلم أن قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومن وافقه من أهل الكوفة ، وقول الخرقي ومن وافقه من الحنابلة أن الحمل لا يصح نفيه باللعان ، فلا بد من اللعان بعد الوضع ; لأن الحمل قبل الوضع غير محقق ; لاحتمال أن يكون ريحا خلاف التحقيق فيما يظهر لنا من انتفاء الحمل باللعان ، كما هو قول مالك والشافعي ومن وافقهم من أهل الحجاز ، كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وقصة هلال بن أمية - رضي الله عنه - صريحة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه حمل امرأته باللعان ، ولم يلزمه بإعادة اللعان بعد الوضع ، والرواية التي توهم أن لعانه كان بعد الوضع أوضحنا الجواب عنها فيما تقدم بما أجاب به عنها ابن حجر في " الفتح " ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثانية والعشرون : في حكم من قذف امرأته باللواط ، وقد أوضحنا في سورة " هود " ، في الكلام على قصة قوم لوط أقوال أهل العلم في عقوبة اللائط وبينا أن أقواها دليلا قتل الفاعل والمفعول به ، وعليه فلا حد بالقذف باللواط وإنما فيه التعزير ، وذكرنا قول من قال من أهل العلم : إن اللواط حكمه حكم الزنى وعلى هذا القول يلاعن القاذف باللواط ، وإن امتنع من اللعان حد ، والعلم عند الله تعالى . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (403) سُورَةُ النُّورِ صـ 483 إلى صـ 490 المسألة الثالثة والعشرون : في حكم من ولدت امرأته ولدا لا يمكن أن يكون منه ، فإن الولد لا يلحقه ولا يحتاج إلى نفيه بلعان ; لأنه معلوم أنه ليس منه كما لو تزوج امرأة [ ص: 483 ] فجاءت بولد كامل لأقل من ستة أشهر ; لأن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، كما أوضحناه في سورة " الرعد " ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وككون الزوج صبيا لا يولد لمثله عادة لصغره ونحو ذلك . واعلم أن الذي يظهر لنا أنه هو الصواب أن كل ولد جاءت به امرأة الصغير قبل بلوغه أنه لا يلحق به ، ولا يحتاج إلى لعان ، وبه تعل م أن قول من قال من الحنابلة ، ومن وافقهم : إن الزوج إن كان ابن عشر سنين لحقه الولد وكذلك تسع سنين ونصف ، كما قاله القاضي من الحنابلة أنه خلاف التحقيق ، واستدلالهم على لحوق الولد بالزوج الذي هو ابن عشر سنين بحديث " : واضربوهم على الصلاة لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " ظاهر السقوط ، وإن اعتمده ابن قدامة مع علمه ، وغيره من الحنابلة . فالتحقيق إن شاء الله تعالى هو ما قاله أبو بكر من الحنابلة من أنه لا يلحق به الولد حتى يبلغ وهو ظاهر لا يخفى ، وكما لو تزوج امرأة في مجلس ، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي مغربية ، أو عكسه ، ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه ، قال ابن قدامة في " المغني " : وبذلك قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلحقه نسبه ; لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد ، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء ، انتهى منه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله عدم لحوق الولد فيما ذكر للعلم بأنه ليس منه ولا حاجة لنفيه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة والعشرون : اعلم أن أظهر الأقوال وأقواها دليلا ، أن المتلاعنين يتأبد التحريم بينهما ، فلا يجتمعان أبدا ، وقد جاءت بذلك أحاديث منها ما رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد ، وفيه : فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدا ، انتهى . وقال في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح ، ومنها ما رواه الدارقطني عن سهل أيضا ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال " : لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ، وقال فيه [ ص: 484 ] صاحب " نيل الأوطار " : وفي إسناده عياض بن عبد الله ، قال في " التقريب " : فيه لين ، ولكنه قد أخرج له مسلم ، اهـ . ومنها ما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد أيضا . ومنها ما رواه الدراقطني أيضا ، عن علي - رضي الله عنه - قال : مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا ، وما رواه الدارقطني أيضا ، عن علي ، وابن مسعود ، قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان ، وقال صاحب " نيل الأوطار " في حديث ابن عباس : أخرج نحوه أبو داود في قصة طويلة ، وفي إسنادها عباد بن منصور وفيه مقال ، وقال في حديث علي وابن مسعود : أخرجهما أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، انتهى منه . وبه تعلم أن تأبيد التحريم أصوب من قول من قال من العلماء إن أكذب نفسه حد ، ولا يتأبد تحريمها عليه ، ويكون خاطبا من الخطاب وهو مروي عن أبي حنيفة ، ومحمد ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والأظهر أنه إن أكذب نفسه لحق به الولد وحد خلافا لعطاء القائل : إنه لا يحد . تنبيه . اعلم أن أقوال أهل العلم في فرقة اللعان قدمناها مستوفاة في سورة " البقرة " . في كلامنا الطويل على آية : الطلاق مرتان الآية [ 2 \ 229 ] ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في لعان الأخرس في سورة " مريم " ، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية ، ومن أراد استقصاء مسائل اللعان فلينظر كتب فروع المذاهب الأربعة ،قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم بين - جل وعلا - في هذه الآية ، أنه لولا فضله ورحمته ، ما زكا أحد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه . ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحدا أن يزكي نفسه بحال من الأحوال ، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : [ ص: 485 ] ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية [ 4 \ 49 ] ، وقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] . والزكاة في هذه الآية : هي الطهارة من أنجاس الشرك ، والمعاصي . وقوله : ولكن الله يزكي من يشاء [ 4 \ 21 ] أي يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح والأعمال الصالحة . وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى : قد أفلح من زكاها [ 91 \ 9 ] ولا قوله : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي ، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر ، ووجه ذلك في قوله : من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح ، وقبوله منه . وكذلك الأمر في قوله : قد أفلح من تزكى كما لا يخفى . والأظهر أن قوله : ما زكا منكم من أحد الآية [ 24 \ 21 ] : جواب لولا التي تليه خلافا لمن زعم أنه جواب لولا في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم الآية [ 24 \ 20 ] وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا ، لدلالة القرائن عليه ، قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر - رضي الله عنه - ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير ، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر - رضي الله عنه - وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته ، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالإفك المذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآية [ 24 \ 11 ] ، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي - رضي الله عنه - . [ ص: 486 ] وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة ، وفي الأحاديث الصحاح ، فلما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - في الآيات المذكورة ، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح ، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء ، فأنزل الله في ذلك : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله الآية ، وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أي : لا يحلف ، فقوله : " يأتل " وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى يأتلي إذا حلف ، ومنه قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم [ 2 \ 226 ] ، أي : يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف ، ومنه قول امرئ القيس : ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل أي حلفت حلفة ، وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهم - : فآليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا والألية اليمين ، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز : قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت أي : لا يحلف أصحاب الفضل والسعة ، أي : الغنى كأبي بكر - رضي الله عنه - أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة ، وقوله : أن يؤتوا ، أي : لا يحلفوا عن أن يؤتوا ، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد . وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم ، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيا عنه ، ومفعول يؤتوا الثاني محذوف ، أي : أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان ، كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - . وقال بعض أهل العلم : قوله : ولا يأتل ، أي : لا يقصر أصحاب الفضل ، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح ، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألو في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ . ومنه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ ص: 487 ] [ 3 \ 118 ] ، أي لا : يقصرون في مضرتكم ، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي : وأشمط عريانا يشد كتافه يلام على جهد القتال وما ائتلا وقول الآخر : وإن كنائني لنساء صدق فما آلى بني ولا أساءوا فقوله : فما آلى بني : يعني ما قصروا ، ولا أبطئوا والأول هو الأصح ، لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة ، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف . وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين ، جاء أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس [ 2 \ 224 ] ، أي : لا تحلفوا بالله عن فعل الخير ، فإذا قيل لكم : اتقوا وبروا ، وأصلحوا بين الناس قلتم : حلفنا بالله لا نفعل ذلك ، فتجعلوا الحلف بالله سببا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية . وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور ، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ 6 \ 89 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وليعفوا وليصفحوا فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمسته . والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم ، والصفح : قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق ، أي : أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق ، معرضين عنها . وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 133 - 134 ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة ، وكفى بذلك حثا على ذلك ، ودلت أيضا : على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به ، وكقوله تعالى [ ص: 488 ] إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى ، وكفى بذلك حثا عليه ، وكقوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] وكقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا تحبون أن يغفر الله لكم دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب ، والجزاء من جنس العمل ، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا ، ورجع للإنفاق في مسطح ، ومفعول " أن يغفر الله " محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أولي القربى أي : أصحاب القرابة ، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم . فائدة في هذه الآية الكريمة دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح ; لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح ، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته ; لأن الله قال فيه بعد قذفه لها والمهاجرين في سبيل الله فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله ، لم يحبطها قذفه لعائشة - رضي الله عنها - . قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ; لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ، وكذلك سائر الكبائر ، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] اهـ . وما ذكر من أن في الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية ، وإن كان معلوما . وقال القرطبي أيضا : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله ، ثم قال بعد هذا : قال بعض العلماء ، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] وقد قال تعالى في آية أخرى والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ ص: 489 ] [ 42 \ 22 ] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك . ومن آيات الرجاء قوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ 39 \ 53 ] ، وقوله تعالى : الله لطيف بعباده [ 42 \ 19 ] . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار ، انتهى كلام القرطبي . وقال بعض أهل العلم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - آية الدين : وهي أطول آية في القرآن العظيم ، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع ، ولو كان الدين حقيرا كما يدل عليه قوله تعالى فيها : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله الآية [ 2 \ 282 ] ، قالوا : هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم ، وعدم ضياعه ، ولو قليلا يدل على العناية التامة بمصالح المسلم ، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول ، وشدة حاجته إلى ربه . قال مقيده عفا الله وغفر له : من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 32 - 35 ] . فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاها في قوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وبين أنهم ثلاثة أقسام : الأول : الظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله ، ولكنه يعصيه أيضا فهو الذي قال الله فيه خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم [ 9 \ 102 ] . [ ص: 490 ] والثاني : المقتصد وهو الذي يطيع الله ، ولا يعصيه ، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات . والثالث : السابق بالخيرات : وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة ، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه ، والمقتصد والسابق ، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم ، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف الميعاد في قوله : جنات عدن يدخلونها إلى قوله : ولا يمسنا فيها لغوب والواو في يدخلونها شاملة للظالم ، والمقتصد والسابق على التحقيق ، ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين ، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة ، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن ، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة ، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ؛ ولذا قال بعدها متصلا بها والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور إلى قوله : فما للظالمين من نصير [ 35 \ 36 - 37 ] . واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق ، فقال بعضهم : قدم الظالم لئلا يقنط ، وأخر السابق بالخير لئلا يعجب بعمله فيحبط ، وقال بعضهم : قدم الظالم لنفسه ; لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم ، لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم ; كما قال تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم [ 38 \ 24 ] . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (404) سُورَةُ النُّورِ صـ 491 إلى صـ 498 قوله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، أنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم بما كانوا يعملون ، وبين في غير هذا الموضع أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه يوم القيامة غير اللسان ; كقوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] وقوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ ص: 491 ] إلى قوله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 20 - 23 ] . قوله تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق المراد بالدين هنا الجزاء ، ويدل على ذلك قوله : يوفيهم ; لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى : ثم يجزاه الجزاء الأوفى [ 53 \ 41 ] ، وقوله تعالى : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] وقوله ، توفى كل نفس ما كسبت [ 3 \ 161 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : " دينهم " ، أي : جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف ، وقال الزمخشري : دينهم الحق ، أي : جزاءهم الواجب الذي هم أهله ، والأول أصح ; لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام ، وعدل كامل ، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم ، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس ، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى . وقال ابن حجر في الفتح : وحكى الطحاوي : أن الاستئناس في لغة اليمن : الاستئذان . وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان ، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى . الوجه الأول : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش ; لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له [ ص: 492 ] استأنس وزال عنه الاستيحاش ، ولما كان الاستئناس لازما للإذن أطلق اللازم ، وأريد ملزومه الذي هو الإذن ، وإطلاق اللازم ، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف ، والقائلون بالمجاز يقولون : إن ذلك من المجاز المرسل ، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى : حتى تستأذنوا ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم [ 33 \ 53 ] ، وقوله تعالى بعده : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم [ 24 \ 28 ] ، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره : وهذا من قبيل الكناية ، والإرداف ; لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن . الوجه الثاني في الآية : هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام ، والاستكشاف ، فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا أو علمه . والمعنى : حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال ، هل يؤذن لكم أو لا ؟ وتقول العرب : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم أر أحدا ، أي : تعرفت واستعلمت ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ 4 \ 6 ] ، أي : علمتم رشدهم وظهر لكم ، وقوله تعالى عن موسى : إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس [ 20 \ 10 ] وقوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا الآية [ 28 \ 29 ] فمعنى آنس نارا : رآها مكشوفة ، ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان : كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد فقوله على مستأنس ، يعني : حمار وحش شبه به ناقته ، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف ، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم ، ومنه أيضا قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته : آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصرا وقد دنا الإمساء فقوله : آنست نبأة ، أي : أحست بصوت خفي ، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلوا ، هل يؤذن لكم ، وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون [ ص: 493 ] بالاستئذان أظهر عندي ، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول ، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا . وبما ذكرنا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية : حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم ، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه ، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس ، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم ، ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت ، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك ; لأن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني ، وعلى تلاوتها بلفظ : تستأنسوا ، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير ، والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقال فيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] وقال تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآية [ 75 \ 16 - 17 ] . مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة . المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز ; لأن قوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الآية [ 24 \ 27 ] ، نهي صريح ، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح ، كما تقرر في الأصول . المسألة الثانية : اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات ، يقول المستأذن في كل واحدة منها : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة ، فليرجع ، ولا يزد على الثلاث ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه . قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي ، فرجعت ، قال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال [ ص: 494 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال : والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك . وقال ابن المبارك : أخبرني ابن عيينة : حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر ، سمعت أبا سعيد بهذا ، اهـ بلفظه من صحيح البخاري . وهو نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستئذان ثلاث مرات ، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا والله يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد قال : سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول : كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه ، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنني أتيتك ، فسلمت على بابك ثلاثا ، فلم يردوا علي فرجعت ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : أقم عليها البينة ، وإلا أوجعتك ، فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم : قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم ، قال : فاذهب به . حدثنا قتيبة بن سعيد ، وابن أبي عمر قالا : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد ، وزاد ابن أبي عمر في حديثه : قال أبو سعيد : فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت ، اهـ بلفظه من صحيح مسلم . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا ، فقال أبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال : إن كان هذا شيئا حفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها ، وإلا فلأجعلنك عظة ، قال أبو سعيد : فأتانا فقال : ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الاستئذان ثلاث ، قال فجعلوا يضحكون ، قال فقلت : أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع ، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه ، فقال هذا أبو سعيد . وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا إلى قوله : قال لتقيمن على هذا بينة ، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار ، [ ص: 495 ] فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ، فقال : كنا نؤمر بهذا ، فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق في الأسواق ، وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : لتأتيني على هذا وإلا فعلت وفعلت ، فذهب أبو موسى قال عمر : إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية ، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه ، فلما أن جاء العشي وجدوه ، قال يا أبا موسى : ما تقول أقد وجدت ؟ قال : نعم أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال عدل ، يا أبا الطفيل ما يقول هذا ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سبحان الله : إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ، وفي لفظ لمسلم : أن عمر قال لأبي : يا أبا المنذر آنت سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم ، فلا تكن يا ابن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في هذه الرواية قول عمر : سبحان الله ، وما بعده . فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى ، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان ثلاث ، وقال النووي في شرح مسلم : وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا ، وصغارنا ، حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ منه ، والظاهر منه كما قال ، وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس ، والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات ، وأن الاستئناس المذكور في الآية ، هو الاستئذان المكرر ثلاثا ; لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه ، وبذلك تعلم أن ما قاله ابن حجر في فتح الباري : من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى : " حتى تستأنسوا " : الاستئذان بتنحنح ، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق ، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه ، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثا كما رأيت . وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة قال : الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا إلى آخره ، والرواية الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الاستئذان ثلاث يؤيدها أنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل . قال ابن حجر في الفتح : وفي رواية عبيد بن حنين ، التي أشرت إليها في الأدب المفرد ، زيادة مفيدة ، وهي أن أبا سعيد ، أو أبا [ ص: 496 ] مسعود قال لعمر : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد سعد بن عبادة ، حتى أتاه فسلم ، فلم يؤذن له ، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ، ثم سلم الثالثة ، فلم يؤذن له ، فقال : " قضينا ما علينا " ، ثم رجع فأذن له سعد ، الحديث ، فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ، وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه ، وأحمد من طريق ثابت ، عن أنس أو غيره كذا فيه ، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد ، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد ، اهـ محل الغرض منه ، وقوله : فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله : يدل على أن قصة استئذانه - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة صحيحة ثابتة ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عمر عن ثابت ، عن أنس أو غيره " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن على سعد بن عبادة ، فقال : " السلام عليك ورحمة الله " ، فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي أنت وأمي ، ما سلمت تسيلمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال " : أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون " وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال " : زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا فقال : " السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا تأذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " السلام عليكم ورحمة الله " ، فرد سعد ردا خفيا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " السلام عليكم ورحمة الله " ، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع سلامك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر ابن كثير القصة إلى آخرها ، ثم قال : وقد روى هذا من وجوه أخرى ، فهو حديث جيد قوي والله أعلم . وبما ذكرنا تعلم أن الاستئناس في الآية الاستئذان ثلاثا ، وليس المراد به التنحنح ونحوه ، كما عزاه في فتح الباري للجمهور ، واختلف هل يقدم السلام أو الاستئذان ؟ وقال النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع ، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة ، والسنة : أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام [ ص: 497 ] والاستئذان ، كما صرح به في القرآن ، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ، ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام والصحيح الذي جاءت به السنة ، وقاله المحققون : أنه يقدم السلام ، فيقول : السلام عليكم أأدخل ؟ والثاني يقدم الاستئذان ، والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان في تقديم السلام ، انتهى محل الغرض منه بلفظه . ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على غيره ، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان ، وتقديم الاستئناس الذي هو الاستئذان على السلام في قوله : حتى تستأنسوا وتسلموا [ 24 \ 27 ] لا يدل على تقديم الاستئذان ; لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، وإنما يقتضي مطلق التشريك ، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو كقوله تعالى : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [ 3 \ 43 ] والركوع قبل السجود ، وقوله تعالى : ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] ونوح قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا معروف ولا ينافي ما ذكرنا أن الواو ربما عطف بها مرادا بها الترتيب; كقوله تعالى : إن الصفا والمروة الآية [ 2 \ 158 ] وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " : أبدأ بما بدأ الله به " وفي رواية " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، وكقول حسان - رضي الله عنه - : هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء على رواية الواو في هذا البيت . وإيضاح ذلك أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف ، كالحديث المذكور في البدء بالصفا ، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور ; لأن جواب الهجاء لا يكون إلا بعده ، أنها تدل على الترتيب لقيام الدليل أو القرينة على ذلك ، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ، ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو ، اهـ . وذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه ، بأن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فانظره ، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمختار أن [ ص: 498 ] صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف ، كما دلت عليه الأدلة . واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير ; لأن في بعضها : أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه ، فرده من حينه ، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في اليوم الثاني ، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال : وظاهر هذين السياقين التغاير ، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني ، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال إلى أن قال ويجمع بينهما : بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه ، فأرسل إليه ، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت ، وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني ، اهـ . منه ، والعلم عند الله تعالى . تنبيهات تتعلق بهذه المسألة . الأول : اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة ; لأنهم لما سمعوه ، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن ، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة ، خلافا لمن قال من أهل العلم : إن له أن يزيد على الثلاث مطلقا ، وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أو لا ، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة ، كما أوضحنا أدلته ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه . التنبيه الثاني : اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة ، أنه إن علم أن أهل البيت ، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة ، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة ، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافا لمن قال له الزيادة ، ومن فصل في ذلك ، وقال النووي في شرح مسلم : أما إذا استأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، وظن أنه لم يسمعه ، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ، ولا يعيد الاستئذان . والثاني : يزيد فيه . والثالث : إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده ، وإن كان بغيره أعاده ، فمن قال بالأظهر فحجته قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فلم يؤذن له فليرجع " ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم ، أو ظن أنه سمعه ، فلم يأذن والله أعلم . والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث ; لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو مقرر في الأصول . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (405) سُورَةُ النُّورِ صـ 499 إلى صـ 506 [ ص: 499 ] التنبيه الثالث : قال بعض أهل العلم : إن المستأذن ينبغي له ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكنه يقف جاعلا الباب عن يمينه أو يساره ، ويستأذن وهو كذلك ، قال ابن كثير : ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه ، أو يساره لما رواه أبو داود : حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين ، قالوا : حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال " : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول " السلام عليكم : السلام عليكم " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور ، انفرد به أبو داود . وقال أبو داود أيضا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير ، ح ، وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا حفص عن الأعمش ، عن طلحة عن هزيل قال : جاء رجل قال عثمان : سعد [ بن أبي وقاص ] ، فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن فقام على الباب ، قال عثمان : مستقبل الباب ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر " ورواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود ، من حديثه انتهى من ابن كثير ، والحديثان اللذان ذكرهما عن أبي داود نقلناهما من سنن أبي داود لأن نسخة ابن كثير التي عندنا فيها تحريف فيهما . وفيما ذكرنا دلالة على ما ذكرنا من أن المستأذن لا يقف مستقبل الباب خوفا أن يفتح له الباب ، فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه ، بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة : اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل : من أنت ، فلا يجوز له أن يقول له : أنا بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورا به ; لأن لفظة أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه فلا تحصل بها معرفة المستأذن ، وقد ثبت معنى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه . قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابرا - رضي الله عنه - يقول " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال من ذا ؟ فقلت : أنا ، فقال : " أنا أنا " ، كأنه كرهها " انتهى منه ، وتكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر ; لأنها لا يعرف بها المستأذن فهي جواب له - صلى الله عليه وسلم - بما لا يطابق سؤاله ، وظاهر الحديث أن جواب [ ص: 500 ] المستأذن بأنا ، لا يجوز لكراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك وعدم رضاه به خلافا لمن قال : إنه مكروه كراهة تنزيه ، وهو قول الجمهور . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن شعبة عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعوت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من هذا ؟ قلت أنا فخرج وهو يقول : أنا أنا " . حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لأبي بكر قال : قال يحيى : أخبرنا ، وقال أبو بكر : حدثنا وكيع عن شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال " : استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أنا " . وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا النضر بن شميل ، وأبو عامر العقدي " ح " وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثني وهب بن جرير " ح " وحدثني عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد ، وفي حديثهم كأنه كره ذلك انتهى منه . وقول جابر ، كأنه كره ذلك فيه أنه لا يخفى من تكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا أنه كره ذلك ولم يرضه ، وحديث جابر هذا أخرجه غير الشيخين من باقي الجماعة . المسألة الرابعة : اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته ، وبنيه وبناته البالغين ; لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر ، وذلك لا يحل له . وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ما نصه : ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم ; لئلا تكون منكشفة العورة . وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن ، ومن طريق علقمة جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال ما على كل أحيانها تريد أن تراها . ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغرا : سأل رجل حذيفة : أستأذن على أمي ؟ فقال : إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره ، ومن طريق موسى بن طلحة ، دخلت مع أبي على أمي فدخل ، واتبعته فدفع في صدري ، وقال : تدخل بغير إذن ؟ ومن طريق عطاء سألت ابن عباس استأذن على أختي ؟ [ ص: 501 ] قال نعم ، قلت إنها في حجري ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة ، انتهى من فتح الباري . وهذه الآثار عن هؤلاء الصحابة تؤيد ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، ويفهم من الحديث الصحيح " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، فوقوع البصر على عورات من ذكر لا يحل ، كما ترى ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره للآية التي نحن بصددها : وقال هشيم : أخبرنا أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم . وقال أشعث ، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهل بيتي ، وأنا على تلك الحال ، فنزلت : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا الآية ، وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ثلاث آيات جحدهن الناس ، قال الله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، قال ويقولون : إن أكرمكم عند الله أعظمكم بيتا ، إلى أن قال : والأدب كله قد جحده الناس ، قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم ، فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن ، قال : فراجعته ، فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاستأذن ، قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه ، قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم ، قال : وكان يشدد في ذلك ، وقال ابن جريج عن الزهري : سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم ، اهـ محل الغرض منه ، وهو يدل على ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة : اعلم أنه إن لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها ، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته ، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما ، ولو كان أبا أو أما أو ابنا ، كما لا يخفى ، ويدل له الأثر الذي ذكرناه آنفا عن موسى بن طلحة : أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن ، مع أن طلحة زوجها دخل بغير إذن . [ ص: 502 ] وقال ابن كثير في " تفسيره " : وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا ، ثم قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ; لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها ، ثم نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده عن زينب امرأة ابن مسعود ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قال : وإسناده صحيح ، اهـ محل الغرض منه . والأول أظهر ولا سيما عند من يرى إباحة نظر الزوج إلى فرج امرأته كمالك وأصحابه ومن وافقهم ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة : إذا قال أهل المنزل للمستأذن : ارجع ، وجب عليه الرجوع ; لقوله تعالى : وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم [ 24 \ 28 ] ، وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له : ارجع ، ليرجع ، فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله : هو أزكى لكم ; لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيرا وأجرا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة : اعلم أن أقوى الأقوال دليلا وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص ، وهذا لا ينبغي العدول عنه لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم لسقوطها عندنا ، لمعارضتها النص الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في " صحيحه " : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له ، ثم ذكر من أحاديث هذه الترجمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - " : لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح " ، اهـ منه ، والجناح الحرج ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح " : لم يكن عليك جناح " ، لفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي فهي تعم رفع كل حرج من إثم ودية وقصاص ، كما ترى . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " ، اهـ منه . [ ص: 503 ] وهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحل لهم أن يفقئوا عينه ، وكون ذلك حلالا لهم مستلزم أنهم ليس عليهم فيه شيء من إثم ، ولا دية ، ولا قصاص ; لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة ، كما لا يخفى . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - تعالى في " صحيحه " متصلا بكلامه هذا الذي نقلنا عنه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " ، اهـ منه . وقد بينا وجه دلالته على أنه لا شيء في عين المذكور ، وثبوت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رأيت يدل على أنه لما تعدى وانتهك الحرمة ، ونظر إلى بيت غيره دون استئذان ، أن الله أذن على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ عينه الخائنة ، وأنها هدر لا عقل فيها ، ولا قود ، ولا إثم ، ويزيد ما ذكرنا توكيدا وإيضاحا ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - منه أنه هم أن يفعل ذلك . قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه تحت الترجمة المذكورة آنفا ، وهي قوله : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن أنس - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع في بعض جحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، وجعل يختله ليطعنه . حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن ابن شهاب ، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك " ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الإذن من قبل البصر " ، اهـ منه ، وقد ذكر البخاري هذه الأحاديث التي ذكرناها عنه هنا في كتاب الديات . وقد قال في كتاب الاستئذان : باب الاستئذان من أجل البصر : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال الزهري : حفظته كما أنك هاهنا عن سهل بن سعد ، قال : اطلع رجل من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فقال " : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " . [ ص: 504 ] حدثنا مسدد ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص أو بمشاقص ، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه ، وهذه النصوص الصحيحة تؤيد ما ذكرنا ، فلا التفات لمن خالفها من أهل العلم ، ومن أولها ; لأن النص لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه . واعلم أن المشقص بكسر أوله وسكون ثانيه ، وفتح ثالثه هو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض ، وقوله في الحديث المذكور : من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجحر الأول : بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط ، والثاني : بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة : وهي ناحية البيت . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو كامل فضيل بن الحسين وقتيبة بن سعيد ، واللفظ ليحيى ، وأبي كامل ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختله ليطعنه ، وفي لفظ عند مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي : أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك " ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وفي مسلم روايات أخر بهذا المعنى قد اكتفينا منها بما ذكرنا . وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها ، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة ، ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها ، وتكون هدرا ، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك ، ولا لتأويلهم للنصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثامنة : اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولا إلى شخص ليحضر عنده ، فإن أهل العلم قد اختلفوا : هل يكون الإرسال إليه إذنا ; لأنه طلب حضوره بإرساله إليه ، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد اكتفاء بالإرسال إليه ، أو لا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذانا جديدا ، ولا يكتفي بالإرسال ؟ وكل من [ ص: 505 ] القولين قال به بعض أهل العلم ، واحتج من قال : إن الإرسال إليه إذن يكفي عن الاستئذان عند إتيان المنزل بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن حبيب ، وهشام عن محمد عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، حدثنا حسين بن معاذ ، ثنا عبد الأعلى ، ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن " ، قال أبو علي اللؤلؤي : سمعت أبا داود يقول : قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئا ، اهـ من أبي داود . قال ابن حجر في " فتح الباري " : وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي ، عن قتادة : أن أبا رافع حدثه ، اهـ . ويدل لصحة ما رواه أبو داود ، ورواه البخاري تعليقا : باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن ؟ وقال سعيد عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : هو إذنه " اهـ ، ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم ، إلا ما هو صحيح عنده ، كما قدمناه مرارا . وقال ابن حجر في " الفتح " : في حديث كون " رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وله متابع أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، بلفظ " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود ، قال " : إذا دعي الرجل فهو إذنه " ، وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا ، انتهى محل الغرض منه . فهذه جملة أدلة من قالوا : بأن من دعي لا يستأذن إذا قدم . وأما الذين قالوا : يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسل ، ولا يكتفي بإرسال الرسول ، فقد احتجوا بما رواه البخاري في " صحيحه " : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمر بن ذر ، وحدثني محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عمر بن ذر ، أخبرنا مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد لبنا في قدح ، فقال " : أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي " ، قال : فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا ، اهـ منه ، قال : هذا الحديث الصحيح صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا هر لأهل الصفة ، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان ولو كان يكفي عنه لبينه صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة . ومن أدلة أهل هذا القول ظاهر عموم قوله تعالى : [ ص: 506 ] لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية ; لأن ظاهرها يشمل من أرسل إليه وغيره ، وقد جمع بعض أهل العلم بين أدلة القولين . قال ابن حجر في " فتح الباري " : وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان ، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة ، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن ، وقال ابن التين : لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله ، والثاني بخلافه . قال : والاستئذان على كل حال أحوط . وقال غيره : إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول ، ويكفيه سلام الملاقاة ، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان ، وبهذا جمع الطحاوي ، واحتج بقوله في الحديث " : فأقبلوا فاستأذنوا " فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم ، وإلا لقال : فأقبلنا ، كذا قال ، اهـ كلام ابن حجر . وأقربها عندي الجمع الأخير ، ويدل له الحديث المذكور فيه ، وقوله في حديث أبي داود المتقدم : فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أمر الله - جل وعلا - المؤمنين والمؤمنات بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزنى ، واللواط ، والمساحقة ، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم ، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية ، وذلك في قوله تعالى في سورة " المؤمنون " و " سأل سائل " ، والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] و [ 70 \ 29 - 30 ] . فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى ، واللواط لازم ، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (406) سُورَةُ النُّورِ صـ 507 إلى صـ 514 وقد بينا في سورة " البقرة " أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر ، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة ، وقد أوضحنا الكلام على آية : والذين هم لفروجهم [ 23 \ 5 ] ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم ، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة " الأحزاب " ، وذلك في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلى [ ص: 507 ] قوله تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] ، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللواط ، وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة قوم لوط ; كقوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ، وقوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة " هود " ، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة . واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ; كما قال تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون الآية [ 23 \ 5 ] ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن " : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " ، اهـ منه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قال الزمخشري في الكشاف : من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة ، وأباه سيبويه ، فإن قلت : كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ، وصدورهن ، وثديهن ، وأعضادهن ، وأسوقهن ، وأقدامهن ، وكذلك الجواري المستعرضات ، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين ، وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه ، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء . [ ص: 508 ] وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار ، اهـ كلام الزمخشري . وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر ، بل يدخل فيه دخولا أوليا حفظه من الزنى واللواط ، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج ; لأن النظر بريد الزنى ، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى ، وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة " الأحزاب " ، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " . وقول الزمخشري : إن من في قوله : يغضوا من أبصارهم للتبعيض ، قاله غيره ، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها ، وعليه أن يغض بصره بعدها ، ولا ينظر نظرا عمدا إلى ما لا يحل ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش ، وذكره القرطبي وغيرهما من أن من زائدة ، لا يعول عليه . وقال القرطبي : وقيل الغض : النقصان ، يقال : غض فلان من فلان ، أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله ، فهو موضوع منه ومنقوص ، فـ من صلة للغض ، وليست للتبعيض ، ولا للزيادة ، اهـ منه . والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو من ومثل ذلك كثير في كلام العرب ، ومن أمثلة تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير : فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا وقول عنترة : وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها وقول الآخر : وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غربان لأن قوله : غض الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف . [ ص: 509 ] ومن أمثلة تعدي الغض بـ من قوله تعالى : يغضوا من أبصارهم و يغضضن من أبصارهن وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله ، ولم يغض بصره عن الحرام ، وهي قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين [ 40 \ 19 ] . وقد قال البخاري - رحمه الله - : وقال سعيد بن أبي الحسن ، للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءوسهن ، قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله - عز وجل - : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال قتادة : عما لا يحل لهم ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه ، اهـ محل الغرض منه بلفظه . وبه تعلم أن قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له ، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحا في أحاديث كثيرة . منها : ما ثبت في الصحيح ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إياكم والجلوس بالطرقات " ، قالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ، قال " : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال " : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " ، انتهى ، هذا لفظ البخاري في " صحيحه " . ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، الحديث . ومحل الشاهد منه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل عن النظر إليها ، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز ، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث ، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في [ ص: 510 ] الكلام على مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " . ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن نظر العين إلى ما لا يحل لها تكون به زانية ، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ، أنه قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " ، اهـ ، هذا لفظ البخاري ، والحديث متفق عليه ، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا . ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فزنى العين النظر " ، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة . ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه ، والعياذ بالله ، فالنظر بريد الزنى ، وقال مسلم بن الوليد الأنصاري : كسبت لقلبي نظرة لتسره عيني فكانت شقوة ووبالا ما مر بي شيء أشد من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالى وقال آخر : ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف وقال آخر : وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال أبو الطيب المتنبي : وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه " ذم الهوى " فصولا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه ، وذكر كثيرا من أشعار الشعراء ، والحكم النثرية [ ص: 511 ] في ذلك وكله معلوم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها اعلم أولا أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال : الأول : أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة ; كوجهها وكفيها . الثاني : أن الزينة هي ما يتزين به خارجا عن بدنها . وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان : أحدهما : أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن ; كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار . والثاني : أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن كالكحل في العين . فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه ، وكالخضاب والخاتم ، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد ، وكالقرط والقلادة والسوار ، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محله من البدن ; كما لا يخفى . وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك ، ثم نبين ما يفهم من آيات القرآن رجحانه . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، وقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أي : لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود كالرداء والثياب ، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب ، فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن إخفاؤه ، وقال بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : وجهها وكفيها والخاتم ، وروي عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك . وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ; كما قال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال في قوله : ولا يبدين زينتهن الزينة : القرط ، والدملوج ، والخلخال ، والقلادة ، وفي رواية عنه بهذا الإسناد ، قال : الزينة زينتان ، فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار ، وزينة يراها [ ص: 512 ] الأجانب ، وهي الظاهر من الثياب ، وقال الزهري : لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس ، فلا يبدو منها إلا الخواتم . وقال مالك ، عن الزهري إلا ما ظهر منها : الخاتم والخلخال ، ويحتمل أن ابن عباس ، ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها : بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في " سننه " : حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ، ومؤمل بن الفضل الحراني ، قالا : حدثنا الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن خالد بن دريك ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال " : يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، لكن قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة - رضي الله عنها - والله أعلم ، اهـ كلام ابن كثير . وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : إلا ما ظهر منها : واختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب ، وزاد ابن جبير : الوجه ، وقال سعيد بن جبير أيضا ، وعطاء ، والأوزاعي : الوجه والكفان والثياب ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا ، فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس . وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آخر عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا " ، وقبض على نصف الذراع . قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء ، فهو المعفو عنه . قلت : وهذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة ، وعبادة وذلك في الصلاة والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل لذلك ما رواه أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - ثم ذكر القرطبي حديث عائشة المذكور الذي [ ص: 513 ] قدمناه قريبا ، ثم قال : وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا : إن المرأة إذا كانت جميلة ، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة ، فعليها ستر ذلك ، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي . وقال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس به ، وما خفي منها كالسوار ، والخلخال ، والدملج ، والقلادة ، والإكليل ، والوشاح ، والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين ، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر ; لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وهي الذراع ، والساق ، والعضد ، والعنق ، والرأس ، والصدر ، والأذن ، فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله ، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ، ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها ، إلى آخر كلامه . وقال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج عبد الرزاق والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن قال : الزينة السوار والدملج والخلخال ، والقرط ، والقلادة إلا ما ظهر منها قال : الثياب والجلباب . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : الزينة زينتان ، ، زينة ظاهرة ، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج . فأما الزينة الظاهرة : فالثياب ، وأما الزينة الباطنة : فالكحل ، والسوار والخاتم ، ولفظ ابن جرير : فالظاهرة منها الثياب ، وما يخفى : فالخلخالان والقرطان والسواران . وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم والقرط والقلادة . [ ص: 514 ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : هو خضاب الكف ، والخاتم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : وجهها ، وكفاها والخاتم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : رقعة الوجه ، وباطن الكف . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها سئلت عن الزينة الظاهرة ؟ فقالت : القلب والفتخ ، وضمت طرف كمها . وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه وثغرة النحر . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه والكف . وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الكفان والوجه . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن قتادة ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : المسكتان والخاتم والكحل . قال قتادة : وبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى هاهنا " ويقبض نصف الذراع . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن المسور بن مخرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : القلبين ، يعني السوار والخاتم والكحل . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (407) سُورَةُ النُّورِ صـ 515 إلى صـ 522 وأخرج سعيد ، وابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الخاتم والمسكة . قال ابن جريج : وقالت عائشة - رضي الله عنها - : القلب والفتخة ، قالت عائشة : دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة ، فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرض ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنها ابنة أخي وجارية ، فقال " : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون [ ص: 515 ] هذا " ، وقبض على ذراعه نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ، اهـ محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " . وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة ، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال ; كما ذكرنا : الأول : أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها ; كقول ابن مسعود ، ومن وافقه : إنها ظاهر الثياب ; لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار ، كما ترى . وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها ، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة . القول الثاني : أن المراد بالزينة : ما تتزين به ، وليس من أصل خلقتها أيضا ، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة ، وذلك كالخضاب والكحل ، ونحو ذلك ; لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن ، كما لا يخفى . القول الثالث : أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها ; كقول من قال : إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان ، وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم . وإذا عرفت هذا ، فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن ، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب ، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع ; لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة . وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية ، التي نحن بصددها . أما الأول منهما ، فبيانه أن قول من قال في معنى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أن المراد بالزينة : الوجه والكفان مثلا ، توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة [ ص: 516 ] هذا القول ، وهي أن الزينة في لغة العرب ، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها : كالحلي ، والحلل . فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ، ولا يجوز الحمل عليه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وبه تعلم أن قول من قال : الزينة الظاهرة : الوجه ، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية ، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول ، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه . وأما نوع البيان الثاني المذكور ، فإيضاحه : أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها ; كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] ، وقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ 7 \ 32 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها [ 28 \ 60 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، وقوله تعالى : فخرج على قومه في زينته الآية [ 28 \ 79 ] ، وقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ 57 \ 20 ] ، وقوله تعالى : قال موعدكم يوم الزينة [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى عن قوم موسى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم [ 20 \ 87 ] ، وقوله تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ 24 \ 31 ] ، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته ، كما ترى ، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن ، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى ، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم ، وهو المعروف في كلام العرب ; كقول الشاعر : يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين ، فيه نظر . وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة ، وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين ، فقال بعضهم : هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب . وقال بعضهم : هي زينة يستلزم النظر [ ص: 517 ] إليها رؤية موضعها من بدن المرأة ; كالكحل والخضاب ، ونحو ذلك . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية ، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر ; لأنه هو أحوط الأقوال ، وأبعدها عن أسباب الفتنة ، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها ; كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم ، هو تمام المحافظة ، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي . واعلم أن مسألة الحجاب وإيضاح كون الرجل لا يجوز له النظر إلى شيء من بدن الأجنبية ، سواء كان الوجه والكفين أو غيرهما قد وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك وغيرها من المواضع ، بأننا سنوضح ذلك في سورة " الأحزاب " ، في الكلام على آية الحجاب ، وسنفي إن شاء الله تعالى بالوعد في ذلك بما يظهر به للمنصف ما ذكرنا . واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود ، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثياب رقاق ، وأنه قال لها " : إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث ; كما قدمنا عن ابن كثير أنه قال فيه : قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، وخالد بن دريك لم يسمع من عائشة . والأمر كما قال ، وعلى كل حال فسنبين هذه المسألة إن شاء الله بيانا شافيا مع مناقشة أدلة الجميع في سورة " الأحزاب " ، ولذلك لم نطل الكلام فيها هاهنا . تنبيه . قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثير من أنواع الزينة ، ولعل بعض الناظرين في هذا الكتاب ، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة ، فأردنا أن نبينها هاهنا تكميلا للفائدة . أما الكحل والخضاب فمعروفان ، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء ، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن ، ويجمع على قرطة كقردة ، وقراط ، وقروط ، وأقراط ، ومنه قول الشاعر : [ ص: 518 ] أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر والخاتم معروف ، وهو حلية الأصابع ، والفتخ : جمع فتخة بفتخات وهي حلقة من فضة لا فص فيها ، فإذا كان فيها فص ، فهو الخاتم ، وقيل : قد يكون للفتخة فص ، وعليه فهي نوع من الخواتم ، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن ، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها ، ومن ذلك قول الراجزة ، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج : والله لا تخدعني بضم ولا بتقبيل ولا بشم إلا بزعزاع يسلي همي تسقط منه فتخي في كمي والخلخال ، ويقال له : الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم ، والمخلخل : موضع الخلخال من الساق ، ومنه قول امرئ القيس : إذا قلت هاتي نوليني تمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل والدملج : ويقال له الدملوج : هو المعضد ، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره ، والعضد من المرفق إلى المنكب ، ومنه قول الشاعر : ما مركب وركوب الخيل يعجبني كمركب بين دملوج وخلخال والسوار : حلية من الذهب ، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها ، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق ، وهو القلب بضم القاف . وقال بعض أهل اللغة : إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد لا من طاقين أو أكثر ، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام - رضي الله عنه - : تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلبا أحب بني العوام من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا . والمسكة بفتحات : السوار من عاج أو ذبل ، والعاج سن الفيل ، والذبل بالفتح شيء كالعاج ، وهو ظهر السلحفاة البحرية ، يتخذ منه السوار ، ومنه قول جرير يصف امرأة : ترى العبس الحولي جونا بكوعها لها مسكا في غير عاج ولا ذبل [ ص: 519 ] قاله الجوهري في " صحاحه " ، والمسك بفتحتين : جمع مسكة . وقال بعض أهل اللغة : المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل ، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب ، ولا الفضة ، وقد قدمنا في سورة " التوبة " ، في الكلام على قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية [ 9 \ 34 ] ، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عند أبي داود والنسائي : أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، الحديث . وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب ، كما تكون من العاج ، والقرون ، والذبل ، وهذا هو الأظهر خلافا لكلام كثير من اللغويين في قولهم : إن المسك لا يكون من الذهب ، والفضة ، والقلادة معروفة ، والله تعالى أعلم . قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة ، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به ، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة ، وهي الرجوع عن الذنب ، والإنابة إلى الله بالاستغفار منه ، وهي ثلاثة أركان : الأول : الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به . والثاني : الندم على ما وقع منه من المعصية . والثالث : النية ألا يعود إلى الذنب أبدا ، والأمر في قوله في هذه الآية : وتوبوا إلى الله جميعا الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك ، فالتوبة واجبة على كل مكلف ، من كل ذنب اقترفه ، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضا . وقوله : لعلكم تفلحون قد قدمنا مرارا أن أشهر معاني لعل في القرآن اثنان : الأول : أنها على بابها من الترجي ، أي : توبوا إلى الله رجاء أن تفلحوا ، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد ، أما الله - جل وعلا - فهو عالم بكل شيء ، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء ، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] [ ص: 520 ] وهو - جل وعلا - عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى . معناه : فقولا له قولا لينا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى . والثاني : هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرآن للتعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " ، وهي في قوله تعالى : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] ، قالوا : فهي بمعنى كأنكم ، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية ، ومنه قول الشاعر : فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق أي : كفوا الحروب ، لأجل أن نكف ; كما تقدم . وعلى هذا القول ، فالمعنى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ، لأجل أن تفلحوا ، أي : تنالوا الفلاح ، والفلاح في اللغة العربية : يطلق على معنيين : الأول : الفوز بالمطلوب الأعظم ، ومن هذا المعنى قول لبيد : فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل أي : فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل . المعنى الثاني : هو البقاء الدائم في النعيم والسرور ، ومنه قول الأضبط بن قريع ، وقيل : كعب بن زهير : لكل هم من الهموم سعه والمسا والصبح لا فلاح معه يعني : أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه . وقول لبيد بن ربيعة أيضا : لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح يعني : لو كان أحد يدرك البقاء ، ولا يموت لناله ملاعب الرماح ، وهو عمه عامر بن [ ص: 521 ] مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة ، وقد قال فيه الشاعر يمدحه ، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور : فررت وأسلمت ابن أمك عامرا يلاعب أطراف الوشيج المزعزع وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإقامة : حي على الفلاح ; كما هو معروف . ومن تاب إلى الله - كما أمره الله - نال الفلاح بمعنييه ، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة ، ورضا الله تعالى ، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره - جل وعلا - لجميع المسلمين بالتوبة ، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله : لعلكم تفلحون أوضحه في غير هذا الموضع ، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب ، ويكفر بها السيئات ، أنها التوبة النصوح ، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات ، ودخول الجنة ، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم : إن عسى من الله واجبة ، وله وجه من النظر ; لأنه عز وجل جواد كريم ، رحيم غفور ، فإذا أطمع عبده في شيء من فضله ، فجوده وكرمه تعالى وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطمعه ربه في ذلك الفضل يثق بأنه ما أطمعه فيه إلا ليتفضل به عليه . ومن الآيات التي بينت هذا المعنى هنا ، قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 66 \ 8 ] ، فقوله في آية " التحريم " هذه : ذلك بأن الذين كفروا ; كقوله في آية " النور " : أيها المؤمنون لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة ، فقد نال الفلاح بمعنييه ، وقوله في آية " التحريم " : توبوا إلى الله توبة نصوحا موضح لقوله في " النور " : وتوبوا إلى الله جميعا ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم ، وحث على امتثال الأمر ; لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح ، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية " التحريم " ، هو المفهوم من لفظة لعل في آية " النور " ، كما لا يخفى . تنبيهات . الأول : التوبة النصوح : هي التوبة الصادقة . وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح ، بأن يقلع عن الذنب إن كان [ ص: 522 ] ملتبسا به ، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه - جل وعلا - وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدا . وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحا وكفر الله عنه سيئاته بتلك التوبة النصوح ، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب لا يبطلها الرجوع إلى الذنب ، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد خلافا لمن قال : إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى . الثاني : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب ، والإقلاع عنه ، إن كان ملتبسا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة ، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف ، وإيضاحه في الأول الذي هو الندم أن الندم ليس فعلا ، وإنما هو انفعال ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدا إلا بفعل يقع باختيار المكلف ، ولا يكلف أحدا بشيء إلا شيئا هو في طاقته ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلا تحت قدرة العبد ، فليس بفعل أصلا ، وليس في وسع المكلف فعله ، والتكليف لا يقع بغير الفعل ، ولا بما لا يطاق ، كما بينا ، قال في " مراقي السعود " : ولا يكلف بغير الفعل باعث الأنبيا ورب الفضل وقال أيضا : والعلم والوسع على المعروف شرط يعم كل ذي تكليف واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق ، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجوار العقلي ، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه ؟ . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (408) سُورَةُ النُّورِ صـ 523 إلى صـ 530 أما وقوعه بالفعل فهم مجمعون على منعه ; كما دلت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية ، وبعض الأصوليين يعبر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلا ، أو لا ؟ أما وقوع التكليف بالمحال عقلا ، أو عادة ، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلا ، ومثال المستحيل عقلا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض والسواد ، أو النقيضين كالعدم والوجود ، والمستحيل عادة كتكليف المقعد [ ص: 523 ] بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ، ونحو ذلك ، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعا . وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع ، فهو جائز عقلا ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالما في الأزل بأنه لا يقع ; كما قال الله تعالى عنه : سيصلى نارا ذات لهب [ 11 \ 3 ] ، فوقوعه محال عقلا لعلم الله في الأزل ، بأنه لا يوجد ; لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلا ، وذلك مستحيل في حقه تعالى ، ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلا ، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب ، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان ، على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فالإمكان عام ، والدعوة عامة ، والتوفيق خاص . وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار ثلاثة أقسام : الأول : الواجب عقلا . الثاني : المستحيل عقلا . الثالث : الجائز عقلا ، وبرهان الحصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة ، أن الشيء من حيث هو شيء ، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات : إما أن يكون العقل يقبل وجوده ، ولا يقبل عدمه بحال . وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال . وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معا ، فإن كان العقل يقبل وجوده دون عدمه ، فهو الواجب عقلا ، وذلك كوجود الله تعالى متصفا بصفات الكمال والجلال ، فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله ، ولو عرض عليه عدمه وأنها خلقت بلا خالق ، لم يقبله ، فهو واجب عقلا ، وأما إن كان يقبل عدمه ، دون وجوده ، فهو المستحيل عقلا ; كشريك الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك لله في ملكه ، وعبادته لقبله ، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال ; كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، وقال : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] ، فهو مستحيل عقلا . وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معا ، فهو الجائز العقلي ، ويقال له الجائز الذاتي ، وذلك كإيمان أبي لهب ، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله ، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضا ، كما لا يخفى ، فهو جائز عقلا جوازا ذاتيا ، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي . [ ص: 524 ] وقالت جماعات من أهل الأهواء : إن الحكم العقلي قسمان فقط ، وهما : الواجب عقلا ، والمستحيل عقلا ، قالوا : والجائز عقلا لا وجود له أصلا ، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه سيوجد فهو الواجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده ، كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلا لعلم الله بأنه سيقع ، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وذلك محال . وإما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه لا يوجد كإيمان أبي لهب ، فهو مستحيل عقلا ، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا القول لا يخفى بطلانه ، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب ، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه ، فكلاهما جائز إلا أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين فأوجده ، وشاء عدم الآخر ، فلم يوجده . والحاصل أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده ; لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعا ، وكذلك المستحيل عادة ، كما لا يخفى . أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز ، وواقع إجماعا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلا ، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه ، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلا عرضيا ، ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي ، كإيمان أبي لهب ، وإن كان وقوعه مستحيلا لعلم الله بأنه لا يقع . أما المستحيل عقلا لذاته كالجمع بين النقيضين ، والمستحيل عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان بغير آلة ، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 282 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " . وأما المستحيل العقلي : فقالت جماعة من أهل الأصول : يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلا ، وبالمستحيل عادة ، وقال بعضهم : لا يجوز عقلا مع إجماعهم على أنه [ ص: 525 ] لا يصح وقوعه بالفعل ، وحجة من يمنعه عقلا أنه عبث لا فائدة فيه ; لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال ، فتكليفه بما هو عاجز عنه محققا عبث لا فائدة فيه ، قالوا فهو مستحيل ; لأن الله حكيم خبير . وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف ، هل يتأسف على عدم القدرة ، ويظهر أنه لو كان قادرا لامتثل ، والامتحان سبب من أسباب التكليف ، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده ، وهو عالم أنه لا يذبحه ، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم ، أي : اختباره ، هل يمتثل ؟ فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم ; كما قال تعالى عنه : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 103 - 107 ] . وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى مسألة التكليف بالمحال ، وأقوال الأصوليين فيها ، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلا ، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله ، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية ، بقوله : وجوز التكليف بالمحال في الكل من ثلاثة الأحوال وقيل بالمنع لما قد امتنع لغير علم الله أن ليس يقع وليس واقعا إذا استحالا لغير علم ربنا تعالى وقوله : وجوز التكليف ، يعني : الجواز العقلي . وقوله : وقيل بالمنع ، أي : عقلا ، ومراده بالثلاثة الأحوال ما استحال عقلا وعادة ، كالجمع بين النقيضين ، وما استحال عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان ، وإبصار الأعمى ، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه . وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة ، فاعلم أن التوبة تجب كتابا وسنة وإجماعا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورا ، وأن الندم ركن من أركانها ، وركن الواجب واجب ، والندم ليس بفعل ، وليس باستطاعة المكلف ; لأنه انفعال لا فعل ، والانفعالات ليست بالاختيار ، فما وجه التكليف بالندم ، وهو غير فعل للمكلف ، ولا مقدور عليه . والجواب عن هذا الإشكال : هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها ، وهي في طوق المكلف ، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة ، [ ص: 526 ] ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل ، والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل لما يتبع لذته من عظيم الضرر ، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل ، وهو ما تستلزمه معصية الله - جل وعلا - من سخطه على العاصي ، وتعذيبه له أشد العذاب ، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه ، وينغص عليه لذة الحياة ، ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم ، أنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية ، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها . فالحاصل أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم ، وأنه إن استعملها حصل له الندم ، وبهذا الاعتبار كان مكلفا بالندم ، مع أنه انفعال لا فعل . ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية قول الشاعر وهو الحسين بن مطير : فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها ونقل عن سفيان الثوري - رحمه الله - أنه كان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر : تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب ، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به ، مع بقاء فساد ذلك الذنب ، أي : أثره السيئ هل تكون توبته صحيحة ، نظرا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه ، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت ، أو لا تكون توبته صحيحة ; لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق . ومن أمثلة هذا من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بث بدعته ، وانتشرت في أقطار الدنيا ، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة ، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدا ، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه ، لانتشارها في أقطار الدنيا ; ولأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ففساد بدعته باق . [ ص: 527 ] ومن أمثلته : من غصب أرضا ، ثم سكن في وسطها ، ثم تاب من ذلك الغصب نادما عليه ، ناويا ألا يعود إليه ، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة ، وسلك أقرب طريق للخروج منها ، فهل تكون توبته صحيحة ، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها ; لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الغصب ، لم يتم ما دام موجودا في الأرض المغصوبة ، ولو كان يسير فيها ، ليخرج منها . ومن أمثلته : من رمى مسلما بسهم ، ثم تاب فندم على ذلك ، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقه إلى المرمي ، هل تكون توبته صحيحة ; لأنه فعل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة ، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم ، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة ; لأن التوبة واجبة عليه ، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه ، وما لا قدرة له عليه معذور فيه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبا . وقال أبو هاشم ، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي : إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام ; لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن ، كالمكث ، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ ، والإقلاع ترك المنهي عنه ، فالخروج عنده قبيح ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو مناف للإقلاع ، فهو منهي عنه ، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضا ، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة ، وهذا بناه على أصله الفاسد ، وهو القبح العقلي ، لكنه أخل بأصل له آخر ، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال : إن خرج عصى ، وإن مكث عصى ، فقد حرم عليه الضدين كليهما ، اهـ ، قاله في " نشر البنود " . وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " مقتصرا على مذهب الجمهور ، بقوله : من تاب بعد أن تعاطى السببا فقد أتى بما عليه وجبا وإن بقي فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع أو تاب خارجا مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب يقر بعيني أن أنبأ أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوج فقوله : " لم تزوج " تفسير لقوله : أنها أيم ، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أمية بن أبي الصلت الثقفي : لله در بني علي أيم منهم وناكح ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر : أحب الأيامى إذ بثينة أيم وأحببت لما أن غنيت الغوانيا والعرب تقول : آم الرجل يئيم ، وآمت المرأة تئيم ، إذا صار الواحد منهما أيما ، وكذلك تقول : تأيم إذا كان أيما . ومثاله في الأول قول الشاعر : لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت ومن الثاني قوله : فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم ومن الأول أيضا ، قول يزيد بن الحكم الثقفي : كل امرئ ستئيم منه العرس أو منها يئيم وقول الآخر : [ ص: 529 ] نجوت بقوف نفسك غير أني إخال بأن سييتم أو تئيم يعني : ييتم ابنك وتئيم امرأتك . فإذا علمت هذا ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية : وأنكحوا الأيامى شامل للذكور والإناث ، وقوله في هذه الآية : منكم أي : من المسلمين ، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله : منكم أن الأيامى من غيركم ، أي : من غير المسلمين ، وهم الكفار ليسوا كذلك . وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرحا به في آيات أخر ; كقوله تعالى في أيامى الكفار الذكور : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا [ 2 \ 221 ] ، وقوله في أياماهم الإناث : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] ، وقوله فيهما جميعا : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] . وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية ، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلا أن عموم هذه الآيات خصصته آية " المائدة " ، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة ; وذلك في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ 5 \ 5 ] ، فقوله تعالى عاطفا على ما يحل للمسلمين : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية ، والظاهر أنها الحرة العفيفة . فالحاصل أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور ، إلا صورة واحدة ، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية ، والنصوص الدالة على ذلك قرآنية ، كما رأيت . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين ، والإماء المملوكات ، وظاهر هذا الأمر الوجوب ; لما تقرر في الأصول . [ ص: 530 ] وقد بينا مرارا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته ، وجب على وليها تزويجها إياه ، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم ، من أن السيد له منع عبده وأمته من التزويج مطلقا غير صواب لمخالفته لنص القرآن في هذه الآية الكريمة . واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : وإمائكم بينت آية " النساء " أن الأمة لا تزوج للحر إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية ، فآية " النساء " المذكورة مخصصة بعموم آية " النور " هذه بالنسبة إلى الإماء ، وآية " النساء " المذكورة هي قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى : ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم [ 4 \ 25 ] ، فدلت آية " النساء " هذه على أن الحر لا يجوز له أن يتزوج المملوكة المؤمنة ، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرة لعدم الطول عنده ، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوج الأمة بإذن أهلها المالكين لها ، ويلزمه دفع مهرها ، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متخذات الأخدان ، ومع هذا كله فصبره عن تزويجها خير له ، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرا له فمع عدمه أولى بالمنع ، وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأمة ، إلا بالشروط المذكورة في القرآن ; كقوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا [ 4 \ 25 ] ، وقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم [ 4 \ 25 ] ، أي : الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقا ، إلا إذا تزوجها على حرة . والحاصل أن قوله تعالى في آية " النور " هذه : وإمائكم خصصت عمومه آية " النساء " كما أوضحناه آنفا ، والعلماء يقولون : إن علة منع تزويج الحر الأمة ، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكا ; لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ، فيلزمه ألا يتسبب في رق أولاده ما استطاع ، ووجهه ظاهر كما ترى . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (409) سُورَةُ النُّورِ صـ 531 إلى صـ 538 وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فيه وعد من الله للمتزوج الفقير من الأحرار ، والعبيد بأن الله يغنيه ، والله لا يخلف الميعاد ، وقد وعد الله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقراء باليسر بعد ذلك العسر ، وأنجز لهم ذلك ، وذلكم في قوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] ، أي : ضيق عليه رزقه إلى قوله [ ص: 531 ] تعالى : سيجعل الله بعد عسر يسرا [ 65 \ 7 ] ، وهذا الوعد منه - جل وعلا - وعد به من اتقاه في قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب الآية [ 65 \ 2 - 3 ] ، ووعد بالرزق أيضا من يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها ، وذلك في قوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 132 ] ، وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيه نوح في قوله تعالى عنه : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وعلى لسان نبيه هود في قوله تعالى عنه : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] ، وعلى لسان نبينا - صلى الله عليه وعليهما جميعا وسلم - : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى [ 11 \ 3 ] . ومن الآيات الدالة على أن طاعة الله تعالى سبب للرزق ، قوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] ، ومن بركات السماء المطر ، ومن بركات الأرض النبات مما يأكل الناس والأنعام ، وقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] ، وقوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، أي : في الدنيا ; كما قدمنا إيضاحه في سورة " النحل " ، وكما يدل عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وقد قدمنا أنه - جل وعلا - وعد بالغنى عند التزويج وعند الطلاق . أما التزويج ، ففي قوله هنا : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . وأما الطلاق ففي قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته الآية [ 4 \ 130 ] ، والظاهر أن المتزوج الذي وعده الله بالغنى ، هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة الله بغض البصر ، وحفظ الفرج ; كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " : يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " الحديث ، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة الله بغض البصر وحفظ الفرج ، فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة الله بذلك . [ ص: 532 ] وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالة على وعد الله بالرزق من أطاعه سبحانه - جل وعلا - ما أكرمه ، فإنه يجزي بالعمل الصالح في الدنيا والآخرة ، وما قاله أهل الظاهر من أن هذه الآية الكريمة تدل على أن العبد يملك ماله ; لأن قوله : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله بعد قوله : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على وصف العبيد بالفقر والغنى ، ولا يطلق الغنى إلا على من يملك المال الذي به صار غنيا ، ووجهه قوي ولا ينافي أن لسيده أن ينتزع منهم ذلك المال الذي ملك له ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله . هذا الاستعفاف المأمور به في هذه الآية الكريمة ، هو المذكور في قوله : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [ 24 \ 30 ] ، وقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات . قوله تعالى : ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم قيل : غفور لهن ، وقيل : غفور لهم ، وقيل : غفور لهن ولهم . وأظهرها أن المعنى غفور لهن لأن المكره لا يؤاخذ بما أكره عليه ، بل يغفره الله له لعذره بالإكراه ; كما يوضحه قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان الآية [ 16 \ 106 ] ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وابن جبير ، فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ، ذكره عنه القرطبي ، وذكره الزمخشري عن ابن عباس - رضي الله عنهم جميعا - . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنا لا نبين القرآن بقراءة شاذة ، وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا بها لقراءة سبعية كما هنا ، فزيادة لفظة لهن في قراءة من ذكرنا استشهاد بقراءة شاذة لبيان بقراءة غير شاذة أن الموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره ; لأنه غير معذور في فعله القبيح ، وذلك بيان المذكور بقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] . [ ص: 533 ] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ; لأن المكرهة على الزنى ، بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة . قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يخاف منه التلف ، أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره ، حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة ، انتهى منه . والذي يظهر أنه لا حاجة إليه ، لأن إسقاط المؤاخذة بالإكراه يصدق عليه أنه غفران ورحمة من الله بعبده ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ذكر الله - جلا وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل إلينا على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - آيات مبينات ، ويدخل فيها دخولا أوليا الآيات التي بينت في هذه السورة الكريمة ، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود ، ودليل ما ذكر من القرآن قوله تعالى : سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون [ 24 \ 1 ] ولا شك أن هذه الآيات المبينات المصرح بنزولها في هذه السورة الكريمة ، داخلة في قوله تعالى هنا ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات الآية . وبذلك تعلم أن قوله تعالى هنا ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات معناه : أنزلناها إليكم لعلكم تذكرون ، أي : تتعظون بما فيها من الأوامر والنواهي ، والمواعظ ، ويدل لذلك قوله تعالى : وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون فقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن من حكم إنزالها ، أن يتذكر الناس ، ويتعظوا بما فيها ، ويدل لذلك عموم قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] وقوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ومثلا من الذين خلوا من قبلكم معطوف على آيات ، أي : أنزلنا إليكم آيات ، وأنزلنا إليكم مثلا من الذين خلوا من قبلكم . [ ص: 534 ] قال أبو حيان في البحر المحيط : ومثلا معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى ومثلا من أمثال الذين من قبلكم ، أي : قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ، ومريم في براءتهما . وقال الزمخشري : ومثلا من أمثال من قبلكم ، أي : قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ، ومريم يعني قصة عائشة - رضي الله عنها - وما ذكرنا عن أبي حيان والزمخشري ذكره غيرهما . وإيضاحه : أن المعنى : وأنزلنا إليكم مثلا ، أي : قصة عجيبة غريبة في هذه السورة الكريمة ، وتلك القصة العجيبة من أمثال " الذين خلوا من قبلكم " ، أي : من جنس قصصهم العجيبة ، وعلى هذا الذي ذكرنا فالمراد بالقصة العجيبة التي أنزل إلينا ، وعبر عنها بقوله : ومثلا هي براءة عائشة - رضي الله عنها - مما رماها به أهل الإفك ، وذلك مذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم [ 24 \ 11 ] إلى قوله تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون الآية [ 24 \ 26 ] ، فقد بين في الآيات العشر المشار إليها أن أهل الإفك رموا عائشة ، وأن الله برأها في كتابه مما رموها به ، وعلى هذا : فمن الآيات المبينة لبعض أمثال من قبلنا قوله تعالى في رمي امرأة العزيز يوسف بأنه أراد بها سوءا تعني الفاحشة قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم [ 12 \ 25 ] وقوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين [ 12 \ 35 ] ; لأنهم سجنوه بضع سنين ، بدعوى أنه كان أراد الفاحشة من امرأة العزيز ، وقد برأه الله من تلك الفرية التي افتريت عليه بإقرار النسوة وامرأة العزيز نفسها وذلك في قوله تعالى : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ 12 \ 50 - 51 ] ، وقال تعالى عن امرأة العزيز في كلامها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم الآية [ 12 \ 32 ] . فقصة يوسف هذه مثل من أمثال من قبلنا ; لأنه رمى بإرادة الفاحشة وبرأه الله من [ ص: 535 ] ذلك ، والمثل الذي أنزله إلينا في هذه السورة ، شبيه بقصة يوسف ; لأنه هو وعائشة كلاهما رمي بما لا يليق ، وكلاهما برأه الله تعالى ، وبراءة كل منهما نزل بها هذا القرآن العظيم ، وإن كانت براءة يوسف وقعت قبل نزول القرآن بإقرار امرأة العزيز ، والنسوة كما تقدم قريبا بشهادة الشاهد من أهلها ، إن كان قميصه قد من قبل إلى قوله : فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن الآية [ 12 \ 26 - 28 ] . ومن الآيات المبينة لبعض أمثال الذين من قبلنا ما ذكرنا تعالى عن قوم مريم من أنهم رموها بالفاحشة ، لما ولدت عيسى من غير زوج ; كقوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] يعني فاحشة الزنى ، وقوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] يعنون الفاحشة ، ثم بين الله تعالى براءتها مما رموها به في مواضع من كتابه; كقوله تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا إلى قوله : ويوم أبعث حيا [ 19 \ 29 - 33 ] فكلام عيسى ، وهو رضيع ببراءتها ، يدل على أنها بريئة ، وقد أوضح الله براءتها مع بيان سبب حملها بعيسى ، من غير زوج ، وذلك في قوله تعالى : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا [ 19 \ 16 - 22 ] إلى آخر الآيات . ومن الآيات التي بين الله فيها براءتها قوله تعالى في الأنبياء : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] وقوله تعالى في التحريم : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ 66 \ 12 ] وقوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب . فهذه الآيات التي ذكرنا التي دلت على قذف يوسف وبراءته وقذف مريم وبراءتها [ ص: 536 ] من أمثال من قبلنا فهي ما يبين بعض ما دل عليه قوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم . والآيات التي دلت على قذف عائشة وبراءتها بينت المثل الذي أنزل إلينا ، وكونه من نوع أمثال من قبلنا واضح ; لأن كلا من عائشة ، ومريم ، ويوسف رمي بما لا يليق ، وكل منهم برأه الله ، وقصة كل منهم عجيبة ، ولذا أطلق عليها اسم المثل في قوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وموعظة للمتقين . قال الزمخشري : و " موعظة " ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [ 24 \ 2 ] ، لولا إذ سمعتموه [ 24 \ 12 ] ، ولولا إذ سمعتموه [ 24 \ 16 ] ، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا [ 24 \ 17 ] ، اهـ كلام الزمخشري ، والظاهر أن وجه خصوص الموعظة بالمتقين دون غيرهم أنهم هم المنتفعون بها . ونظيره في القرآن قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب [ 35 \ 18 ] وقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] فخص الإنذار بمن ذكر في الآيات ; لأنهم هم المنتفعون به مع أنه - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة منذر لجميع الناس كما قال تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ونظيره أيضا قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ونحوها من الآيات . وقوله في هذه الآية الكريمة : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وشعبة بن عاصم : مبينات بفتح الياء المثناة التحتية المشددة بصيغة اسم المفعول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : مبينات بكسر الياء المشددة بصيغة اسم الفاعل : فعلى قراءة من قرأ بفتح الياء فلا إشكال في الآية ; لأن الله بينها ، وأوضحها ، وعلى قراءة من قرأ مبينات بكسر الياء بصيغة اسم الفاعل ، ففي معنى الآية وجهان معروفا . أحدهما : أن قوله : مبينات : اسم فاعل بين المتعدية وعليه فالمفعول محذوف ، أي : مبينات الأحكام والحدود . والثاني : أن قوله : مبينات : وصف من " بين " اللازمة ، وهو صفة مشبهة ، وعليه [ ص: 537 ] فالمعنى آيات مبينات أي بينات واضحات ، ويدل لهذا الوجه الأخير قوله تعالى : سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا [ 24 \ 1 ] ، وذكر الوجهين المذكورين الزمخشري ، وأبو حيان وغيرهما ومثلوا لبين اللازمة بالمثل المعروف ، وهو قول العرب : قد بين الصبح لذي عينين . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : من المعروف في العربية أن بين مضعفا ، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة ، فتعدي بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى : قد بينا لكم الآيات [ 3 \ 118 ] وتعدي أبان للمفعول مشهود واضح أيضا كقولهم : أبان له الطريق ، أي : بينها له ، وأوضحها ، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور : قد بين الصبح لذي عينين ، أي : تبين وظهر ، ومنه قولجرير : وجوه مجاشع طليت بلؤم يبين في المقلد والعذار فقوله : يبين بكسر الياء بمعنى : يظهر ، ويتضح وقول جرير أيضا : رأى الناس البصيرة فاستقاموا وبينت المراض من الصحاح ومنه أيضا قول قيس بن ذريح : . وللحب آيات تبين بالفتى شحوب وتعرى من يديه الأشاجع على الرواية المشهورة برفع " شحوب " . والمعنى : للحب علامات تبين بالكسر ، أي : تظهر وتتضح بالفتى ، وهي شحوب إلخ ، وأنشد ثعلب هذا البيت ، فقال : شحوبا بالنصب ، وعليه فلا شاهد في البيت ; لأن شحوبا على هذا مفعول تبين فهو على هذا من بين المتعدية ، وأما ورود أبان لازمة بمعنى بان وظهر ، فهو كثير في كلام العرب أيضا ومنه قول جرير : إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب أي : ظهرت المقرفات وتبينت ، وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي : لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدود أي : لظهر وبان من آثارهن حدود ، أي : ورم ، وقول كعب بن زهير : [ ص: 538 ] قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل فقوله : مبين وصف من أبانت اللازمة : أي عتق بين واضح ، أي كرم ظاهر . قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله . قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح له فيها بكسر الباء الموحدة المشددة ، مبنيا للفاعل ، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة . وقرأه ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح له فيها بفتح الباء الموحدة المشددة ، مبنيا للمفعول ، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره : رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها ، قيل : ومن يسبح له فيها ؟ قال رجال ، أي : يسبح له فيها رجال . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه ، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية ، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها ، أو آية أخرى غيرها إلى آخره ، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض ; لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين . وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور : يسبح بكسر الباء وفاعله رجال مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح بفتح الباء مبنيا للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى . والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل لـ " يسبح " ، وحذف أيضا الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة : ويرفع الفاعل فعل أضمرا كمثل زيد في جواب من قرا ونظير ذلك من كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره : ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (410) سُورَةُ النُّورِ صـ 539 إلى صـ 546 فقوله : ليبك يزيد بضم الياء التحتية ، وفتح الكاف مبنيا للمفعول ، فكأنه قيل : ومن [ ص: 539 ] يبكيه ؟ فقال : يبكيه ضارع لخصومة إلخ ، وقراءة ابن عامر ، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير : كذلك يوحى إليك بفتح الحاء مبنيا للمفعول فقوله : الله فاعل يوحى المحذوفة ، ووصفه تعالى لهؤلاء الرجال الذين يسبحون له بالغدو والآصال ، بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم ، والثناء عليهم ، يدل على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال; لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أن من أخل بها يستحق الذم الذي هو ضد الثناء ، ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهيا جازما في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع الآية [ 62 \ 9 ] إلى غير ذلك من الآيات . مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة . المسألة الأولى : اعلم أنه على قراءة ابن عامر ، وشعبة : يسبح سن الوقف على قوله : بالآصال ، وأما على قراءة الجمهور يسبح بالكسر ، فلا ينبغي الوقف على قوله : بالآصال ; لأن فاعل يسبح رجال ، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى . المسألة الثانية : اعلم أن الضمير المؤنث في قوله : يسبح له فيها راجع إلى المساجد المعبر عنها بالبيوت في قوله : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه والتحقيق : أن البيوت المذكورة ، هي المساجد . وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد ، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله : رجال مفهوم لقب ، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا شك أن مفهوم لفظ الرجال ، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرد لفظه ، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر ، وليس مفهوم لقب على التحقيق ، وذلك لأن [ ص: 540 ] لفظ الرجال ، وإن كان بالنظر إلى مجرده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع ، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به ، والفرق بينه وبين النساء ; لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة ، وليسوا بعورة بخلاف النساء ، ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد ، والخروج إليها دون وصف الأنوثة . والحاصل : أن لفظ الرجال في الآية ، وإن كان في الاصطلاح لقبا فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث ، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال ، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب ; لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به ، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى . المسألة الثالثة : إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله : رجال ، مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث ، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب ، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة . فاعلم أن مفهوم قوله هنا : رجال فيه إجمال ; لأن غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان ، فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل ، وتقدمت أمثلة لذلك . وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : رجال ، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر ، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد ، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة ، بخلاف الرجال ، وبينت أيضا أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى ، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعا بالإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة . أما أمر أزواجهن بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه في كتاب النكاح : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا استأذنت [ ص: 541 ] امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها " وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب الصلاة : باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد : حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن معمر عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها " وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه أيضا ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن حنظلة ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن " تابعه شعبة عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة ، قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري سمع سالما يحدث عن أبيه يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها " وفي لفظ عند مسلم ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " وفي لفظ عند مسلم أيضا ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وفي لفظ له عنه أيضا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " : إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن " وفي لفظ عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل " وفي رواية له عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد " وفي لفظ له عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم " وفي رواية " إذا استأذنوكم " ، قال النووي في شرح مسلم : وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور ، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة ، أخرجه أيضا غيرهما وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد ، إذا طلبن ذلك ، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها . وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإيجاب ، وإنما هو للندب ، وكذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن منعهن ، قالوا : هو لكراهة التنزيه لا للتحريم . قال ابن حجر في فتح الباري : وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب ; [ ص: 542 ] لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان ; لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد . وقال النووي في شرح المذهب : فإن منعها لم يحرم عليه ، هذا مذهبنا ، قال البيهقي : وبه قال عامة العلماء ، ويجاب عن حديث " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " بأنه نهي تنزيه ; لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب ، فلا تتركه لفضيلة اهـ . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في هذه المسألة : أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد ، وكانت غير متطيبة ، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله ، أنه يجب عليه الإذن لها ، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه - صلى الله عليه وسلم - عن منعها من ذلك ، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك ، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم ، وقد قال تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " إلى غير ذلك من الأدلة ، كما قدمنا . وقول ابن حجر : إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة ، والرد غير مسلم ، إذ لا مانع عقلا ، ولا شرعا ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير ، فإيجاب الإذن لا مانع منه ، وكذلك تحريم المنع . وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لرده بأمر محتمل كما ترى . وقول النووي : لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب ، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح ; لأن يرد به النص الصريح منه - صلى الله عليه وسلم - فأمره - صلى الله عليه وسلم - الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك ، ويوجبه عليه ، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى . وما ذكره النووي عن البيهقي : من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضا ، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه لما حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد ، وقال ابنه : لا ندعهن يخرجن ، غضب وشتمه ودفع في صدره منكرا عليه مخالفته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن . قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني حرملة بن يحيى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن [ ص: 543 ] عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : والله لنمنعهن ، وفي لفظ عند مسلم : فزبره ابن عمر ، وقال : أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : لا ندعهن ، وفي لفظ لمسلم أيضا : فضرب في صدره . واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر . وفي رواية عند مسلم : أنه واقد بن عبد الله بن عمر ، والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال ، وواقد ابني عبد الله بن عمر ، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما ، كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره ، فكون ابن عمر - رضي الله عنهما - أقبل على ابنه بلال وسبه سبا سيئا وقال منكرا عليه ، أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : لنمنعهن فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإذن لهن ، وأن منعهن لا يجوز ، ولو كان يراه جائزا ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى . وقال النووي في شرح مسلم : قوله : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ، وفي رواية فزبره ، وفي رواية : فضرب في صدره ، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ، ومن قال بقوله ، كما نقل عن البيهقي أنه قول عامة العلماء ، أن جميع القائلين بذلك مستحقون للتعزير ، معترضون على السنة ، معارضون لها برأيهم ، والعجب منه كيف يقر بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة ، ومعارضته لها برأيه ، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال بن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به التعزير ، وأنه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي ، وقال النووي : قوله : فزبره ، أي : نهره ، وقال ابن حجر في فتح الباري : ففي رواية بلال عند مسلم ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا شديدا ما سمعته سبه مثله قط ، وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش : فانتهره وقال : أف لك ، وله عن ابن [ ص: 544 ] الأعمش : فعل الله بك وفعل ، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس ، ولمسلم من رواية أبي معاوية : فزبره ، ولأبي داود من رواية جرير : فسبه وغضب عليه ، إلى أن قال : وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه ، وهو اعتراف منه أيضا بأن من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه . وبه تعلم أن ما قدمنا عنه من كون الأمر بالإذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى . وبما ذكرنا تعلم أن الدليل قد دل من السنة الصحيحة على وجوب الإذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا ، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى . وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإذن لهن يقتضي جواز خروجهن إلى المساجد ، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهن كن يخرجن إلى المسجد ، فيصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن بكير قال : أخبرنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته قالت : كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس اهـ ، وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم وغيره ، وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دل عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كن يشهدن الصلاة في المسجد معه - صلى الله عليه وسلم - تنبيه . قد علمنا مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه : أن في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإذن للنساء في الخروج إلى المسجد بالليل ، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بالليل ، وهو أكثر الروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح . وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإذن للنساء إلا في خصوص الليل ; لأنه أستر ، ويترجح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد ، فتحمل روايات الإطلاق على التقييد بالليل ، فيختص الإذن المذكور بالليل . [ ص: 545 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي تقديم روايات الإطلاق وعدم التقييد بالليل لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - في غير الليل ، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا الدال على حضورهن معه - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، وهي صلاة نهار لا ليل ، ولا يكون لها حكم صلاة الليل ، بسبب كونهن يرجعن لبيوتهن ، لا يعرفن من الغلس ; لأن ذلك الوقت من النهار قطعا ، لا من الليل ، وكونه من النهار مانع من التقييد بالليل ، والعلم عند الله تعالى ، وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو : المسألة الرابعة : اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد ، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد . قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ما نصه : هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد ، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث ، وهي ألا تكون متطيبة ، ولا متزينة ، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ، ولا ثياب فاخرة ، ولا مختلطة بالرجال ، ولا شابة ونحوها ، ممن يفتن بها ، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها ، انتهى محل الغرض من كلام النووي . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها ما لا نص فيه ، ولكنه ملحق بالنصوص لمشاركته له في علته ، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة ; كما سترى إيضاح ذلك كله إن شاء تعالى ، أما ما هو ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من تلك الشروط ، فهو عدم التطيب ، فشرط جواز خروج المرأة إلى المسجد ألا تكون متطيبة . قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا مروان بن سعيد الأيلي ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة ، عن أبيه عن بسر بن سعيد أن زينب الثقفية كانت تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : إذا شهدت إحداكن العشاء ، فلا تطيب تلك الليلة " . حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن محمد بن عجلان [ ص: 546 ] حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن زينب امرأة عبد الله قالت : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا " . حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم ، قال يحيى : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة ، عن يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة " اهـ . فهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن صحابيين ، وهما : أبو هريرة ، وزينب امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عن الجميع - صريح في أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات " اهـ ، وقوله : وهن تفلات ، أي : غير متطيبات ، وقال النووي في شرح المهذب ، في هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء ، أي : تاركات الطيب اهـ ، ومنه قول امرئ القيس : إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها تميل عليه هونة غير متفالي وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد ، وابن خزيمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه ابن حبان من حديث زيد بن خالد ، قاله الشوكاني وغيره . وإذا علمت أن هذه الأحاديث دلت على أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد ; لأنها تحرك شهوة الرجال بريح طيبها . فاعلم أن أهل العلم ألحقوا بالطيب ما في معناه كالزينة الظاهرة ، وصوت الخلخال والثياب الفاخرة ، والاختلاط بالرجال ، ونحو ذلك بجامع أن الجميع سبب الفتنة بتحريك شهوة الرجال ، ووجهه ظاهر كما ترى . وألحق الشافعية بذلك الشابة مطلقا ; لأن الشاب مظنة الفتنة ، وخصصوا الخروج إلى المساجد بالعجائز ، والأظهر أن الشابة إذا خرجت مستترة غير متطيبة ، ولا متلبسة بشيء آخر من أسباب الفتنة أن لها الخروج إلى المسجد لعموم النصوص المتقدمة ، والعلم عند الله تعالى . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (411) سُورَةُ النُّورِ صـ 547 إلى صـ 554 [ ص: 547 ] المسألة الخامسة : اعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من الصلاة في المساجد ، ولو كان المسجد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه تعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " خاص بالرجال ، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن من الصلاة في الجماعة في المسجد . قال أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا ، بإسناد صحيح على شرط البخاري اهـ . وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد ، وقال ابن حجر في فتح الباري : وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث وغيره ، ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر بلفظ " : لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " أخرجه أبو داود ، وصححه ابن خزيمة ، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك ، فقال " : قد علمت ، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة " وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود ، ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . وحديث ابن مسعود الذي أشار له هو ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ابن المثنى ، أن عمرو بن عاصم حدثهم قال : ثنا همام عن قتادة ، عن مورق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " ، اهـ . وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وقد روى أحمد عن أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - " : خير مساجد النساء قعر بيوتهن " . [ ص: 548 ] وبما ذكرنا من النصوص تعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من صلاتهن في الجماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من المساجد لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومما يؤكد صلاتهن في بيوتهن ما أحدثنه من دخول المسجد في ثياب قصيرة هي مظنة الفتنة ، ومزاحمتهن للرجال في أبواب المسجد عند الدخول والخروج ، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأينا ، لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها . وقد علمت مما ذكرنا من الأحاديث أن مفهوم المخالفة في قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية ، معتبر وأنه ليس مفهوم لقب ، وقد أوضحنا المفهوم المذكور بالسنة كما رأيت ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال ، إلى آخر ما ذكر من صفاتهم : أنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وهو يوم القيامة لشدة هوله ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من عظم هول ذلك اليوم ، وتأثيره في القلوب والأبصار ، جاء في آيات كثيرة من كتاب الله العظيم كقوله تعالى : قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة [ 79 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر الآية [ 40 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على عظم ذلك اليوم كقوله تعالى : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به الآية [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقوله تعالى : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ 76 \ 9 - 10 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وفي معنى تقلب القلوب والأبصار أقوال متعددة لأهل التفسير ، ذكرها القرطبي وغيره . وأظهرها عندي : أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف ; كما قال تعالى : إذ القلوب لدى الحناجر وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف ، كما قال تعالى [ ص: 549 ] فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت الآية [ 33 \ 19 ] ، وكقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر [ 33 \ 10 ] فالدوران والزيغوغة المذكوران يعلم بهما معنى تقلب الأبصار ، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا . قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله . الظاهر أن اللام في قوله : " ليجزيهم " متعلقة بقوله : " يسبح " ، أي : يسبحون له ، ويخافون يوما ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : ويزيدهم من فضله ، الظاهر أن هذه الزيادة من فضله تعالى ، هي مضاعفة الحسنات ، كما دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] ، وقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] . وقال بعض أهل العلم : الزيادة هنا كالزيادة في قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] والأصح : أن الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] . وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : أن قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن; لأن قوله : " أحسن ما عملوا " صيغة تفضيل ، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسنا لم يجزوه وهو المباح ، قال في مراقي السعود : ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا ; كما أوضحناه في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] . وقد دلت آيات من كتاب الله على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا ، دون الآخرة ; كقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - ; كما أوضحناه في الكلام على آية " النحل " المذكورة ، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي : : وفاه حسابه في الدنيا على هذا القول ، وقد بين الله - جل وعلا - في سورة " بني إسرائيل " أن ما دلت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، أنه مقيد بمشيئة الله تعالى ، وذلك في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] . تنبيه . في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وذلك في قولنا فيه : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله : جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ; لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضايفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل ، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ، ومفعول به [ ص: 551 ] واقع عليه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : جاءه . والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة . قال : فإن قال قائل كيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فإن لم يكن السراب شيئا فعلام دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، فإذا قرب منه رق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه . والوجه الأول أظهر عندي ، وعنده بدليل قوله : وقد يحتمل أن يكون معناه ، إلخ ، انتهى كلامنا في " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور ، وقوله تعالى في هذه الآية : بقيعة قيل : جمع قاع ، كجار وجيرة ، وقيل : القيعة والقاع بمعنى ، وهو المنبسط المستوي المتسع من الأرض ، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان ، كجار وجيران . قوله تعالى : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون اعلم أن الضمير المحذوف الذي هو فاعل علم قال بعض أهل العلم : إنه راجع إلى الله في قوله : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات وعلى هذا فالمعنى كل من المسبحين والمصلين ، قد علم الله صلاته وتسبيحه ، وقال بعض أهل العلم : إن الضمير المذكور راجع إلى قوله : كل أي : كل من المصلين والمسبحين ، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه ، وقد قدمنا في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] ، كلام الأصوليين في أن اللفظ إن احتمل التوكيد والتأسيس حمل على التأسيس ، وبينا أمثلة متعددة لذلك من القرآن العظيم . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الأظهر على مقتضى ما ذكرنا عن الأصوليين ، أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله : كل قد علم صلاته وتسبيحه راجعا إلى قوله : [ ص: 552 ] كل أي : كل من المصلين قد علم صلاة نفسه ، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، وعلى هذا القول فقوله تعالى : والله عليم بما يفعلون تأسيس لا تأكيد ، أما على القول بأن الضمير راجع إلى الله ، أي : قد علم الله صلاته يكون قوله : والله عليم بما يفعلون كالتكرار مع ذلك ، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي . وقد علمت أن المقرر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد ; كما تقدم إيضاحه . والظاهر أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحا يعلمهما الله ، ونحن لا نعلمهما ; كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] . ومن الآيات الدالة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، قوله تعالى في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فأثبت خشيته للحجارة ، والخشية تكون بإدراك ، وقوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [ 59 \ 21 ] ، وقوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها الآية [ 33 \ 72 ] ، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك ، والآيات والأحاديث واردة بذلك ، وهو الحق ، وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحا ، ولا مانع من الحمل على الظاهر ، ونقل القرطبي عن سفيان : أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود ، اهـ . ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء ، ومنه قول الأعشى : تقول بنتي وقد غربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتبطي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا فقوله : مثل الذي صليت ، أي : دعوت ، يعني قولها : يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا . وقوله : صافات أي : صافات أجنحتها في الهواء ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته ، واستحقاقه العبادة وحده ، وذلك في قوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن الآية [ 67 \ 19 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 553 ] ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 16 \ 79 ] . قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأمة : ليستخلفنهم في الأرض أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض ، الذين لهم السيطرة فيها ، ونفوذ الكلمة ، والآيات تدل على أن طاعة الله بالإيمان به ، والعلم الصالح سبب للقوة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة ; كقوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية [ 8 \ 26 ] ، وقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 40 - 41 ] ، وقوله تعالى : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ 47 \ 7 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كما استخلف الذين من قبلهم أي : كبني إسرائيل . ومن الآيات الموضحة لذلك ، قوله تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ 28 \ 5 - 6 ] ، وقوله تعالى عن موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ 7 \ 129 ] ، وقوله تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى : ليستخلفنهم اللام موطئة لقسم محذوف ، أي : وعدهم الله ، وأقسم في وعده ليستخلفنهم . قوله تعالى : وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم هذا الدين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 554 ] إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، وقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وليمكنن لهم دينهم قال الزمخشري : تمكينه هو تثبيته وتوطيده . قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون هذه الآية الكريمة تدل على أن إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرحمة الله تعالى سواء قلنا إن لعل في قوله : لعلكم ترحمون حرف تعليل أو ترج ; لأنها إن قلنا : إنها حرف تعليل فإقامة الصلاة وما عطف عليه سبب لرحمة الله ; لأن العلل أسباب شرعية ، وإن قلنا : إن لعل للترجي ، أي : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة على رجائكم أن الله يرحمكم بذلك ; لأن الله ما أطمعهم بتلك الرحمة عند علمهم بموجبها إلا ليرحمهم لما هو معلوم من فضله وكرمه ، وكون لعل هنا للترجي ، إنما هو بحسب علم المخلوقين ; كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنهم إن أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا الرسول رحمهم الله بذلك جاء موضحا في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الآية [ 9 \ 71 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية : وأطيعوا الرسول بعد قوله : وإذ أخذنا من عطف العام على الخاص ; لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان في عموم قوله : وأطيعوا الرسول وقد قدمنا مرارا أن عطف العام على الخاص وعكسه كلاهما من الإطناب المقبول إذا كان في الخاص مزية ليست في غيره من أفراد العام . قوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض نهى الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحسب ، أي : يظن الذين كفروا معجزين في الأرض ، ومفعول معجزين محذوف ، أي : لا يظنهم معجزين ربهم ، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم ; لأنه قادر على كل شيء . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد الخامس الحلقة (412) سُورَةُ النُّورِ صـ 555 إلى صـ 561 وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] ، وقوله تعالى : وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 555 ] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 21 - 22 ] ، وقوله في " الشورى " : وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ 42 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تحسبن الذين كفروا [ 24 \ 57 ] ، قرأه ابن عامر وحمزة : لا يحسبن بالياء المثناة التحتية على الغيبة ، وقرأه باقي السبعة : لا تحسبن بالتاء الفوقية ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بفتح السين ، وباقي السبعة بكسرها . والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين ، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين ، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين ، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا إشكال في الآية مع فتح السين وكسرها ; لأن الخطاب بقوله : لا تحسبن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله : الذين كفروا هو المفعول الأول ، وقوله : معجزين هو المفعول الثاني لـ : تحسبن وأما على قراءة : ولا يحسبن بالياء التحتية ، ففي الآية إشكال معروف ، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله الذين كفروا في محل رفع فاعل يحسبن والمفعول الأول محذوف ، تقديره : أنفسهم ، و معجزين مفعول ثان ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، وعزا هذا القول للزجاج ، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، كما لا يخفى ، ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " ، بقوله : ولا تجز هنا بلا دليل سقوط مفعولين أو مفعول ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما ، قوله تعالى : أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ] أي : تزعمونهم شركائي ، وقول الكميت : بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب [ ص: 556 ] أي : وتحسب حبهم عارا علي ، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة : ولقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم أي : لا تظني غيره واقعا . الجواب الثاني : أن فاعل يحسبن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مذكور في قوله قبله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي : لا يحسبن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا معجزين ، وعلى هذا فـ : الذين كفروا مفعول أول ، و معجزين مفعول ثان ، وعزا هذا القول للفراء ، وأبي علي . الجواب الثالث : أن المعنى : لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعلي بن سليمان ، وهو كالذي قبله ، إلا أن الفاعل في الأول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني الكافر ، وقال الزمخشري : وقرئ لا يحسبن بالياء ، وفيه أوجه أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان . والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض ، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد ، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد ، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث ، اهـ . وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ : لا يحسبن بالياء التحتية خطأ أو لحن ، كلام ساقط لا يلتفت إليه; لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتا لا يمكن الطعن فيه ، وقرأ بها من السبعة : ابن عامر ، وحمزة ; كما تقدم . وأظهر الأجوبة عندي : أن معجزين في الأرض هما المفعولان ، فالمفعول الأول معجزين والمفعول الثاني دل عليه قوله : في الأرض أي : لا تحسبن معجزين الله موجودين أو كائنين في الأرض ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا لأهل العلم في هذه الآية أقوال ، راجعة إلى قولين : [ ص: 556 ] أحدهما : أن المصدر الذي هو : دعاء مضاف إلى مفعوله ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فالرسول مدعو . الثاني : أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا : فالرسول داع . وإيضاح معنى قول من قال : إن المصدر مضاف إلى مفعوله ، أن المعنى : لا تجعلوا دعاءكم إلى الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضا ، فلا تقولوا له : يا محمد مصرحين باسمه ، ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض ، بل قولوا له : يا نبي الله ، يا رسول الله ، مع خفض الصوت احتراما له - صلى الله عليه وسلم - . وهذا القول هو الذي تشهد له آيات من كتاب الله تعالى; كقوله : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى الآية [ 49 \ 2 - 3 ] ، وقوله تعالى : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم [ 49 \ 4 - 5 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الآية [ 2 \ 104 ] ، وهذا القول في الآية مروي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ; كما ذكره عنهم القرطبي ، وذكره ابن كثير عن الضحاك ، عن ابن عباس ، وذكره أيضا عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، ونقله أيضا عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، ثم قال : إن هذا القول هو الظاهر ، واستدل له بالآيات التي ذكرنا . وأما على القول الثاني : وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله ، ففي المعنى وجهان : الأول : ما ذكره الزمخشري في " الكشاف " قال : إذا احتاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي . والوجه الثاني : هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره ، قال : والقول الثاني في ذلك أن المعنى في لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم ، فتهلكوا . [ ص: 558 ] حكاه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطية العوفي ، والله أعلم ، انتهى كلام ابن كثير . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن ; لأن قوله تعالى : كدعاء بعضكم بعضا يدل على خلافه ، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض ، لقال : لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض ، فدعاء بعضهم بعضا ، ودعاء بعضهم على بعض متغايران ، كما لا يخفى . والظاهر أن قوله : لا تجعلوا من جعل التي بمعنى اعتقد ، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفا . قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم الضمير في قوله : عن أمره راجع إلى الرسول ، أو إلى الله والمعنى واحد ; لأن الأمر من الله ، والرسول مبلغ عنه ، والعرب تقول : خالف أمره وخالف عن أمره : وقال بعضهم : يخالفون : مضمن معنى يصدون ، أي : يصدون عن أمره . وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب ; لأنه - جل وعلا - توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم ، وحذرهم من مخالفة الأمر ، وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ 77 \ 48 ] فإن قوله : اركعوا أمر مطلق ، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله : لا يركعون يدل على أن امتثاله واجب ، وكقوله تعالى لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فإنكاره تعالى على إبليس موبخا له بقوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أنه تارك واجبا . وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق ، وهو قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] ، وكقوله تعالى عن موسى : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وأمره المذكور مطلق ، وهو قوله : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] ، وكقوله تعالى : [ ص: 559 ] لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص ، ولا يكون عاصيا إلا بترك واجب ، أو ارتكاب محرم ; وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فإنه يدل على أن أمر الله ، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال ، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب ، كما ترى ، وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] . واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، بدليل أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد ، فليس للعبد أن يقول عقابك لي ظلم ; لأن صيغة الأمر في قولك : اسقني ماء لم توجب علي الامتثال ، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني ، بل يفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه ، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه ، والفتنة في قوله : أن تصيبهم فتنة قيل : هي القتل ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقيل : الزلازل والأهوال ، وهو مروي عن عطاء ، وقيل : السلطان الجائر ، وهو مروي عن جعفر بن محمد ، قال بعضهم : هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعض العلماء : فتنة محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دل استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان : الأول : أن يراد بها الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] ، وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] ، أي : أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك . الثاني وهو أشهرها : إطلاق الفتنة على الاختبار ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة الآية [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] . والثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] ، وفي " الأنفال " : [ ص: 560 ] ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ، فقوله : حتى لا تكون فتنة أي : حتى لا يبقى شرك على أصح التفسيرين ، ويدل على صحته قوله بعده : ويكون الدين لله ; لأن الدين لا يكون كله لله حتى لا يبقى شرك ، كما ترى . ويوضح ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ، كما لا يخفى . والرابع : إطلاق الفتنة على الحجة في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، أي : لم تكن حجتهم ، كما قال به بعض أهل العلم . والأظهر عندي : أن الفتنة في قوله هنا : أن تصيبهم فتنة أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة . وأن معناه أن يفتنهم الله ، أي : يزيدهم ضلالا بسبب مخالفتهم عن أمره ، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ; كقوله - جل وعلا - : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما عليه خلقه ، أي : من الطاعة والمعصية وغير ذلك . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة من الدين ، جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] وقوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] أي : هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر . وقوله [ ص: 561 ] تعالى : وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم [ 26 \ 217 - 220 ] ، وقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار [ 13 \ 10 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [ 11 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] إلى غير ذلك من الآيات . وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين ، وأشد وعيد للعصاة المجرمين ، ولفظة قد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قد يعلم ما أنتم عليه للتحقيق ، وإتيان قد للتحقيق مع المضارع كثير جدا في القرآن العظيم ; كقوله تعالى : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا [ 24 \ 63 ] ، وقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم الآية [ 33 \ 18 ] ، وقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون الآية [ 6 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية [ 2 \ 144 ] . قوله تعالى : ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم قوله تعالى في هذه الآية : ويوم يرجعون إليه الظاهر أنه ليس بظرف ، بل هو معطوف على المفعول به الذي هو ما من قوله : قد يعلم ما أنتم عليه أي : ويعلم يوم يرجعون إليه ، وقد ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة ينبئ الخلائق بكل ما عملوا ، أي : يخبرهم به ثم يجازيهم عليه . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه - جل وعلا - يخبرهم يوم القيامة بما عملوا جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى . |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (413) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 3 إلى صـ 10 سُورَةُ الْفُرْقَانِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى عَبْدِهِ ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أَيْ : مُنْذِرًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرَنُ بِتَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْذَارِ إِعْلَامٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لِدُخُولِ الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 7 \ 158 ] أَيْ : أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، أَيْ : جَمِيعًا . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ 6 \ 19 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ 55 \ 33 - 43 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 46 \ 29 - 32 ] . وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَارَكَ أَقْوَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : تَبَارَكَ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ ، فَقَالَ [ ص: 4 ] الْفَرَّاءُ : هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى : تَقَدَّسَ وَهُمَا لِلْعَظَمَةِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تَبَارَكَ : تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ . قَالَ : وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ : الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ ، وَقِيلَ : تَبَارَكَ : تَعَالَى ، وَقِيلَ : تَعَالَى عَطَاؤُهُ ، أَيْ : زَادَ وَكَثُرَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى دَامَ وَثَبَتَ إِنْعَامُهُ . قَالَ النَّحَّاسُ : وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ ، أَيْ : دَامَ وَثَبَتَ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ الْمُحِيطِ " : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبَارَكَ : لَمْ يَزَلْ ، وَلَا يَزُولُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ : تَمَجَّدَ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : تَعَظَّمَ . وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ : تَبَارَكْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً ، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ ، أَيْ : تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ . فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ مِنَ الْبَرَكَةِ ، وَهُوَ التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ . فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ . قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ - : الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى تَبَارَكَ : تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقَدُّسَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; لِأَنَّ مَنْ تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ وَيَدِرُّ الْأَرْزَاقَ عَلَى النَّاسِ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ ، وَاسْتِحْقَاقِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ ، وَالَّذِي لَا تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ بَرَكَةٌ وَلَا خَيْرٌ ، وَلَا رِزْقٌ كَالْأَصْنَامِ ، وَسَائِرِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ أَنَّ يُعْبَدَ ، وَعِبَادَتُهُ كُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 29 \ 17 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [ 16 \ 73 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [ 6 \ 14 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 51 \ 57 - 58 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ 40 \ 13 - 14 ] . تنبيه . اعلم أن قوله : تبارك فعل جامد لا يتصرف ، فلا يأتي منه مضارع ، ولا مصدر ، [ ص: 5 ] ولا اسم فاعل ، ولا غير ذلك ، وهو مما يختص به الله تعالى ، فلا يقال لغيره تبارك خلافا لما تقدم عن الأصمعي ، وإسناده تبارك إلى قوله : الذي نزل الفرقان ، يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه ، كما أوضحناه في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، وإطلاق العرب تبارك مسندا إلى الله تعالى معروف في كلامهم ، ومنه قول الطرماح : تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع وقول الآخر : فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر . ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] . وقوله : الفرقان ، يعني هذا القرآن العظيم ، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان ، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل ; لأن معنى كونه فرقانا أنه فارق بين الحق والباطل ، وبين الرشد والغي ، وقال بعض أهل العلم : المصدر الذي هو الفرقان بمعنى اسم المفعول ; لأنه نزل مفرقا ، ولم ينزل جملة . واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [ 17 \ 106 ] وقوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : نزل بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجما منجما . قال بعض أهل العلم : ويدل على ذلك قوله في أول سورة " آل عمران " : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل [ 3 \ 3 ] قالوا : عبر في نزول القرآن بـ : نزل بالتضعيف لكثرة نزوله . وأما التوراة والإنجيل ، فقد عبر في نزولهما بـ : أنزل التي لا تدل على تكثير ; لأنهما نزلا جملة في وقت واحد ، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرآن ; [ ص: 6 ] كقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] وقوله في هذه الآية : على عبده قال فيه بعض العلماء : ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان ، يدل على أن العبودية لله هي أشرف الصفات ، وقد بينا ذلك في أول سورة " بني إسرائيل " . قوله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا قوله : الذي له ملك السماوات والأرض ، بدل من الذي في قوله تعالى : تبارك الذي نزل ، وقال بعضهم : هو مرفوع على المدح ، وقال بعضهم : هو منصوب على المدح . وقد أثنى جل وعلا على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور ، هي أدلة قاطعة على عظمته ، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له : الأول منها : أنه هو الذي له ملك السماوات والأرض . والثاني : أنه لم يتخذ ولدا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . والثالث : أنه لا شريك له في ملكه . والرابع : أنه هو خالق كل شيء . والخامس : أنه قدر كل شيء خلقه تقديرا ، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر . أما الأول منها : وهو أنه له ملك السماوات والأرض ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى في سورة " المائدة " : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض الآية [ 5 \ 40 ] وقوله تعالى في سورة " النور " : ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير [ 24 \ 42 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الآية [ 35 \ 13 ] وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك ، فالملك فيها شامل لملك السماوات والأرض وما بينهما ، وغير ذلك . كقوله تعالى : قل اللهم مالك الملك الآية [ 3 \ 26 ] وقوله تعالى : تبارك الذي بيده الملك الآية [ 67 \ 1 ] وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى : وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] وقوله تعالى : مالك [ ص: 7 ] يوم الدين [ 1 \ 4 ] والآيات الدالة على أن له ملك كل شيء كثيرة جدا معلومة . وأما الأمر الثاني : وهو كونه تعالى لم يتخذ ولدا ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 3 - 4 ] وقوله تعالى : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا الآية [ 72 \ 3 ] وقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة الآية [ 6 \ 101 ] وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] وقوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] وقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، إلى قوله : سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " الكهف " وغيرها . وأما الأمر الثالث : وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك ، فقد جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في آخر سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 13 \ 111 ] وقوله تعالى في سورة " سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ; لأن قوله : الواحد القهار يدل على تفرده بالملك ، والقهر ، واستحقاق إخلاص العبادة ، كما لا يخفى ، إلى غير ذلك من الآيات . وأما الأمر الرابع : وهو أنه تعالى خلق كل شيء ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على [ ص: 8 ] كل شيء وكيل [ 6 \ 101 - 102 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون [ 40 \ 62 - 63 ] إلى غير ذلك من الآيات . وأما الأمر الخامس : وهو أنه قدر كل شيء خلقه تقديرا ، فقد جاء أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ 87 \ 2 - 3 ] ، وقوله تعالى : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] وقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة ، والأزمان ، والمقادير ، والمصلحة ، والإتقان ، انتهى بواسطة نقل أبي حيان في " البحر " . تنبيه . في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : الخلق في اللغة العربية ، معناه التقدير . ومنه قول زهير : ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري قال بعضهم : ومنه قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] قال : أي أحسن المقدرين ، وعلى هذا فيكون معنى الآية وخلق كل شيء ، أي : قدر كل شيء فقدره تقديرا ، وهذا تكرار كما ترى ، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال ، وذكر أبو حيان جوابه في " البحر " ، ولم يتعقبه . والجواب المذكور هو قوله : فإن قلت في الخلق معنى التقدير ، فما معنى قوله : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] كأنه قال : وقدر كل شيء فقدره . قلت : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعيا فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له . مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى ، الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير ، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقا لما قدر له غير [ ص: 9 ] متجاف عنه ، أو سمى إحداث الله خلقا ; لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت ، فإذا قيل : خلق الله كذا ، فهو بمنزلة قولك : أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا . وقيل : فجعل له غاية ومنتهى ، ومعناه : فقدره للبقاء إلى أمد معلوم ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " وبعضه له اتجاه ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه ، متصفة بستة أشياء ، كل واحد منها برهان قاطع ، أن عبادتها مع الله ، لا وجه لها بحال ، بل هي ظلم متناه ، وجهل عظيم ، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم ، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة ، على أن المتصف بها هو المعبود وحده ، والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله : الأول منها : أنها لا تخلق شيئا ، أي : لا تقدر على خلق شيء . والثاني منها : أنها مخلوقة كلها ، أي : خلقها خالق كل شيء . والثالث : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا . الرابع والخامس والسادس : أنها لا تملك موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى . أما الأول منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئا ، فقد جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] وقوله تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [ 16 \ 20 - 21 ] وقوله تعالى في سورة " فاطر " : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا [ 35 \ 40 ] [ ص: 10 ] وقوله تعالى في سورة " لقمان " : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] وقوله تعالى في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] وقوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق ، ومن لا يخلق ; لأن من يخلق هو المعبود ، ومن لا يخلق لا تصح عبادته ; كقوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] أي : وأما من لم يخلقكم ، فليس برب ، ولا بمعبود لكم ، كما لا يخفى . وقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] وقوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] أي : ومن كان كذلك ، فهو المعبود وحده جل وعلا ، وقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وأما الأمر الثاني منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة ، فقد جاء مبينا في آيات من كتاب الله ; كآية " النحل " ، و " الأعراف " ، المذكورتين آنفا . أما آية " النحل " ، فهي قوله تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 16 \ 20 ] فقوله : وهم يخلقون صريح في ذلك . وأما آية " الأعراف " ، فهي قوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] إلى غير ذلك من الآيات . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (414) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 11 إلى صـ 18 وأما الأمر الثالث منها : وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فقد جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ; كقوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] وكقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 191 - 192 ] ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرا ولا نفعا . وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 197 ] [ ص: 11 ] وقوله تعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 - 197 ] . وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ، وقوله تعالى : وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه الآية [ 22 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات . وأما الرابع والخامس والسادس من الأمور المذكورة : أعني كونهم لا يملكون موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا . فقد جاءت أيضا مبينة في آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] . فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئا من ذلك المذكور في الآية ، ومنه الحياة المعبر عنها بـ : خلقكم ، والموت المعبر عنه بقوله : ثم يميتكم ، والنشور المعبر بقوله : ثم يحييكم ، وبين أنهم لا يملكون نشورا بقوله : أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون [ 21 \ 21 ] . وبين أنهم لا يملكون حياة ولا نشورا ، في قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 10 \ 34 ] . وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] وقوله تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 31 \ 4 ] وقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية [ 40 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات . وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، أظهر الأقوال فيه أن المعنى : لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع ; كما قاله القرطبي [ ص: 12 ] وغيره . وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وقد أشار إليه في " الخلاصة " بقوله : وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا وقيل المعنى : لا يقدرون أن يضروا أنفسهم ، أو ينفعوها بشيء ، والأول هو الأظهر ، أي : وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز ; لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا نشورا ، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين : الأول : أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي ، تقول : نشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا . والثاني : أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشورا لازما ، والميت فاعل نشر . والحاصل أن في المادة ثلاث لغات ، الأولى : أنشره رباعيا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارا ، ومنه قوله تعالى : ثم إذا شاء أنشره [ 80 \ 22 ] وقوله تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها [ 2 \ 259 ] بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، وهو مضارع أنشره . والثانية : نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي ، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور ، ومنه قوله هنا : حياة ولا نشورا ، أي لا يملكون أن ينشروا أحدا ، بفتح الياء وضم الشين . والثالثة : نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم ، ومعنى أنشره ونشره متعديا : أحياه بعد الموت ، ومعنى نشر الميت لازما : حيي الميت وعاش بعد موته ، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت ، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب ، ومن إطلاقهم نشر الميت لازما فهو ناشر ، أي : عاش بعد الموت ، قول الأعشى : لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت ، مصدر الثلاثي المتعدي ، قوله هنا : [ ص: 13 ] ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم ، قول الآخر : إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير فيأخذني العناق مبرد فيها بموت في عظامي أو فتور فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتا ، والإفاقة منها نشورا ، أي : حياة بعد الموت . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : واتخذوا من دونه آلهة ، حذف فيه أحد المفعولين ، أي : اتخذوا من دونه أصناما آلهة ; كقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة الآية [ 6 \ 74 ] والآلهة جمع إله ، فهو فعال مجموع على أفعلة ، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة ، كما قال في " الخلاصة " : ومدا أبدل ثاني الهمزين من كلمة إن يسكن كآثر وأتمن والإله المعبود فهو فعال بمعنى مفعول ، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإلاه بمعنى المألوه ، أي : المعبود ، والكتاب بمعنى المكتوب ، واللباس بمعنى الملبوس ، والإمام بمعنى المؤتم به ، ومعلوم أن المعبود بحق واحد ، وغيره من المعبودات أسماء سماها الكفار ما أنزل الله بها من سلطان : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان الآية 53 \ 23 ] . قوله تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا في هذا القرآن العظيم ، الذي أوحاه الله إليه : إن هذا إلا إفك افتراه ، أي : ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون ، قيل : اليهود ، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبو فكيهة الرومي ، قال ذلك النضر بن الحر العبدري . [ ص: 14 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار كذبوه وادعوا عليه أن القرآن كذب اختلقه ، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون [ 16 \ 101 ] وقوله تعالى : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ، وقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق الآية [ 6 \ 66 ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه أعانه على افتراء القرآن قوم آخرون جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] أي : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره إن هذا إلا قول البشر [ 74 \ 25 ] وقوله تعالى : وليقولوا درست [ 6 \ 105 ] كما تقدم إيضاحه في " الأنعام " ، وقد كذبهم الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا ، قال الزمخشري : ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه ، انتهى . وتكذيبه جل وعلا لهم في هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] كما تقدم إيضاحه في سورة " النحل " ، وقوله : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر الآية [ 74 \ 24 - 27 ] لأن قوله : سأصليه سقر بعد ذكر افترائه على القرآن العظيم يدل على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل . واعلم : أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل ، فقوله : فقد جاءوا ظلما ، أي : فعلوه ، وقيل : بتقدير الباء ، أي : جاءوا بظلم ، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، أي : بما فعلوه . وقول زهير بن أبي سلمى : [ ص: 15 ] فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب ، لأنه قلب للكلام عن الحق إلى الباطل ، والعرب تقول : أفكه بمعنى قلبه ، ومنه قوله تعالى في قوم لوط : والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات ، وقوله : والمؤتفكة أهوى [ 53 \ 53 ] وإنما قيل لها مؤتفكات ; لأن الملك أفكها ، أي : قلبها ; كما أوضحه تعالى بقوله : جعلنا عاليها سافلها [ 11 \ 82 ] . قوله تعالى : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما . ذكر جل وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفار ، قالوا : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، أي : مما كتبه وسطره الأولون كأحاديث رستم وأسفنديار ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعه ، وأخذه من تلك الأساطير ، وأنه اكتتب تلك الأساطير ، قال الزمخشري : أي كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه ، وقوله : فهي تملى عليه ، أي : تلقى إليه ، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها ، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه ، والهمزة مبدلة من اللام تخفيفا ، والأصل في الإملاء الإملال باللام ، ومنه قوله تعالى : فليكتب وليملل الذي عليه الحق الآية [ 2 \ 28 ] . وقوله : بكرة وأصيلا ، البكرة : أول النهار ، والأصيل : آخره . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن الكفار ، قالوا : إن القرآن أساطير الأولين ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلمه من غيره وكتبه جاء موضحا في آيات متعددة ; كقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 18 \ 31 ] . وقد ذكرنا آنفا الآيات الدالة على أنهم افتروا عليه أنه تعلم القرآن من غيره ، وأوضحنا تعنتهم وكذبهم في ذلك في سورة " النحل " ، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . [ ص: 16 ] ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله : اكتتبها فهي تملى عليه ، قوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [ 29 \ 84 ] وقوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ، إلى قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي [ 7 \ 157 - 158 ] والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وما ذكر جل وعلا في الآية الأخيرة من قوله : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية ، جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك الآية [ 16 \ 102 ] وقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] وقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] وقوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 38 - 43 ] وقوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [ 20 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله هنا : الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أي : ومن يعلم السر ، فلا شك أنه يعلم الجهر . ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كونه تعالى يعلم السر في السماوات والأرض ، قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب [ 9 \ 78 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم [ 32 \ 6 ] وقوله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله الآية [ 2 \ 235 ] وقوله تعالى : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ ص: 17 ] [ 27 \ 75 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه كان غفورا رحيما ، قال فيه ابن كثير : هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم ، وافترائهم ، وفجورهم ، وبهتانهم ، وكفرهم ، وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ; كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 73 - 74 ] ، وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [ 85 \ 10 ] . قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة ، انتهى كلام ابن كثير - رحمه الله تعالى - وما ذكره واضح . والآيات الدالة على مثله كثيرة ; كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار قالوا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ما لهذا الذي يدعي أنه رسول ، وذلك كقول فرعون في موسى : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 27 ] أي : ما له يأكل الطعام كما نأكله ، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه ، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء ، ليحصل بذلك قوته ، يعنون أنه لو كان رسولا من عند الله لكان ملكا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام ، ولا إلى المشي في الأسواق ، وادعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس ، ويحتاج إلى المشي في الأسواق ، لقضاء حاجته منها ، لا يمكن أن يكون رسولا ، وأن الله لا يرسل إلا ملكا لا يحتاج للطعام ولا للمشي في الأسواق ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، وجاء في آيات أيضا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة . [ ص: 18 ] فمن الآيات الدالة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية ، قوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله تعالى عنهم : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا الآية [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : أبشرا منا واحدا نتبعه الآية [ 54 \ 24 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا [ 14 \ 10 ] . ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة ، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم ، وأنهم من جملة البشر ، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته ، وأنه لو أرسل للبشر ملكا لجعله رجلا ، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ، لنزل عليهم ملكا رسولا ، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم ، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] أي ولم نجعلهم ملائكة ، لأن كونهم رجالا وكونهم من أهل القرى ، صريح في أنهم ليسوا ملائكة ، وقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 9 ] وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للكفار : إنه بشر ، وإنه رسول . وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه الآية [ 41 \ 6 ] . وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله : لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الآية [ 14 \ 11 ] وقال تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ] https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (415) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 19 إلى صـ 26 وقوله تعالى : ويمشي في الأسواق [ ص: 19 ] [ 25 \ 7 ] جمع سوق وهي مؤنثة ، وقد تذكر . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها . اعلم أولا أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق ، والتحضيض . هو الطلب بحث وشدة ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وبهما التحضيض مز وهلا ألا ألا وأولينها الفعلا وبه تعلم أن المضارع في قوله : فيكون معه نذيرا منصوب بأن مستترة وجوبا ، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض . قوله تعالى : فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين [ 63 \ 10 ] لأن قوله : لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة ، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر : لولا تعوجين يا سلمى على دنف فتخمدي نار وجد كاد يفنيه فقوله تعالى في الآية الكريمة : فأصدق بالنصب ، وقول الشاعر : فتخمدي منصوب أيضا ، بحذف النون ، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض . واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله : وأكن من الصالحين إنما ساغ فيه الجزم ، لأنه عطف على المحل ؛ لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل ، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور ، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب ، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : وبعد غير النفي جزما اعتمد إن تسقط الفا والجزاء قد قصد وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره ، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام ، ليس بصحيح . [ ص: 20 ] واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمور : الأول : أن ينزل إليه ملك ، فيكون معه نذيرا ، أي يشهد له بالصدق ، ويعينه على التبليغ . الثاني : أن يلقى إليه كنز ، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه ويستغني به عن المشي في الأسواق . الثالث : أن تكون له جنة يأكل منها ، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير : كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا فقوله : تسقي جنة أي بستانا ، وقوله : سحقا يعني أن نخله طوال . وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث ، تعنتا منهم وعنادا ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع ، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم لنزول الكنز ، ومجيء الملك معه ، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره - صلى الله عليه وسلم - وذلك في قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير [ 11 \ 12 ] وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة ، وأوضح أنهم يعنون بها بستانا من نخيل وعنب ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا [ 17 \ 90 - 91 ] واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم . وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل ، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار وشدة تعنتهم وعنادهم ، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] وقال تعالى : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 - 15 ] وقال تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ ص: 21 ] الآية [ 6 \ 111 ] وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية الآية [ 10 \ 96 - 97 ] . إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم . وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه : يأكل الطعام كما نأكل ، ويتردد في الأسواق كما نتردد . يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضا فقالوا : إن لم يكن مرفودا بذلك ، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان ، فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم . انتهى منه ، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم وعنادهم . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي ( يأكل منها ) بالمثناة التحتية ، وقرأ حمزة والكسائي : ( جنة نأكل منها ) بالنون ، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله : أو يأكلون هم من ذلك البستان . قوله تعالى : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا يعنون أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره ، وقال مجاهد : مسحورا : أي مخدوعا كقوله : فأنى تسحرون : أي من أين تخدعون ، وقال بعضهم : مسحورا : أي له سحر ، أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب ، فهو بشر مثلكم ، وليس بملك ، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله : مسحورا بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، من الإفك والبهتان خاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال الآية . جاء كله مصرحا به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى : [ ص: 22 ] نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 \ 47 - 48 ] . قال الزمخشري : ضربوا لك الأمثال : قالوا فيك تلك الأقوال ، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك ، وإلقاء كنز عليك من السماء ، وغير ذلك ، فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ، فلا يجدون طريقا إليه ا ه . والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى : ضربوا لك الأمثال : أنها تارة يقولون إنك ساحر ، وتارة مسحور ، وتارة مجنون ، وتارة شاعر ، وتارة كاهن ، وتارة كذاب ، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه الآية [ 25 \ 5 ] وقوله : وقالوا أساطير الأولين وقوله : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وقوله تعالى : فضلوا أي عن طريق الحق ، لأن الأقوال التي قالوها ، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء وكفر مخلد في نار جهنم ، فالذين قالوها هم أضل الضالين ، وقوله تعالى : فلا يستطيعون سبيلا فيه أقوال كثيرة متقاربة . وأظهرها أن معنى : فلا يستطيعون سبيلا : أي طريقا إلى الحق والصواب ، ونفي الاستطاعة المذكورة هنا كقوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] وقوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا [ 18 \ 101 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] وقد قدمنا أيضا معنى الظلم والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء ، وأنه جل وعلا اعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة : أي أنكر يوم القيامة سعيرا : أي نارا شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة . [ ص: 23 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم ، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى . وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما تكذيبهم بالساعة ، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر ، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث والجزاء بعد الموت ، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى : إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين [ 44 \ 34 - 35 ] وقوله تعالى : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات . وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار ، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى : وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] إلى قوله : ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] فقوله : ومأواكم النار بعد قوله : قلتم ما ندري ما الساعة الآية ، يدل على أن قولهم : ما ندري ما الساعة هو سبب كون النار مأواهم ، وقوله بعده ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 35 ] لا ينافي ذلك ؛ لأن من اتخاذهم آيات الله هزوا تكذيبهم بالساعة ، وإنكارهم البعث كما لا يخفى ، وكقوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 15 ] فقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد جامع بين أمرين : الأول منهما : أنه عجب من العجب لكثرة البراهين القطعية الواضحة الدالة على ما أنكروه . والثاني منهما : وهو محل الشاهد من الآية ، أن إنكارهم البعث المذكور كفر مستوجب للنار وأغلالها والخلود فيها ، وذلك في قوله تعالى مشيرا إلى الذين أنكروا البعث أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] ومعلوم أن إنكار البعث إنكار للساعة ، وكقوله تعالى : [ ص: 24 ] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ 20 \ 16 ] أي لا يصدنك من لا يؤمن بالساعة عن الإيمان بها ، فتردى : أي تهلك لعدم إيمانك بها ، والردى الهلاك ، وهو هنا عذاب النار بسبب التكذيب بالساعة ، وقد قال تعالى : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] وقوله تعالى في آية " طه " هذه : ( فتردى ) ، يدل دلالة واضحة على أنه إن صده من لا يؤمن بالساعة عن التصديق بها ، أن ذلك يكون سببا لرداه أي هلاكه بعذاب النار كما لا يخفى ، وكقوله تعالى : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون فآية الروم هذه ، تدل على أن الذين كذبوا بلقاء الآخرة وهم الذين كذبوا بالساعة معدودون مع الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، وأنهم في العذاب محضرون . وهو عذاب النار . والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل كذبوا بالساعة [ 25 \ 11 ] أظهر الأقوال فيه عندي أنه متصل بما يليه ، وأن بل فيه للإضراب الانتقالي ، وقد أوضحنا معنى السعير مع بعض الشواهد العربية في أول سورة الحج ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة ، إذا رأت الكفار من مكان بعيد : أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها ، وسمعوا زفيرها . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك ، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها ، وأنهم يسمعون لها أيضا شهيقا مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه ، وذلك في قوله تعالى : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 7 - 8 ] أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها ، على من كفر بالله تعالى . وللعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق ، وأقربها أنهما يمثلهما معا صوت الحمار في نهيقه ، فأوله زفير ، وآخره الذي يردده في صدره شهيق . والأظهر أن معنى قوله تعالى : سمعوا لها تغيظا أي سمعوا غليانها من شدة غيظها ، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه ، وذلك أسلوب عربي معروف . وقال [ ص: 25 ] بعض أهل العلم : سمعوا لها تغيظا : أي أدركوه ، والإدراك يشمل الرؤية والسمع ، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك ، وما ذكرنا أظهر . وقال القرطبي : قيل المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم ، ثم ذكر في آخر كلامه أن هذا القول هو الأصح . مسألة . اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة ، كما صرح الله بذلك في قوله هنا : إذا رأتهم من مكان بعيد ورؤيتها إياهم من مكان بعيد ، تدل على حدة بصرها كما لا يخفى ، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد [ 50 \ 30 ] والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة ، كحديث محاجة النار مع الجنة ، وكحديث اشتكائها إلى ربها ، فأذن لها في نفسين ، ونحو ذلك ، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية ، أنها تراهم وأن لها تغيظا على الكفار ، وأنها تقول : هل من مزيد . واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم ، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر ، ولا تتكلم ، ولا تغتاظ . وأن ذلك كله من قبيل المجاز ، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها ، كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند ، والحق هو ما ذكرنا . وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة ، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو معلوم في محله . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : إن القول بأن النار تراهم هو الأصح ، ثم قال لما روي مرفوعا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا . قيل : يا رسول الله أولها عينان ؟ قال : أوما سمعتم الله - عز وجل - يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول : وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر ، فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه " وفي رواية " يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم " ذكره رزين في كتابه ، وصححه ابن العربي في قبسه ، وقال : أي تفصلهم عن [ ص: 26 ] الخلق في المعرفة ، كما يفصل الطائر حب السمسم عن التربة ، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر ، وبالمصورين " وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي . وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطبراني ، وابن مردويه من طريق مكحول ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم . قالوا : يا رسول الله وهل لجهنم من عين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد . فهل تراهم إلا بعينين " وأخرج عبد الله بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طريق خالد بن دريك ، عن رجل من الصحابة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يقل علي ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل : يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : " إذا رأتهم من مكان بعيد " إلى آخر كلامه ، وفيه شدة هول النار ، وأنها تزفر زفرة يخاف منها جميع الخلائق . نرجو الله جل وعلا أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل . قوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار إذا ألقوا : أي طرحوا في مكان ضيق من النار ، في حال كونهم مقرنين ، دعوا هنالك : أي في ذلك المكان الضيق ثبورا ، فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ، فقوله : ( مكانا ) منصوب على الظرف ، كما قال أبو حيان في البحر المحيط . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (416) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 27 إلى صـ 34 وما ذكره هنا من أنهم يلقون في مكان ضيق من النار ، جاء مذكورا أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة [ 104 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة [ 90 \ 19 - [ ص: 27 ] 20 ] ومعنى مؤصدة في الموضعين بهمز ، وبغير همز : مطبقة أبوابها ، مغلقة عليهم كما أوضحناه بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد [ 18 \ 18 ] ومن كان في مكان مطبق مغلق عليه ، فهو في مكان ضيق ، والعياذ بالله ، وقد ذكر أن الواحد منهم يجعل في محله من النار بشدة كما يدق الوتد في الحائط ، وعن ابن مسعود : أن جهنم تضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح . والزج بالضم : الحديدة التي في أسفل الرمح . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : مقرنين : أي في الأصفاد بدليل قوله تعالى في سورة إبراهيم : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد [ 14 \ 49 ] والأصفاد : القيود . والأظهر أن معنى مقرنين : أن الكفار يقرن بعضهم إلى بعض في الأصفاد والسلاسل ، وقال بعض أهل العلم : كل كافر يقرن هو وشيطانه ، وقد قال تعالى : حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 38 ] . وهذا أظهر من قول من قال : مقرنين مكتفين ، ومن قول من قال : مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، والثبور : الهلاك والويل والخسران . وقال ابن كثير : والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار . كما قال موسى لفرعون : وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] أي هالكا ، قال عبد الله بن الزبعرى السهمي : إذا جارى الشيطان في سنن الغسـ ـى ومن مال ميله مثبور ا هـ . وقال الجوهري في صحاحه : والثبور الهلاك والخسران أيضا ، قال الكميت : ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها لليمن . ا هـ منه . وقوله تعالى : دعوا هنالك ثبورا معنى دعائهم الثبور هو قولهم : واثبوراه ، يعنون : يا ويل ، ويا هلاك ، تعال ، فهذا حينك وزمانك . وقال الزمخشري : ومعنى وادعوا ثبورا كثيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، إنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور ، لشدته [ ص: 28 ] وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم . ا ه . تنبيه . اعلم أنه تعالى في هذه الآية الكريمة قال : مكانا ضيقا ، وكذلك في الأنعام في قوله تعالى : يجعل صدره ضيقا حرجا [ 6 \ 125 ] وقال في هود وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] فما وجه التعبير في سورة هود ، بقوله : ضائق على وزن فاعل ، وفي الفرقان والأنعام بقوله : ضيقا على وزن فيعل ، مع أنه في المواضع الثلاثة هو الوصف من ضاق يضيق ، فهو ضيق . والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقا ، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله : وفاعل صالح للكل إن قصد الـ حدوث نحو غدا ذا فارح جذلا وإن لم يقصد به الحدوث والتجدد بقي على أصله . وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في سورة هود : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] أريد به أنه يحدث له ضيق الصدر ، ويتجدد له بسبب عنادهم وتعنتهم في قولهم : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ولما كان كذلك ، قيل فيه : ضائق بصيغة اسم الفاعل ، أما قوله : ضيقا في الفرقان والأنعام فلم يرد به حدوث ، ولذلك بقي على أصله . ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى : وضائق به صدرك وقول قيس بن الخطيم الأنصاري : أبلغ خداشا أنني ميت كل امرئ ذي حسب مائت فلما أراد حدوث الموت قال : مائت بوزن فاعل ، وأصله ميت على وزن فيعل . ومن أمثلته في فعل بفتح فكسر قول أبي عمرو أشجع بن عمرو السلمي يرثي قتيبة بن مسلم : [ ص: 29 ] فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح فلما نفى أن يحدث له في المستقبل فرح ولا جزع قال جازع وفارح ، والأصل : جزع وفرح . ومثاله في فعيل قول لبيد : حسبت التقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا فلما أراد حدوث الثقل قال : ثاقلا والأصل ثقيل ، وقول السمهري العكلي : بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها فلما أراد حدوث السمن قال : فسامن والأصل سمين . واعلم أن قراءة ابن كثير " ضيقا " بسكون الياء في الموضعين راجعة في المعنى إلى قراءة الجمهور بتشديد الياء لأن إسكان الياء تخفيف كهين ولين ، في هين ولين . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا . التحقيق أن الإشارة في قوله : أذلك راجعة إلى النار ، وما يلقاه الكفار فيها من أنواع العذاب كما ذكره جل وعلا بقوله : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] إلى قوله تعالى : وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 14 ] وغير هذا من الأقوال لا يعول عليه ، كقول من قال : إن الإشارة راجعة إلى الكنز والجنة في قوله تعالى : أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة الآية [ 25 \ 8 ] وكقول من قال : إنها راجعة إلى الجنات والقصور المعلقة على المشيئة في قوله تعالى : تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا [ 25 \ 10 ] والتحقيق إن شاء الله أنه لما ذكر شدة عذاب النار وفظاعته قال : " أذلك العذاب خير أم جنة الخلد الآية " . وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء أيضا في غير هذا الموضع [ ص: 30 ] كقوله تعالى في سورة " الصافات " إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون إلى قوله : يهرعون [ 37 \ 60 - 70 ] وكقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية [ 41 \ 40 ] . وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف ، وهو أن يقال : لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية : وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر كما قدمناه موضحا في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير الآية [ 16 \ 30 ] . والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل ، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه ، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة ، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال . والجواب عن هذا الإشكال من وجهين : الأول : أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن ، وفي اللغة مرادا بها مطلق الاتصاف ، لا تفضيل شيء على شيء . وقدمناه مرارا وأكثرنا من شواهده العربية في سورة " النور " وغيرها . الثاني : أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة ، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل ، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل ، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه : أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وكقول العرب : الشقاء أحب إليك ، أم السعادة ؟ وقوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي الآية [ 12 \ 32 ] . [ ص: 31 ] قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى : أذلك خير الآية ، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية ، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء ، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله : فشركما لخيركما الفداء وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة ، وكقوله : السجن أحب إلي مما يدعونني إليه [ 12 \ 32 ] وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ . ا ه . الغرض من كلام أبي حيان . وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير البتة كما لا يخفى ، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان . وقوله تعالى في هذه الآية : أم جنة الخلد التي وعد المتقون العائد محذوف : أي وعدها المتقون ، والآية تدل على أن الوعد الصادق بالجنة ، يحصل بسبب التقوى . وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] وقوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون العائد أيضا محذوف كالذي قبله : أي ما يشاءونه ، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير ، كما قال في الخلاصة : والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصـــــــف كمن نرجـــو يهــب وهذه الآية الكريمة ، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم . وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون [ 16 \ 31 ] والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة ، وقوله : كانت لهم جزاء ومصيرا المصير مكان الصيرورة ، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم . [ ص: 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : كان على ربك وعدا مسئولا فيه وجهان معروفان . أحدهما : أن معنى كونه مسئولا أن المؤمنين كانوا يسألونه ، وكانت الملائكة أيضا تسأله لهم ، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى بقوله عنهم : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد [ 3 \ 194 ] وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضا في قوله : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم الآية [ 40 \ 47 ] وقال بعض العلماء : مسئولا : أي واجبا ؛ لأن ما وعد الله به واجب الوقوع ، لأنه لا يخلف الميعاد ، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء لا معقب لحكمه ، ويستأنس لهذا القول بلفظة " على " في قوله : كان على ربك وعدا مسئولا كقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقال بعض أهل العلم : إن المسلمين يوم القيامة يقولون : قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا ، والقولان الأولان أقرب من هذا . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا . قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير وحفص عن عاصم : ( نحشرهم ) ، بالنون الدالة على العظمة ، وقرأ ابن كثير ، وحفص ، عن عاصم : ( يحشرهم ) بالياء المثناة التحتية ، وقرأ عامة السبعة غير ابن عامر : ( فيقول ) بالياء المثناة التحتية ، وقرأ ابن عامر : ( فنقول ) بنون العظمة . فتحصل أن ابن كثير وحفصا يقرآن بالياء التحتية فيهما ، وأن ابن عامر يقرأ بالنون فيهما ، وأن باقي السبعة يقرءون : ( نحشرهم ) بالنون ، ( فيقول ) بالياء ، وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يحشر الكفار يوم القيامة ، وما كانوا يعبدون من دونه : أن يجمعهم جميعا فيقول للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فزينتم لهم أن يعبدوكم من دوني ، أم هم ضلوا السبيل : أي كفروا وأشركوا بعبادتهم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم ، وأن المعبودين يقولون : سبحانك أي تنزيها لك عن [ ص: 33 ] الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ليس للخلائق كلهم ، أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم ، من غير أمرنا ، ونحن برآء منهم ، ومن عبادتهم ، ثم قال : ولكن متعتهم وآباءهم [ 25 \ 18 ] أي طال عليهم العمر ، حتى نسوا الذكر أي نسوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك ، لا شريك لك ، وكانوا قوما بورا . قال ابن عباس : أي هلكى ، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم ا ه . الغرض من كلام ابن كثير . وقال أبو حيان في البحر : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم إلى آخر كلامه . وإذا عرفت ما ذكره جل وعلا في هذه الآية من سؤاله للمعبودين وجوابهم له ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في المعبودين . فقال بعضهم : المراد بهم الملائكة وعيسى وعزير قالوا : هذا القول يشهد له القرآن ، لأن فيه سؤال عيسى والملائكة عن عبادة من عبدهم ، كما قال في الملائكة : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] وقال في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب [ 5 \ 116 ] وجواب الملائكة وجواب عيسى كلاهما شبيه بجواب المعبودين في آية الفرقان هذه ، ولذلك اختار غير واحد من العلماء أن المعبودين الذين يسألهم الله في سورة الفرقان هذه هم خصوص العقلاء ، دون الأصنام . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام ، مع الملائكة وعيسى وعزير ؛ لأن ذلك تدل عليه قرينتان قرآنيتان : الأولى : أنه عبر عن المعبودين المذكورين بـ : " ما " التي هي لغير العاقل في قوله : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله الآية . فلفظة ( ما ) تدل على شمول غير العقلاء ، وأنه غلب غير العاقل لكثرته . [ ص: 34 ] القرينة الثانية : هي دلالة آيات من كتاب الله ، على أن المعبودين غافلون عن عبادة من عبدهم : أي لا يعلمون بها لكونهم غير عقلاء كقوله تعالى في سورة يونس وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 28 - 29 ] وإنما كانوا غافلين عنها لأنهم جماد لا يعقلون . وإطلاق اللفظ المختص بالعقلاء عليهم ، نظرا إلى أن المشركين نزلوهم منزلة العقلاء كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكقوله تعالى في الأحقاف : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] فقد دل قوله تعالى : وهم عن دعائهم غافلون على أنهم لا يعقلون ، ومع ذلك قال : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وكقوله تعالى في العنكبوت : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا الآية [ 29 \ 25 ] . فصرح بأنهم أوثان ، ثم ذكر أنهم هم وعبدتهم يلعن بعضهم بعضا . وكقوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله في هذه الآية الكريمة حتى نسوا الذكر الظاهر أن معنى ( نسوا ) تركوا . والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد ، وقيل : ذكر الله بشكر نعمه ، والأصح أن قوله بورا معناه هلكى ، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة ، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا : وكانوا قوما بورا وقوله في سورة الفتح : وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا [ 48 \ 12 ] ومن إطلاقه على المفرد قول عبد الله بن الزبعرى السهمي رضي الله عنه : يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور ويطلق البور على الهلاك . وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان ، وهم من أهل اليمن ، ومنه قول الشاعر : فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (417) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 35 إلى صـ 422 واعلم أن ما ذكره الزمخشري في هذه الآية ، وأطنب فيه من أن الله لا يضل أحدا [ ص: 35 ] مذهب المعتزلة ، وهو مذهب باطل وبطلانه في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإياك أن تغتر به ، وما ذكر عن الحسن البصري ، ومالك ، عن الزهري من أن معنى بورا لا خير فيهم له وجه في اللغة العربية ، ولكن التحقيق أنه ليس معنى الآية ، وأن معنى بورا هلكى كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : فقد كذبوكم بما تقولون . ذكر جل وعلا في هذه الآية : أن المعبودين كذبوا العابدين وذلك في قوله عنهم : قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [ 25 \ 18 ] . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تكذيب المعبودين للعابدين ، جاء في آيات أخر كقوله تعالى : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 6 ] وكقوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون [ 16 \ 86 ] وقوله : فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ 10 \ 28 ] وقوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة . قوله تعالى : ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا . قال ابن كثير : ومن يظلم منكم أي يشرك بالله ، وذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما . وهذا التفسير تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] وقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الظلم في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] فقال : أي بشرك كما قدمناه موضحا . قوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه جعل بعض الناس فتنة لبعض . وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية ذكره في قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] . [ ص: 36 ] وقال القرطبي في تفسير قوله : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ومعنى هذا : أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغني عليه أن لا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ، كما قال الضحاك في معنى : أتصبرون [ 25 \ 20 ] : أي على الحق ، وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعاف ؟ والأعمى يقول لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره وكذلك العلماء ، وحكام العدل ، ألا ترى إلى قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ، ويحقر المعافى المبتلى ، والصبر أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذلك عن الضجر . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي . وإذا علمت معنى كون بعضهم فتنة لبعض . فاعلم أن قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض الآية [ 6 \ 53 ] . فيه فتنة أغنياء الكفار بفقراء المسلمين ، حيث احتقروهم وازدروهم ، وأنكروا أن يكون الله من عليهم دونهم لأنهم في زعمهم لفقرهم ، ورثاثة حالهم ، لا يمكن أن يرحمهم الله ويعطيهم من فضله الواسع كما قال تعالى عنهم أنهم قالوا فيهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] وقال : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ 38 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وسيوبخهم الله يوم القيامة على احتقارهم لهم في الدنيا كما قال تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 49 ] وقوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون . . . . إلى قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] وقوله تعالى : ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] وقوله تعالى : ( أتصبرون ) ، أي على الحق أم لا تصبرون . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا . [ ص: 37 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يرجون لقاء الله قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، ولولا في هذه الآية للتحضيض . والمعنى أنهم طلبوا بحث وشدة أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون ربهم ، وهذا التعنت الذي ذكره الله عنهم هنا من طلبهم إنزال الملائكة عليهم ، أو رؤيتهم ربهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] وقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة قيل : فتوحى إلينا كما أوحت إليك ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الآية [ 6 \ 124 ] وقيل : لولا أنزل علينا الملائكة فنراهم عيانا ، وهذا يدل له قوله تعالى : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] أي معاينة على القول بذلك ، وقد قدمنا الأقوال في ذلك في سورة بني إسرائيل . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ( لا يرجون ) قال بعض العلماء : لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم إيمانهم بالبعث . والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع . قال بعض العلماء : ومنه قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا قال أي لا تخافون لله عظمة ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل فقوله لم يرج لسعها : أي لم يخف لسعها ، وقال بعض أهل العلم : إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة ، وقال بعض العلماء : لا يرجون لقاءنا لا يأملون ، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال : ومنه قول الشاعر : أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب أي أتأمل أمة إلخ . والذي لا يؤمن بالبعث لا يخاف لقاء الله ، لأنه لا يصدق بالعذاب ، ولا يأمل الخير من تلقائه ، لأنه لا يؤمن بالثواب . وقوله جل وعلا : لقد استكبروا في أنفسهم أي أضمروا التكبر عن الحق في قلوبهم ، واعتقدوه عنادا وكفرا ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [ 40 \ 56 ] وقوله تعالى : وعتوا عتوا كبيرا أي تجاوزوا الحد [ ص: 38 ] في الظلم والطغيان يقال : عتا علينا فلان : أي تجاوز الحد في ظلمنا ، ووصفه تعالى عتوهم المذكور بالكبر ، يدل على أنه بالغ في إفراطه ، وأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن تكذيب الرسل بعد دلالة المعجزات ، ووضوح الحق وعنادهم والتعنت عليهم بطلب إنزال الملائكة ، أو رؤية استكبار عن الحق عظيم وعتو كبير يستحق صاحبه النكال ، والتقريع ، ولذا شدد الله النكير على من تعنت ذلك التعنت واستكبر عن قبول الحق ، كما في قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل [ 2 \ 108 ] وقوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] وقوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [ 2 \ 55 ] واستدلال المعتزلة بهذه الآية ، وأمثالها على أن رؤية الله مستحيلة استدلال باطل ومذهبهم والعياذ بالله من أكبر الضلال ، وأعظم الباطل ، وقول الزمخشري في كلامه على هذه الآية : إن الله لا يرى ، قول باطل ، وكلام فاسد . والحق الذي لا شك فيه : أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم يوم القيامة كما تواترت به الأحاديث عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، ودلت عليه الآيات القرآنية منطوقا ومفهوما . كما أوضحناه في غير هذا الموضع . وقد قدمنا في هذه السورة وفي سورة بني إسرائيل الآيات الدالة على أن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . قوله تعالى : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين طلبوا إنزال الملائكة عليهم ، أنهم يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم ، أي لا تسرهم رؤيتهم ولا تكون لهم في ذلك الوقت بشارة بخير ، ورؤيتهم للملائكة تكون عند احتضارهم ، وتكون يوم القيامة ولا بشرى لهم في رؤيتهم في كلا الوقتين . أما رؤيتهم الملائكة عند حضور الموت فقد دلت آيات من كتاب الله أنهم لا بشارة لهم فيها لما يلاقون من العذاب من الملائكة عند الموت ، كقوله تعالى : [ ص: 39 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم الآية [ 8 \ 50 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [ 6 \ 93 ] وقوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] وأما رؤيتهم الملائكة يوم القيامة فلا بشرى لهم فيها أيضا ، ويدل لذلك قوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون [ 6 \ 8 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا بشرى يومئذ للمجرمين [ 25 \ 22 ] يدل بدليل خطابه : أي مفهوم مخالفته ، أن غير المجرمين يوم يرون الملائكة تكون لهم البشرى ، وهذا المفهوم من هذه الآية جاء مصرحا به في قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 \ 30 - 32 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة . ويقولون حجرا محجورا أظهر القولين فيه عندي أنه من كلام الكفار ، يوم يرون الملائكة . لا من كلام الملائكة ، وإيضاحه : أن الكفار الذين اقترحوا إنزال الملائكة إذا رأوا الملائكة توقعوا العذاب من قبلهم ، فيقولون حينئذ للملائكة : حجرا محجورا : أي حراما محرما عليكم أن تمسونا بسوء أي لأننا لم نرتكب ذنبا نستوجب به العذاب ، كما أوضحه تعالى بقوله عنهم : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] فقولهم : ما كنا نعمل من سوء : أي لم نستوجب عذابا ، فتعذيبنا حرام محرم ، وقد كذبهم الله في دعواهم هذه بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون وعادة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، أنهم يقولون هذا الكلام ، أي حجرا محجورا عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك . وقد ذكر سيبويه هذه الكلمة أعني : حجرا محجورا في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو : معاذ الله ، وعمرك الله ، ونحو ذلك . [ ص: 40 ] وقوله : حجرا محجورا ، أصله من حجره بمعنى منعه ، والحجر : الحرام ، لأنه ممنوع ومنه قوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر أي حرام لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ 6 \ 138 ] ومنه قول المتلمس : حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس فقوله حرام تأكيد لقوله حجر لأن معناه حرام وقول الآخر : ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما وقول الآخر : قــــالت وفيها حـيرة وذعـر عـوذ بربي منكم وحجر وقوله : محجورا توكيد لمعنى الحجر . قال الزمخشري : كقول العرب : ذيل ذائل . والذيل الهوان ، وموت مائت ، وأما على القول بأن حجرا محجورا من قول الملائكة ، فمعناه : أنهم يقولون للكفار حجرا محجورا . أي حراما محرما أن تكون للكفار اليوم بشرى ، أو أن يغفر لهم ، أو يدخلون الجنة وهذا القول اختاره ابن جرير ، وابن كثير وغير واحد . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يوم يرون الملائكة قال الزمخشري : " يوم " منصوب بأحد شيئين ، إما بما دل عليه بلا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى ، أو يعدمونها ، ويومئذ للتكرير ، وإما بإضمار اذكر : أي اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم قال لا بشرى يومئذ للمجرمين . قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن الآية [ 17 \ 19 ] . وفي سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] . وغير ذلك فأغنى ذلك عن إعادته هنا . قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . [ ص: 41 ] استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن حساب أهل الجنة يسير ، وأنه ينتهي في نصف نهار ، ووجه ذلك أن قوله : مقيلا : أي مكان قيلولة وهي الاستراحة في نصف النهار ، قالوا : وهذا الذي فهم من هذه الآية الكريمة ، جاء بيانه في قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] . ويفهم من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا الآية ، أن أصحاب النار ليسوا كذلك وأن حسابهم غير يسير . وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى قريبا من هذه الآية : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فقوله : ( على الكافرين ) يدل على أنه على المؤمنين غير عسير ، كما قال تعالى : لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 103 ] . وقوله تعالى : مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] وإذا علمت مما ذكرنا ما جاء من الآيات فيه بيان لقوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ، فهذه أقوال بعض المفسرين في المعنى الذي ذكرنا في الآية . قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : خير مستقرا وأحسن مقيلا قال في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وذلك مثل قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن مسعود . قال : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وقرأ : ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنما هي ضحوة . فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين . وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر ، وأبو نعيم في [ ص: 42 ] الحلية ، عن إبراهيم النخعي : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة ، نصف النهار . فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة ، حين يفرغ الناس من الحساب ، وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا إلى أن قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، الساعة التي يكون فيها ارتفاع الضحى الأكبر ، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة ، فكانت قيلولتهم في الجنة ، وأطعموا كبد الحوت فأشبعهم كلهم فذلك قوله . أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . وذكر نحوه القرطبي مرفوعا وقال : ذكره المهدوي . والظاهر أنه لا يصح مرفوعا ، وقال القرطبي أيضا : " وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] فقلت ما أطول هذا اليوم . فقال - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة " وهو ضعيف أيضا ، وما ذكره عن ابن مسعود من أنه قرأ ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم معلوم أن ذلك شاذ لا تجوز القراءة به ، وأن القراءة الحق ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم [ 37 \ 68 ] . واعلم أن قول قتادة في هذه الآية معروف مشهور ، وعليه فلا دليل في الآية لما ذكرنا ، وقول قتادة هو أن معنى قوله : وأحسن مقيلا أي منزلا ومأوى ، وهذا التفسير لا دليل فيه على القيلولة في نصف النهار كما ترى . وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وجه الجمع بين ما دل عليه قوله هنا وأحسن مقيلا من انقضاء الحساب في نصف نهار ، وبين ما دل عليه قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وذكرنا الآيات المشيرة إلى الجمع ، وبعض الشواهد العربية . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (418) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 43 إلى صـ 50 [ ص: 43 ] واعلم أن المشهور في كلام العرب أن المقيل القيلولة أو مكانها ، وهي الاستراحة نصف النهار زمن الحر مثلا ، وإن لم يكن معها نوم ، ومنه قوله : جزى الله خير الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد أي نزلا فيها وقت القائلة ، كما قاله صاحب اللسان ، وما فسر به قتادة الآية ، من أن المقيل المنزل والمأوى ، معروف أيضا في كلام العرب . ومنه قول ابن رواحة : اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله فقوله : يزيل الهام عن مقيله ، يعني : يزيل الرءوس عن مواضعها من الأعناق ، ومعلوم أن المقيل فيه المحل الذي تسكن فيه الرءوس ، والظاهر أن من هذا القبيل قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري : وما تدري وإن أجمعت أمرا بأي الأرض يدركك المقيل وعليه فالمعنى : بأي الأرض يدركك الثواب والإقامة بسبب الموت أو غيره من الأسباب ، وصيغة التفضيل في قوله هنا : خير مستقرا وأحسن مقيلا تكلمنا على مثلها قريبا في الكلام على قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 25 \ 15 ] . قوله تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء تتشقق يوم القيامة بالغمام ، وأن الملائكة تنزل تنزيلا . وقال القرطبي : تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام . قال : والباء وعن يتعاقبان كقولك : رميت بالقوس ، وعن القوس انتهى . ويستأنس لمعنى عن بقوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا الآية [ 50 \ 44 ] . وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة من تشقق السماء يوم القيامة ووجود الغمام ، وتنزيل الملائكة كلها جاءت موضحة في غير هذا الموضع . أما تشقق السماء يوم القيامة فقد بينه جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [ 55 \ 37 ] وقوله تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية [ 69 \ 15 - 16 ] وقوله : [ ص: 44 ] إذا السماء انشقت الآية [ 84 \ 1 ] وقوله تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت الآية [ 77 \ 8 - 9 ] فقوله : فرجت : أي شقت ، فكان فيها فروج أي شقوق كقوله ، إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] وقوله تعالى : وفتحت السماء فكانت أبوابا [ 78 \ 19 ] وأما الغمام ونزول الملائكة ، فقد ذكرهما معا في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية [ 2 \ 210 ] . وقد ذكر جل وعلا نزول الملائكة في آيات أخرى كقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك الآية [ 6 \ 158 ] وقوله تعالى : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 115 \ 8 ] . قال الزمخشري : والمعنى : أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون ، وفي أيديهم صحف أعمال العباد . انتهى منه . وقرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر : ( تشقق ) بتشديد الشين ، والباقون بتخفيفها بحذف إحدى التاءين ، وقرأ ابن كثير : ( وننزل الملائكة ) بنونين الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة مع تخفيف الزاي ، وضم اللام ، مضارع أنزل ، والملائكة بالنصب مفعول به ، والباقون بنون واحدة وكسر الزاي المشددة ماضيا مبنيا للمفعول ، والملائكة مرفوعا نائب فاعل نزل ، والأظهر أن يوم منصوب بـ اذكر مقدرا ، كما قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الملك الحق يوم القيامة له جل وعلا دون غيره ، وأن يوم القيامة كان عسيرا على الكافرين . وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله ، أما كون الملك له يوم القيامة ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله جل وعلا : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى : وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات . [ ص: 45 ] وأما كون يوم القيامة عسيرا على الكافرين ، فقد قدمنا الآيات الدالة عليه قريبا في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا الآية . قوله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا . من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية ، هو عقبة بن أبي معيط ، وأن فلانا الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف ، أو أخوه أبي بن خلف ، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة . ليتني لم أتخذ أبيا خليلا ، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير ، لا القراءة ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر ، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط . وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحا في غيرها . فقوله : ويوم يعض الظالم على يديه كناية عن شدة الندم والحسرة ، لأن النادم ندما شديدا ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة يونس : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط الآية [ 10 \ 54 ] وقوله تعالى في سورة سبأ : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا الآية [ 34 \ 33 ] وقوله تعالى : قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 6 \ 31 ] . والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا ، واتخذ معه سبيلا : أي طريقا إلى الجنة في قوله هنا : يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى : يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 24 ] وقوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ 15 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات . [ ص: 46 ] والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية ، ذكرت أيضا في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] وقوله تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [ 76 \ 29 و 33 \ 19 ] في المزمل والإنسان ، ويقرب من معناه المآب المذكور في قوله تعالى : ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا [ 78 \ 39 ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل ، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلا ، ذكره في غير هذا الموضع ، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم ، فقد ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 176 ] فلفظة لو في قوله لو أن لنا كرة للتمني ، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله فنتبرأ منهم الآية . وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم ، وطاعتهم في الدنيا ، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن ، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] وقوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] وقوله تعالى : : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] ; وقوله تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] وقوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين الآية [ 34 \ 31 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى هنا : وكان الشيطان للإنسان خذولا الأظهر أنه من كلام الله ، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة ، والخذول صيغة مبالغة ، والعرب تقول : خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه ، ومنه قوله تعالى : وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] وقول الشاعر : [ ص: 47 ] إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا وقول الآخر : إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون الآية [ 8 \ 48 ] . وقوله تعالى في هذه الآية : لقد أضلني عن الذكر الأظهر أن الذكر القرآن ، وقوله : لم أتخذ فلانا العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم : أي لم أتخذ أبيا أو أمية خليلا ، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ، ومنه قول عروة بن حزام العذري : ألا قاتل الله الوشاة وقولهم فلانة أضحت خلة لفلان وقوله : يعض الظالم من عضض بكسر العين في الماضي ، يعض بفتحها في المضارع على القياس ، ومنه قول الحارث بن وعلة الدهلي : الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جذم فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي ، والكسر أشهر ، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة المذكورين ، وربما عديت بالباء ومنه قول ابن أبي ربيعة : فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء قد يدخل قرينه النار ، والتحذير من قرين السوء مشهور معروف ، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات أن رجلا من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار ، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار ، وذلك في قوله تعالى : قال قائل منهم إنى كان لي [ ص: 48 ] قرين يقول أئنك لمن المصدقين إلى قوله تعالى : فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين [ 37 \ 51 - 57 ] . قوله تعالى : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا . معنى هذه الآية الكريمة ظاهر ، وهو أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شكا إلى ربه هجر قومه ، وهم كفارقريش لهذا القرآن العظيم ، أي : تركهم لتصديقه والعمل به ، وهذه شكوى عظيمة ، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم ، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال . واعلم أن السبكي قال : إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة " الفرقان " مسألة أصولية ، وهي أن الكف عن الفعل فعل . والمراد بالكف الترك ، قال في طبقاته : لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدا عثر عليها . أحدها : قوله تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، فإن الأخذ : التناول ، والمهجور : المتروك ، فصار المعنى تناولوه متروكا ، أي : فعلوا تركه ، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب " نشر البنود ، شرح مراقي السعود " ، في الكلام على قوله : فكفنا بالنهي مطلوب النبي قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك ، لم يظهر لي كل الظهور ، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه ، وهو كون الكف فعلا دلت عليه آيتان كريمتان من سورة " المائدة " ، دلالة واضحة لا لبس فيها ، ولا نزاع . فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية " الفرقان " هذه ، فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة " المائدة " . أما الأولى منهما ، فهي قوله تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون [ 5 \ 63 ] فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعا في قوله : لبئس ما كانوا يصنعون ، أي : وهو تركهم النهي المذكور ، والصنع أخص من مطلق الفعل ، فصراحة [ ص: 49 ] دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح كما ترى . وأما الآية الثانية ، فهي قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 79 ] فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا ، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله : لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 97 ] أي : وهو تركهم التناهي ، عن كل منكر فعلوه ، وصراحة دلالة هذه الآية أيضا على ما ذكر واضحة ، كما ترى . وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ، فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاما ، ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه - صلى الله عليه وسلم - لمسجده بالمدينة : لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل فسمى قعودهم عن العمل ، وتركهم له عملا مضللا ، وقد أشار صاحب " مراقي السعود " ، إلى أن الكف فعل على المذهب ، أي : وهو الحق . وبين فروعا مبنية على ذلك نظمها الشيخ الزقاق في نظمه المسمى بالمنهج المنتخب ، وأورد أبيات الزقاق في ذلك ، وقال : وجلبتها هنا على سبيل التضمين ، وهذا النوع يسمى استعانة ، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله : فكفنا بالنهي مطلوب النبي والكف فعل في صحيح المذهب له فروع ذكرت في المنهج وسردها من بعد ذا البيت يجي من شرب أو خيط ذكاة فضل ما وعمد رسم شهادة وما عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المأخذا وكالتي ردت بعيب وعدم وليها وشبهها مما علم فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب ، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكف ، هل هو فعل ، وهو الحق أو لا ؟ وقول الزقاق في الأول من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله : وهل كمن فعل تارك كمن له بنفع قدرة لكن كمن من شرب . . إلخ . [ ص: 50 ] فقوله : من شرب بيان للنفع الكامن في قوله : له بنفع قدرة لكن كمن ، أي : لكنه ترك النفع مع قدرته عليه ، فتركه له كفعله لما حصل بسبب تركه من الضرر على القول بأن الترك فعل ، ومراده بقوله : من شرب أن من عنده فضل شراب ، وترك إعطاءه لمضطر حتى مات عطشا ، فعلى أن الترك فعل يضمن ديته ، وعلى أنه ليس بفعل ، فلا ضمان عليه ، وفضل الطعام كفضل الشراب في ذلك ، وقوله : أو خيط يعني أن من منع خيطا عنده ممن شق بطنه ، أو كانت به جائفة ، حتى مات ضمن الدية على القول بأن الترك فعل ، وعلى عكسه فلا ضمان ، وقوله : ذكاة ، يعني : أن من مر بصيد لم ينفذ مقتله وأمكنته تذكيته فلم يذكه حتى مات ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور . وقوله : فضل ما ، يعني : أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له إذا منع منه الماء حتى هلك زرعه ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور ، وقوله : وعمد ، يعني : أنه إذا كانت عنده عمد جمع عمود ، فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : رسم شهادة ، يعني : أن من منع وثيقة فيها الشهادة بحق حتى ضاع الحق ، هل يضمنه أو لا ؟ وقوله : وما عطل ناظر ، يعني : أن الناظر على مال اليتيم مثلا إذا عطل دوره فلم يكرها ، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنا أو ترك الأرض حتى تبورت هل يضمن أو لا ؟ وقوله : وذو الرهن : يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن ، حتى فات الانتفاع به زمنا ، وكان كراؤه له أهمية ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : كذا مفرط في العلف : يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها ، وقال له : قدم لها العلف ، فترك تقديمه لها حتى ماتت ، هل يضمن أو لا ؟ والعلف في البيت بسكون الثاني ، وهو تقديم العلف بفتح الثاني . وقوله : وكالتي ردت بعيب وعدم وليها : يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته ، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة ، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا ؟ فهذه الفروع وما شابهها مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا ؟ والصحيح أن الكف فعل ، كما دل عليه الكتاب والسنة واللغة ; كما تقدم إيضاحه . وعليه : فالصحيح لزوم الضمان ، فيما ذكر . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (419) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 51 إلى صـ 58 قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا . لما شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه في قوله : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا [ ص: 51 ] القرآن مهجورا ، أنزل الله قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية [ 25 \ 31 ] تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، أي : كما جعلنا الكفار أعداء لك يكذبونك ، ويتخذون القرآن الذي أنزل إليك مهجورا ، كذلك الجعل : جعلنا لكل نبي عدوا ، أي : جعلنا لك أعداء ، كما جعلنا لكل نبي عدوا . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية ، قد قدمنا إيضاحه في " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس الآية [ 6 \ 112 ] وقوله تعالى : وكفى بربك هاديا ونصيرا ، قد قدمنا الكلام مستوفى على كفى اللازمة والمتعدية بشواهده العربية في سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 41 ] وقوله : وكفى بربك هاديا ، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 17 \ 97 ] وقوله تعالى : قل إن هدى الله هو الهدى [ 6 \ 71 ] وقوله : ونصيرا ، أي : وكفى بربك نصيرا ، جاء معناه أيضا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] . قوله تعالى : كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا . تقدمت الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث الآية [ 17 \ 106 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كذلك لنثبت به فؤادك ، أي : كذلك الإنزال مفرقا بحسب الوقائع أنزلناه لا جملة كما اقترحوا ، وقوله : لنثبت به فؤادك ، أي : أنزلناه مفرقا ، لنثبت فؤادك بإنزاله مفرقا . قال بعضهم : معناه لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه ; لأن حفظه شيئا فشيئا أسهل من حفظه مرة واحدة ، ولو نزل جملة واحدة . وقال بعضهم : ومما يؤكد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه أمي لا يقرأ ولا يكتب . قوله تعالى : الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا . [ ص: 52 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم القيامة ، وأنهم شر مكانا وأضل سبيلا . وبين في مواضع أخر أنهم تكب وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها ; كقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار [ 27 \ 90 ] وقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار الآية [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] وبين جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنهم يحشرون على وجوههم ، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وذكر في سورة " طه " ، أن الكافر يحشر أعمى ، قال في سورة " بني إسرائيل " : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] وقال في سورة " طه " : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها الآية [ 20 \ 124 - 126 ] . وقد بينا وجه الجمع في آية " بني إسرائيل " ، وآية " طه " المذكورتين مع الآيات الدالة على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويتكلمون ويسمعون ; كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : ونحشره يوم القيامة أعمى ، وكذلك بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في الكلام على آية " بني إسرائيل " المذكورة . وصيغة التفضيل في قوله : أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ، قد قدمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون [ 25 \ 15 ] والمكان محل الكينونة . والظاهر أنه يكون حسيا ومعنويا . فالحسي ظاهر ، والمعنوي ; كقوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا الآية [ 12 \ 77 ] والسبيل الطريق وتذكر وتؤنث كما تقدم ، ومن تذكير السبيل قوله تعالى : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا [ 7 \ 146 ] ومن تأنيثها قوله تعالى : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة الآية [ 12 \ 108 ] . [ ص: 53 ] قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] . قوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية . قد قدمنا بعض الآيات الدالة على كيفية إغراقهم في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا [ 7 \ 64 ] . قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا . الأظهر عندي أن قوله : وعادا وثمود معطوف على قوله : وقوم نوح ، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دل عليها قوله بعده : أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ، على حد قوله في " الخلاصة " : فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد ذكرا أي : أهلكنا قوم نوح بالغرق ، وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس ، وقرونا بين ذلك كثيرا ، أي : وأهلكنا قرونا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح ، وعاد وثمود . والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقبل أصحاب الرس وقد دلت آية من سورة " إبراهيم " على أن بعد عاد ، وثمود ، خلقا كفروا وكذبوا الرسل ، وأنهم لا يعلمهم إلا الله جل وعلا . وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا ، وذلك في قوله تعالى : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] . وقد قدمنا كلام أهل العلم في معنى قوله : فردوا أيديهم في أفواههم ، والإشارة في قوله : بين ذلك ، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس ، أي : بين ذلك المذكور [ ص: 54 ] ورجوع الإشارة ، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدد باعتبار المذكور أسلوب عربي معروف ، ومنه في الإشارة قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي : ذلك المذكور من الفارض والبكر ، وقوله تعالى : وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي : إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل أي : وكلا ذلك المذكور من الخير والشر ، ومنه في الضمير قول رؤبة : فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق أي : كأنه ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق ، وقد قدمنا هذا البيت . أما عاد وثمود فقد جاءت قصة كل منهما مفصلة في آيات متعددة . وأما أصحاب الرس فلم يأت في القرآن تفصيل قصتهم ولا اسم نبيهم ، وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شيء منها . والرس في لغة العرب : البئر التي ليست بمطوية ، وقال الجوهري في " صحاحه " : إنها البئر المطوية بالحجارة ، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر : وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا وقول النابغة الجعدي : سبقت إلى فرط ناهل تنابلة يحفرون الرساسا والرساس في البيتين جمع رس ، وهي البئر ، والرس واد في قول زهير في معلقته : بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم وقوله في هذه الآية : وقرونا بين ذلك كثيرا ، جمع قرن ، وهو هنا الجيل من الناس الذي اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة .قوله تعالى وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كلا من الماضين المهلكين من قوم نوح ، [ ص: 55 ] وعاد ، وثمود ، وأصحاب الرس ، والقرون الكثيرة بين ذلك : أنه ضرب لكل منهم الأمثال ليبين لهم الحق بضرب المثل ; لأنه يصير به المعقول كالمحسوس ، وأنه جل وعلا تبر كلا منهم تتبيرا ، أي : أهلكهم جميعا إهلاكا مستأصلا ، والتتبير : الإهلاك والتكسير ، ومنه قوله تعالى : وليتبروا ما علوا تتبيرا [ 17 \ 7 ] وقوله تعالى : إن هؤلاء متبر ما هم فيه [ 7 \ 139 ] أي : باطل ، وقوله تعالى : ولا تزد الظالمين إلا تبارا [ 71 \ 28 ] أي : هلاكا ، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما أنه جل وعلا ضرب لكل منهم الأمثال ، وأنه تبرهم كلهم تتبيرا جاءا مذكورين في غير هذا الموضع . أما ضربه الأمثال للكفار ، فقد ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " إبراهيم " : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال [ 14 \ 44 - 45 ] . وأما تتبيره جميع الأمم لتكذيبها رسلها ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى في سورة " الأعراف " : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] وقوله تعالى في سورة " سبأ " : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] وقوله في " الزخرف " : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] وقوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث الآية [ 23 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع الأمم كذبوا رسلهم ، وأن الله أهلكهم بسبب ذلك ، وقد بين جل وعلا في آية أخرى أن هذا العموم لم يخرج منه إلا قوم يونس دون غيرهم ، وذلك في قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] . ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 148 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ضرب الأمثال لكل منهم ، لم يبين فيه هنا هل ضرب الأمثال أيضا لهذه الأمة الكريمة التي هي آخر الأمم في هذا القرآن ، كما ضربها لغيرهم من الأمم ، ولكنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه [ ص: 56 ] ضرب لهذه الأمة الأمثال في هذا القرآن العظيم ، ليتفكروا بسببها ، وبين أنها لا يعقلها إلا أهل العلم ، وأن الله يهدي بها قوما ، ويضل بها آخرين . وهذه الآيات الدالة على ذلك كله ، فمنها قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون [ 39 \ 27 ] وقوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] وقوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] والآيات الدالة على ذلك كثيرة معلومة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا . أقسم جل وعلا في هذه الآية ، أن الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ، وهو أن الله أمطر عليها حجارة من سجيل ، وهي سذوم قرية قوم لوط ، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما أن الله أمطر هذه القرية مطر السوء الذي هو حجارة السجيل ، وأن الكفار أتوا عليها ، ومروا بها جاء موضحا في آيات أخرى . أما كون الله أمطر عليها الحجارة المذكورة ، فقد ذكره جل وعلا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 74 ] وبين في سورة " الذاريات " ، أن السجيل المذكور نوع من الطين ، وذلك في قوله تعالى : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 - 33 ] ولا شك أن هذا الطين وقعه أليم ، شديد مهلك ; وكقوله تعالى : وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 26 \ 173 ] وقوله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل الآية [ 15 \ 72 - 74 ] . [ ص: 57 ] وأما كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة ، فقد جاء موضحا أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] والمراد بأنهم مروا على قرية قوم لوط ، وأن مرورهم عليها ، ورؤيتهم لها خالية من أهلها ليس فيها داع ، ولا مجيب ; لأن الله أهلك أهلها جميعا لكفرهم وتكذيبهم رسوله لوطا ، فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن تكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لئلا ينزل بالذين كذبوه مثل ما نزل بقوم لوط من العذاب والهلاك ، وبذا وبخهم على عدم الاعتبار بما أنزل بها من العذاب ; كقوله في آية " الصافات " المذكورة : أفلا تعقلون ، وكقوله تعالى في آية " الفرقان " هذه : أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ، فقوله : أفلم يكونوا يرونها توبيخ لهم على عدم الاعتبار ; كقوله في الآية الأخرى : أفلا تعقلون ، ومعلوم أنهم يمرون عليها مصبحين ، وبالليل وأنهم يرونها ; وكقوله تعالى : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 74 - 76 ] يعني : أن ديار قوم لوط بسبيل مقيم ، أي : بطريق مقيم ، يمرون فيه عليها في سفرهم إلى الشام ، وقوله تعالى : بل كانوا لا يرجون نشورا ، أي : لا يخافون بعثا ولا جزاء ، أو لا يرجون بعثا وثوابا . قوله تعالى : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها . تقدم إيضاحه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون [ 14 \ 36 ] وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم ، بين في سورة " ص " أن بعضهم أمر به بعضا ، في قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم الآية [ 38 \ 6 ] . قوله تعالى : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، أي : مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه ، إلى أن قال : قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول ، اه منه . [ ص: 58 ] وذكر صاحب " الدر المنثور " : أن ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجا عن ابن عباس أن عبادة الكافر للحجر الثاني مكان الأول هي سبب نزول هذه الآية ، ثم قال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج ابن مردويه عن أبي رجاء العطاردي ، قال : كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز ويعبدون الحجر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه ، رموا به وعبدوا الآخر ، فإذا فقدوا الآخر أمروا مناديا فنادى : أيها الناس إن إلهكم قد ضل فالتمسوه ، فأنزل الله هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأخرج ابن منذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، قال : ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن : أرأيت من اتخذ إلهه هواه قال : لا يهوى شيئا إلا تبعه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، قال : كلما هوى شيئا ركبه ، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ، ولا تقوى . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، أنه قيل له : أفي أهل القبلة شرك ؟ قال : نعم ، المنافق مشرك ، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله ، وإن المنافق عبد هواه ، ثم تلا هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا . وأخرج الطبراني عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع " ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " . وإيضاح أقوال العلماء المذكورة في هذه الآية أن الواجب الذي يلزم العمل به ، هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره به معبوده جل وعلا ، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه ، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه ، وإذن فكونه اتخذ إلهه هواه في غاية الوضوح . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpgبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (420) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 59 إلى صـ 66 وإذا علمت هذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فاعلم : أن الله جل وعلا بينه في غير هذا الموضع ، في قوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله الآية [ 45 \ 23 ] [ ص: 59 ] وقوله تعالى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء الآية [ 35 \ 8 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أفأنت تكون عليه وكيلا ، استفهام إنكار فيه معنى النفي . والمعنى : أن من أضله الله فاتخذ إلهه هواه ، لا تكون أنت عليه وكيلا ، أي : حفيظا تهديه وتصرف عنه الضلال الذي قدره الله عليه ; لأن الهدى بيد الله وحده لا بيدك ، والذي عليك إنما هو البلاغ ، وقد بلغت . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] وقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] وقوله تعالى : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار [ 39 \ 19 ] وقوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 99 - 100 ] وقوله في آية " فاطر " المذكورة آنفا : فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 \ 8 ] وقوله تعالى في آية " الجاثية " المذكورة آنفا أيضا : فمن يهديه من بعد الله الآية [ 45 \ 23 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا . أم ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية ، واستفهام الإنكار معا ، والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي . والمعنى : بل تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، أي : لا تعتقد ذلك ولا تظنه ، فإنهم لا يسمعون الحق ولا يعقلونه ، أي : لا يدركونه بعقولهم : إن هم إلا كالأنعام ، أي : ما هم إلا كالأنعام ، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق وإدراكه ، بل هم أضل من الأنعام ، أي : أبعد عن فهم الحق وإدراكه . [ ص: 60 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل هم أضل سبيلا ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الأنعام ؟ قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إسارة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي ، اه منه . وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فاعلم أن الله بينه في غير الموضع ، ; كقوله تعالى في سورة " الأعراف " : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ 7 \ 179 ] وقوله تعالى في " البقرة " : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون [ 2 171 ] . قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي جعل لخلقه الليل لباسا ، والنوم سباتا ، وجعل لهم النهار نشورا ، أما جعله لهم الليل لباسا ، فالظاهر أنه لما جعل الليل يغطي جميع من في الأرض بظلامه صار لباسا لهم ، يسترهم كما يستر اللباس عورة صاحبه ، وربما انتفعوا بلباس الليل كهروب الأسير المسلم من الكفار في ظلام الليل ، واستتاره به حتى ينجو منهم ، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بسبب لباس الليل ; كما قال أبو الطيب المتنبي : وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب وقاك ردى الأعداء تسري إليهم وزارك فيه ذو الدلال المحجب وأما جعله لهم النوم سباتا ، فأكثر المفسرين على أن المراد بالسبات : الراحة من تعب العمل بالنهار ; لأن النوم يقطع العمل النهاري ، فينقطع به التعب ، وتحصل الاستراحة ، كما هو معروف . وقال الجوهري في " صحاحه " : السبات النوم وأصله الراحة ، ومنه قوله تعالى : [ ص: 61 ] وجعلنا نومكم سباتا [ 78 \ 9 ] وقال الزمخشري في " الكشاف " : والسبات : الموت ، والمسبوت : الميت ; لأنه مقطوع الحياة ، وهذا كقوله : وهو الذي يتوفاكم بالليل . فإن قلت : هلا فسرته بالراحة ؟ . قلت : النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد ، وهو مرنق ، اه محل الغرض منه . وإيضاح كلامه : أن النشور هو الحياة بعد الموت ، كما تقدم إيضاحه . وعليه فقوله : وجعل النهار نشورا ، أي : حياة بعد الموت ، وعليه فالموت هو المعبر عنه بالسبات في قوله : والنوم سباتا ، وإطلاق الموت على النوم معروف في القرآن العظيم ; كقوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه [ 6 \ 60 ] وقوله : ثم يبعثكم فيه فيه دليل على ما ذكره الزمخشري ; لأن كلا من البعث والنشور يطلق على الحياة بعد الموت ; وكقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى [ 39 \ 42 ] وقال الجوهري في " صحاحه " : والمسبوت الميت والمغشي عليه ، اه . والذين قالوا : إن السبات في الآية الراحة بسبب النوم من تعب العمل بالنهار ، قالوا : إن معنى قوله تعالى : وجعل النهار نشورا ، أنهم ينشرون فيه لمعايشهم ، ومكاسبهم ، وأسبابهم . والظاهر أن هذا التفسير فيه حذف مضاف ، أو هو من النعت بالمصدر ، وهذا التفسير يدل عليه قوله تعالى : وجعلنا النهار معاشا [ 78 \ 11 ] وقوله تعالى في " القصص " : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ 28 \ 73 ] أي : لتسكنوا في الليل ، ولتبتغوا من فضله بالنهار في السعي للمعاش . وإذا علمت هذا ، فاعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا [ 28 \ 9 - 11 ] وقوله تعالى : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 71 - 73 ] . [ ص: 62 ] وقوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب الآية [ 17 \ 12 ] . وقد أوضحنا هذا في الكلام على هذه الآية . وكقوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [ 92 \ 1 - 2 ] وقوله تعالى : والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها [ 91 \ 3 - 4 ] إلى غير ذلك من الآيات . وفي الآيات المذكورة بيان أن الليل والنهار آيتان من آياته ، ونعمتان من نعمه جل وعلا . قوله تعالى : وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته . قد قدمنا الآية الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] على قراءة من قرأ بشرا بالباء . وآية " الأعراف " ، وآية " الفرقان " المذكورتان تدلان على أن المطر رحمة من الله لخلقه . وقد بين ذلك في مواضع أخر ; كقوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] وقوله تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] . قوله تعالى : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا . التحقيق : أن الضمير في قوله : ولقد صرفناه ، راجع إلى ماء المطر المذكور في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا ، كما روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة وغير واحد ، خلافا لمن قال : إن الضمير المذكور [ ص: 63 ] راجع إلى القرآن ، كما روي عن عطاء الخراساني وصدر به القرطبي ، وصدر الزمخشري بما يقرب منه . وإذا علمت أن التحقيق أن الضمير في : صرفناه ، عائد إلى ماء المطر . فاعلم أن المعنى : ولقد صرفنا ماء المطر بين الناس فأنزلنا مطرا كثيرا في بعض السنين على بعض البلاد ، ومنعنا المطر في بعض السنين عن بعض البلاد ، فيكثر الخصب في بعضها ، والجدب في بعضها الآخر ، وقوله : ليذكروا ، أي : صرفناه بينهم لأجل أن يتذكروا ، أي : يتذكر الذين أخصبت أرضهم لكثرة المطر نعمة الله عليهم ، فيشكروا له ، ويتذكر الذين أجدبت أرضهم ما نزل بهم من البلاء ، فيبادروا بالتوبة إلى الله جل وعلا ليرحمهم ويسقيهم ، وقوله : فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، أي : كفرا لنعمة من أنزل عليهم المطر ، وذلك بقولهم : مطرنا بنوء كذا . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، أشار له جل وعلا في سورة " الواقعة " ، في قوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ 56 \ 82 ] فقوله : رزقكم ، أي : المطر ; كما قال تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] وقوله : أنكم تكذبون ، أي : بقولكم : مطرنا بنوء كذا ، ويزيد هذا إيضاحا الحديث الثابت في صحيح مسلم ، وقد قدمناه بسنده ومتنه مستوفى ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل : " أتدرون ماذا قال ربكم " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال : أصبح عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " . وقد قدمنا أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، يدخل فيه من قال : مطرنا بنوء كذا . ومن قال : مطرنا بالبخار ، يعني أن البحر يتصاعد منه بخار الماء ، ثم يتجمع ثم ينزل على الأرض بمقتضى الطبيعة لا بفعل فاعل ، وأن المطر منه ; كما تقدم إيضاحه فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . قوله تعالى : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا . [ ص: 64 ] المعنى : لو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة ، وبعثنا في كل قرية نذيرا يتولى مشقة إنذارها عنك ، أي : ولكننا اصطفيناك ، وخصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس تعظيما لشأنك ، ورفعا من منزلتك ، فقابل ذلك بالاجتهاد والتشدد التام في إبلاغ الرسالة ، و لا تطع الكافرين الآية . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من اصطفائه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة لجميع الناس ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] وقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] وقوله : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وقوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده الآية [ 11 \ 17 ] . وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] وقوله : فلا تطع الكافرين ، ذكره أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين الآية [ 33 \ 48 ] وقوله : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] وقوله تعالى : ولا تطع كل حلاف مهين [ 68 \ 10 ] . وقوله في هذه الآية الكريمة : وجاهدهم به ، أي : بالقرآن ، كما روي عن ابن عباس . والجهاد الكبير المذكور في هذه الآية هو المصحوب بالغلظة عليهم ; كما قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة الآية [ 9 \ 123 ] وقال تعالى : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 ] وقوله تعالى : فلا تطع الكافرين ، من المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يطيع الكافرين ، ولكنه يأمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه ، كما أوضحناه في سورة " بني إسرائيل " . قوله تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا . [ ص: 65 ] اعلم أن لفظة : مرج ، تطلق في اللغة إطلاقين : الأول : مرج بمعنى : أرسل وخلى ، من قولهم : مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج ، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب ; كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه : وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء وعلى هذا ، فالمعنى : أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر . والإطلاق الثاني : مرج بمعنى : خلط ، ومنه قوله تعالى : في أمر مريج ، أي : مختلط ، فعلى القول الأول : فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا ، والماء الملح في جميعها . وقوله : هذا عذب فرات ، يعني : به ماء الآبار والأنهار والعيون في أقطار الدنيا . وقوله : وهذا ملح أجاج ، أي : البحر الملح ، كالبحر المحيط وغيره من البحار التي هي ملح أجاج ، وعلى هذا التفسير فلا إشكال . وأما على القول الثاني بأن مرج بمعنى خلط ، فالمعنى : أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد ، ولا يختلط أحدهما بالآخر ، بل يكون بينهما حاجز من قدرة الله تعالى ، وهذا محقق الوجود في بعض البلاد ، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سان لويس ، وقد زرت مدينة سان لويس عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية ، واغتسلت مرة في نهر السنغال ، ومرة في المحيط ، ولم آت محل اختلاطهما ، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقات أنه جاء إلى محل اختلاطهما ، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبا وفراتا ، وبالأخرى ملحا أجاجا ، والجميع في مجرى واحد ، لا يختلط أحدهما بالآخر ، فسبحانه جل وعلا ما أعظمه ، وما أكمل قدرته . وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " فاطر " : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج [ 35 \ 12 ] وقوله تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان [ ص: 66 ] [ 55 \ 19 - 20 ] أي : لا يبغي أحدهما على الآخر فيمتزج به ، وهذا البرزخ الفاصل بين البحرين المذكور في سورة " الفرقان " و سورة " الرحمن " ، قد بين تعالى في سورة " النمل " أنه حاجز حجز به بينهما ، وذلك في قوله جل وعلا : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] وهذا الحاجز هو اليبس من الأرض الفاصل بين الماء العذب ، والماء الملح على التفسير الأول . وأما على التفسير الثاني : فهو حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر ، وأكد شدة حجزه بينهما بقوله هنا : وحجرا محجورا ، والظاهر أن قوله هنا : حجرا ، أي : منعا وحراما قدريا ، وأن محجورا توكيد له ، أي : منعا شديدا للاختلاط بينهما ، وقوله : هذا عذب ، صفة مشبهة من قولهم : عذب الماء بالضم فهو عذب . وقوله : فرات صفة مشبهة أيضا ، من فرت الماء بالضم ، فهو فرات ، إذا كان شديد العذوبة ، وقوله : وهذا ملح ، صفة مشبهة أيضا من قولهم : ملح الماء بالضم والفتح ، فهو ملح . قال الجوهري في " صحاحه " : ولا يقال مالح إلا في لغة ردية ، اه . وقد أجاز ذلك بعضهم ، واستدل له بقول القائل : ولو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا وقوله : أجاج ، صفة مشبهة أيضا ، من قولهم : أج الماء يؤج أجوجا فهو أجاج ، أي : ملح مر ، فالوصف بكونه أجاجا يدل على زيادة المرارة على كونه ملحا ، والعلم عند الله تعالى .قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا . قال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير هذه الآية الكريمة : فقسم البشر قسمين ، ذوي نسب ، أي : ذكورا ينسب إليهم ، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان ، وذوات صهر ، أي : إناثا يطاهر بهن ; كقوله : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 39 ] وكان ربك قديرا ، حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين ذكرا وأنثى ، انتهى منه . |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (421) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 67 إلى صـ 74 [ ص: 67 ] وهذا التفسير الذي فسر به الآية ، يدل له ما استدل عليه به ، وهو قوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 37 - 39 ] وهو دليل على أن آية " الفرقان " هذه بينتها آية " القيامة " المذكورة ، وفي هذه الآية الكريمة أقوال أخر غير ما ذكره الزمخشري . منها ما ذكر ابن كثير ، قال : فجعله نسبا وصهرا ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصهر صهرا ، وانظر بقية الأقوال في الآية في تفسير القرطبي و " الدر المنثور " للسيوطي . مسألة . استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن بنت الرجل من الزنى ، لا يحرم عليه نكاحها . قال ابن العربي المالكي في هذه الآية : والنسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى ، على وجه الشرع ، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ، ولم يكن نسبا محققا ، ولذلك لم يدخل تحت قوله : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] بنته من الزنى ; لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا ، وأصح القولين في الدين ، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا ، فلا يحرم الزنى بنت أم ، ولا أم بنت ، وما يحرم من الحلال ، لا يحرم من الحرام ; لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما ، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما ، فلا يلحق الباطل بهما ، ولا يساويهما ، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه . وقال القرطبي : اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى ، أو أخته ، أو بنت ابنه من زنى فحرم ذلك قوم ، منهم : ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأجاز ذلك آخرون ، منهم : عبد الملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي ، وقد مضى هذا في " النساء " مجودا ، انتهى منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف ، وأرجح القولين دليلا فيما يظهر أن الزنى لا يحرم به حلال ، فبنته من الزنى ليست بنتا له شرعا ، وقد أجمع أهل العلم أنها لا تدخل في قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] فالإجماع على أنها لا ترث ، ولا تدخل في آيات [ ص: 68 ] المواريث ، دليل صريح على أنها أجنبية منه ، وليست بنتا شرعا ، ولكن الذي يظهر لنا أنه لا ينبغي له أن يتزوجها بحال ، وذلك لأمرين : الأول : أن كونها مخلوقة من مائه ، يجعلها شبيهة شبها صوريا بابنته شرعا ، وهذا الشبه القوي بينهما ينبغي أن يزعه عن تزويجها . الأمر الثاني : أنه لا ينبغي له أن يتلذذ بشيء سبب وجوده معصيته لخالقه جل وعلا ، فالندم على فعل الذنب الذي هو ركن من أركان التوبة ، لا يلائم التلذذ بما هو ناشئ عن نفس الذنب ، وما ذكره عن الشافعي من أنه يقول : إن البنت من الزنى لا تحرم ، هو مراد الزمخشري بقوله : وإن شافعيا قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم تنبيه . قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم . تقدم إيضاحه في سورة " الحج " ، وغيرها . قوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا . الظهير في اللغة : المعين ، ومنه قوله تعالى : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] وقوله تعالى : قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ 28 \ 17 ] . ومعنى قوله في هذه الآية الكريمة : وكان الكافر على ربه ظهيرا ، على أظهر الأقوال : وكان الكافر معينا للشيطان ، وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله ، فالكافر من حزب الشيطان يقاتل في سبيله أولياء الله ، الذين يقاتلون في سبيل الله ، فالكافر يعين الشيطان وحزبه في سعيهم ; لأن تكون كلمة الله ليست هي العليا ، وهذا المعنى دلت عليه [ ص: 69 ] آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] ومعلوم أن الذي يقاتل في سبيل الطاغوت ، المقاتلين في سبيل الله ، أنه على ربه ظهير . وقوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون [ 36 \ 74 - 75 ] على قول من قال : إن الجند المحضرون هم الكفار ، يقاتلون عن آلهتهم ويدافعون عنها ، ومن قاتل عن الأصنام مدافعا عن عبادتها ، فهو على ربه ظهير ، وكونه ظهيرا على ربه ، أي : معينا للشيطان وحزبه على عداوة الله ورسله ; ككونه عدوا له المذكور في قوله تعالى : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ 2 \ 98 ] وقوله تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون [ 41 \ 19 ] ومعلوم بالضرورة أن جميع الخلق لو تعاونوا على عداوة الله لا يمكن أن يضروه بشيء ، وإنما يضرون بذلك أنفسهم : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] . قوله تعالى : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " الأعراف " ، وأول سورة " الكهف " . قوله تعالى : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] . قوله تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت . قد قدمنا الآيات الموضحة لمثله في سورة " الفاتحة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] . قوله تعالى : وكفى به بذنوب عباده خبيرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 70 ] وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] . قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام . قد قدمنا الآية التي فيها تفصيل ذلك في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ 7 \ 54 ] . قوله تعالى : ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش الآية [ 7 \ 54 ] . قوله تعالى : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، أي : قال لهم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، تجاهلوا الرحمن ، وقالوا : وما الرحمن ، وأنكروا السجود له تعالى ، وزادهم ذلك نفورا عن الإيمان والسجود للرحمن ، وما ذكره هنا من أنهم أمروا بالسجود له وحده جل وعلا مذكورا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 41 \ 37 ] . وقوله تعالى : فاسجدوا لله واعبدوا [ 53 \ 62 ] وقد وبخهم تعالى على عدم امتثال ذلك في قوله تعالى : وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون [ 84 \ 21 ] وقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ 77 \ 48 ] وتجاهلهم للرحمن هنا أجابهم عنه تعالى بقوله : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 1 - 4 ] . وقوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 \ 110 ] وقد قدمنا طرفا من هذا في الكلام على هذه الآية ، وقد قدمنا أيضا أنهم يعلمون أن الرحمن هو الله ، وأن تجاهلهم له تجاهل عارف ، وأدلة ذلك . وقوله هنا : وزادهم نفورا ، جاء معناه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا [ ص: 71 ] القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا [ 17 \ 41 ] وقوله تعالى : بل لجوا في عتو ونفور [ 67 \ 21 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا . قد قدمنا كلام أهل العلم في معنى تبارك ، في أول هذه السورة الكريمة . والبروج في اللغة : القصور العالية ، ومنه قوله تعالى : ولو كنتم في بروج مشيدة . واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية ، فقال بعضهم : هي الكواكب العظام . قال ابن كثير : وهو قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة ، ثم قال : وقيل هي قصور في السماء للحرس . ويروى هذا عن علي ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وإبراهيم النخعي ، وسليمان بن مهران الأعمش ، وهو رواية عن أبي صالح أيضا ، والقول الأول أظهر ، اللهم إلا أن تكون الكواكب العظام ، هي قصور للحرس فيجتمع القولان ; كما قال تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح [ 67 \ 5 ] اه محل الغرض من كلام ابن كثير . وقال الزمخشري في " الكشاف " : البروج منازل الكواكب السبعة السيارة : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، سميت البروج التي هي القصور العالية ; لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، واشتقاق البرج من التبرج لظهور ، اه منه . وما ذكره جل وعلا هنا من أنه جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وهو الشمس ، وقمرا منيرا ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [ 15 \ 16 ] وقوله تعالى : والسماء ذات البروج [ 85 \ 1 ] وقوله تعالى : وجعلنا سراجا وهاجا [ 78 \ 13 ] وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا [ 71 \ 15 - 16 ] وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي : وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ، بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف على الإفراد ، وقرأه حمزة والكسائي : سرجا بضم السين والراء جمع سراج ، فعلى قراءة الجمهور بإفراد السراج ، فالمراد [ ص: 72 ] به الشمس ، بدليل قوله تعالى : وجعل الشمس سراجا [ 71 \ 16 ] وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجمع ، فالمراد بالسرج : الشمس والكواكب العظام . وقد قدمنا في سورة " الحجر " ، أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنية لا السماء التي هي مطلق ما علاك ; لأن الله بين في سورة " الحجر " ، أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة ، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] وقوله : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] وليست مطلق ما علاك ، والبيان المذكور في سورة " الحجر " في قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] فآية " الحجر " هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية المحفوظة ، لا مطلق ما علاك . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه جل وعلا في آية " الفرقان " هذه ، بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج ; لأنه قال هنا : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك ، وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : يوجد في كلام بعض السلف ، أن القمر في فضاء بعيد من السماء ، وأن علم الهيئة دل على ذلك ، وأن الأرصاد الحديثة بينت ذلك . قلنا : ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدي القرآن العظيم ; لأن الصحابة رضي الله عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا له : يا نبي الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرا ؟ نزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر ، وترك ما لا فائدة فيه ، وذلك في قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ 2 \ 189 ] وهذا الباب الذي أرشد القرآن العظيم إلى سده لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر ، والإلحاد وتكذيب الله ورسوله من غير فائدة دنيوية ، والذي أرشد الله إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه وعجائبه في السماوات والأرض ، ليستدل بذلك على كمال قدرته تعالى ، واستحقاقه للعبادة وحده ، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار . وعلى كل حال ، فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرآن العظيم إلا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه ، كما هو معلوم في محله . [ ص: 73 ] ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ، ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه ، سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم ، وضعفهم ، وعجزهم ، وذلهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جل وعلا . وقد قدمنا في سورة " الحجر " ، أن ذلك يدل عليه قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 10 - 11 ] . فإن قيل : الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال على أسلوب عربي معروف ، يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت ، وهو عود الضمير إلى اللفظ وحده ، دون المعنى . وإيضاحه أن يقال في قوله : جعل في السماء بروجا ، هي السماء المحفوظة ، ولكن الضمير في قوله : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، راجع إلى مطلق لفظ السماء الصادق بمطلق ما علاك في اللغة ، وهذا أسلوب عربي معروف وهو المعبر عنه عند علماء العربية ، بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، ومنه قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] أي : ولا ينقص من عمر معمر آخر . قلنا : نعم ، هذا محتمل ، ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه ، والعدول عن ظاهر القرآن العظيم لا يجوز إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، وظاهر القرآن أولى بالاتباع والتصديق من أقوال الكفرة ومقلديهم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ 17 \ 37 ] . قوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] . [ ص: 74 ] قوله تعالى : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من أن عباده الصالحين ، يبيتون لربهم سجدا وقياما يعبدون الله ويصلون له ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [ 39 \ 9 ] وقوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا [ 32 \ 16 ] وقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [ 51 \ 16 - 18 ] وقوله تعالى : يبيتون ، قال الزجاج : بات الرجل يبيت ، إذا أدركه الليل ، نام أو لم ينم ، قال زهير : فبتنا قياما عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله قوله تعالى : والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . الأظهر أن معنى قوله : كان غراما ، أي : كان لازما دائما غير مفارق ، ومنه سمي الغريم لملازمته ، ويقال : فلان مغرم بكذا ، أي : لازم له ، مولع به . وهذا المعنى دلت عليه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : ولهم عذاب مقيم [ 9 \ 68 ] وقوله : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 \ 75 ] وقوله : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] وقوله تعالى : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] وقوله : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 3 \ 88 ] وقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 36 ] وقوله تعالى : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] وقوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال الزجاج : الغرام أشد العذاب . وقال ابن زيد : الغرام الشر . وقال أبو عبيدة : الهلاك ، قاله القرطبي . وقول الأعشى : |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (422) سُورَةُ الْفُرْقَانِ . صـ 75 إلى صـ 82 [ ص: 75 ] يعني : يكن عذابه دائما لازما ، وكذلك قول بشر بن أبي حازم : ويوم النسار ويوم الجفا ر كانا عذابا وكانا غراما وذلك هو الأظهر أيضا في قول الآخر : وما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر : ولم يقتروا بضم الياء المثناة التحتية وكسر التاء ، مضارع أقتر الرباعي ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وكسر المثناة الفوقية ، مضارع قتر الثلاثي كضرب ، وقرأه عاصم وحمزة ، والكسائي ، ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وضم المثناة الفوقية ، مضارع قتر الثلاثي كنصر ، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر ، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحد ، وهو التضييق المخل بسد الخلة اللازم ، والإسراف في قوله تعالى : لم يسرفوا ، مجاوزة الحد في النفقة . واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة ، أن الله مدح عباده الصالحين بتوسطهم في إنفاقهم ، فلا يجاوزون الحد بالإسراف في الإنفاق ، ولا يقترون ، أي : لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم . وقال بعض أهل العلم : الإسراف في الآية : الإنفاق في الحرام والباطل ، والإقتار منع الحق الواجب ، وهذا المعنى وإن كان حقا فالأظهر في الآية هو القول الأول . قال ابن كثير - رحمه الله - : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، أي : ليسوا مبذرين في إنفاقهم ، فيصرفوا فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم ، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، انتهى محل الغرض منه . وقوله تعالى : وكان بين ذلك قواما ، أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر قواما أي : عدلا وسطا سالما من عيب الإسراف والقتر . وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي ، قال : قواما خبر [ ص: 76 ] كان ، واسمها مقدر فيها ، أي : كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما ، ثم قال : قاله الفراء ، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي ; كقول من قال : إن لفظة بين هي اسم كان ، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني ، وقول من قال : إن بين هي خبر كان ، و قواما حال مؤكدة له ، ومن قال : إنهما خبران ، كل ذلك ليس بوجيه عندي ، والأظهر الأول . والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم ، وإنفاقهم المال في أوجه الخير . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; فمن ذلك أن الله أوصى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط الآية [ 17 \ 29 ] فقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، أي : ممسكة عن الإنفاق إمساكا كليا ، يؤدي معنى قوله هنا : ولم يقتروا . وقوله : ولا تبسطها كل البسط ، يؤدي معنى قوله هنا : لم يسرفوا ، وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ 17 \ 26 ] وقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو الآية [ 2 \ 219 ] على أصح التفسيرين . وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] . مسألة . هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، والآيات التي ذكرناها معها ، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد . وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين ، لا ثالث لهما . الأول منهما : اكتساب المال . والثاني منهما : صرفه في مصارفه ، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج ، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر ، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرا في [ ص: 77 ] أوجه اكتساب المال ، إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه ، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة ، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه ، فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه ، والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف . وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين ، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما ، فاعلم أن الآخر منهما وهو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة ، كالتجارات وغيرها ; كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] وقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ 62 \ 10 ] وقوله تعالى : علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة ; وكقوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] وقد قدمنا في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] أنواع الشركات وأسماءها ، وبينا ما يجوز منها ، وما لا يجوز عند الأئمة الأربعة ، وأوضحنا ما اتفقوا على منعه ، وما اتفقوا على جوازه ، وما اختلفوا فيه ، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة . وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين ، هما : اكتساب المال ، وصرفه في مصارفه ، فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين ، لا بد له من أمرين ضروريين له : الأول منهما : معرفة حكم الله فيه ، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال ، بل أباح بعض الطرق ، وحرم بعضها ; كما قال تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ 2 \ 275 ] ولم يبح الله جل وعلا صرف المال في كل شيء ، بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه ; كما قال تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة [ 2 \ 261 ] وقال تعالى في الصرف الحرام : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة [ ص: 78 ] الآية [ 8 \ 36 ] فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بد منه ، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام ، والمال المكتسب من وجه حرام ، لا خير فيه البتة ، وقد يصرف المال في وجه حرام ، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه . الأمر الثاني : هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال ، فقد يعلم الإنسان مثلا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعا ، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال من ذلك الوجه الشرعي ، وكم من متصرف يريد الربح ، فيعود عليه تصرفه بالخسران ، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح . وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح ، وفيه مصلحة ، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور ، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة ، فإن جواز الصرف فيها معلوم ، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة لا يعلمه كل الناس . وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة : الأول : معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال ، واجتناب الاكتساب به ، إن كان محرما شرعا . الثاني : حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض ، وما لا يبيحه . الثالث : معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال ، واجتناب المحرم منها . الرابع : حسن النظر في أوجه الصرف ، واجتناب ما لا يفيد منها ، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلا بمصلحته ، وكان مرضيا لله جل وعلا ، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك ; لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله ، ولا بركة ; كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ 2 \ 276 ] وقال تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث الآية [ 5 \ 100 ] . وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة " البقرة " ، وتكلمنا على أنواع [ ص: 79 ] الشركات وأسمائها ، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] . ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون كفيلا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية ، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعا ; لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم ، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين ، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئا منها يجوز شرعا ، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية ، أو على غرر ، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في أقطار الدنيا ، فإنك لا تكاد تجد شيئا منها سالما من الغرر ، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات ، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك ، ولأنه لا دليل معه ، بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما . أي : إذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كراما مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم ، وهو كل كلام لا خير فيه ، كما تقدم . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، أوضحه جل وعلا بقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على معاملة عباد الرحمن للجاهلين ، في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى :قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] . قوله تعالى : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا . قال الزمخشري : لم يخروا عليها ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ، ونفي للصمم والعمى ; كما تقول : لا يلقاني زيد مسلما ، وهو نفي للسلام لا للقاء . والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها ، حرصا على استماعها وأقبلوا على المذكر [ ص: 80 ] بها ، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية ، انتهى محل الغرض منه . ولا يخفى أن لهذه الآية الكريمة دلالتين : دلالة بالمنطوق ، ودلالة بالمفهوم ، فقد دلت بمنطوقها على أن من صفات عباد الرحمن ، أنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها ، لم يكبوا عليها في حال كونهم صما عن سماع ما فيها من الحق ، وعميانا عن إبصاره ، بل هم يكبون عليها سامعين ما فيها من الحق مبصرين له . وهذا المعنى دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا الآية [ 8 \ 2 ] ومعلوم أن من تليت عليه آيات هذا القرآن ، فزادته إيمانا أنه لم يخر عليها أصم أعمى ; وكقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] وقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد دلت الآية المذكورة أيضا بمفهومها أن الكفرة المخالفين ، لعباد الرحمن الموصوفين في هذه الآيات : إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صما وعميانا ، أي : لا يسمعون ما فيها من الحق ، ولا يبصرونه ، حتى كأنهم لم يسمعوها أصلا . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة بمفهومها ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في سورة " لقمان " : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] وقوله تعالى في " الجاثية " : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين [ 45 \ 7 - 9 ] وقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 124 - 125 ] إلى غير ذلك من الآيات . والظاهر : أن معنى خرور الكفار على الآيات ، في حال كونهم صما وعميانا ، هو إكبابهم على إنكارها والتكذيب بها ، خلافا لما ذكره الزمخشري في " الكشاف " ، والصم في [ ص: 81 ] الآية جمع أصم ، والعميان جمع أعمى ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا . الظاهر أن المراد بالغرفة في هذه الآية الكريمة جنسها الصادق بغرف كثيرة ; كما يدل عليه قوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] وقوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار الآية [ 39 \ 20 ] . وقد أوضحناه هذا في أول سورة " الحج " ، وفي غيرها . قوله تعالى : ويلقون فيها تحية وسلاما . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام [ 10 \ 10 ] . قوله تعالى : خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] . قوله تعالى : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما . العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، يقولون : ما عبأت بفلان ، أي : ما باليت به ، ولا اكترثت به ، أي : ما كان له عندي وزن ، ولا قدر يستوجب الاكتراث والمبالاة به ، وأصله من العبء وهو الثقل ، ومنه قول أبي زيد يصف أسدا : كان بنحره وبمنكبيه عبيرا بات يعبؤه عروس وقوله : يعبؤه ، أي : يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به واكتراثه به . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن كلام أهل التفسير في هذه الآية الكريمة يدور على أربعة أقوال . واعلم أولا أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله : لولا دعاؤكم ، هل هو مضاف إلى فاعله ، أو إلى مفعوله ، وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية داعون ، [ ص: 82 ] لا مدعوون ، أي : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ، أي : عبادتكم له . وأما على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية مدعوون لا داعون ، أي : ما يعبؤا بكم لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام . واعلم أيضا أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنية على كون المصدر فيها مضافا إلى فاعله . والرابع : مبني على كونه مضافا إلى مفعوله . أما الأقوال الثلاثة المبنية على كونه مضافا إلى فاعله . فالأول منها أن المعنى : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ، أي : عبادتكم له وحده جل وعلا ، وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين ، ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله : فقد كذبتم الآية . والثاني منها : أن المعنى : لولا دعاؤكم أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب ، أي : ولو كنتم ترجعون إلى شرككم ، إذا كشف الضر عنكم . والثالث : أن المعنى ما يعبأ بكم ربي ، أي : ما يصنع بعذابكم ، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى ، ولا يخفى بعد هذا القول ، وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه . أما القول الرابع المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر ، أي : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤه إياكم على ألسنة رسله . وإذا عرفت هذه الأقوال ، فاعلم أن كل واحد منها ، قد دل عليه قرآن ، وسنبين هنا إن شاء الله تعالى دليل كل قول منها من القرآن مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (423) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 83 إلى صـ 90 أما هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله ، وأن المعنى : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان به وتوحيده وعبادته على ألسنة رسله ، فقد دلت عليه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى في أول سورة " هود " : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 1 \ 7 ] وقوله تعالى في أول سورة " الكهف " : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] وقوله في أول سورة " الملك " : [ ص: 83 ] الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] . فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض ، وجميع ما على الأرض ، والموت والحياة ، هي أن يدعوهم على ألسنة رسله ويبتليهم ، أي : أن يختبرهم أيهم أحسن عملا . وهذه الآيات تبين معنى قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] . وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله : لولا دعاؤكم ، أي : دعاؤه إياكم على ألسنة رسله ، وابتلاؤكم أيكم أحسن عملا ، وعلى هذا فلا إشكال في قوله : فقد كذبتم ، أي : ( ما يعبأ بكم لولا ) دعاؤه إياكم ، أي : وقد دعاكم فكذبتم ، وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه ، فهو قوي بدلالة الآيات المذكورة عليه . وأما القول بأن معنى : لولا دعاؤكم ، أي : إخلاصكم الدعاء له أيها الكفار عند الشدائد والكروب ، فقد دلت على معناه آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [ 29 \ 65 ] وقوله تعالى : جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين [ 20 \ 22 ] . وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الآية [ 17 \ 67 ] وهذا القول وإن دلت عليه آيات كثيرة ، فلا يظهر كونه هو معنى آية " الفرقان " هذه . وأما على القول بأن المعنى : ما يصنع بعذابكم ، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى ; فقد دل على معناه قوله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم الآية [ 4 \ 147 ] . والقول الأول الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلا ، وهو أن المعنى : لولا دعاؤكم ، أي : عبادتكم له وحده ، قد دل عليه جميع الآيات الدالة على ما يعطيه الله لمن أطاعه ، وما أعده لمن عصاه ، وكثرتها معلومة لا خفاء بها . واعلم أن لفظة ( ما ) ، في قوله : قل ما يعبأ بكم ربي ، قال بعض أهل [ ص: 84 ] العلم : هي استفهامية ، وقال بعضهم : هي نافية وكلاهما له وجه من النظر . واعلم أن قول من قال : لولا دعاؤكم ، أي : دعاؤكم إياي لأغفر لكم ، وأعطيكم ما سألتم ، راجع إلى القول الأول ; لأن دعاء المسألة داخل في العبادة ، كما هو معلوم . وقوله : فقد كذبتم ، أي : بما جاءكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقد قدمنا في الكلام على قوله تعالى : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] أن معنى قوله تعالى : فسوف يكون لزاما ، أي : سوف يكون العذاب ملازما لهم غير مفارق ، كما تقدم إيضاحه . وقال جماعة من أهل العلم : إن المراد بالعذاب اللازم لهم المعبر عن لزومه لهم ، بقوله : فسوف يكون لزاما ، أنه ما وقع من العذاب يوم بدر ، لأنهم قتل منهم سبعون وأسر سبعون ، والذين قتلوا منهم أصابهم عذاب القتل ، واتصل به عذاب البرزخ والآخرة فهو ملازم لا يفارقهم بحال ، وكون اللزام المذكور في هذه الآية العذاب الواقع يوم بدر ، نقله ابن كثير عن عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن كعب القرظي ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم ، ثم قال : وقال الحسن البصري : فسوف يكون لزاما ، أي : يوم القيامة ولا منافاة بينهما ، انتهى من ابن كثير ، ونقله صاحب " الدر المنثور " عن أكثر المذكورين وغيرهم . وقال جماعة من أهل العلم : إن يوم بدر ذكره الله تعالى في آيات من كتابه ، قالوا هو المراد بقوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى [ 32 \ 21 ] أي : يوم بدر ، دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] أي : يوم القيامة ، وأنه هو المراد بقوله : فسوف يكون لزاما ، وأنه هو المراد بالبطش والانتقام ، في قوله تعالى : يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون [ 44 \ 16 ] وأنه هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل في قوله تعالى : إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان [ 8 \ 41 ] وهو يوم بدر ، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر الآية [ 3 \ 123 ] وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح ، عن ابن مسعود ، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر ، وقد أتى منوها في الذكر : [ ص: 85 ] لأنه العذاب واللزام وأنه البطش والانتقام ومعنى سجيس الدهر ، أي : مدته . وأنه الفرقان بين الكفر والحق والنصر سجيس الدهر . وأظهر الأقوال في الآية عندي ، هو القول بأن المصدر فيها مضاف إلى مفعوله لجريانه على اللغة الفصيحة من غير إشكال ولا تقدير ، وممن قال به قتادة ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 86 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 3 ) . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ 18 \ 6 ] وَفِي آخِرِ سُورَةِ " الْحِجْرِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [ 15 \ 88 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [ 15 \ 97 ] . قوله تعالى : أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 7 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 8 ) . أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى أن كثرة ما أنبت في الأرض ، من كل زوج كريم ، أي ; صنف حسن من أصناف النبات ، فيه آية دالة على كمال قدرته . وقد أوضحنا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك أن إحياء الأرض بعد موتها ، وإنبات النبات فيها بعد عدمه من البراهين القاطعة على بعث الناس بعد الموت . وقد أوضحنا دلالة الآيات القرآنية على ذلك في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ، إلى قوله : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 21 - 22 ] وفي أول سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] . قوله تعالى : وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ( 10 ) قوم فرعون ألا يتقون ( 11 ) . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] . قوله تعالى : قال رب إني أخاف أن يكذبون ( 12 ) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني . [ ص: 87 ] قوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : إنى أخاف أن يكذبون ، أي : بسبب أني قتلت منهم نفسا ، وفررت منهم لما خفت أن يقتلوني بالقتيل الذي قتلته منهم ، ويوضح هذا المعنى الترتيب بالفاء في قوله تعالى : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 \ 33 ] ; لأن من يخاف القتل فهو يتوقع التكذيب ، وقوله : ولا ينطلق لساني ، أي : من أجل العقدة المذكورة في قوله تعالى عن موسى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [ 20 \ 27 - 28 ] قدمنا في الكلام على آية " طه " ، هذه بعض الآيات الدالة على ما يتعلق بهذا المبحث . قوله تعالى : فأرسل إلى هارون ( 13 ) . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ 19 \ 53 ] . قوله تعالى عن نبيه موسى : ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ( 14 ) . لم يبين هنا هذا الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه ، وقد بين في غير هذا الموضع أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم الغبطي ، فقد صرح تعالى بالقتل المذكور في قوله تعالى : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 \ 33 ] فقوله : قتلت منهم نفسا مفسر لقوله : ولهم علي ذنب [ 26 \ 14 ] ولذا رتب بالفاء على كل واحد منهما . قوله : فأخاف أن يقتلون ، وقد أوضح تعالى قصة قتل موسى له بقوله في " القصص " : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] وقوله : فقضى عليه ، أي : قتله ، وذلك هو الذنب المذكور في آية " الشعراء " هذه . وقد بين تعالى أنه غفر لنبيه موسى ذلك الذنب المذكور ، وذلك في قوله تعالى : قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له الآية [ 28 \ 16 ] . قوله تعالى : قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون . صيغة الجمع في قوله : إنا معكم مستمعون ، للتعظيم ، وما ذكره جل وعلا في [ ص: 88 ] هذه الآية من رده على موسى خوفه القتل من فرعون وقومه ، بحرف الزجر الذي هو كلا ، وأمره أن يذهب هو وأخوه بآياته مبينا لهما أن الله معهم ، أي : وهي معية خاصة بالنصر والتأييد ، وأنه مستمع لكل ما يقول لهم فرعون ، أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] وقوله تعالى : قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 35 ] . قوله تعالى : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، و " طه " ، وبينا في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك [ 20 \ 47 ] وجه تثنيته الرسول في " طه " ، وإفراده هنا في " الشعراء " ، مع شواهده العربية . قوله تعالى : قال ألم نربك فينا وليدا . تربية فرعون لموسى هذه التي ذكرها له هي التي ذكر مبدؤها في قوله تعالى : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون [ 28 \ 9 ] وقوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني الآية [ 20 \ 39 ] . قوله تعالى في كلام فرعون لموسى : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين . أبهم جل وعلا هذه الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله : التي فعلت ، وقد أوضحها في آيات أخر ، وبين أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسا منهم ; كقوله تعالى : فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] وقوله تعالى : قال رب إني قتلت منهم نفسا الآية [ 28 \ 33 ] وقوله عن الإسرائيلي الذي استغاث بموسى مرتين : قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين [ 28 \ 19 ] . وأظهر الأقوال عندي في معنى قوله : وأنت من الكافرين ، أن المراد به كفر [ ص: 89 ] النعمة ، يعني أنعمنا عليك بتربيتنا إياك صغيرا ، وإحساننا إليك تتقلب في نعمتنا فكفرت نعمتنا ، وقابلت إحساننا بالإساءة لقتلك نفسا منا ، وباقي الأقوال تركناه ; لأن هذا أظهرها عندنا . وقال بعض أهل العلم : رد موسى على فرعون امتنانه عليه بالتربية ، بقوله : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 \ 25 ] يعني : تعبيدك لقومي ، وإهانتك لهم لا يعتبر معه إحسانك إلي لأني رجل واحد منهم ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين . أي : قال موسى مجيبا لفرعون : قال فعلتها إذا ، أي : إذ فعلتها وأنا في ذلك الحين من الضالين ، أي : قبل أن يوحي الله إلي ، ويبعثني رسولا ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية . وقول من قال من أهل العلم : وأنا من الضالين ، أي : من الجاهلين ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلا ، أي : غير عالم بما أوحى الله إليه . وقد بينا مرارا في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرآن ، وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات : الإطلاق الأول : يطلق الضلال مرادا به الذهاب عن حقيقة الشيء ، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضل عنه ، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما ، وليس من الضلال في الدين . ومن هذا المعنى قوله هنا : وأنا من الضالين ، أي : من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم ، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي ، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي ، ومنه على التحقيق : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 3 ] أي : ذاهبا عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي . ومن هذا المعنى قوله تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] فقوله : لا يضل ربي ، أي : لا يذهب عنه علم شيء كائنا [ ص: 90 ] ما كان ، وقوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] فقوله : أن تضل إحداهما ، أي : تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده : فتذكر إحداهما الأخرى ، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب : إن أبانا لفي ضلال مبين [ 22 \ 8 ] وقوله : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] على التحقيق في ذلك كله . ومن هذا المعنى قول الشاعر : وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم والإطلاق الثاني : وهو المشهور في اللغة ، وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر ، وعن طريق الحق إلى الباطل ، وعن طريق الجنة إلى النار ، ومنه قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] . والإطلاق الثالث : هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال ، تقول العرب : ضل الشيء إذا غاب واضمحل ، ومنه قولهم : ضل السمن في الطعام ، إذا غاب فيه واضمحل ، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالا ; لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل . ومن هذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض الآية [ 32 \ 10 ] يعنون : إذا دفنوا وأكلتهم الأرض ، فضلوا فيها ، أي : غابوا فيها واضمحلوا . ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن ، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني : فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتك طائل فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم : أضلت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدهر قيس بن عاصم https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (424) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 91 إلى صـ 98 فقول الذبياني : فآب مضلوه ، يعني : فرجع دافنوه ، وقول السعدي : أضلت ، أي : دفنت ، ومن إطلاق الضلال أيضا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل : [ ص: 91 ] كنت القذى في موج أكدر مزيد قذف الأتي به فضل ضلالا وقول الآخر : ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقا رابعا ، قال : ويطلق أيضا على المحبة ، قال : ومنه قوله : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] قال : أي في حبك القديم ليوسف ، قال : ومنه قول الشاعر : هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا عجبا لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا قوله تعالى : ففررت منكم لما خفتكم . خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم ، قد أوضحه تعالى وبين سببه في قوله : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين [ 28 \ 20 - 21 ] وبين خوفه المذكور بقوله تعالى : فأصبح في المدينة خائفا يترقب الآية [ 28 \ 18 ] . [ ص: 97 ] قوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين . قوله تعالى : فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين . قد قدمنا الآيات الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة " مريم " ، وغيرها . وقوله : فوهب لي ربي حكما ، قال بعضهم : الحكم هنا هو النبوة ، وممن يروى عنه ذلك السدي . والأظهر عندي : أن الحكم هو العلم الذي علمه الله إياه بالوحي ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قال فرعون وما رب العالمين . [ ص: 92 ] ظاهر هذه الآية الكريمة أن فرعون لا يعلم شيئا عن رب العالمين ، وكذلك قوله تعالى عنه : قال فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] وقوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] ولكن الله جل وعلا بين أن سؤال فرعون في قوله : وما رب العالمين ، وقوله : فمن ربكما ياموسى ، تجاهل عارف أنه عبد مربوب لرب العالمين ، بقوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] وقوله تعالى عن فرعون وقومه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] . وقد أوضحنا هذا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وفي سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : قال فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] . قوله تعالى : قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه ، إلى آخر القصة . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " طه " و " الأعراف " . قوله تعالى : واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ، - إلى قوله - إلا رب العالمين [ 26 \ 69 - 77 ] . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم الآيات [ 19 \ 41 ] . قوله تعالى : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] وفي " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 43 - 44 ] . [ ص: 93 ] قوله تعالى : قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون فيها ، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ، إلى قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 59 - 64 ] . وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] وفي سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا الآية [ 2 \ 166 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ 6 \ 1 ] . قوله تعالى : فما لنا من شافعين . قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يقبل منها شفاعة [ 2 \ 48 ] وفي سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا الآية [ 7 \ 53 ] . قوله تعالى فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين . دلت هذه الآية الكريمة على أمرين : الأول منهما : أن الكفار يوم القيامة ، يتمنون الرد إلى الدنيا ، لأن ( لو ) في قوله هنا : فلو أن لنا للتمني ، والكرة هنا : الرجعة إلى الدنيا ، وإنهم زعموا أنهم إن ردوا إلى الدنيا كانوا من المؤمنين المصدقين للرسل ، فيما جاءت به ، وهذان الأمران قد قدمنا الآيات الموضحة لكل واحد منهما . أما تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ، فقد أوضحناه بالآيات القرآنية في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] . وأما زعمهم [ ص: 94 ] أنهم إن ردوا إلى الدنيا آمنوا ، فقد بينا الآيات الموضحة له في " الأعراف " ، في الكلام على الآية المذكورة ، وفي " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] . قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين الآيات . قد قدمنا الكلام عليها في سورة " الحج " وفي غيرها ، وتكلمنا على قوله تعالى : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 - 127 - 145 - 164 - 180 ] في قصة نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب . وبينا الآيات الموضحة لذلك في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] . قوله تعالى : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى عن قوم نوح : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا [ 11 \ 27 ] . قوله تعالى : وما أنا بطارد المؤمنين . قد قدمنا ما يدل عليه من القرآن في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم [ 11 \ 29 - 30 ] . وأوضحناه بالآيات القرآنية في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، إلى قوله : فتطردهم فتكون من الظالمين [ 6 \ 25 ] وفي سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [ 18 \ 28 ] . قوله تعالى : قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين . قوله تعالى هنا عن نوح : قال رب إن قومي كذبون ، أوضحه في غير هذا الموضع ; كقوله : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا [ ص: 95 ] وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 5 - 7 ] وقوله هنا : فافتح بيني وبينهم فتحا ، أي : احكم بيني وبينهم حكما ، وهذا الحكم الذي سأل ربه إياه هو إهلاك الكفار ، وإنجاؤه هو ومن آمن معه ، كما أوضحه تعالى في آيات أخر ; كقوله تعالى : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ 54 \ 10 ] وقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ 71 \ 26 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله هنا عن نوح : ونجني ومن معي من المؤمنين ، قد بين في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا ; كقوله هنا : فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ، وقوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] وقوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم [ 37 \ 75 - 76 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقوله هنا : ثم أغرقنا بعد الباقين ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] وقوله تعالى : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ 11 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات . والمشحون : المملوء ، ومنه قول عبيد بن الأبرص : شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط والفلك : يطلق على الواحد والجمع ، فإن أطلق على الواحد جاز تذكيره ; كقوله هنا : في الفلك المشحون ، وإن جمع أنث ، والمراد بالفلك هنا السفينة ; كما صرح تعالى بذلك في قوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] . قوله تعالى : كذب أصحاب الأيكة المرسلين . قال أكثر أهل العلم : إن أصحاب الأيكة هم مدين . قال ابن كثير : وهو الصحيح ، وعليه فتكون هذه الآية بينتها الآيات الموضحة قصة شعيب مع مدين ، ومما استدل به أهل هذا القول ، أنه قال هنا لأصحاب الأيكة : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين [ 26 \ 181 - 183 ] وهذا الكلام ذكر الله عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعددة ; كقوله في " هود " : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا [ ص: 96 ] المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين [ 11 \ 84 - 86 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا في سورة " الأعراف " ، قولنا : فإن قيل الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر الله جل وعلا في " الأعراف " أنه رجفة ، وذكر في " هود " أنه صيحة ، وذكر في " الشعراء " ، أنه عذاب يوم الظلة . فالجواب ما قاله ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره ، قال : وقد اجتمع عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة ، وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام ، انتهى . وعلى القول بأن شعيبا أرسل إلى أمتين : مدين وأصحاب الأيكة ، وأن مدين ليسوا هم أصحاب الأيكة ، فلا إشكال . وقد جاء ذلك في حديث ضعيف عن عبد الله بن عمرو ، وممن روي عنه هذا القول : قتادة ، وعكرمة وإسحاق بن بشر . وقد قدمنا بعض الآيات الموضحة لهذا في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم [ 25 \ 78 - 79 ] وأوضحنا هنالك أن نافعا ، وابن عامر ، وابن كثير قرأوا ليكة في سورة " الشعراء " ، وسورة " ص " ، بلام مفتوحة أول الكلمة ، وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ، ولا تعريف على أن اسم القرية غير منصرف ، وأن الباقين قرأوا : ( الأيكة ) بالتعريف والهمز وكسر التاء ، وأن الجميع اتفقوا على ذلك في " ق " و " الحجر " ، وأوضحنا هنالك توجيه القراءتين في " الشعراء " و " ص " ، ومعنى ( الأيكة ) في اللغة مع بعض الشواهد العربية . قوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين . الجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 62 ] وقد استدل بآية " يس " ، المذكورة على آية " الشعراء " هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير ، ومن ذلك قول الشاعر : والموت أعظم حادث مما يمر على الجبله أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم تنزيل رب العالمين ، وأنه نزل به الروح الأمين ، الذي هو جبريل على قلب نبينا - صلى الله عليهما وسلم - ليكون من المنذرين به ، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين ، وما ذكره جل وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع . أما كون هذا القرآن تنزيل رب العالمين ، فقد أوضحه جل وعلا في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين [ 56 \ 77 - 79 ] وقوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 41 - 43 ] وقوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [ 20 \ 1 - 4 ] وقوله تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [ 45 \ 2 ] وقوله : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا الآية [ 41 \ 1 - 3 ] وقوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون [ 36 \ 1 - 6 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقوله : نزل به الروح الأمين ، بينه أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله : لتكون من المنذرين ، أي : نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به ، جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 1 - 2 ] أي : أنزل إليك لتنذر به ، وقوله تعالى : تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 36 \ 5 - 6 ] . وقوله : بلسان عربي مبين ، ذكره أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] وقوله تعالى : كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا الآية [ 41 \ 3 ] . وقد بينا معنى اللسان العربي بشواهده في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرآن [ ص: 98 ] على قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالآيات القرآنية في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] . قوله تعالى ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين . قد قدمنا هذه الآية الكريمة ، مع ما يوضحها من الآيات في " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي الآية [ 16 \ 103 ] . واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم ، ولو من غير عاقل ، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة : فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ولا عربيا شاقه صوت أعجما قوله تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم . قوله : سلكناه ، أي : أدخلناه ، كما قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية والشواهد العربية في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 11 \ 40 ] والضمير في سلكناه ، قيل : للقرآن ، وهو الأظهر . وقيل : للتكذيب والكفر المذكور في قوله : ما كانوا به مؤمنين [ 26 \ 199 ] وهؤلاء الكفار الذين ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنهم أشقياء ; كما يدل لذلك قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقد أوضحنا شدة تعنت هؤلاء ، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة " الفرقان " ، وفي سورة " بني إسرائيل " وغيرهما . وقوله : كذلك سلكناه نعت لمصدر محذوف ، أي : كذلك السلك ، أي : الإدخال ، سلكناه ، أي : أدخلناه في قلوب المجرمين ، وإيضاحه على أنه القرآن : أن الله أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين ، فسمعوه وفهموه لأنه بلغتهم ، ودخلت معانيه في قلوبهم ، ولكنهم لم يؤمنوا به ; لأن كلمة العذاب حقت عليهم ، وعلى أن الضمير في سلكناه للكفر والتكذيب ، فقوله عنهم : ما كانوا به مؤمنين ، يدل على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم ، أي : كذلك السلك سلكناه ، إلخ . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (425) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 99 إلى صـ 106 [ ص: 99 ] قوله تعالى : فيقولوا هل نحن منظرون . لفظة : هل هنا يراد بها التمني ، والآية تدل على أنهم تمنوا التأخير والإنظار ، أي : الإمهال ، وقد دلت آيات أخر على طلبهم ذلك صريحا ، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا ; كقوله تعالى : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 21 \ 40 ] وقوله تعالى : وما كانوا إذا منظرين [ 44 \ 29 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] وذكرنا طرفا منه في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 50 - 51 ] . قوله تعالى : أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون . قد قدمنا إيضاحه في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر [ 2 \ 96 ] . قوله تعالى : وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] . قوله تعالى : ذكرى وما كنا ظالمين . قد قدمنا الآيات الدالة عليه ; كقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] [ ص: 100 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : ذكرى ، أعربه بعضهم مرفوعا ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه ذكرى ، وأعربه بعضهم منصوبا ، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه : منها أنه ما ناب عن المطلق ، من قوله : منذرون ، لأن أنذر وذكر متقاربان . ومنها أنه مفعول من أجله ، أي : منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة . ومنها أنها حال من الضمير في منذرون ، أي : ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة . قوله تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] . قوله تعالى : فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . قد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] بالدليل القرآني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بمثل هذا الخطاب ، والمراد التشريع لأمته مع بعض الشواهد العربية ، وقوله هنا : فلا تدع مع الله إلها آخر الآية ، جاء معناه في آيات كثيرة ; كقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] وقوله تعالى : ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] وقوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين . هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين ، لا ينافي الأمر بالإنذار العام ، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وقوله تعالى : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . [ ص: 101 ] قوله تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] وفي " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] وقد وعدنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] بأنا نوضح معنى خفض الجناح ، وإضافته إلى الذل في سورة " الشعراء " ، في هذا الموضع ، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد ، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسماة : " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " . فقد قلنا فيها ، ما نصه : والجواب عن قوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل [ 17 \ 24 ] أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته ; لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه . قال تعالى : واضمم إليك جناحك من الرهب [ 28 \ 32 ] والخفض مستعمل في معناه الحقيقي ، الذي هو ضد الرفع ; لأن مريد البطش يرفع جناحيه ، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه ، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما ، والتواضع لهما ; كما قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب أسلوب معروف ، ومنه قول الشاعر : وأنت الشهير بخفض الجنا ح فلا تك في رفعه أجدلا وأما إضافة الجناح إلى الذل ، فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير ; لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك : حاتم الجود . فيكون المعنى : واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة ، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر ، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال : لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي جاءه رجل فقال له : صب لي في هذا الإناء شيئا من ماء الملام ، فقال له : إن أتيتني [ ص: 102 ] بريشة من جناح الذل صببت لك شيئا من ماء الملام ، فلا حجة فيه ; لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحا ، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما ، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود ، ونظيره في القرآن الإضافة في قوله : مطر السوء [ 25 \ 40 ] و عذاب الهون [ 6 \ 93 ] أي : مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه ، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه ، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح ، أن خفض الجناح كني به عن ذل الإنسان ، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما ، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية ، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة [ 88 \ 2 - 3 ] وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، وفي كلام العرب . وهذا هو الظاهر في معنى الآية ، ويدل عليه كلام السلف من المفسرين . وقال ابن القيم في " الصواعق " : إن معنى إضافة الجناح إلى الذل أن للذل جناحا معنويا يناسبه لا جناح ريش ، والله تعالى أعلم ، انتهى . وفيه إيضاح معنى خفض الجناح . والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته ; كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى . وقال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير قوله تعالى : لمن اتبعك من المؤمنين ، فإن قلت : المتبعون للرسول هم المؤمنون ، والمؤمنون هم المتبعون للرسول ، فما قوله : لمن اتبعك من المؤمنين . قلت : فيه وجهان ، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين ، لمشارفتهم ذلك . وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم ، وهم صنفان : صنف صدق واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب ، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين ، والمنافق والفاسق ، لا يخفض لهما الجناح . والمعنى : المؤمنين من عشيرتك وغيرهم ، أي : أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك ، فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره ، انتهى منه . [ ص: 103 ] والأظهر عندي في قوله : لمن اتبعك من المؤمنين ، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرآن العظيم ; كقوله : يقولون بأفواههم الآية [ 3 \ 167 ] ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم . وقوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم ، وقوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] وقوله تعالى : حسدا من عند أنفسهم [ 2 \ 109 ] إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين . قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحته ، وذكرنا أمثلة متعددة لذلك في الترجمة ، وفيما مضى من الكتاب . وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله هنا : وتقلبك في الساجدين ، قال فيه بعض أهل العلم المعنى : وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين ، أي : المؤمنين بالله كآدم ونوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل . واستدل بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه ، بقوله تعالى عن إبراهيم : وجعلها كلمة باقية في عقبه [ 43 \ 28 ] وممن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي ، وفي الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول ، وهي قوله تعالى قبله مقترنا به : الذي يراك حين تقوم ، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعا ، وأول الآية مرتبط بآخرها ، أي : الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك ، وحين تقوم من فراشك ومجلسك ، ويرى وتقلبك في الساجدين ، أي : المصلين ، على أظهر الأقوال ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - يتقلب في المصلين قائما ، وساجدا وراكعا ، وقال بعضهم : الذي يراك حين تقوم ، أي : إلى الصلاة وحدك ، و وتقلبك في الساجدين ، أي : المصلين إذا صليت بالناس . وقوله هنا : الذي يراك حين تقوم الآية ، يدل على الاعتناء به - صلى الله عليه وسلم - ، ويوضح ذلك قوله تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا الآية [ 52 \ 48 ] . [ ص: 104 ] وقوله : وتوكل قرأه عامة السبع غير نافع وابن عامر : وتوكل بالواو ، وقرأه نافع وابن عامر : فتوكل بالفاء ، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء ، وقوله هنا : وتوكل على العزيز الرحيم ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفاتحة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] وبسطنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع بيان معنى التوكل في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا [ 17 \ 2 ] . قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون . الشعراء : جمع شاعر ، كجاهل وجهلاء ، وعالم وعلماء . و يتبعهم الغاوون : جمع غاو وهو الضال ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يتبعهم الغاوون يدل على أن اتباع الشعراء من اتباع الشيطان ، بدليل قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقرأ هذا الحرف نافع وحده : يتبعهم بسكون التاء المثناة ، وفتح الباء الموحدة ، وقرأه الباقون يتبعهم بتشديد المثناة ، وكسر الموحدة ، ومعناهما واحد . وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ، في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوون ، يدل على تكذيب الكفار في دعواهم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر ; لأن الذين يتبعهم الغاوون ، لا يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم . ويوضح هذا المعنى ما جاء من الآيات ، مبينا أنهم ادعوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أنه شاعر وتكذيب الله لهم في ذلك ، أما دعواهم أنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر ، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر الآية [ 21 \ 5 ] وقوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون [ 37 \ 36 ] وقوله تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون [ 52 \ 30 ] . وأما تكذيب الله لهم في ذلك ، فقد ذكره في قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون الآية [ 69 \ 41 ] وقوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين [ 36 \ 96 ] وقوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين [ 37 \ 36 - 37 ] ; لأن [ ص: 105 ] قوله تعالى : بل جاء بالحق الآية ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون .مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة . المسألة الأولى : اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال : " لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا " ، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقوله في الحديث : " يريه " بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء ، مضارع ورى القيح جوفه ، يريه ، وريا إذا أكله وأفسده ، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد . واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن ، وقبيحه قبيح . ومن الأدلة القرآنية على ذلك أنه تعالى لما ذم الشعراء ، بقوله : يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ 26 \ 224 - 226 ] استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، في قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا الآية [ 26 \ 227 ] . وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر ، محمول على من أقبل على الشعر ، واشتغل به عن الذكر ، وتلاوة القرآن ، وطاعة الله تعالى ، وعلى الشعر القبيح المتضمن للكذب ، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيات ، ونحو ذلك .المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدا ، هل يقام عليه الحد ؟ على قولين : أحدهما : أنه يقام عليه لأنه أقر به ، والإقرار تثبت به الحدود . والثاني : أنه لا يحد بإقراره في الشعر ; لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد ، واقع لا نزاع فيه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي : أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد ، لا يقام عليه الحد ; لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد ، [ ص: 106 ] ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحد به ، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : وقد ذكر عن محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في " الطبقات " ، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة ، وكان يقول الشعر ، فقال : ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : إي والله إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ، وكتب إليه عمر : بسم الله الرحمن الرحيم ، حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير [ 40 \ 1 - 3 ] أما بعد : فقد بلغني قولك : لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم وايم الله إنه ليسوءني ، وقد عزلتك . فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط ، وما ذلك الشعر إلا شيء طفح على لساني ، فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا ، وقد قلت ما قلت ، فلم يذكر أنه حده على الشراب ، وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به ، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير ، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا . وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمان بن عبد الملك ، لما سمع قول الفرزدق : فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (426) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 107 إلى صـ 114 قال له : قد وجب عليك الحد ، فقال الفرزدق : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني [ ص: 107 ] الحد ، بقوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فلم يحده مع إقراره بموجب الحد . قوله تعالى : وأنهم يقولون ما لا يفعلون . هذا الذي ذكره هنا عن " الشعراء " من أنهم يقولون ما لا يفعلون ، بين في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده جل وعلا ، وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 2 - 3 ] والمقت في لغة العرب : البغض الشديد ، فقول الإنسان ما لا يفعل ، كما ذكر عن الشعر يبغضه الله ، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت ، والعلم عند الله تعالى .قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا الآية [ 18 \ 2 ] مع شواهده العربية .قوله تعالى : وذكروا الله كثيرا . أثنى الله تعالى في هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم الله كثيرا ، وهذا الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر الله ، أمر به في آيات أخر ، وبين جزاءه ; قال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 8 \ 45 ] وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ 33 \ 41 - 42 ] وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم الآية [ 3 \ 191 - 192 ] وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] .قوله تعالى : وانتصروا من بعد ما ظلموا . قد قدمنا الآيات الموضحة له ; كقوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس [ 42 \ 41 - 42 ] في آخر سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] .[ ص: 108 ] قوله تعالى : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . المنقلب هنا المرجع والمصير ، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي ، وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي ، واسم مكانه ، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول . والمعنى : وسيعلم الذين ظلموا أي مرجع يرجعون ، وأي مصير يصيرون ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون ، أي : يعلمون العاقبة السيئة التي هي مآلهم ومصيرهم ومرجعهم ، جاء في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 3 - 7 ] وقوله تعالى : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 42 ] وقوله تعالى : وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار [ 13 \ 42 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا . وقوله : أي منقلب ، ما ناب عن المطلق من قوله : ينقلبون ، وليس مفعولا به ، لقوله : وسيعلم ، قال القرطبي : و أي منصوب ينقلبون ، وهو بمعنى المصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ سيعلم ، لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون ، قال النحاس : وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر ، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض ، انتهى منه . والعلم عند الله تعالى . [ ص: 109 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة النمل قوله تعالى : هدى وبشرى للمؤمنين . تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] .قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا . إلى آخر القصة ، تقدم إيضاحه في " مريم " و " طه " ، و " الأعراف " .قوله تعالى : وورث سليمان داود . قد قدمنا أنها وراثة علم ودين ، لا وراثة مال في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 6 ] وبينا هناك الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال .قوله تعالى : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون . تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] وقوله : ألا يسجدوا لله ، كقوله تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 41 \ 37 ] وقوله تعالى : فاسجدوا لله واعبدوا [ 53 \ 62 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : الذي يخرج الخبء ، قال بعض أهل العلم : الخبء في السماوات : المطر ، والخبء في الأرض : النبات ، والمعادن ، والكنوز ، وهذا المعنى ملائم لقوله : يخرج الخبء ، وقال بعض أهل العلم : الخبء : السر والغيب ، أي : [ ص: 110 ] يعلم ما غاب في السماوات والأرض ; كما يدل عليه قوله بعده : ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، وكقوله في هذه السورة الكريمة : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ 27 \ 75 ] وقوله : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] كما أوضحناه في سورة " هود " ، وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير الكسائي : ألا يسجدوا لله بتشديد اللام في لفظة ( ألا ) ، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا ، فالفعل المضارع على هذه القراءة ، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر ، وقيل في محل جر وفي إعرابه أوجه : الأول : أنه منصوب على أنه مفعول من أجله ، أي : وزين لهم الشيطان أعمالهم ، من أجل ألا يسجدوا لله ، أي : من أجل عدم سجودهم لله ، أو فصدهم عن السبيل ، لأجل ألا يسجدوا لله ، وبالأول قال الأخفش . وبالثاني قال الكسائي ، وقال اليزيدي وغيره : هو منصوب على أنه بدل من أعمالهم ، أي : وزين لهم الشيطان أعمالهم ألا يسجدوا ، أي : عدم سجودهم ، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم لله ، وهذا الإعراب يدل على أن الترك عمل ; كما أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 \ 30 ] وقال بعضهم : إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من السبيل ، أو على أن العامل فيه فهم لا يهتدون ، وعلى هذين الوجهين فلفظة ( لا ) صلة ، فعلى الأول منهما . فالمعنى : فصدهم عن السبيل سجودهم لله ، وعلى هذا فسبيل الحق الذي صدوا عنه هو السجود لله ، ( ولا ) زائدة للتوكيد . وعلى الثاني ، فالمعنى : فهم لا يهتدون ؛ لأن يسجدوا لله ، أي : للسجود له ، ( ولا ) زائدة أيضا للتوكيد ، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل ، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيا ذكرت لفظة ( عدم ) قبل المصدر ، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل ، فقولك مثلا : عجبت من أن لا تقوم ، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول : عجبت من عدم قيامك ، وإذا كان الفعل مثبتا لم تذكر مع المصدر لفظة ( عدم ) ، فلو قلت : عجبت من أن تقوم ، فإنك تقول في سبك مصدره : عجبت من قيامك ; كما لا يخفى . وعليه : فالمصدر [ ص: 111 ] المنسبك من قوله : ألا يسجدوا يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفظة ( لا ) زائدة ، وقد أشرنا في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] إلى أنا أوضحنا الكلام على زيادة ( لا ) لتوكيد الكلام في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في أول سورة " البلد " ، في الكلام على قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] وسنذكر طرفا من كلامنا فيه هنا . فقد قلنا فيه : الأول وعليه الجمهور : أن ( لا ) هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده ; كقوله تعالى : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] يعني أن تتبعني ، وقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد ، أي : أن تسجد على أحد القولين . ويدل له قوله تعالى في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] وقوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون الآية [ 4 \ 65 ] أي : فوربك ، وقوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 \ 34 ] أي : والسيئة ، وقوله تعالى : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين . وقوله تعالى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] على أحد القولين . وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا الآية [ 6 \ 151 ] على أحد الأقوال الماضية ; وكقول أبي النجم : فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندر يعني : أن تسخر ، وقول الآخر : وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل يعني : أن أحبه ، و ( لا ) زائدة . وقول الآخر : أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله يعني : أبى جوده البخل ، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية البخل بالجر ; لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر ، وقول امرئ القيس : [ ص: 112 ] فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر يعني : وأبيك ، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر : ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر يعني : عمر و ( لا ) صلة ، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج : في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر والحور : الهلكة ، يعني : في بئر هلكة و ( لا ) صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره . وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي : أفعنك لا برق كان وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب ويروى : أفمنك وتشيمه ، بدل أفعنك وتسنمه ، يعني : أفعنك برق ، و ( لا ) صلة ، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر : تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع يعني : كاد يتقطع ، وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ : أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع فغلط منه ، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله ، مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي : لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي ، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية ، على القول بأن لا فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي ، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أول الكلام دون غيره ، فلا دليل عليه ، انتهى محل الغرض من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " . وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة : ألا يسجدوا بتخفيف اللام من قوله : ( ألا ) ، وعلى قراءة الكسائي هذه ، فلفظة ( ألا ) حرف استفتاح ، وتنبيه ويا [ ص: 113 ] حرف نداء ، والمنادى محذوف تقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات ، أنك إذا قيل لك : قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي ، أنك تقف في قوله : ألا يسجدوا ، ثلاث وقفات ، الأولى : أن تقف على ألا . والثانية : أن تقف على يا . والثالثة : أن تقف على اسجدوا ، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار ، وأما على قراءة الجمهور ، فإنك تقف وقفتين فقط : الأولى : على ( ألا ) ، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا ، والثانية : أنك تقف على يسجدوا . واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان ، الأولى : الألف المتصلة بياء النداء ، والثانية : ألف الوصل في قوله : ( اسجدوا ) ، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط ، بأنهما لما سقطتا في اللفظ ، سقطتا في الكتابة ، قالوا : ومثل ذلك في القرآن كثير . واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة ( ألا ) للاستفتاح والتنبيه ، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط ، واسجدوا فعل أمر ، قالوا : وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف ، ومنه قول الأخطل : ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وإن كان حيانا عدى آخر الدهر وقول ذي الرمة : ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر فقوله في البيتين : ألا يا اسلمي ، أي : يا هذه اسلمي ، وقول الآخر : لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد وقول الشماخ : ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي وقبل منايا قد حضرن وآجالي يعني : ألا يا صحبي اصبحاني ، ونظيره قول الآخر : ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر ومنه قول الآخر : [ ص: 114 ] فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي يعني : ألا يا هذا اسمع ، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته ، قول الشاعر : يا لعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان من جار بضم التاء من قوله : لعنة الله ، ثم قال : فيا لغير اللعنة ، يعني أن المراد : يا قوم لعنة الله ، إلى آخره . وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى ، مع ذكر أداته مستشهدا لقراءة الكسائي المذكورة ، قول الشاعر : يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم أم الهنينين من زندلها وارى ثم قال : كأنه أراد : يا قوم قاتل الله صبيانا ، وقول الآخر : يا من رأى بارقا أكفكفه بين ذراعي وجبهة الأسد ثم قال : كأنه دعا يا قوم يا إخوتي ، فلما أقبلوا عليه قال : من رأى . وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته ، قول عنترة في معلقته : يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم قالوا : التقدير : يا قوم انظروا شاة ما قنص . واعلم أن جماعة من أهل العلم ، قالوا : إن يا على قراءة الكسائي ، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء ، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا : حرف تنبيه كرر للتوكيد ، وممن روي عنه هذا القول : أبو الحسن بن عصفور ، وهذا القول اختاره أبو حيان في " البحر المحيط " ، قال فيه : والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء ، وحذف المنادى ; لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه ، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه ، وهو المنادى ، فكان ذلك إخلالا كبيرا ، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء ، وليس حرف النداء حرف جواب كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ، فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة ، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع [ ص: 115 ] الحرفين المختلفي اللفظ ، العاملين في قوله : فأصبحن لا يسألنني عن بما به ، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله : ولا للما بهم أبدا دواء . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (427) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 115 إلى صـ 122 وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا ، وليس يا في قوله : يا لعنة الله والأقوام كلهم . حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى ، لما ذكرناه . انتهى الغرض من كلام أبي حيان ، وما اختاره له وجه من النظر . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومما له وجه من النظر عندي في قراءة الكسائي ، أن يكون قوله : يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع ، بلا ناصب ، ولا جازم ، ولا نون توكيد ، ولا نون وقاية . وقد قال بعض أهل العلم : إن حذفها لا لموجب مما ذكر لغة صحيحة . قال النووي في " شرح مسلم " ، في الجزء السابع عشر في صفحة 702 ، ما نصه : قوله : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ، كذا هو في عامة النسخ ، كيف يسمعوا ، وأنى يجيبوا من غير نون ، وهي لغة صحيحة ، وإن كانت قليلة الاستعمال ، وسبق بيانها مرات . ومنها الحديث السابق في " الإيمان " : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا " ، انتهى منه . وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة ، فلا مانع من أن يكون قوله تعالى : يسجدوا ، في قراءة الكسائي فعلا مضارعا ، ولا شك أن هذا له وجه من النظر ، وقد اقتصرنا في سورة " الحجر " ، على أن حذفها مقصور على السماع ، وذكرنا بعض شواهده ، والعلم عند الله تعالى .تنبيهان . الأول : اعلم أن التحقيق أن آية " النمل " هذه ، محل سجدة على كلتا القراءتين ; لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود ، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود وتوبيخه ، وبه تعلم أن قول الزجاج ومن وافقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور ، وإنما هي [ ص: 116 ] محل سجود على قراءة الكسائي خلاف التحقيق ، وقد نبه على هذا الزمخشري وغيره .التنبيه الثاني : اعلم أنه على قراءة الجمهور ، لا يحسن الوقف على قوله : لا يهتدون ، وعلى قراءة الكسائي ، يحسن الوقف عليه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويعلم ما تخفون وما تعلنون [ 27 \ 25 ] قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب ، وقرأه الباقون : يخفون ، ويعلنون بالتحتية على الغيبة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه . جاء معناه موضحا في آيات متعددة ; كقوله تعالى : من عمل صالحا فلنفسه [ 41 \ 46 ] وقوله : ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] وقوله تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم [ 17 \ 7 ] . قوله تعالى : ومن كفر فإن ربي غني كريم . جاء معناه موضحا أيضا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيه صالحا إلى ثمود ، فإذا هم فريقان يختصمون ، ولم يبين هنا خصومة الفريقين ، ولكنه بين ذلك في سورة " الأعراف " ، في قوله تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون [ 7 \ 75 - 76 ] فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة ، الخصومة في الكفر والإيمان .[ ص: 117 ] قوله تعالى : قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] .قوله تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون . قوله : اطيرنا بك ، أي : تشاءمنا بك ، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب ، قالوا : ما جاءنا هذا إلا من شؤم صالح ، ومن آمن به . والتطير : التشاؤم ، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير . وقد بينا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] وقوله تعالى : قال طائركم عند الله ، قال بعض أهل العلم : أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله ، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح ، ومن آمن به من قومه . وقد قدمنا معنى طائر الإنسان في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه [ 17 \ 13 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين ، جاء مثله موضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 7 \ 131 ] وقوله تعالى في تطير كفار قريش بنبينا - صلى الله عليه وسلم - : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ 4 \ 78 ] والحسنة في الآيتين : النعمة كالرزق والخصب والعافية ، والسيئة : المصيبة بالجدب والقحط ، ونقص الأموال ، والأنفس ، والثمرات ; وكقوله تعالى : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم [ 36 \ 18 - 19 ] أي : بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل أنتم قوم تفتنون ، قال بعض العلماء : [ ص: 118 ] تختبرون . وقال بعضهم : تعذبون ; كقوله : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] وقد قدمنا أن أصل الفتنة في اللغة ، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص ؟ وأنها أطلقت في القرآن على أربعة معان : الأول : إطلاقها على الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] أي : حرقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين ، وقد اختاره بعض المحققين . . المعنى الثاني : إطلاق الفتنة على الاختبار ، وهذا هو أكثرها استعمالا ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] وقوله تعالى : لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . الثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة ، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 \ 193 ] أي : لا يبقى شرك ، وهذا التفسير الصحيح ، دل عليه الكتاب والسنة . أما الكتاب ، فقد دل عليه قوله بعده في " البقرة " : ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] وفي " الأنفال " : ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] فإنه يوضح أن معنى : لا تكون فتنة ، أي : لا يبقى شرك ; لأن الدين لا يكون كله لله ، ما دام في الأرض شرك ، كما ترى . وأما السنة : ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " ، الحديث . فقد جعل - صلى الله عليه وسلم - الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس ، هي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو واضح في أن معنى : لا تكون فتنة : لا يبقى شرك ، فالآية والحديث كلاهما دال على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفار هي ألا يبقى في الأرض شرك ، إلا أنه تعالى في الآية عبر عن هذا المعنى بقوله : حتى لا تكون فتنة ، وقد عبر - صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله : " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " ، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى ، كما ترى . الرابع : هو إطلاق الفتنة على الحجة ، في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ ص: 119 ] [ 6 \ 23 ] أي : لم تكن حجتهم ، كما قاله غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .قوله تعالى : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون . قد دلت هذه الآية الكريمة على أن نبي الله صالحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام نفعه الله بنصرة وليه ، أي : أوليائه ; لأنه مضاف إلى معرفة ، ووجه نصرتهم له : أن التسعة المذكورين في قوله تعالى : وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا [ 27 \ 48 - 49 ] أي : تحالفوا بالله ، لنبيتنه ، أي : لنباغتنه بياتا ، أي : ليلا فنقتله ونقتل أهله معه ، ثم لنقولن لوليه ، أي : أوليائه وعصبته ، ما شهدنا مهلك أهله ، أي : ولا مهلكه هو ، وهذا يدل على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنا ، لنصرة أوليائه له ، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه ، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمت إلى الدين بصلة ، وأن أولياءه ليسوا مسلمين . وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك الآية [ 11 \ 91 ] وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 19 ] . وقوله تعالى في هذه الآية : تقاسموا ، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول . وأجاز الزمخشري ، وابن عطية أن يكون ماضيا في موضع الحال ، والأول هو الصواب إن شاء الله ، ونسبه أبو حيان للجمهور ، وقوله في هذه الآية : وإنا لصادقون ، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم : وإنا لصادقون ، كما لا يخفى ، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في " الكشاف " ، من كونهم صادقين لا وجه له ، كما نبه عليه أبو حيان وأوضحه ، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي لنبيتنه بالنون المضمومة بعد اللام ، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة ، وقرأ حمزة والكسائي : لتبيتنه بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام ، وضم التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية ، وقرأ عامة السبعة أيضا غير حمزة والكسائي : ثم لنقولن ، بالنون المفتوحة موضع التاء ، وفتح اللام الثانية ، وقرأ حمزة والكسائي : ثم لتقولن ، بفتح التاء الفوقية بعد [ ص: 120 ] اللام الأولى ، وضم اللام الثانية ، وقرأ عاصم : مهلك أهله بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وقرأ حفص عن عاصم : مهلك بكسر اللام ، والباقون بفتحها . فتحصل أن حفصا عن عاصم قرأ مهلك بفتح الميم وكسر اللام ، وأن أبا بكر أعني شعبة قرأ عن عاصم : مهلك بفتح الميم واللام ، وأن غير عاصم قرأ : مهلك أهله ، بضم الميم وفتح اللام ، فعلى قراءة من قرأ مهلك بفتح الميم ، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي ، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان ، وعلى قراءة من قرأ مهلك بضم الميم ، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي ، ويحتمل أن يكون أيضا اسم مكان أو زمان .قوله تعالى : فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة ، ثلاثة أمور : الأول : أنه دمر جميع قوم صالح ، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وذلك في قوله : أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، أي : وهم قوم صالح ثمود ، فتلك بيوتهم خاوية ، أي : خالية من السكان لهلاك جميع أهلها ، بما ظلموا ، أي : بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمردهم وقتلهم ناقة الله التي جعلها آية لهم ، وقال بعضهم : خاوية ، أي : ساقطا أعلاها على أسفلها . الثاني : أنه جل وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية ، أي : عبرة يتعظ بها من بعدهم ، فيحذر من الكفر ، وتكذيب الرسل ، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير ، وذلك في قوله : إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . الثالث : أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون من الهلاك والعذاب ، وهو نبي الله صالح ومن آمن به من قومه ، وذلك في قوله تعالى : وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جل وعلا هنا ، جاءت موضحة في آيات أخر . أما إنجاؤه نبيه صالحا ، ومن آمن به وإهلاكه ثمود ، فقد أوضحه جل وعلا في [ ص: 121 ] مواضع من كتابه ; كقوله في سورة " هود " : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 66 ] - 68 ] . وآية " هود " هذه ، قد بينت أيضا التدمير المجمل في آية " النمل " هذه ، فالتدمير المذكور في قوله تعالى : أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، بينت آية " هود " أنه الإهلاك بالصيحة ، في قوله تعالى : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 67 ] أي : وهم موتى . وأما كونه جعل إهلاكه إياهم آية ، فقد أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى فيهم : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 26 \ 157 - 159 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : إنا دمرناهم بكسرة همزة إنا على الاستئناف ، وقرأه الكوفيون وهم : عاصم وحمزة والكسائي : أنا دمرناهم ، بفتح همزة أنا . وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه ، منها : أنه بدل من عاقبة مكرهم ، ومنها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره هي ، أي : عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم . وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب ، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه ، والضمير في قوله : مكرهم ، وفي قوله : دمرناهم ، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله : وكان في المدينة تسعة رهط الآية [ 27 \ 48 ] وقوله : خاوية حال في بيوتهم ، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك . قوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون إلى قوله تعالى فساء مطر المنذرين . قد قدمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة " هود " ، في الكلام على قصة لوط وقومه ، وبينا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط ، وذكرنا الآيات المبينة لها أيضا في سورة " الحجر " ، في الكلام على قصة لوط وقومه ، وذكرنا بعض ذلك في سورة " الفرقان " . [ ص: 122 ] وقوله تعالى : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما . وقوله تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآيات . قد أوضحنا ما تضمنته من البراهين على البعث في أول سورة " البقرة " ، وأول سورة " النحل " .قوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية [ 6 \ 59 ] وفي مواضع أخر . |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (428) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 123 إلى صـ 130 قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى : بل ادارك علمهم ، أي : تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها ، أي : يعلمون في الآخرة علما كاملا ، ما كانوا يجهلونه في الدنيا ، وقوله : بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، أي : في دار الدنيا ، فهذا الذي كانوا يشكون فيه في دار الدنيا ، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل ، يعلمونه في الآخرة علما كاملا لا يخالجه شك ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه من البعث والجزاء . وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسرين في الآية ، لأن القرآن دل عليه دلالة واضحة في آيات متعددة ; كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] فقوله : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، بمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا ، أي : يوم القيامة ، وهذا يوضح معنى قوله : بل ادارك علمهم في الآخرة ، أي : تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت ، وقوله : لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] يوضح معنى قوله : بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، لأن ضلالهم المبين اليوم ، أي : في دار الدنيا ، هو شكهم في الآخرة ، وعماهم [ ص: 123 ] عنها ; وكقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أي : علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد ، أي : قوي كامل . وقد بينا في كتابنا " دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " الشورى " ، في الجواب عما يتوهم من التعارض بين قوله تعالى : ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] وقوله تعالى : فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أن المراد بحدة البصر في ذلك اليوم : كمال العلم وقوة المعرفة . وقوله تعالى : ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] فقوله : إنا موقنون أي : يوم القيامة ، يوضح معنى قوله هنا : بل ادارك علمهم في الآخرة ، وكقوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع [ 18 \ 48 ] فعرضهم على ربهم صفا يتدارك به علمهم ، لما كانوا ينكرونه ، وقوله : بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شك وعمى عن البعث والجزاء كما ترى ، إلى غير ذلك من الآيات . واعلم أن قوله : بل ادارك ، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيتان ، فقد قرأه عامة السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو : بل ادارك بكسر اللام من بل وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل ، وأصله : تدارك بوزن : تفاعل ، وقد قدمنا وجه الإدغام ، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرآن ، وبعض شواهده العربية في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 \ 117 ] وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك بسكون اللام من بل ، وهمزة قطع مفتوحة ، مع سكون الدال على وزن : أفعل . والمعنى على قراءة الجمهور : بل ادارك علمهم ، أي : تدارك بمعنى تكامل ; كقوله : حتى إذا اداركوا فيها جميعا [ 7 \ 38 ] وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو : بل أدرك . قال البغوي : أي بلغ ولحق ، كما يقال : أدرك علمي إذا لحقه وبلغه ، والإضراب في قوله تعالى : بل ادارك ، بل هم في شك ، بل هم منها عمون ، إضراب انتقالي ، والظاهر أن من في قوله تعالى : بل هم منها عمون ، بمعنى : عن ، [ ص: 124 ] و عمون جمع عم ، وهو الوصف من عمي يعمى فهو أعمى وعم ، ومنه قوله تعالى : إنهم كانوا قوما عمين [ 7 \ 64 ] وقول زهير في معلقته : وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم قوله تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون . ومن ذلك اختلافهم في عيسى ، فقد قدمنا في سورة " مريم " ، ادعاءهم على أمه الفاحشة ، مع أن طائفة منهم آمنت به ; كما يشير إليه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة [ 61 \ 41 ] والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى ، والتي كفرت افترت عليه وعلى أمه ، كما تقدم إيضاحه في سورة " مريم " . وقد قص الله عليهم في سورة " مريم " وسورة " النساء " وغيرهما ، حقيقة عيسى ابن مريم ، وهي أنه عبد الله [ 19 \ 30 ] ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ولما بين لهم حقيقة أمره مفصلة في سورة " مريم " قال : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون [ 19 \ 34 ] وذلك يبين بعض ما دل عليه قوله تعالى هنا : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون . قوله تعالى : وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] . قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أن معنى قوله : إنك لا تسمع الموتى ، لا يصح فيه من أقوال العلماء ، إلا تفسيران : الأول : أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم ، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع ; لأن الله كتب عليهم الشقاء ، فختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، [ ص: 125 ] وعلى أبصارهم الغشاوة ، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع . ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا ، أنه جل وعلا قال بعده : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع [ 27 \ 81 ] . فاتضح بهذه القرينة أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول للحق ، ما تسمع ذلك الإسماع وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها لمن يؤمن بآياته ، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء ، لا موت مفارقة الروح للبدن ، ولو كان المراد بالموت في قوله : إنك لا تسمع الموتى ، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله : إنك لا تسمع الموتى بقوله : إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا بل لقابله بما يناسبه ، كأن يقال : إن تسمع إلا من لم يمت ، أي : يفارق روحه بدنه ، كما هو واضح . وإذا علمت أن هذه القرينة القرآنية دلت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء ، الذين لا يسمعون الحق سماع هدى وقبول . فاعلم أن استقراء القرآن العظيم يدل على هذا المعنى ; كقوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون [ 6 \ 36 ] وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله : الكفار ، ويدل له مقابلة الموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله بالذين يسمعون في قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون ، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية [ 6 \ 35 ] أي : فافعل ، ثم قال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون الآية [ 6 \ 35 - 36 ] وهذا واضح فيما ذكرنا . ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم ; كأن يقال : إنما يستجيب الأحياء ، أي : الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم ، وكقوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون [ 6 \ 122 ] . [ ص: 126 ] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أومن كان ميتا ، أي : كافرا فأحييناه ، أي : بالإيمان والهدى ، وهذا لا نزاع فيه ، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف ; وكقوله : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] وكقوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : لا يستوي المؤمنون والكافرون . ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى ، أن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية ، وما في معناها من الآيات كلها ، تسلية له - صلى الله عليه وسلم - لأنه يحزنه عدم إيمانهم ، كما بينه تعالى في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] وقوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون الآية [ 15 \ 97 ] وقوله : ولا تحزن عليهم الآية [ 16 \ 127 ] وقوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] وكقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 \ 8 ] وقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] وقوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه . ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم ، أنزل الله آيات كثيرة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - بين له فيها أنه لا قدرة له - صلى الله عليه وسلم - على هدى من أضله الله ، فإن الهدى والإضلال بيده جل وعلا وحده ، وأوضح له أنه نذير ، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أكمل الوجوه وأبلغها ، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم . ومن الآيات النازلة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، قوله هنا : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، يعني : ما تسمع إسماع هدى وقبول إلا من هديناهم للإيمان بآياتنا فهم مسلمون . والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ; كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] وقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] وقوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 ] إلى غير [ ص: 127 ] ذلك من الآيات . ولو كان معنى الآية وما شابهها : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم - كما ترى . واعلم : أن آية " النمل " هذه جاءت آيتان أخريان بمعناها : الأولى منهما : قوله تعالى في سورة " الروم " : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون [ 30 \ 52 - 53 ] ولفظ آية " الروم " هذه كلفظ آية " النمل " التي نحن بصددها ، فيكفي في بيان آية " الروم " ، ما ذكرنا في آية " النمل " . والثانية منهما : قوله تعالى في سورة " فاطر " : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] وآية " فاطر " هذه كآية " النمل " و " الروم " المتقدمتين ، لأن المراد بقوله فيها : من في القبور الموتى ، فلا فرق بين قوله : إنك لا تسمع الموتى ، وبين قوله : وما أنت بمسمع من في القبور ; لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد ; كقوله تعالى : وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 7 ] أي : يبعث جميع الموتى من قبر منهم ومن لم يقبر ، وقد دلت قرائن قرآنية أيضا على أن معنى آية " فاطر " هذه كمعنى آية " الروم " ، منها قوله تعالى قبلها : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة الآية [ 35 \ 18 ] لأن معناها : لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة ، وما أنت بمسمع من في القبور ، أي : الموتى ، أي : الكفار الذين سبق لهم الشقاء كما تقدم . ومنها قوله تعالى أيضا : وما يستوي الأعمى والبصير [ 35 \ 19 ] أي : المؤمن والكافر . وقوله تعالى بعدها : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : المؤمنون والكفار . ومنها قوله تعالى بعده : إن أنت إلا نذير [ 52 \ 23 ] أي : ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير ، أي : وقد بلغت . التفسير الثاني : هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل ، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله : إنك لا تسمع الموتى خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به ، وأن هذا مثل ضرب للكفار ، والكفار يسمعون الصوت ، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء [ ص: 128 ] ونداء [ 2 \ 171 ] فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به ، وأما سماع آخر فلا ، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث . وهذا التفسير الأخير دلت عليه أيضا آيات من كتاب الله ، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون ، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره ، فهم يسمعون غيره ، وكذلك في البصر والكلام ، وذلك كقوله تعالى في المنافقين : صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ 2 \ 18 ] فقد قال فيهم : صم بكم مع شدة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم ، كما صرح به في قوله تعالى فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] أي : لفصاحتهم ، وقوله تعالى : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم ، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد ، هم الذين قال الله فيهم : صم بكم عمي ، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص ، وهو ما ينتفع به من الحق ، فهذا وحده هو الذي صموا عنه فلم يسمعوه ، وبكموا عنه فلم ينطقوا به ، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه ، وينطقون به ; كما قال تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء الآية [ 46 \ 26 ] وهذا واضح كما ترى . وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " البقرة " في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين : صم بكم عمي [ 2 \ 18 ] مع قوله فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] وقوله فيهم : سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] وقوله فيهم أيضا : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع ، الذي لا فائدة فيه ، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك . مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة . اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من [ ص: 129 ] كلمهم ، وأن قول عائشة - رضي الله عنها - ومن تبعها : إنهم لا يسمعون ، استدلالا بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها ، وممن تبعها . وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين : الأولى منهما : أن سماع الموتى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث متعددة ثبوتا لا مطعن فيه ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت . والمقدمة الثانية : هي أن النصوص الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها ، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة ، لا يجب الرجوع إليه ; لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه ، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأول بعض الصحابة بعض الآيات ، وسنوضح هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين ، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من غير معارض صريح ، علم بذلك رجحان ما ذكرنا ، أن الدليل يقتضي رجحانه . أما المقدمة الأولى ، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد قال البخاري في صحيحه : حدثني عبد الله بن محمد ، سمع روح بن عبادة ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة : أحياهم الله له حتى أسمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما . فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الموتى بعد ثلاث ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - في ذلك [ ص: 130 ] تخصيصا ، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه ، فيما يظهر . وقال البخاري في " صحيحه " أيضا : حدثني عثمان ، حدثني عبدة عن هشام عن أبيه ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر ، فقال : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ ثم قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " ، فذكر لعائشة ، فقالت : إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، ثم قرأت : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية ، انتهى من صحيح البخاري . وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين هما : ابن عمر ، وأبو طلحة ، تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم ، ورد عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرآن مردود ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى . وقد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 17 \ 15 ] ، أن ردها على ابن عمر أيضا روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يعذب ببكاء أهله بما فهمت من الآية - مردود أيضا ، وأوضحنا أن الحق مع ابن عمر في روايته لا معها فيما فهمت من القرآن . وقال البخاري في " صحيحه " أيضا : حدثنا عياش ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، قال : وقال لي خليفة : حدثنا ابن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة " الحديث ، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الميت في قبره ، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - فيه تخصيصا . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (429) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 131 إلى صـ 138 وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، قال : قال أنس : كنت مع عمر [ ح ] ، وحدثنا شيبان بن فروخ ، واللفظ له : حدثنا سليمان بن المغيرة بن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال ، الحديث . وفيه : فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس ، يقول : " هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله " ، قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلوا في بئر [ ص: 131 ] بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إليهم فقال : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا " ، قال عمر : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا " . حدثنا هداب بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم ، فقام عليهم فناداهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعدكم الله حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا ، فألقوا في قليب بدر . ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة ، التي ذكرناها عن البخاري ، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه ، وأنس ، وأبي طلحة رضي الله عنهم ، فيها التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولم يذكر تخصيصا ، وقال مسلم رحمه الله في " صحيحه " أيضا : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ، قال : قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " ، قال : " يأتيه ملكان فيعقدانه " الحديث ، وفيه تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بسماع الميت في قبره قرع النعال ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، وظاهره العموم في كل من دفن وتولى عنه قومه ، كما ترى . ومن الأحاديث الدالة على عموم سماع الموتى ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، ويحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، قال يحيى بن يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك ، وهو ابن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " ، ولم يقم قتيبة قوله : " وأتاكم ما توعدون " ، وفي رواية في صحيح مسلم عنها ، قالت : كيف أقول لهم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " قولي : السلام على أهل [ ص: 132 ] الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " ، ثم قال مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر ، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر : " السلام على أهل الديار " ، وفي رواية زهير : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، انتهى من " صحيح مسلم " . وخطابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور بقوله : " السلام عليكم " ، وقوله : " وإنا إن شاء الله بكم " ، ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء ، فمن البعيد جدا صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي إن شاء الله ذكر حديث عمرو بن العاص الدال على أن الميت في قبره يستأنس بوجود الحي عنده . وإذا رأيت هذه الأدلة الصحيحة الدالة على سماع الموتى ، فاعلم أن الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، وقوله : وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] لا تخالفها ، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها ، وذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وأن استقراء القرآن يدل عليه . وممن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية ، فقد قال في الجزء الرابع من " مجموع الفتاوي " من صحيفة خمس وتسعين ومائتين ، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين ، ما نصه : وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة ، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " . وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن خير أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي " ، قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه ، مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء ، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة ، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسلام على الموتى ، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم [ ص: 133 ] أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم " . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة ، ولكن لا يجب أن يكون دائما على البدن في كل وقت ، بل يجوز أن يكون في حال . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله كيف يسمعون وقد جيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر ، وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قليب بدر ، فقال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ؟ وقال : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " ، فذكر ذلك لعائشة فقالت : وهم ابن عمر ، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق " ، ثم قرأت قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية . وأهل العلم بالحديث اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر ، وإن كانا لم يشهدا بدرا ، فإن أنسا روى ذلك عن أبي طلحة ، وأبو طلحة شهد بدرا كما روى أبو حاتم في صحيحه ، عن أنس ، عن أبي طلحة رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر ، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال ، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ، ثم مشى وتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفاء الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ، قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة : أحياهم الله [ ص: 134 ] حتى أسمعهم توبيخا ، وتصغيرا ، ونقمة ، وحسرة ، وتنديما ، وعائشة قالت فيما ذكرته كما تأولت . والنص الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره ، وليس في القرآن ما ينفي ذلك ، فإن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه ، فإن هذا مثل ضربه الله للكفار ، والكفار تسمع الصوت ، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [ 2 \ 171 ] ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به . وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك ، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية . وقد تراه صرح فيه بأن تأول عائشة لا يرد به النص الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه ليس في القرآن ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة . وإذا علمت به أن القرآن ليس فيه ما ينفي السماع المذكور ، علمت أنه ثابت بالنص الصحيح ، من غير معارض . والحاصل أن تأول عائشة - رضي الله عنها - بعض آيات القرآن ، لا ترد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ويتأكد ، ذلك بثلاثة أمور : الأول : هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا ترد بالتأويل . الثاني : أن عائشة - رضي الله عنها - لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " ، قالت : إن الذي قاله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، فأنكرت السماع ونفته عنهم ، وأثبتت لهم العلم ، ومعلوم أن من ثبت له العلم صح منه السماع ، كما نبه عليه بعضهم . الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها ، إلى الروايات الصحيحة . ب قال ابن حجر في " فتح الباري " : ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد ، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة ، وفيه : " ما أنتم بأسمع لما [ ص: 135 ] أقول منهم " ، وأخرجه أحمد بإسناد حسن ، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة ; لكونها لم تشهد القصة ، انتهى منه . واحتمال رجوعها لما ذكر قوي ، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين . قال ابن حجر : إن أحدهما جيد ، والآخر حسن . ثم قال ابن حجر : قال الإسماعيلي : كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ، ما لا مزيد عليه ، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه ، أو استحالته ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . وقال ابن القيم في أول " كتاب الروح " : المسألة الأولى : وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا ؟ قال ابن عبد البر : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " ، فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ، ويرد عليه السلام . وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة : أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فقال له عمر : يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ، فقال : " والذي بعثني بالحق ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون جوابا " . وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور ، أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميت يعرف زيارة الحي له ، ويستبشر له ، قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في " كتاب القبور " : باب في معرفة الموتى بزيارة الأحياء . حدثنا محمد بن عون ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن عبد الله بن سمعان ، عن زيد بن أسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه ، حتى يقوم " . حدثنا محمد بن قدامة الجوهري ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، أخبرنا هشام بن سعد ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة [ ص: 136 ] - رضي الله تعالى عنه - قال : إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه ، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام . وذكر ابن القيم في كلام أبي الدنيا وغيره آثارا تقتضي سماع الموتى ، ومعرفتهم لمن يزورهم ، وذكر في ذلك مرائي كثيرا جدا ، ثم قال : وهذه المرائي ، وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك ، فهي على كثرتها ، وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر " ، يعني ليلة القدر ، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء ، كان كتواطؤ روايتهم له ، ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور ، وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه ، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياق الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار . . الحديث ، وفيه : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ، ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي ، فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم ، ا هـ . ومعلوم أن هذا الحديث له حكم الرفع ، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره لا مجال للرأي فيه . ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور : ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا ، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره ، لم يصح أن يقال : زاره ، وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم ، وكذلك السلام عليهم أيضا ، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ، ويخاطب ، ويعقل ، ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد . ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل قوله : وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلي على هذا ، فقال : ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ، ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ، ثم قال : ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من [ ص: 137 ] رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه ، إلا عرفه ورد عليه السلام " . ويروى من حديث أبي هريرة مرفوعا ، قال : " فإن لم يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام " ، قال : ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده ، إلا استأنس به حتى يقوم " ، واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " . ثم ذكر ابن القيم عن عبد الحق وغيره مرائي وآثارا في الموضوع ، ثم قال في كلامه الطويل : ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن ، من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة ، وكان عبثا . وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله ، فاستحسنه واحتج عليه بالعمل . ويروى فيه حديث ضعيف : ذكر الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب ، فليقم أحدكم على رأس قبره ، فيقول : يا فلان بن فلانة " ، الحديث . وفيه : " اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنك رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما " ، الحديث . ثم قال ابن القيم : فهذا الحديث وإن لم يثبت ، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به ، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، وهي أكمل الأمم عقولا ، وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع ، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر ، ويقتدي فيه الآخر بالأول ، فلولا أن الخطاب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب ، والخشب والحجر والمعدوم ، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه . وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة رجل ، فلما دفن قال : " سلوا لأخيكم التثبيت ، فإنه الآن يسأل " ، فأخبر أنه يسأل حينئذ ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا مدبرين . ثم ذكر ابن القيم قصة الصعب بن جثامة ، وعوف بن مالك ، وتنفيذ عوف لوصية الصعب له في المنام بعد موته ، وأثنى على عوف بن مالك بالفقه في تنفيذه وصية الصعب بعد موته ، لما [ ص: 138 ] علم صحة ذلك بالقرائن ، وكان في الوصية التي نفذها عوف إعطاء عشرة دنانير ليهودي من تركة الصعب كانت دينا له عليه ، ومات قبل قضائها . قال ابن القيم : وهذا من فقه عوف بن مالك رضي الله عنه ، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته ، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها ، من أن الدنانير عشرة وهي في القرن ، ثم سأل اليهودي فطابق قوله ما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر ، فأعطى اليهودي الدنانير ، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم ، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ، ويقول : كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعبة ، وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام . ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وصية ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه بعد موته ، وفي وصيته المذكورة قضاء دين عينه لرجل في المنام ، وعتق بعض رقيقه ، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل فيه درعه الرجل الذي سرقها ، فوجدوا الأمر كما قال ، وقصته مشهورة . وإذا كانت وصية الميت بعد موته قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك يدل على أنه يدرك ويعقل ويسمع ، ثم قال ابن القيم في خاتمة كلامه الطويل : والمقصود جواب السائل وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها ، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعاؤه له أولى وأحرى ، ا هـ . فكلام ابن القيم هذا الطويل الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلا ، فيه من الأدلة المقنعة ما يكفي في الدلالة على سماع الأموات ، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية ، وفي كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة ، وآثار كثيرة ، ومرائي متواترة وغير ذلك ، ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيم من تلقين الميت بعد الدفن ، أنكره بعض أهل العلم ، وقال : إنه بدعة ، وأنه لا دليل عليه ، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل به إلا أهل الشام ، وقد رأيت ابن القيم استدل له بأدلة ، منها : أن الإمام أحمد رحمه الله سئل عنه فاستحسنه . واحتج عليه بالعمل . ومنها : أن عمل المسلمين اتصل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (430) سُورَةُ الشُّعَرَاءِ . صـ 139 إلى صـ 146 ومنها : أن الميت يسمع قرع نعال الدافنين إذا ولوا مدبرين ، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدا ; لأنه إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال ، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب النعال أولى [ ص: 139 ] وأحرى ، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود : " سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل " ، له وجه من النظر ; لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع تلقين الملقن ، والله أعلم . والفرق بين سماعه سؤال الملك وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالا قويا ، وما ذكره بعضهم من أن التلقين بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام ، يقال فيه : إنهم هم أول من فعله ، ولكن الناس تبعوهم في ذلك ، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية . قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره : ( وتلقينه الشهادة ) وجزم النووي باستحباب التلقين بعد الدفن . وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة والإرشاد ، وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من المالكية ، فقال : هو الذي نختاره ونعمل به ، وقد روينا فيه حديثا عن أبي أمامة ليس بالقوي ، ولكنه اعتضد بالشواهد ، وعمل أهل الشام قديما ، إلى أن قال : وقال في المدخل : ينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه من كان من أهل الفضل والدين ، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويلقنه ; لأن الملكين عليهما السلام ، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال المنصرفين . وقد روى أبو داود في سننه عن عثمان - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ، وقال : " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " ، إلى أن قال : وقد كان سيدي أبو حامد بن البقال ، وكان من كبار العلماء والصلحاء ، إذا حضر جنازة عزى وليها بعد الدفن ، وانصرف مع من ينصرف ، فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس ، ثم يأتي إلى القبر ، فيذكر الميت بما يجاوب به الملكين عليهما السلام ، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب . وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى . ثم قال الحطاب : واستحب التلقين بعد الدفن أيضا القرطبي والثعالبي وغيرهما ، ويظهر من كلام أبي . . . في أول كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم ، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب " الإيمان " ميل إليه ، انتهى من الحطاب . وحديث عمرو بن العاص المشار إليه ، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدم . قال مسلم في " صحيحه " : حدثنا محمد بن المثنى العنزي ، وأبو معن الرقاشي ، وإسحاق بن منصور ، كلهم عن أبي عاصم . واللفظ لابن المثنى : حدثنا الضحاك ، يعني أبا عاصم ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة [ ص: 140 ] المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار ، الحديث . وقد قدمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيم المذكور ، وقدمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع ، وأنه دليل صحيح على استئناس الميت بوجود الأحياء عند قبره . وقال النووي في " روضة الطالبين " ، ما نصه : ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن ، فيقال : يا عبد الله ابن أمة الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن البعث حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأنت رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا ، ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم . قلت : هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا ، منهم القاضي حسين ، وصاحب التتمة ، والشيخ نصر المقدسي في كتابه " التهذيب " وغيرهم ، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا ، والحديث الوارد فيه ضعيف ، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم ، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة ; كحديث : " اسألوا له التثبيت " ، ووصية عمرو بن العاص : أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي ، رواه مسلم في صحيحه ، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين ، من العصر الأول ، وفي زمن من يقتدى به ، ا هـ محل الغرض من كلام النووي . وبما ذكر ابن القيم وابن الطلاع ، وصاحب المدخل من المالكية ، والنووي من الشافعية ، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر ; لأنه جاء فيه حديث ضعيف ، واعتضد بشواهد صحيحة ، وبعمل أهل الشام قديما ، ومتابعة غيرهم لهم . وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف في أحاديث الفضائل ، ولا سيما المعتضد منها بصحيح ، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن مركبة من شيئين : أحدهما : سماع الميت كلام ملقنه بعد دفنه . [ ص: 141 ] والثاني : انتفاعه بذلك التلقين ، وكلاهما ثابت في الجملة ، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين ، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله كما ترى . وأما انتفاعه بكلام الملقن ، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث : " سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن " ، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوي جدا كما ترى ، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له ، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه وإرشاده إلى جواب الملكين ، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي ، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال ، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين . وفي ذلك كله دليل على سماع الميت كلام الحي ، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السلام عليه ، وخطابه خطاب من يسمع ، ويعلم عند زيارته ، كما تقدم إيضاحه ; لأن كلا منهما خطاب له في قبره ، وقد انتصرابن كثير رحمه الله في تفسير سورة " الروم " ، في كلامه على قوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ، إلى قوله : فهم مسلمون [ 30 \ 32 - 33 ] ، لسماع الموتى ، وأورد في ذلك كثيرا من الأدلة التي قدمنا في كلام ابن القيم ، وابن أبي الدنيا وغيرهما ، وكثيرا من المرائي الدالة على ذلك ، وقد قدمنا الحديث الدال على أن المرائي إذا تواترت أفادت الحجة ، ومما قال في كلامه المذكور : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية : فإنك لا تسمع الموتى ، على توهيم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، في روايته مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ، إلى أن قال : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، لما لها من الشواهد على صحتها ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا : " ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه " ، الحديث . وقد قدمناه في هذا المبحث مرارا ، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث في الكلام على آية " النمل " هذه تعلم أن الذي يرجحه الدليل : أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا : إن الله يرد عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردوا الجواب ، أو قلنا : إن الأرواح أيضا تسمع وترد بعد فناء الأجسام ، لأنا قد قدمنا أن هذا ينبني على مقدمتين : ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة ، وأن القرآن لا يعارضها على التفسير [ ص: 142 ] الصحيح الذي تشهد له القرائن القرآنية ، واستقراء القرآن ، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من غير معارض من كتاب ولا سنة ظهر بذلك رجحانه على تأول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها بعض آيات القرآن ، كما تقدم إيضاحه . وفي الأدلة التي ذكرها ابن القيم في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف ، وقد زدنا عليها ما رأيت ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون . ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات الله ، ولكنه قد دلت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق ; كقوله تعالى بعد هذا بقليل : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، وقوله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] ، وقوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا [ 6 \ 22 ] ، وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد أوضحنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في آية " النمل " هذه ، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها : ويوم نحشر من كل أمة فوجا الآية ، وبين قوله تعالى : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، ونحوها من الآيات ، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله : وكل أتوه داخرين في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء . وقوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة ; لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا : حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما الآية [ 27 \ 84 ] ، وهذا يدل عليه القرآن ، كما ترى . وقال بعضهم : هذه الأفواج التي تحشر حشرا خاصا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم ، وعليه فالآية كقوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا [ 19 \ 68 - 69 ] ، والفوج : الجماعة من الناس . ومنه قوله تعالى : يدخلون في دين الله أفواجا [ 110 \ 2 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم يوزعون ، أي : يرد أولهم على [ ص: 143 ] آخرهم حتى يجتمعوا ، ثم يدفعون جميعا ، كما قاله غير واحد . قوله تعالى : حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم ، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى : أكذبتم بآياتي ، لأن التصديق بآيات الله التي هي هذا القرآن من عقائد الإيمان التي لا بد منها ، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره ، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى : أم ماذا كنتم تعملون ، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع ، فقد وبخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد ، وفساد الأعمال ، والتوبيخ عليهما معا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ] ، كما أشار له ابن كثير رحمه الله ، فقوله تعالى : فلا صدق ، وقوله : ولكن كذب ، توبيخ على فساد الاعتقاد . وقوله : ولا صلى : توبيخ على إضاعة العمل . قوله تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون . الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب ، كما يوضحه قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم لا ينطقون ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة ; كما يفهم ذلك من قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ 77 \ 35 ] ، وقوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، مع أنه بينت آيات أخر من كتاب الله أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون ; كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله تعالى عنهم : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] ، وقوله تعالى عنهم : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون [ 23 \ 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : ونادوا يامالك [ ص: 144 ] الآية [ 43 \ 77 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كلامهم يوم القيامة . وقد بينا الجواب عن هذا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " المرسلات " ، في الكلام على قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون [ 77 \ 35 ] ، وما ذكرنا من الآيات . فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن ، ففي بعضها ينطقون ، وفي بعضها لا ينطقون ، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته . ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه ، والنطق المنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك ، وقد ذكرنا شيئا من أجوبة ذلك في " الفرقان " و " طه " ، و " الإسراء " . قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل الآية [ 17 \ 12 ] . قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون . قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، وذكرنا في ترجمته أيضا أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى ، بكونه هو الغالب في القرآن ; لأن غلبته فيه ، تدل على عدم خروجه من معنى الآية ، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك ، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معا آية " النمل " هذه . وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة ، أي : واقفة ساكنة غير متحركة ، وهي تمر مر السحاب ، ونحوه قول النابغة يصف جيشا : بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج والنوعان المذكوران من أنواع البيان ، يبينان عدم صحة هذا القول . [ ص: 145 ] أما الأول منهما : وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته ، فهو أن قوله تعالى : وترى الجبال معطوف على قوله : ففزع ، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات الآية [ 27 \ 87 ] ، أي : ويوم ينفخ في الصور ، فيفزع من في السماوات وترى الجبال ، فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور ، لا الآن . وأما الثاني : وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح ; لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة ; كقوله تعالى : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 10 ] ، وقوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقوله تعالى : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : صنع الله الذي أتقن كل شيء ، جاء نحوه في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] ، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها ، كل ذلك صنع متقن . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه خبير بما تفعلون قد قدمنا الآيات التي بمعناه في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، إلى قوله : إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] . قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها . اعلم : أن الحسنة في هذه الآية الكريمة تشمل نوعين من الحسنات : الأول : حسنة هي فعل خير من أفعال العبد ، كالإنفاق في سبيل الله ، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة الله ، ونحو ذلك ، ومعنى قوله تعالى : فله خير منها ، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات ، أن الثواب مضاعف ، فهو خير من نفس العمل ; لأن من أنفق درهما واحدا في سبيل الله فأعطاه الله ثوابا هو سبعمائة درهم فله عند الله ثواب هو سبعمائة درهم مثلا ، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد ، وهذا لا إشكال فيه كما ترى . [ ص: 146 ] وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] ، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها ; وكقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] . وأما النوع الثاني من الحسنة : فكقول من قال من أهل العلم : إن المراد بالحسنة في هذه الآية : لا إله إلا الله ، ولا يوجد شيء خير من لا إله إلا الله ، بل هي أساس الخير كله ، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة خير ليست صيغة تفضيل . وأن المعنى : فله خير عظيم عند الله حاصل له منها ، أي : من قبلها ومن أجلها ، وعليه فلفظة من في الآية ; كقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] ، أي : من أجل خطيئاتهم أغرقوا ، فأدخلوا نارا . وأما على الأول فخير صيغة تفضيل ، ويحتمل عندي أن لفظة خير على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضا ، ولا يراد بها تفضيل شيء على لا إله إلا الله ، بل المراد أن كلمة لا إله إلا الله تعبد بها العبد في دار الدنيا ، وتعبده بها فعله المحض ، وقد أثابه الله في الآخرة على تعبده بها ، وإثابة الله فعله جل وعلا ، ولا شك أن فعل الله خير من فعل عبده ، والعلم عند الله تعالى . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (431) سُورَةُ الْقَصَصِ صـ 147 إلى صـ 154 قوله تعالى : وهم من فزع يومئذ آمنون . دلت على معناه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى في أمنهم من الفزع : لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة الآية [ 21 \ 103 ] ، وقوله تعالى في أمنهم : فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية [ 41 \ 40 ] ، وقوله تعالى : وهم من فزع يومئذ [ 27 \ 89 ] ، قرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي بتنوين فزع ، وفتح ميم يومئذ ، وقرأه الباقون بغير تنوين ، بل بالإضافة إلى يومئذ ، إلا أن نافعا قرأ بفتح ميم يومئذ مع إضافة فزع إليه ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو بإضافة فزع إلى يومئذ مع كسر ميم يومئذ ، وفتح الميم وكسرها من نحو يومئذ ، قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة [ ص: 147 ] " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت الآية [ 19 \ 15 ] . قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وأبو وائل ، وأبو صالح ، ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، والزهري ، والسدي ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد ، في قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة ، يعني الشرك . وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين : الأول : أن من جاء ربه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكب وجهه في النار . والثاني : أن السيئة إنما تجزى بمثلها من غير زيادة ، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في الأول منهما : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] ، وكقوله تعالى في الثاني منهما : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها الآية [ 6 \ 160 ] ، وقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [ 28 \ 84 ] ، وقوله تعالى : جزاء وفاقا [ 78 \ 26 ] . وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف ، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان ; كقوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] ، أو حرمة الزمان ; كقوله تعالى في الأشهر الحرام : فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] . وقد دلت آيات من كتاب الله أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف ; كقوله تعالى في نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 47 ] ، وقوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الآية [ 69 \ 44 - 46 ] ، [ ص: 148 ] وكقوله تعالى في أزواجه - صلى الله عليه وسلم - : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الآية [ 33 \ 30 ] ، وقد قدمنا طرفا من الكلام على هذا ، في الكلام على قوله تعالى : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 75 ] ، مع تفسير الآية ، ومضاعفة السيئة المشار إليها في هاتين الآيتين ، إن كانت بسبب عظم الذنب ، حتى صار في عظمه كذنبين ، فلا إشكال ، وإن كانت مضاعفة جزاء السيئة كانت هاتان الآيتان مخصصتين للآيات المصرحة ، بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها ، والجميع محتمل ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة . جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم الآية [ 10 \ 104 ] ، وقوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف 106 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن . قد قدمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله : وأمرت أن أكون من المسلمين ، في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أمرت أن أكون أول من أسلم الآية [ 6 \ 14 ] . وقد قدمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا : وأن أتلو القرآن ، في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك الآية [ 18 \ 27 ] . قوله تعالى : ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين . جاء معناه مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، وقوله تعالى : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ 11 \ 12 ] ، وقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى [ ص: 149 ] وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها . جاء معناه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] . قوله تعالى : وما ربك بغافل عما تعملون . جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم : عما تعملون بتاء الخطاب ، وقرأ الباقون عما يعملون بياء الغيبة . [ ص: 150 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْقَصَصِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ، هُوَ الْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً جَمْعَ إِمَامٍ ، أَيْ : قَادَةً فِي الْخَيْرِ ، دُعَاةً إِلَيْهِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ وَارِثِيهِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَبَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ 32 \ 24 ] ، فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ هُمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ لَهُ وَارِثِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ 44 \ 25 - 28 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ 26 \ 57 - 59 ] . قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . اعلم أن التحقيق إن شاء الله ، أن اللام في قوله : فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 \ 8 ] ، لام التعليل المعروفة بلام كي ، وذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز ، ويدل على ذلك قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 \ 30 ] . وإيضاح ذلك أن قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، صريح في أن الله تعالى يصرف مشيئة العبد وقدرته بمشيئته جل وعلا ، إلى ما سبق به علمه ، وقد صرف مشيئة فرعون وقومه بمشيئته جل وعلا ، إلى التقاطهم موسى ; ليجعله لهم عدوا وحزنا ، [ ص: 151 ] فكأنه يقول : قدرنا عليهم التقاطه بمشيئتنا ليكون لهم عدوا وحزنا ، وهذا معنى واضح ، لا لبس فيه ولا إشكال ، كما ترى . وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : ولكن إذا نظر إلى معنى السياق ، فإنه تبقى اللام للتعليل ; لأن معناه : أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ، ليجعله عدوا لهم وحزنا ، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ، انتهى محل الغرض من كلامه . وهذا المعنى هو التحقيق في الآية إن شاء الله تعالى ، ويدل عليه قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، كما بينا وجهه آنفا . وبهذا التحقيق تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين ، وينشدون له الشواهد من أن اللام في قوله : ليكون ، لام العاقبة والصيرورة خلاف الصواب ، وأن ما يقوله البيانيون من أن اللام في قوله : ليكون فيها استعارة تبعية في متعلق معنى الحرف ، خلاف الصواب أيضا . وإيضاح مراد البيانيين بذلك ، هو أن من أنواع تقسيمهم لما يسمونه الاستعارة ، التي هي عندهم مجاز علاقته المشابهة أنهم يقسمونها إلى استعارة أصلية ، واستعارة تبعية ، ومرادهم بالاستعارة الأصلية الاستعارة في أسماء الأجناس الجامدة والمصادر ، ومرادهم باستعارة التبعية قسمان : أحدهما : الاستعارة في المشتقات ، كاسم الفاعل والفعل . والثاني : الاستعارة في متعلق معنى الحرف ، وهو المقصود بالبيان . فمثال الاستعارة الأصلية عندهم : رأيت أسدا على فرسه ، ففي لفظة أسد في هذا المثال استعارة أصلية تصريحية عندهم ، فإنه أراد تشبيه الرجل الشجاع بالأسد لعلاقة الشجاعة ، فحذف المشبه الذي هو الرجل الشجاع ، وصرح بالمشبه به الذي هو الأسد ، على سبيل الاستعارة التصريحية ، وصارت أصلية ; لأن الأسد اسم جنس جامد . ومثال الاستعارة التبعية في المشتق عندهم قولك : الحال ناطقة بكذا ، فالمراد عندهم : تشبيه دلالة الحال بالنطق بجامع الفهم والإدراك بسبب كل منهما ، فحذف الدلالة التي هي المشبه ، وصرح بالنطق الذي هو المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية ، واشتق من النطق اسم الفاعل الذي هو ناطقة ، فجرت الاستعارة التبعية في اسم الفاعل الذي هو ناطقة ، وإنما قيل لها تبعية ; لأنها إنما جرت فيه تبعا لجريانها في [ ص: 152 ] المصدر ، الذي هو النطق ; لأن المشتق تابع للمشتق منه ، ولا يمكن فهمه بدون فهمه ، وهذا التوجيه أقرب من غيره مما يذكرونه من توجيه ما ذكر . ومثال الاستعارة التبعية عندهم في متعلق معنى الحرف ، في زعمهم هذه الآية الكريمة ، قالوا : اللام فيها كلفظ الأسد في المثال الأول ، فإنه أطلق على غير الأسد لمشابهة بينهما ، قالوا : وكذلك اللام أصلها موضوعة للدلالة على العلة الغائية ، وعلة الشيء الغائية هي ما يحمل على تحصيله ليحصل بعد حصوله ، قالوا : والعلة الغائية للالتقاط في قوله تعالى : فالتقطه ، هي المحبة والنفع والتبني ، أي : اتخاذهم موسى ولدا ، كما صرحوا بأن هذا هو الباعث لهم على التقاطه وتربيته ، في قوله تعالى عنهم : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 28 \ 9 ] ، فهذه العلة الغائية عندهم هي التي حملتهم على التقاطه ، لتحصل لهم هذه العلة بعد الالتقاط . قالوا : ولما كان الحاصل في نفس الأمر بعد الالتقاط ، هو ضد ما رجوه وأملوه ، وهو العداوة والحزن ، شبهت العداوة والحزن الحاصلان بالالتقاط بالمحبة والتبني والنفع ، التي هي علة الالتقاط الغائية بجامع الترتب في كل منهما ، فالعلة الغائية تترتب على معلولها دائما ترتب رجاء للحصول ، فتبنيهم لموسى ومحبته كانوا يرجون ترتبهما على التقاطهم له ، ولما كان المترتب في نفس الأمر على التقاطهم له هو كونه عدوا لهم وحزنا ، صار هذا الترتب الفعلي شبيها بالترتب الرجائي ، فاستعيرت اللام الدالة على العلة الغائية المشعرة بالترتب الرجائي للترتب الحصولي الفعلي الذي لا رجاء فيه . وإيضاحه أن ترتب الحزن والعداوة على الالتقاط أشبه ترتب المحبة والتبني على الالتقاط ، فأطلقت لام العلة الغائية في الحزن والعداوة ، لمشابهتهما للتنبي والمحبة في الترتب ، كما أطلق لفظ الأسد على الرجل الشجاع ، لمشابهتهما في الشجاعة . وبعض البلاغيين يقول : في هذا جرت الاستعارة الأصلية أولا بين المحبة والتبني ، وبين العداوة والحزن اللذين حصولهما هو المجرور ، فكانت الاستعارة في اللام تبعا للاستعارة في المجرور ; لأن اللام لا تستقل فيكون ما اعتبر فيها تبعا للمجرور ، الذي هو متعلق معنى الحرف ، وبعضهم يقول : فجرت الاستعارة أولا في العلية والغرضية ، وتبعيتها في اللام ، وهناك مناقشات في التبعية في معنى الحرف تركناها ، لأن غرضنا بيان مرادهم بالاستعارة التبعية في هذه الآية بإيجاز . [ ص: 153 ] وإذا علمت مرادهم بما ذكر ، فاعلم أن التحقيق إن شاء الله هو ما قدمنا ، وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " ، أن التحقيق أن القرآن لا مجاز فيه ، وأوضحنا ذلك بالأدلة الواضحة . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين [ 28 \ 8 ] ، أي : مرتكبين الخطيئة التي هي الذنب العظيم ; كقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] ، وقوله تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته الآية [ 2 \ 81 ] . ومن إطلاق الخاطئ على المذنب العاصي قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون [ 69 \ 36 - 37 ] ، وقوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] ، وقوله : إنك كنت من الخاطئين [ 12 \ 29 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قال لأهله امكثوا إني آنست نارا الآيات . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " مريم " . واعلم أنا ربما تركنا كثيرا من الآيات التي تقدم إيضاحها من غير إحالة عليها ، لكثرة ما تقدم إيضاحه . قوله تعالى وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إتباعه اللعنة لفرعون وجنوده ، بينه أيضا في سورة " هود " ، بقوله فيهم : وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود [ 11 \ 99 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من المقبوحين ، قال الزمخشري : أي من المطرودين المبعدين ، ولا يخفى أن المقبوحين اسم مفعول ، قبحه إذا صيره قبيحا ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يهدي من أحب هدايته ، ولكنه جل [ ص: 154 ] وعلا هو الذي يهدي من يشاء هداه ، وهو أعلم بالمهتدين . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم [ 5 \ 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه . وقوله : وهو أعلم بالمهتدين ، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى [ 53 \ 30 ] ، وقوله تعالى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [ 16 \ 125 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد أوضحنا سابقا أن الهدى المنفي عنه - صلى الله عليه وسلم - ، في قوله تعالى هنا : إنك لا تهدي من أحببت ، هو هدى التوفيق ; لأن التوفيق بيد الله وحده ، وأن الهدى المثبت له - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، هو هدى الدلالة على الحق والإرشاد إليه ، ونزول قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ، في أبي طالب مشهور معروف . قوله تعالى : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] . قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه . كقوله تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 26 \ 27 ] ، والوجه من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق ، كما أوضحناه في سورة " الأعراف " ، وفي غيرها . قوله تعالى : له الحكم وإليه ترجعون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، وقد تركنا ذكر إحالات كثيرة في سورة " القصص " ، هذه . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (432) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ صـ 155 إلى صـ 162 [ ص: 155 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ قَوْلُهُ تَعَالَى : الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ : أَحَسِبَ النَّاسُ [ 29 \ 2 ] ، لِلْإِنْكَارِ . وَالْمَعْنَى : أَنَّ النَّاسَ لَا يُتْرَكُونَ دُونَ فِتْنَةٍ ، أَيِ : ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ ، لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ : آمَنَّا ، بَلْ إِذَا قَالُوا : آمَنَّا فُتِنُوا ، أَيِ : امْتُحِنُوا وَاخْتُبِرُوا بِأَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ الِابْتِلَاءُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ : آمَنَّا مِنْ غَيْرِ الصَّادِقِ . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ 2 \ 214 ] ، وَقَوْلِهِ : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ 3 \ 142 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [ 47 \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْآيَةَ [ 3 \ 179 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ 3 \ 154 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ 9 \ 16 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا : وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا الْآيَةَ [ 29 \ 3 ] . وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى [ ص: 156 ] قَدْرِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ " . قوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له . قوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حسنا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] . قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله يعني أن من الناس من يقول : آمنا بالله بلسانه ، فإذا أوذي في الله ، أي : آذاه الكفار إيذاءهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين إلى الردة ، والعياذ بالله ; كعذاب الله فإنه صارف رادع عن الكفر والمعاصي . ومعنى فتنة الناس ، الأذى الذي يصيبه من الكفار ، وإيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة ، وهذا قال به غير واحد . وعليه فمعنى الآية الكريمة ; كقوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] . قوله تعالى : ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين الذين يقولون : آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، إذا حصل للمسلمين من الكفار أذى ، وهم معهم جعلوا فتنة للناس ، أي : أذاهم كعذاب الله ، وأنه إن جاء نصر من الله لعباده المؤمنين فنصرهم على الكفار ، وهزموهم وغنموا منهم الغنائم ، قال أولئك المنافقون : ألم نكن معكم ، يعنون : أنهم مع المؤمنين ومن جملتهم ، يريدون أخذ نصيبهم من الغنائم . وهذا المعنى جاء في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : [ ص: 157 ] الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين [ 4 \ 141 ] ، وقوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما [ 4 \ 72 - 73 ] ، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة " النساء " . وقد بين تعالى أنهم كاذبون في قولهم : إنا كنا معكم ، وبين أنه عالم بما تخفي صدورهم من الكفر والنفاق ، بقوله : أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين [ 29 \ 10 ] . قوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، إلى قوله : وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون . قد قدمنا الآيات الموضحة له زيادة إيضاحها من السنة الصحيحة في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] . قوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين . تقدم إيضاحه في " هود " وغيرها . وقوله تعالى هنا : وجعلناها آية للعالمين ، يعني سفينة نوح ; كقوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] ، ونحو ذلك من الآيات . قوله تعالى : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون [ 16 \ 73 ] ، وفي " سورة الفرقان " . قوله تعالى : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا [ ص: 158 ] إلى قوله وما لكم من ناصرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا الآية [ 7 \ 38 ] ، وفي سورة " الفرقان " وغير ذلك . قوله تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . الضمير في قوله : ذريته راجع إلى إبراهيم . والمعنى : أن الأنبياء والمرسلين الذين أنزلت عليهم الكتب بعد إبراهيم كلهم من ذرية إبراهيم ، وما ذكره هنا عن إبراهيم ذكر في سورة " الحديد " : أن نوحا مشترك معه فيه ، وذلك واضح لأن إبراهيم من ذرية نوح ، مع أن بعض الأنبياء من ذرية نوح دون إبراهيم ; وذلك في قوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الآية [ 57 \ 26 ] . قوله تعالى : وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى إبراهيم أجره ، أي : جزاء عمله في الدنيا ، وإنه في الآخرة أيضا من الصالحين . وقال بعض أهل العلم : المراد بأجره في الدنيا : الثناء الحسن عليه في دار الدنيا من جميع أهل الملل على اختلافهم إلى كفار ومؤمنين ، والثناء الحسن المذكور هو لسان الصدق ، في قوله : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ 26 \ 84 ] ، وقوله تعالى : وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 50 ] ، وقوله : وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، لا يخفى أن الصلاح في الدنيا يظهر بالأعمال الحسنة ، وسائر الطاعات ، وأنه في الآخرة يظهر بالجزاء الحسن ، وقد أثنى الله في هذه الآية الكريمة على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد أثنى على إبراهيم أيضا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [ 2 \ 124 ] ، وقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى [ 53 \ 37 ] ، وقوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين [ 16 \ 120 - 122 ] . قوله تعالى [ ص: 159 ] ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية الآية . قد قدمنا إيضاحه في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط [ 11 \ 74 ] . قوله تعالى ولما أن جاءت رسلنا لوطا ، إلى قوله : لقوم يعقلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بعض الشواهد ، في سورة " هود " ، في الكلام على قصة لوط ، وفي سورة " الحجر " . قوله تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا ، إلى قوله : في دارهم جاثمين . تقدم إيضاحه في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قصته مع قومه ، وفي " الشعراء " أيضا . قوله تعالى : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا . الظاهر أن قوله : وعادا مفعول به ل أهلكنا مقدرة ، ويدل على ذلك قوله قبله : فأخذتهم الرجفة [ 29 \ 37 ] ، أي : أهلكنا مدين بالرجفة ، وأهلكنا عادا ، ويدل للإهلاك المذكور قوله بعده : وقد تبين لكم من مساكنهم ، أي : هي خالية منهم لإهلاكهم ، وقوله بعده أيضا : فكلا أخذنا بذنبه . وقد أشار جل وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى إهلاك عاد ، وثمود ، وقارون ، وفرعون ، وهامان ، ثم صرح بأنه أخذ كلا منهم بذنبه ، ثم فصل على سبيل ما يسمى في البديع باللف والنشر المرتب أسباب إهلاكهم ، فقال : فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ، [ ص: 160 ] وهي : الريح ، يعني : عادا ، بدليل قوله : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ 69 \ 6 ] ، وقوله : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم [ 51 \ 41 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله تعالى : ومنهم من أخذته الصيحة ، يعني : ثمود ، بدليل قوله تعالى فيهم : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 67 - 68 ] . وقوله : ومنهم من خسفنا به الأرض ، يعني : قارون ، بدليل قوله تعالى فيه : فخسفنا به وبداره الأرض الآية [ 28 \ 81 ] . وقوله تعالى : ومنهم من أغرقنا ، يعني : فرعون وهامان ، بدليل قوله تعالى : ثم أغرقنا الآخرين [ 37 \ 82 ] ، ونحو ذلك من الآيات . والأظهر في قوله في هذه الآية : وكانوا مستبصرين ، أن استبصارهم المذكور هنا بالنسبة إلى الحياة الدنيا خاصة ; كما دل عليه قوله تعالى : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ 67 \ 10 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله : وما كانوا سابقين ، كقوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] . قوله تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فمثله كمثل الكلب الآية [ 7 \ 176 ] ، وفي مواضع أخر . قوله تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته الآية [ 18 \ 27 ] . قوله تعالى : وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . [ ص: 161 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] . قوله تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم . قد قدمنا إيضاحه ، وتفسير إلا الذين ظلموا منهم في آخر سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] . قوله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " ، وفي آخر سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] ، وغير ذلك . قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به [ 6 \ 57 ] ، وفي سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] ، وفي سورة " الرعد " في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] . قوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون . نادى الله جل وعلا عباده المؤمنين ، وأكد لهم أن أرضه واسعة ، وأمرهم أن يعبدوه وحده دون غيره ، كما دل عليه تقديم المعمول الذي هو إياي ; كما بيناه في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] . والمعنى : أنهم إن كانوا في أرض لا يقدرون فيها على إقامة دينهم ، أو يصيبهم فيها أذى الكفار ، فإن أرض ربهم واسعة فليهاجروا إلى موضع منها يقدرون فيه على إقامة دينهم ، ويسلمون فيه من أذى الكفار ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون . [ ص: 162 ] وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء في آيات أخر ; كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [ 4 \ 97 ] ، وقوله تعالى : وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] . قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت [ 29 \ 57 ] . جاء معناه موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى في سورة " آل عمران " : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] ، وقوله : كل من عليها فان [ 55 \ 26 ] ، وقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] . قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا . قد قدمنا معنى وعملوا الصالحات ، موضحا في أول سورة " الكهف " ، وقدمنا معنى لنبوئنهم في سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، وذكرنا الآيات التي ذكرت فيها الغرف في آخر " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة الآية [ 25 \ 75 ] . قوله تعالى : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من الدواب التي لا تحمل رزقها لضعفها ، أنه هو جل وعلا يرزقها ، وأوضح هذا المعنى في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [ 11 \ 6 ] . قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ، إلى قوله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له غاية الإيضاح في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (433) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ صـ 163 إلى صـ 170 قوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون . [ ص: 163 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، إلى قوله : تبيعا [ 17 \ 67 - 69 ] ، وفي مواضع أخر . قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم الآية . امتن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة على قريش ، بأنه جعل لهم حرما آمنا ، يعني حرم مكة ، فهم آمنون فيه على أموالهم ودمائهم ، والناس الخارجون عن الحرم ، يتخطفون قتلا وأسرا . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى في " القصص " : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا الآية [ 5 \ 97 ] ، وقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، وقوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الآية [ 5 \ 97 ] ، وقوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] . قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين جاهدوا فيه أنه يهديهم إلى سبل الخير والرشاد ، وأقسم على ذلك بدليل اللام في قوله : لنهدينهم . وهذا المعنى جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى [ 47 \ 17 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا الآية [ 9 \ 124 ] ، كما تقدم إيضاحه . قوله تعالى : وإن الله لمع المحسنين . قد قدمنا إيضاحه في آخر سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] . [ ص: 164 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الرُّومِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ . قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعْدَ اللَّهِ ، مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ : وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ : وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [ 30 \ 3 - 5 ] ، هُوَ نَفْسُ الْوَعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى ، أَيْ : وَعَدَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعْدًا . وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا : وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ . [ 13 \ 31 ] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ وَعِيدَهُ لِلْكُفَّارِ لَا يُخْلَفُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [ 50 \ 28 - 29 ] . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ وَعِيدُهُ لِلْكُفَّارِ . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ 50 \ 14 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ 38 \ 14 ] ، فَقَوْلُهُ : حَقَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، أَيْ : وَجَبَ وَثَبَتَ ، فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بِحَالٍ . [ ص: 165 ] وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا : وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْكَافِرُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [ 11 \ 17 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [ 37 \ 71 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [ 26 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [ 6 \ 116 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ 12 \ 103 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ . وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 2 \ 170 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 5 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [ 2 \ 171 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [ 25 \ 44 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [ 7 \ 179 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ 67 \ 10 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ . وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا : وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [ 29 \ 38 ] ، أَيْ : فِي الدُّنْيَا ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ [ 53 \ 29 - 30 ] . وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا : وَهُوَ كَوْنُهُمْ غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 23 \ 36 - 37 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [ 44 \ 35 ] ، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [ 6 \ 29 ] ، مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [ 36 \ 78 ] ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ . [ تنبيه ] [ ص: 166 ] تنبيه . اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبر آية " الروم " هذه تدبرا كثيرا ، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس . وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى الله بها ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا ، ومهارتهم فيها على كثرتها ، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك ، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق ، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ، وغلط فادح . وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة ، وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة ، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه ، وما أعظمه ، وما أحسن تعليمه . فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون ، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولا أوليا ، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، لأنهم لا يعلمون شيئا عمن خلقهم ، فأبرزهم من العدم إلى الوجود ، ورزقهم ، وسوف يميتهم ، ثم يحييهم ، ثم يجازيهم على أعمالهم ، ولم يعلموا شيئا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم ، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودا من جنس من يعلم ; كما دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة ، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، أثبت لهم نوعا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره . وعاب ذلك النوع المذكور من العلم ، بعيبين عظيمين : أحدهما : قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهرا من الحياة الدنيا ، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما يقرب عبده منه ، وما يبعده عنه ، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي من أعمال الخير والشر . والثاني منهما : هو دناءه هدف ذلك العلم ، وعدم نبل غايته ، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا ، وهي سريعة الانقطاع والزوال ، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود [ ص: 167 ] أوجه الإعراب في قوله : يعلمون ظاهرا ، أنه بدل من قوله قبله لا يعلمون ، فهذا العلم كلا علم لحقارته . قال الزمخشري في " الكشاف " : وقوله : يعلمون بدل من قوله : لا يعلمون ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، والتنعم بملاذها وباطنها ، وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة ، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من ظواهرها . و هم الثانية يجوز أن يكون مبتدأ ، و غافلون خبره ، والجملة خبر هم الأولى ، وأن يكون تكريرا للأولى ، و غافلون خبر الأولى ، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ، ومقرها ، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " . وقال غيره : وفي تنكير قوله : ظاهرا تقليل لمعلومهم ، وتقليله يقربه من النفي ، حتى يطابق المبدل منه ، ا هـ ، ووجهه ظاهر . واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية ، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار ، إذا تعلمها المسلمون ، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقا لما أمر الله به على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، كانت من أشرف العلوم وأنفعها ; لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا ، وإصلاح الدنيا والآخرة ، فلا عيب فيها إذن ; كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] ، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالا لأمر الله تعالى وسعيا في مرضاته ، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون . [ ص: 168 ] لما بين جل وعلا أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون ، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم غافلون ، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة ، مع شدة وضوح أدلتها بقوله : أولم يتفكروا في أنفسهم الآية ، والتفكر : التأمل والنظر العقلي ، وأصله إعمال الفكر ، والمتأخرون يقولون : الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات ، وأما حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل . وقال الزمخشري في " الكشاف " : في أنفسهم ، يحتمل أن يكون ظرفا كأنه قيل : أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر ، والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ; كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك : تفكر في الأمر أجال فيه فكره ، و ما خلق متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول . وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلا عليه إلا بالحق وأجل مسمى ، أي : ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح ، وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 23 \ 115 ] ، كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا ، والباء في قوله : إلا بالحق مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، تريد : اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنها ، وكذلك المعنى : ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به . فإن قلت : إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه ؟ . قلت : معناه أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا ، من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال ، وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد [ ص: 169 ] لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " ، في تفسير هذه الآية . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن خلقه تعالى للسماوات والأرض ، وما بينهما لا يصح أن يكون باطلا ولا عبثا ، بل ما خلقهما إلا بالحق ; لأنه لو كان خلقهما عبثا لكان ذلك العبث باطلا ولعبا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل ما خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما بينهما إلا بالحق ، وذلك أنه يخلق فيهما الخلائق ، ويكلفهم فيأمرهم ، وينهاهم ، ويعدهم ويوعدهم ، حتى إذا انتهى الأجل المسمى لذلك بعث الخلائق ، وجازاهم فيظهر في المؤمنين صفات رحمته ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته ومغفرته ، وتظهر في الكافرين صفات عظمته ، وشدة بطشه ، وعظم نكاله ، وشدة عدله وإنصافه ، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله ; كقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين [ 44 \ 38 - 40 ] ، فقوله تعالى : إن يوم الفصل الآية ، بعد قوله : ما خلقناهما إلا بالحق ، يبين ما ذكرنا . وقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية . فقوله تعالى : وإن الساعة لآتية ، بعد قوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق يوضح ذلك ، وقد أوضحه تعالى في قوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] . وقد بين جل وعلا أن الذين يظنون أنه خلقهما باطلا لا لحكمة الكفار ، وهددهم على ذلك الظن الكاذب بالويل من النار ; وذلك في قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وبين جل وعلا أنه لو لم يبعث الخلائق ويجازهم ، لكان خلقه لهم أولا عبثا ، ونزه نفسه عن ذلك العبث سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا ; وذلك في قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] . فهذه الآيات القرآنية تدل على أنه تعالى ما خلق الخلق إلا بالحق ، وأنه لا بد [ ص: 170 ] باعثهم ، ومجازيهم على أعمالهم ، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون هذا ، فكانوا غافلين عن الآخرة ، كافرين بلقاء ربهم . وقوله تعالى في الآيات المذكورة : وما بينهما ، أي : ما بين السماوات والأرض ، يدخل فيه السحاب المسخر بين السماء والأرض ، والطير صافات ويقبضن بين السماء والأرض والهواء الذي لا غنى للحيوان عن استنشاقه . قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، إلى قوله تعالى : كانوا أنفسهم يظلمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] . وفي " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 \ 32 ] . وفي " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 1 \ 83 ] . وفي " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح الآية [ 17 \ 17 ] ، وفي غير ذلك . وقوله تعالى في آية " الروم " هذه : كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها [ 30 \ 9 ] ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] ، ونحو ذلك من الآيات . قوله تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون . قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو : كان عاقبة ، بضم التاء اسم كان ، وخبرها السوءى . وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : ثم كان عاقبة الذين ، بفتح التاء خبر كان قدم على اسمها على حد قوله في " الخلاصة " : وفي جميعها توسط الخبر أجز . . . . . . . . وعلى هذه القراءة فـ السوءى اسم كان ، وإنما جرد الفعل من التاء مع أن السوءى مؤنثة لأمرين : https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (434) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ صـ 171 إلى صـ 178 [ ص: 171 ] الأول : أن تأنيثها غير حقيقي . والثاني : الفصل بينها وبين الفعل ، كما هو معلوم . وأما على قراءة ضم التاء فوجه تجريد الفعل من التاء هو كون تأنيث العاقبة غير حقيقي فقط . وأظهر الأقوال في معنى الآية عندي أن المعنى على قراءة ضم التاء : كانت عاقبة المسيئين السوءى ، وهي تأنيث الأسوء ، بمعنى : الذي هو أكثر سوءى ، أي : كانت عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات ، أي : أكثرها سوءى وهي النار أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها . وأما على قراءة فتح التاء ، فالمعنى : كانت السوءى عاقبة الذين أساءوا ، ومعناه واضح مما تقدم ، وأن معنى قوله : أن كذبوا ، أي : كانت عاقبتهم أسوأ العقوبات لأجل أن كذبوا . وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة توضح أن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه ، وسوء عاقبته ، والعياذ بالله ; كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] . وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 46 ] . وفي " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل [ 7 \ 101 ] ، وفي غير ذلك . وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل منصوب بـ أساءوا ، أي : اقترفوا الجريمة السوءى خلاف الصواب ، وكذلك قول من قال : إن أن في قوله : أن كذبوا تفسيرية ، فهو خلاف الصواب أيضا ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : الله يبدأ الخلق ثم يعيده . قد قدمنا الآيات الموضحة له في " البقرة " ، و " النحل " ، و " الحج " ، وغير ذلك . قوله تعالى : ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء . [ ص: 172 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] ، وفي غير ذلك . قوله تعالى : وكانوا بشركائهم كافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا 19 \ 82 ] ، وفي غير ذلك . قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون قد قدمنا في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، أن قوله هنا : فسبحان الله حين تمسون ، الآيتين من الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس ، وأوضحنا وجه ذلك مع إيضاح جميع الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس . قوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في ذكرنا براهين البعث في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وفي سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ينبت لكم به الزرع والزيتون [ 16 \ 11 ] وفي غير ذلك . قوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : منها خلقناكم الآية [ 20 \ 55 ] ، وفي غير ذلك . قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] . قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين . [ ص: 173 ] قوله : ومن آياته خلق السماوات والأرض ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض الآية [ 2 \ 164 ] . وقوله : واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، قد أوضح تعالى في غير هذا الموضع أن اختلاف ألوان الآدميين واختلاف ألوان الجبال ، والثمار ، والدواب ، والأنعام ، كل ذلك من آياته الدالة على كمال قدرته ، واستحقاقه للعبادة وحده ، قال تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك [ 35 \ 27 - 28 ] ، واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه ، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جل وعلا ، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال . وقد أوضح تعالى إبطال تأثير الطبيعة غاية الإيضاح في سورة " الرعد " : وفي الأرض قطع متجاورات ، إلى قوله : لقوم يعقلون [ 13 \ 4 ] . وقرأ هذا الحرف حفص وحده عن عاصم : إن في ذلك لآيات للعالمين بكسر اللام ، جمع عالم الذي هو ضد الجاهل . وقرأه الباقون : ( للعالمين ) بفتح اللام ; كقوله : رب العالمين [ 1 \ 2 ] . قوله تعالى : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون . قوله تعالى : قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم الآية [ 17 \ 12 ] ، وفي سورة " الفرقان " ، وغير ذلك . قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا . قد قدمنا ما يوضحه من الآيات مع تفسير قوله : خوفا وطمعا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا الآية [ 13 \ 12 ] ، وسنحذف هنا بعض الإحالاث لكثرتها . [ ص: 174 ] قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم الآية . قد قدمنا إيضاحه بالقرآن في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] . قوله تعالى : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : يمحق الله الربا الآية [ 2 \ 276 ] . قوله تعالى : يومئذ يصدعون . أي : يتفرقون فريقين ، أحدهما : في الجنة ، والثاني : في النار . وقد دلت على هذا آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 44 - 45 ] ، وقوله تعالى : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] ، ويدل لهذا قوله بعده : من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين [ 44 - 45 ] ، وقد أشار تعالى أيضا للتفرق المذكور هنا في قوله تعالى : يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم [ 99 \ 6 ] . قوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى ، إلى قوله : إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون . قد قدمنا الآيات الموضحة في له سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية [ 27 \ 80 ] . قوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة . [ ص: 175 ] قد بين تعالى الضعف الأول الذي خلقهم منه في آيات من كتابه ، وبين الضعف الأخير في آيات أخر ; قال في الأول : ألم نخلقكم من ماء مهين [ 77 \ 20 ] ، وقال : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة الآية [ 36 \ 77 ] ، وقال : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق [ 86 \ 5 - 6 ] ، وقال : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 30 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقال في الضعف الثاني : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 16 \ 70 ] ، وقال : ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون [ 36 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأشار إلى القوة بين الضعفين في آيات من كتابه ; كقوله : فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وإطلاقه نفس الضعف على ما خلق الإنسان منه قد أوضحنا وجهه في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل الآية [ 21 \ 37 ] . وقرأ عاصم وحمزة : من ضعف في المواضع الثلاثة المخفوضين والمنصوب بفتح الضاد في جميعها ، وقرأ الباقون بالضم . واختار حفص القراءة بالضم وفاقا للجمهور ; للحديث الوارد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من طريق عطية العوفي أنه أعني ابن عمر قرأ عليه - صلى الله عليه وسلم - : من ضعف بفتح الضاد ، فرد عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره أن يقرأها بضم الضاد ، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، ورواه غيرهما ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار [ 10 \ 45 ] ، وفي غير ذلك . قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا بعثوا يوم القيامة وأقسموا أنهم ما لبثوا غير ساعة يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان ، ويدخل فيهم الملائكة والرسل ، [ ص: 176 ] والأنبياء ، والصالحون : والله لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ، فهذا يوم البعث ، ولكنكم كنتم لا تعلمون . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في سورة " يس " على أصح التفسيرين ، وذلك في قوله تعالى : قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ 36 \ 52 ] . والتحقيق أن هذا قول الكفار عن البعث ، والآية تدل دلالة لا لبس فيها ، على أنهم ينامون نومة قبل البعث ، كما قاله غير واحد ، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 52 ] ، أي : هذا البعث بعد الموت ، الذي وعدكم الرحمن على ألسنة رسله ، وصدق المرسلون في ذلك ، كما شاهدتموه عيانا ، فقوله في " يس " : هذا ما وعد الرحمن ، قول الذين أوتوا العلم والإيمان ، على التحقيق ، وقد اختاره ابن جرير ، وهو مطابق لمعنى قوله : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث الآية . والتحقيق أن قوله هذا إشارة إلى ما وعد الرحمن وأنها من كلام المؤمنين ، وليست إشارة إلى المرقد في قول الكفار : من بعثنا من مرقدنا هذا ، وقوله : في كتاب الله ، أي : فيما كتبه وقدره وقضاه . وقال بعض العلماء : أن قوله : هذا ما وعد الرحمن الآية ، من قول الكفار ، ويدل له قوله في " الصافات " : وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الآية [ 37 \ 20 - 21 ] . قوله تعالى : ولا هم يستعتبون . قد قدمنا ما فيه من اللغات ، والشواهد العربية في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] . قوله تعالى : ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] ، وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [ 17 \ 90 ] ، [ ص: 177 ] وفي سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 01 \ 69 ] ، وفي غير ذلك . قوله تعالى : ولا يستخفنك الذين لا يوقنون . قد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] ، أن الله تعالى قد بين في بعض الآيات القرآنية أنه يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطاب لا يريد به نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يريد به التشريع . وبينا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى مخاطبا له - صلى الله عليه وسلم - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] ، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، بزمن طويل ، فلا وجه البتة لاشتراط بلوغهما ، أو بلوغ أحدهما الكبر عنده ، بل المراد تشريع بر الوالدين لأمته ، بخطابه - صلى الله عليه وسلم . واعلم أن قول من يقول : إن الخطاب في قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، لمن يصح خطابه من المكلفين ، وأنه كقول طرفة بن العبد : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا . . . . . . . . . . . . . خلاف الصواب . والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات ، على قوله : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة الآية [ 17 \ 39 ] ، ومعلوم أن قوله : ذلك مما أوحى إليك ربك خطاب له - صلى الله عليه وسلم - ، كما ترى . وذكرنا بعض الشواهد العربية على خطاب الإنسان ، مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره . وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالى : ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ، وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 22 ] ، يراد به التشريع لأمته ; [ ص: 178 ] لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك الكفر الذي نهي عنه . فائدة . روي من غير وجه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ناداه رجل من الخوارج في صلاة الفجر ، فقال : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] ، فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (435) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ صـ 179 إلى صـ 188 [ ص: 179 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ لُقْمَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِقَوْلِهِ : هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ 2 \ 1 - 2 ] . قوله تعالى : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكافر إذا تتلى عليه آيات الله ، وهي هذا القرآن العظيم : ولى مستكبرا ، أي : متكبرا عن قبولها ، كأنه لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ، أي : صمما وثقلا مانعا له من سماعها ، ثم أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشره بالعذاب الأليم . وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ 45 \ 7 - 10 ] ، وقد قال تعالى هنا : كأن في أذنيه وقرا ، على سبيل التشبيه ، وصرح في غير هذا الموضع أنه جعل في أذنيه الوقر بالفعل في قوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، والظاهر أن الوقر المذكور على سبيل التشبيه بالوقر الحسي ; لأن الوقر المعنوي يشبه الوقر الحسي ، والوقر المجعول على آذانهم بالفعل ، هو الوقر المعنوي المانع من سماع الحق فقط ، دون سماع غيره ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 180 ] [ ص: 180 ] قوله تعالى : خلق السماوات بغير عمد ترونها . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها الآية [ 13 \ 2 ] . قوله تعالى : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم الآية [ 13 \ 16 ] ، وفي أول سورة " الفرقان " . قوله تعالى : وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . دلت هذه الآية الكريمة على أن الشرك ظلم عظيم . وقد بين تعالى ذلك في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، وقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر الظلم في قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] ، بأنه الشرك ، وبين ذلك بقوله هنا : إن الشرك لظلم عظيم ، وقد أوضحنا هذا سابقا . قوله تعالى : ولا تصعر خدك للناس . معناه : لا تتكبر على الناس ، ففي الآية نهي عن التكبر على الناس ، والصعر : الميل ، والمتكبر يميل وجهه عن الناس متكبرا عليهم معرضا عنهم ، والصعر : الميل ، وأصله : داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، ويطلق على المتكبر يلوي عنقه ويميل خده عن الناس تكبرا عليهم ، ومنه قول عمرو بن حني التغلبي : وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما وقول أبي طالب : وكنا قديما لا نقر ظلامة إذا ما ثنوا صعر الرءوس نقيمها [ ص: 181 ] ومن إطلاق الصعر على الميل قول النمر بن تولب العلكي : إنا أتيناك وقد طال السفر نقود خيلا ضمرا فيها صعر وإذا علمت أن معنى قوله : ولا تصعر خدك للناس ، لا تتكبر عليهم . فاعلم أنا قدمنا في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله تعالى : فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] ، الآيات القرآنية الدالة على التحذير من الكبر المبينة لكثرة عواقبه السيئة ، وأوضحنا ذلك مع بعض الآيات الدالة على حسن التواضع ، وثناء الله على المتواضعين . قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا . قد قدمنا إيضاحه وتفسير الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ 17 \ 37 ] . قوله تعالى : واقصد في مشيك . قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع ; كقوله : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الآية [ 25 \ 63 ] ، وقوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا [ 17 \ 37 ] . قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( 20 ) قد قدمنا إيضاحه في أول سورة " الحج " . وكذلك قوله تعالى : أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ( 21 ) قدمنا الآيات الموضحة له أيضا في أول سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] . قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 25 ) قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . [ ص: 182 ] قوله تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله . قد قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي الآية [ 18 \ 109 ] . قوله تعالى : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . قد قدمنا إيضاحه في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته الآية [ 2 \ 73 ] . قوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الآية [ 17 \ 67 ] ، وفي " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون الآية [ 6 \ 40 - 41 ] ، وفي غير ذلك . قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( 34 ) . قد قدمنا في سورة " الأنعام " ، أن هذه الخمسة المذكورة في خاتمة سورة " لقمان " ، أنها هي مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح ذلك بالسنة الصحيحة . [ ص: 183 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ السَّجْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ 17 \ 15 ] . قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( 5 ) . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، وأنه يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة . وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن [ 65 \ 12 ] ، وقد بين في سورة " الحج " ، أن اليوم عنده تعالى كألف سنة مما يعده الناس ، وذلك في قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، وقد قال تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] . وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " الجمع بين هذه الآيات من وجهين : الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم ، من طريق سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة " الحج " ، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة . [ ص: 184 ] الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، وقوله تعالى : يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] . وقد أوضحنا هذا الوجه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ، وقد ذكرنا في " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " : أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات ، فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري . قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم . ظاهر هذه الآية الكريمة أن الذي يقبض أرواح الناس ملك واحد معين ، وهذا هو المشهور ، وقد جاء في بعض الآثار أن اسمه عزرائيل . وقد بين تعالى في آيات أخر أن الناس تتوفاهم ملائكة لا ملك واحد ; كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ 4 \ 97 ] ، وقوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 47 \ 27 ] ، وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم الآية [ 6 \ 93 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [ 6 \ 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإيضاح هذا عند أهل العلم : أن الموكل بقبض الأرواح ملك واحد هو المذكور هنا ، ولكن له أعوان يعملون بأمره ينتزعون الروح إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت ، أو يعينونه إعانة غير ذلك . وقد جاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر فيه : " أن ملك الموت إذا أخذ روح الميت أخذها من يده بسرعة ملائكة فصعدوا بها إلى السماء " ، وقد بين فيه - صلى الله عليه وسلم - ما تعامل به روح المؤمن وروح الكافر بعد أخذ الملائكة له من ملك الموت حين يأخذها من البدن ، وحديث البراء المذكور صححه غير واحد ، وأوضح ابن القيم في كتاب " الروح " بطلان تضعيف ابن حزم له . [ ص: 185 ] والحاصل : أن حديث البراء المذكور دل على أن مع ملك الموت ملائكة آخرين يأخذون من يده الروح ، حين يأخذه من بدن الميت . وأما قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها [ 39 \ 42 ] فلا إشكال فيه ; لأن الملائكة لا يقدرون أن يتوفوا أحدا إلا بمشيئته جل وعلا : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] . فتحصل أن إسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله هنا : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [ 32 \ 11 ] ، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأن إسناده للملائكة في قوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة الآية [ 47 \ 27 ] ، ونحوها من الآيات ; لأن لملك الموت أعوانا يعملون بأمره ، وأن إسناده إلى الله في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها [ 39 \ 42 ] ، لأن كل شيء كائنا ما كان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ( 12 ) . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء الآية [ 7 \ 53 ] ، وفي سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] . قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( 13 ) . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " في الكلام على قوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ 10 \ 99 ] . قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ( 22 ) . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان الآيات الدالة على العواقب السيئة الناشئة عن الإعراض ، عن التذكير بآيات الله في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 186 ] ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه [ 18 \ 57 ] . قوله تعالى : أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم . قد قدمنا بعض الآيات الموضحة له في آخر سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا [ 19 \ 98 ] . قوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ( 27 ) . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 - 54 ] ، وقد أوضحنا تفسير الأرض الجرز مع بعض الشواهد العربية في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] . قوله تعالى : ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( 28 ) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ( 29 ) . أظهر أقوال أهل العلم عندي هو أن الفتح في هذه الآية الكريمة هو الحكم والقضاء ، وقد قدمنا أن الفتاح : القاضي ، وهي لغة حميرية قديمة ، والفتاحة : الحكم والقضاء ، ومنه قوله : ألا من مبلغ عمرا رسولا بأني عن فتاحتكم غني . وقد جاءت آيات تدل على أن الفتح الحكم ; كقوله تعالى عن نبيه شعيب : على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ 7 \ 89 ] ، أي : احكم بيننا بالحق ، وأنت خير الحاكمين . وقوله تعالى عن نبيه نوح : قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا الآية [ 26 \ 117 - 118 ] ، أي : احكم بيني وبينهم حكما ، وقوله تعالى : قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم [ 34 \ 26 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 187 ] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح [ 8 \ 19 ] ، أي : إن تطلبوا الحكم بهلاك الظالم منكم ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءكم الفتح ، أي : الحكم بهلاك الظالم وهو هلاكهم يوم بدر ; كما قاله غير واحد . وقد ذكروا أنهم لما أرادوا الخروج إلى بدر ، جاء أبو جهل وتعلق بأستار الكعبة ، وقال : اللهم إنا قطان بيتك نسقي الحجيج ، ونفعل ونفعل ، وإن محمدا قطع الرحم وفرق الجماعة ، وعاب الدين ، وشتم الآلهة ، وسفه أحلام الآباء ، اللهم أهلك الظالم منا ومنه ، فطلب الحكم على الظالم ، فجاءهم الحكم على الظالم فقتلوا ببدر ، وصاروا إلى الخلود في النار ، إلى غير ذلك من الآيات . وعلى قول من قال من أهل العلم : إن المراد بالفتح في الآية الحكم والقضاء بينهم يوم القيامة ، فلا إشكال في قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، وعلى القول بأن المراد بالفتح في الآية الحكم بينهم في الدنيا بهلاك الكفار ، كما وقع يوم بدر . فالظاهر أن معنى قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، أي : إذا عاينوا الموت وشاهدوا القتل ، بدليل قوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 - 85 ] ، وقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، وقوله تعالى في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] . ولا يخفى أن قول من قال من أهل العلم : إن الفتح في هذه الآية فتح مكة أنه غير صواب ، بدليل قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ومعلوم أن فتح مكة لا يمنع انتفاع المؤمن في وقته بإيمانه ، كما لا يخفى . قوله تعالى : وانتظر إنهم منتظرون جاء معناه موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين [ 52 \ 30 - 31 ] ، ومعلوم أن التربص هو الانتظار . وقوله تعالى : قل انتظروا إنا منتظرون [ 6 \ 158 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . [ ص: 188 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْأَحْزَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْآيَةَ . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَثَلِهِ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [ 17 \ 22 ] ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ " الْأَحْزَابِ " هَذِهِ ، مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ لَفْظُهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ [ 5 \ 32 ] . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (436) سُورَةُ الْأَحْزَابِ صـ 189 إلى صـ 196 قوله تعالى : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . في هذه الحرف أربع قراءات سبعية : قرأه عاصم وحده : تظاهرون بضم التاء وتخفيف الظاء بعدها ألف فهاء مكسورة مخففة ، وقرأه حمزة والكسائي : ( تظاهرون ) بفتح التاء بعدها ظاء مفتوحة مخففة ، فألف فهاء مفتوحة مخففة ، وقرأه ابن عامر وحده كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أن ابن عامر يشدد الظاء ، وهما يخففانها . وقرأه نافع ، وابن كثير وأبو عمرو : ( تظهرون ) بفتح التاء بعدها ظاء فهاء مفتوحتان مشددتان بدون ألف ، فقوله تعالى : تظاهرون ، على قراءة عاصم مضارع ظاهر بوزن فاعل ، وعلى قراءة حمزة والكسائي ، فهو مضارع تظاهر بوزن تفاعل حذفت فيه إحدى التاءين على حد قوله في " الخلاصة " : وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر فالأصل على قراءة الأخوين تتظاهرون ، فحذفت إحدى التاءين . وعلى قراءة ابن عامر ، فهو مضارع تظاهر أيضا ، كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أن إحدى التاءين أدغمت في الظاء ولم تحذف ، وماضيه اظاهر كـ ادارك [ 27 \ 66 ] ، و اثاقلتم [ 9 \ 38 ] ، و ادارأتم [ 2 \ 72 ] ، بمعنى تدارك ، إلخ . [ ص: 189 ] وعلى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ، فهو مضارع تظهر على وزن تفعل ، وأصله تتظهرون بتاءين ، فأدغمت إحدى التاءين في الظاء ، وماضيه : اظهر ، نحو : اطيرنا [ 27 \ 47 ] وازينت [ 10 \ 24 ] ، بمعنى : تطيرنا ، وتزينت ; كما قدمنا إيضاحه في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 \ 117 ] ، فعلم مما ذكرنا أن قولهم ظاهر من امرأته ، وتظاهر منها ، وتظهر منها كلها بمعنى واحد ، وهو أن يقول لها : أنت علي كظهر أمي ، يعني : أنها حرام عليه ، وكانوا يطلقون بهذه الصيغة في الجاهلية . وقد بين الله جل وعلا في قوله هنا : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ، أن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، لا تكون أما له بذلك ، ولم يزد هنا على ذلك ، ولكنه جل وعلا أوضح هذا في سورة " المجادلة " ، فبين أن أزواجهم اللائي ظاهروا منهن لسن أمهاتهم ، وأن أمهاتهم هن النساء الاتي ولدنهم خاصة دون غيرهن ، وأن قولهم : أنت علي كظهر أمي ، منكر من القول وزور . وقد بين الكفارة اللازمة في ذلك عند العود ، وذلك في قوله تعالى : الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم [ 58 \ 2 - 4 ] . فقوله تعالى في آية " الأحزاب " هذه : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ، كقوله تعالى في سورة " المجادلة " : الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وقد رأيت ما في سورة " المجادلة " ، من الزيادة والإيضاح لما تضمنته آية " الأحزاب " هذه . مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : قد علمت من القرآن أن الإقدام على الظهار من الزوجة حرام حرمة شديدة ; كما دل عليه قوله تعالى : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، فما صرح [ ص: 190 ] الله تعالى بأنه منكر وزور فحرمته شديدة كما ترى . وبين كونه كذبا وزورا بقوله : ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وقوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . وأشار بقوله تعالى : وإن الله لعفو غفور ، أن من صدر منه منكر الظهار وزوره ، إن تاب إلى الله من ذلك توبة نصوحا غفر له ذلك المنكر والزور وعفا عنه ، فسبحانه ما أكرمه وما أحلمه . المسألة الثانية : في بيان العود الذي رتب الله عليه الكفارة ، في قوله : ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، وإزالة إشكال في الآية . اعلم أن هذه المسألة قد بيناها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وسنذكر هنا كلامنا المذكور فيه تتميما للفائدة . ففي " دفع إيهام الاضطراب " ، ما نصه : قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا ، وقوله تعالى : من قبل أن يتماسا صريح في أن التكفير يلزم كونه من قبل العود إلى المسيس . اعلم أولا : أن ما رجحه ابن حزم من قول داود الظاهري ، وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام ، وقال به شعبة : من أن معنى : ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار ، فيكررونه مرة أخرى قول باطل ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار ، هل كرر زوجها صيغة الظهار أو لا ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال ، كما تقدم مرارا . والتحقيق : أن الكفارة ومنع الجماع قبلها ، لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار ، وما زعمه بعضهم أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا ، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب ، إلا لدليل . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : كذاك تريب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل [ ص: 191 ] وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - وأرضاهم . فنقول وبالله تعالى نستعين : معنى العود عند مالك فيه قولان ، تؤولت المدونة على كل واحد منهما ، وكلاهما مرجح . الأول : أنه العزم على الجماع فقط . الثاني : أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا ، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية . لأن المعنى حينئذ : والذين يظاهرون من نسائهم ، ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع ، أو عليه مع الإمساك ، وبين الإعتاق قبل المسيس . وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة ، وهو واقع في القرآن ; كقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة [ 5 \ 6 ] ، أي : أردتم القيام إليها ، وقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن [ 16 \ 98 ] ، أي : أردت قراءته فاستعذ بالله الآية [ 16 \ 98 ] . ومعنى العود عند الشافعي : أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق ، وعليه فلا إشكال في الآية أيضا ; لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس ، كما هو واضح . ومعنى العود عند أحمد : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه . أما العزم ، فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به ، وأما على القول بأنه الجماع . فالجواب : أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ، ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير ; لأن الآية على هذا القول ، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير ، وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر ، وأما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله تعالى : من قبل أن يتماسا . ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : هو العزم على الوطء ، وعليه فلا [ ص: 192 ] إشكال كما تقدم . وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن مالك ، من أنه حكى عنه أن العود الجماع ، فهو خلاف المعروف من مذهبه ، وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء ; كما ذكرنا . وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله . وقال بعض العلماء : المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع ، والمراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا ، خصوص الجماع وعليه فلا إشكال ، ولا يخفى عدم ظهور هذا القول . والتحقيق : عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير ، لعموم قوله : من قبل أن يتماسا ، وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء ، قائلا : إن المراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا ، نفس الجماع لا مقدماته ، وممن قال بذلك : الحسن البصري ، والثوري ، وروي عن الشافعي في أحد القولين . وقال بعض العلماء : اللام في قوله : لما قالوا ، بمعنى : في ، أي : يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون فيه ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الواهب العائد في هبته " الحديث ، وقيل : اللام بمعنى : عن ، أي : يعودون عما قالوا ، أي : يرجعون عنه ، وهو قريب مما قبله . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن العود له مبدأ ومنتهى ، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل ، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية ، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ، ومن وطء بالفعل تحتم في حقه اللزوم ، وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير . ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قال : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، قالوا : يا رسول الله قد عرفنا القاتل ، بما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " ، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤاخذ به الإنسان . فإن قيل : ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية ، الذي قدمنا بطلانه ; لأن الظاهر المتبادر من قوله : لما قالوا ، أنه صيغة الظهار ، فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى . [ ص: 193 ] فالجواب : أن المعنى لما قالوا : أنه حرام عليهم ، وهو الجماع ، ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن ، في قوله تعالى : ونرثه ما يقول [ 19 \ 80 ] ، أي : ما يقول إنه يؤتاه من مال وولد في قوله : لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير ، يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى ، حتى يكفر ، هو التحقيق خلافا لمن قال : تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس ; كما روي عن الزهري ، وسعيد بن جبير وأبي يوسف . ولمن قال : تلزم به كفارتان ; كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وذكره بعضهم عن عمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن مهدي . ولمن قال : تلزمه ثلاث كفارات ; كما رواه سعيد بن منصور ، عن الحسن ، وإبراهيم ، والعلم عند الله تعالى . انتهى بطوله من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " . المسألة الثالثة : أظهر قولي أهل العلم عندي أنه لو قال لها : أنت علي كظهر ابنتي ، أو أختي ، أو جدتي ، أو عمتي ، أو أمي من الرضاع ، أو أختي من الرضاع ، أو شبهها بعضو آخر غير الظهر ، كأن يقول : أنت علي كرأس ابنتي أو أختي إلخ ، أو بطن من ذكر ، أو فرجها ، أو فخذها أن ذلك كله ظهار ، إذ لا فرق في المعنى بينه وبين : أنت علي كظهر أمي ; لأنه في جميع ذلك شبه امرأته بما هي في تأبيد الحرمة كأمه ، فمعنى الظهار محقق الحصول في ذلك . قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا قول أكثر أهل العلم ، منهم : الحسن ، وعطاء ، وجابر بن زيد ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، والثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وهو جديد قولي الشافعي . وقال في القديم : لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة ، لأنها أم أيضا ; لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالأم ، فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه ، ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم . فأما الآية فقد قال فيها : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وهذا موجود في مسألتنا ، فجرى مجراه ، وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها ، إذا كانت مثلها . الضرب الثالث : أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب ، كالإمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة ، وحلائل الآباء ، والأبناء ، وأمهات النساء ، والربائب اللاتي دخل بأمهن فهو ظهار أيضا ، والخلاف فيها كالتي قبلها ، ووجه المذهبين [ ص: 194 ] ما تقدم ، ويزيد في الأمهات المرضعات دخولها في عموم الأمهات فتكون داخلة في النص ، وسائرهن في معناها ، فثبت فيهن حكمها ، انتهى من " المغني " ، وهو واضح كما ترى . فرعان يتعلقان بهذه المسألة . الأول : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا شبه امرأته بظهر من تحرم عليه تحريما مؤقتا ، كأخت امرأته ، وعمتها وكالأجنبية ، فقال بعض أهل العلم : هو ظهار وهو قول أصحاب مالك ، وهو عندهم من نوع الكناية الظاهرة ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختارها الخرقي . والرواية الأخرى عن أحمد : أنه ليس بظهار ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي . وحجة القول الأول : أنه شبه امرأته بمحرمة ، فأشبه ما لو شبهها بالأم ، لاشتراك الجميع في التحريم ; لأن مجرد قوله : أنت علي حرام ، إذا نوى به الظهار ، يكون ظهارا على الأظهر ، والتشبيه بالمحرمة تحريم ، فيكون ظهارا . وحجة القول الثاني : أن التي شبه بها امرأته ليست محرمة على التأبيد ، فلا يكون لها حكم ظهر الأم إلا إن كان تحريمها مؤبدا كالأم ، ولما كان تحريمها غير مؤبد كان التشبيه بها ليس بظهار ، كما لو شبهها بظهر حائض ، أو محرمة من نسائه ، وأجاب المخالفون عن هذا : بأن مجرد التشبيه بالمحرمة يكفي في الظهار لدخوله في عموم قوله : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، قالوا : وأما الحائض ، فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج ، والمحرمة يحل له النظر إليها ولمسها من غير شهوة ، وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف مسألتنا ، انتهى من " المغني " ، مع تصرف يسير لا يخل بالمعنى . وقال صاحب " المغني " : واختار أبو بكر : أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحرم من النساء ، قال : فبهذا أقول . وقال بعض العلماء : إن شبه امرأته بظهر الأجنبية ، كان طلاقا . قاله بعض المالكية ، ا هـ . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي وأجراها على الأصول ، هو قول من قال : إنه يكون مظاهرا ، ولو كانت التي شبه امرأته بظهرها غير مؤبدة [ ص: 195 ] التحريم ، إذ لا حاجة لتأبيد التحريم ; لأن مدار الظهار على تحريم الزوجة بواسطة تشبيهها بمحرمة ، وذلك حاصل بتشبيهها بامرأة محرمة في الحال ، ولو تحريما مؤقتا لأن تحريم الزوجة حاصل بذلك في قصد الرجل ، والعلم عند الله تعالى . الفرع الثاني : في حكم ما قال لها : أنت علي كظهر أبي أو ابني أو غيرهما من الرجال ، لا أعلم في ذلك نصا من كتاب ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه . فقال بعضهم : لا يكون مظاهرا بذلك ، قال ابن قدامة في " المغني " : وهو قول أكثر العلماء ، لأنه شبيه بما ليس بمحل للاستمتاع ، فأشبه ما لو قال : أنت علي كمال زيد ، وهل فيه كفارة ؟ على روايتين : إحداهما : فيه كفارة ، لأنه نوع تحريم فأشبه ما لو حرم ماله . والثانية : ليس فيه شيء ، ونقل ابن القاسم عن أحمد ، فيمن شبه امرأته بظهر الرجل ، لا يكون ظهارا ، ولم أره يلزم فيه شيء ، وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع ، أشبه التشبيه بمال غيره . وقال بعضهم : يكون مظاهرا بالتشبيه بظهر الرجل . وعزاه في " المغني " لابن القاسم صاحب مالك ، وجابر بن زيد . وعن أحمد روايتان ، كالمذهبين المذكورين ، وكون ذلك ظهارا هو المعروف عند متأخري المالكية . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر جريان هذه المسألة على مسألة أصولية فيها لأهل الأصول ثلاثة مذاهب ، وهي في حكم ما إذا دار اللفظ بين الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية ، على أيهما يحمل ؟ والصحيح عند جماعات من الأصوليين : أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية أولا إن كانت له حقيقة شرعية ، ثم إن لم تكن شرعية حمل على العرفية ، ثم اللغوية . وعن أبي حنيفة : أنه يحمل على اللغوية قبل العرفية ، قال : لأن العرفية ، وإن ترجحت بغلبة الاستعمال فإن الحقيقة اللغوية مترجحة بأصل الوضع . والقول الثالث : أنهما لا تقدم إحداهما على الأخرى بل يحكم باستوائهما ، فيكون اللفظ مجملا لاستواء الاحتمالين فيهما ، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج ، وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " ، بقوله : واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب ومذهب النعمان عكس ما مضى والقول بالإجمال فيه مرتضى وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أبي مثلا لا ينصرف [ ص: 196 ] في الحقيقة العرفية إلى الاستمتاع بالوطء أو مقدماته ; لأن العرف ليس فيه استمتاع بالذكور ، فلا يكون فيه ظهار . وأما على تقديم الحقيقة اللغوية ، فمطلق تشبيه الزوجة بمحرم ولو ذكرا يقتضي التحريم ، فيكون بمقتضى اللغة له حكم الظهار ، والظاهر أن قوله : أنت علي كالميتة والدم ، وكظهر البهيمة ، ونحو ذلك ; كقوله : أنت علي كظهر أبي ، فيجري على حكمه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة : اعلم أن قول الرجل لامرأته : أنت علي حرام ، أو إن دخلت الدار فأنت حرام ثم دخلتها ، فيها للعلماء نحو عشرين قولا ، كما هو معروف في محله . وقد دلت آية الظهار هذه على أن أقيس الأقوال وأقربها لظاهر القرآن قول من قال : إن تحريم الزوجة ظهار ، تلزم فيه كفارة الظهار ، وليس بطلاق . وإيضاح ذلك : أن قوله : أنت علي كظهر أمي ، معناه : أنت علي حرام ، وقد صرح تعالى بلزوم الكفارة في قوله : أنت علي كظهر أمي ، ولا يخفى أن : أنت علي حرام ، مثلها في المعنى ، كما ترى . وقال في " المغني " : وذكر إبراهيم الحربي عن عثمان ، وابن عباس ، وأبي قلابة ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران ، والبتي ، أنهم قالوا : التحريم ظهار ، ا هـ . وأقرب الأقوال بعد هذا لظاهر القرآن القول بكفارة اليمين ، والاستغفار لقوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، وقوله : والله غفور رحيم [ 66 \ 1 ] ، بعد قوله : لم تحرم الآية [ 66 \ 1 ] . المسألة الخامسة : الأظهر أن قوله : أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي ، لا فرق بينه وبين قوله : أنت علي كظهر أمي ، فهو ظهار كما قاله غير واحد ، وهو واضح كما ترى . المسألة السادسة : أظهر أقوال العلم عندي فيمن قال لامرأته : أنت علي كأمي أو مثل أمي ، ولم يذكر الظهر أنه لا يكون ظهارا إلا أن ينوي به الظهار ; لاحتمال اللفظ معاني أخرى غير الظهار ، مع كون الاستعمال فيها مشهورا ، فإن قال : نويت به الظهار ، فهو ظهار في قول عامة العلماء ، قاله في " المغني " . وإن نوى به أنها مثلها في الكرامة عليه والتوقير ، أو أنها مثلها في الكبر أو الصفة فليس بظهار ، والقول قوله في نيته ، قاله في " المغني " . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (437) سُورَةُ الْأَحْزَابِ صـ 197 إلى صـ 204 وأما إن لم ينو شيئا ، فقد قال في " المغني " : وإن أطلق ، فقال أبو بكر : هو صريح في [ ص: 197 ] الظهار ، وهو قول مالك ، ومحمد بن الحسن . وقال ابن أبي موسى : فيه روايتان ، أظهرهما : أنه ليس بظهار حتى ينويه ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ; لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم ، فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق ، انتهى منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وهذا القول هو الأظهر عندي ، لأن اللفظ المذكور لا يتعين لا عرفا ، ولا لغة ، إلا لقرينة تدل على قصده الظهار . قال ابن قدامة في " المغني " : ووجه الأول يعني القول بأن ذلك ظهار أنه شبه امرأته بجملة أمه ، فكان مشبها لها بظهرها ، فيثبت الظهار ; كما لو شبهها به منفردا . والذي يصح عندي في قياس المذهب أنه إن وجدت قرينة تدل على الظهار مثل أن يخرجه مخرج الحلف ، فيقول : إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي ، أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار ; لأنه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شيء أو الحث عليه ، وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه ، ولأن كونها مثل أمه في صفتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط ، فيدل على أنه إنما أراد الظهار ، ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على أنه أراد به ما يتعلق بأذاها ، ويوجب اجتنابها وهو الظهار ، وإن عدم هذا فليس بظهار ; لأنه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا ، فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل ، ونحو هذا قول أبي ثور ، انتهى محل الغرض من " المغني " ، وهو الأظهر فلا ينبغي العدول عنه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة : أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن قال : الحل علي حرام ، أو ما أحل الله علي حرام ، أو ما انقلب إليه حرام ، وكانت له امرأة أنه يكون مظاهرا ، وذلك لدخول الزوجة في عموم الصيغ المذكورة . قال في " المغني " : نص على ذلك أحمد في الصور الثلاث ، ا هـ . وهو ظاهر . وهذا على أقيس الأقوال وهو كون التحريم ظهارا ، وأظهر القولين عندي فيمن قال : ما أحل الله من أهل ومال حرام علي أنه يلزمه الظهار ، مع لزوم ما يلزم في تحريم ما أحل الله من مال ، وهو كفارة يمين عند من يقول بذلك ، وعليه فتلزمه كفارة ظهار وكفارة يمين . [ ص: 198 ] وهذا الذي استظهرنا هو الذي اختاره ابن عقيل ، خلافا لما نقله في " المغني " عن أحمد ونصره من أنه يكفي فيه كفارة الظهار عن كفارة اليمين ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثامنة : أظهر أقوال أهل العلم عندي ، فيمن قال لامرأته : أنت علي حرام كظهر أمي ، أو أنت علي كظهر أمي حرام أنه يكون مظاهرا مطلقا ، ولا ينصرف للطلاق ، ولو نواه ; لأن الصيغة صريحة في الظهار . المسألة التاسعة : أظهر أقوال أهل العلم عندي ، فيمن قال لامرأته : أنت طالق كظهر أمي ، أن الطلاق إن كان بائنا بانت به ، ولا يقع ظهار بقوله : كظهر أمي ; لأن تلفظه بذلك وقع ، وهي أجنبية فهو كالظهار من الأجنبية ، وإن كان الطلاق رجعيا ، ونوى بقوله : كظهر أمي ، الظهار كان مظاهرا ; لأن الرجعية زوجة يلحقها الظهار والطلاق ، وإن لم ينو به الظهار ، فلا يكون ظهارا ، لأنه أتى بصريح الطلاق أولا ، وجعل قوله : كظهر أمي ، صفة له ، وصريح الطلاق لا ينصرف إلى الظهار . ونقل في " المغني " هذا الذي استظهرنا عن القاضي وقال : وهو مذهب الشافعي . وأما لو قدم الظهار على الطلاق ، فقال : أنت علي كظهر أمي طالق ، فالأظهر وقوع الظهار والطلاق معا ، سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا ; لأن الظهار لا يرفع الزوجية ، ولا تحصل به البينونة ، لأن الكفارة ترفع حكمه ، فلا يمنع وقوع الطلاق على المظاهر منها ، والعلم عند الله تعالى . المسألة العاشرة : أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن شبه أي عضو من امرأته بظهر أمه ، أو بأي عضو من أعضائها ، فهو مظاهر لحصول معنى تحريم الزوجة بذلك . وسواء كان عضو الأم يجوز له النظر إليه كرأسها ويدها أو لا يجوز له كفرجها وفخذها ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، ورواية أخرى : أنه لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة امرأته ; لأنه لو حلف بالله لا يمس عضوا معينا منها لم يسر إلى غيره من أعضائها ، فكذلك المظاهرة ، ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ، ولا هو في معنى المنصوص ، وعن أبي حنيفة : إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم كالفخذ والفرج فهو ظهار ، وإن شبهها بما يجوز النظر إليه ، كاليد والرأس فليس بظهار ; لأن التشبيه بعضو يحل النظر إليه كالتشبيه بعضو زوجة له أخرى ، فلا يحصل به الظهار ، وإنما استظهرنا أنه ظهار مطلقا ; لأن معنى التحريم حاصل به ، فهو في معنى صريح الظهار ، فقولهم : ولا هو في معنى المنصوص ليس بمسلم ، بل هو في معناه ، وقياسه على حلفه بالله لا يمس عضوا [ ص: 199 ] معينا منها ظاهر السقوط ; لأن معنى التحريم يحصل ببعض ، والحلف عن بعض لا يسري إلى بعض آخر ، كما ترى . وقول أبي حنيفة : إن العضو الذي يحل النظر إليه لا يحصل الظهار بالتشبيه به غير مسلم أيضا ; لأنه وإن جاز النظر إليه فإن التلذذ به حرام ، والتلذذ هو المستفاد من عقد النكاح ، فالتشبيه به مستلزم للتحريم ، والظهار هو نفس التحريم بواسطة التشبيه بعضو الأم المحرم . واعلم أن القول بأن الظهار يحصل بقوله : شعرك ، أو ريقك ، أو كلامك علي كظهر أمي ، له وجه قوي من النظر ; لأن الشعر من محاسن النساء التي يتلذذ بها الأزواج كما بيناه في سورة " الحج " ، وكذلك الريق فإن الزوج يمصه ويتلذذ به من امرأته ، وكذلك الكلام ، كما هو معروف . وأما لو قال لها : سعالك أو بصاقك ، أو نحو ذلك علي كظهر أمي ، فالظاهر أن ذلك ليس بشيء ; لأن السعال والبصاق وما يجري مجراهما ، كالدمع ليس مما يتمتع به عادة ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الحادية عشرة : اختلف العلماء فيمن قال لأمته : أنت علي كظهر أمي ، أو قال ذلك لأم ولده ، فقال بعض أهل العلم : لا يصح الظهار من المملوكة ، وهو مروي عن ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، وربيعة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد . وقال بعضهم : يصح الظهار من الأمة أم ولد كانت أو غيرها ، وهو مذهب مالك ، وهو مروي أيضا عن الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، والحكم ، والثوري ، وقتادة ، وهو رواية عن أحمد ، وعن الحسن ، والأوزاعي : إن كان يطؤها فهو ظهار ، وإلا فلا . وعن عطاء : إن ظاهر من أمته ، فعليه نصف كفارة الظهار من الحرة . واحتج الذين قالوا : إن الأمة لا يصح الظهار منها ، بأدلة : منها أنهم زعموا أن قوله : يظاهرون من نسائهم ، يختص بالأزواج دون الإماء . ومنها أن الظهار لفظ يتعلق به تحريم الزوجة ، فلا تدخل فيه الأمة قياسا على الطلاق . ومنها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ، فنقل حكمه وبقي محله ، ومحل الطلاق الأزواج دون الإماء . [ ص: 200 ] ومنها أن تحريم الأمة تحريم لمباح من ماله ، فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله عند من يقول : بأن تحريم المال فيه كفارة يمين ، كما تقدم في سورة " الحج " . قالوا : ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم جاريته مارية ، فلم يلزمه ظهار بل كفارة يمين ; كما قال تعالى في تحريمه إياها : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم الآية [ 66 \ 2 ] . واحتج القائلون بصحة الظهار من الأمة ، بدخولها في عموم قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ، قالوا : وإماؤهم من نسائهم ; لأن تمتعهم بإمائهم من تمتعهم بنسائهم ، قالوا : ولأن الأمة يباح وطؤها ، كالزوجة فصح الظهار منها كالزوجة ، قالوا : وقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ، نزلت في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - شرب العسل في القصة المشهورة ، لا في تحريم الجارية . وحجة الحسن والأوزاعي ، وحجة عطاء كلتاهما واضحة ، كما تقدم . وقال ابن العربي المالكي في قول مالك وأصحابه : بصحة الظهار من الأمة ، وهي مسألة عسيرة علينا ; لأن مالكا يقول : إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته ؟ ولكن تدخل الأمة في عموم قوله : من نسائهم ; لأنه أراد من محللاتهم . والمعنى فيه : أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد ، فصح في الأمة أصله الحلف بالله تعالى ، ا هـ منه ، بواسطة نقل القرطبي . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : لا يبعد بمقتضى الصناعة الأصولية ، والمقرر في علوم القرآن : أن يكون هناك فرق بين تحريم الأمة وتحريم الزوجة . وإيضاح ذلك : أن قوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ، جاء في بعض الروايات الصحيحة في السنن وغيرها ، أنه نزل في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريته مارية أم إبراهيم ، وإن كان جاء في الروايات الثابتة في الصحيحين : أنه نزل في تحريمه العسل الذي كان شربه عند بعض نسائه ، وقصة ذلك مشهورة صحيحة ; لأن المقرر في علوم القرآن أنه إذا ثبت نزول الآية في شيء معين ، ثم ثبت بسند آخر صحيح أنها نزلت في شيء آخر معين غير [ ص: 201 ] الأول ، وجب حملها على أنها نزلت فيهما معا ، فيكون لنزولها سببان ، كنزول آية اللعان في عويمر وهلال معا . وبه تعلم أن ذلك يلزمه أن يقال : إن قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية نزل في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - العسل على نفسه ، وفي تحريمه جاريته ، وإذا علمت بذلك نزول قوله : لم تحرم ، في تحريم الجارية ، علمت أن القرآن دل على أن تحريم الجارية لا يحرمها ، ولا يكون ظهارا منها ، وأنه تلزم فيه كفارة يمين ; كما صح عن ابن عباس ومن وافقه . وقد قال ابن عباس : لما بين أن فيه كفارة يمين لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر عن تحريمه جاريته كفارة يمين ; لأن الله تعالى قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، بعد تحريمه - صلى الله عليه وسلم - جاريته المذكورة في قوله : لم تحرم ما أحل الله لك ، ومن قال من أهل العلم : إن من حرم جاريته لا تلزمه كفارة يمين ، وإنما يلزمه الاستغفار فقط ، فقد احتج بقوله تعالى : والله غفور رحيم ، بعد قوله : لم تحرم ، وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم جاريته ، قال مع ذلك : " والله لا أعود إليها " ، وهذه اليمين هي التي نزل في شأنها : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، ولم تنزل في مطلق تحريم الجارية ، واليمين المذكورة مع التحريم في قصة الجارية ، قال في " نيل الأوطار " : رواها الطبراني بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي المشهور ، لكنه أرسله ، اهـ . وكذلك رواه عنه ابن جرير . وقال ابن كثير في " تفسيره " : إن الهيثم بن كليب رواه في مسنده بسند صحيح وساق السند المذكور عنه - رضي الله عنه - ، والمتن فيه التحريم واليمين كما ذكرنا ، وعلى ما ذكرنا من أن آية : لم تحرم ما أحل الله لك ، نزلت في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - جاريته ، فالفرق بين تحريم الجارية والزوجة ظاهر ; لأن آية لم تحرم دلت على أن تحريم الجارية لا يحرمها ولا يكون ظهارا ، وآية والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة الآية ، دلت على أن تحريم الزوجة تلزم فيه كفارة الظهار المنصوص عليه في " المجادلة " ; لأن معنى : يظاهرون من نسائهم على جميع القراءات هو أن يقول أحدهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، وهذا لا خلاف فيه . وقوله : أنت علي كظهر أمي ، معناه : أنت علي حرام ، كما تقدم إيضاحه . وعلى هذا فقد دلت آية " التحريم " على حكم تحريم الأمة ، وآية " المجادلة " على حكم تحريم الزوجة ، وهما حكمان متغايران ، [ ص: 202 ] كما ترى . ومعلوم أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يقل بالفرق بينهما ، بل قال : إن حكم تحريم الزوجة كحكم تحريم الجارية المنصوص في آية " التحريم " ، ونحن نقول : إن آية الظهار تدل بفحواها على أن تحريم الزوجة ظهار ; لأن " أنت علي كظهر أمي " ، و " أنت علي حرام " معناهما واحد ، كما لا يخفى . وعلى هذا الذي ذكرنا ، فلا يصح الظهار من الأمة ، وإنما يلزم في تحريمها بظهار ، أو بصريح التحريم كفارة يمين أو الاستغفار كما تقدم . وهذا أقرب لظاهر القرآن ، وإن كان كثير من العلماء على خلافه . وقد قدمنا أن تحريم الرجل امرأته فيه للعلماء عشرون قولا ، وسنذكرها هنا باختصار ونبين ما يظهر لنا رجحانه بالدليل منها ، إن شاء الله تعالى . القول الأول : هو أن تحريم الرجل امرأته لغو باطل ، لا يترتب عليه شيء . قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وبه قال مسروق ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعطاء ، والشعبي ، وداود ، وجميع أهل الظاهر ، وأكثر أصحاب الحديث ، وهو أحد قولي المالكية ، اختاره أصبغ بن الفرج . وفي الصحيح عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول : إذا حرم الرجل امرأته ، فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وصح عن مسروق أنه قال : ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد . وصح عن الشعبي في تحريم المرأة : لهو أهون علي من نعلي . وقال أبو سلمة : ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر . وقال الحجاج بن منهال : إن رجلا جعل امرأته عليه حراما ، فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن ، فقال حميد : قال الله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [ 94 \ 7 - 8 ] ، وأنت رجل تلعب ، فاذهب فالعب ، ا هـ منه . واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ 5 \ 87 ] ، وعموم قوله تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] ، وعموم قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا ، فهو رد " ، ومعلوم أن تحريم ما أحل الله ليس من أمرنا . [ ص: 203 ] القول الثاني : أن التحريم ثلاث تطليقات ، قال في " إعلام الموقعين " : وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، والحسن البصري ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى . وقضى فيها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي ، وقال : والذي نفسي بيده ، لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك . وقال في " زاد المعاد " : وروي عن الحكم بن عتيبة ، ثم قال : قلت : الثابت عن زيد بن ثابت ، وابن عمر أن في ذلك كفارة يمين ، وذكر في " الزاد " أيضا : أن ابن حزم نقل عن علي الوقف في ذلك ، وحجة هذا القول بثلاث أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث ، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه . القول الثالث : أنها حرام عليه بتحريمه إياها ، قال في " إعلام الموقعين " : وصح هذا أيضا عن أبي هريرة ، والحسن ، وخلاس بن عمرو ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط . وصح ذلك أيضا عن علي رضي الله عنه ، فإما أن يكون عنه روايتان ، وإما أن يكون أراد تحريم الثلاث ، وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ، ولم يتعرض لعدد الطلاق ، فحرمت عليه بمقتضى تحريمه . القول الرابع : الوقف . قال في " إعلام الموقعين " : صح ذلك أيضا عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وهو قول الشعبي ، وحجة هذا القول : أن التحريم ليس بطلاق ، وهو لا يملك تحريم الحلال ، إنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به ، وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ، ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة ، فاشتبه الأمر فيه فوجب الوقف للاشتباه . القول الخامس : إن نوى به الطلاق فهو طلاق ، وإلا فهو يمين . قال في " الإعلام " : وهذا قول طاوس ، والزهري ، والشافعي ، ورواية عن الحسن ، ا هـ . وحكي هذا القول أيضا عن النخعي ، وإسحاق ، وابن مسعود ، وابن عمر . وحجة هذا القول : أن التحريم كناية في الطلاق ، فإن نواه به كان طلاقا ، وإن لم ينوه كان يمينا ; لقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، إلى قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم . القول السادس : أنه إن نوى به الثلاث فثلاث ، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة ، وإن [ ص: 204 ] نوى يمينا فهو يمين ، وإن لم ينو شيئا هو كذبة لا شيء فيها ، قاله سفيان ، وحكاه النخعي عن أصحابه ، وحجة هذا القول : أن اللفظ محتمل لما نواه من ذلك ، فيتبع نيته . القول السابع : مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها ، وهو قول الأوزاعي . وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم . القول الثامن : مثل هذا أيضا ، إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم ، هكذا ذكر هذا القول في " إعلام الموقعين " ، ولم يعزه لأحد . وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد حكاه ابن حزم عن إبراهيم النخعي . القول التاسع : أن فيه كفارة الظهار . قال في " إعلام الموقعين " : وصح ذلك عن ابن عباس أيضا ، وأبي قلابة ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وعثمان البتي ، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد . وحجة هذا القول : أن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا ، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا ، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار ، وهذا أقيس الأقوال وأفقهها . ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل ، وإنما ذلك إليه تعالى ، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال ، التي يترتب عليها التحريم والتحليل ، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله تعالى ، فإذا قال : أنت علي كظهر أمي ، أو قال : أنت علي حرام ، فقد قال المنكر من القول والزور ، وقد كذب ، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ، ولا جعلها عليه حراما ، فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين ، وهي كفارة الظهار . القول العاشر : أنه تطليقة واحدة ، وهي إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، وحجة هذا القول : أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث ، بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة ، فحمل اللفظ عليها ; لأنها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة . القول الحادي عشر : أنه ينوي فيما أراد من ذلك ، فيكون له نيته في أصل الطلاق وعدده ، وإن نوى تحريما بغير طلاق ، فيمين مكفرة . قال ابن القيم : وهو قول الشافعي . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد السادس الحلقة (438) سُورَةُ الْأَحْزَابِ صـ 205 إلى صـ 212 وحجة هذا القول : أن اللفظ صالح لذلك كله ، فلا يتعين واحد منها إلا بالنية ، فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين ، ولا تحرم عليه في [ ص: 205 ] الموضعين ، ا هـ . وقد تقدم أن مذهب الشافعي هو القول الخامس . قال في " نيل الأوطار " : وهو الذي حكاه عنه في " فتح الباري " ، بل حكاه عنه ابن القيم نفسه . القول الثاني عشر : أنه ينوي في أصل الطلاق وعدده ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، وإن لم ينو الطلاق فهو مؤول ، وإن نوى الكذب فليس بشيء ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . وحجة هذا القول : احتمال اللفظ لما ذكره ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، لاقتضاء التحريم للبينونة ، وهي صغرى وكبرى ، والصغرى هي المتحققة ، فاعتبرت دون الكبرى . وعنه رواية أخرى : إن نوى الكذب دين ، ولم يقبل في الحكم بل كان مؤليا ، ولا يكون ظهارا عنده ، نواه أو لم ينوه ، ولو صرح به فقال : أعني بها الظهار ، لم يكن مظاهرا ، انتهى من " إعلام الموقعين " . وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد أن ذكر كلام ابن القيم الذي ذكرناه آنفا ، إلى قوله : وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، هكذا قال ابن القيم . وفي " الفتح " عن الحنفية : أنه إذا نوى اثنتين فهي واحدة بائنة ، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير مؤليا ، ا هـ . القول الثالث عشر : أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين . قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : صح ذلك عن أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعائشة ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعكرمة ، وعطاء ، ومكحول ، وقتادة ، والحسن ، والشعبي ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير ، ونافع ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وخلق سواهم رضي الله عنهم . وحجة هذا القول ظاهر القرآن العظيم ، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال ، فلا بد أن يتناوله يقينا ، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله ، اهـ منه . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن ابن القيم أراد بكلامه هذا أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وأن قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، نازل في تحريم الحلال المذكور في قوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ، وما ذكره من [ ص: 206 ] شمول قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، لقوله : لم تحرم ما أحل الله لك ، على سبيل اليقين . والجزم لا يخلو عندي من نظر ، لما قدمنا عن بعض أهل العلم من أن قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم نازل في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود لما حرم على نفسه لا في أصل التحريم ، وقد أشرنا للروايات الدالة على ذلك في أول هذا المبحث . القول الرابع عشر : أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة . قال ابن القيم : وصح ذلك أيضا عن ابن عباس ، وأبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وجماعة من التابعين . وحجة هذا القول : أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ، ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله ، وليس إلى العبد . وقول المنكر والزور وإن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه ، فغلظت كفارته بتحتم العتق ; كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين ، أو بإطعام ستين مسكينا . القول الخامس عشر : أنه طلاق ، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها ، فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها . وإن كانت مدخولا بها ، فثلاث . وإن نوى أقل منها ، وهو إحدى الروايتين عن مالك . وحجة هذا القول : أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يرتب عليه حكمه ، وغير المدخول بها تحرم بواحدة ، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث . وبعد : ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها ، وهو مشهورها . والثاني : أنها ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها ، اختاره عبد الملك في مبسوطه . والثالث : أنها واحدة بائنة مطلقا ، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك . والرابع : أنه واحدة رجعية ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة . والخامس : أنه ما نواه من ذلك مطلقا ، سواء قبل الدخول أو بعده ، وقد عرفت توجيه هذه الأقوال ، انتهى من " إعلام الموقعين " . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : المعروف أن المعتمد من هذه الأقوال عند المالكية : اثنان ، وهما القول بالثلاث وبالواحدة البائنة ، وقد جرى العمل في مدينة فاس بلزوم الواحدة البائنة في التحريم . قال ناظم عمل فاس : وطلقة بائنة في التحريم وحلف به لعرف الإقليم ثم قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا ، وإن نوى التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة ، وإن نوى الطلاق كان طلاقا ، وكان ما نواه . وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه صريح في إيجاب الكفارة . والثاني : لا يتعلق به شيء . والثالث : أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة ، وفي حق الحرة كناية ، قالوا : إن أصل الآية إنما ورد في الأمة ، قالوا : فلو قال : أنت علي حرام ، وقال : أردت بها الظهار والطلاق . فقال ابن الحداد : يقال له عين أحد الأمرين ; لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا . وقيل : يلزمه ما بدأ به منهما ، قالوا : ولو ادعى رجل على رجل حقا أنكره ، فقال : الحل عليك حرام والنية نيتي لا نيتك ما لي عليك شيء ، فقال : الحل علي حرام والنية في ذلك نيتك ما لك عندي شيء ، كانت النية نية الحالف لا المحلف ; لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع ، ثم قال : وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمطلقه ، وإن لم ينوه إلا أن ينوي الطلاق أو اليمين ، فيلزمه ما نواه ، وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه ، إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار ، فيلزمه ما نواه . وعنه رواية ثالثة : أنه ظهار بكل حال ، ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا ; كما لو نوى الطلاق أو اليمين ، بقوله : أنت علي كظهر أمي ، فإن اللفظين صريحان في الظهار ، فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله : أعني به الطلاق ، فهل يكون طلاقا أو ظهارا ؟ على روايتين ، إحداهما : يكون ظهارا ; كما لو قال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق أو التحريم ، إذ التحريم صريح في الظهار . والثانية : أنه طلاق ; لأنه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله ، وغايته أنه كناية فيه ، فعلى هذه الرواية ، إن قال : أعني به طلاقا طلقت واحدة ، وإن قال : أعني به الطلاق ، فهل تطلق ثلاثا أو واحدة ؟ وعلى روايتين مأخذهما هل اللام على الجنس أو العموم ، وهذا تحرير مذهبه وتقريره ، وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله ، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا ، ولو نوى به الطلاق ، وإن حلف به كان يمينا مكفرة ، وهذا اختيار ابن تيمية ، وعليه يدل النص والقياس ، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا ، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة ، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحج والعتق والصدقة ، وهذا [ ص: 208 ] محض القياس والفقه ، ألا ترى أنه إذا قال : لله علي أن أعتق ، أو أحج ، أو أصوم ، لزمه . ولو قال : إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين ، فهو يمين . وكذلك لو قال : هو يهودي أو نصراني كفر بذلك ، ولو قال : إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني كان يمينا . وطرد هذا بل نظيره من كل وجه ، أنه إذا قال : أنت علي كظهر أمي كان ظهارا ، فلو قال : إن فعلت كذا ، فأنت علي كظهر أمي كان يمينا ، وطرد هذا أيضا إذا قال : أنت طالق ، كان طلاقا ، ولو قال : إن فعلت كذا فأنت طالق كان يمينا ، فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان ، وبالله التوفيق . انتهى كلام ابن القيم . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي مع كثرتها وانتشارها : أن التحريم ظهار ، سواء كان منجزا أو معلقا ; لأن المعلق على شرط من طلاق أو ظهار يجب بوجود الشرط المعلق عليه ، ولا ينصرف إلى اليمين المكفرة على الأظهر عندي ، وهو قول أكثر أهل العلم . وقال مالك في " الموطإ " : فقال القاسم بن محمد : إن رجلا جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها ، فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها ألا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر ، اهـ . ثم قال : وحدثني عن مالك : أنه بلغه أن رجلا سأل القاسم بن محمد وسليمان بن يسار ، عن رجل تظاهر من امرأة قبل أن ينكحها ، فقالا : إن نكحها فلا يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر ، اهـ . والمعروف عن جماهير أهل العلم أن الطلاق المعلق يقع بوقوع المعلق عليه ، وكذلك الظهار . وأما الأمة فالأظهر أن في تحريمها كفارة اليمين أو الاستغفار ، كما دلت عليه آية سورة " التحريم " كما تقدم إيضاحه ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثانية عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا في العبد والذمي ، هل يصح منهما ظهار ؟ وأظهر أقوالهم عندي في ذلك : أن العبد يصح منه الظهار ; لأن الصحيح دخوله في عموم النصوص العامة ، إلا ما أخرجه منه دليل خاص ، كما تقدم . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : [ ص: 209 ] والعبد والموجود والذي كفر مشمولة له لدى ذوي النظر وعليه فهو داخل في عموم قوله : والذين يظاهرون من نسائهم ، ولا يقدح في هذا أن قوله : فتحرير رقبة لا يتناوله ; لأنه مملوك لا يقدر على العتق ، لدخوله في قوله : فمن لم يجد فصيام شهرين ، فالأظهر صحة ظهار العبد ، وانحصار كفارته في الصوم ; لعدم قدرته على العتق والإطعام ، وأن الذمي لا يصح ظهاره ، لأن الظهار منكر من القول وزور يكفره الله بالعتق ، أو الصوم ، أو الإطعام ، والذمي كافر ، والكافر لا يكفر عنه العتق أو الصوم أو الإطعام ما ارتكبه من المنكر والزور لكفره لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في الظهار المؤقت ، كأن يقول : أنت علي كظهر أمي شهرا ، أو حتى ينسلخ شهر رمضان مثلا ، فقال بعض أهل العلم : يصح الظهار المؤقت ، وإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة ، ولا يكون عائدا بالوطء بعد انقضاء الوقت . قال في " المغني " : وهذا قول أحمد ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأحد قولي الشافعي ، وقوله الأخير : لا يكون ظهارا ، وبه قال ابن أبي ليلى ، والليث ; لأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا ، وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت . وقال طاوس : إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة ، وإن بر . وقال مالك : يسقط التوقيت ويكون ظهارا مطلقا ; لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة ، فإذا وقته لم يتوقت ، كالطلاق . قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أقرب الأقوال عندي للصواب في هذه المسألة قول من قال : إن الظهار المؤقت يصح ويزول بانقضاء الوقت ; لأنه جاء ما يدل عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث حسنه الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، وبعض طرقه لا يقل عن درجة الحسن ، وإن أعل عبد الحق وغيره بعض طرقه بالإرسال ; لأن حديثا صححه بعض أهل العلم أقرب للصواب مما لم يرد فيه شيء أصلا . قال أبو داود في " سننه " : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ومحمد بن العلاء المعني قالا : ثنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، قال ابن [ ص: 210 ] العلاء بن علقمة بن عياش ، عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر ، قال ابن العلاء البياضي ، قال : كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح ، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء ، فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي ، فأخبرتهم الخبر . . . الحديث بطوله ، وفيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بعتق رقبة ، فذكر أنه لا يجد رقبة ، فأمره بصيام شهرين فذكر أنه لا يقدر ، فأمره بإطعام ستين مسكينا فذكر كذلك ، فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - صدقة قومه بني زريق من التمر ، وأمره أن يطعم وسقا منها ستين مسكينا ويستعين بالباقي ، ومحل الشاهد من الحديث : أنه ظاهر من امرأته ظهارا مؤقتا بشهر رمضان ، وجامع في نفس الشهر الذي جعله وقتا لظهاره ، فدل ذلك على أن الظهار المؤقت يصح ، ويلزم ولو كان توقيته لا يصح لبين - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ولو كان يتأبد ويسقط حكم التوقيت لبينه - صلى الله عليه وسلم - ; لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه . وقال أبو عيسى الترمذي في " جامعه " : حدثنا إسحاق بن منصور ، ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ، ثنا علي بن المبارك ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، ثنا أبو سلمة ، ومحمد بن عبد الرحمن : أن سلمان بن صخر الأنصاري أحد بني بياضة ، جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان . . . الحديث ، ثم قال الترمذي بعد أن ساقه : هذا حديث حسن ، يقال سلمان بن صخر ، ويقال : سلمة بن صخر البياضي ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في كفارة الظهار ، اهـ . وهذه الطريق التي أخرج بها الترمذي هذا الحديث غير طريق أبي داود التي أخرجه بها ، وكلتاهما تقوي الأخرى ، والظاهر أن إسناد الترمذي هذا لا يقل عن درجة الحسن ، وما ذكروه من أن علي بن المبارك المذكور فيه كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان أحدهما سماع ، والآخر إرسال ، وأن حديث الكوفيين عنه فيه شيء لا يضر الإسناد المذكور ; لأن الراوي عنه فيه وهو هارون بن إسماعيل الخزاز بصري لا كوفي ، ولما ساق المجد في " المنتقى " حديث سلمة بن صخر المذكور ، قال : رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن . وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وأخرجه أيضا الحاكم ، وصححه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، وقد أعله عبد الحق بالانقطاع ، وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة ، وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري ، وفي إسناده أيضا محمد بن إسحاق ، اهـ كلام الشوكاني . وقد علمت أن الإسناد الذي ذكرنا عن الترمذي ليس فيه سليمان بن يسار ، ولا ابن [ ص: 211 ] إسحاق ، فالظاهر صلاحية الحديث للاحتجاج ، كما ذكره الترمذي وغيره . وبذلك تعلم أن الصواب في هذه المسألة إن شاء الله هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الرابعة عشرة : الأظهر عندي أنه لو قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أساء الأدب ، ولا تلزمه الكفارة ، وإن الاستثناء بالمشيئة يرفع عنه حكم الكفارة ، كما يرفع كفارة اليمين بالله ، والعلم عند الله تعالى . المسألة الخامسة عشرة : الأظهر أنه إن مات أو ماتت أو طلقها قبل التكفير ، لم يلزمه شيء ، وأنه إن عاد فتزوجها بعد الطلاق لا يجوز له مسيسها حتى يكفر ; لأن الله أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث بالعود ، فلا يعود إلا بعد التكفير ، ولا وجه لسقوط الكفارة بالطلاق فيما يظهر ، مع أن بعض أهل العلم يقول : إن كان الطلاق بعد الظهار بائنا ، ثم تزوجها لم تلزمه كفارة ، وهو مروي عن قتادة . وبعضهم يقول : إن كانت البينونة بالثلاث ، ثم تزوجها بعد زوج لم تلزمه الكفارة لسقوطها بالبينونة الكبرى ، كما أسقطها صاحب القول الذي قبله بالبينونة الصغرى ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السادسة عشرة : إذا ظاهر من نسائه الأربع بكلمة واحدة ، كأن يقول لهن : أنتن علي كظهر أمي ، فقال بعض أهل العلم : تكفي في ذلك كفارة واحدة . قال في " المغني " : ولا خلاف في هذا في مذهب أحمد ، وهو قول علي ، وعمر ، وعروة ، وطاوس ، وعطاء ، وربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبي ثور ، والشافعي في القديم . وقال الحسن ، والنخعي ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، والحكم ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، والشافعي في الجديد : عليه لكل امرأة كفارة ; لأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن فوجب عليه عن كل واحدة كفارة ، كما لو أفردها به ، ولنا عموم قول عمر وعلي رضي الله عنهما ، رواه عنهما الأثرم ، ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعا ، ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة ، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى ، وفارق ما إذا ظاهر منها بكلمات ، فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها ، وهاهنا الكلمة واحدة ، فالكفارة واحدة ترفع حكمها ، وتمحو إثمها ، فلا يبقى لها حكم . انتهى منه . [ ص: 212 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أقيس القولين الاكتفاء بكفارة واحدة ، وأحوطهما التكفير عن كل واحدة منهن . وأما إن ظاهر منهن بكلمات متعددة ، بأن قال لكل واحدة منهن بانفرادها : أنت علي كظهر أمي ، فالأظهر تعدد الكفارة ; لأن كل كلمة من تلك الكلمات منكر من القول وزور ، فكل واحدة منها تقتضي كفارة . قال في " المغني " : وهذا قول عروة وعطاء . وقال أبو عبد الله بن حامد : المذهب رواية واحدة في هذا . قال القاضي : المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو عبد الله . قال أبو بكر : فيه رواية أخرى أنه تجزئه كفارة واحدة ، واختار ذلك ، وقال : هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب ، والحسن ، وعطاء ، وإبراهيم ، وربيعة ، وقبيصة ، وإسحاق ; لأن كفارة الظهار حق لله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد ، وعليه يخرج الطلاق . ولنا بها أنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة ، فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر ، ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى ، فلا تكفرها كفارة واحدة ، ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة ، فتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل ، ويفارق الحد ، فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات ، انتهى منه . وقد علمت أن أظهر الأقوال عندنا تعدد الكفارة في هذه المسألة . وأما إن كرر الظهار من زوجته الواحدة ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه : أنه إن كان كرره قبل أن يكفر عن الظهار الأول ، فكفارة واحدة تكفي ، وإن كان كفر عن ظهاره الأول ، ثم ظاهر بعد التكفير ، فعليه كفارة أخرى لظهاره الواقع بعد التكفير ، والعلم عند الله تعالى . المسألة السابعة عشرة : اعلم أن كفارة الظهار هي التي أوضحها الله تعالى بقوله : فتحرير رقبة إلى قوله : فإطعام ستين مسكينا [ 58 \ 3 - 4 ] . فروع تتعلق بهذه المسألة . الفرع الأول : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في الرقبة في كفارة الظهار ، هل يشترط فيها الإيمان أو لا يشترط فيها ؟ فقال بعضهم : لا يشترط فيها الإيمان ، فلو أعتق المظاهر عبدا ذميا مثلا أجزأه ، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وأصحابه ، وعطاء ، والثوري ، والنخعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، قاله في " المغني " . https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg |
| الساعة الآن : 02:48 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour