ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=262418)

ابوالوليد المسلم 11-09-2022 01:08 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (359)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 131 إلى صـ 138




[ ص: 131 ] وأظهر قولي أهل العلم عندنا أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران ، أحرم به من مكة ; لأنه يخرج في حجه إلى عرفة ، فيجمع بين الحل والحرم ، خلافا لمن قال : يلزم المكي إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي ، إذا كان في مكة ، وأراد أن يحرم قارنا ، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة ، خلافا لمن قال : يحرم به من أدنى الحل لما بينا . والعلم عند الله تعالى .
وإذا عرفت الشروط التي بها يجب دم التمتع والقران ، فاعلم أنا أردنا هنا أن نبين ما يجزئ فيه ، فالتحقيق أنه ما تيسر من الهدي ، وأقله شاة تجزئ ضحية ، وأعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، والتحقيق أن سبع بدنة أو بقرة يكفي ، فلو اشترك سبعة من المتمتعين في بدنة أو بقرة وذبحوها أجزأت عنهم ، للنصوص الصحيحة الدالة على ذلك ; كحديث جابر الثابت في الصحيح قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " وفي لفظ لمسلم قال : " اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة " ، فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور ؟ فقال : ما هي إلا من البدن .

قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا مالك ( ح ) ، وحدثنا يحيى بن يحيى . واللفظ له ، قال : قرأت على مالك عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " . وفي لفظ لمسلم عن جابر قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة " وفي لفظ له عنه أيضا ، قال : " حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة " . وفي لفظ له عنه أيضا قال : " اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة ، كل سبعة في بدنة " فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن ، وحضر جابر الحديبية ، قال : " نحرنا يومئذ سبعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة " . وفي لفظ له عنه ، وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية " ; وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث . وفي لفظ له عنه أيضا قال : " كنا نتمتع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة ، عن سبعة نشترك فيها " . انتهى محل الغرض من صحيح مسلم .

وهذه الروايات الصحيحة تدل : على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك بالسبع في بدنة ، أو بقرة ، ويدل على أن ذلك داخل فيما استيسر من الهدي . أما الشاة والبدنة كاملة [ ص: 132 ] فإجزاء كل منهما لا إشكال فيه . وقال البخاري في صحيحه : حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة ، حدثنا أبو جمرة قال : سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن المتعة ؟ فأمرني بها ، وسألته عن الهدي فقال : فيها جزور أو بقرة ، أو شاة ، أو شرك في دم . الحديث . فقوله : أو شرك في دم : يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة . عن جابر أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين ، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث : وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " ، ثم قال وبهذا قال الشافعي والجمهور ، سواء كان الهدي تطوعا أو واجبا ، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك ، أو كان بعضهم يريد التقرب ، وبعضهم يريد اللحم . وعن أبي حنيفة : يشترط في الاشتراط أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي ، وعن زفر مثله بزيادة : أن تكون أسبابهم واحدة ، وعن داود وبعض المالكية : يجوز في هدي التطوع ، دون الواجب ، وعن مالك : لا يجوز مطلقا انتهى منه .

والتحقيق أن سبع البدنة وسبع البقرة كل واحد منهما يقوم مقام الشاة ، ويدخل في عموم : فما استيسر من الهدي ، والروايات الصحيحة التي ذكرنا حجة على كل من خالف ذلك كمالك ومن وافقه ، وما احتج به إسماعيل القاضي لمالك ، من أن الاشتراك في الهدي ، لا يصح من أن حديث جابر ، إنما كان بالحديبية ، حيث كانوا محصرين . وأن حديث ابن عباس خالف فيه أبو جمرة عنه ثقات أصحابه ، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي : شاة ، ثم ساق ذلك عنهم بأسانيد صحيحة مردودة . أما دعوى أن حديث جابر إنما كان بالحديبية ، حيث كانوا محصرين ، فهي مردودة ، بما ثبت في الروايات الصحيحة في مسلم التي سقناها بألفاظها : أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه - صلى الله عليه وسلم - أيضا في حجه ، ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع ; لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها . وفي بعض الروايات الصحيحة ، عند مسلم التي سقناها بألفاظها آنفا التصريح بوقوع الاشتراك في الحجة المذكورة ، كما هو واضح من ألفاظ مسلم التي ذكرناها . وأما دعوى مخالفة أبي جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس ، فهي مردودة أيضا ، بما ذكره ابن حجر في " الفتح " ، حيث قال : وليس بين رواية أبي جمرة ، ورواية غيره منافاة ; لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ، ووافقهم على ذكر الشاة ، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر . وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا ، إلى [ ص: 133 ] أن قال : وبهذا تجتمع الأخبار ، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه ، وهو أبو جمرة الضبعي . وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك ، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة ، وذكر ابن حجر رجوع ابن عمر عن ذلك ، عن أحمد بسنده من طريق الشعبي ، عن ابن عمر .

وأظهر قولي أهل العلم عندي أن البدنة لا تجزئ عن أكثر من سبعة ، وذكر ابن حجر في " الفتح " ، عن سعيد بن المسيب في إحدى الروايتين عنه : أنها تجزئ عن عشرة . قال : وبه قال إسحاق بن راهويه ، وابن خزيمة من الشافعية . واحتج لذلك في صحيحه ، وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير " ، الحديث . وهو في الصحيحين .

وأجمعوا على أن الشاة : لا يصح الاشتراك فيها ، وقوله : " أو شاة " هو قول جمهور العلماء . ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم ، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ( فما استيسر من الهدي ) : إلا من الإبل والبقر ، ووافقهما القاسم ، وطائفة . قال إسماعيل القاضي في الأحكام له : أظن أنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن ، قال : ويرد هذا قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ 5 \ 95 ] وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة ، فوقع عليها اسم هدي .

قلت : قد احتج بذلك ابن عباس ، فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : قال ابن عباس : الهدي شاة . فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقرون به ، ما في الظبي ؟ قالوا : شاة ، قال : فإن الله يقول : هديا بالغ الكعبة . اهـ من فتح الباري .

وقد قدمنا في سورة " البقرة " : أنه ثبت في الصحيحين ، عن عائشة أنها قالت : " أهدى - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما " ، وهو نص صحيح عنها صريح في تسمية الغنم هديا كما ترى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أنه هو الصواب في هدي التمتع ، الذي نص الله في كتابه على أنه ما استيسر من الهدي : أنه شاة ، أو بدنة ، أو بقرة . ويكفي في ذلك سبع البدنة وسبع البقرة ، عن المتمتع الواحد ، وتكفي البدنة عن سبعة متمتعين لثبوت الروايات الصحيحة بذلك ، ولم يقم من كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص [ ص: 134 ] صريح في محل النزاع يقاومها ، ورواية جابر أن البدنة تكفي في الهدي ، عن سبعة أخص في محل النزاع من حديث رافع بن خديج : " أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل البعير في القسمة يعدل عشرا من الغنم " ; لأن هذا في القسمة ، وحديث جابر في خصوص الهدي ، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم ، والعلم عند الله تعالى .

ومما يوضح ذلك ما ذكره ابن حجر في " الفتح " في شرح حديث رافع المذكور ، وقد أورده البخاري في كتاب الذبائح ، عن رافع بن خديج بلفظ ، قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة فأصبنا إبلا وغنما ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور ، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأمر بالقدور فأكفئت ، ثم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير فند منها بعير " ، الحديث .

ونص كلام ابن حجر في هذا الحديث : وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك ، فلعل الإبل كانت قليلة ، أو نفيسة ، والغنم كانت كثيرة ، أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه ، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي ، من أن البعير يجزئ عن سبع شياه ; لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين . وأما هذه القسمة ، فكانت واقعة عين ، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل ، دون الغنم .

وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم ، حيث قال فيه : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة " والبدنة تطلق على الناقة ، والبقرة .

وأما حديث ابن عباس : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة ، وفي البدنة عشرة " فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان ، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا . والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبع ما لم يعرض عارض من نفاسة ، ونحوها ، فيتغير الحكم بحسب ذلك ، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك ، ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة ، أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم ، التي كانوا غنموها ، ويحتمل إن كانت الواقعة تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس ، أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ ، والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا ، فلما أريق مرقها ضمت إلى الغنم لتقسم ، ثم يطبخها من وقعت في سهمه ، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه ، عن العادة ، والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر .

[ ص: 135 ] وكون اللحم رد ليطبخه من وقع في سهمه مرة أخرى ، غير ظاهر عندي ، والله أعلم .

وحديث رافع المذكور : أخرجه أيضا مسلم في كتاب : الصيد والذبائح ، ولفظ المراد منه عن رافع قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت ، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور " .

والحاصل أن أخص شيء في محل النزاع وأصرحه فيه ، وأوضحه فيه حديث جابر ، الذي ذكرنا روايته عند مسلم . أما حديث رافع ، فهو في قسمة الغنيمة لا في الهدي . وأما حديث ابن عباس ، فظاهره أنه في الضحايا ، وعلى كل حال : فحديث جابر أصح منه ، فالذي يظهر أن المتمتع يكفيه سبع بدنة ، وأن النص الصريح الوارد بذلك ينبغي تقديمه ، على أنه يكفيه عشر بدنة ، وقد رأيت أدلة القولين . والعلم عند الله تعالى .
فإذا علمت أقوال أهل العلم في تعيين القدر المجزئ في هدي التمتع ، والقران ، وأن أظهر الأقوال أن أقله شاة ، أو سبع بدنة أو بقرة ، وأن إجزاء البدنة الكاملة ، لا نزاع فيه .

فاعلم أن أهل العلم اختلفوا في وقت وجوبه ، ووقت نحره ، وهذه تفاصيل أقوالهم وأدلتها ، وما يرجحه الدليل منها .

أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ; لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ولذا لو مات المتمتع يوم النحر ، قبل رمي جمرة العقبة ، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته ; لأنه لم يتم وجوبه ، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك ، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك ، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت ، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه :


وأتبعن دينه بهدي تمتع إن مات بعد الرمي


واعلم أن قول من قال من المالكية : إنه يجب بإحرام الحج ، وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره ، الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى : ودم التمتع يجب بإحرام الحج ، وأجزأ قبله ، قد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي ، والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة ، وبه جزم ابن رشد وابن العربي ، وصاحب [ ص: 136 ] الطراز وابن عرفة ، قال ابن عرفة : سمع ابن القاسم : إن مات ، يعني المتمتع قبل رمي جمرة العقبة ، فلا دم عليه .

ابن رشد : لأنه إنما يجب في الوقت ، الذي يتعين فيه نحره ، وهو بعد رمي جمرة العقبة ، فإن مات قبله لم يجب عليه .

ابن عرفة : قلت : ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه : لم يجب ، وهو خلاف نقل النوادر ، عن كتاب محمد عن ابن القاسم ، وعن سماع عيسى : من مات يوم النحر ، ولم يرم فقد لزمه الدم ، ثم قال ابن عرفة : فقول ابن الحاجب : يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه ، ولا أعلم في سقوطه خلافا .

ولعبد الحق ، عن ابن الكاتب ، عن بعض أصحابنا : من مات بعد وقوفه ، فعليه الدم . انتهى من الحطاب .

فأصح الأقوال الثلاثة ، وهو المشهور : أنه لا يجب على من مات ، إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة ، وفيه قول بلزومه ، إن مات يوم النحر قبل الرمي ، وأضعفها أنه يلزمه ، إن مات بعد الوقوف بعرفة . أما لو مات قبل الوقوف بعرفة ، فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية ، وقول من قال منهم : إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء ، إلا جواز إشعاره وتقليده ، وعليه فلو أشعره ، أو قلده قبل إحرام الحج ، كان هدي تطوع ، فلا يجزئ عن هدي التمتع ، فلو قلده ، وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه ; لأنه قلده بعد وجوبه : أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة ، وعن ابن القاسم : أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ، ثم أخر ذبحه إلى وقته : أنه يجزئه عن هدي التمتع ، وعليه فالمراد بقول خليل : وأجزأ قبله أي : أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده ، وإشعاره على إحرام الحج هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية . فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج ، أو بعده قبل وقت النحر . فقد غلط غلطا فاحشا .

قال الشيخ المواق في شرحه قول خليل " وأجزأ قبله " ما نصه : ابن عرفة يجزئ تقليده ، وإشعاره بعد إحرام حجه ، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم . انتهى منه .

وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه :

فإن قلت : إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى ، إن وقف به بعرفة ، أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا ؟

[ ص: 137 ] قلت : يظهر في جواز تقليده ، وإشعاره بعد الإحرام بالحج ، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد ، لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه ، فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان .

وقال الشيخ الحطاب أيضا : والحاصل أن دم التمتع والقران ، يجوز تقليدهما قبل وجوبهما على قول ابن القاسم ، ورواية عن مالك ، وهو الذي مشى عليه المصنف . فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة تعم على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ، ويكون المعنى : أنه يجب بإحرام الحج ، وجوبا غير متحتم ; لأنه معرض للسقوط بالموت ، والفوات ، فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب ، فلا يسقط بالموت . كما نقول في كفارة الظهار ، أنها تجب بالعود وجوبا غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ، ولو ماتت الزوجة ، أو طلقها إلى أن قال : بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى ، إن وقف به بعرفة ، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره ، وهو يدل : على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك والله أعلم ، ونصوص أهل المذهب شاهدة لذلك .

قال القاضي عبد الوهاب في المعونة : ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران ، قبل يوم النحر ، خلافا للشافعي ; لقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وقد ثبت أن الحلق ، لا يجوز قبل يوم النحر ، فدل على أن الهدي ، لم يبلغ محله إلا يوم النحر ، وله نحو ذلك في شرح الرسالة . وقال في " التلقين " : الواجب لكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى ، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر ، وله مثله في مختصر عيون المجالس ، ثم قال الحطاب رحمه الله : فلا يجوز الهدي عند مالك ، حتى يحل ، وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي : من حين يحرم بالحج . واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحج .

ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل ، وهو المفهوم من قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله انتهى منه . وكلام علماء المالكية بنحو هذا كثير معروف .

والحاصل : أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر ، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة ، وهو لا يعول عليه ، وأن قولهم : أنه [ ص: 138 ] يجب بإحرام الحج ، لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج ، لا شيء آخر ، فما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر كله غلط . إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا ، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية ، كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي ، فاعرف هذا التحقيق ، ولا تغتر بغيره .

ومذهب الإمام أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف ، فقيل : وقت وجوبه هو وقت الإحرام بالحج . قال في " المغني " : وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ; لأن الله تعالى قال : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] ، وهذا قد فعل ذلك ، ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 3 \ 187 ] ، إلى أن قال : وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة . قال : وهو قول مالك واختيار القاضي ، ووجه في المغني هذا القول بأنه قبل الوقوف لا يعلم أيتم حجه أو لا ; لأنه قد يعرض له الفوات ، فلا يكون متمتعا ، فلا يجب عليه دم ، وذكر عن عطاء وجوبه برمي جمرة العقبة .

وعن أبي الخطاب يجب إذا طلع فجر يوم النحر ، ثم قال في " المغني " : فأما وقت إخراجه فيوم النحر ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة : لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية ، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع ، ثم قال : وقال أبو طالب : سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ، ومعه هدي قال : ينحر بمكة ، وإن قدم قبل العشر ينحره لا يضيع أو يموت أو يسرق . وكذلك قال عطاء : وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قدموا في العشر ، فلم ينحروا ، حتى نحروا بمنى ، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته ، وأقام على إحرامه ، وكان قارنا . انتهى محل الغرض منه . وسترى ما يرد هذا إن شاء الله تعالى .

وقال صاحب " الإنصاف " : يلزم دم التمتع ، والقران بطلوع فجر يوم النحر على الصحيح من المذهب ، وجزم به القاضي في الخلاف ، ورد ما نقل عنه خلافه إليه وجزم به في البلغة ، وقدمه في " الهداية " و " المستوعب " و " الخلاصة " ، و " التلخيص " ، و " الفروع " ، و " الرعايتين " ، و " الحاويين " ، وعنه يلزم الدم إذا أحرم بالحج ، وأطلقهما في المذهب ، و " مسبوك الذهب " وعنه يلزم الدم بالوقوف وذكره المصنف والشارح اختيار القاضي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-09-2022 01:11 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (360)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 139 إلى صـ 146




[ ص: 139 ] قال الزركشي : ولعله في المجرد وأطلقها والتي قبلها في الكافي ، ولم يذكر غيرها ، وكذا قال في " المغني " و " الشرح " ، وقال ابن الزاغوني في " الواضح " : يجب دم القران بالإحرام . قال في " الفروع " : كذا قال ، وعنه يلزم بإحرام العمرة لنية التمتع ، إذ قال في " الفروع " : ويتوجه أن يبني عليها ، ما إذا مات بعد سبب الوجوب ، يخرج عنه من تركته .

وقال بعض الأصحاب : فائدة الروايات إذا تعذر الدم ، وأراد الانتقال إلى الصوم ، فمتى يثبت العذر فيه الروايات ، ثم قال في " الإنصاف " : هذا الحكم المتقدم في لزوم الدم . وأما وقت ذبحه فجزم في " الهداية " ، و " المذهب " ، و " مسبوك الذهب " ، و " المستوعب " ، و " الخلاصة " ، و " الهادي " ، و " التلخيص " ، و " البلغة " ، و " الرعايتين " ، و " الحاويين " وغيرهم : أنه لا يجوز ذبحه قبل وجوبه .

قال في " الفروع " : وقال القاضي وأصحابه : لا يجوز قبل فجر يوم النحر ، ثم ذكر صاحب " الإنصاف " ، عن بعضهم ما يدل على جواز ذبحه قبل ذلك ، وذكر رده ، ورده الذي ذكر هو الصحيح .

ومن جملة ما رده به فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ; لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعا ، ثم قال : وقد جزم في " المحرر " ، و " النظم " ، و " الحاوي " ، و " الفائق " وغيرهم أن وقت دم المتعة والقران وقت دم الأضحية على ما يأتي في بابه ، ثم قال : واختار أبو الخطاب في الانتصار " يجوز له نحره بإحرام العمرة ، وأنه أولى من الصوم ; لأنه بدل " وحمل رواية ابن منصور بذبحه يوم النحر على وجوبه يوم النحر ، ثم قال :

ونقل أبو طالب إن قدم قبل العشر ومعه هدي : ينحره لا يضيع ، أو يموت ، أو يسرق . قال في " الفروع " : وهذا ضعيف .

قال في " الكافي " : وإن قدم قبل العشر نحره ، وإن قدم به في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ، استدل بهذه الرواية واقتصر عليه . انتهى محل الغرض من " الإنصاف " .

وقد رأيت في كلامه أن الروايات بتحديد وقت الوجوب يبنى عليها لزوم الهدي في تركته ، إن مات بعد الوجوب ، وتحقق وقت العذر المبيح للانتقال إلى الصوم ، إن لم يجد الهدي ، لا أن المراد بوقت الوجوب استلزام جواز الذبح ; لأنهم يفردون وقت الذبح بكلام مستقل ، عن وقت الوجوب .

[ ص: 140 ] وأن الصحيح المشهور من مذهبه : أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ، واختيار أبي الخطاب جواز ذبحه بإحرام المتعة .

ورواية أبي طالب : جواز ذبحه إن قدم به . قبل العشر ، كلاهما ضعيف لا يعول عليه ، ولا يعضده دليل ، والتعليل بخوف الموت والضياع والسرقة منتقض بما إذا قدم به في العشر ; لأن العشر يحتمل أن يموت فيها ، أو يضيع ، أو يسرق كما ترى والتحديد بنفس العشر ، لا دليل عليه من نص ولا قياس ، فبطلانه واضح لعدم اعتضاده بشيء غير احتمال الموت والضياع والسرقة ، وذلك موجود في الهدي الذي قدم به في العشر ، مع أن الأصل في كليهما السلامة ، والعلم عند الله تعالى .

ومذهب الشافعي في هذه المسألة : هو أن وقت وجوب دم التمتع ، هو وقت الإحرام بالحج .

قال النووي في " شرح المهذب " : وبه قال أبو حنيفة ، وداود ، وقال عطاء : لا يجب حتى يقف بعرفات .

وقال مالك : لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة ، وأما وقت جواز ذبحه عند الشافعية ففيه قولان :

أحدهما : لا يجوز قبل الإحرام بالحج ، قالوا : لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن ، فلا تجوز قبل وجوبها ، كالصلاة والصوم .

والقول الثاني : يجوز بعد الفراغ من العمرة ; لأنه حق مالي يجب بسببين ، فجاز تقديمه على أحدهما ، كالزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول ، أما جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج ، فلا خلاف فيه عند الشافعية ، كما أن ذبحه قبل الإحرام بالعمرة ، لا يجوز عندهم ، بلا خلاف .

وقد قدمنا نقل النووي ، عن أبي حنيفة أن وقت وجوبه هو وقت الإحرام بالحج ، أما وقت نحره فهو عند أبي حنيفة ، وأصحابه : يوم النحر ، فلا يجوز تقديمه عليه عند الحنفية ، وإن قدمه لم يجزئه ، وينبغي تحقيق الفرق بين وقت الوجوب ، ووقت النحر ; لأن وقت الوجوب إنما تظهر فائدته ، فيما لو مات المحرم هل يخرج الهدي من تركته بعد موته ، ويتعين به وقت ثبوت العذر المجيز للانتقال إلى الصوم ، ولا يلزم من دخول وقت الوجوب ، جواز الذبح .

[ ص: 141 ] ومن فوائد ذلك : أنه إن فاته الحج بعد وجوبه بالإحرام ، عند من يقول بذلك ، لا يتعين لزوم الدم ; لأنه بفوات الحج انتفى عنه اسم المتمتع : فلا دم تمتع عليه ، وإنما عليه دم الفوات . كما يأتي إن شاء الله تعالى .
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في وقت ذبح دم التمتع والقران ، فدونك أدلتهم ، ومناقشتها ، وبيان الحق الذي يعضده الدليل منها .

اعلم أن من قال بجوازه قبل يوم النحر : كالشافعية ، وأبي الخطاب من الحنابلة ، ورواية ضعيفة عن أحمد : إن جاء به صاحبه قبل عشر ذي الحجة فقد احتجوا ، واحتج لهم بأشياء . أما رواية أبي طالب عن أحمد : بجواز تقديم ذبحه ، إن قدم به صاحبه ، قبل العشر ، فقد ذكرنا تضعيف صاحب " الفروع " لها ، وبينا أنها لا مستند لها ; لأن مستندها مصلحة مرسلة مخالفة لسنة ثابتة .

وأما قول أبي الخطاب : إنه يجوز بإحرام العمرة ، فلا مستند له من كتاب ولا سنة ولا قياس . والظاهر : أنه يرى أن هدي التمتع له سببان ، وهما العمرة والحج في تلك السنة ، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب ، كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان ; لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم ، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى ، ولم تنتف الموانع ; لأن قضاء الصوم فرع عن وجوب سابق في الجملة ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع . ولا يخفى سقوط هذا ، كما ترى . وأما الشافعية : فقد ذكروا لمذهبهم أدلة .

منها أن هدي التمتع حق مالي ، يجب بسببين : هما الحج ، والعمرة .

فجاز تقديمه على أحدهما قياسا على الزكاة بعد ملك النصاب ، وقبل حلول الحلول .

ومنها قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قالوا : قوله : فما استيسر من الهدي ، أي عليه ما استيسر من الهدي ، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا ، فوجب حينئذ ; لأنه معلق على التمتع : وقد وجد . قالوا : ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 2 \ 187 ] ، فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل ، فكذلك التمتع ، يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام .

ومنها أن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج ، فوجد التمتع ، وذبح الهدي معلق على التمتع ، وإذا حصل المعلق عليه حصل المعلق .

[ ص: 142 ] ومنها أن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه ، يجوز تقديم بعضه على يوم النحر ، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج الآية [ 2 \ 196 ] ، وتقديم البدل يدل على تقديم المبدل منه .

ومنها أنه دم جبران ، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس .

ومنها ظواهر بعض الأحاديث التي قد يفهم منها الذبح قبل يوم النحر ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه في باب الاشتراك في الهدي .

وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدية " ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث . انتهى بلفظه من صحيح مسلم . وقال النووي في شرحه لهذا الحديث : وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع ، بعد التحلل من العمرة ، وقبل الإحرام بالحج . وفي المسألة خلاف ، وتفصيل . . . إلى آخر كلام النووي .

ومن ذلك أيضا ما رواه الحاكم في " المستدرك " : أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب ، ثنا يحيى بن أيوب ، ثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كثرت القالة من الناس ، فخرجنا حجاجا ، حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل ، أمرنا بالإحلال . . . الحديث .

وفيه : قال عطاء : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اصرخ ، أيها الناس هل تدرون أي شهر هذا " ، إلى آخر الحديث ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، وفيه ألفاظ من ألفاظ حديث جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن جابر أيضا ، وفيه أيضا زيادة ألفاظ كثيرة اهـ .

وأقره الحافظ الذهبي على تصحيح الحديث المذكور ، وقوله في هذا الحديث : " فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة " إلخ . قد يتوهم منه ، أن ذبح سعد لتيسه كان قبل الوقوف بعرفة .

[ ص: 143 ] هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر ، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه ، ولأنه لا يحتاج في سقوطه إلى دليل .

وأما الجمهور القائلون : بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة ، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، في أن أول وقت نحر الهدي : هو يوم النحر ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قارنا كما قدمنا ، ما يدل على الجزم بذلك ، سواء قلنا : إذا بدأ إحرامه قارنا ، أو أدخل العمرة على الحج ، وأن ذلك خاص به كما تقدم . وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة ، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة ، ولم ينحر عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد من أزواجه ، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين ، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي ، لم ينحر أحد منهم ألبتة ، قبل يوم النحر ، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين ، والمهاجرين ، والأنصار ، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة ، ولا من الخلفاء : أنه نحر هدي تمتعه ، أو قرانه قبل يوم النحر ألبتة .
فإن قيل : فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين به الوجوب ; لإمكان أن يكون سنة لا فرضا ; لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا ، فلا عموم له ، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة ، ولم ينسخ الأخير منها الأول ، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحر ، مع جواز الذبح قبله .

فالجواب من وجهين ، الأول : هو ما تقرر في الأصول ، من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانا لنص فهو محمول على الوجوب ، إن كان الفعل المبين واجبا كما أطبق عليه الأصوليون . وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبينا به المراد من اليد في قوله : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، يقتضي الوجوب ، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع ، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج ، ومن ذلك الذبائح ، وأوقاتها ; لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة ; ولذا ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وإذا يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه ، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف ، وأن مزدلفة كلها موقف ، وأن منى كلها منحر ، ونحو ذلك ، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره .

قال صاحب " جمع الجوامع " ، عاطفا على ما تعرف به جهة فعله - صلى الله عليه وسلم - من وجوب أو [ ص: 144 ] ندب ما نصه : ووقوعه بيانا . . . إلخ . يعني أن وقوع الفعل بيانا لنص مجمل إن كان مدلول النص واجبا ، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف ، وإن كان مندوبا فمندوب . سواء كان الفعل المبين للنص دل على كونه بيانا قرينة أو قولا .

قال شارحه صاحب " الضياء اللامع " ، ما نصه : الثاني : أن يكون فعله بيانا لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع ، فإنه بيان لقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وإما بقول مثل قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، فإن الصلاة فرضت على الجملة ، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله ، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان ، وكذا قوله : " خذوا عني مناسككم " ، وحكم هذا القسم وجوب الاتباع . انتهى محل الغرض منه ، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافا فجميع أفعال الحج ، والصلاة التي بين بها - صلى الله عليه وسلم - آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها ، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه . وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : مسألة فعله - صلى الله عليه وسلم - ما وضح فيه أمر الجبلة ، كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، أو تخصيصه ، كالضحى ، والوتر ، والتهجد ، والمشاورة ، والتخيير ، والوصال والزيادة على أربع فواضح ، وما سواهما إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة مثل : صلوا ، وخذوا ، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق ، اعتبر اتفاقا . انتهى محل الغرض منه . ومعنى قوله : اعتبر اتفاقا : أنه إن كان المبين باسم المفعول واجبا ، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب ; لأن المبين بحسب المبين ، وقال شارحه العضد : فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب ، والندب ، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصا وعاما اتفاقا ، ومعرفة كونه بيانا إما بقول ، وإما بقرينة ، فالقول نحو : " خذوا عني مناسككم " ، و " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، والقرينة مثل : أن يقع الفعل بعد إجمال ، كقطع يد السارق من الكوع ، دون المرفق والعضد بعد ما نزل قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، والغسل إلى المرافق ، بإدخال المرافق ، أو إخراجها بعد ما نزلت : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق [ 5 \ 6 ] انتهى محل الغرض منه ، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب ، يكون واجبا ; لأن البيان به بيان لواجب ، كما هو واضح . وإلى ذلك أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :
من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا
ومحل الشاهد منه قوله : وبالبيان . وقال في شرحه " نشر البنود " في معنى قوله : [ ص: 145 ] وبالبيان ، فيكون حكمه حكم المبين انتهى منه . وهو واضح - والمبين بصيغة اسم المفعول - في آيات الحج ، وهدي التمتع واجب ; لأن الحج واجب إجماعا ، وهدي التمتع واجب إجماعا ، فالفعل المبين لهما يكون واجبا على ما قررناه ، وعليه عامة أهل الأصول ، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه - صلى الله عليه وسلم - هديه يوم النحر وهو قارن ، وذبحه عن أزواجه يوم النحر ، وهن متمتعات ، وعن عائشة وهي قارنة : فعل مبين لنص واجب ، فهو واجب ، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل ، ولا في زمانه ، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص ، كغير المكان الذي ذبح فيه من منى ; لأنه بين أن منى كلها نحر ، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر ، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول ، من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يكن بيانا لمجمل ، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب ، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب ; لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم ، إذ على احتمال الندب والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثما ، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " في مبحث أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله :
وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل


وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى نشر البنود : يعني أن ما كان من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - مجهول الصفة - أي مجهول الحكم - فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال : وكونه للوجوب هو الأصح ، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك ، والأبهري ، وابن القصار ، وبعض الشافعية ، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة . انتهى محل الغرض منه .

وقال صاحب " الضياء اللامع " : وبهذا قال مالك في رواية أبي الفرج ، وابن خويز منداد ، وقال به الأبهري ، وابن القصار ، وأكثر أصحابنا ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة ، وبعض المعتزلة . واستدل أهل هذا القول بأدلة :

منها قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، قالوا : معناه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فله فيه أسوة حسنة ، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة ، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وملزوم الحرام حرام ، ولازم الواجب واجب . وقالوا أيضا : وهو مبالغة في التهديد على عدم الأسوة فتكون الأسوة واجبة ، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله .

ومنها قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، قالوا : وما فعله فقد آتاناه ; لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله وتقريره .

[ ص: 146 ] ومنها قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، ومن اتباعه التأسي به في فعله ، قالوا : وصيغة الأمر في قوله : فاتبعوني للوجوب .

ومنها أن الصحابة لما اختلفوا في وجوب الغسل من الوطء ، بدون إنزال سألوا عائشة ، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلا ذلك ، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل من الوطء بدون إنزال على الوجوب .

ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خلع نعليه في الصلاة ، خلعوا نعالهم ، فلما سألهم : لم خلعوا نعالهم ؟ قالوا : رأيناك خلعت نعليك ، فخلعنا نعالنا ، فحملوا مطلق فعله على الوجوب ، فخلعوا لما خلع ، وأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك قالوا : فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب ، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه أن يخلعوا ، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم ، وأخبرهم أن جبريل أخبره : أن في باطنهما قذرا والقصة في ذلك ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند أحمد ، وأبي داود ، والحاكم وغيرهم . وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ورواه الحاكم في " المستدرك " . وقال : هو صحيح على شرط مسلم ، وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في شرحه لحديث أبي سعيد المذكور في " المنتقى " بعد أن قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد وأبو داود ، انتهى الحديث . أخرجه أيضا الحاكم ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول ، ورواه الحاكم من حديث أنس ، وابن مسعود إلى آخر كلامه . ومعلوم أن المخالفين القائلين : بأن الفعل الذي لم يكن بيانا لمجمل ، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب ، بل على الندب أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ، ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول ، قالوا : قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، أي ما أمركم به بدليل قوله : وما نهاكم عنه [ 59 \ 7 ] ، فهي في الأمر والنهي لا في مطلق الفعل ، ولا يخفى أن تخصيص : ( وما آتاكم ) ، بالأمر تخصيص لا دليل عليه ، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني إنما يكون الاتباع واجبا فيما علم أنه واجب ، أما إذا كان فعله مندوبا فالاتباع فيه مندوب ، ولا يتعين أن الفعل واجب على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الوجوب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 27-09-2022 01:49 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (361)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 147 إلى صـ 154





أما لو كان فعله على سبيل الندب ، وفعلته الأمة على [ ص: 147 ] سبيل الوجوب ، فلم يتحقق الاتباع بذلك ، قالوا : وكذلك يقال في قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، فلا تتحقق الأسوة إذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الندب ، وفعلته أمته على سبيل الوجوب ، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل ، الذي فيه التأسي ، قالوا : وخلعهم نعالهم لا دليل فيه ; لأنه فعل داخل في نفس الصلاة ، وإنما أخذوه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ; لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة ، قالوا : وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل ، الذي أخبرتهم به عائشة ; لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الغسل من التقاء الختانين ، أو لأنه فعل مبين لقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ، والفعل المبين لإجمال النص لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه .

قالوا : والاحتياط في مثل هذا لا يلزم ; لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما ثبت وجوبه أو كان وجوبه هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان ، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة ، أما غير ذلك فلا يلزم فيه الاحتياط ، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان : فلا يجوز صوم يوم الشك ، ولا يحتاط فيه ; لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل ، إلى آخر أدلتهم ومناقشاتها . فلم نطل بجميعها الكلام ، ولا شك أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله : فاتبعوني [ 3 \ 31 ] ، وقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، وقوله : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع ، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان ، وما سنذكره من غير ذلك ، وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا : وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع ، والقران يوم النحر ، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين . ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة ، إلا ما أصلح أولها ، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة ، وأن يحلوا منها الحل كله ، ثم يحرموا بالحج ، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " ، وفي تلك النصوص الصحيحة : التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ، ومعناه : أنه هو - صلى الله عليه وسلم - يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة ، كما أمر أصحابه بذلك . وقد صرح في الأحاديث الصحيحة : بأن الذي منعه من ذلك . أنه ساق الهدي ، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد [ ص: 148 ] الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة ، وأحل منها ، ونحر الهدي بعد الإحلال منها . ولكن المانع الذي منعه من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت . والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه معلق على بلوغ الهدي محله ، كما قال : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت عنه أن محله : منى يوم النحر . وقد قدمنا في سورة " البقرة " أن القرآن دل في موضعين ، على أن النحر قبل الحلق .

أحدهما : قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . والثاني : قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقربا لله ، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية : ثم ليقضوا تفثهم [ 22 \ 29 ] ، ومن قضاء تفثهم : الحلق ، أو التقصير .

وقد ثبت في الصحيح : " أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك " ، كما قدمناه في سورة " البقرة " مستوفى ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - بين أن من قدم الحلق ، على النحر : لا شيء عليه . ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته ، أنه كان يوم النحر كما هو معروف . وقد دلت آية " الحج " على أن كل هدي له تعلق بالحج ، ويدخل فيه التمتع دخولا أوليا أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات ، دون غيرها من الأيام ، وذلك في قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 27 - 28 ] ; لأن معنى الآية الكريمة : أذن فيهم بالحج ، يأتوك مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى . وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيام المعلومات ، ويسمى عليها الله عند تذكيتها ، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا ; لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين ، ليأتوا رجالا وركبانا ، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى ، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ونحر هديه يوم النحر ، وأنه ما منعه من فسخ الحج في العمرة إلا سوق الهدي ، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة ، لأحل بعمرة ، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها ، أو عند الإحرام بالحج ، كما يقول من ذكرنا : أنه جائز ، وقد قدمنا كثيرا منها موضحا بأسانيده ، وسنعيد طرفا منه هنا إن شاء الله تعالى .

[ ص: 149 ] فمن ذلك حديث حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع عن ابن عمر ، عن حفصة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : " يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تتحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أهل حتى أنحره " انتهى من صحيح البخاري ، وقوله : " حتى أنحر " ، يعني : يوم النحر ، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك ، لأحل بعمرة ، ونحر .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن حفصة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : " يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " . وفي لفظ له عنها ، قالت : قال : " إني قلدت هديي ، فلا أحل حتى أحل من الحج " . وفي لفظ له عنها : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع ، قالت حفصة : قلت : ما يمنعك أن تحل ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر هديي " اهـ .

ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل ، ولو كان النحر قبل يوم النحر جائزا لتحلل بعمرة ثم نحر ، وفيه أن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - متمتعات ، وقد نحر عنهن البقر يوم النحر .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة ، لا نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل . قالت : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قال : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه " ، قال يحيى : فذكرته للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك بالحديث على وجهه ، انتهى من صحيح البخاري .

وقال مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر " . وفي لفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه " . وفي حديث ابن بكر عن عائشة بقرة في [ ص: 150 ] حجته . انتهى من صحيح مسلم ، وقد تركنا ذكر اختلاف الروايات ، هل ذبح عن جميعهن بقرة واحدة ، أو عن كل واحدة بقرة ، كما جاء به في حديث مسلم ، هذا بالنسبة إلى عائشة ، وعلى كل حال فهذه الروايات الصحيحة ، وأمثالها الكثيرة التي قدمنا كثيرا منها : تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر عمن تمتع من أزواجه ، ومن قرن في خصوص يوم النحر ، وأنه هو - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل عن نفسه ، وكان قارنا مع أنه كان يتمنى أن يعتمر ، ويحل منها ، ثم يحرم بالحج ، كما أمر أصحابه بفعل ذلك ، وصرح في الروايات الصحيحة : بأن المانع له من ذلك سوق الهدي ، فلو كان الهدي يجوز نحره قبل يوم النحر لتحلل ونحر كما أوضحناه ، وفعله هذا كالتفسير لقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، فبين بفعله أن بلوغه محله يوم النحر بمنى ، بعد رمي جمرة العقبة ، فمن أجاز ذبح هدي التمتع قبل ذلك ، فقد خالف فعله - صلى الله عليه وسلم - المبين لإجمال القرآن ، وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وجرى عليه عمل عامة المسلمين ، ولا يثبت بنص صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر ، فلا يجوز العدول عن هذا الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - مبينا به إجمال الآيات القرآنية ، وأكده بقوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، كما ترى .
فإذا عرفت مما ذكرنا أن الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة ، وفعل الخلفاء الراشدين ، وغيرهم من كافة علماء المسلمين : هو أنه لا يجوز نحر هدي التمتع والقران ، قبل يوم النحر . فدونك الأجوبة التي أجيب بها عن أدلة المخالفين القائلين بجواز ذبحه عند إحرام الحج ، أو عند الإحلال من العمرة .

أما استدلالهم بأن هدي التمتع له سببان ، فجاز بأحدهما قياسا على الزكاة ، بعد ملك النصاب ، وقبل حلول الحول ، فهو مردود بكونه فاسد الاعتبار ، وفساد الاعتبار من القوادح المجمع على القدح بها ، وهو بالنسبة إلى القياس أن يكون القياس مخالفا لنص من كتاب ، أو سنة ، أو إجماع ، وهذا القياس مخالف للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - التي هي النحر يوم النحر ، كما قدمنا إيضاحه ، وعرف في " مراقي السعود " فساد الاعتبار بقوله في مبحث القوادح :
والخلف للنص أو اجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى


واستدلالهم بأن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج ، فوجد التمتع بوجود شروطه ، وذبح الهدي معلق على وجود التمتع في الآية ، وإذا حصل المعلق عليه ، حصل المعلق ، مردود من وجهين :

[ ص: 151 ] الأول أن وجود التمتع لم يحقق بإحرام الحج ، لاحتمال أن يفوته الحج بسبب عائق عن الوقوف بعرفة وقته ; لأنه لو فاته الحج ، لم يوجد منه التمتع ، فدل ذلك على أن الإحرام بالحج لا يتحقق به وجود حقيقة التمتع التي علق على وجودها ما استيسر من الهدي .

الثاني أن الهدي الواجب بالتمتع له محل معين ، لا بد من بلوغه في زمن معين ، كما دل عليه قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله . وقد بين - صلى الله عليه وسلم - بفعله الثابت ثبوتا لا مطعن فيه ، وقوله : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي " الحديث المتقدم أن محله هو منى يوم النحر كما تقدم إيضاحه ، واستدلالهم بأن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه يجوز تقديم بعضه على يوم النحر ، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج ، فجاز تقديم الهدي على يوم النحر ، قياسا على بدله مردود من وجهين :

الأول : أنه قياس مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي فعلها مبينا بها القرآن .

وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، فهو قياس فاسد الاعتبار ، كما قدمنا إيضاحه قريبا .

الوجه الثاني : أنه قياس مع وجود فوارق تمنع من إلحاق الفرع بالأصل .

منها أن الهدي يترتب على ذبحه قضاء التفث ، كما يدل عليه قوله في ذبح الهدايا : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، ثم رتب على ذلك قوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم [ 22 \ 29 ] ، وهذا الحكم الموجود في الأصل منتف عن الفرع ; لأن الصوم لا يترتب عليه قضاء تفث .

ومنها أن الهدي يختص بمكان ، وهذا الوصف منتف عن الفرع ، وهو الصوم ، فإنه لا يختص بمكان .

ومنها أن الصوم إنما يؤدى جزؤه الأكبر بعد الرجوع إلى الأهل في قوله تعالى : وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، وهذا منتف عن الأصل الذي هو الهدي ، فلا يفعل منه شيء بعد الرجوع إلى الأهل كما ترى . واستدلالهم : بأنه دم جبران ، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر قياسا على فدية الطيب واللباس مردود من وجهين أيضا .

اعلم أولا : أنا قدمنا أقوال أهل العلم ، ومناقشة أدلتهم مناقشة دقيقة في هدي التمتع [ ص: 152 ] هل هو دم جبران ، أو دم نسك كالأضحية ؟ فعلى أنه دم نسك فسقوط الاستدلال المذكور واضح ، وعلى أنه دم جبران ، فقياسه على فدية الطيب واللباس يمنعه أمران .

الأول : أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - .

الثاني : أنه لم يثبت نص صحيح من كتاب ولا سنة على وجوب الهدي في الطيب واللباس ، حتى يقاس عليه هدي التمتع ، والعلماء إنما أوجبوا الفدية في الطيب واللباس قياسا على الحلق المنصوص في آية الفدية ، والقياس على حكم مثبت بالقياس فيه خلاف معروف بين أهل الأصول . فذهبت جماعة منهم إلى أن حكم الأصل المقيس عليه ، لا بد أن يكون ثابتا بنص ، أو اتفاق الخصمين . وذهب آخرون إلى جواز القياس على الحكم الثابت بالقياس ، كأن تقول هنا : من لبس أو تطيب في إحرامه ، لزمته فدية الأذى ، قياسا على الحلق المنصوص عليه في قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية [ 2 \ 196 ] ، بجامع ارتكاب المحظور ، ثم تقول : ثبت بهذا القياس أن في الطيب واللباس فدية فتجعل الطيب واللباس الثابت حكمها بالقياس أصلا ثانيا ، فتقيس عليهما هدي التمتع في جواز التقديم بجامع أن الكل دم جبران ، وكأن تقول : يحرم الربا في الذرة ، قياسا على البر بجامع الاقتيات ، والادخار ، أو الكيل مثلا ، ثم تقول : ثبت تحريم الربا في الذرة بالقياس على البر ، فتجعل الذرة أصلا ثانيا ، فتقيس عليها الأرز ، ونحو ذلك ، فعلى أن مثل هذا لا يصح به القياس ، فسقوط الاستدلال المذكور واضح وعلى القول بصحة القياس عليه ، وهو الذي درج عليه في " مراقي السعود " بقوله :


وحكم الأصل قد يكون ملحقا لما من اعتبار الأدنى حققا


فهو قياس مختلف في صحته أصلا ، وهو فاسد الاعتبار أيضا ; لمخالفته لسنته صلى الله عليه وسلم .

واستدلالهم بقوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قائلين : إنه بمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا ، فيجب الهدي بإحرام الحج ; لأن اسم التمتع يحصل به ، والهدي معلق عليه ، قالوا : ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 2 \ 187 ] ، مردود أيضا .

أما كون التمتع يوجد بإحرام الحج ، والهدي معلق عليه فيلزم وجوده بوجوده ، فقد بينا رده من وجهين بإيضاح قريبا فأغنى عن إعادته هنا .

وقولهم : إن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله يعنون أن قوله تعالى : [ ص: 153 ] فمن تمتع بالعمرة إلى الحج جعل فيه الحج غاية بحرف الغاية الذي هو ( إلى ) ، فيجب تعلق الحكم الذي هو ذبح الهدي بأول الغاية ، وهو الحج وأوله الإحرام ، فيجب الذبح بالإحرام كقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإن حكم إتمام الصيام ينتهي بأول جزء من الليل ، الذي هو الغاية لإتمامه مردود من وجهين :

الأول أن هذا غير مطرد ، فلا يلزم تعلق الحكم بأول ما جعل غاية .

ومن النصوص التي لم يتعلق الحكم بها فأول ما جعل غاية قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، فنكاحها زوجا غيره جعل غاية لعدم حليتها له ، مع أن أول هذه الغاية الذي هو عقد النكاح ، لا يتعلق به الحكم ، بل لا بد من بلوغ آخر الغاية : وهو الجماع ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، فعلم أن التعلق بأول الغاية : لا يلزم على كل حال .

الوجه الثاني أن سنة النبي الثابتة عنه من فعله ، ومفهوم قوله : بينت أن هذا الحكم ، لا يتعلق بأول الغاية ، وإنما يتعلق بآخرها وهو الإحلال الأول ; لأنه لم ينحر هدي تمتع ، ولا قران إلا بعد رمي جمرة العقبة ، وفعله فيه البيان الكافي للمراد من الغاية التي يترتب عليها : فما استيسر من الهدي ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر الآية [ 33 \ 21 ] ، ففعله مبين لقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ; لأنه ذبح عن أزواجه المتمتعات يوم النحر ، وأمر أصحابه المتمتعين بذلك ، وخير ما يبين به القرآن بعد القرآن السنة ، والله يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الآية [ 6 \ 44 ] ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يبين المناسك بأفعاله ، موضحا لذلك المراد من القرآن ، ويقول : "لتأخذوا عني مناسككم " .

الثالث : أنه لو جاز له ذبحه قبل يوم النحر ، لجاز الحلق قبل يوم النحر ، وذلك باطل ; فالحلق لا يجوز ، حتى يبلغ الهدي محله . كما هو صريح القرآن ، والحلق لم يجز قبل يوم النحر ، فالهدي لم يبلغ محله قبل يوم النحر ، وهو واضح كما ترى ، ولذا لم يأذن - صلى الله عليه وسلم - في حجته لمن ساق هديا أن يحل ويحلق ، وإنما أمر بفسخ الحج في العمرة من لم يسق هديا ، ولا شك أن ذلك عمل منه بقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله .
واستدلالهم بحديث جابر المتقدم عند مسلم قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي [ ص: 154 ] ويجتمع النفر منا في الهدية " . وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم مردود بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالقلب ; لأن حديث جابر المذكور حجة عليهم لا لهم ، وذلك هو عين القلب ، وإيضاحه أن لفظ الحديث : " وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم " . والإشارة في قوله " وذلك " راجعة إلى الأمر بالهدية ، والاشتراك فيها ، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم ; وذلك إنما وقع يوم النحر ; لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر .

والغريب من الشيخ النووي أنه قال في حديث جابر هذا : وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة ، وقبل الإحرام بالحج ; لأن لفظ الحديث مصرح بأن ذلك عند الأمر بالإحلال من الحج ، وهو يستدل به على وقوعه قبل الإحرام بالحج .

والظاهر أن هذا سهو منه أو أنه ذهب ذهنه إلى أنه أمرهم بذلك حين تحللهم من العمرة ، وظن أن اسم الحج لا ينافي ذلك ; لأن أصل الإحرام بالحج ، ففسخوه في عمرة ، فلما أحلوا منها صاروا كأنهم محلون من الحج الذي فسخوه فيها ، وهذا محتمل ولكنه بعيد جدا من ظاهر اللفظ ; لأن الحج الذي أحرموا به لما فسخوه في عمرة زال اسمه بالكلية ، وصار الإحلال من عمرة لا من حج كما ترى ، فحمل لفظ الإحلال من الحج على الإحلال من العمرة حمل للفظ الحديث ، على ما لا يدل عليه بحسب الوضع العربي من غير دليل يجب الرجوع إليه .

ولو سلمنا جدليا أن المراد في حديث جابر المذكور بالإحلال من الحج : هو الإحلال من العمرة التي فسخوا فيها الحج كما هو رأي النووي ، فلا دليل في الحديث أيضا ; لأن غاية ما دل عليه الحديث على التفسير المذكور : أنه أمرهم عند الإحلال من العمرة بالهدي وذلك لا يستلزم أنهم ذبحوه في ذلك الوقت ، بل الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنهم لم يذبحوا شيئا من هداياهم ، قبل يوم النحر ، كما تقدم إيضاحه .

واستدلالهم بحديث ابن عباس المتقدم عند الحاكم : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة " ، إلى آخر الحديث المتقدم ، لا دليل فيه ; لأنه محمول على أنه لم يذبحه إلا يوم النحر ، كما فعل جميع الصحابة . وجاء في مسند الإمام أحمد التصريح بذلك فصارت رواية أحمد المصرحة بأن ذلك وقع يوم النحر ، مفسرة لرواية الحاكم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg





ابوالوليد المسلم 27-09-2022 01:54 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (362)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 155 إلى صـ 162





قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ، ما نصه : " باب تفرقة الهدي " : عن ابن عباس [ ص: 155 ] - رضي الله عنهما - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنما يوم النحر في أصحابه وقال : " اذبحوا لعمرتكم فإنها تجزئ عنكم " فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح . انتهى منه .

وهذه الرواية الصحيحة مبينة أن ذبحهم عن عمرتهم ، إنما كان يوم النحر ، وأن ذلك هو المراد في الرواية التي رواها الحاكم ; لأن الروايات يفسر بعضها بعضا ، كما هو معلوم في علم الحديث والأصول ، ولقد صدق الهيثمي في أن رجاله رجال الصحيح ; لأن أحمد رواه عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبي محمد مولى سليمان بن مجالد ، وهو ترمذي الأصل سكن بغداد ثم تحول إلى المصيصة ، أخرج له الجميع . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ثقة ثبت ، لكنه اختلط في آخر عمره ، لما قدم بغداد قبل موته ، وقال فيه في " تهذيب التهذيب " ، بعد أن ذكر ثناء عليه كثيرا من نقاد رجال الحديث ، كان ثقة صدوقا إن شاء الله ، وكان تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد . والظاهر أن الإمام أحمد إنما أخذ عنه قبل اختلاطه ; لأنه كان في بغداد قبل المصيصة ، ثم رجع من المصيصة إلى بغداد في حاجة له ، فمات بها واختلاطه في رجوعه الأخير كما يعلمه من نظر ترجمته في كتب الرجال ، وحجاج المذكور رواه عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وقد أخرج له الجميع وهو ثقة فقيه فاضل معروف وكان يدلس ويرسل ، ولكنه في هذا الحديث صرح بالإخبار عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وراوي الحديث عن أحمد ابنه عبد الله ، وجلالته معروفة ، فظهر صحة الإسناد المذكور كما قاله في " مجمع الزوائد " ، والعلم عند الله تعالى ، وقد رأيت مما ذكرنا أدلة من قال : بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج ، ومن قال : بجوازه عند الفراغ من العمرة ، وأدلة من قال : لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ومناقشتها .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله أعلم : أنه لا يجوز ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر لأدلة متعددة ، أوضحناها غاية الإيضاح قريبا .

منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل فلم يذبح عن أزواجه المتمتعات ولا عن عائشة القارنة إلا يوم النحر ، وكذلك فعل هو وجميع أصحابه المتمتعين بأمره ، واستمر على ذلك عمل الأمة ، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة . وقد أمرنا أن نأخذ عنه مناسكنا ، ومن مناسكنا وقت ذبح الهدايا ، ولا شك أن القرآن العظيم دل على أن كل هدي له تعلق بالحج أن ذبحه في أيام معلومات ، لا في أيام مجهولات كما أوضحناه مرارا ; لأنه تعالى [ ص: 156 ] قال : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 27 - 28 ] ; لأن مضمون الآية الكريمة : أذن فيهم بالحج يأتوك حجاجا مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : أي وليتقربوا إلى الله بدماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، ذاكرين اسم الله عليها عند التذكية .

فقد صرح بأن ذلك التقرب بدماء الأنعام الذي هو من جملة ما دعوا إلى الحج من أجله ، أنه في أيام معلومات لا في زمن مطلق مجهول كما ترى .

وقد بينا الأيام المعلومات في أول هذا البحث ، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أول وقتها ، فذكر اسم الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام وقت تذكيتها يوم النحر ، ويوضح أن ذكر اسم الله عليها إنما هو عند تذكيتها تقربا لله تعالى بدمائها ، قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف أي ذكوها قائمة صواف على ثلاثة أرجل كما هو معلوم .

ولا شك أن الله جل وعلا في محكم كتابه بين أن الهدي له محل معروف لا يجوز التحلل بحلق الرأس ، قبل بلوغه إياه ، وذلك في قوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن فيها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق هديا من أصحابه بفسخ حجه في عمرة ، والإحلال من العمرة ، وتأسف هو - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يفعل ذلك ، وقال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " .

ولا شك أن المانع له من فسخ الحج في العمرة أنه لا يمكنه التحلل ، وحلق الرأس ، حتى يبلغ الهدي محله .

ومن الضروري البديهي أن هدي التمتع لو كان يجوز ذبحه عند الإحلال من العمرة ، أو الإحرام بالحج أنه - صلى الله عليه وسلم - يتحلل بعمرة ، ويذبح هديه عندما تحلل منها ، فيكون متمتعا ذابحا عند الفراغ من العمرة ، أو عند الإحرام بالحج ، فلما صرح بامتناع هذا وعلله بأنه قلد هديه ، وعلم أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر كما هو واضح .

وقد أوضحنا أن جميع أفعاله في الحج - ويدخل فيها الذبح ووقته - كلها بيان لإجمال آيات القرآن كقوله : حتى يبلغ الهدي محله ، وقوله : [ ص: 157 ] ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما أنه بيان لقوله : ولله على الناس حج البيت الآية [ 3 \ 97 ] . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن أفعاله في الحج ، بيان للقرآن : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وقد قدمنا اتفاق الأصوليين ، على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو بيان لإجمال نص يقتضي الوجوب : أنه واجب إلى آخر ما قدمناه من الأدلة .

وقد علمت مما ذكرنا أن القائلين بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج ، أو بعد الفراغ من العمرة كالشافعية وأبي الخطاب من الحنابلة ، ليس معهم حجة واضحة من كتاب الله ، ولا من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا فعل أحد من الصحابة وأن تمسكهم بآية : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ، وبعض الأحاديث ليس في شيء منه حجة ناهضة يجب الرجوع إليها ، هذا ما ظهر لنا في هذه المسألة ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

اعلم أن ما يفعله كثير من الحجاج - الذين يزعمون التقرب بالهدي يوم النحر - من ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى لا يقدر الفقراء على الوصول إليها ، والتمكن منها ، وتركها مذبوحة ليس بقربها فقير ينتفع بها ، وتضيع تلك الغنم بكثرة وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار منى ، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف ، أن كل ذلك لا يجوز وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة . ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك ; لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة ، وإضاعة للمال ، وإفساد له باسم التقرب إلى الله ، ودواء ذلك الداء المنتشر في منى كل سنة أن يعلم كل مهد وكل مضح : أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء ، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حين ذبحها أو يسلخها هو ، ويحملها بنفسه أو بأجرة ، حتى يوصلها إلى المستحقين ; لأن الله يقول : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، ويقول : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم ، ولو اجتهد في إيصاله إليهم ، لأمكنه ذلك ; لأنه قادر عليه وعلى من بسط الله يده أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية ، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم ، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء منى ، وفجاج مكة ، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها .

[ ص: 158 ] واعلم أن التحقيق أن فقراء الحرم هم الموجودون فيه وقت نحر الهدايا من الآفاقيين ، وحاضري المسجد الحرام ، فإن ذبح في موضع فيه فقراء ، وخلى بينهم وبين الذبيحة أجزأه ذلك ; لأنه يسر لهم الأكل منها بطريق لا كلفة عليهم فيها ، فكأنه أطعمهم بالفعل ، والعلم عند الله تعالى .

ومعلوم أن المتمتع إذا لم يجد هديا أنه ينتقل إلى الصوم ، كما قال تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .

وأظهر قولي أهل العلم عندي أن معنى قوله : ( في الحج ) : أي في حالة التلبس بإحرام الحج ; لأن الظاهر من اسم الحج هو الدخول في نفس الحج ، وذلك بالإحرام . وقال بعض أهل العلم : المراد بالحج أشهره ، واستدل بقوله تعالى : الحج أشهر معلومات [ 2 \ 297 ] ولا دليل في الآية عندي ; لأن الكلام على حذف مضاف : أي زمن الحج أشهر معلومات . وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وعليه ، فينبغي أن يحرم بحجه ، قبل يوم التروية ليتم الثلاثة قبل يوم النحر ; لأن صومه لا يجوز .

وكره بعض أهل العلم للحاج صوم يوم عرفة ، واستحب أن يفرغ من صوم الثلاثة قبله ، وجزم به صاحب المهذب والتحقيق أن السبعة إنما يصومها بعد الرجوع إلى أهله ، ووصوله إلى بلده ، وأنه ليس المراد أنه يصومها في طريقه في رجوعه . وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن المراد الرجوع إلى أهله ، وهو ظاهر القرآن . فلا يجوز العدول عنه . والظاهر أن الأيام الثلاثة والأيام السبعة : لا يجب التتابع في واحد منهما ، لعدم الدليل على ذلك ، قال في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا ، وإن فاته صومها قبل يوم النحر ، فهل يجوز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين :

أحدهما : أنه لا يجوز صوم أيام التشريق للمتمتع .

والثاني : يجوز له صومها ، وفيها قول ثالث : أنها يجوز صومها مطلقا ، ولا يخفى بعد هذا القول وسقوطه . أما حجة من قال : إنها لا يجوز صومها للمتمتع ، ولا غيره فهو ما رواه مسلم في صحيحه . وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا هشيم ، أخبرنا خالد ، عن أبي المليح ، [ ص: 159 ] عن نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيام التشريق أيام أكل وشرب " ، وفي لفظ عند مسلم عنه زيادة : " وذكر الله " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن ابن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه حدثه : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق ، فنادى : " أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام منى أيام أكل وشرب " . وفي لفظ عند مسلم : " فناديا " انتهى منه . قالوا : فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابيان : هما كعب بن مالك ، ونبيشة بن عبد الله الهذلي ، فيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذلك يدل على أنها لا يجوز صومها . وظاهر الحديث الإطلاق في المتمتع وغيره . وفي الحديث المذكور : الرد على من أجاز صومها مطلقا ، ومما يؤيد ذلك حديث عمرو بن العاص ، أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق : إنها الأيام التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومهن ، وأمر بفطرهن . قال ابن حجر في " الفتح " : أخرجه أبو داود ، وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم .

وأما حجة من قال بجواز صوم أيام التشريق الثلاثة للمتمتع الذي فاته صومها قبل يوم النحر ، فهي ما رواه البخاري في صحيحه ، قال : باب صيام أيام التشريق ، قال أبو عبد الله : قال لي محمد بن المثنى : حدثنا يحيى ، عن هشام قال : أخبرني أبي كانت عائشة - رضي الله عنها - تصوم أيام منى ، وكان أبوها يصومها .

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة : سمعت عبد الله بن عيسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وعن سالم ، عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن ، إلا لمن لم يجد الهدي . انتهى منه . قالوا : فهذا الحديث له حكم الرفع وفيه التصريح بالترخيص في صوم أيام التشريق للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ، والروايات الصحيحة التي رواها الحفاظ من أصحاب شعبة ، لم يرخص بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول .

قال في " الفتح " : ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني ، واللفظ له ، والطحاوي : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق ، وقال : إن يحيى بن سلام ، ليس بالقوي ، ولم يذكر طريق عائشة ، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن [ ص: 160 ] الزهري ، عن عروة عن عائشة ، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع ، بقي الأمر على الاحتمال .
وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي : أمرنا بكذا ، ونهينا عن كذا ، هل له حكم الرفع ؟ على أقوال :

ثالثها : إن أضافه إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فله حكم الرفع ، وإلا فلا .

واختلف في الترجيح فيما إذا لم يضفه ، ويلتحق به رخص لنا في كذا ، وعزم علينا ألا نفعل كذا ، كل في الحكم سواء ، فمن يقول : إن له حكم الرفع فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام ، أنه روي بالمعنى . لكن قال الطحاوي : إن قول ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ; لأن قوله : ( في الحج ) ، يعم ما قبل النحر ، وما بعده ، فتدخل أيام التشريق ، فعلى هذا فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما ، عما فهماه من عموم الآية . وقد ثبت نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق ، وهو عام في حق المتمتع وغيره . وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن ، وعموم الحديث المشعر بالنهي ، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعا ، فكيف وفي كونه مرفوعا نظر ، فعلى هذا يترجح القول بالجواز ، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر في " الفتح " وتراه فيه يجعل : أمرنا ونهينا ، ورخص لنا وعزم علينا ، كلها سواء في الخلاف المذكور : هل لها حكم الرفع أو الوقف ؟ وممن قال : بصوم أيام التشريق للمتمتع : ابن عمر ، وعائشة ، وعروة ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، ومالك ، والأوزاعي وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد في إحدى الروايتين ، وممن روى عنه عدم صوم المتمتع لها : الشافعي في القول الثاني ، وأحمد في الرواية الثالثة ، وروي نحوه عن علي والحسن ، وعطاء وهو قول ابن المنذر قاله في " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : مسألة صوم أيام التشريق للمتمتع ، يظهر لي فيها أنها بالنسبة إلى النصوص الصريحة ، يترجح فيها عدم جواز صومها وبالنظر إلى صناعة علم الحديث يترجح فيها جواز صومها ، وإيضاح هذا أن عدم صومها : دل عليه حديث نبيشة الهذلي ، وكعب بن مالك في صحيح مسلم ، كما قدمنا وكلا الحديثين صريح في أن كونها : " أيام أكل وشرب " . من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو نص صحيح صريح في عدم صومها ، فظاهره الإطلاق في المتمتع ، الذي لم يجد هديا وفي غيره .

[ ص: 161 ] ولم يثبت نص صريح من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من القرآن : يدل على جواز صومها للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ، وما ذكره ابن حجر عن الطحاوي من أن ابن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - أخذا جواز صومها من ظاهر عموم قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج ، ليس بظاهر ، والظاهر سقوطه والله أعلم لإجماع جميع المسلمين أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة ، بعد رمي جمرة العقبة ، والحلق : أنه يحل له كل شيء حرم عليه بالحج من النساء ، والصيد ، والطيب ، وكل شيء . فقد زال عنه الإحرام بالحج بالكلية ، وصار حلالا حلا تاما كل التمام . وذلك ينافي كونه يطلق عليه أنه في الحج ، فإن صام أيام التشريق فقد صامها في غير الحج ; لأنه تحلل من حجه ، وقضى مناسكه .

ومن أصرح الأدلة في ذلك أن الله صرح بأنه لا رفث في الحج ، وأيام التشريق يجوز فيها الرفث بالجماع فما دونه ، فدل على أن ذلك الرافث فيها ليس في الحج ، وأما الرمي في أيام التشريق فهو من السنن الواقعة بعد تمام الحج تابعة له ، وكذلك النحر فيها إن لم ينحر يوم النحر .

أما كونه في أيام التشريق : يصدق عليه أنه في الحج بعد إحلاله منه ، وفراغه منه ، حتى يتناوله عموم الآية ، فليس بظاهر عندي . والله تعالى أعلم .

وأما بالنظر إلى صناعة علم الحديث ، فالذي يترجح هو جواز صوم أيام التشريق للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ; لأن المشهور الذي عليه جمهور المحدثين أن قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو رخص لنا في كذا ، أو أحل لنا كذا له كله حكم الرفع ، فهو موقوف لفظا مرفوع حكما .

قال ابن الصلاح في علوم الحديث الثاني : قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا من نوع المرفوع ، والمسند عند أصحاب الحديث ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وخالف في ذلك فريق منهم : أبو بكر الإسماعيلي ، والأول هو الصحيح ; لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . انتهى محل الغرض منه

وقد قال بعد هذا : ولا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده .

وقال النووي في تقريبه : الثاني قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو من السنة كذا ، أو أمر بلال أن يشفع الأذان وما أشبهه ، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور . وقيل : ليس بمرفوع ، ولا فرق بين قوله في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده انتهى [ ص: 162 ] منه ، وعلى هذا درج العراقي في ألفيته في قوله :


قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع ولو بعد النبي قاله بأعصر
على الصحيح وهو قول الأكثر

وفي علوم الحديث مناقشات في هذه المسألة معروفة ، والصحيح عندهم الذي عليه الأكثر أن ذلك له حكم الرفع وبه تعلم أن حديث ابن عمر ، وعائشة عند البخاري لم يرخص في أيام التشريق ، أن ضمن الحديث له حكم الرفع . وإذا قلنا : إنه حديث صحيح مرفوع عن صحابيين ، فلا إشكال في أنه يخصص به عموم حديث نبيشة ، وكعب بن مالك ، ولو كان ظاهر الآية يدل على صومها ، كما ذكره ابن حجر عن الطحاوي ، فلا مانع من تخصيص عمومها بالحديث المرفوع .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن التحقيق ، جواز تخصيص عموم المتواتر ، بأخبار الآحاد كما هو معلوم ; لأن التخصيص بيان ، والبيان يجوز بكل ما يزيل اللبس ، ولذا كان جمهور العلماء على جواز بيان المتواتر ، بأخبار الآحاد ، كتخصيص عموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] ، وهو متواتر بحديث : " لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها " ، وهو خبر آحاد ، وقد أكثرنا من أمثلته في هذا الكتاب المبارك ، وكذلك أجاز الجمهور تخصيص المنطوق بالمفهوم كتخصيص عموم : " في أربعين شاة شاة " ، وهو منطوق بمفهوم المخالفة في حديث : " في الغنم السائمة زكاة " ، عند من يقول بذلك .

والحاصل أن المبين باسم الفاعل ، يجوز أن يكون دون المبين باسم المفعول في السند ، وفي الدلالة ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :


وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد
وقد أوضحنا هذا ، وذكرنا كلام أهل العلم فيه في ترجمة هذا الكتاب المبارك .

وقد يترجح عند الناظر عدم صومها للمتمتع من وجهين :

الأول أن عدم صومها مرفوع رفعا صريحا ، وصومها موقوف لفظا مرفوع حكما على المشهور ، والمرفوع صريحا أولى بالتقديم من المرفوع حكما .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 01:56 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (363)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 163 إلى صـ 170





والثاني أن الجواز والنهي ، إذا تعارضا قدم النهي ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب منهي عنه ، وقد يحتج المخالف ، بأن دليل الجواز خاص بالمتمتع ، ودليل النهي عام ، والخاص يقضي على العام ، والعلم عند الله تعالى . فإن أخر صوم الأيام الثلاثة ، عن يوم [ ص: 163 ] عرفة فقد فات وقتها ، على القول بأن أيام التشريق لا يصومها المتمتع ، وعلى القول بأنه يصومها إنما يخرج وقتها بانتهاء أيام التشريق وهل عليه قضاؤها بعد ذلك ؟ لا أعلم في ذلك نصا من كتاب الله ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

والعلماء مختلفون في ذلك ، فقال بعضهم : يقضيها فيصوم عشرة ، ومن قال بهذا القول من أهل العلم اختلفوا ، هل يفرقها فيفصل بين الثلاثة والعشرة ، بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء ، لو لم تفت في وقتها بناء على أن تقديم الثلاثة على السبعة لا يتعلق بالوقت ، فلم يسقط كترتيب أفعال الصلاة ، أو ليس عليه تفريقها ، بل يجوز أن يصوم العشرة كلها متوالية ، بناء على أن التفريق وجب بحكم الوقت المعين ، وقد فات ، فسقط كالتفريق بين الصلوات التي فاتت أوقاتها ، فإنها تقضى متوالية لا متفرقة على أوقاتها حسب الأداء لو لم تفت ، والتفريق بين الثلاثة والسبعة في الصوم هو مذهب الشافعي ، وعدمه : مذهب أحمد ، وعلى قول من قالوا : بلزوم قضاء الأيام الثلاثة بعد خروج وقتها .

فبعضهم يقول : لا دم على المتمتع ; لأنه قضى ما فات ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : عليه دم مع القضاء ; لأجل التأخير ، وجزم به الخرقي وهو مروي عن أحمد . وقال القاضي : إن أخره لعذر ، فليس عليه إلا القضاء ، ولا دم . وعن أحمد : لا دم مع القضاء بحال .

وقيل : لا تقضى الأيام الثلاثة ، بعد خروج وقتها ، ويلزم الدم لسقوط قضائها بفوات وقتها ، ولا يجوز صوم السبعة بعد ذلك ; لأنها تابعة للثلاثة التي سقطت ، ويتعين الدم ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وآخر وقت الثلاثة عنده يوم عرفة .

واعلم أن أبا حنيفة وأحمد يقولان : إن صوم الثلاثة للعاجز عن الهدي يجوز قبل التلبس بإحرام الحج ، فمذهب أبي حنيفة أن أول وقت صومها في أشهر الحج ، بين الإحرامين ، والأفضل عنده : أن يؤخرها إلى آخر وقتها ، فيصوم السابع ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وبعض الحنفية يروي هذا عن علي - رضي الله عنه - . وعند أحمد : يجوز صومها ، عند الإحرام بالعمرة ، وعنه : إذا حل من العمرة ، وهذه الأقوال مبنية على أن قوله : في الحج يراد به : أشهره . وقد بينا عدم ظهوره ، وعند مالك والشافعي : لا يجوز صومها إلا بعد التلبس بإحرام الحج ، وهذا أقرب لظاهر القرآن ، وهما يقولان : ينبغي تقديمها قبل يوم النحر ، والشافعي يستحب إنهاءها قبل يوم عرفة ، فإن لم يصم إلى يوم [ ص: 164 ] النحر ، أفطر يوم النحر ، وصام عند مالك أيام التشريق ، فإن لم يصمها ، حتى رجع إلى بلده وله به مال لزمه أن يبعث بالهدي ، إلى الحرم ، ولا يجزئه الصوم عنده ، وليس له أن يؤخر الصيام ; ليهدي من بلده ، وفي صوم أيام التشريق ، للمتمتع عند الشافعية : قولان . وعن أحمد : روايتان فيهما . وقد علمت أن أبا حنيفة لا يجيز صومها . وأن مالكا يجيزه ويكفي عنده في صوم السبعة الرجوع من منى .

وقد قدمنا أن التحقيق أن صومها بعد الرجوع إلى أهله لحديث ابن عمر الثابت في الصحيح . فما يروى عن مالك وأبي حنيفة ، والشافعي ، وغيرهم مما يخالف ذلك من الروايات لا ينبغي التعويل عليه ، لمخالفته الحديث الصحيح . ولفظه : " فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " الحديث ، هذا لفظ مسلم في صحيحه ، ولفظ البخاري : " فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " ، فلفظة : " إذا رجع إلى أهله " في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو تفسير منه لقوله تعالى : وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، وإذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين ، من حديث ابن عمر : تفسير الرجوع في الآية برجوعه إلى أهله ، فلا وجه للعدول عنه .

وفي صحيح البخاري ، من حديث ابن عباس بلفظ : " وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم " ، وكل ذلك يدل على أن صوم السبعة بعد رجوعه إلى أهله ، لا في رجوعه إلى مكة ، ولا في طريقه كما هو ظاهر النصوص التي ذكرنا ، بل صريحها ، والعدول عن النص بلا دليل يجب الرجوع إليه لا يجوز ، والعلم عند الله تعالى .

والأظهر عندي : أنه إن صام السبعة قبل يوم النحر ، لا يجزئه ذلك ، فما قال اللخمي من المالكية : من أنه يرى إجزاءها لا وجه له . والله أعلم .

بل لو قال قائل : بمقتضى النصوص ، وقال لا تجزئ قبل رجوعه إلى أهله ، لكان له وجه من النظر واضح ; لأن من قدمها قبل الرجوع إلى أهله ، فقد خالف لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، الثابت في الصحيحين عن ابن عمر وهو لفظ منه - صلى الله عليه وسلم - ، في معرض تفسير آية : وسبعة إذا رجعتم والعدول عن لفظه الصريح ، المبين لمعنى القرآن . لو قيل : بأنه لا يجزئ فاعله ، لكان له وجه ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن العاجز عن الهدي في حجه ينتقل إلى الصوم ولو غنيا في بلده ، هذا هو الظاهر ، وإن عجز وابتدأ صوم الثلاثة ثم وجد الهدي ، بعد أن صام يوما منها أو يومين ، [ ص: 165 ] فالأظهر عندي فيه : أنه لا يلزمه الرجوع إلى الحج ; لأنه دخل في الصوم بوجه جائز وأنه ينبغي له أن ينتقل إلى الهدي ، واستحباب الانتقال إلى الهدي هو مذهب مالك ، ومن وافقه . وممن وافقه الحسن ، وقتادة والشافعي وأحمد . وعن ابن أبي نجيح ، وحماد ، والثوري ، والمزني : إن وجد الهدي ، قبل أن يكمل صوم الثلاثة ، فعليه الهدي . وقيل : متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام أو لم يصم ، والأظهر ما قدمنا والله أعلم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي : أنه إن فاته صوم الثلاثة في وقتها ، إلى ما بعد أيام التشريق أنه يجري على القاعدة الأصولية التي هي : هل يستلزم الأمر المؤقت القضاء ، إذا فات وقته ، أو لا يستلزمه ؟ وقد قدمنا الكلام على تلك المسألة مستوفى في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة الآية [ 19 \ 59 ] .

فعلى القول : بأن الأمر يستلزم القضاء فلا إشكال في قضاء الثلاثة بعد وقتها ، وعلى القول : بأنه لا يستلزم القضاء يحتمل أن يقال : بوجوب القضاء لعموم حديث : " فدين الله أحق أن يقضى " ، ويحتمل أن يقال بعدمه ، بناء على أن صوم الثلاثة في الحج ، ليكون ذلك مسوغا لقضاء التفث ; لأن الدم مسوغ لقضاء التفث ، ممن عنده هدي فلا يبعد أن يكون بعض الصوم قدم لينوب عن الدم في تسويغ قضاء التفث . وعلى هذا الاحتمال : لا يظهر القضاء ، ولا يبعد لزوم الدم للإخلال بالصوم في وقته ، والعلم عند الله تعالى .

أما لزوم صوم السبعة بعد الرجوع إلى أهله ، فالذي يظهر لي : لزومه لمن لم يجد الهدي مطلقا : وأنه لا يسقط بحال ; لأن وجوبه ثابت بالقرآن فلا يمكن إسقاطه ، إلا بدليل واضح ، يجب الرجوع إليه . فجعل الدم بدلا منه إن فات صوم الثلاثة في وقتها ، ليس عليه دليل يوجب ترك العمل بصريح القرآن في قوله : وسبعة إذا رجعتم .
تنبيه

إذا أخر الحاج طواف الإفاضة ، عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة مثلا ، فهل يجزئه حينئذ صوم الأيام الثلاثة لأنه لم يزل في الحج ، لبقاء ركن منه ، ولأنه لا يجوز له الرفث إلى النساء ; لأنه لم يزل في الحج ، أو لا يجوز له صومها نظرا إلى أن وقت الطواف ، الذي بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " قد فات ؟ وهذا التأخير مخالف [ ص: 166 ] للسنة ، فلا عبرة به ، وهذا أظهر عندي . والله تعالى أعلم .

وبنحوه جزم النووي في " شرح المهذب " ، قائلا : إن تأخير الطواف بعيد فلا يحمل عليه قوله تعالى : ( في الحج ) وذكر عن بعض الشافعية وجها آخر غير هذا . وإن مات المتمتع العاجز ، عن الصوم قبل أن يصوم ، فقال بعض أهل العلم : يتصدق عما أمكنه صومه ، عن كل يوم بمد من حنطة ، وهو مروي عن الشافعي . وقيل : يهدي عنه . وقيل : لا هدي عنه ، ولا إطعام . والله تعالى أعلم .

واختلف أهل العلم : إن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه ، حتى قدر على الهدي هل ينتقل إلى الهدي ؟ ; لأن الصوم إنما لزم للعجز عن الهدي ، وقد زال بوجوده ، وهذا إن وقع قبل يوم النحر ، لا ينبغي أن يختلف فيه . أما إن وجد الهدي ، بعد فوات وقت الأيام الثلاثة ، فهو محل القولين ، وهما روايتان ، عن أحمد ، وقد قدمنا كلام أهل العلم في ذلك ، ولا نص فيه .

والأظهر أن صوم السبعة الذي لم يعين له وقت لا ينبغي العدول عنه ، إلى غيره ، كما تقدم خلافا لمن قال بغير ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

هذا هو حاصل ما يتعلق بالدماء الواجبة ، بغير النذر مع كونها منصوصا عليها في القرآن .

أما الدماء التي لم يذكر حكمها في القرآن ، وقد قاسها العلماء على المذكورة في القرآن ، فمنها : دم الفوات . فقد روى مالك في " الموطأ " ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أنه أمر أبا أيوب الأنصاري ، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج ، وأتيا يوم النحر : أن يحلا بعمرة ، ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ، ويهديان ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله . انتهى محل الغرض منه .

فقد قاس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : دم الفوات على دم التمتع حيث قال : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وقول عمر " ثلاثة أيام في الحج " ، لا يظهر في الفوات ; لأن الفوات لا يتحقق إلا بانتهاء ليلة النحر ، اللهم إلا إن كان عاقه عائق ، وهو بعيد ، بحيث لو سار ثلاثة أيام لم يدرك عرفة ليلة النحر ، فحينئذ قد يصومها وكأنه في الحج ; لأنه لم يحصل له الفوات فعلا ، وإن كان الفوات محققا وقوعه في المستقبل ، ووجه قياس : دم الفوات على دم التمتع ، حتى صار بدله من الصوم كبدله .

[ ص: 167 ] ذكره ابن قدامة في " المغني " قائلا : إن هدي التمتع ، إنما وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد ، فيقاس عليه دم من فاته الحج بجامع أنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه ، فصار كالتارك لأحد السفرين انتهى محل الغرض منه . ولا يظهر عندي كل الظهور .

ثم قال في " المغني " : فإن قيل : فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار فإنه أشبه به ، إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه . قلنا : الهدي فيهما سواء . وأما البدل ، فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه ، وإنما ثبت قياسا ، فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه ، على أن الصيام هاهنا مثل الصيام عن دم الإحصار ، وهو عشرة أيام أيضا ، إلا أن صيام الإحصار : يجب أن يكون قبل حله ، وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده ، وهو أيضا مفارق لصوم المتعة ; لأن الثلاثة في المتعة : يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة ، وهذا يكون بعد فوات عرفة . والخرقي إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم عن جزاء الصيد عن كل مد يوما . والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا ، ويقاس عليه أيضا : كل دم وجب لترك واجب ، كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس ، والمبيت بمزدلفة ، والرمي ، والمبيت ليالي منى بها ، وطواف الوداع . فالواجب فيه : ما استيسر من الهدي ، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ، وأما من أفسد حجه بالجماع ، فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع ، كصيام المتعة . كذا قال عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ، ولم يظهر في الصحابة خلافهم ، فيكون إجماعا ، فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة .

وقال أصحابنا : يقوم البدنة بدراهم ، ثم يشتري بها طعاما ، فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما ، فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد .

ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور ، يترفه به كتقليم الأظافر ، واللبس ، والطيب وكل استمتاع من النساء : كالوطء في العمرة ، أو في الحج بعد رمي جمرة العقبة ، فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرنا ، فيقاس عليه ، ويلحق به ، فقد قال ابن عباس : لامرأة وقع عليها زوجها قبل أن تقصر : عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك . انتهى بطوله من " المغني " .

وهذه الأمور المذكورة لا نص فيها ، من كتاب ولا سنة .

[ ص: 168 ] وقد قدمنا في سورة " البقرة " ، أقوال أهل العلم في المحصر إن عجز عن الهدي هل يلزمه بدله ، أو لا يلزمه شيء بدلا عنه . وأقوال من قالوا : يلزمه البدل في البدل ، هل هو الصوم ، أو الإطعام بما أغنى عن إعادته هنا .

وقد علمت من كلام صاحب " المغني " أن المشهور في مذهب أحمد : هو قياس دم الفوات على دم التمتع ، كما فعل عمر - رضي الله عنه - ، وأن الخرقي من الحنابلة قاسه على دم جزاء الصيد فجعل الصوم عن دم الفوات ، كالصوم عن جزاء الصيد ، وأن مذهب أحمد أيضا ، قياس كل دم وجب لترك واجب على دم التمتع . فيصوم عند العجز عنه عشرة أيام ، وذلك كدم القران ، وترك الإحرام من الميقات ، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس ، والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها . وطواف الوداع . وكذلك قياس صوم من عجز عن البدنة في حال إفساد حجه بالجماع ، فهو عند أحمد : عشرة أيام قياسا على التمتع . وقد قدمنا نقل صاحب " المغني " لذلك عن بعض الصحابة وعدم مخالفة غيرهم لهم .

وعن بعض الحنابلة : تقويم بدنة المجامع العاجز بالدراهم ، فيشتري بها طعاما إلى آخر ما تقدم . وأن مذهب أحمد : قياس كل دم وجب بفعل محظور ، كاللبس ، والطيب ، وتقليم الأظافر ، ونحو ذلك على فدية الأذى .

وقد قدمنا أن قياس تلك الأشياء على فدية الأذى : مجمع عليه من الأئمة الأربعة ، إلا أن أبا حنيفة . يخصصه بما فعل للعذر ، ويوجب الدم دون غيره ، فيما فعل من ذلك لا لعذر ، كما تقدم إيضاحه .

وأما مذهب الشافعي في دم الفوات ، ففيه طريقان أصحهما : قياسه على دم التمتع ، في الترتيب ، والتقدير ، وسائر الأحكام .

والطريق الثاني : على قولين أحدهما : أنه كدم التمتع أيضا . والثاني : أنه كدم الجماع في الأحكام ، إلا أن هذا شاة ، والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء ، وقد قدمنا حكم المجامع العاجز عن البدنة في مذهب الشافعي ماذا يلزمه ، ومذهب الشافعي في الدم الواجب بسبب ترك بعض المأمورات كالإحرام من الميقات ، والرمي والوقوف بعرفة إلى الغروب ، والمبيت بمزدلفة ليلة النحر ، وبمنى ليالي منى ، وطواف الوداع هو أن في ذلك أربعة أوجه ، أصحها : أنه كدم التمتع أيضا في الترتيب ، [ ص: 169 ] والتقدير ، فإن عجز عن الهدي ، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .

الوجه الثاني : أنه إن عجز عن الهدي قوم شاة الهدي دراهم ، واشترى بها طعاما وتصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوما ، والوجهان الآخران عند الشافعية تركناهما لضعفهما وشذوذهما ، كما قاله علماء الشافعية . ومذهب الشافعي في الدم اللازم . بسبب الاستمتاع : كالطيب واللباس ، ومقدمات الجماع أن فيه عندهم أربعة أوجه ، وقد قدمناها .

وقدمنا أن أصحها أنه كفدية الأذى المنصوصة في آية الفدية . ودم الجماع فيه عند الشافعية طرق واختلاف منتشر ، والمذهب المشهور عندهم : أنه بدنة ، فإن عجز عنها فبقرة ، فإن عجز فسبع شياه ، فإن عجز قوم البدنة بدراهم ، والدراهم بطعام ثم تصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوما . وقيل : إن عجز عن الغنم قوم البدنة وصام ، فإن عجز أطعم ، فيقدم الصيام على الإطعام ككفارة الظهار ونحوها . وقيل : لا مدخل للإطعام والصيام ، بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته . وقيل : إنه يتخير بين البدنة ، والبقرة ، والغنم ، فإن عجز عنها ، فالإطعام ثم الصوم . وقيل : يتخير بين البدنة ، والبقرة ، والشياه ، والإطعام ، والصيام ، وكل هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي .

وقول الظاهرية : إن كل ما لم يثبت من هذه المذكورات من صيام ودم لا يجب ; لأن كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .

وقد قدمنا أن مذهب مالك هو قياس الطيب واللبس ونحو ذلك على فدية الأذى كغيره من الأئمة .

وأما دم الفوات والفساد ، وترك الرمي وتعدي الميقات ، وترك المبيت بمزدلفة ، فكل ذلك يقيس بدله على بدل التمتع ، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام ، وإنما يصوم الثلاثة في الحج عندهم المتمتع ، والقارن ومتعدي الميقات ، ومفسد الحج ومن فاته الحج .

وأما من لزمه ذلك لترك جمرة أو النزول بمزدلفة ، فيصوم متى شاء ; لأنه يقضي في غير حج ، فيصوم في غير حج . اهـ من المواق .

وقد قدمنا في مسائل الحج التي ذكرناها في الكلام على آية الحج : بعض المسائل التي يتعدد فيها الدم ، وبعض المسائل التي لا يتعدد فيها في مواضع متفرقة ، مع عدم النص في ذلك من كتاب أو سنة .

[ ص: 170 ] والأظهر عندي أن الدماء إن اختلفت أسبابها كمن جاوز الميقات غير محرم ، ودفع من عرفة قبل غروب الشمس عند من يقول حجه صحيح ، وعليه دم ، وترك المبيت بمزدلفة وترك المبيت بمنى أيام منى ، أنه تتعدد عليه الدماء ، بتعدد أسبابها مع اختلافها . أما إن كانت الأسباب المتعددة من نوع واحد ، كأن ترك رمي يوم ، ثم ترك رمي يوم آخر أو بات ليلة من ليالي منى في غير منى ثم كرر ذلك ، فللتعدد وجه وللاتحاد وجه ، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك في محله . والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن من اعتمر في أشهر الحج ، وأحل من عمرته ، وهو يريد التمتع ثم كرر العمرة في أشهر الحج : لا يلزمه إلا هدي تمتع واحد ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وقد قدمنا أن أقل الهدي واجبا كان للتمتع والقران ونحوهما ، أو غير واجب شاة تجزئ ضحية أو شرك في دم ، كسبع بدنة أو بقرة على التحقيق ، كما تقدم إيضاحه ، ولا عبرة بخلاف من خالف في الاشتراك فيه لثبوته بالنص الصحيح .

واعلم أن من أحرم بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج ، فيكون قارنا ، وعليه دم القران ما لم يفتتح الطواف بالبيت ، وإن افتتح الطواف : ففي جواز إدخاله عليها حينئذ ، خلاف بين أهل العلم .

قال النووي : فجوزه مالك ، ومنعه عطاء ، والشافعي ، وأبو ثور .

واختلفوا أيضا في إدخال العمرة على الحج ، فيكون قارنا ، وعليه دم القران ، وقد قدمنا أن الشافعية والمالكية يقولون : إن ذلك هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وأكثرهم يقول : هو لا يجوز لغيره ، بل جوازه خاص به - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا .

وقال النووي في " شرح المهذب " : واختلفوا في إدخال العمرة على الحج ، فقال أصحابنا : يجوز ، ويصير قارنا وعليه دم القران ، وهو قول قديم للشافعي ، ومنعه الشافعي في مصر ، ونقل منعه عن أكثر من لقيه . انتهى محل الغرض منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 01:58 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (364)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 171 إلى صـ 178





والظاهر أن المحرم المتمتع إذا أحل من عمرته ، يستحب له ألا يحرم بالحج ، إلا يوم التروية ; لأن ذلك هو الذي فعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بأمره في حجة الوداع ، ومحل هذا إن كان واجدا هدي التمتع ، فإن كان عاجزا عنه ويريد أن يصوم ، استحب له تقديم الإحرام ; ليصوم الأيام الثلاثة في إحرام الحج ، وقد قدمنا أقوال من قال من أهل العلم : إنه [ ص: 171 ] ينبغي أن يكون آخرها يوم عرفة ، وقول من كره صوم يوم عرفة واستحب انتهاءها قبل يوم عرفة . والله تعالى أعلم
تنبيه

إذا فرغ المتمتع من عمرته ، وكان لم يسق هديا فإن له التحلل التام ، فله مس الطيب والاستمتاع بالنساء ، وكل شيء حرم عليه بإحرامه ، فإن كان ساق الهدي ففيه للعلماء قولان :

أحدهما أن له التحلل أيضا ; لأن الله يقول في التمتع : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، ولا يمنعه سوق الهدي من ذلك ; لأنه متمتع .

والقول الثاني : أنه لا يجوز له الإحلال حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر ، واستدل من قال بهذا بحديث : حفصة - رضي الله عنها - الذي قدمناه أنها قالت له - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " وكلا القولين قال به جماعة من الأئمة - رضي الله عنهم - .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أن له أن يحل من إحرامه ، ولكنه يؤخر ذبح هدي تمتعه ، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر ، كما قدمنا إيضاحه . والاحتجاج بحديث حفصة المذكور لا ينهض كل النهوض ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، فحديثها ليس في محل النزاع ; لأن النزاع فيمن أحرم بعمرة يريد التحلل منها . والإحرام بالحج بعد ذلك . هل يمنعه سوق الهدي من التحلل ؟ وحديث حفصة في القران ، والقران ليس محل نزاع ، وقولها : ولم تحلل أنت من عمرتك . تعني : عمرته المقرونة مع الحج ، لا عمرة مفردة بإحرام دون الحج ، كما هو معلوم ، وكما تقدم إيضاحه .

ومما يوضحه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " فدل على أنه لم يجعلها عمرة مفردة الذي هو محل النزاع ; لأن ظاهره أنها لو كانت مفردة لكان له الإحلال منها مطلقا ، ولا حجة في قوله : " لما سقت الهدي " ; لأنه ساقه لقران لا لعمرة مفردة عن الحج .

وقال النووي : فإن قيل : قد ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة ، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن [ ص: 172 ] أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحجة فليتم حجه " .

فالجواب أن هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما مسلم قبل هذه الرواية ، وبعدها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " ، فهذه الرواية مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل ; لأن القصة واحدة فصحت الروايات . انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومما يؤيد ما ذكرنا عن النووي أن رواية حديث عائشة المذكورة التي قال : إنها يجب تأويلها بتفسيرها بالروايات الصحيحة الأخرى فيها ما لفظه : " ومن أهل بحجة فليتم حجه " ; لكثرة الروايات الصحيحة المتفق عليها عن جماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من أحرم بحج مفردا ، ولم يسق هديا أن يفسخ حجه في عمرة ، ويحل منها الحل كله ، فعلم أن قولها : ومن أهل بحجة فليتم حجته : يجب تأويله ، وتفسيره بالروايات الأخرى الصحيحة ، كما قال النووي . وقول من قال : إن سوق الهدي في عمرته يمنعه من الإحلال منها حتى ينحر يوم النحر له وجه قوي من النظر لدخوله في ظاهر عموم قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وهذا المعتمر المتمتع الذي ساق معه هدي التمتع إن حل من عمرته حلق قبل أن يبلغ هديه محله ، والعلم عند الله تعالى . ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الدماء الواجبة بغير النذر .

أما الهدي الذي ليس بواجب : وهو هدي التطوع ، وهو مستحب فيستحب لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام ، وينحره ويفرقه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وهو قارن ، ويكفي لدم القران بدنة واحدة ، بل شاة واحدة ، وبقية المائة تطوع منه - صلى الله عليه وسلم - : ويستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا ; لقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله الآية [ 22 \ 32 ] . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - تعظيمها الاستسمان والاستحسان والاستعظام ، ويؤيده قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 22 \ 36 ] . ومعلوم أن أقل الهدي شاة تجزئ ضحية أو سبع بدنة أو بقرة كما تقدم إيضاحه ، ولا يكون من الحيوان إلا من بهيمة الأنعام ، وقد تقدم إيضاح الأنعام ، وأنها الأزواج الثمانية المذكورة في آيات من كتاب الله وهي : الجمل ، والناقة ، والبقرة ، والثور ، والنعجة ، والكبش ، والعنز ، والتيس .

[ ص: 173 ] واعلم أن التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراء الحرم المكي ، وأن الصوم لا يختص به مكان دون مكان ، مع اختلاف في الطعام ، كما تقدم إيضاحه في سورة " المائدة " .

وأظهر قولي أهل العلم أنه يلزمه ذبح الهدي في الحرم ، وتفريقه في الحرم أيضا ، خلافا لمن زعم جواز الذبح في الحل ، إن كان تفريق اللحم في الحرم ، والتحقيق أن البدن يسن تقليدها ، وإشعارها فيقلدها نعلين . ومعنى إشعارها : هو جرحها في صفحة سنامها ، ويسلت الدم عنها . والجمهور على أن الإشعار في صفحة السنام اليمنى ، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس خلافا لمالك القائل : إنه في الصفحة اليسرى .

واعلم أن التحقيق أن الإشعار المذكور سنة لثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - خلافا لأبي حنيفة القائل : بالنهي عنه ، معللا : بأنه مثلة وهي منهي عنها . وروي مثله عن النخعي ; لأن الأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي عن المثلة ، ولأنه لا يسلم أنه مثلة ، فهو جرح لمصلحة : كالفصد والختان ، والحجامة ، والكي ، والوسم .

واعلم أن الهدي من الغنم يسن تقليده عند عامة أهل العلم ، وخالف مالك وأصحابه الجمهور ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : " أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما فقلدها " وقال بعض أهل العلم : لا تقلد بالنعال لضعفها ، وإنما تقلد بنحو عرى القرب ، ولا تشعر الغنم إجماعا ، والظاهر أن مالكا لم يبلغه حديث تقليد الغنم ، ولو بلغه لعمل به ; لأنه صحيح متفق عليه ، وإشعار البقر إن كان له سنام لا نص فيه ، وقاسه جماعة من أهل العلم على إشعار الإبل . والمقصود من الإشعار والتقليد وتلطيخ الهدي بالدم ، هو أن يعلم كل من رآه أنه هدي ; لأنه قد يختلط بغيره ، فإذا أشعر وقلد تميز عن غيره ، وربما شرد فيعرف أنه هدي فيرد ، وهذه العلة موجودة في البقر ، فمقتضى القياس : إشعاره إن كان له سنام .

وقال بعض أهل العلم : الحكمة في تقليده النعلين أن المنتعل عندهم كالراكب لكون النعل تقي صاحبها الأذى من الحر والبرد والشوك ، والقذر ونحو ذلك فكأن المهدي خرج لله عن مركوبه الحيواني ، وغير الحيواني ، وظاهر صنيع البخاري أنهم قلدوا البقر في حجة الوداع ; حيث قال : باب فتل القلائد للبدن والبقر ، ثم ساق حديث حفصة المتقدم ، وفيه قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي " . الحديث ، وحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة ، فأفتل قلائد هديه " . . . الحديث ، فترى البخاري قال في الترجمة هذه : باب فتل القلائد للبدن والبقر .

[ ص: 174 ] وقال ابن حجر . وترجمة البخاري صحيحة ; لأنه إن كان المراد بالذي في الحديث : الإبل والبقر معا فلا كلام ، وإن كان المراد الإبل خاصة فالبقر في معناها . انتهى محل الغرض منه وهو كما قال .

والأظهر أن الصواب إن شاء الله أن البقر والإبل والغنم كلها تقلد إن كانت هديا ، وأن الغنم لا تشعر قولا واحدا ، وأن السنة الصحيحة ثابتة بإشعار الإبل ، ومقتضى القياس أن البقر كذلك إن كان له سنام . والله تعالى أعلم .

واعلم أن التحقيق أن من أهدى إلى الحرم هديا وهو مقيم في بلده ليس بحاج ولا معتمر ، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي كما هو ثابت في الصحيح . وعن عائشة - رضي الله عنها - ثبوتا لا مطعن فيه ، فلا ينبغي أن يعول على ما خالفه ، والعلم عند الله تعالى ، ولذا ثبت في صحيح البخاري أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة - رضي الله عنها - أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج ، حتى ينحر هديه ، قالت : عمرة . فقالت عائشة - رضي الله عنها - : ليس كما قال ابن عباس : فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله حتى نحر الهدي . وحديث عائشة المذكور عند البخاري أخرجه مسلم بألفاظ كثيرة معناها واحد ، إلا أن فيه أن الذي سأل عائشة ابن زياد .

والصواب : ما في البخاري من أن الذي كتب إليها يسألها هو زياد بن أبي سفيان المعروف بزياد ابن أبيه ، كما نبه عليه غير واحد ، فما في مسلم من كونه ابن زياد وهم من بعض الرواة ، وقد قدمنا مرارا أن السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه يجب تقديمها على قول كل عالم ، ولو بلغ ما بلغ من العلم والدين ، وبه تعلم أن التحقيق أن من بعث بهدي ، وأقام في بلده لا يحرم عليه شيء بإرسال هديه ، وأن ما خالف ذلك لا يلتفت إليه ، وإن زعم جماعة أنه مروي عن عمر وابنه ، وعلي ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ; لأن السنة الصحيحة مقدمة على أقوال كل العلماء وكذلك ما قاله سعيد بن المسيب : من أنه لا يجتنب إلا الجماع ليلة جمع : وهي ليلة النحر ، لا يلتفت إليه ; للحديث الصحيح المتفق عليه المذكور آنفا ، والحديث الذي رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه ، الدال على أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج ضعيف ، كما ذكره الحافظ في " الفتح " ، فلا يعارض به الحديث المتفق [ ص: 175 ] عليه . وذكر ابن حجر في " الفتح " ، عن الزهري : ما يدل على أن الأمر استقر على حديث عائشة لما بينت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجع الناس عن فتوى ابن عباس ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن التحقيق الذي عليه جمهور أهل العلم أن من أراد النسك لا يصير محرما بمجرد تقليد الهدي ، ولا يجب عليه بذلك شيء ، خلافا لما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق من أنه يصير محرما بمجرد تقليد الهدي ، وخلافا لأصحاب الرأي في قولهم : إن من ساق الهدي ، وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام ; لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه .

وقد دلت النصوص : على أنه لا يجب إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

الظاهر أن التحقيق أنه لا يشترط في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم ، فلو اشتراه من منى ونحره بها من غير أن يخرجه إلى الحل أجزأه . قال النووي في " شرح المهذب " : وهو مذهبنا ، وبه قال ابن عباس ، وأبو حنيفة وأبو ثور ، والجمهور . وقال ابن عمر وسعيد بن جبير : لا هدي إلا ما أحضر عرفات . وقال ابن قدامة في " المغني " : وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم ، ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك . وروي هذا عن ابن عباس ، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ، ونحوه عن سعيد بن جبير ، انتهى محل الغرض منه .

ومعلوم أن مذهب مالك : أنه لا يذبح هدي التمتع والقران بمنى ، إلا إذا وقف به بعرفة ، وإن لم يقف به بعرفة ذبحه في مكة ، ولا بد عنده في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم ، فإن اشتراه في الحرم لزمه إخراجه إلى الحل والرجوع به إلى الحرم وذبحه فيه ، وإنما قلنا : إن الظاهر لنا في هذه المسألة عدم اشتراط جمع الهدي ، بين الحل والحرم ; لثلاثة أمور .

الأول : أنه لم يرد نص بذلك يجب الرجوع إليه .

الثاني أن المقصود من الهدي نفع فقراء الحرم ، ولا فائدة لهم في جمعه بين الحل والحرم .

[ ص: 176 ] الثالث : أنه قول أكثر أهل العلم . وقال جماعة من أهل العلم : يستحب أن يكون الهدي معه من بلده ، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من شرائه من مكة ، ثم من مكة ، ثم من عرفات ، فإن لم يسقه أصلا بل اشتراه من منى جاز ، وحصل الهدي اهـ .

وهذا هو الظاهر ، واحتج من قال : بأنه لا بد أن يجمع بين الحل والحرم ، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهد هديا إلا جامعا بين الحل والحرم ; لأنه يساق من الحل إلى الحرم ، وأن ذلك هو ظاهر قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن ابن عمر اشترى هديه من الطريق ، ونحو ذلك من الأدلة ، ولا شك أن سوق الهدي من الحل إلى الحرم أفضل ، ولا يقل عن درجة الاستحباب ، كما ذكرنا عن بعض أهل العلم . أما كونه لا يجزئ بدون ذلك ، فإنه يحتاج إلى دليل خاص ، ولا دليل يجب الرجوع إليه يقتضي ذلك ; لأن الذي دل عليه الشرع أن المقصود التقرب إلى الله بما رزقهم من بهيمة الأنعام في مكان معين في زمن معين ، والغرض المقصود شرعا حاصل ، ولو لم يجمع الهدي بين حل وحرم ، وجمع هديه - صلى الله عليه وسلم - بين الحل والحرم محتمل للأمر الجبلي ، فلا يتمحض لقصد التشريع ; لأن تحصيل الهدي أسهل عليه من بلده ، ولأن الإبل التي قدم بها علي من اليمن تيسر له وجودها هناك ، والله جل وعلا أعلم . فحصول الهدي في الحل يشبه الوصف الطردي ; لأنه لم يتضمن مصلحة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

ولا خلاف بين أهل العلم في أن المهدي إن اضطر لركوب البدنة المهداة في الطريق ، أن له أن يركبها لما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة فقال : " اركبها " . قال : يا رسول الله ، إنها بدنة ، فقال : " اركبها ويلك " في الثانية أو في الثالثة " هذا لفظ مسلم . ولفظ البخاري ، فقال : " اركبها " فقال : إنها بدنة فقال : " اركبها " ، قال : إنها بدنة فقال : " اركبها ، ويلك " في الثانية أو في الثالثة " وروى مسلم نحوه عن أنس ، وجابر - رضي الله عنهما - .

واعلم أن أهل العلم اختلفوا في ركوب الهدي ، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للضرورة دون غيرها ، وهو مذهب الشافعي ، قال النووي : وبه قال ابن المنذر ، وهو رواية عن مالك ، وقال عروة بن الزبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : له ركوبه من غير حاجة ، بحيث لا يضره . وبه قال أهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة : لا يركبه إلا إن لم يجد منه بدا ، وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر ولمخالفة ما كانت [ ص: 177 ] الجاهلية عليه من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال دليلا عندي في ركوب الهدي واجبا أو غير واجب : هو أنه إن دعته ضرورة لذلك جاز وإلا فلا ; لأن أخص النصوص الواردة في ذلك بمحل النزاع وأصرحها فيه ما رواه مسلم في صحيحه : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج : أخبرني أبو الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله ، سئل عن ركوب الهدي ؟ فقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " . وفي رواية عنه في صحيح مسلم : " اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرا " اهـ . فهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف ، إذا ألجأت إليه الضرورة ، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي ترك ركوب الهدي ، فهذا القيد الذي في هذا الحديث تقيد به جميع الروايات الخالية عن القيد ; لوجوب حمل المطلق على المقيد ، عند جماهير أهل العلم . ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا .

أما حجة من قال : بوجوب ركوب الهدي ، فهي ظاهرة السقوط ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يركب هديه كما هو معلوم . وأما حجة من أجاز الركوب مطلقا ، فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويلك اركبها " ، وقوله تعالى : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى [ 22 \ 33 ] ، على أحد التفسيرين ، ولا تنهض به الحجة فيما يظهر ; لأنه محمول على كونه تدعوه الضرورة إلى ذلك ، بدليل حديث جابر عند مسلم الذي ذكرناه آنفا فهو أخص نص في محل النزاع ، فلا ينبغي العدول عنه ، والعلم عند الله تعالى ، والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها ، عن ولدها لا بأس به ; لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها . وقال بعض أهل العلم : إن ركبها الركوب المباح للضرورة ونقصها ذلك فعليه قيمة النقص يتصدق بها . وله وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .

وإنما قلنا : إن الظاهر أنه لا فرق في الحكم المذكور بين الهدي الواجب وغيره ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البدنة " اركبها " ، وهي مقلدة نعلا ، وقد صرح له تصريحا مكررا بأنها بدنة ، ولم يستفصله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم إيضاحه مرارا . وقد أشار إليه في [ ص: 178 ] " مراقي السعود " بقوله :


ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال

مسألة : في حكم الهدي إذا عطب في الطريق أو بعد بلوغ محله

اعلم أولا أن الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق ، قبل بلوغ محله : أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه ، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها ; ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس ، ولا يأكل منها هو ، ولا أحد من أهل رفقته المرافقين له في سفره .

وإنما قلنا : إن هذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه ; لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح ، فقد روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما لفظه : " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست عشرة بدنة مع رجل وامرأة فيها ، قال : فمضى ثم رجع ، فقال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما أبدع علي منها ؟ قال : " انحرها ، ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " ، انتهى من صحيح مسلم .

وفي رواية في صحيح مسلم ، عن ابن عباس : " أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : " إن عطب شيء منها فخشيت عليه موتا فانحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب بها صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " ، انتهى منه . وقوله : كيف أصنع بما أبدع منها ؟ : هو بضم الهمزة ، وإسكان الباء ، وكسر الدال بصيغة المبني للمفعول : أي كل وأعيا حتى وقف من الإعياء ، فهذا النص الصحيح .

لا يلتفت معه إلى قول من قال : إن رفقته لهم الأكل مع جملة المساكين ; لأنه مخالف للنص الصحيح ، ولا قول لأحد مع السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، كما أوضحناه مرارا . والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته : هو سد الذريعة لئلا يتوصل هو أو بعض رفقته إلى نحره ، بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه ; لأنه صار للفقراء ، وهم يعدون أنفسهم من الفقراء ، ولو لم يبلغ محله . والظاهر : أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء ، بل للفقراء والله أعلم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 02:01 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (365)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 179 إلى صـ 186





فإن قيل : روى أصحاب السنن عن ناجية الأسلمي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معه [ ص: 179 ] بهدي فقال : " إن عطب فانحره ، ثم اصبغ نعله في دمه ، ثم خل بينه وبين الناس " اهـ . وظاهر قوله : " وبين الناس " ، يشمل بعمومه سائق الهدي ورفقته .

فالجواب أن حديث مسلم أصح وأخص ، والخاص يقضي على العام ; لأن حديث مسلم أخرج السائق ورفقته من عموم حديث أصحاب السنن . ومعلوم أن الخاص يقضي على العام .

واعلم أن للعلماء تفاصيل في حكم ما عطب من الهدي ، قبل نحره بمحل النحر ، سنذكر أرجحها عندنا إن شاء الله من غير استقصاء للأقوال والحجج ; لأن مسائل الحج أطلنا عليها الكلام طولا يقتضي الاختصار في بعضها خوف الإطالة المملة .

اعلم أولا أن الهدي إما واجب ، وإما تطوع ، والواجب إما بالنذر ، أو بغيره ، والواجب بالنذر ، إما معين ، أو غير معين ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقران ، والدماء الواجبة بترك واجب ، أو فعل محظور ، والواجب بالنذر في ذمته ، كأن يقول : علي لله نذر أن أهدي هديا ، أن لجميع ذلك حالتين .

الأولى : أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه ، من غير أن يعينه بالقول ، كأن يقول : هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي .

والحالة الثانية : هي أن يسوقه ينوي به الهدي المذكور مع تعيينه بالقول ، فإن نواه ، ولم يعينه بالقول ; فالظاهر : أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه ، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع ; لأنه لم يزل في ملكه ، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب ; لأنه عطب في ضمانه ، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه بقصد دفعه إليه ، فتلف قبل أن يوصله إليه : فعليه قضاء الدين بغير التالف ; لأنه تلف في ذمته وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله ، فعليه بدله سليما ويفعل بالذي تعيب ما شاء ; لأنه لم يزل في ملكه ، وضمانه . والذي يظهر أن له التصرف فيه ، ولو لم يعطب ، ولم يتعيب ; لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه ، والهدي المذكور لازم له في ذمته ، حتى يوصله إلى مستحقه . والظاهر أن له نماءه .

وأما الحالة الثانية : وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول : هذا هو الهدي [ ص: 180 ] الواجب علي . والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك . فالظاهر : أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة ، فليس له التصرف فيه ما دام سليما ، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه ، وعاد الوجوب إلى ذمته . فيجب عليه هدي آخر ; لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو فعل به ما شاء ; لأن الهدي لازم في التقليد والإشعار . والظاهر : أنه إن عطب ذمته ، وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم ; لأن حقهم باق في الذمة ، فله بيعه وأكله ، وكل ما شاء . وعلى هذا جمهور أهل العلم . وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء ، ولا يبيع منه شيئا ، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق : فلا شيء عليه عند أحمد .

قال في " المغني " : وبهذا قال الثوري ، وابن القاسم صاحب مالك ، وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : عليه الإعادة ; لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه ، فأشبه ما لو لم يذبحه . ولنا أنه أدى الواجب عليه ، فبرئ منه كما لو فرقه . ودليل أنه أدى الواجب : أنه لم يبق إلا التفرقة ، وليست واجبة ، بدليل أنه لو خلى بينه ، وبين الفقراء أجزأه . ولذلك لما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنات قال : " من شاء اقتطع " . انتهى محل الغرض من " المغني " .

وأظهر القولين عندي : أنه لا تبرأ ذمته بذبحه : حتى يوصله إلى المستحقين ; لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به ، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيا ، ولأن الله تعالى يقول : وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، ويقول : وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ، والآيتان تدلان على لزوم التفرقة والتخلية بينه وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية ; لأن الإذن لهم في ذلك ، وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل ، والعلم عند الله تعالى . وقول من قال : إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره ، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور ، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد . وحجة من قال بذلك : أنه لما عينه متقربا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك ، ولو لم يجزئه .

وأما الواجب المعين بالنذر ، كأن يقول : نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين ، فالظاهر أنه يتعين بالنذر ، ولا يكون في ذمته ، فإن عطب أو سرق : لم يلزمه بدله ; لأن حق الفقراء إذا تعلق بعينه ، لا بذمة المهدي . والظاهر : أنه ليس له الأكل منه ، سواء عطب في الطريق أو بلغ محله .

وحاصل ما ذكرنا : راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقا بذمته سليما فالظاهر أن له الأكل منه ، والتصرف فيه ; لأنه يلزمه بدله سليما ، وقيل : يلزم الذي عطب [ ص: 181 ] والسليم معا لفقراء الحرم ، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي كالنذر المعين للمساكين ، ليس له تصرف فيه ، ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره ، إن بلغ محله على الأظهر .

واعلم أن مالكا وأصحابه يقولون : إن كل هدي جاز الأكل منه للمهدي له ، أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء ، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه ، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم ، وكره عندهم إطعام الذميين منه . وستأتي تفاصيل ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز إن شاء الله تعالى في الكلام على آية : فكلوا منها الآية [ 22 \ 28 ] .

وأما هدي التطوع : فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه ، وخلي بينه وبين الناس ، وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته ، كما تقدم إيضاحه ، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه . وهو ظاهر مذهب أحمد ، وليس عليه بدله ; لأنه معين لم يتعلق بذمته . وأما مذهب الشافعي ، وأصحابه : فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه ، فله ذبحه ، وأكله ، وبيعه وسائر التصرفات فيه ولو قلده ; لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه ، حتى يذبحه بمحله ، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما شاء من بيع وأكل وإطعام ; لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك . وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله : فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء ، وإنما يأكله الفقراء . ووجه قول من قال : إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق ، لا يجوز لمهديه أن يأكل منه : هو أن الإذن له في الأكل ، جاء النص به بعد بلوغه محله ، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله ، ووجه خصوص الفقراء به ; لأنه حينئذ يصير صدقة ; لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله . هكذا قالوا : والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

الأظهر عندي أنه إذا عين هديا بالقول ، أو التقليد ، والإشعار ثم ضل ثم نحر هديا آخر مكانه ، ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالا أن عليه أن ينحره أيضا ; لأنه صار هديا للفقراء . فلا ينبغي أن يرده لملكه ، مع وجوده ، وكذلك إن عين بدلا منه ، ثم وجد الضال ، فإنه ينحرهما معا .

[ ص: 182 ] قال ابن قدامة في " المغني " : وروي ذلك عن عمر وابنه ، وابن عباس ، وفعلته عائشة - رضي الله عنهم - . وبه قال مالك ، والشافعي ، وإسحاق ، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي ، فأبدله فإن له أن يصنع ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما ; لأنه قد ذبح ما في الذمة ، فلم يلزمه شيء آخر ، كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي .

ووجه الأول : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها أهدت هديين ، فأضلتهما ، فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ، ثم عاد الضالان فنحرتهما ، وقالت : هذه سنة الهدي ، رواه الدارقطني . وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما ، أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر . انتهى محل الغرض من " المغني " . وليس في المسألة شيء مرفوع . والأحوط : ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن الهدي إن كان معينا بالنذر من الأصل ، بأن قال : نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معينا تطوعا ، إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن أنه سيموت ، فإنه تلزمه ذكاته ، وإن فرط فيها حتى مات كان عليه ضمانه ; لأنه كالوديعة عنده .

أما لو مات بغير تفريطه ، أو ضل أو سرق ، فليس عليه بدل عنه كما أوضحناه ; لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي .

والأظهر عندي : إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديا مثله ، وينحره بالحرم بدلا عن الذي فرط فيه ، وإن قيل : بأنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم ، فله وجه من النظر . والله أعلم .

ولا نص في ذلك ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الهدي ، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز من الهدايا .
تنبيه

قد قدمنا في سورة " البقرة " أن القرآن دل في موضعين على أن نحر الهدي قبل الحلق ، والتقصير يوم النحر ، وبينا أنه لو قدم الحلق على النحر لا شيء عليه ، وأوضحنا ذلك في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي .

والحاصل أن الحاج مفردا كان أو قارنا أو متمتعا إن رمى جمرة العقبة ونحر ما معه من الهدي : فعليه الحلق أو التقصير ، وقد قدمنا أن التحقيق أن الحلق نسك وأنه [ ص: 183 ] أفضل من التقصير ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " رحم الله المحلقين " ، قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ؟ قال : " رحم الله المحلقين " ، قالوا : والمقصرين ؟ فقال : " والمقصرين " في الرابعة ، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه . فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مرارا : على أن الحلق نسك ; لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالرحمة ، ودل تأخير الدعاء للمقصرين إلى الثالثة أو الرابعة أن التقصير مفضول ، وأن الحلق أفضل منه ، والتقصير مع كونه مفضولا : يجزئ بدلالة الكتاب ، والسنة والإجماع ; لأن الله تعالى يقول : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين [ 48 \ 27 ] ، وقد روى الشيخان ، وغيرهما : التقصير عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - .

فمن ذلك حديث جابر : أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت ، وبين الصفا والمروة ، وقصروا " . وفي الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال : " حلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم " ، وقد قدمنا حديث معاوية الثابت في الصحيحين ، قال : قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص على المروة وحديث : " رحم الله المحلقين " ، ثم قال بعد ذلك : " والمقصرين " إلى غير ذلك من الأحاديث .

وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ ، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير ، فقال الشافعي وأصحابه : يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعدا أو تقصيرها ; لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير ; لأن الثلاث جمع .

وقال أبو حنيفة : يكفي حلق ربع الرأس ، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة .

وقال مالك ، وأحمد وأصحابهما : يجب حلق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة ، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس ، وبعضهم يقول : يكفيه قدر الأنملة ، والمالكية يقولون : يقصره إلى القرب من أصول الشعر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنه يلزم حلق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير ; لأن فيه مشقة كبيرة ، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة ، وأنه لا يكفي الربع ، ولا ثلاث شعرات خلافا للحنفية والشافعية ; لأن الله تعالى يقول : محلقين رءوسكم ، ولم يقل : [ ص: 184 ] بعض رءوسكم ومقصرين أي : رءوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه ، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره ، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس ، لم يدع ما يريبه ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق في حجة الوداع ، حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس . وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله : محلقين رءوسكم الآية ، وقوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله .

وقد قدمنا أن فعله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كان بيانا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص واجب . ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول .
تنبيه آخر

اعلم أن محل كون الحلق أفضل من التقصير ، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة . أما النساء : فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير .

والصواب عندنا : وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة ; لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص ، ولأن شعر المرأة من جمالها ، وحلقه مثلة وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء لا حلق عليهن ، وإنما عليهن التقصير .

قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن الحسن العتكي ، ثنا محمد بن بكر ، ثنا ابن جريج ، قال : بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير " .

حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة ، ثنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير " انتهى منه .

وقال النووي في " شرح المهذب " ، في حديث ابن عباس هذا : رواه أبو داود بإسناد [ ص: 185 ] حسن . وقال صاحب " نصب الراية " في حديث ابن عباس المذكور : قال ابن القطان في كتابه : هذا ضعيف ومنقطع .

أما الأول : فانقطاعه من جهة ابن جريج ، قال : بلغني عن صفية ، فلم يعلم من حدثه به .

وأما الثاني : فقول أبي داود : حدثنا رجل ثقة ، يكنى أبا يعقوب ، وهذا غير كاف . وإن قيل : إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل ، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه . وأما ضعفه : فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها . انتهى محل الغرض من " نصب الراية " للزيلعي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : حديث ابن عباس المذكور : في أن على النساء التقصير لا الحلق ، أقل درجاته الحسن . فقول النووي : إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان في كتابه ، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع ، فقول ابن القطان : وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جدا ; لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات ، وقد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى . وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية ، أم بني شيبة الأكابر ، كانت من المبايعات . روت عنها صفية بنت شيبة ، وروى عبد الله بن مسافع عن أمه عنها . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الإصابة " : أم عثمان بنت سفيان ، والدة بني شيبة الأكابر ، وكانت من المبايعات . قاله أبو عمر إلى آخر كلامه ، وقد أورد فيه حديثا روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في السعي بين الصفا والمروة ، وقد قدمناه .

وقال ابن حجر في " الإصابة " ، عن أبي نعيم : حديثا أخرجه ، وفيه أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر ، وقد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

وقال ابن حجر في " تهذيب التهذيب " : أم عثمان بنت سفيان . ويقال : بنت أبي سفيان : هي أم ولد شيبة بن عثمان . روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس . وروت عنها صفية بنت شيبة اهـ .

ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم ، كما أوضحناه في غير [ ص: 186 ] هذا الموضع ، فتبين أن قول ابن القطان : إن الحديث ضعيف ; لأنها لم يعلم حالها قصور منه - رحمه الله - كما ترى . وأما قوله : إن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف ، وأن أبا يعقوب المذكور ، إن قيل : إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه .

فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل ، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : حافظ شهير . قال : ووثقه يحيى بن معين ، والدارقطني : وقال صالح جزرة صدوق ، إلا أنه كان يقف في القرآن ، ولا يقول : غير مخلوق ، بل يقول : كلام الله . وقال فيه أيضا : قال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع واتهم بالوقف . وقال فيه ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ، قال ابن معين : ثقة . وقال أيضا : من ثقات المسلمين ، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس ، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه . وقال أيضا : ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس ، والقواريري ثقة صدوق ، وليس هو مثل إسحاق ، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه ، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين ، ثم قال : وقال الدارقطني : ثقة . وقال البغوي : كان ثقة مأمونا ، إلا أنه كان قليل العقل ، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول : القرآن كلام الله ، ويسكت عندها ولا يقول : غير مخلوق ، ومن هنا جعلوه واقفيا ، وتكلموا في حديثه ، كما قال فيه صالح جزرة : صدوق في الحديث إلا أنه يقول : القرآن كلام الله ويقف .

وقال الساجي : تركوه لموضع الوقف ، وكان صدوقا . وقال أحمد : إسحاق بن أبي إسرائيل واقفي مشئوم ، إلا أنه كان صاحب حديث كيسا .

وقال السراج : سمعته يقول : هؤلاء الصبيان يقولون : كلام الله غير مخلوق ، ألا قالوا كلام الله وسكتوا . وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سألت يحيى بن معين فقال : ثقة . قال عثمان : لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستورا ، وقال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا ، ولم يكن مثله في الحفظ والورع ، وكان لقي المشايخ فقيل : كان يتهم بالوقف قال : نعم اتهم وليس بمتهم . وقال مصعب الزبيري : ناظرته فقال : لم أقل على الشك ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 02:05 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (366)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 187 إلى صـ 194





والحاصل : أنهم متفقون على ثقته ، وأمانته بالنسبة إلى الحديث ، إلا أنهم كانوا [ ص: 187 ] يتهمونه بالوقف ، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة ، وقول من ناظره أنه قال له : لم أقل على الشك . ولكني سكت كما سكت القوم قبلي ، ومعنى كلامه : أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك ، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي : إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف ، قال بعده ما نصه : قلت : قل من ترك الأخذ عنه اهـ ، وهو تصريح منه

بأن الأكثرين على قبوله ، فحديثه لا يقل عن درجة الحسن ، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها ، وقول ابن جريج فيها : " بلغني عن صفية بنت شيبة " تفسره الرواية الثانية التي بين فيها ابن جريج أن من بلغه عن صفية المذكورة : هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، وهو ثقة معروف .

فإن قيل : ابن جريج روى عنه بالعنعنة ، وهو مدلس ، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه ، بما يدل على السماع .

والجواب : أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد هو الاحتجاج بالمرسل ، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين .

وقد قدمنا موضحا مرارا في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها .

قال الزيلعي في " نصب الراية " : بعد ذكره كلام ابن القطان في تضعيف حديث ابن عباس المذكور في تقصير النساء ، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه : وأخرجه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه ، عن أبي بكر بن عياش ، عن يعقوب بن عطاء ، عن صفية بنت شيبة به ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، والبزار في مسنده ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن صفية به . وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس ، إلا من هذا الوجه انتهى ، وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال في المحرمة : تأخذ من شعرها قدر السبابة . انتهى ، وليث هذا الظاهر أنه ابن أبي سليم ، وهو ضعيف . انتهى من " نصب الراية " .

فتبين من جميع ما ذكر أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير ، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن ، كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن ، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل [ ص: 188 ] الزيلعي ، عند الطبراني ، والدارقطني ، والبزار ويعتضد عدم حلق النساء رءوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا .

الأول : الإجماع على عدم حلقهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج .

الثاني : أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق .

الثالث : أنه ليس من عملنا ، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .

الرابع : أنه تشبه بالرجال ، وهو حرام .

الخامس : أنه مثلة والمثلة لا تجوز .

أما الإجماع ، فقد قال النووي في " شرح المهذب " ، قال ابن المنذر : أجمعوا على ألا حلق على النساء ، وإنما عليهن التقصير ، ويكره لهن الحلق ; لأنه بدعة في حقهن ، وفيه مثلة .

واختلفوا في قدر ما تقصره ، فقال ابن عمر ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : تقصر من كل قرن مثل الأنملة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وقالت حفصة بنت سيرين : إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع ، وإن كانت شابة فلتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ، ولا يجوز من بعض القرون . انتهى محل الغرض منه ، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء : لا حلق عليهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج ; لأن الحلق نسك على التحقيق ، كما تقدم إيضاحه .

وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي ، في " نصب الراية " ; لأنه جمعها فيه في محل واحد قال : فنهي النساء عن الحلق فيه أحاديث .

منها : ما رواه الترمذي في الحج ، والنسائي في الزينة ، قالا : حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن همام ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن تحلق المرأة رأسها " ، انتهى . ثم رواه الترمذي ، عن محمد بن بشار ، عن أبي داود الطيالسي به ، عن خلاس عن النبي مرسلا ، وقال : هذا حديث فيه اضطراب ، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا انتهى ، وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث يرويه همام عن يحيى ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي ، وخالفه هشام الدستوائي ، وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة ، عن النبي مرسلا .

[ ص: 189 ] حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي : ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها " ، انتهى . قال البزار : ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد أحاديث ، لم يتابع عليها ، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث . انتهى ، ورواه ابن عدي في الكامل ، وقال : أرجو أنه لا بأس به ، قال عبد الحق : وضعفه أبو حاتم وقال : إنه متروك الحديث انتهى . وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء " : يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به ، إذا تفرد حديث آخر ، رواه البزار في مسنده أيضا .

حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي ، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة ، ثنا أبي ، عن وهب بن عمير قال : سمعت عثمان يقول : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها " انتهى . قال البزار : ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث ، ولا نعلم روى عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة ، وروح ليس بالقوي . انتهى كلام الزيلعي في " نصب الراية " .

وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها ، عن علي ، وعثمان ، وعائشة : يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله ، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة ، فمن بعدهم ، فهو أمر معروف ، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر ، فالقائل : بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف ، وفي الحديث الصحيح : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك ، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك ، فغيره من الأحوال أولى ، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال ، فهو واضح ، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال ; لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة . وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وأما كون حلق رأس المرأة مثلة ، فواضح ; لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها ، كما يدركه الحس السليم ، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم ، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام ، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيها بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته : [ ص: 190 ]
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلى
تضل المداري في مثنى ومرسل
فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها ، وهو كذلك . وقال الأعشى ميمون بن قيس :
غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
فقوله : فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن .

وقال عمر بن أبي ربيعة :
تقول يا أمتا كفي جوانبه ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
مثل الأساود قد أعيا مواشطه تضل فيه مداريها وتنكسر
فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم ، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ، ونظيره قول الآخر :


وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليث قنوان الكروم الدوالح


لأن قوله : يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته ، وقد بالغ من قال : بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وجف أسحم فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر ، وقصدنا مطلق التمثيل ، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها ، وتشويه لها ، فهو مثلة وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد ، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة أفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام ، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق ، والسمت وغير ذلك .

فإن قيل : جاء عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها ، وتقصيرها إياه ، فما دل على الحلق ، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس ، من حديث وهب بن جرير : ثنا أبي ، سمعت أبا فزارة ، يحدث عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها وماتت بسرف ، فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها ، فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت [ ص: 191 ] ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجما " . انتهى بواسطة نقل صاحب " نصب الراية " . فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها ، ولو كان حراما ما فعلته ، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه .

وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري قال : حدثنا أبي قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بكر بن حفص ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع ، فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة فدعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت ، وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثا . قال : وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة . اهـ من " صحيح مسلم " .

فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجما ، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض ، لتتمكن آلة الحجم من الرأس ، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها ، وقد قال تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .

وأما الجواب : عن حديث مسلم فعلى القول : بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر ، فلا إشكال ; لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود . قال النووي في " شرح مسلم " : والوفرة أشبع ، وأكثر من اللمة . واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر . قاله : الأصمعي . انتهى محل الغرض من النووي .

وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة : من أنها لا تجاوز الأذنين . قال في القاموس : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة انتهى منه .

وقال الجوهري في صحاحه : والوفرة : الشعر إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ثم اللمة : وهي التي ألمت بالمنكبين . وقال ابن منظور في " اللسان " : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، وقيل : ما سال على الأذنين من الشعر . والجمع وفار . قال كثير عزة : كأن وفار القوم تحت رحالها إذا حسرت عنها العمائم عنصل وقيل : الوفرة أعظم من الجمة . قال ابن سيده : وهذا غلط إنما هي وفرة ، ثم جمة ، ثم لمة ، والوفرة : ما جاوز شحمة الأذنين ، واللمة : ما ألم بالمنكبين . التهذيب ، والوفرة : [ ص: 192 ] الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين ، وقيل : الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة ، إلى أن قال : والوفرة شعر الرأس ، إذا وصل شحمة الأذن . انتهى من " اللسان " .

فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رءوسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنهن كن يتجملن له في حياته ، ومن أجمل زينتهن شعرهن . أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض ، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج ، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع ، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه - صلى الله عليه وسلم - إلى الموت . قال تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ 33 \ 53 ] ، واليأس من الرجال بالكلية ، قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة ، لا تحل لغير ذلك السبب . وقال النووي في " شرح مسلم " ، في الكلام على هذا الحديث : قال عياض - رحمه الله تعالى - : والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون ، والذوائب ، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين ، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رءوسهن ، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه ، بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، لا في حياته . كذا قاله أيضا غيره ، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء . انتهى كلام النووي . وقوله : وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء ، فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا يقاس عليهن غيرهن ; لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن ، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب ، وربما تزوجت ; لأن كل ساقطة لها لاقطة . وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل : أبى القلب إلا أم عمرو وحبها عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده ورقعته ما شئت في العين واليد وقال الآخر : ولو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديدا أوائله

والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .

الضمير في قوله : ( منها ) . راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى : [ ص: 193 ] ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها ، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضا في قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إلى قوله : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر الآية [ 22 \ 36 ] ، ففي الآية الأولى : الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن ، وبغيرها ، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام ، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه ، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة . وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل ، وإطعام البائس الفقير ، وفي الآية الخاصة بالبدن : أمر بالأكل ، وإطعام القانع والمعتر .

وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان .

الأول : حكم الأكل المأمور به في الآيتين ، هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر ، أو الندب والاستحباب ؟

المبحث الثاني : فيما يجوز الأكل منه لصاحبه ، وما لا يجوز له الأكل منه ، ومذاهب أهل العلم في ذلك .

أما المبحث الأول : فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين : للاستحباب ، والندب ، لا للوجوب ، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر : هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك .

وعليه فالمعنى : فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون ، وقال ابن كثير في تفسيره : إن القول بوجوب الأكل غريب ، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال : وهو اختيار ابن جرير في تفسيره ، وقال القرطبي في تفسيره : فكلوا منها : أمر معناه : الندب عند الجمهور ، ويستحب للرجل ، أن يأكل من هديه وأضحيته ، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل ، وأكل الكل وشذت طائفة ، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " ، قال الكيا في قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا ، يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ، ولا التصدق بجميعه . انتهى كلام القرطبي .

[ ص: 194 ] ومعلوم أن بيع جميعه لا وجه لحليته ، بل ولا بيع بعضه ، كما هو معلوم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقوى القولين دليلا : وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا ; لأن الله تعالى قال : فكلوا منها في موضعين . وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة افعل : تدل على الوجوب إلا لدليل صارف عن الوجوب ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] .

وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، منها آية " الحج " التي ذكرنا عندها مسائل الحج .

ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة منها ، فأكل منها وشرب من مرقها " . وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها ، وهذا يدل على أن الأمر في قوله : فكلوا منها ليس لمجرد الاستحباب والتخيير ، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها ، وشرب مرقه دون بعض ، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 02:09 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (367)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 195 إلى صـ 202




والحاصل أن المشهور عند الأصوليين أن صيغة افعل : تدل على الوجوب إلا لصارف عنه ، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين ، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام ، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية ، وقد دلت عليها أدلة الوحي ، كما قدمنا إيضاحه . وقال أبو حيان في " البحر المحيط " : والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل : باستحبابهما . وقيل : باستحباب الأكل ، ووجوب الإطعام . والأظهر أنه : لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به ، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء ، وقد قال بعض أهل العلم : يتصدق بالنصف ، ويأكل النصف ، واستدل لذلك بقوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، قال : فجزأها نصفين ، نصف له ونصف للفقراء ، وقال بعضهم : يجعلها ثلاثة أجزاء ، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ، ويهدي الثلث ، واستدل بقوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ، فجزأها ثلاثة أجزاء ، ثلث له ، وثلث للقانع ، وثلث للمعتر . هكذا قالوا وأظهرها الأول ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 195 ] والبائس : هو الذي أصابه البؤس ، وهو الشدة . قال الجوهري في صحاحه : وبئس الرجل يبأس بؤسا وبئيسا : اشتدت حاجته ، فهو بائس وأنشد أبو عمرو :
لبيضاء من أهل المدينة لم تذق بئيسا ولم تتبع حمولة مجحد
وهو اسم وضع موضع المصدر انتهى منه . يعني أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف ، ومعناه المصدر ، والفقير معروف ، والقاعدة عند علماء التفسير أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، وعلى قولهم : فالفقير هنا يشمل المسكين ; لأنه غير مذكور معه هنا ، وذلك هو مرادهم ، بأنهما إذا افترقا اجتمعا ، ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقرا ، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " البلد " ، ومما استدل به القائل : إن الفقير أحوج من المسكين ، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر الآية [ 18 \ 79 ] ، قالوا : فسماهم مساكين ، مع أن عندهم سفينة عاملة للإيجار .

ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير أن الله قال في المسكين : أو مسكينا ذا متربة [ 90 \ 16 ] ، قالوا : ذا متربة : أي لا شيء عنده . حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر ، ليس له مأوى إلا التراب .

قال ابن عباس : هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له . وقال مجاهد : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ، ولا غيره انتهى من القرطبي . وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه ، ومنه قول راعي نمير : أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد فسماه فقيرا مع أن له حلوبة قدر عياله .

وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور ، فأغنانا ذلك عن إعادته هنا ، والعلم عند الله تعالى .

وأما المبحث الثاني : وهو ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم ، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها : فذهب مالك - رحمه الله - ، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، والنذر الذي هو للمساكين ، وقال اللخمي : كل هدي واجب في [ ص: 196 ] الذمة ، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران ، أو تعدي ميقات ، أو ترك النزول بعرفة نهارا ، أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده . أما جزاء الصيد ، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغهما محلهما ، ولا يؤكل منهما بعده . وأما النذر المضمون إذا لم يسمه للمساكين : فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله ، وإن كان منذورا معينا ، ولم يسمه للمساكين ، أو قلده ، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله ، ولم يأكل منه قبله وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد .

والحاصل أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقا ، عند مالك وأن النذر المضمون للمساكين ، حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله ، ويجوز قبله ; لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله . وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله : علي لله نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي ، فله عند المالكية : الأكل منه قبل بلوغ محله ، وبعده ، وقد قدمنا أن هدي التطوع إن عطب في الطريق ، لا يجوز له الأكل منه عند المالكية ، وأوضحنا دليل ذلك . هذا هو حاصل مذهب مالك في الأكل من الهدايا ، ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا . وقد قدمنا قول اللخمي من المالكية أن كل هدي جاز أن يأكل منه : جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير ، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه ، فإنه يطعمه فقيرا ، لا تلزمه نفقته كالكفارة . وكره ابن القاسم من أصحاب مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم . ومذهب أبي حنيفة - رحمه الله - : أنه يأكل من هدي التمتع والقران ، وهدي التطوع إذا بلغ محله ، أما إذا عطب هدي التطوع ، قبل بلوغ محله ، فليس لصاحبه الأكل منه عند أبي حنيفة ، كما تقدم إيضاحه . ولا يأكل من غير ذلك ، هو ولا غيره من الأغنياء ، بل يأكله الفقراء . هذا حاصل مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .

وأما مذهب الشافعي - رحمه الله - : فهو أن الهدي إن كان تطوعا ، فالأكل منه مستحب ، واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] . قالوا : فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه ، وأكله ، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال .

واعلم أنا حيث قلنا في هذا المبحث : يجوز الأكل ، فإنا نعني : الإذن في الأكل الصادق بالاستحباب ، وبالوجوب لما قدمنا من الخلاف ، في وجوب الأكل والإطعام ، [ ص: 197 ] واستحبابهما ، والفرق بينهما بإيجاب الإطعام دون الأكل ، وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب الشافعي ، كهدي التمتع والقران ، والنذر ، وجميع الدماء الواجبة ، قال النووي : وكذا قال الأوزاعي ، وداود الظاهري : لا يجوز الأكل من الواجب . هذا هو حاصل مذهب الشافعي .

وأما مذهب أحمد - رحمه الله - : فهو أنه لا يأكل من هدي واجب ، إلا هدي التمتع والقران ، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع ، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته ، وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه ، هذا هو مشهور مذهب الإمام أحمد . وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور ، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما .

قال في " المغني " : وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق ; لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما .

وقال ابن أبي موسى : لا يأكل أيضا من الكفارة ، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ، ونحوه مذهب مالك ; لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ، ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع . وقال الشافعي : لا يأكل من واجب ; لأنه هدي واجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة . انتهى من " المغني " .

فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة : هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك ، والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله ، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه ، أو وجوبه ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع : " أنه أهدى مائة من الإبل " ، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع ، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا .

وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران ، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح : " أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عنهن - صلى الله عليه وسلم - بقرا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات ، وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره - صلى الله عليه وسلم - " وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران . أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه ، ولا يتحقق دخوله في عموم فكلوا منها لأنه لترك [ ص: 198 ] واجب أو فعل محظور ، فهو بالكفارات أشبه ، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط . والعلم عند الله تعالى .
مسألة في الأضحية

لا يخفى أن كلامنا في الهدي وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي ، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية ، أردنا هنا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار .

اعلم أولا أن الأضحية فيها أربع لغات : أضحية بضم الهمزة ، وإضحية بكسرها ، وجمعهما أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها ، وضحية ، وجمعها ضحايا ، وأضحاة وجمعها : أضحى كأرطاة ، وأرطى .

واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الأضحية . قال بعض أهل العلم : وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع .

أما الكتاب فقوله تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] ، على ما قاله بعض أهل التفسير ، من أن المراد به : ذبح الأضحية بعد صلاة العيد ، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم فصل لربك ، وأن الأضحية داخلة في عموم قوله : وانحر .

وأما الإجماع : فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية . وأما السنة : فقد وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية وسنذكر طرفا منها فيه كفاية إن شاء الله .

قال البخاري في صحيحه : باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين ويذكر سمينين . وقال يحيى بن سعيد : سمعت أبا أمامة بن سهل ، قال : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يسمنون .

حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين " ، وأنا أضحي بكبشين .

حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده " ، وقال إسماعيل وحاتم بن وردان ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أنس تابعه وهيب عن أيوب ، وقال : حدثنا [ ص: 199 ] عمرو بن خالد ، حدثنا الليث ، عن يزيد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ضح به أنت " ، انتهى من صحيح البخاري . وفي لفظ له من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده " . وفي لفظ للبخاري عن أنس أيضا ، قال : " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " . وفي لفظ له عن أنس - رضي الله عنه - أيضا : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويضع رجله على صفاحهما ، ويذبحهما بيده " . انتهى منه .

وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " . وفي لفظ له عن أنس - رضي الله عنه - قال : " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ، قال : ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما قال : وسمى وكبر ، وفي لفظ لمسلم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله ، غير أنه قال : ويقول : " بسم الله ، والله أكبر " . وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب قال : قال حيوة : أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد ، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به ، فقال لها : " يا عائشة ، هلمي المدية ، ثم قال : " اشحذيها بحجر " ، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال : " باسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد " ، ثم ضحى به ، انتهى من صحيح مسلم . والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة ، معروفة .

وقد اختلف أهل العلم في حكمها ، فذهب أكثر أهل العلم : إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر ، ولا تجب عليه . وقال النووي في " شرح المهذب " : وهذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وبلال ، وأبو مسعود البدري ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وعلقمة ، والأسود ، ومالك ، وأحمد ، وأبو يوسف ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والمزني ، وداود بن المنذر ، وقال ربيعة والليث بن سعد ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي : هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى . وقال محمد بن الحسن : هي واجبة على المقيم بالأمصار . والمشهور عن أبي حنيفة : أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا . انتهى كلام النووي .

[ ص: 200 ] وقال النووي في " شرح مسلم " : واختلف العلماء في وجوب الأضحية ، على الموسر ، فقال جمهورهم : هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر ، لم يأثم ، ولم يلزمه القضاء ، وممن قال بهذا : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب إلى آخر كلامه قريبا مما ذكرنا عنه في " شرح المهذب " .

وقال ابن قدامة في " المغني " : أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة ، روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وبلال ، وأبي مسعود البدري - رضي الله عنهم - . وبه قال سويد بن غفلة ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وعطاء ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وقال ربيعة ، ومالك ، والنووي ، والأوزاعي ، والليث ، وأبو حنيفة : هي واجبة ونقل ابن قدامة في " المغني " ، عن مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه ، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي : من أنها سنة ، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى ; لأن ما يذبحه هدي لا أضحية . وقد قدمنا أن آية " الحج " لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

فإذا رأيت أقوال أهل العلم في حكم الأضحية ، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها ، وما يظهر رجحانه بالدليل منها ، على سبيل الاختصار .

أما من قال : إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] .

وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول إن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره يحمل على الوجوب . وأوضحنا أدلة ذلك . وذكرنا أن صاحب " مراقي السعود " ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - :


وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل
وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج ، وغيره من سور القرآن .

ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا الأسود بن قيس : سمعت جندب بن سفيان البجلي قال : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال : " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ، ومن لم يذبح فليذبح " اهـ . قالوا قوله : " فليعد " ، وقوله : " فليذبح " كلاهما صيغة أمر .

وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن الأمر المتجرد عن القرائن ، يدل على [ ص: 201 ] الوجوب ، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة ، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] . وقوله : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة الآية [ 33 \ 36 ] ، فجعل أمره وأمر رسوله مانعا من الاختيار ، موجبا للامتثال ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " ، الحديث إلى آخر ما قدمنا ، وحديث جندب بن سفيان الذي ذكرناه عن البخاري أخرجه أيضا مسلم في صحيحه بلفظ : " من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي ، فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله " ، وصيغة الأمر بالذبح في حديثه واضحة ، كما بينا دلالتها على الوجوب آنفا .

ومن أدلتهم على وجوب الأضحية : ما رواه أبو داود في سننه ، حدثنا مسدد ، ثنا يزيد ، ( ح ) وثنا حميد بن مسعدة ، ثنا بشر ، عن عبد الله بن عون ، عن عامر أبي رملة قال : أخبرنا مخنف بن سليم قال : ونحن وقوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات قال : " يا أيها الناس ، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة ؟ هي : التي يقول عنها الناس : الرجبية " انتهى منه .

وقال النووي في " شرح المهذب " : في هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال الترمذي : حديث حسن . قال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ; لأن أبا رملة مجهول . وهو كما قال الخطابي مجهول . قال فيه ابن حجر في " التقريب " : عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف انتهى منه . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة له عن مخنف بن سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أيها الناس ، إن على كل بيت في الإسلام أضحية ، وعتيرة " . قال عبد الحق : إسناده ضعيف ، وصدقه ابن القطان لجهالة عامر ، رواه عنه ابن عون انتهى منه .

وبه تعلم أن قول ابن حجر في " الفتح " ، في حديث مخنف بن سليم أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي ، خلاف التحقيق كما ترى . وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفا . قال أبو داود : العتيرة : منسوخة هذا خبر منسوخ انتهى منه . ولكنه لم يبين الناسخ ، ولا دليل النسخ . وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به ; لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي [ ص: 202 ] هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " . قال ابن حجر في بلوغ المرام : في هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه ، وصححه الحاكم ورجح الأئمة غيره وقفه ، وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية ، حديث أبي هريرة ، رفعه : " من وجد سعة فلم يضح ، فلا يقربن مصلانا " ، أخرجه ابن ماجه ، وأحمد ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب . قاله الطحاوي وغيره ، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب انتهى منه .

وذكر النووي في شرح المهذب ، من أدلة من أوجبها : ما جاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد " ، ثم قال : رواه البيهقي . وقال : تفرد به محمد بن ربيعة ، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين ، ثم قال : وعن عائذ الله المجاشعي ، عن أبي داود نفيع ، عن زيد بن أرقم أنهم قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذه الأضاحي ؟ قال : " سنة أبيكم إبراهيم " ( صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم ) ، قالوا : ما لنا فيها من الأجر ؟ قال : " بل كل قطرة حسنة " ، رواه ابن ماجه ، والبيهقي . قال البيهقي : قال البخاري : عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه ، وأبو داود هذا ضعيف ، ثم قال النووي : وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نسخ الأضحى كل ذبح ، وصوم رمضان كل صوم ، والغسل من الجنابة كل غسل ، والزكاة كل صدقة " ، رواه الدارقطني ، والبيهقي قال : وهو ضعيف ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، وعن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أستدين وأضحي ؟ قال : " نعم ، فإنه دين مقضي " ، رواه الدارقطني والبيهقي ، وضعفاه قالا : وهو مرسل اهـ كلام النووي . وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة : هو الصواب ، وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية ، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة . وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال : بوجوب الأضحية ، واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم : يوم الأضحى قائلا : إن الإضافة إلى الوقت لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك ، ولا تكون موجودة فيه بيقين ، إلا إذا كانت واجبة لا يخفى سقوطه ; لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة ، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق ، كما لا يخفى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 02:11 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (368)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 203 إلى صـ 210



وأقوى أدلة من قال بالوجوب : هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن [ ص: 203 ] سفيان البجلي ، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة ، وأمر من لم يذبح بالذبح . وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب والحديث المختلف في وقفه ورفعه الذي قدمنا ; لأن قوله فيه : " فلا يقربن مصلانا " ، يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة ، لمنع صاحبها من قرب المصلى وهو يدل على الوجوب . والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستندا من كتاب ولا سنة ، وبعض الحنفية يوجهه بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر ، وهذا وحده لا يكفي دليلا ; لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف ، يسقط عنه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] .

وأما الذين قالوا : بأن الأضحية سنة مؤكدة ، وليست بواجبة ، فاستدلوا بأدلة منها : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر المكي ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا " ، قيل لسفيان : فإن بعضهم لا يرفعه . قال : لكني أرفعه اهـ وفي لفظ عنها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم : " إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا " . وفي لفظ له عنها مرفوعا " إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره " اهـ .

كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زوجه أم المؤمنين - أم سلمة رضي الله عنها - ، ووجه الاستدلال بها ، على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي ، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك .

قال النووي في " شرح المهذب " : بعد أن ذكر بعض روايات حديث أم سلمة المذكور ما نصه : قال الشافعي : هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - ، " وأراد " فجعله مفوضا إلى إرادته ، ولو كانت واجبة لقال : فلا يمس من شعره ، حتى يضحي انتهى منه . وقال النووي في " شرح المهذب " أيضا : واستدل أصحابنا ، يعني لعدم الوجوب بحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هن علي فرائض وهن لكم تطوع : النحر ، والوتر ، وركعتا الضحى " ، رواه البيهقي بإسناد ضعيف . ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه وللحديث المذكور طرق ، ولا يخلو شيء منها من الضعف ولم يذكرها النووي . ثم قال النووي : وصح عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - : أنهما كانا لا يضحيان ، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها اهـ كلام النووي . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : قال ابن [ ص: 204 ] حزم : لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة ، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور ، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين . وقد استدل لعدم وجوبها : المجد في " المنتقى " بحديثين ، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور . قال في " المنتقى " : باب ما احتج به في عدم وجوبها ، بتضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمته : عن جابر قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيد الأضحى ، فلما انصرف " أتى بكبش فذبحه فقال : " باسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي " . وعن علي بن الحسين ، عن أبي رافع : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : " اللهم هذا عني وعن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ " ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : " هذا عن محمد وآل محمد " فيطعمهما جميعا المساكين ، ويأكل هو وأهله منهما " فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغرم ، رواه أحمد ، اهـ من " المنتقى " .

وقال شارحه في " نيل الأوطار " : ووجه دلالة الحديثين ، وما في معناهما على عدم الوجوب أن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - عن أمته وعن أهله تجزئ كل من لم يضح ، سواء كان متمكنا من الأضحية أو غير متمكن ، ثم تعقبه بقوله : ويمكن أن يجاب عن ذلك ، بأن حديث : " على كل أهل بيت أضحية " ، يدل على وجوبها على كل أهل بيت يجدونها ، فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعى ، فلا دلالة له على عدم الوجوب ; لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه ، ولا ضحى عنه غيره ، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره - صلى الله عليه وسلم - من الأمة مستلزما ، لعدم وجوبها على من كان في غير عصره - صلى الله عليه وسلم - منهم انتهى من " نيل الأوطار " . وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب ، والقائلين بالسنة . والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين ، دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب ، ولا على عدمه ; لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث الصحيح وبإعادة من ذبح قبل الصلاة ، وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال ، وهو المشهور في صيغة الأمر . فحديث أم سلمة الذي ظاهره : تفويض ذلك إلى إرادة المضحي ، وهو في صحيح مسلم يمكن أن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور ، وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال ، وحديث : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " ، رجح أكثر الأئمة وقفه ، وقد قدمنا أن ابن حجر قال : إنه ليس صريحا [ ص: 205 ] في الإيجاب وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله : فليعد ، وقوله : فليذبح وقال : لا حجة في شيء من ذلك ، على الوجوب وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية ، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا ، فبين له وجه تدارك ما فرط منه انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحا بينا أنه يتأكد على الإنسان الخروج من الخلاف فيه ، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، فلا ينبغي تركها لقادر عليها ; لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الأول : قد علمت أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية سنة لا واجبة ، والمالكية يقولون : إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف ، وقد استثنى مالك وأصحابه به الحاج بمنى ، قالوا : لا تسن له الأضحية ; لأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وخالفهم جماهير أهل العلم نظرا لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره ، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى . قال البخاري في صحيحه : باب الأضحية للمسافر والنساء : حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة ، وهي تبكي " . الحديث وفيه : " فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر " اهـ . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " ، الحديث بطوله ، وفيه فقالت : " وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر " اهـ من صحيح مسلم . قالوا : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى " ، وهو دليل صحيح على مشروعية الأضحية للحاج بمنى .

[ ص: 206 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين دليلا عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه ، وإن خالفهم الجمهور ، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى ، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه ، ووجه كون مذهب مالك أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، هو أن القرآن العظيم دال عليه ، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالما من المعارض من كتاب أو سنة ، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى : هدي لا أضحية ، هو ما قدمناه موضحا ; لأن قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها الآية [ 22 \ 27 - 28 ] ، فيه معنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا لحكم منها : شهودهم منافع لهم ، ومنها ذكرهم اسم الله : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، عند ذبحها تقربا إلى الله ، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج ، حتى يأتوا مشاة وركبانا ، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح ، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي : أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية إلى إتيانهم مشاة وركبانا من كل فج عميق . فالآية ظاهرة في الهدي ، دون الأضحية ، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره ، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه : " أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه " ، فلا تنهض به الحجة ; لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات ، وأن ذلك البقر هدي واجب ، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن ، وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها هدي قران ، سواء قلنا : إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها ، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة ، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة ، كما قال به بعضهم ، وأكثر الروايات ليس فيها لفظ : ضحى ، بل فيها : أهدى ، وفيها : ذبح عن نسائه ، وفيها : نحر عن نسائه ، فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم ، بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة ، وهدي قران : بالنسبة إليها ، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة ، التي لا نزاع فيها ، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك ، والحديث ليس فيه حجة عليه .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " : في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن [ ص: 207 ] بعد ذكره رواية : ضحى المذكورة ، ما نصه : والظاهر أن التصرف من الرواة ; لأنه في الحديث ذكر النحر ، فحمله بعضهم على الأضحية ، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك ، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ : أهدى ، وتبين أنه هدي التمتع ، فليس فيه حجة على مالك في قوله : لا ضحايا على أهل منى انتهى محل الغرض من " فتح الباري " ، وهو واضح فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اعلم أن من ذبح أضحية ، قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد ، فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية ، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها هو ومن شاء . وليست بشاة نسك ، وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن الشعبي ، عن البراء - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، من فعله فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء " انتهى محل الغرض منه . وفي لفظ للبخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ذبح قبل الصلاة ، فإنما ذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة ، فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين " اهـ . وفي لفظ للبخاري ، عن أنس بن مالك أيضا قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر : " من كان ذبح قبل الصلاة فليعد " الحديث . وفي لفظ للبخاري من حديث البراء ، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين " اهـ .

وقد قدمنا في حديث جندب بن سفيان البجلي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " ، الحديث إلى غير هذا من الروايات بمعناه في صحيح البخاري ، وكون الأضحية المذبوحة قبل الصلاة : لا تجزئ صاحبها الذي ذكرنا في صحيح البخاري ، أخرجه مسلم أيضا من حديث جندب بن سفيان البجلي ، والبراء بن عازب ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - ، فهذه الأحاديث المتفق عليها عن جندب والبراء وأنس نصوص صريحة في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة الإمام صلاة العيد : أنها لا تجزئه ، وإن كان الإمام الأعظم ، هو إمام الصلاة فلا إشكال ، وإن كان إمام الصلاة غيره ، فالظاهر أن المعتبر إمام الصلاة ; لأن ظاهر الأحاديث : أنها يشترط لصحتها أن تكون بعد الصلاة ، وظاهرها العموم سواء كان إمام الصلاة الإمام الأعظم أو غيره ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 208 ] والأظهر أن من أراد أن يضحي بمحل لا تقام فيه صلاة العيد ، أنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي فيه الإمام صلاة العيد عادة ، ثم يذبح . والله تعالى أعلم .

وقد جاء في صحيح مسلم وغيره ، ما يدل على عدم إجزاء ما نحر قبل نحره صلى الله عليه وسلم . وظاهره : أنه لا بد لإجزاء الأضحية من أن تكون بعد الصلاة ، وبعد نحر الإمام ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : في سن الأضحية التي تجزئ . والأظهر أن السن التي تجزئ في الأضحية هي التي تكون مسنة ، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن .

قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " اهـ .

وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه : قال العلماء : المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها . وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال . وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري وغيره من أصحابنا ، عن الأوزاعي أنه قال : يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن . وحكي هذا عن عطاء . وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا : لا يجزئ . وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل ، وتقديره : يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال . وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن ، مع وجود غيره وعدمه . وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . إلى أن قال : والجذع من الضأن : ما له سنة تامة ، هذا هو الأصح عند أصحابنا ، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم ، وقيل : ما له ستة أشهر .

وقيل : سبعة ، وقيل : ثمانية ، وقيل : ابن عشرة . حكاه القاضي ، وهو غريب .

وقيل : إن كان متولدا من بين شابين ، فستة أشهر ، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر انتهى محل الغرض منه . وقال في " شرح المهذب " : ثم الجذع ما استكمل سنة على [ ص: 209 ] أصح الأوجه إلى آخر الأوجه التي ذكرها في " شرح مسلم " . وتقدم نقلها عنه آنفا . وقال أيضا : وأما الثني من الإبل فما استكمل خمس سنين ، ودخل في السادسة . وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين ، ودخل في السابعة .

قال الروياني : وليس هذا قولا آخر للشافعي ، وإن توهمه بعض أصحابنا ، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني ، وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنة ، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين ، ودخل في الثالثة .

وروى حرملة عن الشافعي : أنه ما استكمل ثلاث سنين ، ودخل في الرابعة . والمشهور من نصوص الشافعي الأول ، وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم . والثني من المعز فيه عندهم وجهان أصحهما : ما استكمل سنتين . والثاني : ما استكمل سنة انتهى منه .

وقد علمت أن الثني هو المسن . قال ابن الأثير في " النهاية " في الجذع : هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز : ما دخل في السنة الثانية ، وقيل : البقر في الثالثة ، ومن الضأن : ما تمت له سنة ، وقيل : أقل منها ، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير انتهى منه . وقال ابن الأثير في " النهاية " أيضا : الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة ، ومن البقر كذلك ، ومن الإبل : في السادسة والذكر ثني ، وعلى مذهب أحمد بن حنبل : ما دخل من المعز في الثانية ، ومن البقر في الثالثة .

وقال ابن الأثير في " النهاية " ، في المسنة ، قال الأزهري : البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن ، إذا أثنيا ، ويثنيان في السنة الثالثة .

وقال الجوهري في صحاحه : الجذع قبل الثني والجمع جذعان وجذاع ، والأنثى : جذعة ، والجمع : جذعات ، تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية ، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة ، وللإبل في السنة الخامسة : أجذع ، والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط ، وقد قيل : في ولد النعجة : إنه جذع في ستة أشهر ، أو تسعة أشهر ، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه . وفي القاموس : والثنية : الناقة الطاعنة في السادسة ، والبعير : ثني ، والفرس : الداخلة في الرابعة ، والشاة : في الثالثة كالبقرة . انتهى منه .

وقد علمت مما مر أن حديث مسلم الثابت فيه دل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة ، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن ، فمن ضحى بمسنة ، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها فضحيته مجزئة إجماعا .

[ ص: 210 ] واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك ، وهذه مذاهبهم وأدلتها .

فذهب مالك - رحمه الله - وأصحابه : إلى أن المجزئ في الضحية : جذع الضأن ، وثني المعز والبقر ، والإبل . وجذع الضأن عندهم : هو ما أكمل سنة على المشهور ، وثني المعز عندهم : هو ما أكمل سنة ، ودخل في الثانية دخولا بينا ، فالدخول في السنة الثانية ، دخولا بينا هو الفرق عندهم بين جذع الضأن ، وثني المعز .

ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية أن جذع الضأن عندهم ، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم ، وأن الثني إجزاؤه مطلق ، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولا بينا من تحقيق المناط ، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم . والثني عندهم من الإبل : ابن خمس سنين ، والذكر والأنثى سواء .

ومعلوم أن الذكورة ، والأنوثة في الضحايا والهدايا ، وصفان طرديان ، لا أثر لواحد منهما في الحكم ، فهما سواء . وقال بعض المالكية : إن الثني من البقر : ابن أربع سنين . والظاهر : أنه غير مخالف للقول الأول ، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة .

وقال ابن حبيب من المالكية : والثني من الإبل ابن ست سنين ، والظاهر أيضا أنه غير مخالف للقول الأول ; لأن المراد به ابن خمس ، ودخل في السادسة ، فإن قيل ظاهر . . . سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم : لا فرق بينها ، وبين الجذع الذكر ; لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان ، لا أثر لهما في الحكم .

ولكن ظاهر الحديث ، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث ، لا يذبحها ، إلا من تعسرت عليه المسنة ، التي هي الثنية ; لأن لفظ الحديث المتقدم : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " .

فالجواب أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة ، وظاهره أن الجذع الذكر من الضأن : لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة ، أو لم يعسر ، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين ، إلا ما روي عن ابن عمر ، والزهري : من أن الجذع الذكر من الضأن : لا يجزئ مطلقا ; لظاهر هذا الحديث .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 02:14 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (369)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 211 إلى صـ 218




قال النووي : في شرحه لحديث مسلم هذا ما نصه : قال العلماء المسنة هي الثنية : من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير [ ص: 211 ] الضأن في حال من الأحوال ، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري ، وغيره من أصحابنا أنه قال : يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن ، وحكي هذا عن عطاء ، وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ ، سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري ، أنهما قالا : تجزئ ، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب ، والأفضل وتقديره : يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال ، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه ، وابن عمر والزهري : يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا إذا تعسر وجود المسنة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح : " لا تذبحوا إلا مسنة " ، نهي صريح عن ذبح غير المسنة ، التي هي الثنية . والنهي : يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول ، إلا إذا وجد صارف عنه ، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة كما ترى ، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة ، ومناقشة أدلتهم ، وأما مذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة : فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة ، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء ، وأما غير الضأن : فلا يجزئ عنه منه إلا الثنية ، أو الثني . وقد قدمنا كلام أهل العلم ، واللغة في سن الجذع ، والثني والجذعة والثنية ، والوجه الذي حكاه الرافعي أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط ، كما صرح به النووي . وأما مذهب أبي حنيفة : فهو كمذهب الشافعي ، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة ، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر .

وقال صاحب " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " ، ما نصه : والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء ، وذكر الزعفراني : أنه ابن سبعة أشهر . والثني من الضأن ، والمعز ابن سنة ، ومن البقر : ابن سنتين ، ومن الإبل : ابن خمس سنين ، وفي القرب : الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة ، ومن البقر والشاة في السنة الثانية ، ومن الخيل في الرابعة ، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة ، ومن الضأن لثمانية أشهر . انتهى منه .

[ ص: 212 ] والأصح : هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء ، وأهل اللغة ، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي ، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة ، ولا يجوز من غير الضأن : إلا الثني ، والجذع من الضأن عندهم : ما له ستة أشهر ، ودخل في السابع ، وثني المعز عندهم : إذا تمت له سنة ، ودخل في الثانية ، وثني البقر عندهم : إذا تمت له سنتان ، ودخل في الثالثة ، وثني الإبل عندهم : إذا تمت له خمس سنين ، ودخل في السادسة . قاله ابن قدامة في " المغني " : وقال أيضا " قال الأصمعي ، وأبو زياد الكلابي ، وأبو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ، ودخل في السادسة ، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني ، ونرى أنه إنما سمي ثنيا ; لأنه ألقى ثنيتيه . وأما البقرة فهي التي لها سنتان ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تذبحوا إلا مسنة " ومسنة البقر التي لها سنتان ، وقال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر . انتهى كلام " المغني " . وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام ، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن والثني من غيره مع بعض الاختلاف ، الذي رأيت في سن الجذع والثني .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي : هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم : أنه لا يجزئ في الأضحية : الجذع إلا من الضأن خاصة ، ومن غير الضأن وهو المعز ، والإبل والبقر : لا يجزئ إلا الثني . فما فوقه . والذكر والأنثى سواء في الهدايا ، والأضاحي كما تقدم .

والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " ، أنه متعين بحمله على الاستحباب ، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي ، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم : هي أحاديث أخر جاءت من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجذع من الضأن يجزئ ، وظاهرها ولو كان المضحي قادرا على المسنة ، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه ذكرها في محل واحد ، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نعم أو نعمت الأضحية : الجذع من الضأن " ومنها ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، عن أم بلال بنت هلال ، عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجوز الجذع من الضأن ضحية " . ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجه ، عن مجاشع بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية " ومنها ما رواه النسائي ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : " ضحينا [ ص: 213 ] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجذع من الضأن " اهـ . بواسطة نقل المجد في " المنتقى " .

وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، فتصلح بمجموعها للاحتجاج ، وتعتضد بأن عامة أهل العلم ، على العمل بها ، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري . وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم : على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ ، وهو كذلك ، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بردة : " ضح بجذعة من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، دليل : على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية . قال البخاري في صحيحه : باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " .

حدثنا مسدد ، حدثنا خالد بن عبد الله ، حدثنا مطرف ، عن عامر عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - ، قال : ضحى خال لي يقال له : أبو بردة ، قبل الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " شاتك شاة لحم ، فقال : يا رسول الله ، إن عندي داجنا جذعة من المعز . قال : " اذبحها ولا تصلح لغيرك " انتهى منه . وفي لفظ للبخاري من حديث البراء : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء : " ضح بها ولا تصلح لغيرك " . وفي لفظ له عنه : " ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك " .

والروايات بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح : بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما : وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ . فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح ، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة .

فإن قيل : جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ضح به أنت " ، وهذا لفظ البخاري في صحيحه ، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور - رضي الله عنه - قال : " قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ضحايا فأصابني جذع ، فقلت : يا رسول الله ، أصابني جذع ، فقال : " ضح به " انتهى منه . وروايات هذا الحديث الصحيح ، عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يضحي بجذع المعز ; لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز ، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع . وقال ابن الأثير في " النهاية " : والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى ، وأتى عليه حول . وهذا حديث متفق عليه [ ص: 214 ] فيه الدلالة الصريحة على جواز التضحية بجذع المعز ، وذكر ابن حجر في " الفتح " أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعقبة : " ولا رخصة فيها لأحد بعدك " ، وقال ابن حجر : إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة وإن حاول بعضهم تضعيفها .

فالجواب أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة ، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم ، ويزيده إشكالا ، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - لجماعة آخرين . قال ابن حجر في " الفتح " : فقد أخرج أبو داود ، وأحمد ، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عتودا جذعا ، فقال : " ضح به " . فقلت : إنه جذع أفأضحي ؟ قال : " نعم ضح به " ، فضحيت به ، لفظ أحمد إلى أن قال : وفي الطبراني في الأوسط ، من حديث ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به ، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة ، وفي سنده ضعف ، ولأبي يعلى ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا جذع من الضأن مهزول ، وهذا جذع من المعز سمين ، وهو خيرهما أفأضحي به ؟ قال : " ضح به ، فإن لله الخير " ، انتهى بواسطة نقل ابن حجر في " فتح الباري " .

وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالا ، فاعلم أن الحافظ في " الفتح " تصدى لإزالة ذلك الإشكال ، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا ، والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث ، وبين حديثي أبي بردة وعقبة ; لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك . وإنما قلت ذلك : لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك ، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير . انتهى محل الغرض منه بلفظه . ومقصوده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " إلا لأبي بردة ، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي ، والذين لم يقل لهم : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، لا إشكال في مسألتهم ; لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز ، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة . وقد تصدى لحله ابن حجر في " الفتح " أيضا ، فقال في موضع : وأقرب ما يقال فيه : إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد ، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني ، ولا مانع من ذلك ; لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره [ ص: 215 ] صريحا انتهى محل الغرض منه . وقال في موضع آخر : وإن تعذر الجمع الذي قدمته ، فحديث أبي بردة أصح مخرجا ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الجمع الذي ذكره ابن حجر ، فالظاهر عندي : أنه لا يصح . وقوله : لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه - رحمه الله - ، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره ; لأن لفظة " لن " ، تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن ، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره ، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله : " عن أحد بعدك " ، نكرة في سياق النفي ، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى .

والصواب : الترجيح بين الحديثين ، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، فيه أصح سندا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة ، فيجب تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة ، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير ، والله تعالى أعلم .

فإن قيل : ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة : لن : لا تدل على تأبيد النفي . قال ابن هشام في " المغني " في الكلام على لن : ولا تفيد توكيد النفي ، خلافا للزمخشري في كشافه ، ولا تأبيده خلافا له في أنموذجه ، وكلاهما دعوى بلا دليل ، قيل : ولو كانت للتأبيد ، لم يقيد منفيها باليوم في : فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، ولكان ذكر الأبد في : ولن يتمنوه أبدا [ 2 \ 95 ] ، تكرارا والأصل عدمه انتهى محل الغرض منه .

فالجواب أن قول الزمخشري بإفادة لن : التأبيد يجب رده ; لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعما أن قوله لموسى : لن تراني [ 7 \ 143 ] ، تفيد فيه لفظة لن تأبيد النفي ، فلا يرى الله عنده أبدا لا في الدنيا ، ولا في الآخرة . وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها . وقد بينا مرارا أن رؤية الله تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة . ولو كانت ممنوعة عقلا في الدنيا لما قال نبي الله موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ; لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى ، وأنها ممنوعة شرعا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة ، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها [ ص: 216 ] النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة ، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص .

وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف ، وعدم إفادتها لذلك ، فعلى القول : بأنها تفيد التأبيد فقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، يدل على تأبيد نفي الإجزاء ، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد ، فلا تقل عن الظهور فيه ، حتى يصرف عنه صارف ، وبذلك كله تعلم أن الجمع بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة بن عامر ، كالمتعذر فيجب الترجيح ، وحديث أبي بردة : أرجح . والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزئ في الضحايا .
الفرع الرابع : اعلم أنه لا يجوز في الأضحية إلا بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز بأنواعها ; لقوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، فلا تشرع التضحية بالظباء ولا ببقرة الوحش وحمار الوحش مثلا .

وقال النووي في " شرح المهذب " : ولا تجزئ بالمتولد من الظباء والغنم ; لأنه ليس من بهيمة الأنعام . اهـ .

والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم ، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة ، والظبي عن واحد ، خلاف التحقيق . وعن أصحاب الرأي أن ولد البقرة الإنسية يجزئ ، وإن كان أبوه وحشيا وعن أبي ثور : يجزئ إن كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام . والأظهر أن المتولد من بين ما يجزئ ، وما لا يجزئ ، لا يجزئ بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح . ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول ، وعلى كل حال ، فالأحوط أن لا يضحي إلا ببهيمة الأنعام ; لظاهر الآية الكريمة .
الفرع الخامس : اعلم أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية : البدنة ، ثم البقرة ، ثم الشاة ، والضأن ، أفضل من المعز . وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة ، أو بقرة إن شاء الله . وكون الأفضل : البدنة ، ثم البقرة ، ثم شاة الضأن ، ثم شاة المعز . قال النووي في " شرح المهذب " : هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ، وأحمد ، وداود . وقال مالك : أفضلها الغنم ثم البقر ، ثم الإبل . قال : والضأن أفضل من المعز ، [ ص: 217 ] وإناثها أفضل من فحول المعز ، وفحول الضأن خير من إناث المعز ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر . وقال بعض أصحاب مالك : الإبل أفضل من البقر .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام ، فاعلم أن الجمهور الذين قالوا البدنة أفضل ، ثم البقرة ، ثم الشاة احتجوا بأدلة : منها أن البدنة أعظم من البقرة ، والبقرة أعظم من الشاة . والله تعالى يقول : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب الآية [ 22 \ 32 ] .

ومنها ما قدمنا ثابتا في الصحيح أن البقرة والبدنة كلتاهما تجزئ عن سبعة في الهدي ، فكل واحدة منهما تعدل سبع شياه . وكونها تعدل سبع شياه ، دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة .

ومنها ما رواه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن ، غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر " ، اهـ . قالوا : ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة ، على أن البدنة أفضل ، ثم البقرة ، ثم الكبش الأقرن ، ووجهه ظاهر . واحتج مالك ، وأصحابه : على أن التضحية بالغنم أفضل : بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإبل ، ولا بالبقر . وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين ، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد ، ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها . قالوا : وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يضحي مكررا ذلك عاما بعد عام ، إلا بما هو الأفضل في الأضحية . فلو كانت التضحية بالإبل والبقر لفعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأفضل .

قالوا فإن قيل : أهدى في حجته الإبل ، ولم يهد الغنم .

فالجواب : أنه أهدى الغنم أيضا فبعث بها إلى البيت ، ولو سلمنا أن الإبل أفضل في الهدي ، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية ، والمالكية لا ينكرون أفضلية الإبل في الهدي ، وإنما يقولون : إن الغنم أفضل في الأضحية ، ولكل من الغنم والإبل فضل من جهة ; فالإبل أفضل من حيث كثرة لحمها ، والغنم أفضل ، من حيث إن لحمها أطيب ، وألذ . وعند [ ص: 218 ] المالكية : فلا مانع من أن يراعي كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك ، ودليل الجمهور ظاهر . لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم ، والخير كله في اتباعه في أقواله وأفعاله ، وما جاء عنه من تفضيل البدنة ، ثم البقرة ، ثم الكبش الأقرن ، لم يأت في خصوص الأضحية . ولكن فعله - صلى الله عليه وسلم - في خصوص الأضحية والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .

والحاصل أن لكل من القولين وجها من النظر . والله تعالى أعلم بالصواب .

واعلم أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - بالغنم ، لبيان الجواز ، أنه لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة ، وإنما تيسرت له الغنم هكذا قالوا . وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم ، وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها ; لأنه لو لم يتيسر له إلا الغنم سنة ، فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى . والله تعالى أعلم .

فإن قيل : روى البيهقي عن ابن عمر كان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالجزور أحيانا وبالكبش إذا لم يجد الجزور .

فالجواب أن الزرقاني في " شرح الموطأ " قال ما نصه : وحديث البيهقي عن ابن عمر : " كان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالجزور أحيانا ، وبالكبش إذا لم يجد الجزور " . ضعيف . في سنده عبد الله بن نافع ، وفيه مقال . انتهى منه . وقد روى البيهقي في " السنن الكبرى " ، عن أبي أمامة ، وعبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خير الضحايا الكبش الأقرن " انتهى منه . وقد ذكر النووي أن فيه ضعفا ، ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - بالمداومة على التضحية بالكبشين الأقرنين ، أو الكبش الأقرن . كما تقدم إيضاحه .
الفرع السادس : اعلم أن جمهور أهل العلم : أجازوا اشتراك سبعة مضحين في بدنة أو بقرة ، بأن يشتروها مشتركة بينهم ، ثم يهدوا بها ، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها .

وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي ، والظاهر عدم الفرق في ذلك بين الهدي ، والأضحية .

وخالف مالك وأصحابه الجمهور ، فقالوا : لا يجوز ذبح بدنة مشتركة ، ولا بقرة ، وإنما يملكها واحد فيشرك غيره معه في الأجر . أما اشتراكهم في ملكها ، فلا يجزئ عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب ، وكذلك هدي التطوع خلافا لأشهب من أصحابه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 27-09-2022 02:16 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (370)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 219 إلى صـ 226



[ ص: 219 ] واعلم أن مالكا - رحمه الله - حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة ، على الاشتراك في الأجر ، بأن يكون المالك واحدا ، ويشرك غيره معه في الأجر لا في ملك الرقبة ، وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك . وأجاز مالك للرجل : أن يضحي بالشاة الواحدة ، ويشرك معه أهله في الأجر .

وقد قدمنا في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشا وقال : " اللهم تقبل من محمد وآل محمد " .

والحاصل أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك مالكين في شاة الأضحية ، أما كون المالك واحدا فيضحي عن نفسه بالشاة وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر ، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإسلامي عنهم جميعا ، فلا ينبغي أن يختلف فيه ; لدلالة النصوص الصحيحة عليه ، كالحديث المذكور آنفا وغيره ، كحديث أبي أيوب الأنصاري : كان الرجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه ، وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون ، حتى تباهى الناس ، فصار كما ترى . قال في " المنتقى " : رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وصححه ، وقال شارحه في " النيل " : وأخرجه مالك في " الموطأ " إلى غير ذلك من الأحاديث ، والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة ، كما هو ظاهر النص ، وكما صرح به المالكية وغيرهم واشترط المالكية لذلك شروطا ثلاثة . وهي سكناهم مع المضحي ، وقرابتهم منه ، وإنفاقه عليهم ، وإن تبرعا . ولا أعلم لهذه الشروط مستندا من الوحي إلا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل ، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة ، ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية وفي الحج ; لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة ، وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة ، والعلم عند الله تعالى .

وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله . قال ابن قدامة في " المغني " : نص عليه أحمد ، وبه قال مالك ، والليث والأوزاعي ، وإسحاق ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، ثم قال : وكره ذلك الثوري ، وأبو حنيفة ; لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزئ عنهما انتهى منه . والحديث المتفق عليه المذكور : حجة على من خالفه .
الفرع السابع : اعلم أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك ، بما [ ص: 220 ] أغنى عن إعادته هنا ، وقد قدمنا حديث أم سلمة ، عند مسلم المقتضي أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئا من شعره ، ولا أن يقلم شيئا من أظفاره في عشر ذي الحجة ، حتى يضحي ، وظاهر الحديث : تحريم ذلك ; لأن في لفظ الحديث عند مسلم ، عن أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يأخذن شعرا ، ولا يقلمن ظفرا " . وفي لفظ له عنها ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يمس من شعره وبشره شيئا " وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر ، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ، والنهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول ، وقال الشافعية والمالكية ، ومن وافقهم : إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم ; لأن المضحي ليس بمحرم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحريم أظهر لظاهر الحديث ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول : "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية ، قال النووي : حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم ، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث ، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل ، عن أحمد ، وإسحاق : تحريم الحلق ، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية ، وقال ابن قدامة في " المغني " : قال بعض أصحابنا : بالتحريم ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد ، وإسحاق ، وسعيد بن المسيب ، وقال القاضي ، وجماعة من أصحابنا : هو مكروه غير محرم ، وبه قال مالك والشافعي ; لقول عائشة : " كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها بيده " ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له ، حتى ينحر الهدي متفق عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يكره ذلك ; لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس ، فلا يكره له حلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، كما لو لم يرد أن يضحي . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وأظهر شيء في محل النزاع وأصرح وأخصه فيه : حديث أم سلمة ، وظاهره التحريم . وقال النووي في " شرح المهذب " : مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية : مكروه كراهة تنزيه ، حتى يضحي ، وقال مالك وأبو حنيفة : لا يكره ، وقال سعيد بن المسيب ، وأحمد ، وربيعة ، وإسحاق ، وداود : يحرم ، وعن مالك : أنه يكره ، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع ، ولا يحرم في الواجب ، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين .

وقد ذكرنا آنفا أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم : وهو حديث أم سلمة ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 221 ] الفرع الثامن : أجمع العلماء على إجزاء الذكر والأنثى . واختلفوا أيهما أفضل ، وظاهر النصوص الصحيحة أن ذكور الضأن خير من إناثها ; لتضحيته بالكبش دون النعجة ، وبعضهم قال : بأفضلية الذكور مطلقا ، وبعضهم قال : بأفضلية الإناث مطلقا ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه .
الفرع التاسع : اعلم أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث منسوخ . فقد دلت الأحاديث الصحيحة ، على أنه - صلى الله عليه وسلم - منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث ، ومنع المضحي بأن يأكل من أضحيته ، بعد ثلاث ، ثم نسخ ذلك ، وصار الأكل والادخار منها مباحا مطلقا . وسنذكر هنا إن شاء الله طرفا من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولا ، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقا .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو عاصم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة ، وبقي في بيته منه شيء " ، فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نفعل كما فعلنا العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " ، وحديث سلمة بن الأكوع هذا أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قريبا من لفظ البخاري .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عبد الجبار بن العلاء ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري ، عن أبي عبيد قال : شهدت العيد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، وقال : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث " . وفي لفظ لمسلم ، عن علي أنه قال : " إنه - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا " .

وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام " . وفي لفظ له عنه : " أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث " ، ثم قال : قال سالم : فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث . وفي لفظ : بعد ثلاث .

وفي لفظ لمسلم ، عن عبد الله بن واقد قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، فقال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة فقالت : صدق ، [ ص: 222 ] سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ادخروا ثلاثا ، ثم تصدقوا بما بقي " ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ، ويجملون منها الودك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا " .

وفي لفظ لمسلم عن جابر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، ثم قال بعد : " كلوا وتزودوا وادخروا " .

وفي لفظ لمسلم عن عطاء ، عن جابر أيضا ، أنه قال : كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث في منى ، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كلوا وتزودوا " ، قلت لعطاء : قال جابر : حتى جئنا المدينة ؟ قال : نعم .

وفي لفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، قال : كنا لا نمسك لحوم الأضاحي ، فوق ثلاث ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ، ونأكل يعني : فوق ثلاث ، وفي لفظ له عنه : كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أهل المدينة ، لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث " ، وقال ابن المثنى : ثلاثة أيام ، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم عيالا وحشما وخدما فقال : " كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا " ، قال ابن المثنى : شك عبد الأعلى .

وفي لفظ لمسلم ، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحية ، ثم قال : " يا ثوبان ، أصلح لهم هذه " ، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة " .

وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان ، هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع .

وفي لفظ لمسلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا " انتهى منه .

فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم ، وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة أن تحريم الادخار ، والأكل من لحوم الأضاحي ، فوق ثلاث : أنه [ ص: 223 ] منسوخ ، وأن ذلك جائز مطلقا ، وفي بعض الروايات : تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية ، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة .

قال ابن الأثير في " النهاية " : الدافة القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد . يقال لهم : يدفون دفيفا ، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر ، يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى ، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ، ليفرقوها ويتصدقوا بها ، فينتفع أولئك القادمون بها . انتهى من " النهاية " .

تنبيه

في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول : باشتراط انعكاس العلة في صحتها ; لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث : هي وجود دافة فقراء البادية ، الذين دفوا عليهم . ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها ، ودوران الحكم مع علته في العدم ، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها . والمقرر في الأصول أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة ، لا إن كانت له علل متعددة ، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس ; لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى ، كالبول ، والغائط ، لنقض الوضوء مثلا . فإن البول يكون معدوما وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط ، وهكذا . وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضا في القدح فيها ، بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة ، فإن دل دليل على بقاء الحكم ، مع انتفاء العلة ، فلا يقدح فيها بعدم العكس ، كالرمل في الأشواط الأول من الطواف ، فإن علته هي أن يعلم المشركون أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب . وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق لوجود الدليل على بقائه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجة الوداع ، والعلة المذكورة معدومة قطعا زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه ، وإلى هذه المسألة أشار صاحب " مراقي السعود " في مبحث القوادح بقوله :
وعدم العكس مع اتحاد يقدح دون النص بالتمادي

الفرع العاشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة . ونقل النووي في شرحه لمسلم ، عن عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع ، والعتيرة . وذكر النووي أيضا في شرحه لمسلم أن الصحيح عند علماء الشافعية : استحباب الفرع والعتيرة قال : وهو نص الشافعي .

[ ص: 224 ] والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما : هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب ، قال يحيى : أخبرنا . وقال الآخرون : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ح ) ، وحدثني محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، قال عبد : أخبرنا . وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا فرع ولا عتيرة " ، زاد ابن رافع في روايته : والفرع : أول النتاج ، كان ينتج لهم فيذبحونه اهـ من صحيح مسلم . وهذا الإسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى . وفيه : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا فرع . والعتيرة والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة ، جاء تفسيره ، عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت . وقال النووي : قال الشافعي ، وأصحابه وآخرون : الفرع هو أول نتاج البهيمة ، كانوا يذبحونه ، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم ، وكثرة نسلها ، وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم ، وقال كثيرون منهم : هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم : وهي طواغيتهم . وكذا جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري ، وسنن أبي داود وقيل : هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه . وقال شمر : قال أبو مالك : كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصنمه ، ويسمونه الفرع . انتهى محل الغرض منه .

وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة ، ثم تاء مثناة من فوق فهي : ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ، ويسمونها الرجبية أيضا ، وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا صريح في نسخ الأمر بها ; لأن قوله : " لا فرع ولا عتيرة " نفي أريد به النهي ، فيما يظهر كقوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ، وعليه فيكون المعنى : لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة ، ولو قدرنا أن الصيغة نافية ، فالظاهر أن المعنى : لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعا ، ونسخهما هو الأظهر عندنا للحديث الصحيح كما رأيت . ومن زعم بقاء مشروعيتهما ، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث على ذلك ، وسنذكر حاصلها بواسطة نقل النووي ; لأنه جمعها في محل واحد ، فقال منها : حديث نبيشة - رضي الله عنه - قال : نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب ، فقال : " اذبحوا لله في أي شهر كان ، وبروا الله عز وجل وأطعموا " ، قال : إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية ، فما تأمرنا ؟ فقال : " في كل [ ص: 225 ] سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه " ، رواه أبو داود ، وغيره بأسانيد صحيحة . وقال ابن المنذر : هو حديث صحيح . قال أبو قلابة ، أحد رواة هذا الحديث : السائمة مائة . ورواه البيهقي بإسناده الصحيح ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرعة من كل خمسين واحدة . وفي رواية : من كل خمسين شاة شاة . قال ابن المنذر : حديث عائشة صحيح ، وفي سنن أبي داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، قال الراوي : أراه عن جده . قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرع ، فقال : " الفرع حق ، وإن تركوه حتى يكون بكرا أو ابن مخاض أو ابن لبون ، فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وتوله ناقتك " ، قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الفرع حق ، ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه " ، ولذا قال : " تذبحه ، فيلزق لحمه بوبره " ، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها ، ولهذا قال : " خير من أن تكفأ " يعني : أنك إذا فعلت ذلك ، فكأنك كفأت إناءك وأرقته . وأشار به إلى ذهاب اللبن ، وفيه : أنه يفجعها بولدها ، ولهذا قال : " وتوله ناقتك " فأشار بتركه ، حتى يكون ابن مخاض ، وهو ابن سنة ، ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه ، ولا تشق عليها مفارقته ; لأنه استغنى عنها . هذا كلام أبي عبيد . وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، أو قال : بمنى ، وسأله رجل عن العتيرة ؟ فقال : " من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع " ، وعن أبي رزين قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب ، فنأكل منها ، ونطعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا بأس بذلك " ، وعن أبي رملة ، عن مخنف بن سليم قال : كنا وقوفا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، فسمعته يقول : " يا أيها الناس ، إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة ؟ هي التي تسمى الرجبية " ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن . وقال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ; لأن أبا رملة مجهول ، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة اهـ كلام النووي .

وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضي : أن على كل أهل بيت في كل عام : أضحية وعتيرة ، وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة .

وقد قدمنا أن الأظهر عندنا فيهما : النسخ ، ويترجح ذلك بأمور : منها أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب .

[ ص: 226 ] ومنها أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك ، كما ذكره النووي عن عياض .

ومنها أن ذلك كان من فعل الجاهلية ، وكانوا يتقربون بهما [ لطواغيتهما ] ، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير : إن المسلمين يتقربون بهما لله ويتصدقون بلحومهما . ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار ، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه .
الفرع الحادي عشر : اعلم أن المعيبة لا تجوز التضحية بها ، ولا تجزئ . والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي ، والحاكم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، وصححه الترمذي . وقال النووي في حديث البراء : صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل : ما أحسنه من حديث . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع لا تجزئ في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والعجفاء التي لا تنقي " . وفي رواية : " والكسير التي لا تنقي " ، والتي لا تنقي هي التي لا مخ فيها ; لأن النقي بكسر النون المشددة ، وسكون القاف المخ . فقول العرب : أنقت تنقي إنقاء : إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه :
يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه إذا لم يكن في المنقيات حلوب
وقول الآخر :


ولا يسرق الكلب السروق نعالنا ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم
وقال ابن الأثير في " النهاية " : والكسير : التي لا تنقى ، أي التي لا مخ فيها لضعفها وهزالها . وقوله في الحديث : " البين ضلعها " أي : عرجها كما هو واضح ، والضلع بفتح الضاد ، واللام ، وقد جاء في الحديث عن علي - رضي الله عنه - قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء " . قال المجد في " المنتقى " : ورواه الخمسة ، وصححه الترمذي . ومراده بالخمسة الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg




ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:05 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (371)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 227 إلى صـ 234



وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : في حديث علي المذكور : أخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي . وأعله الدارقطني ، والمقابلة والمدابرة : كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول ، والمقابلة : هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل ، بل بقي لاصقا بالأذن متدليا ، والمدابرة : هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها على نحو [ ص: 227 ] ما ذكرنا فيما قبلها ، والخرقاء : التي في أذنها خرق مستدير ، والشرقاء : مشقوق الأذن اهـ . وضابط ما يمنع الإجزاء هو ما ينقص اللحم . وقال النووي في " شرح المهذب " : أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ ، وكذلك العوراء البين عورها ، والعرجاء البين عرجها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء .

واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا : أنها تجزئ . قال مالك : إن كانت مكسورة القرن ، وهو يدمى لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أحمد : إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه ، سواء دميت أم لا ، وإن كان دون النصف أجزأته . وأما مقطوعة الأذن ، فمذهبنا : أنها لا تجزئ ، سواء قطع كلها أو بعضها . وبه قال مالك ، وداود وقال أحمد : إن قطع أكثر من النصف لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أبو حنيفة : إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف ، ومحمد : إن بقي أكثر من نصف أذنها : أجزأت ، وأما مقطوعة بعض الألية : فلا تجزئ عندنا ، وبه قال مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة في رواية : إن بقي الثلث أجزأت ، وفي رواية : إن بقي أكثرها أجزأت ، وقال داود : تجزئ بكل حال . انتهى محل الغرض من كلام النووي .

ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم ; لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطرادا ، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيرا ; ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي .
مسألة

اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ، وقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادا ، والعمرة في اللغة الزيارة .

ومنه قول الراجز :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وخبر
وهي في الشرع : زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام ، وطواف وسعي وحلق أو تقصير .

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة ، وجب عليه إتمامها ، ولا [ ص: 228 ] يجوز له قطعها وعدم إتمامها ، لقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله .

أما حكم استئناف فعلها ، فقد اختلف فيه أهل العلم ، فذهب بعضهم : إلى أنها واجبة في العمر كالحج ، وذهب بعضهم : إلى أنها غير واجبة أصلا ، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة ، وممن قال : بأنها فرض في العمر مرة : الشافعي في الصحيح من مذهبه . قال النووي : وبه عمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وطاوس ، وعطاء ، وابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومسروق ، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي ، وعبد الله بن شداد ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وداود .

وممن قال : بأنها سنة في العمر ليست بواجبة : مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وحكاه ابن المنذر وغيره ، عن النخعي قاله النووي . وقال ابن قدامة في " المغني " : وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين . وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه . والرواية الثانية ليست بواجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي انتهى محل الغرض منه .

وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة : هل هي فرض في العمر ، أو سنة ؟ فدونك أدلتهم ، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها .

أما الذين قالوا : العمرة فرض في العمر ، فقد احتجوا بأحاديث :

منها : حديث أبي رزين العقيلي ، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه : " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ولا الظعن ، فقال : " حج عن أبيك واعتمر " ، رواه أحمد وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ومحل الدليل منه قوله : " واعتمر " ; لأنه صيغة أمر بالعمرة ، مقرونة بالأمر بالحج ، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك ، وذكر غير واحد عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه قال : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح .

ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية ، بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل ، لا إتمامها بعد الشروع ، [ ص: 229 ] وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا .

وأن الظاهر أن المتبادر منها : وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت : " الحج والعمرة فريضتان ، لا يضرك أيهما بدأت " اهـ .

ومن أدلتهم على وجوب العمرة : ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل : " وأن تحج وتعتمر " ، أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، وغيرهم . ورواه المجد في " المنتقى " ، بلفظ قال : " يا محمد ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان " ، الحديث . وأنه قال : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ، ثم قال المجد : رواه الدارقطني ، وقال : هذا إسناد ثابت صحيح . ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه " المخرج على الصحيحين " .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل على النساء من جهاد ؟ قال : " نعم عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " ، اهـ . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد وابن ماجه ، وإسناده صحيح ، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد : لا أعلم حديثا أجود في إيجاب العمرة منه ، وهو حديث أبي رزين العقيلي ، الذي فيه : " حج عن أبيك واعتمر " ، أن صيغة الأمر في قوله : " واعتمر " ، واردة بعد سؤال أبي رزين ، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال : إنما تقتضي الجواز لا الوجوب ; لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز ، والخلاف في هذه المسألة معروف .

وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه ، وأجابوا عن آية : وأتموا الحج ، بأن المراد بها : الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه ، وأجابوا عن حديث : " الحج والعمرة فريضتان " ، الحديث . بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف لا يحتج به . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ثم هو عن ابن سيرين ، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفا ، على زيد من طريق ابن سيرين ، وإسناده أصح ، وصححه الحاكم ، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن عطاء ، عن جابر ، وابن لهيعة ضعيف . وقال ابن عدي : [ ص: 230 ] هو غير محفوظ ، عن عطاء ، انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور : ليس بصالح للاحتجاج ، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل ، عن عمر مرفوعا بلفظ : " وأن تحج وتعتمر " ، بجوابين : أحدهما أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم ، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح ، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة .

والجواب الثاني : هو ما ذكر الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " ، في شرحه للحديث المذكور ، ونص كلامه : فإن قيل : إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام : يدل على الوجوب ، فيقال : ليس كل أمر من الإسلام واجبا . والدليل على ذلك : حديث شعب الإسلام ، والإيمان ، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع ، انتهى منه ، وله وجه من النظر .

وأجابوا عن حديث عائشة : بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة " ، بأن لفظة : " عليهن " : ليست صريحة في الوجوب ، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة ، وإذا كان محتملا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة ، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج ، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة .

هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ، ومناقشة مخالفيهم لهم .

أما القائلون : بأن العمرة سنة لا فرض ، فقد احتجوا أيضا بأدلة :

منها : ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والبيهقي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن جابر - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العمرة ، أواجبة هي ؟ فقال : " لا وأن تعتمر خير لك " ، وفي رواية : " أولى لك " ، وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله ، عن جابر بنحوه ، ورواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر . وقال ابن حجر في " التلخيص " ، وفي الباب عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : رواه الدارقطني ، وابن حزم والبيهقي ، وإسناده ضعيف . وأبو صالح : ليس هو ذكوان السمان ، بل هو : أبو صالح ماهان الحنفي ، كذلك رواه الشافعي ، عن سعيد بن سالم ، عن الثوري ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " ، ورواه ابن ماجه من حديث طلحة ، وإسناده ضعيف . والبيهقي من حديث ابن عباس ، ولا يصح من ذلك شيء .

[ ص: 231 ] واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة " .

هذا هو حاصل أدلة من قالوا : بأن العمرة غير واجبة .

وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم ، قالوا : أما حديث سؤال الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجوب العمرة ، وأنه أجابه : بأنها غير واجبة ، وأنه إن اعتمر تطوعا ، فهو خير له بأنه حديث ضعيف ، وتصحيح الترمذي له مردود ، ووجه ذلك أن في إسناده : الحجاج بن أرطاة ، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مرارا ، وقال ابن حجر في " التلخيص " : وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج ، فإن الأكثر على تضعيفه ، والاتفاق على أنه مدلس ، وقال النووي : ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه ، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه ، وقد نقل الترمذي ، عن الشافعي أنه قال : ليس في العمرة شيء ثابت : أنها تطوع . وأفرط ابن حزم فقال : إنه مكذوب باطل . انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور : إنه موقوف على جابر ، وقال كذلك : رواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر انتهى منه .

هذا هو حاصل حجج من قالوا : إن العمرة سنة لا واجبة .

وقال الشوكاني : في " نيل الأوطار " ، بعد أن ساق الأحاديث ، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه : قال الحافظ : ولا يصح من ذلك شيء ، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ويؤيده ما عند الطبراني : عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة ، فأجره كعمرة " ، إلى أن قال : والحق عدم وجوب العمرة ; لأن البراءة الأصلية ، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف ، ولا دليل يصلح لذلك ، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية : بعدم الوجوب ، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث " بني الإسلام على خمس " ، واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين ، لا يقل عن درجة الحسن لغيره ، فيجب الترجيح بينهما ، وقد رأيت الشوكاني [ ص: 232 ] رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية ، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية : ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه :

الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل : على الخبر المبقي على البراءة الأصلية ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر على إباحة . . . إلخ .

لأن معنى قوله : " وناقل " أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها . وعزاه في شرحه المسمى : " نشر البنود للجمهور " ، وهو المشهور عند أهل الأصول .

الثاني أن جماعة من أهل الأصول : رجحوا الخبر الدال على الوجوب ، على الخبر الدال على عدمه . ووجه ذلك : هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، المذكور آنفا :

ثم هذا الآخر . . . . على إباحة إلخ ; لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة : هو الخبر الدال على الأمر ، فالأول الدال على النهي ; لأن درء المفاسد ، مقدم على جلب المصالح ، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب ، فيدخل فيه المسنون والمندوب ; لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل .

الثالث : أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبا بواجب على قول جمع كثير من العلماء . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ويقول : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ، وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق . فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر ، على ما قاله جمع من أهل العلم .

[ ص: 233 ] الفرع الثاني : اعلم أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن " عمرة في رمضان تعدل حجة " . وفي بعض روايات الحديث في الصحيح : " حجة معي " .

الفرع الثالث : اعلم أن التحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعا ، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة ، إلا أربع عمر . الأولى : عمرة الحديبية في ذي القعدة ، من عام ست ، وصده المشركون ، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي ، كما هو معلوم .

الثانية : عمرة القضاء في ذي القعدة ، عام سبع : وهي التي وقع عليها صلح الحديبية .

وقد قدمنا في سورة " البقرة " وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه . الثالثة : عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان . الرابعة : العمرة التي قرنها ، مع حجة الوداع . هذا هو التحقيق .

وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرناه من أحكام العمرة ; لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج . والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وليوفوا نذورهم [ 22 \ 29 ] . صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة : تدل على وجوب الإيفاء بالنذر ، كما قدمنا مرارا أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب ، على الأصح ، إلا لدليل صارف عنه .

ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر : أنه تعالى أشار إلى أنه هو ، والخوف من أهوال يوم القيامة ، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] ، ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك ، فقال : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] ، فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال ، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه ، وكذلك قوله في سورة " البقرة " : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه الآية [ 2 \ 270 ] . وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن ، إن لم يكن وافيا بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة . ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به ، والذي لا يجب الإيفاء به .

اعلم أولا أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان :

الأولى : أن يكون فيه طاعة لله .

[ ص: 234 ] والثانية : ألا يكون فيه طاعة لله ، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما هو معصية لله .

والثاني : ما ليس فيه معصية في ذاته ، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به .

والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة أن المنذور إن كان طاعة لله ، وجب الإيفاء به ، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء ، أو ينذر ذبح هدي تطوعا أو صوم أيام تطوعا ، ونحو ذلك . فإن هذا ونحوه ، يجب بالنذر ، ويلزم الوفاء به . وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف ، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها ، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك .

أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، فلا أثر لنذره ; لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر ، وإن كان المنذور معصية لله : فلا يجوز الوفاء به ، وإن كان جائزا لا نهي فيه ، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به .

أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه ذلك .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، عن القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " اهـ . وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنع الإيفاء بنذر المعصية .

وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفا .

وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح ، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنعه في نذر المعصية .

فاعلم أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز : هو أنه ثبت أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:09 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (372)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 235 إلى صـ 242




قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم ، [ ص: 235 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد ، وليتم صومه " انتهى محل الغرض من صحيح البخاري . وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة ، وهو الصوم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإتمامه ، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحا لا طاعة ، كترك الكلام ، وترك القعود ، وترك الاستظلال ، أمره بعدم الوفاء به ، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به .

واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار ، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه ، وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . الحديث بطوله .

وفيه ما نصه : وأسرت امرأة من الأنصار ، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق ، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم ، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق ، فأتت الإبل ، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء ، فلم ترغ قال : وناقة منوقة فقعدت في عجزها ، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها ، فأعجزتهم قال : ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها . فلما قدمت المدينة ، رآها الناس فقالوا : العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له فقال : " سبحان الله ، بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك العبد " ، الحديث . ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولا فيما لا يملك العبد " ، وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا ، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " اهـ .

قال الحافظ في " بلوغ المرام " : رواه أبو داود والطبراني ، واللفظ له ، وهو صحيح الإسناد ، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد .
[ ص: 236 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذرا لا يلزم الوفاء به ، هل تلزمه كفارة يمين ، أو لا يلزمه شيء ؟ وحجة من قال : لا يلزمه شيء : هو حديث نذر أبي إسرائيل ، أنه لا يقعد ولا يتكلم ، ولا يستظل ، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا : أنه لا يفي بهذا النذر ، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين . وقد قدمنا هذا في سورة " مريم " ، موضحا . وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة ، على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه . فقد قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة ، وأما الذين قالوا : إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين ، فقد احتجوا بما رواه مسلم ، في صحيحه : وحدثني هارون بن سعيد الأيلي ، ويونس بن عبد الأعلى ، وأحمد بن عيسى ، قال يونس : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن شماسة ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كفارة النذر كفارة اليمين " اهـ ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به .

وقال النووي في " شرح مسلم " : اختلف العلماء في المراد به ، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج ، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا : إن كلمت زيدا مثلا ، فلله علي حجة ، أو غيرها ، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين ، وبين ما التزمه . هذا هو الصحيح في مذهبنا ، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله : علي نذر ، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية ، كمن نذر أن يشرب الخمر ، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر ، وقالوا : هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم ، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي .

ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى : وليوفوا نذورهم ، فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به ، وبين شيء آخر .

والأظهر عندي في معنى الحديث أن من نذر نذرا مطلقا كأن يقول : علي لله نذر ، أنه تلزمه كفارة يمين ، لما رواه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " ، وروى نحوه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس ، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم ، بأن المراد به : النذر [ ص: 237 ] المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره بل أطلقه ، والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام ، كما قدمناه مرارا ، والمطلق يحمل على المقيد .

ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه . وأنزل الله في ذلك : لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، قال الله بعد ذلك : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : بلزوم كفارة اليمين ، على القول بأنه حرم جاريته ، والأقوال فيمن حرم زوجته ، أو جاريته ، أو شيئا من الحلال معروفة عند أهل العلم . فغير الزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولا واحدا ، والخلاف في لزوم كفارة اليمين ، وعدم لزومها ، وظاهر الآية لزومها ، وبعض العلماء يقول : لا يلزم فيه شيء ، وهو مذهبمالك وأصحابه ، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته ، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهبا معروفة في محلها ، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار ; لأن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو بمثابة ما لو قال لها : أنت حرام ، والظهار نص الله في كتابه ، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة " المجادلة " .

أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول ، بأن فيه كفارة يمين ، والمراد بنذر اللجاج : النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا ، أو يحث به على شيء مثل أن يقول : إن كلمت زيدا ، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة ، فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه ، فلا يلزمه شيء ، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ، ويسمى نذر اللجاج ، والغضب ، ولا يتعين الوفاء به ، ثم قال : وهذا قول عمر وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وحفصة ، وزينب بنت أبي سلمة ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، وعكرمة ، والقاسم ، والحسن ، وجابر بن زيد ، والنخعي ، وقتادة ، وعبد الله بن شريك ، والشافعي ، والعنبري ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال سعيد بن المسيب : لا شيء في الحلف بالحج ، وعن الشعبي ، والحارث العكلي ، وحماد ، والحكم : لا شيء في الحلف بصدقة ماله ; لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم ، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه ; لأنه لم يخرجه مخرج القربة ، وإنما التزمه على طريق [ ص: 238 ] العقوبة ، فلم يلزمه . وقال أبو حنيفة ومالك : يلزمه الوفاء بنذره ; لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر . وروي نحو ذلك عن الشعبي .

ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " ، رواه سعيد بن منصور ، والجوزجاني في المترجم . وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف بالمشي والهدي ، أو جعل ماله في سبيل الله ، أو في المساكين ، أو في رتاج الكعبة ، فكفارته كفارة يمين " ، إلى أن قال : وعن أحمد رواية ثانية : أنه تتعين الكفارة ، ولا يجزئه الوفاء بنذره . وهو قول بعض أصحاب الشافعي ; لأنه يمين ، انتهى محل الغرض من " المغني " ، وروى أبو داود ، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة ، فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة رحم ، وفيما لا تملك " ، اهـ رواه أبو داود ، وسعيد بن المسيب : لم يصح سماعه من عمر . قاله بعضهم : وعليه فهو من مراسيل سعيد ، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - ، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد من عمر ، وأنه قال : إن لم نقبل سعيدا ، عن عمر ، فمن يقبل . والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب " تهذيب التهذيب " ، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر ، وحديث سعيد المذكور عن عمر : إما متصل ، وإما مرسل من مراسيل سعيد ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب ، فهو منقطع ، وروي نحوه عن عائشة : أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة . فقالت : يكفر عن اليمين . أخرجه مالك ، والبيهقي بسند صحيح . وصححه ابن السكن اهـ . ولفظ مالك في " الموطأ " : فقالت عائشة - رضي الله عنها - : يكفره ما يكفر اليمين ، وليس في " الموطأ " أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه : أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة وهو بابها وهو براء مكسورة ، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم .

وهذا الذي ذكرنا هو : حاصل حجة من قال : إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين ، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا ، خلافا لمن قال : لا شيء فيه . وأما نذر المعصية فلا خلاف في [ ص: 239 ] أنه حرام ، وأن الوفاء به ممنوع ، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به ، فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه ، وعن أحمد والثوري وإسحاق ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية : فيه الكفارة . وذكر الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك ، واحتج من قال : بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة الواردة بأنه : " لا نذر في معصية " ، ونفي نذر المعصية مطلقا يدل على نفي أثره ، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته ; لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع . وإن قلنا : إن الصيغة في قوله : " لا نذر في معصية " ، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية ، فالنهي يقتضي الفساد ، وإذا فسد المنذور بالنهي بطل معه تأثيره في الكفارة . قالوا : والأصل براءة الذمة من الكفارة . قالوا : ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه : " لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله " . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد ، وأبو داود . وفي لفظ عند أحمد : " إنما النذر ما ابتغي به وجه الله " ، وهو من رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وفي إسناده مناقشات تركناها اختصارا ، واحتج من قال : بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك .

منها : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ، قال المجد في " المنتقى " : رواه الخمسة ، واحتج به أحمد ، وإسحاق . ومعلوم أن مراده بالخمسة : الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، ولفظ أبي داود في هذا الحديث :

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " .

حدثنا ابن السرح قال : ثنا وهب عن يونس ، عن ابن شهاب بمعناه . وإسناده قال أبو داود : سمعت أحمد بن شبويه ، يقول : قال ابن المبارك : يعني في هذا الحديث : حدث أبو سلمة ، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة ، وقال أحمد بن محمد : وتصديق ذلك : ما حدثنا أيوب ، يعني ابن سليمان ، قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : أفسدوا علينا هذا الحديث ، قيل له : وصح إفساده عندك ، وهل رواه غير ابن أبي أويس ؟ قال : أيوب كان أمثل منه ، يعني : أيوب بن سليمان بن بلال ، وقد رواه أيوب .

حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، ثنا أيوب بن سليمان ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن [ ص: 240 ] أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره ، عن أبي سلمة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ، قال أحمد بن محمد المروزي : إنما الحديث حديث علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن الزبير ، عن أبيه ، عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه ، وحمله عنه الزهري ، وأرسله عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها . قال أبو داود : روى بقية عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه . وفيه سوء ظن كثير بالزهري ، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين : وهما سليمان بن أرقم ، ويحيى بن أبي كثير ، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور ، لا يصح ; لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة ، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه ، فحذف المتروك . ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية ، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها ، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده . وما ذكره بعضهم : من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما . وإن كان ضعيفا عند غيرهما . ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به .

والحاصل أن لزوم الكفارة في نذر المعصية ، جاءت فيه أحاديث متعددة ، لا يخلو شيء منها من كلام . وقد يقوي بعضها بعضا .

وقال الشوكاني : قال النووي في " الروضة " : حديث " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " ، ضعيف باتفاق المحدثين . قال الحافظ : قلت : قد صححه الطحاوي ، وأبو علي بن السكن ، فأين الاتفاق . انتهى منه . وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه ، ومناقشتها اختصارا . والأحوط لزوم الكفارة ; لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب . فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية ، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ، ومن لم يخرجها بقي مطالبا بها على قول أحمد ، ومن ذكرنا معه .
الفرع الثالث : اعلم أن من نذر شيئا من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به ، لعجزه عنه .

[ ص: 241 ] واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه ، فلو نذر مثلا أن يحج ، أو يعتمر ماشيا على رجليه ، وهو عاجز عن المشي : جاز له الركوب لعجزه عن المشي ، وإن قدر على المشي : لزمه .

وفي حالة ركوبه عند العجز ، اختلف العلماء فيما يلزمه ، فقال بعضهم : لا شيء عليه ; لأنه عاجز ، والله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر . وقال بعضهم : تلزمه كفارة يمين . وقال بعضهم : يلزمه صوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : تلزمه بدنة . وقال بعضهم : يلزمه هدي .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام ، لزمه الوفاء بنذره . وبهذا قال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " . ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة . وبه يقول الشافعي . ولا أعلم فيه خلافا ، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع : هو المشي في حج أو عمرة ، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي . ويلزمه المشي فيه لنذره ، فإن عجز عن المشي ركب ، وعليه كفارة يمين ، وعن أحمد رواية أخرى : أنه يلزمه دم ، وهو قول الشافعي . وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب ، وتهدي هديا . رواه أبو داود ، وفيه ضعف ; ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي ، كتارك الإحرام من الميقات . وعن ابن عمر وابن الزبير قالا : يحج من قابل ، بل ويركب ما مشى ، ويمشي ما ركب ونحوه . قال ابن عباس وزاد ، فقال : ويهدي ، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة ، وعن النخعي روايتان : إحداهما : كقول ابن عمر ، والثانية : كقول ابن عباس ، وهذا قول مالك . وقال أبو حنيفة : عليه هدي سواء عجز عن المشي ، أو قدر عليه . وأقل الهدي : شاة ، وقال الشافعي : لا يلزمه مع العجز كفارة بحال ، إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله الحرام ، فهل يلزمه هدي ؟ فيه قولان . وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء ، انتهى محل الغرض من " المغني " .

وإذا علمت أقوال أهل العلم فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عنه ، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه جمعها في محل واحد . أما من قال : تلزمه كفارة يمين فقد احتج بما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس - رضي الله [ ص: 242 ] عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نذر نذرا ولم يسمه ، فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين " اهـ .

قال الحافظ في " بلوغ المرام " : في حديث ابن عباس : هذا إسناده صحيح ، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه ، اهـ . كما تقدمت الإشارة إليه .

ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب ، عن ابن عباس قال : جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ; لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها " ، رواه أحمد ، وأبو داود ، وقال في " نيل الأوطار " : في هذا الحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح . والظاهر المتبادر أن المراد بالتكفير عن اليمين : هو كفارة اليمين المعروفة ، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح ; لأن أبا داود قال : حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ، ثنا أبو النضر ، ثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن كريب ، عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه ، فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب ، وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له ، وهو ثقة حافظ ، وطبقته الثانية : أبو النضر ، وهو هاشم بن القاسم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل ، ولقبه قيصر ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له الجميع . وطبقته الثالثة هي : شريك ، وهو ابن عبد الله بن أبي شريك النخعي ، أبو عبد الله الكوفي القاضي . أخرج له البخاري تعليقا ، وهو من رجال مسلم . وظاهر كلام ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أن مسلما إنما أخرج له في المتابعات ، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك ، وطبقته الرابعة : محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، وهو من رجال مسلم ، وهو ثقة . وطبقته الخامسة : كريب بن أبي مسلم الهاشمي ، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة ، وأنه أخرج له الجميع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:11 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (373)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 243 إلى صـ 250




هذا هو حاصل حجة من قال : إن على من نذر نذرا ، ولم يطقه كفارة يمين ، وأما الذين قالوا : عليه صيام ثلاثة أيام ، فقد احتجوا بما رواه أحمد ، وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن أخته نذرت أن تمشي حافية ، غير مختمرة ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " ، اهـ بواسطة نقل المجد في " المنتقى " . قال الشوكاني في هذا الحديث : حسنه [ ص: 243 ] الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور : أنه ثقة عنده ; لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولم يتعقب ذلك بشيء .

فقد قال أبو داود في هذا الحديث : حدثنا مسدد ، ثنا يحيى بن سعيد القطان قال : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري ، أخبرني عبيد الله بن زحر أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر أخبره : أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة ، فقال : " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " .

حدثنا مخلد بن خالد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا ابن جريج قال : كتبت إلى يحيى بن سعيد ، أخبرني عبيد الله بن زحر ، مولى لبني ضمرة ، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني ، أخبره بإسناد يحيى ، ومعناه ، اهـ من سنن أبي داود ، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور . وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية ; لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام ، إنما هو في الثقة والعدالة ، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي :
فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عينا حبتر أيما فتى
وقال ابن حجر في " التقريب " ، في ابن زحر المذكور : صدوق يخطئ ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم : المثني ، ومنهم القادح .

وحجة من قال إن عليه بدنة : هي ما رواه عكرمة ، عن ابن عباس أن عقبة بن عامر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة " ، رواه أحمد ، وأبو داود . وقال الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح : قال الحافظ في " التلخيص " : إسناده صحيح .

وحجة من قال : إن عليه هديا هي : ما رواه أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا أبو الوليد ، ثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديا . وقال الشوكاني في [ ص: 244 ] هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في " الموطأ " وفسر الهدي : ببدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، إن لم تجد غيرها .

هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم : فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عن فعله . والقول بالهدي والقول بالبدنة ، يمكن الجمع بينهما ; لأن البدنة هدي ، والخاص يقضي على العام .

وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك ، وأحوطها فيمن عجز عن المشي ، الذي نذره في الحج : البدنة ; لأنها أعظم ما قيل في ذلك ، وليس من المستبعد ، أن تلزم البدنة ، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين ; لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر . فحديث لزوم كفارة اليمين لم يصرح بعدم إجزاء البدنة ، وحديث الهدي لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلا وهكذا .

وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام . وظاهر النصوص العامة : أنه لا شيء عليه ; لأن الله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] قال الله : قد فعلت " . وفي رواية : نعم ، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .

الآية [ 2 \ 286 ] .
الفرع الرابع : في حكم الإقدام على النذر ، مع تعريفه لغة وشرعا .

اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن النذر لا ينبغي ، وأنه منهي عنه ، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به ، إن كان قربة كما تقدم .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثنا سعيد بن الحارث : أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : أولم ينهوا عن النذر ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر شيئا ، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل " . وفي البخاري ، عن ابن عمر قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر فقال : " إنه لا يرد شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له ; فيستخرج الله به من البخيل فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي عليه من [ ص: 245 ] قبل " ، اهـ من صحيح البخاري ، وهو صريح في النهي عن النذر ، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، قال إسحاق : أخبرنا ، وقال زهير : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الله بن مرة ، عن عبد الله بن عمر قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ينهانا عن النذر ويقول : " إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح " . وفي لفظ لمسلم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز يعني : الدراوردي ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تنذروا ، فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يرد من القدر ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج " ، انتهى من صحيح مسلم .

وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين ، عن ابن عمر وأبي هريرة : فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر ، وأنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل . وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف ; لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر ، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 5 - 7 ] ، وقوله تعالى : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه [ 2 \ 27 ] ، وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بنذر الطاعة كقوله تعالى في هذه الآية التي نحن بصددها : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح ، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم .

[ ص: 246 ] قال البخاري في صحيحه : حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن شعبة : حدثني أبو جمرة ، حدثنا زهدم بن مضرب ، قال : سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم " قال عمران : لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه : " ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، ويظهر فيهم السمن " ، اهـ من صحيح البخاري . وهو ظاهر جدا في إثم الذين لا يوفون بنذرهم ، وأنهم كالذين يخونون ، ولا يؤتمنون . وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، عن عمران بن حصين . وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا : فيه وجوب الوفاء بالنذر ، وهو واجب بلا خلاف ، وإن كان ابتداء النذر منهيا عنه : كما سبق في بابه ، انتهى محل الغرض منه .

ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر ، فذهب المالكية : إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائما كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم ، وذهب أكثر الشافعية : إلى أنه مكروه ، ونقله بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه . ونقل نحوه عن المالكية أيضا ، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد . وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم ، والجزم عن الشافعية بالكراهة . وجزم الحنابلة بالكراهة ، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم ، وتوقف بعضهم في صحتها ، وكراهته مروية عن بعض الصحابة . اهـ بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " . وجزم صاحب " المغني " : بأن النهي عنه نهي كراهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال ، الذي لا ينبغي العدول عنه أن نذر القربة على نوعين .

أحدهما : معلق على حصول نفع كقوله : إن شفى الله مريضي ، فعلي لله نذر كذا ، أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف ، فعلي لله نذر كذا ، ونحو ذلك .

والثاني : ليس معلقا على نفع للناذر ، كأن يتقرب إلى الله تقربا خالصا بنذر كذا من أنواع الطاعة ، وأن النهي إنما هو في القسم الأول ; لأن النذر فيه لم يقع خالصا للتقرب إلى الله ، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئا من القدر .

أما القسم الثاني : وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر ، فهو الذي فيه [ ص: 247 ] الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة ، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم .

وإنما قلنا : إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين :

الأول أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة ، دالة عليه ، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئا من القدر ، ولا يقدم شيئا ، ولا يؤخر شيئا ونحو ذلك . فكونه لا يرد شيئا من القدر قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل ، أو دفع ضر عاجل فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة ، وأن نذر الناذر لا يرد شيئا كتبه الله عليه ، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره ، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جدا كما ذكرنا .

الثاني أن الجمع واجب إذا أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة ، ولا يكون بينها خلاف ، ويؤيده أن الناذر الجاهل ، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه . هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال . وقد قال به غير واحد . والعلم عند الله تعالى .

تنبيه

فإن قيل : إن النذر المعلق كقوله : إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا فلله علي نذر كذا ، قد ذكرتم أنه هو المنهي عنه ، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة ، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه .

والجواب أن النص الصحيح دل على هذا ، فدل على النهي عنه أولا ، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك ، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإنما يستخرج به من البخيل " نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه ، وهو المصرح بالنهي عنه أولا ، ولا غرابة في هذا ; لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان . فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء ، وهي شرط حصول النفع فيه ، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها ، وهو إخراج المنذور تقربا لله وصرفه في طاعة الله ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحبا واجبا عليه قضاؤه ، ومنه قول لبيد : [ ص: 248 ]
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل


وحاصله : أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازما لها ، فيجعله واجبا عليها وهو في اصطلاح الشرع : التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه . وقال ابن الأثير في " النهاية " : يقال : نذرت أنذر وأنذر نذرا إذا أوجبت على نفسي شيئا تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك . وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه ، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية . فلا يلزم ، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ، ولا يصرف عنهم ضرا ، ولا يرد قضاء . فقال : لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم ، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم ، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء ، فإن الذي نذرتموه لازم لكم ، اهـ الغرض من كلام ابن الأثير . وقد قاله غيره ، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث .

فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن تعريف المالكية للنذر شرعا : بأنه التزام مسلم مكلف ، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران :

الأول أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر ; لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك ، ولو كان لغوا غير منعقد ، لما كان له أثر بعد الإسلام .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : " أوف بنذرك " ، انتهى منه . فقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر في هذا الحديث الصحيح : " أوف بنذرك " مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى ، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم . وقول المالكية في تعريف النذر ، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان ، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقا .

الفرع الخامس : اعلم أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقربا لله في محل [ ص: 249 ] معين ، فلا بأس بإيفائه بنذره ، بأن ينحر في ذلك المحل المعين ، إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد ، أو عيد من أعياد الجاهلية . ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثنا يعبد ، أو عيدا من أعياد الجاهلية : أنه لا يجوز النحر فيه .

قال أبو داود في سننه : حدثنا داود بن رشيد ، ثنا شعيب بن إسحاق ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني ثابت بن الضحاك ، قال : نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : " هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " انتهى منه .

وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى ، وأنه لا يجوز بحال ، والعلم عند الله تعالى . وإسناد الحديث صحيح .
الفرع السادس : اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه ، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصارا لصحته ، وثبوته .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره : " أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه ، فتوفيت قبل أن تقضيه ، فأفتاه أن يقضيه عنها فكانت سنة بعد " اهـ من صحيح البخاري .

وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج ، أنه يقضى عنه كما تقدم إيضاحه ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة .

تنبيه

اعلم أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر . قال البخاري في صحيحه : باب من مات وعليه نذر ، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال : صلي عنها . وقال ابن عباس نحوه ، اهـ من البخاري . وفي " الموطأ " عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته : أنها حدثته ، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء ، فماتت ولم تقضه ، فأفتى [ ص: 250 ] عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها . قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : لا يمشي أحد عن أحد ، اهـ من " الموطأ " . وقال الزرقاني ، في شرحه : قال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة . قال ابن عبد البر يعني : لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر . وأما المتطوع ، فقد روى مالك فيما مر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكبا وماشيا ، وأن إتيانه مرغب فيه . اهـ فيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي عليه جمهور أهل العلم ، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحد عن أحد ، أما الصوم والحج عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما . وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت ، والعلم عند الله تعالى . وفي " الموطأ " عن مالك ، بعد أن ذكر حديث : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام ، أو إلى مصر ، أو إلى الربذة ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة ، إن كلم فلانا أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه ، أو حنث بما حلف عليه ; لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة . وإنما يوفى لله بما له فيه طاعة ، اهـ . من " الموطأ " .
الفرع السابع : الأظهر عندي أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله ، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع ، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ، والزهري . وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا : هو ما ذكرنا ، ويليه في الظهور عندنا قول من قال : يلزمه صرفه كله ، وهو مروي عن الشافعي والنخعي ، وعن أحمد رواية أخرى أن عليه كفارة يمين ، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة ، وعن جابر بن زيد ، وقتادة : إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشره ، وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعه ، وإن كان قليلا ، وهو خمسمائة تصدق بخمسه ، وعن أبي حنيفة : يتصدق بالمال الزكوي كله ، وعنه في غيره روايتان .

إحداهما : يتصدق به .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:13 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (374)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 251 إلى صـ 258




والثانية : لا يلزم منه شيء ، وعن النخعي ، والبتي ، والشافعي : يتصدق بماله كله ، وعن الليث : إن كان مليا لزمه ، وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين ، ووافقه ابن وهب ، وزاد : وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضا عن أبي حنيفة ، وهو قول ربيعة كما تقدم . وعن الشعبي : لا يلزم شيء أصلا ، وقيل : يلزم الكل إلا في نذر اللجاج ، فكفارة [ ص: 251 ] يمين ، وعن سحنون : يلزمه إخراج ما لا يضر به . وعن الثوري والأوزاعي وجماعة : يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة :

فاعلم : أن أكثرها لا يعتضد بدليل ، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب :

الأول : هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا ، وهو الاكتفاء بالثلث .

والثاني : لزوم الصدقة بالمال كله .

والثالث : قول سحنون : أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به ، أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله ، وفيها أن الثلث كثير .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب إذا أهدى ماله على وجه النذر ، والتوبة : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ 9 \ 118 ] فقال في آخر حديثه : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " اهـ .

فظاهر هذا الحديث الصحيح : أن كعبا غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة ، كما في ترجمة الحديث ، وقد أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يمسك بعض ماله ، وصرح له بأن ذلك خير له ، وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين ، وأنه يتصدق بالثلث ، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند ، فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر ، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب ، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند ، عند أبي داود : " إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال : لا ، قلت : فنصفه ؟ قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ، قلت : فإني سأمسك سهمي في خيبر " .

واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود ، صرح بالتحديث عن الزهري ، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر : وأخرج من طريق ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن [ ص: 252 ] كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث وفيه : وإني أنخلع من مالي كله صدقة ، قال : " يجزئ عنك الثلث " وفي حديث أبي لبابة ، عند أحمد وأبي داود مثله اهـ محل الغرض من فتح الباري .

وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال ، وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ ; لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد ، الذي هو إن المكسورة في قوله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، واللفظ الذي هذه صفته ، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة ، كما ترى فقوله - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن مالك وأبي لبابة : إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال ، هو الدليل الذي ذكرنا بسببه : أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث . وأما قول من قال : يلزمه التصدق بجميعه ، فيستدل له بالحديث الصحيح : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وهو يدل على إيفائه بنذره ، ولو أتى على كل المال ، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم .

وأما قول سحنون : يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو الآية [ 2 \ 216 ] ; لأن العفو في أصح التفسيرين ، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق ، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية ، وهذا قد يرجع إلى الأول ; لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه ، فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلا متجها من كتاب ، ولا سنة ، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن : اعلم أنه قد دل النص الصحيح ، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة ، أو الكوفة أو نحو ذلك : لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد ، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به ، والنص الصحيح المذكور هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس " ، والجاري على الأصول : أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح ، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة . والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء ، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته ، لأنهما أفضل منه .

وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم ، عن [ ص: 253 ] عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله : أن رجلا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : " صل ههنا ثم أعاد عليه ، فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذا " قال أبو داود : وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس " اهـ ، والعلم عند الله تعالى .

ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها ، والنذر باب مذكور في كتب الفروع ، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله ، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة ، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق .

في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال :

الأول : أن المراد به القديم ، لأنه أقدم مواضع التعبد .

الثاني : أن الله أعتقه من الجبابرة .

الثالث : أن المراد بالعتق فيه الكرم ، والعرب تسمي القديم عتيقا وعاتقا ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :
كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام

لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنا طويلا ، وتسمي الكريم عتقا ومنه قول كعب بن زهير :
قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل


فقوله : عتق مبين : أي كرم ظاهر ، ومنه قول المتنبي :


ويبين عتق الخيل في أصواتها
أي كرمها ،
والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق
، وهو معروف .

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنه قد دلت آية من كتاب الله ، على أن العتيق في الآية [ ص: 254 ] بمعنى القديم الأول وهي قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا الآية [ 3 \ 96 ] مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق ، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

تنبيهان

الأول : دلت هذه الآية الكريمة ، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه .

الثاني : دلت هذه الآية أيضا على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت ; لأن أصله من البيت ، فهو داخل في اسم البيت العتيق ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام ، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب ، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا : إلا ما يتلى عليكم [ 22 ] أنها قوله تعالى في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة الآية [ 5 \ 3 ] فهو غلط ، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير ، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله : إلا ما يتلى عليكم بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة ، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد .

أما قوله تعالى في المائدة : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم [ 5 \ 1 ] فيصح بيانه بقوله في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم الآية [ 5 \ 3 ] ، كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان . " من " في هذه الآية بيانية .

والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان : أي [ ص: 255 ] عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس ، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان ، ويدخل في حكمها ، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائنا من كان ، وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا ، جاء مبينا في آيات كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] وبين تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله ، وبين أن لهم البشرى ، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى الآية [ 39 \ 17 ] ، وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت ، في قوله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] والأصنام تدخل في الطاغوت دخولا أوليا .
قوله تعالى : واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ، أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور ، وهو الكذب والباطل كقولهم : إن الله حرم البحيرة والسائبة ، ونحو ذلك ، وكادعائهم له الأولاد والشركاء ، وكل قول مائل عن الحق فهو زور ، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل ، والاعوجاج ، كما أوضحناه في الكلام على قوله : تزاور عن كهفهم الآية [ 18 \ 17 ] .

واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وتقدمت لذلك أمثلة ، وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه .

وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال : واجتنبوا قول الزور بصيغة عامة ، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا [ 25 \ 4 ] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور ، وقال في الذين يظاهرون من نسائهم ، ويقول الواحد منهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا [ 58 \ 2 ] فصرح بأن قولهم ذلك ، منكر وزور ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس [ ص: 256 ] فقال : " ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " اهـ وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله :

واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به [ 22 - 31 ] وكما أنه جمع بينهما هنا ، فقد جمع بينهما أيضا في غير هذا الموضع كقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] لأن قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون هو قول الزور ، وقد أتى مقرونا بقوله : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وذلك يدل على عظمة قول الزور ; لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور ، كادعائهم الشركاء ، والأولاد لله ، وكتكذيبه - صلى الله عليه وسلم - فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله ، نعوذ بالله من كل سوء .

ومعنى حنفاء : قد قدمناه مرارا مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك ، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال ، لأنه شبهه بالذي خر : أي سقط من السماء إلى الأرض ، فتمزقت أوصاله ، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق : أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة ، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة ، فهو هالك لا محالة ; لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال ، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها ، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص ، جاء موضحا في مواضع أخر كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار الآية [ 5 \ 73 ] ، وكقوله : قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ 4 \ 48 ] في الموضعين من سورة النساء ، والخطف : الأخذ بسرعة والسحيق : البعيد ، ومنه قوله تعالى : فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] [ 67 \ 11 ] أي بعدا لهم .

وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن [ ص: 257 ] يشرك بالله ، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك ، ولم يتب منه قبل حضور الموت ، أما من تاب من شركه قبل حضور الموت ، فإن الله يغفر له ; لأن الإسلام يجب ما قبله .

والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] وقوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الآية [ 25 \ 68 - 70 ] وقوله في : الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] وقوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 2 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت ، فإنها لا تنفعه .

وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 \ 18 ] فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه ، عند حضور الموت وكقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [ 40 \ 84 - 85 ] وكقوله في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله : فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر .
قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، قد ذكرنا قريبا أنا ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، فيكون ذلك الفرد قطعي الدخول لا يمكن إخراجه بمخصص ، وواعدنا بذكر بعض أمثلته في هذه الآيات ، ومرادنا بذلك هذه الآية الكريمة ; لأن قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] عام في جميع شعائر الله ، وقد نص تعالى على أن البدن فرد من [ ص: 258 ] أفراد هذا العموم ، داخل فيه قطعا وذلك في قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] فيدخل في الآية تعظيم البدن واستسمانها واستحسانها كما قدمنا عن البخاري : أنهم كانوا يسمنون الأضاحي ، وكانوا يرون أن ذلك من تعظيم شعائر الله ، وقد قدمنا أن الله صرح بأن الصفا والمروة داخلان في هذا العموم بقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية : يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة كما تقدم إيضاحه في مبحث السعي ، وقوله في هذه الآية ذلك فيه ثلاثة أوجه من الإعراب .

الأول : أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف : أي ذلك حكم الله وأمره .

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف : أي اللازم ذلك أو الواجب ذلك .

الثالث : أن يكون في محل نصب بفعل محذوف ، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك ، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قال زهير :


هذا وليس كمن يعي بخطته وسط الندى إذا ما قائل نطقا


قاله القرطبي وأبو حيان والضمير المؤنث في قوله : فإنها من تقوى القلوب قال القرطبي : هو عائد إلى الفعلة التي يتضمنها الكلام ، ثم قال : وقيل إنه راجع إلى الشعائر بحذف مضاف أي : فإن تعظيمها أي الشعائر فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه فرجع الضمير إلى الشعائر ، اهـ ، وقال الزمخشري في الكشاف : فإنها من تقوى القلوب أي : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى " من ليرتبط به ، اهـ منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:17 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (375)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 259 إلى صـ 266



قوله تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ، أمر الله - جل وعلا - - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله ، وجلت قلوبهم أي : خافت من الله - جل وعلا - وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى ، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته ، وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا ، يجعلهم جديرين بالبشارة [ ص: 259 ] المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية [ 8 \ 2 ] وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به ، وذلك في قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .

واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي : خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره - جل وعلا - ، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره - جل وعلا - ، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره ، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، وصدق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطمأنينتهم بذلك قوية ; لأنها لم تتطرقها الشكوك ، ولا الشبه ، والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى ، وعدم تقبل الأعمال ; كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] وقال تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] وقال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية ، وأمر بإطعام البائس الفقير منها ، وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها ، وما كان من الإبل ، فهو من البدن بلا خلاف .

واختلفوا في البقرة ، هل هي بدنة ، وقد قدمنا الحديث الصحيح : أن البقرة من البدن ، وقدمنا أيضا ما يدل على أنها غير بدنة ، وأظهرهما أنها من البدن ، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي : أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ :


لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع


[ ص: 260 ] يعني أعف من سؤال الناس ، والطمع فيهم ، وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضا للإعطاء من غير سؤال وطلب ، والله أعلم . وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا ، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ، قوله كذلك : نعت لمصدر أي : البدن لكم تسخيرا كذلك أي : مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون أي : ذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب ، وحلب وغير ذلك من المنافع ، ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها ; لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير ، إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه ، ولا متمكن من الانتفاع به ، وقوله هنا : لعلكم تشكرون قد قدمنا مرارا أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها ، اثنان : أحدهما : أنها بمعناها الأصلي ، الذي هو الترجي والتوقع ، وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق ; لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع ، بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور ، وليس هذا المعنى في حق الله تعالى ; لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه - جل وعلا - إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك ، وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب ، وقد قال تعالى لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى ، مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى ، فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق ، لا إلى الخالق - جل وعلا - ، المعنى الثاني : هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم ، قال : كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] قال : فهي بمعنى : كأنكم تخلدون ، وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب ، وقد قدمناه موضحا مرارا وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر :


فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق


يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف ، وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه ، تستوجب الشكر لقوله : لعلكم تخلدون .

فاعلم : أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 261 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 22 \ 36 ] وقوله في آية " يس " : هذه : أفلا يشكرون كقوله في آية " الحج " : لعلكم تشكرون ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريبا : كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم الآية [ 22 \ 37 ] ، وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده ، مرارا بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير : التذليل .
قوله تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيمانا حقا ، ويكفيهم شر أهل السوء ، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه الآية [ 65 \ 3 ] ، وقوله : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم [ 9 \ 14 - 15 ] وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقوله : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو : إن الله يدافع عن الذين آمنوا بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء ، ; لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره ، وقرأ الباقون : يدافع بضم الياء ، وفتح الدال بعدها ألف ، وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل ، وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف ، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر ، والله - جل وعلا - يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئا .

والجواب : هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد ، نحو : جاوزت المكان بمعنى جزته ، وعاقبت اللص ، وسافرت ، وعافاك الله ، ونحو ذلك ، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد ، وعليه فقوله : يدافع بمعنى : يدفع ، كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقال الزمخشري : ومن قرأ يدافع فمعناه : يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه ; لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اهـ منه ، ولا يبعد عندي أن يكون [ ص: 262 ] وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين ، وإيذائهم ، والله - جل وعلا - يدفع كيدهم عن المؤمنين ، فكان دفعه - جل وعلا - لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد ، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة ، في قوله : يدافع ، وإن كان - جل وعلا - قادرا على إهلاكهم ، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين ، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها

وليغلبن مغالب الغلاب


والعلم عند الله تعالى : ومفعول يدافع : محذوف فعلى القول بأنه بمعنى : يدفع فقد ذكرنا تقديره ، وعلى ما أشرنا إليه أخيرا فتقدير المفعول : يدافع عنهم أعداءهم ، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم .
وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور ، صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : بأنه لا يحب كل خوان كفور ، والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة ; لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة ، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل ، فلو قلت : زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته ، في قتلهم ، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل ، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة ، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة ، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما ، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقا ، والكافر مطلقا ، وقد أوضح - جل وعلا - ذلك في بعض المواضع ، فقال في الخائن : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وقال في الكافر : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة أي : أذن لهم في القتال بدليل قوله : يقاتلون ، وقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أذن للذين يقاتلون وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ودل قوله : يقاتلون : على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له ، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره [ ص: 263 ] بدليل قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض الآية [ 24 \ 61 ] ، وقوله - جل وعلا - : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] وقوله : بأنهم ظلموا الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل ، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة ، وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء ، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ، ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار ، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية ، وقد قالت جماعة من أهل العلم : إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع ، إذا أراد أن يشرع أمرا شاقا على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج ; لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة ، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد ، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت ; لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة ، وإن كان الأجل محدودا عند الله تعالى كما قال تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم ، بقوله : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب [ 4 \ 77 ] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت ، فإنه ينفق فيه المال أيضا كما قال تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم [ 61 \ 11 ] قالوا : ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة ، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجا ، فأذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 \ 39 ] ، ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه ، أوجب عليهم فقال : من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية [ 2 \ 190 ] ، وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب ، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابا عاما جازما في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 \ 5 ] وقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 \ 36 ] وقوله : [ ص: 264 ] تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم : أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالا غير ما ذكرنا ، ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة ، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده ، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجا ، فذكر أولا بعض معائبها كقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إثما أكثر مما فيها من النفع ، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] ، فكانوا بعد نزولها ، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة ، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ; لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة ، وكذلك ما بين الصبح والظهر ، وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات ، فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريما عاما جازما بقوله : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] وكذلك الصوم ، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة الفرج والبطن شاقا على النفوس ، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجا فخير أولا بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ 2 \ 184 ] فلما استأنست النفوس به في الجملة ، أوجبه أيضا إيجابا عاما جازما بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 \ 185 ] وقال بعض أهل العلم : التدريج في تشريع الصوم على ثلاثة مراحل كما قبله قالوا : أوجب عليهم أولا صوما خفيفا لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر ، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجا على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفا ، هكذا قالته جماعات من أهل العلم ، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن الله على نصرهم لقدير يشير إلى معنيين .

أحدهما : أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه ، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريبا : إن الله يدافع عن الذين آمنوا [ 22 \ 38 ] .

والمعنى الثاني : أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال [ ص: 265 ] لقدرته على إهلاكهم بما شاء ، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم ، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها : اختبار الصادق في إيمانه ، وغير الصادق فيه ، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين ، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله ، كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ 47 \ 4 ] وكقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ 3 \ 179 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 9 \ 16 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] وقوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ 47 \ 31 ] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور ، وتسهيل الشهادة في سبيله : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [ 3 \ 140 - 141 ] وقرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وعاصم : " أذن " بضم الهمزة وكسر الذال مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون : بفتح الهمزة مبنيا للفاعل أي : أذن الله للذين يقاتلون ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ، عن عاصم : " يقاتلون " بفتح التاء مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنيا للفاعل .
قوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة " براءة " في الكلام على قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] .

قوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أقسم لينصرن من ينصره ، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم ، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته - جل وعلا - هي العليا ، وكلمة أعدائه هي السفلى ، ثم إن الله - جل وعلا - بين صفات الذين وعدهم بنصره لتمييزهم عن غيرهم فقال [ ص: 266 ] مبينا من أقسم أنه ينصره ; لأنه ينصر الله - جل وعلا - : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر الآية [ 22 \ 41 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة : من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم [ 47 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات وفي قوله تعالى : الذين إن مكناهم في الأرض الآية [ 22 \ 41 ] ، دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر ، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم ، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر ; لأنهم ليسوا من حزبه ، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر ، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه ، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه ، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه ، ثم يطلب الأجرة ، ومن هذا شأنه فلا عقل له ، وقوله تعالى : إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء ، كما قدمناه مرارا بشواهده العربية ، وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ; لأن الله نصرهم على أعدائهم ، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وقد مكن لهم ، واستخلفهم في الأرض كما قال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:19 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (376)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 267 إلى صـ 274



قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام ، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى [ ص: 267 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك الآية [ 11 \ 120 ] ، وقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] وقوله : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك الآية [ 35 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات . وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها .

الأولى : قوم نوح في قوله : فقد كذبت قبلهم قوم نوح [ 22 \ 42 ] والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن ، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله : كذبت قوم نوح المرسلين [ 26 \ 105 ] وقوله : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر [ 54 \ 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الثانية : عاد ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هودا ، كقوله تعالى : كذبت عاد المرسلين [ 26 \ 123 ] وقوله : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين [ 11 \ 53 ] .

الثالثة : ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كذبت ثمود المرسلين [ 26 \ 141 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الرابعة : قوم إبراهيم ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار [ 29 \ 24 ] وقوله : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم الآية [ 21 \ 68 ] ، وكقوله : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 19 \ 46 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الخامسة : قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة ; كقوله : كذبت قوم لوط المرسلين [ 26 \ 160 ] وقوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

السادسة : أصحاب مدين ، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيبا في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله : ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 95 ] وقوله : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إلى قوله : [ ص: 268 ] قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 84 - 87 ] وقوله : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك الآية [ 11 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

السابعة : من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة ; كقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] وقوله : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [ 26 \ 18 - 19 ] وقوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم ، بعد الإملاء لها والإمهال ، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة ; كقوله تعالى : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] وقوله : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر [ 54 \ 11 - 12 ] وقوله : ثم أغرقنا بعد الباقين [ 26 \ 120 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم ; كقوله تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية الآيات [ 69 \ 6 ] وقوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 54 \ 41 - 42 ] وقوله : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ 46 \ 24 - 25 ] إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعا ; كقوله فيهم : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 67 ] وقوله : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون الآية [ 41 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ ، وقومه ، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل : قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون [ 16 \ 26 ] وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها ، وأنه [ ص: 269 ] أرسل عليهم مطرا من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله ; تعالى : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل [ 11 \ 82 ] ونحو ذلك من الآيات ، وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع ; كقوله فيهم : وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى ، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله : واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 \ 24 ] وقوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم الآية [ 20 \ 78 ] وقوله تعالى : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة ، وقد ذكرنا قليلا منها كالمثال لغيره ، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم [ 22 \ 44 ] أي : بالعذاب ، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف كان نكير النكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار أي : كيف كان إنكاري عليهم منكرهم ، الذي هو كفرهم بي ، وتكذيبهم رسلي ، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا ، ويستوجب عقوبته ، والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه ; لأن الجزاء من جنس العمل ، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه ، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه ، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع : فكيف كان نكير بياء المتكلم بعد الراء وصلا فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء .
قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيرا من القرى في حال كونها ظالمة أي : بسبب ذلك الظلم ، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله ، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة ، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها . [ ص: 270 ] وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية : جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا [ 65 \ 8 - 10 ] وقوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهي خاوية على عروشها [ 22 \ 45 ] العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء :
كان أبو حسان عرشا خوى مما بناه الدهر دان ظليل


والمعنى : أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات ، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين ، وهو الجص ، وقيل المشيد : الرفيع الحصين ، كقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] أي : حصون رفيعة منيعة ، والظاهر أن قوله : وبئر معطلة معطوف على قرية أي : وكأين من قرية أهلكناها ، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها ، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه ، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل . وفي هذه الآية وأمثالها : تهديد لكفار قريش الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - ، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها .
تنبيه

يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : فهي خاوية على عروشها يدل على تهدم أبنية أهلها ، وسقوطها وقوله : وقصر مشيد يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في جواب هذا السؤال : أن قصور القرى التي أهلكها الله ، وقت نزول هذه الآية منها ما هو متهدم كما دل عليه قوله : فهي خاوية على عروشها ومنها ما هو قائم باق على بنائه ، كما دل عليه قوله تعالى : وقصر مشيد وإنما استظهرنا هذا الجمع ; لأن القرآن دل عليه ، وخير ما يفسر به القرآن [ ص: 271 ] القرآن ، وذلك في قوله - جل وعلا - في سورة هود : ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد [ 11 \ 100 ] فصرح في هذه الآية بأن منها قائما ، ومنها حصيدا .

وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن : أن القائم هو الذي لم يتهدم ، والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه ، ونظيره من كلام العرب قوله :
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد


وفي معنى القائم والحصيد ، أقوال أخر غير ما ذكرنا ، ولكن ما ذكرنا هو أظهرها ، وذكر الزمخشري ما يفهم منه وجه آخر للجمع ، وهو أن معنى قوله : " خاوية " : خالية من أهلها من قوله : خوى المكان إذا خلا من أهله ، وأن معنى : " على عروشها " : أن الأبنية باقية أي : هي خالية من أهلها مع بقاء عروشها قائمة على حيطانها ، وما ذكرناه أولا هو الصواب إن شاء الله تعالى .

وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن : أن لفظ القرية يطلق تارة على نفس الأبنية ، وتارة على أهلها الساكنين بها ، فالإهلاك في قوله : أهلكناها ، والظلم في قوله : وهي ظالمة : يراد به أهلها الساكنون بها وقوله : فهي خاوية على عروشها يراد به الأبنية كما قال في آية : واسأل القرية التي كنا فيها [ 12 \ 82 ] وقال في أخرى : حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها [ 18 \ 77 ] .

وقد بينا في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز : أن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص ، ومجاز الزيادة ، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين ، وأقمنا الدليل على ذلك ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير : وكائن بألف بعد الكاف ، وبعد الألف همزة مكسورة ، فنون ساكنة وقرأه الباقون : وكأين بهمزة مفتوحة بعد الكاف بعدها ياء مكسورة مشددة فنون ساكنة ، ومعنى القراءتين واحد ، فهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان سبعيتان صحيحتان .

وأبو عمرو يقف على الياء ، والباقون يقفون على النون ، وقرأ أبو عمرو : " أهلكتها " بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف ، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف ، وبعد النون ألف ، والمراد بصيغة الجمع ، على قراءة الجمهور التعظيم ، كما هو واضح ، وقرأ ورش والسوسي و ( بير ) بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة .
[ ص: 272 ] مسألة

اعلم أن كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما ، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب ، وهي قراءة الجمهور كما بينا ، وكائن بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب ، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا ، ومعنى كأين : كمعنى كم الخبرية ، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان :

الأولى : أن يجر بمن وهي لغة القرآن كقوله : وكأين من قرية [ 65 \ 8 ] وقوله وكأين من نبي الآية [ 3 \ 146 ] وكأين من آية في السماوات والأرض الآية [ 12 \ 105 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله :
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصابا


الحالة الثانية : أن ينصب ومنه قوله :
وكائن لنا فضلا عليكم ومنة قديما ولا تدرون ما من منعم


وقول الآخر :
اطرد اليأس بالرجاء فكائن آلما حم يسره بعد عسر


قال في الخلاصة :
ككم كأين وكذا وينتصب تمييز ذين أو به صل من تصب


أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك ، وابن قتيبة ، وابن عصفور ، واستدل له ابن مالك بما روي عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين اهـ .

واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه ، وأي المنونة ، قال بعضهم : ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور ; لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم في المصحف نونا وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل ، وهو حذفه في الوقف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي أن كأين بسيطة ، وأنها كلمة [ ص: 273 ] وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو : كم ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة ، ومن الدليل على أنها بسيطة : إثبات نونها في الخط ; لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط ، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل ، واختار أبو حيان أنها غير مركبة ، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات ، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما ، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان ; لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور ، واللغة الثالثة فيها : كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة ، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة ، الخامسة : كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اهـ ، ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة .

والله تعالى أعلم .

واعلم : أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة ، والقصر المشيد معروفان ، وأنهما بحضرموت ، وأن القصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئا سقط فيها إلا أخرجته ، وما يذكرونه أيضا من أن البئر هي : الرس ، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له : حضور ، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح ، فسمي المكان حضرموت ; لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم رجلا يقال له : العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم ، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة ، فأقاموا دهرا ، وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها ، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ; لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم ، وحياض للبقر ، ولم يكن لهم ماء غيرها ، وآل بهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير ، وأن الشيطان دخل في جثته ، وزعم لهم أنه هو الملك ، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجابا ، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت ، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبيا اسمه : حنظلة بن صفوان يوحى إليه في النوم دون اليقظة ، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات ، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم ، وحذرهم عقاب ربهم ، فقتلوا نبيهم المذكور في [ ص: 274 ] السوق ، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله ، فأصبحوا والبئر غار ماؤها ، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم ، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش ، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية ، كله لا معول عليه ; لأنه من جنس الإسرائيليات ، وظاهر القرآن يدل على خلافه ، لأن قوله : وكأين من قرية [ 22 \ 48 ] معناه : الإخبار بأن عددا كبيرا من القرى أهلكهم الله بظلمهم ، وأن كثيرا من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها ، وأن كثيرا من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم ; لأن مميز كأين ، وإن كان لفظه مفردا فمعناه يشمل عددا كثيرا كما هو معلوم في محله .

وقال أبو حيان في " البحر المحيط " وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا فكيف يكون بحضرموت ، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام ، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك ، ومن المستبعد أن يقطع صالح ، ومن آمن من قومه هذه المسافة الطويلة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك ، كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة الذين كذبوا نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ; لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح ، وأماكن قوم لوط ، وأماكن قوم هود ، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب ، لتكذيبهم رسلهم ، وكفرهم بربهم ، فيدركون بعقولهم : أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية ، قد عم أهلها الهلاك ، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم ، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير ، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:22 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (377)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 275 إلى صـ 282




والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم [ 47 \ 10 ] ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله : وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] وكقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] [ ص: 275 ] وكقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم الآية [ 15 \ 76 ] ، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب : أصحاب الأيكة [ 50 \ 14 ] وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ; لأن معنى الآيتين : أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام ، والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا منها جملا كافية في سورة المائدة وغيرها .

والآية تدل على أن محل العقل : في القلب ، ومحل السمع : في الأذن ، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلا في الإنسان ; لأنه زماني فقط لا مكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى .

قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى الآية [ 17 \ 72 ] ، مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغيانا وعنادا .

والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن ; كقوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] وقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله : ما عندي ما تستعجلون به [ 6 \ 57 ] وفي يونس في الكلام على قوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 15 ] إلى غير ذلك من المواضع .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يخلف الله وعده الظاهر أن المراد بالوعد هنا : هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله .

[ ص: 276 ] والمعنى : هو منجز ما وعدهم به من العذاب ، وإذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] وقوله تعالى : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] وقوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر .

ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] فإنه قال في هذه الآية في النار : وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد ، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية ، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة ، وأنه لا يخلف وعده بذلك ، جاء مبينا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " ق " قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 ] والصحيح أن المراد بقوله : ما يبدل القول لدي أن ما أوعد الكفار به من العذاب ، لا يبدل لديه ، بل هو واقع لا محالة ، وقوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] أي : وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كما أوضحناه في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، وأوضحنا أن ما أوعد به الكفار لا يخلف بحال ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، أما ما أوعد به عصاة المسلمين ، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية [ 4 \ 48 ] .

وبالتحقيق الذي ذكرنا : تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا ، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير ، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله ، وأما إن كان المتوعد به شرا ، فإنه وعيد وإيعاد ، قالوا : إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، وذكروا عن الأصمعي أنه قال : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو ، هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا ، فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما ، أما سمعت قول الشاعر : [ ص: 277 ]
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا انثنى عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي


فيه نظر من وجهين .

الأول : هو ما بيناه آنفا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار ، والعذاب كقوله تعالى : النار وعدها الله الذين كفروا [ 22 \ 72 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده [ 22 \ 47 ] ; لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه ، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به لهم ، لأنه مقترن بقوله : ويستعجلونك بالعذاب [ 22 \ 47 ] فتعلقه به هو الظاهر .

الثاني : هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال ; لأن ادعاء جواز إخلافه ، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرما يبطله أمران :

الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلا ، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم ، وهذا لا شك في بطلانه .

الثاني : ما ذكرنا من الآيات الدالة : على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب ، كقوله : قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 - 29 ] وقوله تعالى فيهم : فحق وعيد [ 50 \ 14 ] وقوله فيهم : فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ومعنى حق : وجب وثبت ، فلا وجه لانتفائه بحال ، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع .
قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده - جل وعلا - كألف سنة مما يعده خلقه ، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة ، أشار إليه في سورة السجدة بقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] ، فآية الحج ، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى ، وتماثلها في المعنى ، وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفا ، وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وسنذكره إن شاء الله [ ص: 278 ] هنا ملخصا مختصرا ، ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه .

فقد ذكرنا ما ملخصه : أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، سئل عن هذه الآيات : فلم يدر ما يقوله فيها ، ويقول : لا أدري ، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين : الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج : هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفا ، هو يوم القيامة .

الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن ، وحال الكافر ; لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] اهـ ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان .

وذكرنا أيضا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ما ملخصه : أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار ; لأن المقيل القيلولة أو مكانها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر ، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية ، على ذلك ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره .

وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار ، كما ورد في حديث انتهى منه ، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك .

والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين : يدل على أن المؤمنين [ ص: 279 ] ليسوا كذلك وقوله تعالى :

فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى : مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر .

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث : أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة ، حتى يفرغ من الناس وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، وأما على قول من فسر المقيل في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة - رحمه الله - ، فلا دلالة في الآية لشيء مما ذكرنا ، ومعلوم أن من كان في سرور ونعمة ، أنه يقصر عليه الزمن الطويل قصرا شديدا ، بخلاف من كان في العذاب المهين والبلايا والكروب ، فإن الزمن القصير يطول عليه جدا ، وهذا أمر معروف ، وهو كثير في كلام العرب ، وقد ذكرنا في كتابنا المذكور بعض الشواهد الدالة عليه ، كقول أبي سفيان بن الحارث - رضي الله عنه - يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :


أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول


وقول الآخر :


فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار


وقول الآخر :


ليلى وليلي نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا


ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب ، ومن أظرف ما قيل فيه ما روي عن يزيد بن معاوية أنه قال :
لا أسأل الله تغييرا لما فعلت نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها


وقد ورد بعض الأحاديث بما يدل على ظاهر آية " الحج " ، وآية " السجدة " .

وسنذكر هنا طرفا منه بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية من سورة " الحج " ، قال ابن كثير : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني عبدة بن سليمان ، عن [ ص: 280 ] محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام " ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال : حدثني يعقوب ثنا ابن علية ، ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة ، عن سمير بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء ، بمقدار نصف يوم ، قلت : وما مقدار نصف يوم ؟ قال : أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد ، عن سعد بن أبي وقاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم " قيل لسعد : وكم نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] قال : من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ورواه ابن جرير عن ابن بشار ، عن ابن المهدي وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية ، وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] اهـ . محل الغرض من ابن كثير ، وظواهر الأحاديث التي ساق يمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من أن أصل اليوم كألف سنة ، ولكنه بالنسبة إلى المؤمنين يقصر ويخف ، حتى يكون كنصف نهار ، والله تعالى أعلم ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : ( كألف سنة مما يعدون ) بياء الغيبة ، وقرأه الباقون تعدون بتاء الخطاب ومعنى القراءتين واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ، تقدمت قريبا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في الكلام على قوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح وإلى قوله وقصر مشيد [ 22 \ 44 - 45 ] .
قوله تعالى : يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين .

[ ص: 281 ] أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية أن يقول للناس إنما أنا لكم نذير مبين أي : إني لست بربكم ، ولا بيدي هدايتكم ولا علي عقابكم يوم القيامة ، ولكني مخوف لكم من عذاب الله وسخطه .

والآيات بهذا المعنى كثيرة جدا ; قوله تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] وقوله إنما أنت منذر [ 13 \ 7 ] وقوله إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 115 ] وقوله فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] وقوله إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ 34 \ 46 ] وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : مبين الظاهر أنه الوصف من أبان الرباعية اللازمة التي بمعنى بان ، والعرب تقول : أبان فهو معنى بان ، فهو بين من اللازم الذي ليس بمتعد إلى المفعول ، ومنه قول كعب بن زهير :
قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل


فقوله : عتق مبين أي : كرم ظاهر ومن أبان اللازمة قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور


يعني : لظهر وبان من آثارهن ورم ومنه قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب


أي ظهر : وبان المقرفات من العراب ، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الآية : مبين : اسم أبان المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم

أي : مبين لكم في إنذاري كل ما ينفعكم ، وما يضركم لتجتلبوا النفع ، وتجتنبوا الضر ، والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين آمنوا به وبرسله ، وكل ما يجب الإيمان به ، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم ، ورزق كريم أي : حسن ، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته ، وأن [ ص: 282 ] الذين عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم أي : النار الشديد حرها ، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه ، والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 - 50 ] وقوله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول الآية [ 40 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع وقوله في هذه الآية الكريمة والذين سعوا في آياتنا معاجزين [ 22 \ 51 ] قال مجاهد : معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين ، وقال ابن عباس : معاجزين أي مغالبين ومشاقين ، وعن الفراء معاجزين : معاندين ، وعن الأخفش معاجزين : معاندة مسابقين ، وعن الزجاج معاجزين أي : ظانين أنهم يعجزوننا ; لأنهم ظنوا ألا بعث ، وأن الله لا يقدر عليهم .

واعلم : أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور : معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو : معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر بحسب الوضع العربي في قراءة الجمهور معاجزين : هو اقتضاء طرفين ، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك ، واقتضاء الفاعلة الطرفين في الآية من طريقين .

الأولى : هي ما قاله ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم ، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم ، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى ، والكفار يقاتلون الأنبياء ، وأتباعهم ، ويمانعونهم ، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله ، وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ 2 \ 217 ] وعليه فمفعول معاجزين محذوف : أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم ، أي مغالبين لهم ، ليعجزوهم عن إقامة الحق .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:25 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (378)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 283 إلى صـ 290




الطريقة الثانية : هي التي ذكرناها آنفا عن الزجاج أن معنى معاجزين : ظانين أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى [ ص: 283 ] زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وكما قال تعالى وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وقال تعالى عنهم إنهم قالوا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل ، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب ، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] وقوله فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] وقوله وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 22 ] وقوله تعالى في " الجن " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا [ 72 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب


ومراده بسخينة قريش يعني : أنهم يحاولون غلبة ربهم ، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر ، وأما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو : معجزين بكسر الجيم المشددة ، بلا ألف ، فالأظهر أن المعنى معجزين أي : مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه ، وقيل معجزين من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك : أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم : عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم ، يعنون : أنه يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم ، حيث ارتكبوا أمرا غير الحزم والصواب ، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء الآية [ 2 \ 13 ] وقوله في هذه الآية الكريمة والذين سعوا في آياتنا [ 22 \ 51 ] .

اعلم أولا : أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه ، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا والذين سعوا في آياتنا أي : سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم : إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين ، ونحو ذلك . ومن إطلاق السعي في الفساد أيضا قوله تعالى وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية [ 2 \ 205 ] ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا [ 76 \ 22 ] [ ص: 284 ] وقوله وأما من جاءك يسعى وهو يخشى الآية [ 80 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومن إطلاق السعي على الخير والشر معا قوله تعالى إن سعيكم لشتى إلى قوله وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 4 - 11 ] وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة " الحج " التي هي قوله تعالى فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 22

- 51 ] جاء معناها واضحا في سورة سبأ في قوله تعالى ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم [ 38 \ 4 - 5 ] فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في " سبأ " هو عذاب الجحيم المذكور في الحج .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ، معنى قوله تمنى في هذه الآية الكريمة فيه للعلماء وجهان من التفسير معروفان :

الأول : أن تمنى بمعنى : قرأ وتلا ومنه قول حسان في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - :
تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر


وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل


فمعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا .

وفي صحيح البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، وكون تمنى بمعنى : قرأ وتلا ، هو قول أكثر المفسرين .

القول الثاني : أن تمنى في الآية من التمني المعروف ، وهو تمنيه إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله ، ومفعول ألقى محذوف فعلى أن تمنى بمعنى : أحب إيمان أمته [ ص: 285 ] وعلق أمله بذلك ، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس ، والصد عن دين الله حتى لا يتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الرسول ما تمنى .

ومعنى كون الإلقاء في أمنيته على هذا الوجه : أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصد بها عما تمناه الرسول أو النبي ، فصار الإلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك .

وعلى أن تمنى بمعنى : قرأ ، ففي مفعول ألقى تقديران :

أحدهما : من جنس الأول أي : ألقى الشيطان في قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو النبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه ، ويتلوه الرسول أو النبي ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال .

وأما التقدير الثاني : فهو ألقى الشيطان في أمنيته أي قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها .

وقوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لهذا التقدير .

وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا : سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون . وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .

وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، ومثلنا لذلك : بأمثلة متعددة ، وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين : وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ، يعنون : اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات " النجم " التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى ، في اللات [ ص: 286 ] والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] وليس من المعقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرا عن ذكره لها بخير المزعوم ، إلا وغضبوا ، ولم يسجدوا ; لأن العبرة بالكلام الأخير ، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول ، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإخوانه من الرسل ، وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى :

إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقوله تعالى وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة الآية [ 34 \ 21 ] وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] ، وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الكفر البواح ، فأي سلطان له أكبر من ذلك .

ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] وقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [ 26 \ 221 - 222 ] ، وقوله في القرآن العظيم : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 41 - 42 ] فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم .
مسألة .

اعلم : أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا ، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب ، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، ومعلوم أن الكلبي متروك ، وقد بين البزار - رحمه الله - : أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير ، مع الشك الذي وقع في وصله ، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره ، لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير ، لم يروها بها أحد متصلة إلا [ ص: 287 ] أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها .

فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال البزار : لا يرى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور ، وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، والكلبي متروك .

فتحصل أن قصة الغرانيق ، لم ترد متصلة إلا من هذا الوجه الذي شك راويه في الوصل ، ومعلوم أن ما كان كذلك لا يحتج به لظهور ضعفه ، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح .

وقال الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ، ولا يثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته ، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله ; كقوله ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] وقوله وما ينطق عن الهوى الآية [ 53 \ 3 ] ، وقوله ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ 17 \ 74 ] فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل ، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة : أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها ابن العربي المالكي ، والفخر الرازي وجماعات كثيرة ، وقراءته - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال .

وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري :

إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل ، وكذلك من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض ; لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا ، فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها ، وأقربها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات ، فلما قرأ ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 20 ] قال الشيطان - لعنه الله - محاكيا لصوته : تلك الغرانيق العلى . . . الخ فظن المشركون أن الصوت صوته - صلى الله عليه وسلم - ، وهو برئ من ذلك براءة الشمس من اللمس ، وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحا وافيا ، واختصرناها هنا ، وفي كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

[ ص: 288 ] والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها ، ولم تثبت من جهة النقل ، مع استحالة الإلقاء على لسانه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر شرعا ، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان . فتبين أن نطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك الكفر ، ولو سهوا مستحيل شرعا ، وقد دل القرآن على بطلانه ، وهو باطل قطعا على كل حال ، والغرانيق : الطير البيض المعروفة واحدها : غرنوق كزنبور وفردوس ، وفيه لغات غير ذلك ، يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض ، فتشفع عنده لعابديها قبحهم الله ما أكفرهم ! ونحن وإن ذكرنا أن قوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لقول من قال : إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره :

ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها ; لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي ، ومعناه الإبطال والإزالة من قولهم : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر ، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئا ألقاه الشيطان ، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي ، فالذي يظهر لنا أنه الصواب ، وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة ، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين : هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها ، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر ، أو أساطير الأولين ، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده .

والدليل على هذا المعنى : أن الله بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق ، لأنه قال ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض 2 \ 53 ] ثم قال وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم [ 22 \ 54 ] فقوله وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق الآية ، يدل على أن الشيطان يلقي عليهم ، أن الذي يقرؤه النبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء ، ويكون ذلك فتنة لهم ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب ; كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه : فهذا الامتحان لا يناسب شيئا زاده الشيطان من نفسه في القراءة ، والعلم عند الله تعالى .

وعلى هذا القول ، فمعنى نسخ ما يلقي الشيطان : إزالته وإبطاله ، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم .

ومعنى يحكم آياته : يتقنها بالإحكام ، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق ، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإلقائه المذكور ، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقى في قراءة الرسول والنبي ، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم .

[ ص: 289 ] بذلك الامتحان ، جاء موضحا في آيات كثيرة قدمناها مرارا كقوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء الآية [ 74 \ 31 ] وقوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية [ 2 \ 143 ] وقوله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن أي : لأنها فتنة ، كما قال أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 62 - 64 ] ; لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا : ظهر كذب محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن الشجر لا ينبت في الموضع اليابس ، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه مرارا ، والعلم عند الله تعالى . واللام في قوله ليجعل ما يلقي الشيطان الآية الأظهر أنها متعلقة ، بألقى أي : ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء ، ليجعل الله ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض ، خلافا للحوفي القائل : إنها متعلقة بـ " يحكم " ، وابن عطية القائل : إنها متعلقة بـ " ينسخ " . ومعنى كونه : فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر ، وقد أوضحنا معاني الفتنة في القرآن سابقا ، وبينا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار ، ليظهر بسبكه فيها أخالص هو أم زائف ، وأنها في القرآن تطلق على معان متعددة منها : الوضع في النار ، ومنه قوله تعالى يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] أي : يحرقون بها ، وقوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] أي : أحرقوهم بنار الأخدود على أظهر التفسيرين ، ومنها : الاختبار وهو أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 64 \ 15 ] وقوله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] وقوله تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] ومنها : نتيجة الابتلاء إن كانت سيئة كالكفر والضلال ; كقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 \ 193 ] أي : شرك بدليل قوله ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] وقوله في الأنفال ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ومما يوضح هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " الحديث ، فالغاية في الحديث مبينة للغاية في الآية [ ص: 290 ] لأن خير ما يفسر به القرآن بعد القرآن السنة ، ومنه بهذا المعنى قوله هنا ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض وقد جاءت الفتنة في موضع بمعنى الحجة ، وهو قوله تعالى في الأنعام ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] أي حجتهم كما هو الظاهر .

واعلم أن مرض القلب في القرآن يطلق على نوعين :

أحدهما : مرض بالنفاق والشك والكفر ، ومنه قوله تعالى في المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] وقوله هنا ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض [ 22 \ 53 ] أي : كفر وشك .

والثاني : منهما إطلاق مرض القلب على ميله للفاحشة والزنى ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ 33 \ 32 ] أي : ميل إلى الزنى ونحوه ، والعرب تسمي انطواء القلب على الأمور الخبيثة : مرضا وذلك معروف في لغتهم ومنه قول الأعشى :
حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض


وقوله هنا والقاسية قلوبهم [ 22 \ 53 ] قد بينا في سورة البقرة الآيات القرآنية الدالة على سبب قسوة القلوب في الكلام على قوله ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ 2 \ 74 ] وآية الحج هذه تبين أن ما اشتهر على ألسنة أهل العلم .

من أن النبي هو من أوحي إليه وحي ، ولم يؤمر بتبليغه ، وأن الرسول هو النبي الذي أوحي إليه ، وأمر بتبليغ ما أوحي إليه غير صحيح ; لأن قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية [ 22 \ 52 ] ، يدل على أن كلا منهما مرسل ، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير واستظهر بعضهم أن النبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته ، وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول ، هو من لم ينزل عليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة ; كما بينه تعالى بقوله يحكم بها النبيون الذين أسلموا الآية [ 5 \ 44 ] وقوله في هذه الآية فتخبت له قلوبهم أي : تخشع وتخضع وتطمئن .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:28 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (379)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 291 إلى صـ 298






[ ص: 291 ] قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ، ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار لا يزالون في مرية ، أي : شك وريب منه أي : من هذا القرآن العظيم كما هو الظاهر ، واختاره ابن جرير وهو قول ابن جريج ، كما نقله عنهم ابن كثير : وقال سعيد بن جبير ، وابن زيد : في مرية منه أي : في شك مما ألقى الشيطان ، وذكر تعالى في هذه الآية : أنهم لا يزالون كذلك ، حتى تأتيهم الساعة ، أي : القيامة بغتة ، أي : فجأة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . وقد روى مجاهد عن أبي بن كعب : أن اليوم العقيم المذكور يوم بدر ، وكذا قال مجاهد وعكرمة ، وسعيد بن جبير وغير واحد . واختاره ابن جرير كما نقله عنهم ابن كثير في تفسيره ثم قال : وقال مجاهد وعكرمة في رواية عنهما : هو يوم القيامة لا ليل له ، وكذا قال الضحاك والحسن البصري ، ثم قال : وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به . اهـ ، محل الغرض من ابن كثير .

وقد ذكرنا مرارا أنا بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا لذلك أمثلة كثيرة ، وبه تعلم أن القرينة القرآنية هنا دلت على أن المراد باليوم العقيم : يوم القيامة ، لا يوم بدر ، وذلك أنه تعالى أتبع ذكر اليوم العقيم ، بقوله الملك يومئذ لله يحكم بينهم الآية [ 22 \ 56 ] ، وذلك يوم القيامة وقوله : يومئذ أي : يوم إذ تأتيهم الساعة ، أو يأتيهم عذاب عقيم ، وكل ذلك يوم القيامة . فظهر أن اليوم العقيم : يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر عقيما على الكفار ; لأنهم لا خير لهم فيه ، وقد أصابهم ما أصابهم .
قوله تعالى : الملك يومئذ لله يحكم بينهم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الملك يوم القيامة له ، وإن كان الملك في الدنيا له أيضا ; لأن في الدنيا ملوكا من المخلوقين ، ويوم القيامة لا يكون فيه اسم الملك إلا لله - جل وعلا - وحده ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الملك يوم القيامة له ، ومعلوم أن الملك هو الذي له الحكم بين الخلق بينه في غير هذا الموضع ; كقوله مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] وقوله الملك يومئذ الحق للرحمن الآية [ 25 \ 26 ] وقوله [ ص: 292 ] لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ، إدخال الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة المذكور هنا وكون الكفار المكذبين بآيات الله لهم العذاب المهين : يتضمن تفصيل حكم الله بينهم في قوله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] وما ذكره هنا من الوعد والوعيد قد بينا الآيات الدالة على معناه مرارا بكثرة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية : أن المؤمنين الذين هاجروا في سبيل الله ، ثم قتلوا بأن قتلهم الكفار في الجهاد ; لأن هذا هو الأغلب في قتل من قتل منهم ، أو ماتوا على فرشهم حتف أنفهم في غير جهاد ، أنه تعالى أقسم ليرزقنهم رزقا حسنا وأنه خير الرازقين ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا جاء مبينا في غير هذا الموضع .

أما الذين قتلوا في سبيل الله فقد بين الله - جل وعلا - : أنه يرزقهم رزقا حسنا ، وذلك في قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ 3 \ 169 ] ولا شك أن ذلك الذي يرزقهم رزق حسن ، وأما الذين ماتوا في قتال المذكورين في قوله هنا : أو ماتوا ، فقد قال الله فيهم ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [ 4 \ 100 ] ولا شك أن من وقع أجره على الله : أن الله يرزقه الرزق الحسن كما لا يخفى .

والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة .

وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية طرفا منها والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية ثم قتلوا قرأه ابن عامر بتشديد التاء والباقون بتخفيفها .
قوله تعالى : ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير .

[ ص: 293 ] ذكر غير واحد من المفسرين : أن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] ، أي : ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته ، ومن علامات قدرته الباهرة : أنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ، ومصرفهما ، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار ، وأنه سميع لما يقولون ، بصير بما يفعلون أي : وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما ، والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق أي : الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده ، وأن كل ما يدعى إلها غيره باطل وكفر ، ووبال على صاحبه ، وأنه - جل وعلا - هو العلي الكبير ، الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا ، بقوله ذلك بأن الله يولج الليل في النهار الآية [ 22 \ 61 ] ، ولآخره بقوله ذلك بأن الله هو الحق الآية [ 22 \ 62 ] .

والأظهر عندي : أن الإشارة في قوله ذلك : راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم ، وأنها ترجع لقوله الملك يومئذ لله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] ، إلى ما ذكره من نصرة المظلوم أي : ذلك المذكور من كون الملك له وحده ، يوم القيامة ، وأنه الحاكم وحده بين خلقه ، وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين ، والناصر من بغي عليه من عباده المؤمنين ، بسبب أنه القادر على كل شيء ، ومن أدلة ذلك : أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا . وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان ، مبينا أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى ، وخلق الناس ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير [ 31 \ 28 ] .

ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث ، فقال : ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير [ 31 \ 29 - 30 ] فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته ، استدل بها على قدرته في " الحج " ، وفي " لقمان " ، وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان :

[ ص: 294 ] الأول : وهو قول الأكثر هو : أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر ، إنما هو بإدخال جزء منه فيه ، وبذلك يطول النهار في الصيف ; لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء ; لأنه أولج فيه شيء من النهار ، وهذا من أدلة قدرته الكاملة .

المعنى الثاني : هو أن إيلاج أحدهما في الآخر ، هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك ، بغيبوبة الشمس ، وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج ، ويظلم بفقده . ذكر هذا الوجه الزمخشري ، وكأنه يميل إليه والأول أظهر ، وأكثر قائلا ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وأن ما يدعون من دونه هو الباطل [ 22 \ 62 ] قرأه حفص وحمزة والكسائي : يدعون بالياء التحتية ، وقرأه الباقون : بتاء الخطاب الفوقية .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ، الظاهر : أن " تر " هنا من رأى بمعنى : علم ; لأن إنزال المطر وإن كان مشاهدا بالبصر فكون الله هو الذي أنزله ، إنما يدرك بالعلم لا بالبصر ، فالرؤية هنا علمية على التحقيق .

فالمعنى : ألم تعلم الله منزلا من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة أي : ذات خضرة بسبب النبات الذي ينبته الله فيها بسبب إنزاله الماء من السماء ، وهذه آية من آياته وبراهين قدرته على البعث كما بيناه مرارا .

وهذا المعنى المذكور هنا من كون إنبات نبات الأرض ، بإنزال الماء من آياته الدالة على كمال قدرته جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ 41 \ 39 ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله : إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] وكقوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله : إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا [ 50 \ 9 - 11 ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله : كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي : [ ص: 295 ] خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت ، كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] وقوله : وأحيينا به بلدة ميتا [ 50 \ 11 ] ، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] والآيات بمثل هذا كثيرة .
تنبيه .

في هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان :

الأول : هو ما حكمة عطف المضارع في قوله : فتصبح على الماضي الذي هو أنزل ؟

السؤال الثاني : ما وجه الرفع في قوله : فتصبح مع أن قبلها استفهاما ؟

فالجواب عن الأول : أن النكتة في المضارع هي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم على فلان عام كذا وكذا ، فأروح وأغدو شاكرا له ، ولو قلت : فغدوت ورحت ، لم يقع ذلك الموقع ، هكذا أجاب به الزمخشري .

والذي يظهر لي والله أعلم : أن التعبير بالمضارع يفيد استحضار الهيئة التي اتصفت بها الأرض : بعد نزول المطر ، والماضي لا يفيد دوام استحضارها ; لأنه يفيد انقطاع الشيء .

أما الرفع في قوله : فتصبح ; فلأنه ليس مسببا عن الرؤية التي هي موضع الاستفهام ، وإنما هو مسبب الإنزال في قوله : أنزل ، والإنزال الذي هو سبب إصباح الأرض مخضرة ليس فيه استفهام ، ومعلوم أن الفاء التي ينصب بعدها المضارع إن حذفت جاز جعل مدخولها جزاء للشرط ، ولا يمكن أن تقول هنا : إن تر أن الله أنزل من السماء ماء ، تصبح الأرض مخضرة ; لأن الرؤية لا أثر لها ألبتة في اخضرار الأرض ، بل سببه إنزال الماء لا رؤية إنزاله .

وقد قال الزمخشري في " الكشاف " في الجواب عن هذا السؤال : فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام .

قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ; لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار .

مثاله : أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، إن تنصبه فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر ، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من [ ص: 296 ] اتسم بالعلم في علم الإعراب ، وتوقير أهله ، انتهى منه . وذكر نحوه أبو حيان في البحر ظانا أنه أوضحه ، ولا يظهر لي كل الظهور ، والعلم عند الله تعالى .

فإن قيل : كيف قال : فتصبح مع أن اخضرار الأرض ، قد يتأخر عن صبيحة المطر .

فالجواب : أنه على قول من قال : فتصبح الأرض مخضرة أي : تصير مخضرة فالأمر واضح ، والعرب تقول : أصبح فلان غنيا مثلا بمعنى صار ، وذكر أبو حيان عن بعض أهل العلم : أن بعض البلاد تصبح فيه الأرض مخضرة في نفس صبيحة المطر .

وذكر عكرمة وابن عطية وعلي هذا فلا إشكال . وقال بعضهم : إن الفاء للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه كقوله : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة [ 23 \ 14 ] مع أن بين ذلك أربعين يوما كما في الحديث ، قاله ابن كثير ، وقوله : لطيف خبير أي : لطيف بعباده ، ومن لطفه بهم إنزاله المطر وإنباته لهم به أقواتهم ، خبير بكل شيء ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الله سخر لخلقه ما في الأرض ، وسخر لهم السفن تجري في البحر بأمره ، وهذا الذي ذكره هنا جاء موضحا في مواضع كثيرة كقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] وقد بينا معنى تسخير ما في السماء بإيضاح في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] ، وكقوله : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " النحل " وغيرها .
قوله تعالى : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه هو الذي يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض ، فتهلك من فيها ، وأنه لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها ; كما قال : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية [ 34 \ 9 ] ، وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده الآية [ 35 \ 41 ] ، [ ص: 297 ] وكقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] على قول من فسرها : بأنه غير غافل عن الخلق بل حافظ لهم من سقوط السماوات المعبر عنها بالطرائق عليهم .

تنبيه .

هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن كقوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض [ 22 \ 65 ] وقوله : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده [ 35 \ 41 ] وقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء [ 34 \ 9 ] وقوله : وبنينا فوقكم سبعا شدادا ، [ 78 \ 12 ] وقوله : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا الآية [ 21 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، يدل دلالة واضحة ، على أن ما يزعمه ملاحدة الكفرة ، ومن قلدهم من مطموسي البصائر ممن يدعون الإسلام أن السماء فضاء لا جرم مبني ، أنه كفر وإلحاد وزندقة ، وتكذيب لنصوص القرآن العظيم ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله في هذه الآية الكريمة إن الله بالناس لرءوف رحيم [ 22 \ 65 ] أي : ومن رأفته ورحمته بخلقه أنه أمسك السماء عنهم ، ولم يسقطها عليهم .
قوله تعالى : وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ، قوله : وهو الذي أحياكم ، أي : بعد أن كنتم أمواتا في بطون أمهاتكم قبل نفخ الروح فيكم فهما إحياءتان ، وإماتتان كما بينه بقوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية [ 40 \ 11 ] .

ونظير آية " الحج " المذكورة هذه قوله تعالى ، في " الجاثية " : قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 45 \ 26 ] ، وكفر الإنسان المذكور في هذه الآية في قوله : إن الإنسان لكفور مع أن الله أحياه مرتين ، وأماته مرتين ، هو الذي دل القرآن على استعباده وإنكاره مع دلالة الإماتتين والإحياءتين على وجوب الإيمان [ ص: 298 ] بالمحيي المميت ، وعدم الكفر به في قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية [ 2 \ 28 ] .
قوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ، الأظهر في معنى قوله منسكا هم ناسكوه [ 22 \ 67 ] ، أي : متعبدا هم متعبدون فيه ; لأن أصل النسك التعبد وقد بين تعالى أن منسك كل أمة فيه التقرب إلى الله بالذبح ، فهو فرد من أفراد النسك صرح القرآن بدخوله في عمومه ، وذلك من أنواع البيان الذي تضمنها هذا الكتاب المبارك .

والآية التي بين الله فيها ذلك هي قوله تعالى : ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلمواالآية [ 22 \ 34 ] وقوله لكل أمة جعلنا منسكا [ 22 \ 34 و 67 ] في الموضعين قرأه حمزة والكسائي بكسر السين والباقون بفتحها .
قوله تعالى : الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى ، أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يدعو الناس إلى ربهم ، أي : إلى طاعته ، وأخبره فيها أنه على صراط مستقيم أي : طريق حق واضح لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي أمره أن يدعو الناس إليه وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمرين المذكورين ، جاء واضحا في مواضع أخر ; كقوله في الأول منهما : ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين [ 28 \ 87 ] وقوله تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت الآية [ 42 \ 15 ] وقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ 16 \ 125 ] وأخبر - جل وعلا - أنه امتثل الأمر بدعائهم إلى ربهم في قوله تعالى : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 23 \ 73 ] وقوله : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] وكقوله في الأخير : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] وقوله : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها الآية [ 45 \ 18 ] وقوله تعالى : ويهديك صراطا مستقيما [ 48 \ 2 ] .

والآيات بمثل هذا كثيرة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 22-10-2022 12:31 AM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (380)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 299 إلى صـ 306




قوله تعالى : وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ، أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أنه إن جادله الكفار أي : خاصموه [ ص: 299 ] بالباطل وكذبوه ، أن يقول لهم : الله أعلم بما تعملون .

وهذا القول الذي أمر به تهديد لهم فقد تضمنت هذه الآية أمرين :

أحدهما : أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يهددهم بقوله : الله أعلم بما تعملون أي : من الكفر ، فمجازيكم عليه أشد الجزاء .

الثاني : الإعراض عنهم ، وقد أشار تعالى للأمرين اللذين تضمنتهما هذه الآية في غير هذا الموضع .

أما إعراضه عنهم عند تكذيبهم له بالجدال الباطل فمن المواضع التي أشير له فيها قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .

وأما تهديدهم فقد أشار له في مواضع ; كقوله : هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم [ 46 \ 8 ] وقوله : فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين [ 6 \ 147 ] فقوله ولا يرد بأسه الآية ، فيه أشد الوعيد للمكذبين ، كما قال ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] في مواضع متعددة ، وهم إنما يكذبونه بالجدال ، والخصام بالباطل . وقد أمره الله في غير هذا الموضع أن يجادلهم بالتي هي أحسن وذلك في قوله : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] وقوله : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ 29 \ 46 ] وبين له أنهم لا يأتونه بمثل ليحتجوا عليه به بالباطل ، إلا جاءه الله بالحق الذي يدمغ ذلك الباطل ، مع كونه أحسن تفسيرا وكشفا وإيضاحا للحقائق وذلك في قوله ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا [ 25 \ 33 ] .
قوله تعالى : ما قدروا الله حق قدره ، أي : ما عظموه حق عظمته حين عبدوا معه من لا يقدر على خلق ذباب ، وهو عاجز أن يسترد من الذباب ما سلبه الذباب منه ، كالطيب الذي يجعلونه على أصنامهم ، إن سلبها الذباب منه شيئا لا تقدر على استنقاذه منه ، وكونهم لم يعظموا الله حق عظمته ، ولم يعرفوه حق معرفته ، حيث عبدوا معه من لا يقدر على جلب نفع ، ولا دفع ضر ، ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله في الأنعام : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ 6 \ 91 ] وكقوله في الزمر : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] .
[ ص: 300 ] قوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يصطفي ، أي : يختار رسلا من الملائكة ، ومن الناس فرسل الناس لإبلاغ الوحي ، ورسل الملائكة لذلك أيضا ، وقد يرسلهم لغيره ، وهذا الذي ذكره هنا من اصطفائه الرسل منهما جاء واضحا في غير هذا الموضع ; كقوله في رسل الملائكة : الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع الآية [ 35 \ 1 ] .

وقوله في جبريل : إنه لقول رسول كريم [ 81 \ 19 ] ومن ذكره إرسال الملائكة بغير الوحي قوله تعالى : وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [ 6 \ 61 ] وكقوله في رسل بني آدم : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] وقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية [ 2 \ 253 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] .
قوله تعالى : هو اجتباكم ، أي : اصطفاكم ، واختاركم يا أمة محمد ، ومعنى هذه الآية أوضحه بقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية [ 3 \ 110 ] .

قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، الحرج : الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف .

وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أنها مبنية على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج ، وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره - جل وعلا - في غير هذا الموضع كقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 \ 185 ] وقوله : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ 4 \ 28 ] وقد ثبت في صحيح مسلم من [ ص: 301 ] حديث أبي هريرة ، وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ خواتم سورة البقرة : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] قال الله : " قد فعلت " في رواية ابن عباس ، وفي رواية أبي هريرة قال : نعم . ومن رفع الحرج في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه ، وصلاة العاجز عن القيام قاعدا وإباحة المحظور للضرورة ; كما قال تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه الآية [ 6 \ 119 ] إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة والآيات التي ذكرنا معها من رفع الحرج ، والتخفيف في شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، هو إحدى القواعد الخمس ، التي بني عليها الفقه الإسلامي وهي هذه الخمس .

الأولى : الضرر يزال ومن أدلتها حديث : " لا ضرر ولا ضرار " .

الثانية : المشقة تجلب التيسير : وهي التي دل عليها قوله هنا وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] وما ذكرنا في معناها من الآيات .

الثالثة : لا يرفع يقين بشك ، ومن أدلتها حديث " من أحس بشيء في دبره في الصلاة وأنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتا أو يشم ريحا " ; لأن تلك الطهارة المحققة لم تنقض بتلك الريح المشكوك فيها .

الرابعة : تحكيم عرف الناس المتعارف عندهم في صيغ عقودهم ومعاملاتهم ، ونحو ذلك . واستدل لهذه بعضهم بقوله وأمر بالعرف الآية [ 7 \ 199 ] .

الخامسة : الأمور تبع المقاصد ، ودليل هذه حديث " إنما الأعمال بالنيات " الحديث ، وقد أشار في " مراقي السعود " في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله :
قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر ونفى رفع القطع بالشك وأن
يحكم العرف وزاد من فطن كون الأمور تبع المقاصد
مع التكلف ببعض وارد
قوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم ، قال بعضهم : هو منصوب بنزع الخافض ، ومال إليه ابن جرير : أي ما جعل عليكم في دينكم من ضيق ، كملة إبراهيم ، وأعربه بعضهم منصوبا بمحذوف أي : الزموا ملة [ ص: 302 ] أبيكم إبراهيم ، ولا يبعد أن يكون قوله ملة أبيكم إبراهيم [ 22 \ 78 ] شاملا لما ذكر قبله من الأوامر في قوله ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده [ 22 \ 77 - 78 ] ، ويوضح هذا قوله تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا [ 6 \ 161 ] والدين القيم الذي هو ملة إبراهيم : شامل لما ذكر كله .


قوله تعالى : هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ، اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ هو من قوله هو سماكم [ 22 \ 78 ] فقال بعضهم : الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل في هذا ، وهذا القول مروي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعطاء ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، كما نقله عنهم ابن كثير ، وقال بعضهم هو أي : إبراهيم سماكم المسلمين ، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [ 2 \ 128 ] وبهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، كما نقله عنه ابن كثير .

وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة ، وفيما مضى من الكتاب ، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم غير صواب .

إحداهما : أن الله قال هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ، أي : القرآن ، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن ، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير .

القرينة الثانية : أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله ، لا إلى إبراهيم فقوله هو اجتباكم ، أي : الله وما جعل عليكم في الدين من حرج ، أي : الله هو سماكم المسلمين أي : الله .

فإن قيل : الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور للضمير المذكور : هو إبراهيم .

فالجواب : أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف ، وهنا قد صرف عنه صارف ; لأن قوله " وفي هذا " يعني القرآن ، دليل على أن [ ص: 303 ] المراد بالذي سماهم المسلمين فيه : هو الله لا إبراهيم ، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] يناسبه أن يكون هو سماكم أي : الله ، المسلمين .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية بعد أن ذكر : أن الذي سماهم المسلمين من قبل وفي هذا : هو الله ، لا إبراهيم ما نصه :

قلت : وهذا هو الصواب ; لأنه تعالى قال : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه ملة إبراهيم أبيهم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها ، والثناء عليها في سالف الدهر ، وقديم الزمان في كتاب الأنبياء ، تتلى على الأحبار والرهبان فقال : هو سماكم المسلمين من قبل أي : من قبل هذا القرآن .

وفي هذا روى النسائي عند تفسير هذه الآية : أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شعيب ، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام ، أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم " ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وإن صلى ؟ قال : " نعم وإن صام وإن صلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله " وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] اهـ من تفسير ابن كثير .

وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة : إن الحديث المذكور فيه أن الله هو الذي سماهم المسلمين المؤمنين .
قوله تعالى : ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، يعني : إنما اجتباكم ، وفضلكم ونوه باسمكم المسلمين قبل نزول كتابكم ، وزكاكم على ألسنة الرسل المتقدمين ، فسماكم فيها المسلمين ، وكذلك سماكم في هذا القرآن . وقد عرف بذلك أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم ، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، أن الرسل بلغتهم رسالات ربهم ، حين ينكر الكفار ذلك يوم القيامة ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، أنه بلغكم ، وقيل : شهيدا على صدقكم فيما شهدتم به للرسل على أممهم من التبليغ .

[ ص: 304 ] وهذا المعنى المذكور هنا ذكره الله - جل وعلا - في قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ 2 \ 143 ] وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - إنا أرسلناك شاهدا الآية [ 48 \ 8 ] ، والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

قَوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ فَقَالَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ 23 \ 1 ] أَيْ : فَازُوا وَظَفِرُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

وَفَلَاحُ الْمُؤْمِنِينَ مَذْكُورٌ ذِكْرًا كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [ 33 \ 47 ] وَقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ 23 \ 2 ] أَصْلُ الْخُشُوعِ : السُّكُونُ ، وَالطُّمَأْنِينَةُ ، وَالِانْخِفَاضُ وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ :
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ وَنُؤًى كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمَ خَاشِعِ


وَهُوَ فِي الشَّرْعِ : خَشْيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَكُونُ فِي الْقَلْبِ ، فَتَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ .

وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ الْخُشُوعَ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ إِلَى قَوْلِهِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ 33 \ 35 ] .

وَقَدْ عُدَّ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْخُشُوعِ تَصْعُبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ 2 \ 45 ] وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي : أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي صَلَاتِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، قَالُوا : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ حَيْثُ يَسْجُدُ .

وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ : وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَالْبَيَهْقِيُّ فِي سُنَنِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى [ ص: 306 ] السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ 23 \ 2 ] فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ " اهـ مِنْهُ .

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ ، فَقَالُوا : إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ 2 \ 144 ] قَالُوا : فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ الْمُنْحَنِيَ بِوَجْهِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، لَيْسَ بِمُوَلٍّ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا .

وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى أَفْلَحَ : نَالَ الْفَلَاحَ ، وَالْفَلَاحُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ :

الْأَوَّلُ : الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ :
فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقِلَ


أَيْ فَازَ مَنْ رُزِقَ الْعَقْلَ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ .

وَالثَّانِي : هُوَ إِطْلَاقُ الْفَلَاحِ عَلَى الْبَقَاءِ السَّرْمَدِيِّ فِي النَّعِيمِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ أَيْضًا فِي رَجَزٍ لَهُ :
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ


يَعْنِي : مُدْرِكَ الْبَقَاءِ ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ ، أَوِ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ :
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ .


أَيْ لَا بَقَاءَ مَعَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ ، وَالْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا لِلْفَلَاحِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَسَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي لَفْظَةِ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:44 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (381)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 307 إلى صـ 314



قوله تعالى : والذين هم عن اللغو معرضون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين إعراضهم عن اللغو ، وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل ، وما توجب المروءة تركه .

وقال ابن كثير عن اللغو معرضون [ 23 \ 3 ] أي : عن الباطل ، وهو يشمل [ ص: 307 ] الشرك كما قال بعضهم ، والمعاصي كما قاله آخرون ، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال اهـ منه .

وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية ، أشار له في غير هذا الموضع كقوله : وإذا مروا باللغو مروا كراما [ 25 \ 72 ] ومن مرورهم به كراما إعراضهم عنه ، وعدم مشاركتهم أصحابه فيه وقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه الآية [ 28 \ 55 ] .
قوله تعالى : والذين هم للزكاة فاعلون ، في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم :

أحدهما : أن المراد بها زكاة الأموال ، وعزاه ابن كثير للأكثرين .

الثاني : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة النفس أي : تطهيرها من الشرك ، والمعاصي بالإيمان بالله ، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام ، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ 91 \ 9 - 10 ] وقوله قد أفلح من تزكى الآية [ 87 \ 14 ] ، وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] وقوله خيرا منه زكاة الآية [ 18 \ 81 ] وقوله وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة [ 41 \ 6 - 7 ] على أحد التفسيرين ، وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن :

الأولى : أن هذه السورة مكية ، بلا خلاف ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم ، فدل على أن قوله والذين هم للزكاة فاعلون نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة ، فدل على أن المراد به غيرها .

القرينة الثانية : هي أن المعروف في زكاة الأموال : أن يعبر عن أدائها بالإيتاء ; كقوله تعالى وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] وقوله وإيتاء الزكاة [ 21 \ 73 ] ونحو ذلك . وهذه الزكاة المذكورة هنا ، لم يعبر عنها بالإيتاء ، بل قال تعالى فيها والذين هم للزكاة فاعلون [ 23 \ 4 ] فدل على أن هذه الزكاة : أفعال المؤمنين المفلحين ، وذلك أولى بفعل الطاعات ، وترك المعاصي من أداء مال .

الثالثة : أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة ، من غير فصل [ ص: 308 ] بينهما كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 110 ] وقوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 277 ] وقوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة [ 21 \ 73 ] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها ، وبين ذكر الصلاة بجملة والذين هم عن اللغو معرضون [ 23 \ 3 ] .

والذين قالوا المراد بها زكاة الأموال ، قالوا : إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة ، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب ، والمقادير الخاصة .

وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده [ 141 ] وقد يستدل ; لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي ، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك ، كان شاملا لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة ، فيكون كالتكرار معها ، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره ، كما تقرر في الأصول ، وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 6 \ 97 ] والذين قالوا : هي زكاة الأموال قالوا : فاعلون أي : مؤدون ، قالوا : وهي لغة معروفة فصيحة ، ومنها قول أمية بن أبي الصلت :


المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون للزكوات


وهو واضح ، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال ; لأنها فعل المزكي كما هو واضح ، ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر ، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة .

وقد قال ابن كثير - رحمه الله - : وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا : زكاة النفس من الشرك ، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا وهو زكاة النفوس ، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم ، اهـ منه .
قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآيات الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم أي : من اللواط والزنى ، ونحو ذلك ، وبين أن [ ص: 309 ] حفظهم فروجهم ، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين ، والمراد به التمتع بالسراري ، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه ، وأن من ابتغى تمتعا بفرجه ، وراء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين أي : المعتدين المتعدين حدود الله ، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه .

وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة سأل سائل ; لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 70 \ 29 - 31 ] .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن ما في قوله : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] من صيغ العموم ، والمراد بها من وهي من صيغ العموم ، فآية قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 1 ] وآية سأل سائل [ 70 \ 1 ] تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما ، في قوله أو ما ملكت أيمانهم في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معا لدخولهما في عموم أو ما ملكت أيمانهم وبهذا قال داود الظاهري ، ومن تبعه : ولكن قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] يدل بعمومه على منع جمع الأختين بملك اليمين ; لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم ، تشمل كل أختين ، سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان - رضي الله عنه - ، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية ، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة أو ما ملكت أيمانهم وبالمحرمة وأن تجمعوا بين الأختين .

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته .

وحاصل تحرير المقام في ذلك : أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم ، وخصوص من وجه ، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان - رضي الله عنه - : أحلتهما آية ، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية : وأن تجمعوا بين الأختين تنفرد عن آية أو ما ملكت أيمانهم في الأختين المجموع بينهما ، بعقد نكاح [ ص: 310 ] وتنفرد آية أو ما ملكت أيمانهم في الأمة الواحدة ، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين ، ويجتمعان في الجمع بين الأختين ، فعموم وأن تجمعوا بين الأختين يقتضي تحريمه ، وعموم أو ما ملكت أيمانهم يقتضي إباحته ، وإذا تعارض الأعمان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها وجب الترجيح بينهما ، والراجح منهما ، يقدم ويخصص به عموم الآخر ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر


وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم وأن تجمعوا بين الأختين مرجح من خمسة أوجه على عموم أو ما ملكت أيمانهم :

الأول : منها أن عموم وأن تجمعوا بين الأختين نص في محل المدرك المقصود بالذات ; لأن السورة سورة النساء : وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ، ومن لا تحل ، وآية أو ما ملكت أيمانهم في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء ، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة ، فذكر من جملتها حفظ الفرج ، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية . وقد تقرر في الأصول : أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها ، لا من مظانها .

الوجه الثاني : أن آية أو ما ملكت أيمانهم ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين ; لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين ، إجماعا للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم وأخواتكم من الرضاعة [ 4 \ 23 ] وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا ، للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية [ 4 \ 22 ] ، والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص ، مع العام الذي لم يدخله التخصيص : هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول ، ولم أعلم أحدا خالف فيه ، إلا صفي الدين الهندي ، والسبكي .

وحجة الجمهور أن العام المخصص ، اختلف في كونه حجة في الباقي ، بعد التخصيص ، والذين قالوا : هو حجة في الباقي ، قال جماعة منهم : هو مجاز في الباقي ، وما اتفق على أنه حجة ، وأنه حقيقة ، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته ، وهل هو حقيقة ، أو مجاز ؟ وإن كان الصحيح : أنه حجة في الباقي ، وحقيقة فيه ; [ ص: 311 ] لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه ، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي ، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص ، والحمل على الغالب أولى ، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى ، بخلاف الباقي على عمومه .

الوجه الثالث : أن عموم وأن تجمعوا بين الأختين غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم أو ما ملكت أيمانهم وارد في معرض مدح المتقين ، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم .

اختلف العلماء في اعتبار عمومه ، فأكثر العلماء : على أن عمومه معتبر ; كقوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 13 - 14 ] فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح ، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود :
وما أتى للمدح أو للذم يعم عند جل أهل العلم


وخالف في ذلك بعض العلماء منهم : الإمام الشافعي - رحمه الله - ، قائلا : إن العام الوارد في معرض المدح ، أو الذم لا عموم له ; لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم ، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 \ 34 ] في الحلي المباح ; لأن الآية سيقت للذم ، فلا تعم عنده الحلي المباح .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه ، عند بعض العلماء .

الوجه الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين ، فالأصل في الفروج التحريم ، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة .

الوجه الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام .

فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري ، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين ، محتجا بقوله : أو ما ملكت أيمانهم ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها ، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي ، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء [ ص: 312 ] بعد جمل متعاطفة ، أو مفردات متعاطفة ، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافا لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط ، قال في مراقي السعود :
وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع
، إلخ .

وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات ، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه : هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم ، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع ، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط ، ولذلك لم يقبل شهادة القاذف ، ولو تاب وأصلح ، وصار أعدل أهل زمانه ; لأن قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ 24 \ 4 - 5 ] يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا أي : فقد زال عنهم اسم الفسق ، ولا يقبل رجوعه ; لقوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا ، فاقبلوا شهادتهم بل يقول : لا تقبلوا لهم شهادة أبدا مطلقا بلا استثناء ; لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة ، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون إلى قوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة ، وغيره .

ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله ; لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة ، التي هي ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ; لأن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى الشرك ، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها ، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها ، عند أبي حنيفة ، على أصله المقرر : مستلزما لرجوعه للجميع .

وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضا [ ص: 313 ] برجوع الاستثناء في قوله أو ما ملكت أيمانهم لقوله وأن تجمعوا بين الأختين فيقول : قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين وقوله : والمحصنات من النساء [ 4 \ 24 ] يرجع لكل منهما استثناء في قوله : إلا ما ملكت أيمانكم فيكون المعنى : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين ، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما ، وحرمت عليكم المحصنات من النساء ، إلا ما ملكت أيمانكم ، فلا يحرم عليكم .

وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك ، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله أو ما ملكت أيمانهم إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة ، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين :

الأول منهما : أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء ، إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين لما قدمنا من أن قوله إلا ما ملكت أيمانكم أي : بالسبي خاصة مع الكفر ، وأن المعنى والمحصنات من النساء ، إلا ما ملكت أيمانكم أي : وحرمت عليكم المتزوجات من النساء ; لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسبية ، وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق :
وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق


وإذا كان ملك اليمين في قوله : إلا ما ملكت أيمانكم في السبي خاصة كما هو مذهب الجمهور كان ذلك مانعا من رجوعه إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين ; لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقا ، وقد قدمنا في سورة النساء أن قول من قال : إلا ما ملكت أيمانكم مطلقا ، وأن بيع الأمة طلاقها أنه خلاف التحقيق ، وأوضحنا الأدلة على ذلك .

الوجه الثاني : هو أن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها ، يحتاج إلى دليل منفصل ; لأن الدليل قد يدل على [ ص: 314 ] رجوعه للجميع أو لبعضها دون بعض . وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه ، وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعا لغير الجملة الأخيرة التي تليه ، تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة ، ومعرفة ذلك منها . وهذا القول الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين ، دون بعض ، إلا بدليل مروي عن ابن الحاجب من المالكية ، والغزالي من الشافعية ، والآمدي من الحنابلة ، واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح ; لأن الله يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله ، وجدنا القرآن دالا على صحة هذا القول ، وبه يندفع أيضا استدلال داود .

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] فالاستثناء راجع للدية ، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا ; لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ ، ومنها قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] فالاستثناء لا يرجع لقوله فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ; لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف .

وما يروى عن الشعبي من أنها تسقطه ، خلاف التحقيق الذي هو مذهب جماهير العلماء ومنها قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 90 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:46 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (382)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 315 إلى صـ 322



فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم الآية لا يرجع قولا واحدا ، إلى الجملة الأخيرة ، التي تليه أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ; لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبدا ، ولو وصلوا إلى قوم بينكم ، وبينهم ميثاق ، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله : فخذوهم واقتلوهم [ 4 \ 89 ] والمعنى : فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم ، وبينهم ميثاق ، فليس لكم أخذهم بأسر ، ولا قتلهم ; لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم ، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكروا أن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم : الذي هو في الطرف الأعلى [ ص: 315 ] من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها .

ومن ذلك أيضا قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ 4 \ 83 ] على ما قاله : جماعات من المفسرين ; لأنه لولا فضل الله ورحمته لاتبعوا الشيطان ، كلا بدون استثناء ، قليل أو كثير كما ترى .

واختلفوا في مرجع هذا الاستثناء ، فقيل : راجع لقوله : أذاعوا به [ 4 \ 83 ] وقيل : راجع لقوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 \ 83 ] وإذا لم يرجع للجملة التي تليه ، لم يكن نصا في رجوعه لغيرها .

وقيل : إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليه ، وأن المعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - لاتبعتم الشيطان في الاستمرار ، على ملة آبائكم من الكفر ، وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم في الجاهلية ، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ، وأمثالهم .

وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله : لاتبعتم الشيطان إلا قليلا معناه : لاتبعتم الشيطان كلا ، قال : والعرب تطلق القلة ، وتريد بها العدم ، واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب :


أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحه


يعني : لا مثلبة فيه ، ولا قادحة . وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور ، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها ، وتريد بها العدم كقولهم : مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل ، يعنون لا كراث فيها ولا بصل ، ومنه قول ذي الرمة :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها


يريد : أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته . وقول الآخر :
فما بأس لو ردت علينا تحية قليلا لدى من يعرف الحق عابها


يعني لا عاب فيها أي : لا عيب فيها عند من يعرف الحق ، وأمثال هذا كثير في كلام العرب . وبالآيات التي ذكرنا تعلم : أن الوقف عن القطع برجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله إلا لدليل ، هو الذي دل عليه القرآن في آيات متعددة ، وبدلالتها يرد استدلال داود المذكور أيضا والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 316 ] المسألة الثانية : اعلم أن أهل العلم أجمعوا على أن حكم هذه الآية الكريمة في التمتع بملك اليمين في قوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 5 - 6 ] خاص بالرجال دون النساء ، فلا يحل للمرأة أن تتسرى عبدها ، وتتمتع به بملك اليمين ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وهو يؤيد قول الأكثرين : أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة الصحيحة إلا بدليل منفصل ; كما أوضحنا أدلته في سورة الفاتحة ، وذكر ابن جرير أن امرأة اتخذت مملوكها ، وقالت : تأولت آية من كتاب الله أو ما ملكت أيمانهم فأتي بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وقال له ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تأولت آية من كتاب الله - عز وجل - على غير وجهها ، قال : فضرب العبد ، وجز رأسه وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم ، ثم قال ابن كثير : هذا أثر غريب منقطع ، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة ، وهو ههنا أليق وإنما حرمها على الرجال ، معاملة لها بنقيض قصدها ، والله أعلم اهـ .

وقال أبو عبد الله القرطبي : قد روى معمر عن قتادة قال : تسررت امرأة غلامها ، فذكر ذلك لعمر فسألها ما حملك على ذلك ؟ قالت : كنت أراه يحل لي بملك يميني ، كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين ، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : تأولت كتاب الله - عز وجل - على غير تأويله لا رجم عليها ، فقال عمر : لا جرم ، والله لا أحلك لحر بعده . عاقبها بذلك ، ودرأ الحد عنها ، وأمر العبد ألا يقربها .

وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول : أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضئ ، فقالت : إني استسررته ، فمنعني بنو عمي عن ذلك ، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها ، فإنه عنى بني عمي فقال عمر : أتزوجت قبله ؟ قالت : نعم ، قال : أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة ، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها اهـ ، من القرطبي .
المسألة الثالثة : اعلم أنه لا شك في أن آية قد أفلح المؤمنون هذه التي هي فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 23 \ 7 ] تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد المعروف ، بجلد عميرة ، ويقال له الخضخضة ; لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك ، قد ابتغى وراء ما أحله الله ، فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا ، وفي سورة سأل سائل [ 70 \ 1 ] وقد ذكر ابن كثير : أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه [ ص: 317 ] الآية ، على منع الاستمناء باليد ، وقال القرطبي : قال محمد بن عبد الحكم : سمعت حرملة بن عبد العزيز ، قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية والذين هم لفروجهم حافظون إلى قوله العادون [ 23 \ 5 - 7 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن استدلال مالك ، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة ، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله ، يدل عليه ظاهر القرآن ، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة ، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه ، وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلا على ذلك بالقياس قائلا : هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز ، قياسا على الفصد والحجامة ، كما قال في ذلك بعض الشعراء :
إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا عار ولا حرج

فهو خلاف الصواب ، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها ; لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن ، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار ، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مرارا وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود :
والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى


فالله - جل وعلا - قال : والذين هم لفروجهم حافظون ولم يستثن من ذلك البتة إلا النوعين المذكورين ، في قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج ، عن الزوجة ، والمملوكة فقط ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين المذكورين ، دالة على المنع هي قوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 23 \ 7 ] وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهره ، ناكح يده ، وظاهر عموم القرآن ، لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل من كتاب أو سنة ، يجب الرجوع إليه ، أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار ، كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر بعض من حرم جلد عميرة ، واستدلالهم بالآية ما نصه : وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور ، حيث قال : حدثني علي بن ثابت الجزري ، عن مسلمة بن جعفر ، عن حسان بن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله [ ص: 318 ] عليه : الناكح يده ، والفاعل والمفعول ، ومدمن الخمر ، والضارب والديه ، حتى يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه ، والناكح حليلة جاره " اهـ .

ثم قال ابن كثير : هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم ، انتهى منه . ولكنه على ضعفه يشهد له في نكاح اليد ظاهر القرآن في الجملة ; لدلالته على منع ذلك ، وإنما قيل للاستمناء باليد : جلد عميرة ; لأنهم يكنون بعميرة عن الذكر .

لطيفة : قد ذكر في نوادر المغفلين ، أن مغفلا كانت أمه تملك جارية تسمى عميرة فضربتها مرة ، فصاحت الجارية ، فسمع قوم صياحها ، فجاءوا وقالوا : ما هذا الصياح ؟ فقال لهم ذلك المغفل : لا بأس تلك أمي كانت تجلد عميرة .
المسألة الرابعة : اعلم أنا قدمنا في سورة النساء ، أن هذه الآية التي هي قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم تدل بظاهرها على منع نكاح المتعة ; لأنه - جل وعلا - صرح فيها بما يعلم منه ، وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية ، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وأن المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة ، ليست زوجة ، ولا مملوكة . أما كونها غير مملوكة فواضح ، وأما الدليل على كونها غير زوجة ، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ، ونحو ذلك ، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ، ووجبت لها النفقة ، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة ; لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء .

فتبين بذلك أن مبتغي نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم ، وقد أوضحنا ذلك في سورة النساء بأدلة الكتاب والسنة ، وأن نكاح المتعة ممنوع إلى يوم القيامة ، وقد يخفى على طالب العلم معنى لفظة على في هذه الآية يعني قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم الآية ; لأن مادة الحفظ ، لا تتعدى إلى المعمول الثاني في هذا الموضوع بعلى فقيل : إن على بمعنى : عن .

والمعنى : أنهم حافظون فروجهم عن كل شيء ، إلا عن أزواجهم ، وحفظ قد تتعدى بعن .

وحاول الزمخشري الجواب عن الإتيان بعلى هنا فقال ما نصه [ ص: 319 ] " على أزواجهم " في موضع الحال ، أي : إلا والين ، على أزواجهم ، أو قوامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة ، فمات عنها ، فخلف عليها فلان ، ونظيره : كان زياد على البصرة أي : واليا عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثمة سميت المرأة فراشا .

والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال ، إلا في تزوجهم أو تسريهم ، أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين ، كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، أو تجعله صلة لحافظين من قولك : احفظ علي عنان فرسي على تضمينه ، معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت ، بمعنى : ما طلبت منك إلا فعلك . اهـ منه ، ولا يخفى ما فيه من عدم الظهور .

قال أبو حيان : وهذه الوجوه التي تكلفها الزمخشري ظاهر فيها العجمة ، وهي متكلفة ، ثم استظهر أبو حيان أن يكون الكلام من باب التضمين ، ضمن حافظون معنى : ممسكون أو قاصرون ، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله : أمسك عليك زوجك [ 33 \ 37 ] والظاهر أن قوله هنا أو ما ملكت أيمانهم مع أن المملوكات من جملة العقلاء ، والعقلاء يعبر عنهم بمن لا بما هو أن الإماء لما كن يتصفن ببعض صفات غير العقلاء كبيعهن وشرائهن ، ونحو ذلك ، كان ذلك مسوغا لإطلاق لفظة ما عليهن ، والعلم عند الله تعالى .

وقال بعض أهل العلم : إن وراء ذلك ، هو مفعول ابتغى أي : ابتغى سوى ذلك ، وقال بعضهم : إن المفعول به محذوف ، ووراء ظرف ، أي : فمن ابتغى مستمتعا لفرجه ، وراء ذلك .
قوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس : أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم ، أي : محافظون على الأمانات ، والعهود ، والأمانة تشمل : كل ما استودعك الله ، وأمرك بحفظه ، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله ، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس ، والعهود أيضا تشمل : كل ما أخذ عليك العهد بحفظه ، من حقوق الله ، وحقوق الناس ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينا في آيات كثيرة ; [ ص: 320 ] كقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ 4 \ 58 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [ 8 \ 27 ] وقوله تعالى في سأل سائل : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [ 70 \ 32 ] وقوله في العهد وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود الآية [ 5 \ 1 ] ، وقوله : ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ 48 \ 10 ] وقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ 16 \ 91 ] وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] ، وقوله : راعون : جمع تصحيح للراعي ، وهو القائم على الشيء ، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية ، وفي الحديث " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " الحديث ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده : لأمانتهم بغير ألف بعد النون ، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون ، على صيغة الجمع المؤنث السالم .
قوله تعالى : والذين هم على صلواتهم يحافظون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس : أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها ، وشروطها ، وسننها ، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد ، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الآية [ 2 \ 238 ] ، وقال تعالى في سورة المعارج والذين هم على صلاتهم يحافظون [ 70 \ 34 ] وقال فيها أيضا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [ 70 \ 22 - 23 ] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا [ 19 \ 59 ] .

وقد أوضحنا ذلك في سورة " مريم " ، وقوله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الآية [ 107 \ 54 ] ، وقال تعالى في ذم المنافقين وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس الآية [ 4 \ 142 ] ، وفي الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال " الصلاة على وقتها " [ ص: 321 ] الحديث ، وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدا ، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن ، ولا نذكر غالبا البيان من السنة ، إلا إذا كان في القرآن بيان غير واف بالمقصود ، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارا ، وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المؤمنين المتصفين بالصفات ، التي قدمنا هم الوارثون ، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون ; لدلالة قوله : الذين يرثون الفردوس [ 23 \ 11 ] عليه . والفردوس : أعلى الجنة ، وأوسطها ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن - جل وعلا - ، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوراثة .

وقد أوضحنا معنى الوراثة والآيات الدالة على ذلك المعنى ; كقوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] وقوله : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] وقوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء الآية [ 39 \ 74 ] في سورة مريم في الكلام على قوله : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقرأ هذا الحرف : حمزة والكسائي : على صلاتهم بغير واو ، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون : على صلواتهم [ 23 \ 9 ] بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد ; لأن المفرد الذي هو اسم جنس ، إذا أضيف إلى معرفة ، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول ، وقوله هنا : هم فيها خالدون ، أي : بلا انقطاع أبدا ، كما قال تعالى عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي : غير مقطوع ، وقال تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] وقال تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] كما قدمناه مستوفى .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أطوار خلقه الإنسان ونقله له ، من حال إلى حال ، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده - جل وعلا - ، وقد أوضحنا في [ ص: 322 ] أول سورة الحج معنى النذطفة ، والعلقة ، والمضغة ، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة ، وغير المخلقة ، والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذا سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا ؟

وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا ؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط ، ومتى يرث ، ويورث ، ومتى يصلى عليه ، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآيات [ 22 \ 5 ] ، وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى ، أما معنى السلالة : فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء ، إذا استخرجته منه ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
خلق البرية من سلالة منتن وإلى السلالة كلها ستعود


والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه .

ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين


وبناء الاسم على الفعالة ، يدل على القلة كقلامة الظفر ، ونحاتة الشيء المنحوت ، وهي ما يتساقط منه عند النحت ، والمراد بخلق الإنسان من سلالة الطين : خلق أبيهم آدم منه ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .

وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب ، وأنه لما بل بالماء صار طيبا ولما خمر صار طينا لازبا يلصق باليد ، وصار حمأ مسنونا ، قال بعضهم : طينا أسود منتنا ، وقال بعضهم : المسنون : المصور ، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر ، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء ، كما قال في أول النساء ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] وقال في الأعراف وجعل منها زوجها [ 7 \ 189 ] وقال في الزمر : ثم جعل منها زوجها [ 39 \ 6 ] كما تقدم إيضاح ذلك كله ، ثم لما خلق الرجل والمرأة ، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل ، فأول أطواره : النطفة ، ثم العلقة ، إلخ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:49 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (383)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 323 إلى صـ 330




وقد بينا أغلب ذلك في أول سورة الحج ، وقوله هنا : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 \ 12 ] يعني : بدأه خلق نوع الإنسان بخلق آدم ، وقوله ثم جعلناه نطفة [ 23 \ 13 ] ، أي : بعد خلق آدم وحواء ، فالضمير في قوله : ثم جعلناه [ ص: 323 ] لنوع الإنسان ، الذي هو النسل لدلالة المقام عليه ، كقولهم : عندي درهم ونصفه أي : ونصف درهم آخر ، كما أوضح تعالى هذا المعنى في سورة السجدة في قوله تعالى ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 6 - 9 ] وأشار إلى ذلك بقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [ 30 \ 20 ] وما ذكره هنا من أطوار خلقه الإنسان ، أمر كل مكلف أن ينظر فيه ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، كما أوضحناه مرارا ، وذلك في قوله : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق الآية [ 86 \ 5 - 6 ] ، وقد أشار في آيات كثيرة ، إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور ، كما أوضحه هنا ; وكما في قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا [ 71 \ 13 - 14 ] وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب ، وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة ، إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة إلخ ، مع أنه لم يشق بطن أمه بل هو مستتر بثلاث ظلمات : وهي ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة المنطوية على الجنين ، وذلك في قوله - جل وعلا - : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] فتأمل معنى قوله فأنى تصرفون ، أي : عن هذه العجائب والغرائب ، التي فعلها فيكم ربكم ومعبودكم . وقال تعالى : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء [ 3 \ 6 ] وقال : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة [ 22 \ 5 ] ثم ذكر الحكمة فقال لنبين لكم [ 22 \ 5 ] أي : لنظهر لكم بذلك عظمتنا ، وكمال قدرتنا ، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة ، وقال في سورة المؤمن هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا [ 40 \ 67 ] وقال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله [ ص: 324 ] كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 39 ] وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم - جل وعلا - ، فسبحانه - جل وعلا - ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته ، وما أظهر براهين توحيده ، وقد بين في آية المؤمنون هذه : أنه يخلق المضغة عظاما ، وبين في موضع آخر : أنه يركب بعض تلك العظام مع بعض ، تركيبا قويا ، ويشد بعضها مع بعض ، على أكمل الوجوه وأبدعها ، وذلك في قوله نحن خلقناهم وشددنا أسرهم الآية [ 76 \ 28 ] ، والأسر : شد العظام بعضها مع بعض ، وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها ، ومنه قول حميد بن ثور :
وما دخلت في الخدب حتى تنقضت تآسير أعلى قده وتحطما


وفي صحاح الجوهري : أسر قتبه يأسره أسرا شده بالأسار وهو القد ، ومنه سمي الأسير ، وكانوا يشدونه بالقد ، فقول بعض المفسرين واللغويين : أسرهم أي : خلقهم فيه قصور في التفسير ; لأن الأسر هو الشد القوي بالأسار الذي هو القد ، وهو السير المقطوع من جلد البعير ونحوه ، الذي لم يدبغ والله - جل وعلا - يشد بعض العظام ببعض ، شدا محكما متماسكا كما يشد الشيء بالقد ، والشد به قوي جدا ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة في قرار مكين [ 23 \ 13 ] القرار هنا : مكان الاستقرار ، والمكين : المتمكن ، وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه ، قاله أبو حيان في البحر ، وقال الزمخشري : القرار : المستقر ، والمراد به : الرحم وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها ، أو بمكانتها في نفسها ; لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت ، وقوله تعالى في هذه الآية ثم أنشأناه خلقا آخر [ 23 \ 14 ] قال الزمخشري أي : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم ، وبصيرا وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره ، بل كل عضو من أعضائه وجزء من أجزائه عجائب فطرة ، وغرائب حكمة ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا بشرح الشارح ، انتهى منه .

وقال القرطبي : اختلف في الخلق الآخر المذكور ، فقال ابن عباس ، والشعبي وأبو العالية ، والضحاك وابن زيد : " هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا " وعن ابن عباس : " خروجه إلى الدنيا " ، وقال قتادة : عن فرقة نبات شعره ، وقال الضحاك : خروج الأسنان ، ونبات الشعر ، وقال مجاهد : كمال شبابه ، وروي عن ابن عمر والصحيح ، أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك ، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت ، اهـ منه .

[ ص: 325 ] والظاهر أن جميع أقوال أهل العلم في قوله خلقا آخر أنه صار بشرا سويا بعد أن كان نطفة ، ومضغة ، وعلقة ، وعظاما كما هو واضح .
مسألة

وقد استدل بهذه الآية الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - ، على أن من غصب بيضة ، فأفرخت عنده أنه يضمن البيضة ، ولا يرد الفرخ ; لأن الفرخ خلق آخر سوى البيضة ، فهو غير ما غصب ، وإنما يرد الغاصب ما غصب ، وهذا الاستدلال له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] وقوله فتبارك الله قال أبو حيان في البحر المحيط : تبارك : فعل ماض لا ينصرف ، ومعناه : تعالى وتقدس . اهـ منه .

وقوله في هذه الآية أحسن الخالقين أي : المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير ، ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري


فقوله : يخلق ثم لا يفري ، أي : يقدر الأمر ، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم ، ومعلوم أن النحويين مختلفون في صيغة التفضيل إذا أضيفت إلى معرفة ، هل إضافتها إضافة محضة ، أو لفظية غير محضة ، كما هو معروف في محله ؟ فمن قال : هي محضة أعرب قوله أحسن الخالقين نعتا للفظ الجلالة ، ومن قال : هي غير محضة أعربه بدلا ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو أحسن الخالقين ، وقرأ هذين الحرفين فخلقنا المضغة عظاما [ 23 \ 13 ] وقوله فكسونا العظام لحما ابن عامر وشعبة عن عاصم عظما : بفتح العين ، وإسكان الظاء من غير ألف بصيغة المفرد فيهما ، وقرأه الباقون : عظاما بكسر العين وفتح الظاء ، وألف بعدها بصيغة الجمع ، وعلى قراءة ابن عامر وشعبة ، فالمراد بالعظم : العظام .

وقد قدمنا بإيضاح في أول سورة الحج وغيرها أن المفرد إن كان اسم جنس ، قد تطلقه العرب ، وتريد به معنى الجمع ، وأكثرنا من أمثلته في القرآن ، وكلام العرب مع تعريفه وتنكيره وإضافته ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 326 ] قوله تعالى : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنهم بعد أن أنشأهم خلقا آخر ، فأخرج الواحد منهم من بطن أمه صغيرا ، ثم يكون محتلما ، ثم يكون شابا ، ثم يكون كهلا ، ثم يكون شيخا ، ثم هرما أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عمر منهم ومن لم يعمر ، ثم هم بعد الموت يبعثون أحياء ، يوم القيامة للحساب والجزاء ، وهذا الموت والحياة المذكوران هنا كل واحد منهما له نظير آخر ; لأنهما إماتتان وإحياءتان ذكر من كل منهما واحدة هنا ، وذكر الجميع في قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 2 \ 28 ] وقوله : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [ 40 \ 11 ] كما قدمنا إيضاحه في سورة الحج والبقرة ، وكل ذلك دليل على كمال قدرته ، ولزوم الإيمان به ، واستحقاقه للعبادة وحده سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ( 17 ) ، في قوله تعالى : " طرائق " وجهان من التفسير :

أحدهما : أنها قيل لها طرائق ; لأن بعضها فوق بعض من قولهم : طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق ، وركب بعضها على بعض ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " كأن وجوههم المجان المطرقة " أي : التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض ، ومنه قول الشاعر يصف نعلا له مطارقة :


وطراق من خلفهن طراق ساقطات تلوي بها الصحراء


يعني : نعال الإبل ، ومنه قولهم : طائر طراق الريش ، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضا ، ومنه قول زهير يصف بازيا :


أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك


وقول ذي الرمة يصف بازيا أيضا :


طراق الخوافي واقع فوق ريعه ندى ليله في ريشه يترقرق


وقول الآخر يصف قطاة :
سكاء مخطومة في ريشها طرق سود قوادمها كدر خوافيها


فعلى هذا القول فقوله سبع طرائق يوضح معناه قوله تعالى [ ص: 327 ] ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا الآية [ 71 \ 15 ] وهذا قول الأكثر .

الوجه الثاني : أنها قيل لها طرائق ; لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها ، وأما قول من قال : قيل لها طرائق ; لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى ، وقول من قال : طرائق ؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد ، وقوله تعالى : وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] قد قدمنا أن معناه كقوله ويمسك السماء أن تقع على الأرض [ 22 \ 65 ] ; لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه . وقال بعضهم وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] بل نحن القائمون بإصلاح جميع شئونهم ، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق يعني : السماوات برهان على قوله قبله ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 16 ] ; لأن من قدر على خلق السماوات ، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] وقوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها الآية [ 79 \ 27 ] .

وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ 36 \ 81 ] والآيات بمثل هذا متعددة .

وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها ، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا ، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه - جل وعلا - بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار ، والعيون ، ونحو ذلك . وأنه - جل وعلا - قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله " بقدر " أي : بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم ، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم ، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة ، دون المفسدة سبحانه - جل وعلا - ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه ، وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع .

[ ص: 328 ] الأولى : التي هي كونه : أنزله بقدر أشار إليها في قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

والثانية : التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله - جل وعلا - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] والينبوع : الماء الكثير وقوله : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] على ما قدمنا في الحجر .

والثالثة : التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 ] ويشبه معناها قوله تعالى : لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ; لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه ، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم ، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله [ 24 \ 43 ] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن ، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت الآية [ 7 \ 57 ] فقوله : ثقالا جمع ثقيلة ، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى : وينشئ السحاب الثقال [ 13 \ 12 ] جمع سحابة ثقيلة .

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن ، ثم يخرجه من خلال السحاب ، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة ، وبين - جل وعلا - أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء ، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة ، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم ، ليبتلي أهلها في شكر النعمة ، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء ، ويقل المطر عليهم في بعض السنين ، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم ، ولا تثمر أشجارهم ، ليبتليهم بذلك ، هل يتوبون إليه ، ويرجعون إلى ما يرضيه .

وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائه في الأرض ليشربوا منه هم ، وأنعامهم ، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به ، وذلك في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 25 \ 48 - 50 ] .

[ ص: 329 ] ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار ، وإنما نزل بطبيعته ، فالمنزل له عندهم : هو الطبيعة ، وأن طبيعة الماء التبخر ، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح ، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته ، ثم يجتمع ، ثم يتقاطر ، وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له ، وأنه هو المطر . فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله ، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده ، فمثل هؤلاء داخلون في قوله فأبى أكثر الناس إلا كفورا بعد قوله : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا .

وقد صرح في قوله : ولقد صرفناه أنه تعالى ، هو مصرف الماء ، ومنزله حيث شاء كيف شاء . ومن قبيل هذا المعنى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر بي : فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " . هذا لفظ مسلم - رحمه الله - في صحيحه ، ولا شك أن من قال : مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة ، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار ، والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر ، إلا أنهم يسندون فعل ذلك للفاعل المختار - جل وعلا - ، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد :


لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر كبنات البحر يمأدن إذا
أنبت الصيف عساليج الخضر .


فقوله : بنات البحر يعني : المزن التي أصل مائها من البحر .

وقول أبي ذؤيب الهذلي :
سقى أم عمرو كل آخر ليلة حناتم غر ماؤهن ثجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
.

ولا شك أن خالق السماوات والأرض - جل وعلا - ، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
[ ص: 330 ] قوله تعالى : فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب الآية [ 16 \ 11 ] وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ، قوله : شجرة : معطوف على : جنات من عطف الخاص على العام ، وقد قدمنا مسوغه مرارا أي : فأنشأنا لكم به جنات ، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون ، كما أشار له تعالى بقوله : يوقد من شجرة مباركة زيتونة الآية [ 24 \ 35 ] ، والدهن الذي تنبت به : هو زيتها المذكور في قوله : يكاد زيتها يضيء [ 24 \ 35 ] ومع الاستضاءة منها ، فهي صبغ للآكلين أي : إدام يأتدمون به ، وقرأ هذا الحرف : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو : سيناء بكسر السين ، وقرأ الباقون : بفتحها ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تنبت بضم التاء ، وكسر الباء الموحدة مضارع أنبت الرباعي ، وقرأ الباقون : تنبت بفتح التاء ، وضم الباء مضارع : نبت الثلاثي ، وعلى هذه القراءة ، فلا إشكال في حرف الباء في قوله : بالدهن أي : تنبت مصحوبة بالدهن الذي يستخرج من زيتونها ، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، ففي الباء إشكال ، وهو : أن أنبت الرباعي يتعدى بنفسه ، ولا يحتاج إلى الباء وقد قدمنا النكتة في الإتيان بمثل هذه الباء في القرآن ، وأكثرنا من أمثلته في القرآن ، وفي كلام العرب في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة الآية [ 19 \ 25 ] ، ولا يخفى أن أنبت الرباعي ، على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو هنا : لازمة لا متعدية المفعول ، وأنبت تتعدى ، وتلزم فمن تعديها قوله تعالى : ينبت لكم به الزرع والزيتون الآية [ 16 \ 11 ] وقوله تعالى : فأنبتنا به جنات وحب الحصيد [ 50 \ 9 ] ومن لزومها قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو المذكورة ، ونظيرها من كلام العرب قول زهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:51 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (384)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 331 إلى صـ 338




فقوله : أنبت البقل لازم بمعنى : نبت ، وهذا هو الصواب في قراءة : ( تنبت ) بضم التاء ، خلافا لمن قال : إنها مضارع أنبت المتعدي : وأن المفعول محذوف أي : تنبت [ ص: 331 ] زيتونها ، وفيه الزيت . وقال ابن كثير : الطور : هو الجبل ، وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عري عن الشجر ، سمي جبلا لا طورا ، والله أعلم . وطور سيناء : هو طور سنين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - عليه السلام - ، وما حوله من الجبال ، التي فيها شجر الزيتون . اهـ محل الغرض من كلام ابن كثير .

وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " رواه أحمد ورواه الترمذي ، وغيره عن عمر ، والظاهر أنه لا يخلو من مقال ، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة ، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال : وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - . اهـ منه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية ، وما يستفاد منها من الأحكام الفقهية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه الآية [ 16 \ 66 ] مع بيان أوجه القراءة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وعليها وعلى الفلك تحملون ، الضمير في قوله : " عليها " راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله : وإن لكم في الأنعام [ 23 \ 21 ] وقد بين تعالى في هذه الآية : أنه يحمل خلقه على الأنعام ، والمراد بها هنا الإبل ; لأن الحمل عليها هو الأغلب ، وعلى الفلك : وهي السفن ولفظ الفلك ، يطلق على الواحد والجمع من السفن ، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل ، على الأنعام والسفن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ 40 \ 79 - 80 ] وقوله في الأنعام : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 71 - 72 ] وقوله فيها وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 7 ] وقوله في [ ص: 332 ] الفلك والأنعام معا : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] وقوله في السفن : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] وقوله : أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] وقوله تعالى : وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وهذا من نعمه وآياته ، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة ; لأن الإبل سفائن البر ، كما قال ذو الرمة :
ألا خيلت مني وقد نام صحبتي فما نفر التهويم إلا سلامها طروقا وجلب الرحل مشدودة بها
سفينة بر تحت خدي زمامها
فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه :
قوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا إلى قوله وما يستأخرون ، قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات ، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى أي : متواترين واحدا بعد واحد ، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا ، ومنه قول لبيد في معلقته :
يعلو طريقة متنها متواتر في ليلة كفر النجوم غمامها


يعني : مطرا متتابعا ، أو غبار ريح متتابعا ، وتاء تترى مبدلة من الواو ، وأنه كل ما أرسل رسولا إلى أمة كذبوه فأهلكهم ، وأتبع بعضهم بعضا في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل ، وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة ، وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور .

أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جدا ; كقوله تعالى : [ ص: 333 ] وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله تعالى : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة الآية [ 7 \ 94 - 95 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا الآية [ 10 \ 98 ] ، وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيمانا حقا ، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين ، وذلك في قوله في الصفات وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] لأن ظاهر إطلاق قوله : فآمنوا ، يدل على ذلك والعلم عند الله تعالى .

ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ ; لأنه تعالى قال فيهم : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق الآية [ 34 \ 19 ] ، وقوله فجعلناهم أحاديث أي : أخبارا وقصصا يسمر بها ، ويتعجب منها ، كما قال ابن دريد في مقصورته :
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى


وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو : تترا بالتنوين : وهي لغة كنانة ، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين : وهي لغة أكثر العرب ، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من قوله : جآء أمة ، وقرأها الباقون بالتحقيق ، كما هو معلوم . وقوله فبعدا لقوم لا يؤمنون [ 23 \ 44 ] مصدر لا يظهر عامله ، وقد بعد بعدا بفتحتين ، وبعدا بضم فسكون أي : هلك فقوله : بعدا أي : هلاكا مستأصلا ، كما قال تعالى ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 95 ] قال الشاعر :
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا


وقد قال سيبويه : إن بعدا وسحقا ودفرا أي : نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر . اهـ ومن هذا القبيل قولهم : سقيا ورعيا ، كقول نابغة ذبيان : [ ص: 334 ]
نبئت نعما على الهجران عاتية سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري


والأحاديث في قوله : " وجعلناهم أحاديث " في مفرده وجهان معروفان :

أحدهما : أنه جمع حديث كما تقول : هذه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تريد بالأحاديث جمع حديث ، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة :
وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما


يعني بالبابين : التكسير والتصغير ، كتكسير حديث على أحاديث وباطل على أباطيل ، وكتصغير مغرب ، على مغيربان ، وعشية على عشيشية ، وقال بعضهم : إنها اسم جمع للحديث .

الوجه الثاني : أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل : أضحوكة ، وألعوبة ، وأعجوبة بضم الأول ، وإسكان الثاني : وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا . ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير
: من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وهذا الوجه أنسب هنا لجريان الجمع فيه على القياس ، وجزم به الزمخشري ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، أمر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم ، وقت نزولها واحد ، وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، بالأكل من الطيبات : وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق ، وأن يعملوا العمل الصالح ، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح ، وهو كذلك ، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة ، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 2 \ 172 ] والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال ، والعمل الصالح ، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم [ 23 \ 51 ] [ ص: 335 ] وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 2 \ 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء ، يا رب يا رب فأنى يستجاب له " وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي هو أعظم القرب لم ينفعه ; لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه ، ولم يركب منه .
قوله تعالى : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين ، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية ، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة الآية [ 11 \ 8 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : فذرهم في غمرتهم حتى حين ، أمر - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذر الكفار أي : يتركهم في غمرتهم إلى حين ، أي : وقت معين عند الله ، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت ، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي ، والأخروي ، وكون المراد بالحين المذكور : وقت قتلهم ، أو موتهم ذكره الزمخشري عن علي - رضي الله عنه - ، بغير سند .

وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد ; كقول الكلبي في غمرتهم أي : جهالتهم . وقول ابن بحر : في حيرتهم . وقول ابن سلام : في غفلتهم . وقول بعضهم : في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد ، وهو أنه ، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال ، والغي والمعاصي . قال الزمخشري : الغمرة : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم ، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال ذو الرمة :


ليالي اللهو يطبيني فأتبعه كأنني ضارب في غمرة لعب


وصيغة الأمر في قوله فذرهم في غمرتهم [ 23 \ 54 ] للتهديد ، وقد تقرر في [ ص: 336 ] فن الأصول في مبحث الأمر وفي فن المعاني في مبحث الإنشاء ، أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من تهديد الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] وقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 ] وقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ، الآية [ 15 \ 3 ] وتكلمنا هناك على لفظ ذرهم .
قوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ، قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ، ما تضمنته هذه الآية من التخفيف في هذه الحنيفية السمحة ، التي جاء بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا طرفا من الآيات الدالة عليه في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

قوله تعالى : ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ، الحق أن المراد بهذا الكتاب : كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه ، كما يدل عليه قوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف ، في الكلام على قوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ، الآية [ 18 \ 49 ] وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] .

والظاهر أن معنى نطق الكتاب بالحق : أن جميع المكتوب فيه حق ، فمن قرأ المكتوب فيه ، كأنه لا ينطق في قراءته له إلا بالحق ، وربما أطلقت العرب اسم الكلام على [ ص: 337 ] الخط ، كما روي عن عائشة أنها قالت : ما بين دفتي المصحف كلام الله ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ، حتى هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية ، والعذاب الذي أخذهم ربهم به ، قيل : هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر ، وقيل : الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم ، لما دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم بسبب دعوته - صلى الله عليه وسلم - من الجوع الشديد ، عذاب أليم ، وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة . وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ مترفيهم بالعذاب ، والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا ، وهذا المعنى أشار له بقوله : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما [ 73 \ 11 - 13 ] فقوله : أولي النعمة يريد بهم : المترفين في الدنيا ، وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله : إن لدينا أنكالا وجحيما الآية ، وقوله : يجأرون ، الجؤار : الصراخ باستغاثة ، والعرب تقول : جأر الثور يجأر : صاح ، فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات " عجلا جسدا له جؤار " [ 7 \ 148 ] ، [ 20 \ 88 ] بالجيم والهمزة ، أي : خوار ، وجأر الرجل إلى الله : تضرع بالدعاء .

فمعنى الآية الكريمة : أن المنعمين في الدنيا من الكفار ، إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة ، صاحوا مستصرخين مستغيثين ، يطلبون الخلاص مما هم فيه ، وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا ، جاء في آيات أخر كقوله تعالى : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل [ 35 \ 36 - 37 ] فقوله : يصطرخون : يفتعلون من الصراخ ، مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه ، بدليل قوله تعالى عنهم : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم ، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا ، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى :

[ ص: 338 ]
يراوح من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤارا


والجؤار المذكور : هو النداء في قوله كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] ; لأن نداءهم نداء استغاثة واستصراخ وكقوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك الآية [ 43 \ 77 ] ; لأن القضاء عليهم من أعظم الأمور التي يطلبونها ، فيستغيثون بالموت من دوام ذلك العذاب الشديد ، أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه وكقوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وذلك الدعاء بالثبور الذي هو أعظم الهلاك ، والويل عن أنواع جؤارهم والعياذ بالله . وقوله تعالى في هذه الآية لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 23 \ 65 ] يدل على أنهم إن استغاثوا لم يغاثوا ، وإن استرحموا لم يرحموا ، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] .
قوله تعالى : قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ، لما بين أن المترفين من الكفار إذا أخذهم ربهم بالعذاب ، ضجوا وصاحوا واستغاثوا ، وبين أنهم لا يغاثون كما أوضحناه آنفا بين سبب ذلك بقوله : قد كانت آياتي ، أي : التي أرسلت بها رسلي تتلى عليكم : تقرأ عليكم واضحة مفصلة ، فكنتم على أعقابكم تنكصون : ترجعون عنها القهقرى ، والعقب : مؤخر القدم ، والنكوص : الرجوع عن الأمر ، ومنه قوله تعالى : فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه [ 8 \ 48 ] ومنه قول الشاعر :
زعموا بأنهم على سبل النجاة وإنما نكص على الأعقاب

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:53 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (385)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 339 إلى صـ 346



وهذا المعنى الذي ذكره هنا : أشار له في غير هذا الموضع كقوله تعالى قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 11 - 12 ] فكفرهم عند الله ذكر الله وحده ، من نكوصهم على أعقابهم ، وبين في موضع آخر أنهم إذا تتلى عليهم آياته ، لم يقتصروا على النكوص عنها ، على أعقابهم ، بل يكادون يبطشون بالذي يتلوها عليهم ، لشدة بغضهم لها ، وذلك في قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] [ ص: 339 ] وهذا الذي ذكرنا أن العذاب عذاب يوم القيامة ، أظهر عندنا من قول من قال : إنه يوم بدر أو الجوع ، ومن قول من زعم : أن الذين يجأرون : هم الذين لم يقتلوا يوم بدر وأن جؤارهم من قبل إخوانهم ، فكل ذلك خلاف الظاهر ، وإن قاله من قاله :
قوله تعالى : أفلم يدبروا القول ، يتضمن حضهم ، على تدبر هذا القول الذي هو القرآن العظيم ; لأنهم إن تدبروه تدبرا صادقا ، علموا أنه حق ، وأن اتباعه واجب وتصديق من جاء به لازم ، وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] وقوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] وقوله في هذه الآية الكريمة أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] قال القرطبي :

فأنكروه ، وأعرضوا عنه ، وقيل : أم بمعنى : بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به ، فلذلك أنكروه ، وتركوا التدبر له .

وقال ابن عباس : وقيل المعنى : أم جاءهم أمان من العذاب ، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين ، قال أبو حيان في تفسير هذه الآية : قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن ، ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ، أي : إرسال الرسل ليس بدعا ، ولا مستغربا ، بل أرسلت الرسل للأمم قبلهم ، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن ، واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه إلى آخر كلامه ، وهذا الوجه من التفسير له وجه من النظر وعليه فالآية كقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل الآية [ 46 \ 9 ] ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : فقد لبثت فيكم عمرا من قبله الآية [ 10 \ 16 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ، أم المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة ، وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم الآية [ 2 \ 6 ] أو همزة مغنية ، عن لفظة ، أي : كقولك أزيد عندك أم عمرو ؟ أي : أيهما عندك فالمسبوقة [ ص: 340 ] بإحدى الهمزتين المذكورتين ، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة ، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا ، وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان .

الأول : أن تكون بمعنى : بل الإضرابية .

الثاني : أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار .

الثالث : أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار ، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها ، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى : بل في قوله :
وبانقطاع وبمعنى بل وفت إن تك مما قيدت به خلت


ومراده بخلوها مما قيدت به : ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين ، فإن سبقتها إحداهما ، فهي المتصلة كما تقدم قريبا ، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنا للإضراب عما قبله إضرابا انتقاليا ، مع معنى استفهام الإنكار ، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم : أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - به جنة أي : جنون يعنون : أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون ، قبحهم الله ما أجحدهم للحق ! وما أكفرهم ! ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله : بل جاءهم بالحق [ 23 \ 70 ] فالإضراب ببل إبطالي .

والمعنى : ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح ، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل ، أنه حق ، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق ، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] وهذا الجنون الذي افتري على آخر الأنبياء ، افتري أيضا على أولهم ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه : إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين [ 23 \ 25 ] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولا إلا قال قومه : إنه ساحر ، أو مجنون ، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطؤ أقوالهم لرسلهم عليه ، وذلك في قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 52 - 53 ] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به ; لاختلاف أزمنتهم ، وأمكنتهم ، ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان ، وقد أوضح هذا المعنى في سورة [ ص: 341 ] البقرة في قوله كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم ، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان ، وكراهية الحق وقوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] ذكر نحو معناه في قوله تعالى : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية [ 22 \ 72 ] وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم ، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق ، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق ، أنهم يمتنعون من سماعه ، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه ، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به ، وهو نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، من الحق ، والدعوة إليه ، وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه ، ويأمرهم باللغو فيه ، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق ، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل .

وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال : قوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] يفهم من مفهوم مخالفته ، أن قليلا من الكفار ، ليسوا كارهين للحق ، وهذا السؤال وارد أيضا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفا ، وهي قوله تعالى : ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] .

والجواب عن هذا السؤال : هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلا من الكفار ، كانوا لا يكرهون الحق ، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق ، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم ، وأن يقولوا صبؤوا وفارقوا دين آبائهم ، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق ، الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله :
اصدع بأمرك ما عليك غضاضة


الأبيات وقال فيها : [ ص: 342 ]
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا


وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعني بقول الأباطل


وقد بين أبو طالب في شعره : أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق ، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله :
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا
قوله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ، اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية ، فقال بعضهم : الحق : هو الله تعالى ، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى ، كما في قوله تعالى : ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] وقوله : ذلك بأن الله هو الحق [ 22 \ 6 ] وكون المراد بالحق في الآية : هو الله عزاه القرطبي للأكثرين ، وممن قال به : مجاهد وابن جريج ، وأبو صالح ، والسدي ، وروي عن قتادة ، وغيرهم .

وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرساله ، بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعا لأهوائهم الفاسدة ، لفسدت السماوات والأرض ، ومن فيهن ; لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة ، لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم ، واختلافها . فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن ، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع .

ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح ; لأن تكون متبعة قوله تعالى : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] ; لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين ، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك ، وقد رد الله عليهم بقوله : أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 32 ] ، وقال تعالى : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 7 \ 100 ] وقال تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [ 4 \ 53 ] قال ابن كثير - رحمه الله - : ففي هذا كله تبيين عجز العباد ، واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو [ ص: 343 ] الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فسبحان الله رب العرش عما يصفون .

القول الثاني : أن المراد بالحق في الآية : الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية ، وأنكر الأول .

وعلى هذا القول فالمعنى : أنه لو فرض كون الحق متبعا لأهوائهم ، التي هي الشرك بالله ، وادعاء الأولاد ، والأنداد له ونحو ذلك لفسد كل شيء ; لأن هذا الفرض يصير به الحق ، هو أبطل الباطل ، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء ، هو أبطل الباطل ; لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع ، والأمر والنهي كما لا يخفى على عاقل والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ، اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال : ذكرهم : فخرهم ، وشرفهم ; لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف ، وعلى هذا ، فالآية كقوله : وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 44 ] على تفسير الذكر بالفخر والشرف ، وقال بعضهم : الذكر في الآية : الوعظ والتوصية ، وعليه فالآية كقوله : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم [ 3 \ 58 ] وقال بعضهم : الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله : لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين [ 37 \ 168 - 169 ] وعليه ، فالآية كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم [ 35 \ 42 ] وعلى هذا القول فقوله : فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا الآية [ 35 \ 42 ] كقوله هنا ، فهم عن ذكرهم معرضون ، وكقوله : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم [ 6 \ 157 ] والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين [ ص: 344 ] المراد بالخرج والخراج هنا : الأجر والجزاء .

والمعنى : أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيري الدنيا والآخرة ، أجرة ولا جعلا ، وأصل الخرج والخراج : هو ما تخرجه إلى كل عامل في مقابلة أجره ، أو جعل ، وهذه الآية الكريمة تتضمن أنه - صلى الله عليه وسلم - ، لا يسألهم أجرا ، في مقابلة تبليغ الرسالة .

وقد أوضحنا الآيات القرآنية الدالة على أن الرسل لا يأخذون الأجرة على التبليغ في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] وبينا وجه الجمع بين تلك الآيات ، مع آية : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] وبينا هناك حكم أخذ الأجرة ، على تعليم القرآن وغيره ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ هذين الحرفين ابن عامر : خرجا فخرج ربك ، بإسكان الراء فيهما معا ، وحذف الألف فيهما ، وقرأ حمزة والكسائي : خراجا فخراج ربك بفتح الراء بعدها ألف فيهما معا ، وقرأ الباقون : خرجا فخراج ربك بإسكان الراء ، وحذف الألف في الأول ، وفتح الراء وإثبات الألف في الثاني ، والتحقيق : أن معنى الخرج والخراج واحد ، وأنهما لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان ، خلافا لمن زعم أن بين معناهما فرقا زاعما أن الخرج ما تبرعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه .

ومعنى الآية : لا يساعد على هذا الفرق كما ترى ، والعلم عند الله تعالى ، وصيغة التفضيل في قوله : وهو خير الرازقين [ 23 \ 72 ] نظرا إلى أن بعض المخلوقين يرزق بعضهم كقوله تعالى : وارزقوهم فيها واكسوهم [ 4 \ 5 ] وقوله تعالى : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن الآية [ 2 \ 233 ] ، ولا شك أن فضل رزق الله خلقه ، على رزق بعض خلقه بعضهم كفضل ذاته ، وسائر صفاته على ذوات خلقه ، وصفاتهم .
قوله تعالى : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ، قد قدمنا الآيات الموضحة ، لمعنى هذه الآية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لإنكارهم البعث والجزاء ، ناكبون عن الصراط ، والمراد بالصراط ، الذي هم ناكبون عنه : الصراط المستقيم [ ص: 345 ] الموصل إلى الجنة المذكور في قوله قبله : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 23 \ 73 ] ومن نكب عن هذا الصراط المستقيم ، دخل النار بلا شك .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى في سورة الروم : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 16 ] ومعنى قوله : لناكبون : عادلون عنه ، حائدون غير سالكين إياه وهو معنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول نصيب :
خليلي من كعب ألما هديتما بزينب لا تفقدكما أبدا كعب من اليوم زوراها فإن ركابنا
غداة غد عنها وعن أهلها نكب
جمع ناكبة ، عنها أي : عادلة عنها متباعدة عنها ، وعن أهلها .
قوله تعالى : ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ، قد بينا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية من أنه تعالى يعلم المعدوم الذين سبق في علمه أنه لا يوجد أن لو وجد ، كيف يكون في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقوله في هذه الآية : للجوا في طغيانهم يعمهون [ 23 \ 75 ] اللجاج هنا : التمادي في الكفر والضلال ، والطغيان : مجاوزة الحد ، وهو كفرهم بالله ، وادعاؤهم له الأولاد والشركاء ، وقوله : يعمهون : يترددون متحيرين لا يميزون حقا ، من باطل ، وقال بعض أهل العلم : العمه : عمى القلب ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أخذ الكفار بالعذاب ، والظاهر أنه هنا : العذاب الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب ، والأمراض والشدائد ، فما استكانوا لربهم أي : ما خضعوا له ، ولا ذلوا وما يتضرعون أي : ما يبتهلون إليه بالدعاء متضرعين له ، ليكشف عنهم ذلك العذاب لشدة قسوة قلوبهم ، وبعدهم من الاتعاظ ، ولو كانوا متصفين بما يستوجب ذلك من إصابة عذاب الله لهم ، وهذا المعنى الذي ذكره هنا جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الأنعام : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ 6 \ 42 - 43 ] وقوله في سورة [ ص: 346 ] الأعراف : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ، قد ذكرنا الآيات التي فيها إيضاح لمعنى هذه الآية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ 16 \ 78 ] وبينا هناك وجه إفراد السمع مع الجمع للأبصار والأفئدة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ، ذرأكم معناه : خلقكم ، ومنه قوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية [ 7 \ 179 ] وقوله في الأرض ، أي : خلقكم وبثكم في الأرض ، عن طريق التناسل ، كما قال تعالى : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية [ 4 \ 1 ] وقال : ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [ 30 \ 20 ] وقوله : وإليه تحشرون أي : إليه وحده ، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب .

وما تضمنته هذه الآية ، من أنه خلقهم ، وبثهم في الأرض ، وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة ، جاء معناه في آيات كثيرة ; كقوله في أول هذه السورة ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 12 - 16 ] وذكر - جل وعلا - أيضا هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 67 \ 23 - 25 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
قوله تعالى : وهو الذي يحيي ويميت ، قد قدمنا الآيات الدالة على الإماتتين والإحياءتين ، وأن ذلك من أكبر الدواعي للإيمان به - جل وعلا - في سورة الحج في الكلام على قوله : وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 22 \ 26 ] وفي سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم [ 2 \ 28 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:56 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (386)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 347 إلى صـ 354



[ ص: 347 ] قوله تعالى : وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن له اختلاف الليل والنهار ، يعني : أن ذلك هو الفاعل له وهو الذي يذهب بالليل ، ويأتي بالنهار ، ثم يذهب بالنهار ويأتي بالليل ، واختلاف الليل والنهار ، من أعظم آياته الدالة على كمال قدرته ، ومن أعظم مننه على خلقه كما بين الأمرين في سورة القصص في قوله تعالى قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون الآية [ 28 \ 71 - 73 ] ، أي : لتسكنوا في الليل وتطلبوا معايشكم بالنهار . والآيات الدالة على اختلاف الليل والنهار من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله ، واستحقاقه للعبادة وحده كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ومن آياته الليل والنهار الآية [ 41 \ 37 ] وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون [ 36 \ 37 ] وقوله : يغشي الليل النهار الآية [ 7 \ 54 ] وقوله : ولا الليل سابق النهار [ 36 \ 40 ] وقوله تعالى : وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] ، وقوله تعالى : إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا . وقوله تعالى : أفلا تعقلون أي : تدركون بعقولكم أن الذي ينشئ السمع والأبصار والأفئدة ، ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ، وهو الذي يحيي ويميت ويخالف بين الليل والنهار أنه الإله الحق المعبود وحده - جل وعلا - ، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ، لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي .

والمعنى : أن الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم ، من إنكار البعث ; لأن الاستفهام في قوله : أئنا لمبعوثون إنكار منهم للبعث ، والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة ; كقوله تعالى عنهم : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وكقوله عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] [ ص: 348 ] وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] وقوله عنهم : أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 11 - 12 ] ، والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة : وقد بينا في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] ، وفي أول سورة النحل ، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت ، وأوردنا منها كثيرا كقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآيات [ 22 \ 5 ] ، وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت ، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك ، فأغنى ذلك عن التطويل هنا ، وقوله تعالى في هذه الآية أئذا متنا قرأ نافع والكسائي ، بالاستفهام في : أئذا متنا ، وحذف همزة الاستفهام ، في أئنا لمبعوثون ، بل قرأ إنا لمبعوثون بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول ، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس ، فحذف همزة الاستفهام ، من أئذا ، وقرأ إذا بدون استفهام ، وأثبت همزة الاستفهام في قوله : أئنا لمبعوثون وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر ، على الاستفهام الأول المحذوف فيها ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة بالاستفهام فيهما معا : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون وهم على أصولهم في الهمزتين ، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية ، والباقون يحققونها ، وأدخل قالون ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفا بين الهمزتين ، وقرأ الباقون بالقصر دون الألف ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ، عن عاصم : متنا بكسر الميم ، والباقون : بضم الميم ، وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : قالت ياليتني مت قبل هذا الآية [ 19 \ 23 ] وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل ، وبينا أنه يخفى على كثير من طلبة العلم ، وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا : إنهم وعدوا بالبعث ، ووعد به آباؤهم من قبلهم ، والظاهر أنهم يعنون أجدادهم ، الذين جاءتهم الرسل ، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء ، وقالوا : إن البعث الذي وعدوا به [ ص: 349 ] هم وآباؤهم كذب لا حقيقة له ، وأنه ما هو إلا أساطير الأولين أي : ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات ، والأساطير : جمع أسطورة ، وقيل : جمع أسطارة ، وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله : وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين [ 27 \ 67 - 68 ] ، ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث ، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون إلى قوله : فأنى تسحرون [ 23 \ 84 - 89 ] ; لأن من له الأرض ، ومن فيها ، ومن هو رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، ومن بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، لا شك أنه قادر على بعث الناس بعد الموت ، كما أوضحنا فيما مر البراهين القرآنية القطعية ، الدالة على ذلك .
قوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون ، قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة ، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده ، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته ، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيرا من الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، مع الإيضاح ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله في هذه الآية الكريمة : من بيده ملكوت كل شيء الملكوت : فعلوت من الملك أي : من بيده ملك كل شيء ، بمعنى : من هو مالك كل شيء كائنا ما كان . وقال بعض أهل العلم : زيادة الواو والتاء في نحو : الملكوت ، والرحموت ، والرهبوت بمعنى الملك والرحمة ، والرهبة : تفيد المبالغة في ذلك ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وهو يجير ولا يجار عليه ، أي : هو يمنع من [ ص: 350 ] شاء ممن شاء ، ولا يمنع أحد منه أحدا شاء أن يهلكه أو يعذبه ; لأنه هو القادر وحده ، على كل شيء ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، ومنه قول الشاعر :
أراك طفقت تظلم من أجرنا وظلم الجار إذلال المجير


وقوله تعالى : فأنى تسحرون أي : كيف تخدعون ، وتصرفون عن توحيد ربكم ، وطاعته مع ظهور براهينه القاطعة وأدلته الساطعة ، وقيل : فأنى تسحرون ، أي : كيف يخيل إليكم : أن تشركوا به ما لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يغني عنكم شيئا بناء على أن السحر هو التخييل .

وقد قدمنا الكلام على السحر مستوفى في سورة طه في الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] والظاهر أن معنى تسحرون هنا : تخدعون بالشبه الباطلة فيذهب بعقولكم ، عن الحق كما يفعل بالمسحور ، والله تعالى أعلم .

وقوله : أفلا تذكرون قرأه حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي بتخفيف الذال بحذف إحدى التاءين ، والباقون بالتشديد لإدغام إحدى التاءين في الذال .

وقوله تعالى : سيقولون لله جاء في هذه الآيات ثلاث مرات ، الأول : سيقولون لله قل أفلا تذكرون ، وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة ; لأنها جواب المجرور بلام الجر ، وهو قوله : قل لمن الأرض ومن فيها فجواب لمن الأرض ، هو أن تقول : لله ، وأما الثاني الذي هو : سيقولون لله قل أفلا تتقون . والثالث : الذي هو قوله : سيقولون لله قل فأنى تسحرون فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من لفظ الجلالة .

والمعنى على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه ; لأن الظاهر في جواب من رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، أن تقول : الله بالرفع ، أي : رب ما ذكر هو الله ، وكذلك جواب قوله : من بيده ملكوت كل شيء الآية . فالظاهر في جوابه أيضا أن يقال : الله بالرفع ، أي : الذي بيده ملكوت كل شيء ، فقراءة أبي عمرو جارية على الظاهر ، الذي لا إشكال فيه ، وقرأ الحرفين المذكورين غيره من السبعة ، بحرف الجر وخفض الهاء من لفظ الجلالة كالأول .

وفي هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور سؤال معروف ، وهو أن يقال : ما وجه الإتيان بلام الجر ، مع أن السؤال لا يستوجب الجواب بها ; لأن قول [ ص: 351 ] من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم الظاهر أن يقال في جوابه : ربهما الله ، وإذا يشكل وجه الإتيان بلام الجر . والجواب عن هذا السؤال معروف واضح ; لأن قوله تعالى : من رب السماوات الآية ، وقوله : من بيده ملكوت كل شيء فيه معنى : من هو مالك السماوات والأرض ، والعرش ، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال : لله ، أي : كل ذلك ملك لله ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد


لأن قوله : من رب المزالف فيه معنى من هو مالكها ، فحسن الجواب باللام : أي هي لخالد ، والمزالف : مزلفة كمرحلة ، قال في القاموس : هي كل قرية تكون بين البر والريف ، وجمعها مزالف .

حب
قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أنه لم يتخذ ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

والثانية : أنه لم يكن معه إله آخر سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

والثالثة : أنه أقام البرهان على استحالة تعدد الآلهة بقوله :

إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . أما ادعاؤهم له الأولاد ، فقد بينا الآيات الدالة على عظم فريتهم في ذلك ، وظهور بطلان دعواهم ، ورد الله عليهم في ذلك في مواضع متعددة ، فقد أوضحنا في سورة النحل في الكلام ، على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 57 - 58 ] ، وقد ذكرنا طرفا منه في أول الكهف في الكلام على قوله : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] ، وفي مواضع غير ما ذكر ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وأما تفرده تعالى بالألوهية مع إقامة الدليل على ذلك فقد بيناه ، وذكرنا ما يدل عليه من الآيات في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] ولم نتعرض لما يسميه المتكلمون دليل التمانع ، لكثرة المناقشات الواردة على أهل الكلام فيه ، وإنما بينا الآيات بالقرآن على طريق الاستدلال القرآني بها فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 352 ] قوله تعالى : قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أمر - جل وعلا - نبيه في هاتين الآيتين الكريمتين أن يقول : رب إما تريني ما يوعدون ، أي : أن ترني ما توعدهم من العذاب ، بأن تنزله بهم ، وأنا حاضر شاهد أرى نزوله بهم فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أي : لا تجعلني في جملة المعذبين الظالمين ، بل أخرجني منهم ، ونجني من عذابهم ، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أنه لا ينزل بهم العذاب ، وهو فيهم وذلك في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية [ 8 \ 33 ] ، وبين هنا أنه قادر على أن يره العذاب ، الذي وعدهم به في قوله : وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون [ 23 \ 95 ] وبين في سورة الزخرف ، أنه إن ذهب به قبل تعذيبهم ، فإنه معذب لهم ومنتقم منهم لا محالة ، وأنه إن عذبهم ، وهو حاضر فهو مقتدر عليهم ، وذلك في قوله تعالى : فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون [ 43 \ 41 - 42 ] .
قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ، هذا الذي تضمنته هذه الآيات الثلاث مما ينبغي أن يعامل به شياطين الإنس وشياطين الجن ، قد قدمنا الآيات الدالة عليه بإيضاح في آخر سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ الآية [ 7 \ 199 - 200 ] ، وقوله في هذه الآية : بالتي هي أحسن ، أي : بالخصلة التي هي أحسن الخصال ، والسيئة مفعول ادفع ووزن السيئة ، فيعلة أصلها : سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة ، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين ، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشار إليها بقول ابن مالك في الخلاصة :


إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا فياء الواو اقلبن مدغما
وشذ معطى غير ما قد رسما


كما قدمناه مرارا .

والسيئة في اللغة : الخصلة من خصال السوء ، وقوله تعالى : نحن أعلم بما يصفون ، أي : بما تصفه ألسنتهم من الكذب في تكذيبهم لك ، وادعائهم [ ص: 353 ] الأولاد والشركاء لله ، وقد قدمنا في سورة المائدة أن اللين والصفح المطلوب في آيات القرآن بعد نزول القتال إنما هو بالنسبة إلى المؤمنين ، دون الكافرين في الكلام على قوله تعالى : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] وبينا الآيات الدالة على ذلك كقوله في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه أشداء على الكفار رحماء بينهم [ 48 \ 29 ] وقوله : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] ، وقوله : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 ] إلى آخر ما تقدم . وقوله في هذه الآية : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ : جمع همزة وهي المرة من فعل الهمز ، وهو في اللغة : النخس والدفع ، وهمزات الشياطين : نخساتهم لبني آدم ليحثوهم ، ويحضوهم على المعاصي ، كما أوضحنا الكلام عليه في قوله تعالى : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وكقوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل الآية [ 43 \ 36 - 37 ] .

والظاهر في قوله : وأعوذ بك رب أن يحضرون أن المعنى : أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمر من أموري كائنا ما كان ، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن ، كما قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ 16 \ 98 ] أو عند حضور الموت أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا ، الظاهر عندي : أن " حتى " في هذه الآية : هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، ويقال لها : حرف ابتداء ، كما قاله ابن عطية ، خلافا للزمخشري القائل : إنها غاية لقوله : نحن أعلم بما يصفون [ 23 \ 96 ] ولأبي حيان القائل : إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها ، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم ، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون . ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق :
فواعجبا حتى كليب تسبني كأن أباها نهشل أو مجاشع


قال : المعنى : يسبني الناس حتى كليب ، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة [ ص: 354 ] وفي الآية دل ما قبلها عليها ، انتهى الغرض من كلام أبي حيان ، ولا يظهر عندي كل الظهور .

بل الأظهر عندي : هو ما قدمته وهو قول ابن عطية ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة ، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة ، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك ، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو " كلا " جاء موضحا في مواضع أخر كقوله تعالى :

وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 10 - 11 ] ، وقوله تعالى : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات . وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت ، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 10:58 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (387)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 355 إلى صـ 362



ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 27 - 28 ] وقوله تعالى : وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل [ 42 \ 44 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [ 40 \ 11 ] وقوله تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [ 35 \ 37 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل الآية [ 34 \ 51 - 53 ] ، وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا ، وأمثالها في القرآن : أنهم يسألون الرجعة فلا [ ص: 355 ] يجابون عند حضور الموت ، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى ، ووقت عرضهم على النار .

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه صيغة الجمع في قوله : رب ارجعون ولم يقل : رب ارجعني بالإفراد .

وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وبينا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : وهو أظهرها : أن صيغة الجمع في قوله : ارجعون ، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره :


ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل


وقول الآخر يخاطب امرأة :


وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


والنقاخ : الماء البارد . والبرد : النوم ، وقيل : ضد الحر ، والأول أظهر .

الوجه الثاني : قوله : رب استغاثة به تعالى ، وقوله : ارجعون : خطاب للملائكة ، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير ، عن ابن جريج قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : " إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ، فيقول : بل قدموني إلى الله . وأما الكافر فيقولون له : نرجعك ؟ فيقول : رب ارجعون " .

الوجه الثالث : وهو قول المازني : إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني ارجعني ، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لعلي أعمل صالحا الظاهر أن لعل فيه للتعليل ، أي : ارجعون ; لأجل أن أعمل صالحا ، وقيل : هي للترجي والتوقع ; لأنه غير جازم ، بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحا ، والأول أظهر . والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه والصلوات والزكاة ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى ، وقوله كلا : كلمة زجر : وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح .
[ ص: 356 ] قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، في هذه الآية الكريمة ، سؤالان معروفان يحتاجان إلى جواب مبين للمقصود مزيل للإشكال .

السؤال الأول : أنه تعالى ذكر في هذه الآية : أنه إذا نفخ في الصور - والظاهر أنها النفخة الثانية - أنهم لا أنساب بينهم يومئذ ، فيقال : ما وجه نفي الأنساب بينهم ، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى : فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه [ 80 \ 33 - 36 ] ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم .

السؤال الثاني : أنه قال : ولا يتساءلون مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون ، كقوله في سورة الطور وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 52 \ 25 ] وقوله في الصافات وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " بما حاصله :

إن الجواب عن السؤال الأول : هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها ، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا ، من التفاخر بالآباء ، والنفع والعواطف والصلات ، فكل ذلك ينقطع يوم القيامة ، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه ، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب ، من أصلها بدليل قوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه الآية [ 80 \ 34 - 35 ] .

وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه :

الأول : هو قول من قال : إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى ، وقبل الثانية ، وإثباته بعدهما معا ، وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر .

الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة ، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي ، من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص ، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض ، فيما [ ص: 357 ] بينهم من الحقوق ، لقنوطهم من الإعطاء ، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان .
قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ، قد قدمنا الآيات الموضحة ، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه الآية [ 7 \ 8 - 9 ] ، وقوله في سورة الكهف : فإن الله عدو للكافرين [ 18 \ 105 ] وغير ذلك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار تلفح وجوههم النار ، أي : تحرقها إحراقا شديدا ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار الآية [ 33 \ 66 ] ، وقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار [ 27 \ 90 ] ، وقوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، وقوله تعالى : سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار الآية [ 14 \ 50 ] ، وقوله تعالى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة [ 39 \ 24 ] وقوله : يشوي الوجوه بئس الشراب الآية [ 18 \ 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] الكالح : هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه ، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم ، حتى تتقلص عن أسنانهم ، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر ، ومنه قول الأعشى :
وله المقدم لا مثل له ساعة الشدق عن الناب كلح
وعن ابن عباس : كالحون : عابسون .
قوله تعالى : ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين [ ص: 358 ] ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : من أن أهل النار يسألون يوم القيامة ، فيقول لهم ربهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم ، أي : في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون ، وأنهم اعترفوا بذلك ، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان ; لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له ، فلذلك كفروا ، وكذبوا الرسل .

قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله هنا : قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين الظاهر أن معنى قولهم : غلبت علينا شقوتنا أن الرسل بلغتهم ، وأنذرتهم وتلت عليهم آيات ربهم ، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية ، غلب عليهم ، فكذبوا الرسل ، ليصيروا إلى ما سبق في علمه - جل وعلا - ، من شقاوتهم ، ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقوله عن أهل النار قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] إلى غير ذلك من الآيات ، ويزيد ذلك إيضاحا قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل ميسر لما خلق له " وقوله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] وقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 \ 118 - 119 ] على أصح التفسيرين وقوله عنهم وكنا قوما ضالين ، اعتراف منهم بضلالهم ، حيث لا ينفع الاعتراف بالذنب ولا الندم عليه ، كقوله تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] ونحو ذلك من الآيات .

وهذا الذي فسرنا به الآية ، هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة ، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية ، وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ، فسمى اللذات والأهواء شقوة ; لأنهما يؤديان إليها كما قال الله - عز وجل - : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ; لأن ذلك يؤديهم إلى النار . اهـ ، تكلف مخالف للتحقيق .

ثم حكى القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال : وقيل حسن الظن بالنفس ، وسوء الظن بالخلق اهـ .

ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، وقوله هنا : قوما ضالين [ ص: 359 ] أي : عن الإسلام إلى الكفر ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار ، وقرأ هذا الحرف : حمزة ، والكسائي : شقاوتنا بفتح الشين ، والقاف وألف بعدها ، وقرأه الباقون : بكسر الشين ، وإسكان القاف وحذف الألف .
قوله تعالى : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها ، فإنا ظالمون ، وأن الله يجيبهم بقوله : اخسئوا فيها ولا تكلمون ، أي : امكثوا فيها خاسئين ، أي : أذلاء صاغرين حقيرين ; لأن لفظة اخسأ إنما تقال للحقير الذليل ، كالكلب ونحوه ، فقوله : اخسئوا فيها ، أي : ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان .

وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه ; كقوله تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] وقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] وقوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها الآية [ 22 \ 22 ] ، وقوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا : ربنا أخرجنا منها فأجيبوا اخسئوا فيها ولا تكلمون وفي السجدة ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا [ 32 \ 12 ] فأجيبوا ولكن حق القول مني لأملأن جهنم الآية [ 32 \ 13 ] ، وفي سورة المؤمن قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [ 40 \ 11 ] فأجيبوا ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] وفي الزخرف ونادوا يامالك ليقض علينا ربك [ 43 \ 77 ] فأجيبوا إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] وفي سورة إبراهيم فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل [ 14 \ 44 ] فيجابون أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] وفي سورة فاطر وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل [ 35 \ 37 ] فيجابون [ ص: 360 ] أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [ 53 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة .

وعن ابن عباس : أن بين كل طلب منها وجوابه ألف سنة والله أعلم . وقوله في هذه الآية : ولا تكلمون أي : في رفع العذاب عنكم ، ولا إخراجكم من النار أعاذنا الله ، وإخواننا المسلمين منها .
قوله تعالى : إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون . قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل ، كقولك : عاقبه إنه مسئ ، أي : لأجل إساءته ، وقوله في هذه الآية : إنه كان فريق من عبادي ، يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة ، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم ، وسخريتهم من الفريق المؤمن الذي يقول : ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ، فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله ، والإيمان به فيدخلون بذلك النار .

وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون [ 83 \ 29 - 30 ] وكقوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] وكل ذلك احتقار منهم لهم ، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير ، وكقوله تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة الآية [ 7 \ 49 ] ، وقوله تعالى عنهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] وكل ذلك احتقار منهم لهم ، وقوله : فاتخذتموهم سخريا [ 23 \ 110 ] والسخري بالضم والكسر : مصدر سخر منه ، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار ، قال الزمخشري في ياء النسب : زيادة في الفعل ، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص ، ومعناه : أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم ومبالغتهم في ذلك ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : سخريا بضم السين ، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد ، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين ، كما بينا ، وممن قال بأن معناهما واحد : الخليل وسيبويه ، وهو الحق إن شاء الله تعالى . وعن الكسائي والفراء : أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء ، وأن السخري بضم السين من التسخير ، الذي هو التذليل والعبودية .

[ ص: 361 ] والمعنى : أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين ، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال ، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، وحتى في قوله : حتى أنسوكم ذكري حرف غاية ; لاتخاذهم إياهم سخريا ، أي : لم يزالوا كذلك ، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به ، فكان مأواهم النار ، والعياذ بالله .
قوله تعالى : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه جزى أولئك المؤمنين المستضعفين في الدنيا بالفوز بالجنة في الآخرة ، وقوله : بما صبروا ، أي : بسبب صبرهم في دار الدنيا ، على أذى الكفار الذين اتخذوهم سخريا ، وعلى غير ذلك من امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن أولئك المستضعفين الذين كان الكفار يستهزئون بهم ، جزاهم الله يوم القيامة الفوز بجنته ، ورضوانه ، جاء مبينا في مواضع أخر مع بيان أنهم يوم القيامة يهزؤون بالكفار ، ويضحكون منهم ، والكفار في النار ، والعياذ بالله كقوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 34 - 35 ] وقوله تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 49 ] وقوله : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ حمزة والكسائي : إنهم هم الفائزون بكسر همزة إن ، وعلى قراءتهما فمفعول جزيتهم : محذوف ، أي : جزيتهم جنتي إنهم هم الفائزون ، وعلى هذه القراءة فإن لاستئناف الكلام ، وقرأ الباقون : أنهم هم الفائزون ، بفتح همزة أن ، وعلى قراءة الجمهور هذه فالمصدر المنسبك ، من أن وصلتها مفعول به لجزيتهم ، أي : جزيتهم فوزهم كما لا يخفى ، والفوز نيل المطلوب الأعظم .
قوله تعالى : قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين ، في هذه الآية سؤال معروف : وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم ، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 \ 103 ] والعشر أكثر من يوم أو بعضه ، وكقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 \ 55 ]

[ ص: 362 ] والساعة : أقل من يوم أو بعضه ، وقوله : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها [ 79 \ 46 ] وقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ 10 \ 45 ] وقوله تعالى : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون [ 46 \ 35 ] .

وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله : أن بعضهم يقول لبثنا يوما أو بعض يوم ، ويقول بعض آخر منهم : لبثنا ساعة ويقول بعض آخر منهم : لبثنا عشرا .

والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكا ، وأرجحهم عقلا ، وأمثلهم طريقة هو من يقول : إنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا ، وذلك في قوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 20 \ 103 - 104 ] فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم ، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى : فاسأل العادين ، أي : الحاسبين ، الذين يضبطون مدة لبثنا ، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين ، وحذف الهمزة ، والباقون : فاسأل بغير نقل ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر ، وقرأ الباقون : قال كم لبثتم بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي .

وقال الزمخشري ما حاصله : إنه على قراءة قال بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة ، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر ، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال ، والله تعالى أعلم .

وقد صدقهم الله - جل وعلا - في قلة لبثهم في الدنيا بقوله : قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون [ 23 \ 114 ] .

لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جدا ، بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار ، والعياذ بالله . وقرأ حمزة والكسائي : قل إن لبثتم إلا قليلا بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:06 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (388)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 363 إلى صـ 370




[ ص: 363 ] قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، الاستفهام في قوله : أفحسبتم للإنكار ، والحسبان هنا معناه : الظن ، يعني : أظننتم أنا خلقناكم عبثا لا لحكمة ، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة ، فنجازيكم على أعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ثم نزه - جل وعلا - نفسه ، عن أن يكون خلقهم عبثا ، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء .
وقوله : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم أي تعاظم وتقدس ، وتنزه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، ومنه خلقكم عبثا سبحانه وتعالى ، عن ذلك علوا كبيرا .

وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] وقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ 44 \ 38 - 39 ] وقوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 36 - 39 ] وقوله : سدى ، أي : مهملا لا يحاسب ولا يجازى ، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى وقوله : عبثا : يجوز إعرابه حالا ، لأنه مصدر منكر ، أي : إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين ، ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله ، أي : إنما خلقناكم ; لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم ، وأعربه بعضهم مفعولا مطلقا ، وليس بظاهر . قال القرطبي عبثا : أي مهملين ، والعبث في اللغة : اللعب ، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين [ 44 \ 38 ] وقوله : الملك الحق [ 23 \ 161 ] ، قال بعضهم : أي : الذي يحق له الملك ; لأن كل شيء منه وإليه ، وقال بعضهم : الملك الحق : الثابت الذي لا يزول ملكه ، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 \ 52 ] وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله : وأنكم إلينا لا ترجعون معطوف على قوله : أنما خلقناكم عبثا خلافا لمن قال : إنه معطوف على قوله : عبثا ; لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 364 ] قوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون .

البرهان : الدليل الذي لا يترك في الحق لبسا ، وقوله : لا برهان له به كقوله ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا الآية [ 22 \ 71 ] ، والسلطان : هو الحجة الواضحة وهو بمعنى : البرهان ، وقوله في هذه الآية الكريمة فإنما حسابه عند ربه قد بين أن حسابه الذي عند ربه ، لا فلاح له فيه بقوله بعده إنه لا يفلح الكافرون وأعظم الكافرين كفرا هو من يدعو مع الله إلها آخر ، لا برهان له به ، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار ، وقد حذر الله من دعاء إله معه في آيات كثيرة كقوله : ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [ 51 \ 51 ] وقوله : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] وقوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا : لا برهان له به لا مفهوم مخالفة له ، فلا يصح لأحد أن يقول : أما من عبد معه إلها آخر له برهان به فلا مانع من ذلك ; لاستحالة وجود برهان على عبادة إله آخر معه ، بل البراهين القطعية المتواترة ، دالة على أنه هو المعبود وحده - جل وعلا - ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره ألبتة .

وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة ، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم ، فتخصيصه بالذكر إذا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع .

ومن أمثلته في القرآن هذه الآية ; لأن قوله : لا برهان له به وصف مطابق للواقع ; لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان ، فذكر الوصف لموافقته الواقع ، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق .

ومن أمثلته في القرآن أيضا قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [ 3 \ 28 ] ; لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين ، فقوله من دون المؤمنين ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم ، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ [ ص: 365 ] المؤمنين الكافرين أولياء ، ممنوع على كل حال ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله :
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
وقوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة : وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين فيه الدليل على أن ذلك الفريق ، الذين كانوا يقولون : ( ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) . موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به ، وأمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - لتقتدي به أمته في ذلك ، ومعمول اغفر وارحم حذف هنا ، لدلالة ما تقدم عليه في قوله : فاغفر لنا وارحمنا [ 7 \ 155 ] والمغفرة : ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها ، والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمن ، واسمه الرحيم ، وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم ، وصيغة التفضيل في قوله : وأنت خير الراحمين ; لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضا ، ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه ، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم ، وصفاتهم كما أوضحناه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 366 ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ النُّورِ


قَوْلُهُ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ زَانِيَةٍ وَكُلَّ زَانٍ يَجِبُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، إِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُمَا الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، فَالْمَوْصُولَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ .

وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا لِلتَّعْرِيفِ لِتَنَاسِي الْوَصْفِيَّةِ ، وَأَنَّ مُرْتَكِبَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّانِي ، كَإِطْلَاقِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ ، فَالْعُمُومُ الشَّامِلُ لِكُلِّ زَانِيَةٍ وَكُلِّ زَانٍ ، هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ ، عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ .

وَظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ شُمُولُهُ لِلْعَبْدِ ، وَالْحُرِّ ، وَالْأَمَةِ ، وَالْحُرَّةِ ، وَالْبِكْرِ ، وَالْمُحْصَنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .

وَظَاهِرُهُ أَيْضًا : أَنَّهُ لَا تُغَرَّبُ الزَّانِيَةُ ، وَلَا الزَّانِي عَامًا مَعَ الْجَلْدِ ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ يُخَصَّصُ مَرَّتَيْنِ .

إِحْدَاهُمَا : تَخْصِيصُ حُكْمِ جَلْدِهَا مِائَةً بِكَوْنِهَا حُرَّةً ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ أَمَةً ، فَإِنَّهَا تُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ : فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ 4 \ 25 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا : الْحَرَائِرُ وَالْعَذَابُ الْجَلْدُ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ الزَّانِيَةِ : مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالْأَمَةُ عَلَيْهَا نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ " النِّسَاءِ " هَذِهِ ، وَهُوَ خَمْسُونَ ; فَآيَةُ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ 4 \ 25 ] ، مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّانِيَةِ الْأُنْثَى .

وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ فِي آيَةِ " النُّورِ " هَذِهِ فَهُوَ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ ، بَاقِيَةِ الْحُكْمِ ، تَقْتَضِي أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ هُنَا مُخَصَّصٌ بِكَوْنِهَا بِكْرًا .

[ ص: 367 ] أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً ، بِمَعْنَى أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ مِنْ قَبْلِ الزِّنَى ، وَجَامَعَهَا زَوْجُهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهَا تُرْجَمُ .

وَالْآيَةُ الَّتِي خَصَصَتْهَا بِهَذَا الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ ، هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا يُجْمَعُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ ، بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ، وَإِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ بِدُونِ جَلْدٍ .

أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ ، وَإِنَّمَا فِي آيَةِ الرَّجْمِ زِيَادَتُهُ عَلَى الْجَلْدِ ، فَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَيْرَ بَعِيدٍ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ وَمُنَاقَشَةُ أَدِلَّتِهِمْ .

أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا ، أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِهِ ، وَأَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْمِائَةَ مِنَ الذُّكُورِ ، إِنَّمَا هُوَ الزَّانِي الْبِكْرُ ، وَأَمَّا الْمُحْصَنُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الذَّكَرِ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا فِي الْأُنْثَى .

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى .

وَعُمُومُ الزَّانِي فِي آيَةِ " النُّورِ " هَذِهِ ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى ، بِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ خَاصًّا بِالزَّانِي الْحُرِّ ، أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ .

وَوَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ : إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ فِي تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى بِالرِّقِّ ; لِأَنَّ مَنَاطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُدُودِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ " النِّسَاءِ " فِي الْإِمَاءِ : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ 4 \ 25 ] ، أَنَّ الرِّقَّ مَنَاطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحُدُودِ ، فَالْمُخَصِّصُ لِعُمُومِ الزَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ ، هُوَ مَا أَفَادَتْهُ آيَةُ : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ، وَإِنْ سَمَّاهُ الْأُصُولِيُّونَ تَخْصِيصًا بِالْقِيَاسِ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْصِيصُ آيَةٍ بِمَا فُهِمَ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى .
[ ص: 368 ] مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ رَجْمَ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، إِحْدَاهُمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا ، وَبَقِيَ حُكْمُهَا ، وَالثَّانِيَةُ : بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ ، أَمَّا الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا ، وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ ) إِلَى آخِرِهَا ; كَمَا سَيَأْتِي ، وَكَوْنُ الرَّجْمِ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ : فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَى إِذَا أَحْصَنَتْ :

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى ، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا ، إِذْ رَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ : لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ : لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ ، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ .

وَفِيهِ : إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ ، فَقَرَأْنَاهَا ، وَعَقَلْنَاهَا ، وَوَعَيْنَاهَا ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى ، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ،
انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ .

وَفِيهِ : أَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَوْنُهَا لَمْ تُقْرَأْ فِي الصُّحُفِ ، يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهَا ، مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا ; كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .

وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ : لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى ، وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ .

قَالَ سُفْيَانُ : كَذَا حَفِظْتُ : أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ .

[ ص: 369 ] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، فِي شَرْحِهِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ : أَوْ الِاعْتِرَافُ ، وَقَدْ قَرَأْنَاهَا : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ) ، وَقَدْ رَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ : وَقَدْ قَرَأْنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ : الْبَتَّةَ ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ هُوَ الَّذِي حَذَفَ ذَلِكَ عَمْدًا ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنْ سُفْيَانَ كَرِوَايَةِ جَعْفَرٍ ، ثُمَّ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ . . . ) غَيْرَ سُفْيَانَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَهِمَ فِي ذَلِكَ .

قُلْتُ : وَقَدْ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ ، وَيُونُسَ ، وَمَعْمَرٍ ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، وَعَقِيلٍ ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ .

وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، قَالَ : لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ مِنَ الْحَجِّ ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ ، ثُمَّ قَالَ : إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا بِيَدِي : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ) ، قَالَ مَالِكٌ : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ : الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ .

وَوَقَعَ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عُمَرَ : لَكَتَبْتُهَا فِي آخِرِ الْقُرْآنِ .

وَوَقَعَتْ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ : قَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا : كَتَبَ عُمَرُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، لَكَتَبْتُهُ قَدْ قَرَأْنَا : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : وَلَقَدْ كَانَ فِيهَا ، أَيْ سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " ، آيَةُ الرَّجْمِ : ( الشَّيْخُ ) ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ .

[ ص: 370 ] وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ " مِثْلَهُ ، إِلَى قَوْلِهِ : " الْبَتَّةَ " .

وَمِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ ، قَالَتْ : لَقَدْ أَقْرَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةَ الرَّجْمِ ، فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ : " الْبَتَّةَ " ، وَزَادَ " بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ " .

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِزَيْدٍ : أَلَا تَكْتُبْهَا فِي الْمُصْحَفِ ؟ قَالَ : لَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمَانِ وَلَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَنَا أَكْفِيكُمْ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَكْتِبْنِي آيَةَ الرَّجْمِ ، فَقَالَ : " لَا أَسْتَطِيعُ " .

وَرُوِّينَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى وَهُوَ ابْنُ حَكِيمٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ : لَا تَشُكُّوا فِي الرَّجْمِ فَإِنَّهُ حَقٌّ ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَهُ فِي الْمُصْحَفِ ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ أَتَيْتَنِي ، وَأَنَا أَسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَدَفَعْتَ فِي صَدْرِي ، وَقُلْتَ : اسْتَقْرِئْهُ آيَةَ الرَّجْمِ ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الْحُمُرِ ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي رَفْعِ تِلَاوَتِهَا ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ .

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ ، قَالَ : كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ يَكْتُبَانِ فِي الْمُصْحَفِ ، فَمَرَّا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ زَيْدٌ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ " ، فَقَالَ عُمَرُ : لَمَّا نَزَلَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقُلْتُ : أَكْتُبُهَا ؟ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ إِذَا زَنَى ، وَلَمْ يُحْصِنْ جُلِدَ ، وَأَنَّ الشَّابَّ إِذَا زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ رُجِمَ .

فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ السَّبَبُ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا لِكَوْنِ الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ عُمُومِهَا ، انْتَهَى بِطُولِهِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي .

وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ ، بَاقِيَةُ الْحُكْمِ ، وَأَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الْجَلْدِ ، عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلَدِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:09 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (389)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 371 إلى صـ 378



وَلَكِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ اسْتِفَادَةِ سَبَبِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْصِيصَ عُمُومِهِ ، وَيُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ ، وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ ، وَالْآيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِهَا تَكُونُ لَهَا أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، كَالتَّعَبُّدِ بِتِلَاوَتِهَا ، [ ص: 371 ] وَكَالْعَمَلِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهَا بِحِكْمَتِهِ فَتَارَةً يَنْسَخُ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا مِنْ تِلَاوَةٍ ، وَتَعَبُّدٍ ، وَعَمَلٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ كَآيَةِ عَشْرِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، وَتَارَةً يَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِهَا دُونَ بَعْضٍ ، كَنَسْخِ حُكْمِ تِلَاوَتِهَا وَالتَّعَبُّدِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَكَنَسْخِ حُكْمِهَا دُونَ تِلَاوَتِهَا ، وَالتَّعَبُّدِ بِهَا كَمَا هُوَ غَالِبُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ النَّسْخِ .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَتِهِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الْآيَةَ [ 16 \ 101 ] ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ .

فَآيَةُ الرَّجْمِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا ، لَا التَّعَبُّدُ بِهَا ، وَلَا تِلَاوَتُهَا ، فَأُنْزِلَتْ وَقَرَأَهَا النَّاسُ ، وَفَهِمُوا مِنْهَا حُكْمَ الرَّجْمِ ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نَسَخَ اللَّهُ تِلَاوَتَهَا ، وَالتَّعَبُّدَ بِهَا ، وَأَبْقَى حُكْمَهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ .

فَالرَّجْمُ ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ بَاقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا فَصَارَ حُكْمُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ : أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخُطَّابِ ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ ، اهـ مِنْهُ .

فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، عَنْ هَذَا الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، دَلِيلٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ [ ص: 372 ] اللَّهِ ، أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَرَأَهَا الصَّحَابَةُ ، وَوَعَوْهَا ، وَعَقَلُوهَا وَأَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَعَلُوهُ بَعْدَهُ .

فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا شَكَّ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهَا لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ 3 \ 23 ] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ ، وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقِصَّةُ رَجْمِهِ لَهُمَا مَشْهُورَةٌ ، ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ : ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، أَيْ : عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ ، وَذَمُّ الْمُعْرِضِ عَنِ الرَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا ، وَهِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى ، وهو محصن .

ومعنى الإحصان : أن يكون قد جامع في عمره ، ولو مرة واحدة في نكاح صحيح ، وهو بالغ عاقل حر ، والرجل والمرأة في هذا سواء ، وكذلك المسلم ، والكافر ، والرشيد ، والمحجور عليه لسفه ، والدليل على أن الكافر إذا كان محصنا يرجم الحديث الصحيح الذي ثبت فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين زنيا بعد الإحصان ، وقصة رجمهما مشهورة مع صحتها ; كما هو معلوم .
الفرع الثاني : أجمع أهل العلم على أن من زنى ، وهو محصن يرجم ، ولم نعلم بأحد من أهل القبلة خالف في رجم الزاني المحصن ، ذكرا كان أو أنثى إلا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن الخوارج ، وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ، فإنهم لم يقولوا بالرجم ، وبطلان مذهب من ذكر من الخوارج ، وبعض المعتزلة واضح من النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعده كما قدمنا من حديث عمر المتفق عليه ، وكما سيأتي إن شاء الله .
الفرع الثالث : أجمع العلماء على أن الزاني ذكرا كان أو أنثى ، إذا قامت عليه البينة [ ص: 373 ] أنهم رأوه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة ، أنه يجب رجمه إذا كان محصنا ، وأجمع العلماء أن بينة الزنى ، لا يقبل فيها أقل من أربعة عدول ذكور ، فإن شهد ثلاثة عدول ، لم تقبل شهادتهم وحدوا ; لأنهم قذفة كاذبون ; لأن الله تعالى يقول : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ، ويقول - جل وعلا - : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم الآية [ 4 \ 15 ] ، وكلتا الآيتين المذكورتين صريحة في أن الشهود في الزنى ، لا يجوز أن يكونوا أقل من أربعة ، وقد قال - جل وعلا - : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون [ 24 \ 13 ] ، وقد بينت هذه الآية اشتراط الأربعة كما في الآيتين المذكورتين قبلها ، وزادت أن القاذفين إذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة هم الكاذبون عند الله .

ومن كذب في دعواه الزنى على محصن أو محصنة وجب عليه حد القذف ; كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .

وما ذكره أبو الخطاب من الحنابلة عن أحمد والشافعي من أن شهود الزنى ، إذا لم يكملوا لا حد قذف عليهم ; لأنهم شهود لا قذفة ، لا يعول عليه ، والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا .

ومما يؤيده قصة عمر مع الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة فإن رابعهم لما لم يصرح بالشهادة على المغيرة بالزنى ، جلد عمر الشهود الثلاثة جلد القذف ثمانين ، وفيهم أبو بكرة - رضي الله عنه - ، والقصة معروفة مشهورة ، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع .

وجمهور أهل العلم أن العبيد لا تقبل شهادتهم في الزنى ، ولا نعلم خلافا عن أحد من أهل العلم ، في عدم قبول شهادة العبيد في الزنى ، إلا رواية عن أحمد ليست هي مذهبه وإلا قول أبي ثور .

ويشترط في شهود الزنى أن يكونوا ذكورا ولا تصح فيه شهادة النساء بحال ، ولا نعلم أحدا من أهل العلم خالف في ذلك ، إلا شيئا يروى عن عطاء ، وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وهو شذوذ لا يعول عليه ; لأن لفظ الأربعة اسم لعدد [ ص: 374 ] المذكورين ، ويقتضي أن يكتفى فيه بأربعة ، ولا خلاف أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم ، وأن أقل ما يجزئ خمسة ، وهذا خلاف النص ; ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن ، قال الله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] ، والحدود تدرأ بالشبهات ، انتهى منه .

ولا خلاف بين أهل العلم أن شهادة الكفار كالذميين لا تقبل على المسلم بالزنى .

واختلف هل تقبل على كافر مثله ؟ فقيل : لا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رجم اليهوديين باعترافهما بالزنى ، لا بشهادة شهود من اليهود عليهم بالزنى ، والذين قالوا هذا القول زعموا أن شهادة الشهود في حديث جابر أنها شهادة شهود مسلمين ، يشهدون على اعتراف اليهوديين المذكورين بالزنى ، وممن قال هذا القول : ابن العربي المالكي .

وقال بعض أهل العلم : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض إن تحاكموا إلينا .

وقال القرطبي : الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ، ولا على كافر لا في حد ولا في غيره ، ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك ، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين ، وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم ، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم .

وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهوديين بأنه - صلى الله عليه وسلم - نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة ، وألزمهم العمل به ظاهرا لتحريفهم كتابهم ، وتغييرهم حكمه أو كان ذلك خاصا بهذه الواقعة .

وقال ابن حجر بعد نقله كلام القرطبي المذكور ، كذا قال : والثاني مردود ، ثم قال : وقال النووي : الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف ، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم ، ويتعين أنهما أقرا بالزنى .

ثم قال ابن حجر : قلت : لم يثبت أنهما كانوا مسلمين ، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك بقية اليهود ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامهم ، ولم يحكم فيهما إلا مستندا لما أطلعه الله تعالى عليه ، فحكم بالوحي ، وألزمهم الحجة بينهم ; كما قال تعالى : وشهد شاهد من أهلها [ 12 \ 26 ] ، وأن شهودهم شهدوا عليهما عند إخبارهم بما ذكر ، فلما رفعوا الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - استعلم القصة على وجهها فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في [ ص: 375 ] ذلك ، ولم يكن مستند حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما أطلعه الله عليه ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر في " فتح الباري " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل ، هو مذهب الجمهور من عدم قبول شهادة الكفار مطلقا ; لأن الله يقول في المسلمين الفاسقين : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، وإذا نص الله - جل وعلا - في محكم كتابه على عدم قبول شهادة الفاسق ، فالكافر أولى بذلك ، كما لا يخفى ، وقد قال - جل وعلا - في شهود الزنا ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم [ 4 \ 15 ] ، فخص الأربعة بكونهم منا ، ويمكن أن يجيب المانع بأن أول الآية فيه من نسائكم ، فلا نتناول نساء أهل الذمة ونحوهم من الكفار ، وأنه لا تقبل شهادة كافر في شيء إلا بدليل خاص كالوصية في السفر ، إذا لم يوجد مسلم ; لأن الله نص على ذلك بقوله : أو آخران من غيركم الآية [ 5 \ 106 ] .

والتحقيق أن حكمها غير منسوخ ; لأن القرآن لا يثبت نسخ حكمه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، والآيات التي زعم من ادعى النسخ أنها ناسخة لها ; كقوله : ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، وقوله : ممن ترضون من الشهداء [ 4 \ 282 ] ، وقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا [ 24 \ 4 ] .

والجمهور على أن الأعم لا ينسخ الأخص ، خلافا لأبي حنيفة .

أما حديث جابر المشار إليه الذي يفهم منه قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض في حد الزنى ، فقد قال فيه أبو داود - رحمه الله - في سننه : حدثنا يحيى بن موسى البلخي ، ثنا أبو أسامة ، قال مجالد : أخبرنا عن عامر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " ، الحديث ، وفيه : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهود ، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما ، انتهى محل الغرض منه .

وظاهر المتبادر منه : أن الشهود الذين شهدوا من اليهود كما لا يخفى ، فظاهر الحديث دال دلالة واضحة على قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض ، في حد الزنى ، إن كان صحيحا ، والسند المذكور الذي أخرجه به أبو داود لا يصح ; لأن فيه مجالدا وهو [ ص: 376 ] مجالد بن سعيد بن عمير بن بسطام بن ذي مران بن شرحبيل الهمداني أبو عمرو ، ويقال أبو سعيد الكوفي ، وأكثر أهل العلم على ضعفه ، وعدم الاحتجاج به ، والإمام مسلم بن الحجاج ، إنما أخرج حديثه مقرونا بغيره ، فلا عبرة بقول يعقوب بن سفيان ، إنه صدوق ، ولا بتوثيق النسائي له مرة ; لأنه ضعفه مرة أخرى ، ولا بقول ابن عدي : أن له عن الشعبي ، عن جابر أحاديث صالحة ; لأن أكثر أهل العلم بالرجال على تضعيفه ، وعدم الاحتجاج به ، أما غير مجالد من رجال سند أبي داود فهم ثقات معروفون ; لأن يحيى بن موسى البلخي ثقة ، وأبو أسامة المذكور فيه هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم ، وهو ثقة ثبت ، ربما دلس وكان بآخرة يحدث من كتب غيره ، وعامر الذي روى عن مجالد هو الإمام الشعبي ، وجلالته معروفة .

والحاصل : أن مثل هذا السند الذي فيه مجالد المذكور ، لا يجب الرجوع إليه عن عموم النصوص الصحيحة المقتضية ، أن الكفار لا تقبل شهادتهم مطلقا ، والله تعالى أعلم .
الفرع الرابع : اعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنا ، وعلى اشتراط ذلك لو شهدوا في مجلسين أو مجالس متفرقة ، بطلت شهادتهم ، وحدوا حد القذف ، وعلى عدم اشتراط اتحاد المجلس تصح شهادتهم ولو جاءوا متفرقين ، وأدوا شهادتهم في مجالس متعددة ، وممن قال باشتراط اتحاد المجلس : مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وممن قال بعدم اشتراط اتحاد المجلس : الشافعي ، وعثمان البتي ، وابن المنذر .

قال في المغني : وإنما قالوا بعدم اشتراط ذلك لقوله تعالى : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء [ 24 \ 13 ] ، ولم يذكر المجلس . وقال تعالى : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت [ 4 \ 15 ] ، ولأن كل شهادة مقبولة ، إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات ، ولنا أن أبا بكرة ، ونافعا ، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر - رضي الله عنه - على المغيرة بن شعبة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم ; لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ; ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ، ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ، ولولا اشتراط اتحاد المجلس لكملت شهادتهم ، وبهذا فارق سائر الشهادات .

[ ص: 377 ] وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ، ولهذا لم تذكر العدالة ، وصفة الزنى ; ولأن قوله : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [ 24 \ 4 ] ، لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا ، ولا يجوز أن يكون مطلقا ; لأنه يمنع من جواز جلدهم ، لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء ، أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به ، فيكون تناقضا ، وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد به المجلس ; لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة ، ولهذا ثبت فيه خيار المجلس ، واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا ، فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد ، قبلت شهادتهم .

وقال مالك وأبو حنيفة : إن جاءوا متفرقين فهم قذفة ; لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم ، فلم تقبل شهادتهم ، كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولنا قصة المغيرة ، فإن الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم ، وإنما حدوا لعدم كمالها .

وفي حديثه أن أبا بكرة ، قال : أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه ؟ قال عمر : إي والذي نفسي بيده ، ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا وكانوا مجتمعين ، ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه ، وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد ; لأن من شهد بالزنى ، ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد ; لقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ، انتهى من " المغني " لابن قدامة .

وقد عرفت أقوال أهل العلم في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنى ، وما احتج به كل واحد من الفريقين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا هو قبول شهادتهم ، ولو جاءوا متفرقين في مجالس متعددة ; لأن الله - جل وعلا - صرح في كتابه بقبول شهادة الأربعة في الزنى ، فإبطالها مع كونهم أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس إبطال لشهادة العدول بغير دليل مقنع يجب الرجوع إليه ، وما وجه من اشتراط اتحاد المجلس قوله به لا يتجه كل الاتجاه ، فإن قال : الشهود معنا من يشهد مثل شهادتنا ، انتظره الإمام ، وقبل شهادته فإن لم يدعو زيادة شهود ولا علم الحاكم بشاهد أقام عليهم الحد ، لعدم كمال [ ص: 378 ] شهادتهم ، هذا هو الظاهر لنا من عموم الأدلة ، وإن كان مخالفا لمذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .

اعلم أن مالكا وأصحابه يشترط عندهم زيادة على أداء شهود الزنى شهادتهم في وقت واحد ، أن يكونوا شاهدين على فعل واحد ، فلو اجتمعوا ونظر واحد بعد واحد ، لم تصح شهادتهم على الأصح من مذهب مالك ; لاحتمال تعدد الوطء وأن يكون الزاني نزع فرجه من فرجها بعد رؤية الأول ، ورأى الثاني إيلاجا آخر غير الإيلاج الذي رآه من قبله ; لأن الأفعال لا يضم بعضها إلى بعض في الشهادة عندهم ، ومتى لم تقبل شهادتهم حدوا حد القذف ، ومشهور مذهب مالك أيضا : وجوب تفرقتهم ، أعني شهود الزنى خاصة ، دون غيرهم من سائر الشهود .

ومعناه عندهم : أنه لا بد من إتيانهم مجتمعين ، فإذا جاءوا مجتمعين فرق بينهم عند أداء الشهادة فيسأل كل واحد منهم دون حضرة الآخرين ، ويشهد كل واحد منهم ، أنه رآه أدخل فرجه في فرجها ، أو أولجه فيه ، ولا بد عندهم من زيادة كالمرود في المكحلة ونحوه ، ويجوز للشهود النظر إلى عورة الزانيين ، ليمكنهم أن يؤدوا الشهادة على وجهها ، ولا إثم عليهم في ذلك ، ولا يقدح في شهادتهم ; لأنه وسيلة إقامة حد من حدود الله ، ومحل هذا إن كانوا أربعة ، فإن كانوا أقل من أربعة لم يجز لهم النظر إلى عورة الزاني إذ لا فائدة في شهادتهم ; ولأنهم يجلدون حد القذف .

وقال بعض المالكية : لا يجوز لهم النظر إلى عورات الزناة ، ولو كانوا أربعة ، لما نبه عليه الشرع من استحسان الستر ، ويندب للحاكم عند المالكية سؤال الشهود في الزنى عما ليس شرطا في صحة الشهادة ، كأن يقول لكل واحد من الشهود بانفراده دون حضرة الآخرين : على أي حال رأيتهما وقت زناهما ، وهل كانت المرأة على جنبها الأيمن ، أو الأيسر ، أو على بطنها ، أو على قفاها ، وفي أي جوانب البيت ونحو ذلك ، فإن اختلفوا بأن قال أحدهم : كانت على قفاها ، وقال الآخر : كانت على جنبها الأيمن ونحو ذلك بطلت شهادتهم ; لدلالة اختلافهم على كذبهم ، وكذلك إن اختلفوا في جانب البيت الذي وقع فيه الزنى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:11 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (390)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 379 إلى صـ 386




ولا شك أن مثل هذا السؤال أحوط في الدفع عن أعراض المسلمين ; لأنهم إن كانوا [ ص: 379 ] صادقين لم يختلفوا ، وإن كانوا كاذبين علم كذبهم باختلافهم ، وقد قدمنا ما يستأنس به لتفرقة شهود الزنى ، وسؤالهم متفرقين في قصة سليمان وداود في المرأة التي شهد عليها أربعة ، أنها زنت بكلبها فرجمها داود فجاء سليمان بالصبيان ، وجعل منهم شهودا ، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به ، فأخبر كل واحد منهم بلون غير اللون الذي أخبر به الآخر ، فأرسل داود للشهود ، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به ، فاختلفوا في لونه ; كما تقدم إيضاحه .

واعلم أن كل ما يثبت به الرجم يثبت به الجلد فطريق ثبوتهما متحدة لا فرق بينهما ، كما لا يخفى .
الفرع الخامس : اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت ، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر ، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما ، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى ، فقد اختلف أهل العلم هل تقبل شهادتهم ، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى ، أو لا تقبل ; لأنه لم يشهد أربعة على زنى واحد ، فكل زنى شهد عليه اثنان ، ولا يثبت زنى باثنين .

قال ابن قدامة في " المغني " : الجميع قذفة وعليهم الحد ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم ، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، لأنهم كملوا أربعة ، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد ، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما ، فأما المشهود عليه ، فلا حد عليه في قولهم جميعا ، وقال أبو بكر : عليه الحد ، وحكاه قولا لأحمد ، وهذا بعيد ، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة ، فلم يجب الحد ; ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد ، فالموجب للحد أولى ; لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات ; وقد قال أبو بكر : إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء ، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة ، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله ، انتهى منه ، ثم قال : وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت ، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى ، وكانت الزاويتان متباعدتين ، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم ، وحد المشهود عليه ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا حد عليه ; لأن شهادتهم لم تكمل ، ولأنهم اختلفوا في المكان ، فأشبه ما لو اختلفوا في البيتين ، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم ، سواء تقاربت الزاويتان ، أو تباعدتا ، ولنا أنهما [ ص: 380 ] إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود ، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا ، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين ، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا .

فإن قيل : فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين ، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال ، والحد يدرأ بالشبهات ؟

قلنا : ليس هذا بشبهة ، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد ، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب ، والقول في الزمان كالقول في هذا ، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه ، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ، ومتى تقاربا كملت شهادتهم ، انتهى من " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد ; فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا ; لأنهما فعلان ، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول ، فلم يثبت واحد منهما . والقول بتلفيق شهادتهم ، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر ، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد ، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة ، وله وجه .
الفرع السادس : إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض ، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر ، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان ، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز .

فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا ؟ فقال بعضهم : لا تكمل شهادتهم ; لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين ، وممن روي عنه ذلك الشافعي ، وقال بعضهم : تكمل شهادتهم قائلا : إنه لا تنافي بين الشهادتين ; لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين ، وتركا ذكر الآخر ، فيكون الجميع صادقين ; لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه ، فلا تنافي ، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر ، وعليه هو قميص أبيض كعكسه ، أو عليه هو ثوب كتان ، وعليها هي ثوب خز كعكسه ، فيمكن صدق الجميع ; وإذا أمكن صدقهم فلا [ ص: 381 ] وجه لرد شهادتهم ، وبهذا جزم صاحب المغني موجها له بما ذكرنا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود ، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبا واحدا أحمر ، وجزم الآخران أن عليه ثوبا واحدا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين ، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلا أحدهما أحمر ، والثاني أبيض ، وذكر كل اثنين أحد الثوبين ، فلا إشكال في كمال شهادتهم ; لاتفاق الشهادتين ، وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم ، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم ، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم ; لاحتمال تخالف شهادتهما ، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد ; لأن الحد يدرأ بالشبهات ، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان ، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم ، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه .

والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف . أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم ، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم ، فإن فسروا ، بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم ، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم ، فالظاهر أنهم يحدون حد القذف ; كما قدمنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة ، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة ، فلا حد على المرأة إجماعا ; لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد ، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود .

قال ابن قدامة في " المغني " : وفي الرجل وجهان :

أحدهما : لا حد عليه ، وهو قول أبي بكر ، والقاضي وأكثر الأصحاب ، وقول أبي حنيفة ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ; لأن البينة لم تكمل على فعل واحد ، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين ، وذلك يمنع قبول الشهادة ، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما ، مكرهة في الآخر ، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد ، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها ، ولم تكمل البينة عليها ، فلا تقبل شهادتهما على غيرها .

[ ص: 282 ] والوجه الثاني : أنه يجب الحد عليه ، اختاره أبو الخطاب ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، ووجه ثان للشافعي ; لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه ، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله ، فلا يمنع كمال الشهادة عليه .

وفي الشهود ثلاثة أوجه :

أحدها : لا حد عليهم ، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم .

والثاني : عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنى ، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد ، كما لو لم يكمل عددهم .

والثالث : يجب الحد على شاهدي المطاوعة ، لأنهما قذفا المرأة بالزنى ، ولم تكمل شهادتهم عليها ، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة ، وقد كملت شهادتهم على الرجل ، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع ، وأظهر أقوالهم عندي فيه : أن الرجل والمرأة لا حد على واحد منهما ، وأن على الشهود الأربعة حد القذف ، أما نفي الحد عن المرأة ، فلا خلاف فيه ، ووجهه ظاهر ; لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى ، وأما نفي الحد عن الرجل ; فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه ، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد ، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد ; لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان ، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده هو الأظهر ، أما وجه حد الشهود ، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى ، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدا ; ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها ، ولم تكمل شهادتهم ; لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر ، أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها ، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى ، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 283 ] ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر ، فثبوت الأمرين طريقه واحدة .
الفرع الثامن : اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب ، فقالت إنها عذراء ، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة ، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل . فقد اختلف أهل العلم : هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا ؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء ، وعبارة المدونة في ذلك : إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول ، فقالت : إنها عذراء ونظر إليها النساء ، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد . انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره ، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد ، وهو مذهب الإمام أحمد . قال ابن قدامة في " المغني " : وبه قال الشعبي ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ووجه قول مالك وأصحابه بأنها يقام عليها الحد ، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول ، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود ، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى ، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحد هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء ، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرا ; لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج ، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة ، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها ، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد ، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب .

وقال ابن قدامة في " المغني " : ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة ; لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال ، يعني البكارة المذكورة ، انتهى ، وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حد عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة .

وقال صاحب " المغني " : وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم ، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها ، ثم عادت عذرتها ، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم ، وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب ، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء ، فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى ، لظهور كذبها ; لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما ، كما هو معلوم .
[ ص: 284 ] المسألة الثانية : اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى ، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية ، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة ، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات ؟ فذهب الإمام أحمد ، وأبو حنيفة ، وابن أبي ليلى ، والحكم : إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات ، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى : أن يكون ذلك في أربع مجالس ، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد ، وذهب مالك ، والشافعي ، والحسن ، وحماد ، وأبو ثور ، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة .

أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة ، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور : " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، فاعترفت فرجمها ، وفي رواية في الصحيح : فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت ، قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - ظاهر ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه : " فإن اعترفت فارجمها " ، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة ، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له - صلى الله عليه وسلم - : فإن اعترفت أربع مرات فارجمها ، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي ; لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما هو معلوم .

ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - : أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا نبي الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال : " أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها " ، ففعل فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ، فقال له عمر : تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت ؟ فقال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى " ، هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو نص صحيح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة ; لأنها قالت : إني أصبت حدا ، مرة واحدة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برجمها من غير تعدد الإقرار ; لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة .

ومن أدلتهم على ذلك أيضا : ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول - صلى الله عليه وسلم - إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان من الغد [ ص: 385 ] قالت : يا رسول الله ، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، فقال : " أما لا فاذهبي حتى تلدي " ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله ، قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد ، فسبها ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها ، فقال : " مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت ، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة ; لأن الغامدية المذكورة لما قالت له - صلى الله عليه وسلم - : لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، لم ينكر ذلك عليها ، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته ، لكونه لم يقر أربعا .

وقد قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد ذكره لهذه الواقعة : وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار ، ليس بشرط للتصريح فيها ، بأنها متأخرة عن قضية ماعز ، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي ، اهـ منه .

وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ، ما نصه : قال : ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، فقال : " ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه " ، فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال : " وما ذاك " ؟ قالت : إنها حبلى من الزنا ، فقال " : آنت " ؟ قالت : نعم ، فقال لها " : حتى تضعي ما في بطنك " ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، قال : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال " : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه " ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، قال : فرجمها ، اهـ منه .

وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا ، وأما حجة من قالوا : يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا ، أن يقر به أربع مرات ، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا ، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه ، قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الناس وهو في المسجد ، فناداه : يا رسول الله إني زنيت ، يريد [ ص: 386 ] نفسه ، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه ، فجاء لشق وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أعرض عنه ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال " : أحصنت " ؟ قال : نعم ، قال " : اذهبوا فارجموه " ، الحديث ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ولفظ مسلم : فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا ، قال " : فهل أحصنت " ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اذهبوا به فارجموه " اهـ .

قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه ، أي : أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط ; لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه ، دليل على اشتراط الأربع المذكورة ، والرجل المذكور في هذا الحديث ، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة ، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ; كما رأيت في الحديث المذكور آنفا ، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي : هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع ، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة ; لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي ، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله ، واختلاله ، وفي سكره ، وصحوه من السكر ، ونحو ذلك ، وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر ، وسلامة إقراره من المبطلات ، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في " نيل الأوطار " .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:13 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (391)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 387 إلى صـ 394



ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز ، وقد دلت روايات حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدري أمجنون هو أم لا ؟ صاح هو أو سكران ؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا " : أبك جنون " ؟ وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - لقومه عن عقله ، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - " : أشرب خمرا " ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، وكل [ ص: 387 ] ذلك ثابت في الصحيح ، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال ; لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد .

ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز لما قال : إنه زنى ، " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " ؟ قال : لا ، قال " : أفنكتها " ؟ - لا يكني - ، قال : نعم ، قال : فعند ذلك أمر برجمه ، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس ، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه ، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا .
الفرع الثاني : اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه ، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة ، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا .

فأظهر قولي أهل العلم عندي : أن الحد يقام عليه لكمال البينة خلافا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحد ; لأن شرط صحة البينة الإنكار ، وهذا غير منكر .

وقال ابن قدامة في " المغني " : إن سقوط الحد بإقراره مرة قول أبي حنيفة اهـ ، وكذلك لو تمت عليه شهادة البينة وأقر على نفسه أربع مرات ، ثم رجع عن إقراره ، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحد عليه بشهادة البينة ، فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أنه إذا أقر بزنى قديم قبل إقراره ، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقر إلا بعد زمن طويل ; لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقا ، سواء تقادم عهده ، أو لم يتقادم ، وكذلك شهادة البينة ، فإنها تقبل ، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن ; لأن عموم النصوص يقتضي ذلك ، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في قولهم : إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن شهدوا بزنى قديم أو أقر به وجب الحد ، وبهذا [ ص: 388 ] قال مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، واسحاق ، وأبو ثور .

وقال أبو حنيقة : لا أقبل بينة على زنى قديم وأحده بالإقرار به ، وهذا قول ابن حامد ، وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد ، اهـ منه .

أما قبول الإقرار بالزنا القديم ووجوب الحد به فلا وجه للعدول عنه بحال ; لأنه مقر على نفسه ، ولا يتهم في نفسه .

وأما شهادة البينة بزنا قديم ، فالأظهر قبولها ، لعموم النصوص كما ذكرنا آنفا ، وحجة أبي حنيفة ، ومن وافقه في رد شهادة البينة على زنا قديم ، هو أن تأخير الشهادة ، يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد .

وقال في " المغني " : ومن حجتهم على ذلك ما روي عن عمر ، أنه قال : أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فهم شهود ضغن ، ثم قال : رواه الحسن مرسلا ، ومراسيل الحسن ليست بالقوية ، اهـ منه .

وقد قدمنا الكلام مستوفى على مراسيل الحسن ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع : اعلم أنه إن أقر بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته ، وقالت : إنه لم يزن بها .

فأظهر أقوال أهل العلم عندي : أنه يجب عليه حد الزنى بإقراره ، وحد القذف أيضا ; لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأت بأربعة شهود فوجب عليه حد القذف .

وقال في " المغني " : وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : لا حد عليه ، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب الحد عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه ، ولا يمكن أن يصح خلافه لأمرين :

الأول : أنه أقر على نفسه بالزنا إقرارا صحيحا ، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح ، بل نحن لم نصدقها ، ولم نقل إنها صادقة ، ولكن انتفاء الحد عنها إنما وقع لأنها لم تقر ، ولم تقم عليها بينة ; فعدم حدها لانتفاء مقتضيه ، لا لأنها صادقة كما ترى .

الأمر الثاني : ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا طلق بن غنام ، [ ص: 389 ] ثنا عبد السلام بن حفص ، ثنا أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رجلا أتاه ، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك ، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ، اهـ منه ، وعبد السلام المذكور في هذا الإسناد وثقه ابن معين ، وتوثيقه له أولى من قول أبي حاتم الرازي : إنه غير معروف ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ .

والحديث المذكور نص في أن المقر يقام عليه الحد وهو واضح ; لأن من أقر على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحد عليه ، وأما كونه يحد مع ذلك حد القذف فظاهر أيضا ، ويدل عليه عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، الآية [ 24 \ 4 ] والأخذ بعموم النصوص واجب ، إلا بدليل مخصص يجب الرجوع إليه ، وكون حديث سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفا عند أبي داود ليس فيه أن النبي حد الرجل المذكور حد القذف ، بل حد الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحده للزنا والقذف معا هو الظاهر ، لوجهين :

الأول : أن غاية ما في حديث سهل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط ; لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط ، إلى أن قال : الوجه الثاني : أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل ، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قاذف ، اهـ منه ، وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث ماعز بن مالك أنه عين الجارية التي زنا بها ، ولم يحده النبي - صلى الله عليه وسلم - لقذفها بل حده للزنا فقط ، فإن ترك حده لم يوجه بما قدمنا قريبا .

وعلى كل حال فمن قال : زنيت بفلانة فلا شك أنه مقر على نفسه بالزنا ، وقاذف لها هي به ، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه ، وحده أيضا حد القذف ; لأنه قاذف بلا شك ، كما ترى .

ومما يؤيد هذا المذهب ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، ثنا موسى بن هارون البردي ، ثنا هشام بن يوسف ، عن القاسم بن فياض الأبناوي ، [ ص: 390 ] عن خلاد بن عبد الرحمن ، عن ابن المسيب ، عن ابن عباس : أن رجلا من بني بكر بن ليث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات ، فجلده مائة وكان بكرا ، ثم سأله البينة على المرأة ، فقالت : كذب والله يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلده حد الفرية ثمانين، اهـ .

فإن قيل : هذا الحديث ضعيف ، لأن في إسناده القاسم بن فياض الأبناوي الصنعاني ، قال فيه ابن حجر في التقريب : مجهول ، وقال فيه الذهبي في " الميزان " : ضعفه غير واحد منهم عباس عن ابن معين ، فالجواب من وجهين :

الأول : أن القاسم المذكور قال فيه أبو داود : ثقة ، كما نقله عنه الذهبي في الميزان ، والتعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل مجملا ، كما تقدم .

الثاني : أن حديث ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حد القذف ، وحد الزنا إن قال : أنه زنى بامرأة عينها فأنكرت ، معتضد اعتضادا قويا بظواهر النصوص الدالة على مؤاخذته بإقراره ، والنصوص الدالة على أن من قذف امرأة بالزنى ، فأنكرت ولم يأت ببينة أنه يحد حد القذف .

فالحاصل : أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحد حد القذف وحد الزنا ، وهو مذهب مالك ، وقد نص عليه في المدونة خلافا لمن قال يحد حد الزنا فقط ، كأحمد والشافعي ، ولمن قال : يحد حد القذف فقط ، ويؤيد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله مالك وأصحابه : من أن الرجل لو قال لامرأة : زنيت ، فقالت له : زنيت بك أنها تحد للقذف وللزنا معا ، ولا يحد الرجل لهما لأنها صدقته ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أنه لا يصح إقرار المكره ، فلو أكره الرجل بالضرب أو غيره من أنواع التعذيب ليقر بالزنا فأقر به مكرها لم يلزمه إقراره به فلا يحد ، ولا يثبت عليه الزنا ، ولا نعلم من أهل العلم من خالف في هذا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أنا قد قدمنا ثبوت الزنا بالبينة والإقرار ، ولا خلاف في ثبوته بكل واحد منهما إن وقع على الوجه المطلوب ، أما ظهور الحمل بامرأة ، لا يعرف لها زوج ولا سيد ، فقد اختلف العلماء في ثبوت الحد به ، فقال بعض أهل العلم : الحبل في التي لا يعرف لها زوج ولا سيد يثبت عليها به الزنا ، ويجب عليها الحد به ، وقد ثبت هذا في حديث عمر - رضي الله عنه - الذي قدمناه في قوله : إذا قامت البينة أو كان الحبل ، [ ص: 391 ] أو الاعتراف . والحديث المذكور في الصحيحين وغيرهما كما تقدم ، وقد صرح فيه أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ، بأن الحبل الذي هو الحمل يثبت به الزنا كما يثبت بالبينة والإقرار ، وممن ذهب إلى أن الحبل يثبت به الزنا ، عمر - رضي الله عنه - كما رأيت ، ومالك وأصحابه ، وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وجماهير أهل العلم إلى أنه لا يثبت الزنا ولا يجب الحد بمجرد الحبل ، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد ، وهذا القول عزاه النووي في شرح مسلم للشافعي ، وأبي حنيفة ، وجماهير أهل العلم ، وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم .

أما الذين قالوا : إن الزنا يثبت بالحمل ، إن لم يكن لها زوج ولا سيد ، فقد احتجوا بحديث عمر المتفق عليه المتقدم وفيه التصريح من عمر بأن الحبل يثبت به الزنا ، كالبينة والإقرار .

وقال ابن قدامة في " المغني " : إنما قال من قال : بوجوب الحد وثبوت الزنا بالحمل ، لقول عمر - رضي الله عنه - ، والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء ، إذا كان محصنا ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، وروي أن عثمان أوتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان أن ترجم ، فقال علي : ليس لك عليها سبيل ، قال الله : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ، وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو هذا ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : يا أيها الناس إن الزنا زناءان : زنا سر ، وزنا علانية ، فزنا السر : أن يشهد الشهود ، فيكون الشهود أول من يرمي ، وزنا العلانية : أن يظهر الحبل أو الاعتراف ، فيكون الإمام أول من يرمي ، وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر في عصرهم مخالف ، فيكون إجماعا ، انتهى محل الغرض من " المغني " .

وانظر أسانيد الآثار التي ذكرها عن الصحابة ، هذا هو حاصل ما احتج به من قال : إن الزنا يثبت بالحمل .

وأما الذين قالوا : إن الحمل وحده لا يثبت به الزنا ، ولا يجب به الحد ، بل لا بد من البينة أو الإقرار ، فقد قال في " المغني " : حجتهم أنه يحتمل أن الحمل من وطء إكراه أو شبهة يسقط بالشبهات ، وقد قيل : إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها ، إما بفعلها ، أو فعل غيرها ، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك .

وأما قول الصحابة ، فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد : حدثنا خلف بن خليفة ، [ ص: 392 ] حدثنا هاشم : أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ليس لها زوج ، وقد حملت فسألها عمر ، فقالت : إنني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل ، وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ ، فدرأ عنها الحد ، وروى البراء بن صبرة ، عن عمر أنه أوتي بامرأة حامل ، فادعت أنها أكرهت ، فقال : خل سبيلها ، وكتب إلى أمراء الأجناد ، ألا يقتل أحد إلا بإذنه .

وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا : إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل ، وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وعقبة بن عامر - رضي الله عنهم أنهم - قالوا : إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ، ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات ، وهي متحققة هنا ، اهـ بلفظه من " المغني " .

وانظر أيضا أسانيد هذه الآثار التي ذكرها عن الصحابة ، وهذا الذي ذكر هو حاصل ما احتج به الجمهور الذين قالوا إن الحبل لا يثبت به الزنا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن الزنا لا يثبت بمجرد الحبل ، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد ; لأن الحمل قد يقع لا شك من غير وطء في الفرج ، بل قد يطأ الرجل المرأة في فخذيها ، فتتحرك شهوتها فينزل ماؤها وينزل الرجل ، فيسيل ماؤه فيدخل في فرجها ، فيلتقي ماؤه بمائها فتحمل من غير وطء وهذا مشاهد لا يمكن إنكاره .

ولأجل ذلك فالأصح أن الزوج إذا كان يطأ امرأته في الفخذين ، ولم يجامعها في الفرج فظهر بها حمل أنه لا يجوز له اللعان لنفي ذلك الحمل ; لأن ماءه قد يسيل إلى فرجها ، فتحمل منه ، وقول عمر - رضي الله عنه - : إذا كان الحبل أو الاعتراف اجتهاد منه ; لأنه يظهر له - رضي الله عنه - أن الحمل يثبت به الزنا كالاعتراف والبينة .

وإنما قلنا : إن الأظهر لنا خلاف قوله - رضي الله عنه - ، لأنا نعلم أن وجود الحمل لا يستلزم الوطء في الفرج بل قد تحبل بدون ذلك ، وإذا كان الحبل لا يستلزم الوطء في الفرج فلا وجه لثبوت الزنا ، وإقامة الحد بأمر محتمل غير مستلزم لموجب الحد ، كما ترى .
ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة .

[ ص: 393 ] الفرع الأول : اعلم أن الذين قالوا : بوجوب الحد بالحمل قالوا : إن تلك الحامل إن كانت طارئة من بلاد أخرى ، وادعت أن حملها من زوج لها تركته في بلدها فلا حد عليها عندهم ، ولا يثبت عليها الزنا بذلك الحمل .

الفرع الثاني : اعلم أنه إن ظهر بها حمل فادعت أنها مكرهة لا يقبل دعواها الإكراه عند من يثبت الزنا بالحمل إلا إذا اعتضدت دعواها بما يقويها من القرائن كإتيانها صارخة مستغيثة ممن فعل بها ذلك ، وكأن تأتي متعلقة برجل تزعم أنه هو الذي أكرهها وكأن تشتكي من الذي فعل بها ذلك قبل ظهور الحمل .

وقال بعض علماء المالكية : إن كانت شكواها من الرجل الذي فعل بها ذلك مشبهة لكون الرجل الذي ادعت عليه غير معروف بالصلاح ، فلا حد عليها ، وإن كان الذي ادعت عليه معروفا بالصلاح ، والعفاف ، والتقوى حدث ولم يقبل قولها عليه .

وقال بعض المالكية : إن لم تسم الرجل الذي ادعت أنه أكرهها تعزر ، ولا تحد إن كانت معروفة بالصلاح والعفاف .
الفرع الثالث : قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي : أو مكرهة ، ما نصه : قال في الطراز أو في أواخر الجزء الثالث في ترجمة تفسير الطلاق ، وما يلزم من ألفاظه ، قال ابن عبد الغفور : ويقال إن عبد الله بن عيسى سئل عن جارية بكر زوجها فابتنى بها زوجها فأتت بولد لأربعة أشهر ، فذكر ذلك لها فقالت : إني كنت نائمة فانتبهت لبلل بين فخذي ، وذكر الزوج أنه وجدها عذراء .

فأجاب فيها : أنها لا حد عليها إذا كانت معروفة بالعفاف ، وحسن الحال ، ويفسخ النكاح ، ولها المهر كاملا ، إلا أن تكون علمت الحمل ، وغرت فلها قدر ما استحل منها ، انتهى من الاستغناء ، انتهى كلام الطراز ، انتهى ما نقله الحطاب ، وهو يؤيد أن الحمل قد يقع من غير وطء يوجب الحد كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : اعلم أن من ثبت عليه الزنا وهو محصن ، اختلف أهل العلم فيه ، فقال بعضهم : يجلد مائة جلدة أولا ثم يرجم بعد ذلك ، فيجمع له بين الجلد والرجم ، وقال بعضهم : يرجم فقط ولا يجلد ; لأن غير القتل يندرج في القتل ، وممن قال بالجمع بينهما علي - رضي الله عنه - ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، قال ابن قدامة في [ ص: 394 ] " المغني " : وبه قال ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وأبو ذر ، ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، وداود ، وابن المنذر ، وممن قال بأنه يرجم فقط ولا يجلد مع الرجم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والنخعي ، والزهري ، والأوزاعي ، واختاره أبو إسحاق ، الجوزجاني ، وأبو بكر الأثرم ، ونصراه في سننهما وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، قال ذلك كله ابن قدامة في " المغني " ، وهذا القول الأخير الذي هو الاقتصار على الرجم عزاه النووي في شرح مسلم لجماهير العلماء .

وفي المسألة قول ثالث : وهو ما حكاه القاضي عياض ، عن طائفة من أهل الحديث ، وهو أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : يجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم ، فقد احتجوا بأدلة .

منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحا ثابتا عن ثبوت لا مطعن فيه .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، وهذا تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن الثيب وهو المحصن يجلد مائة ويرجم ، وهذا اللفظ أخرجهمسلم أيضا بإسناد آخر ، وفي لفظ في صحيح مسلم " : الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة " ، وهو تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بينهما ، وفي لفظ عند مسلم أيضا " : والثيب يجلد ويرجم " ، وهذه الروايات الثابتة في الصحيح فيها تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بين الجلد والرجم .

ومن أدلتهم على الجمع بينهما : أن عليا - رضي الله عنه - جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:16 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (392)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 395 إلى صـ 402



قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، ثنا سلمة بن كهيل ، [ ص: 395 ] قال : سمعت الشعبي يحدث عن علي - رضي الله عنه - ، حين رجم المرأة يوم الجمعة ، وقال : قد رجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الفتح " في الكلام على هذا الحديث ، ما نصه في رواية علي بن الجعد : أن عليا أتي بامرأة زنت فضربها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة إلى آخر ما ذكره من الروايات ، بأن عليا ضربها ورجمها ، وهي شراحة الهمدانية كما تقدم ، وفي رواية : أنها مولاة لسعيد بن قيس ، ومن أدلتهم على الجمع بينهما أن الله تعالى قال : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، واللفظ عام في البكر والمحصن ، ثم جاءت السنة بالرجم في حق المحصن والتغريب سنة في حق البكر ، فوجب الجمع بينهما عملا بدلالة الكتاب والسنة معا ، كما قال علي - رضي الله عنه - ، قالوا : وقد شرع في كل من المحصن والثيب عقوبتان : أما عقوبتا الثيب : فهما الجلد والرجم ، وأما عقوبتا البكر : فهما الجلد والتغريب .

هذا هو حاصل ما احتج به الذين قالوا : إنه يجمع للمحصن بين الجلد والرجم .

وأما الذين قالوا : يرجم فقط ، ولا يجلد فاحتجوا بأدلة .

منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزا ، ولم يجلده مع الرجم ; لأن جميع الروايات في رجم ماعز بن مالك ليس في شيء منها أنه جلده مع الرجم بل ألفاظها كلها مقتصرة على الرجم ، قالوا : ولو كان الجلد مع الرجم لم ينسخ لأمر بجلد ماعز مع الرجم ، ولو أمر به لنقله بعض رواة القصة ، قالوا : وقصة ماعز متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي فيه التصريح بالجمع بينهما .

والدليل على أن حديث عبادة متقدم وأنه أول نص نزل في حد الزنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه " : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث ، يشير بجعل الله لهن سبيلا بالحد ، إلى قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 4 \ 15 ] ، فالزواني كن محبوسات في البيوت إلى أحد أمرين : وهما الموت ، أو جعل الله لهن سبيلا فلما قال - صلى الله عليه وسلم - " : قد جعل الله لهن سبيلا " ، ثم فسر السبيل بحد الزنا علمنا بذلك أن حديث عبادة أول نص في حد الزنا ، وأن قصة ماعز متأخرة عن ذلك .

[ ص: 396 ] ومن أدلتهم أنه رجم الغامدية كما تقدم ، ولم يقل أحد أنه جلدها ، لو جلدها مع الرجم لنقل ذلك بعض الرواة .

ومن أدلتهم : أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يقل فاجلدها مع الرجم ، فدل ذلك على سقوط الجلد ; لأنه لو وقع لنقله بعض الرواة ، وهذه الوقائع كلها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت كما أشرنا إلى ما يقتضي ذلك آنفا .

ومن أدلتهم على أنه يرجم فقط ، ولا يجلد مع الرجم الروايات الصحيحة التي قدمناها في رجمه - صلى الله عليه وسلم - للمرأة الجهنية ، والغامدية ، فإنها كلها مقتصرة على الرجم ، ولم يذكر فيها جلد . وقال أبو داود : قال الغساني : جهينة وغامد وبارق واحد ، انتهى منه ، وعليه فالجهنية هي الغامدية .

وعلى كل حال فجميع الروايات الواردة في رجم الغامدية ، ورجم الجهنية ليس في شيء منها ذكر الجلد ، وإنما فيها كلها الاقتصار على الرجم ، وكذلك قصة اليهوديين اللذين رجمهما - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها إلا الرجم ولم يذكر فيها جلد ، هذا هو حاصل ما احتج به أهل هذا القول .

وأما الذين قالوا : إن الجمع بين الرجم والجلد خاص بالشيخ والشيخة ، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم فقط إن أحصن ، فقد احتجوا بلفظ الآية التي نسخت تلاوتها ، وهي قوله تعالى : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ) إلى آخره ، قالوا : فرجم الشيخ والشيخة ثبت بهذه الآية ، وإن نسخت تلاوتها فحكمها باق ، وقال ابن حجر في " الفتح " : وقال عياض : شذت فرقة من أهل الحديث ، فقالت : الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ، ولا أصل له . وقال النووي : هو مذهب باطل كذا قاله ، ونفى أصله ، ووصفه بالبطلان إن أراد به طريقه فليس بجيد ; لأنه ثابت كما سأبينه في باب البكران يجلدان وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا ; لأن الآية وردت بلفظ : ( الشيخ ) ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة فهو معنى مناسب ، وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .

وقد قال صاحب " فتح الباري " : إن هذا القول حكاه ابن المنذر وابن حزم ، عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبو ذر وابن عبد البر ، عن مسروق ، انتهى .

[ ص: 397 ] وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وحججهم ، فاعلم أن كل طائفة منهم ترجح قولها على قول الأخرى .

أما الذين قالوا : يجمع بين الجلد والرجم للمحصن ، فقد قالوا هذا القول ، هو أرجح الأقوال ، ولا ينبغي العدول عنه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن المحصن يجلد ويرجم بالحجارة ، فهو حديث صحيح صريح في محل النزاع ، فلا يعارض بعدم ذكر الجلد في قصة ماعز ، والجهنية ، والغامدية ، واليهوديين ; لأن ما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعدل عنه بأمر محتمل ، ويجوز أن يكون الجلد وقع لماعز ومن ذكر معه ولم يذكره الرواة ; لأن عدم ذكره لا يدل دلالة قطعية على عدم وقوعه ، لأن الراوي قد يتركه لظهوره ، وأنه معروف عند الناس جلد الزاني ، قالوا : والمحصن داخل قطعا في عموم الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، وهذا العموم القرآني لا يجوز العدول عنه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وعدم ذكر الجلد مع الرجم لا يعارض الأدلة الصريحة في القرآن ، والسنة الصحيحة ، قالوا : وعمل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - به بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه لم ينسخ ، ولم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكر عليه ذلك ، ولا تخفى قوة هذا الاستدلال الذي استدل به أهل هذا القول .

وأما الذين قالوا : بأن المحصن يرجم فقط ولا يجلد ، فقد رجحوا أدلتهم بأنها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت ، الذي فيه التصريح بالجمع بين الرجم والجلد ، والعمل بالمتأخر أولى ، والحق أنها متأخرة عن حديث عبادة المذكور ; كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " : قد جعل الله لهن سبيلا " ، فهو دليل على أن حديث عبادة ، هو أول نص ورد في حد الزنا كما هو ظاهر من الغاية في قوله تعالى : حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 4 \ 15 ] ، قالوا : ومن أصرح الأدلة في أن الجمع بين الجلد والرجم منسوخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده " : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله " ، وهذا قسم منه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقضي بينهما بكتاب الله ، ثم قال في الحديث الذي أقسم على أنه قضاء بكتاب الله " : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، قالوا : إن قوله " : فإن اعترفت " شرط ، وقوله " : فارجمها " جزاء هذا الشرط ، فدل الربط بين الشرط ، وجزائه على أن جزاء اعترافها هو الرجم وحده ، وأن ذلك قضاء بكتاب الله تعالى .

[ ص: 398 ] وهذا دليل من لفظ النبي الصريح على أن جزاء اعترافها بالزنا هو رجمها فقط ، فربط هذا الجزاء بهذا الشرط أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضاء بكتاب الله وهو متأخر عن حديث عبادة ، لما قدمنا .

وهذا الدليل أيضا قوي جدا ، لأن فيه إقسامه - صلى الله عليه وسلم - بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتب عليه الرجم ، ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين : إما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على قوله " : فارجمها " ، أو يكون قال مع ذلك فاجلدها ، وترك الراوي الجلد ، فإن كان قد اقتصر على الرجم ، فذلك يدل على نسخ الجلد ; لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده ; لأن ربط الجزاء بالشرط يدل على ذلك دلالة لفظية لا دلالة سكوت ، وإن كان قال مع الرجم : واجلدها ، وحذف الراوي الجلد ، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع ; لأن حذف بعض جزاء الشرط مخل بالمعنى موهم غير المراد ، والحذف إن كان كذلك فهو ممنوع ، ولا يجوز للراوي أن يفعله والراوي عدل فلن يفعله .

وقد أوضحنا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ 6 \ 145 ] ، أنه لا تعارض بين نصين ، مع اختلاف زمنهما ; كما هو التحقيق .

وأما القول الثالث وهو الفرق بين الشيخ والشاب ، وإن وجهه ابن حجر بما ذكرنا ، لا يخفى سقوطه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : دليل كل منهما قوي ، وأقربهما عندي : أنه يرجم فقط ، ولا يجلد مع الرجم لأمور :

منها : أنه قول جمهور أهل العلم ، ومنها : أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة ماعز ، والجهنية ، والغامدية ، واليهوديين ، كلها متأخرة بلا شك عن حديث عبادة ، وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم ، ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدد طرقها .

ومنها : أن قوله الثابت في الصحيح " : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن جزاء اعترافها رجمها ، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء ، وهو في الحديث الرجم فقط .

ومنها : أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .
[ ص: 399 ] ومنها : أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة ، والعلم عند الله تعالى .
قال بعضهم : ويؤيده من جهة المعنى أن القتل بالرجم أعظم العقوبات فليس فوقه عقوبة ، فلا داعي للجلد معه ; لاندراج الأصغر في الأكبر .
فروع تتعلق بهذه المسألة .

الفرع الأول : إذا ثبت الزنا على الزاني فظن الإمام أنه بكر فجلده مائة ، ثم ثبت بعد جلده أنه محصن فإنه يرجم ، ولا ينبغي أن يختلف في هذا ، وقد قال أبو داود - رحمه الله - في سننه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : ثنا ( ح ) وثنا ابن السرح المعنى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - : أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجلد الحد ، ثم أخبر أنه محصن ، فأمر به فرجم . قال أبو داود : روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني ، عن ابن جريج موقوفا على جابر ، ورواه أبو عاصم عن ابن جريج بنحو ابن وهب ، لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : إن رجلا زنى فلم يعلم بإحصانه ، فجلد ثم علم بإحصانه فرجم .

حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز ، أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رجلا زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد ، ثم علم بإحصانه فرجم ، اهـ من سنن أبي داود .

وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " في حديث أبي داود هذا ، ما نصه : حديث جابر بن عبد الله سكت عنه أبو داود والمنذري ، وقدمنا في أول الكتاب أن ما سكتا عنه ، فهو صالح للاحتجاج به ، وقد أخرجه أبو داود عنه من طريقين ، ورجال إسناده رجال الصحيح ، وأخرجه أيضا النسائي ، اهـ منه .
الفرع الثاني : قد قدمنا في الروايات الصحيحة : أن الحامل من الزنا لا ترجم ، حتى تضع حملها وتفطمه ، أو يوجد من يقوم برضاعه ; لأن رجمها وهي حامل فيه إهلاك جنينها الذي في بطنها وهو لا ذنب له ، فلا يجوز قتله ، وهو واضح مما تقدم .
الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وجب عليه الرجم ، هل يحفر له أو لا يحفر له ؟ فقال بعضهم : لا يحفر له مطلقا ، وقال بعضهم : يحفر لمن زنى مطلقا ، وقيل : [ ص: 400 ] يحفر للمرأة إن كان الزنا ثابتا بالبينة دون الإقرار ، واحتج من قال : بأن المرجوم لا يحفر له بما ثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن أبي سعيد الخدري في قصة رجم ماعز ، ولفظ مسلم في صحيحه في المراد من الحديث ، قال : فما أوثقناه ، ولا حفرنا له . . . الحديث ، وفيه التصريح من أبي سعيد في هذا الحديث الصحيح : أنهم لم يحفروا له ، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على قول أبي سعيد :

فما أوثقناه ، ولا حفرنا له ما نصه : وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم ، وذكر بعده في حديث الغامدية ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها . أما قوله : فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء ، وأما الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء .

قال مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد - رضي الله عنهم - في المشهور عنهم : لا يحفر لواحد منهما .

وقال قتادة ، وأبو ثور ، وأبو يوسف ، وأبو حنيفة في رواية : يحفر لهما .

وقال بعض المالكية : يحفر لمن يرجم بالبينة لا من يرجم بالإقرار .

وأما أصحابنا فقالوا : لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار .

وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا :

أحدها : يستحب الحفر لها إلى صدرها ، ليكون أستر لها .

والثاني : لا يستحب ولا يكره ، بل هو إلى خيرة الإمام .

والثالث : وهو الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب ، وإن ثبت بالإقرار فلا ، ليمكنها الهرب إن رجعت . فمن قال بالحفر لهما احتج بأنه حفر للغامدية ، وكذا لماعز في رواية ، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له ، أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة .

وأما من قال : لا يحفر فاحتج برواية من روى : فما أوثقناه ، ولا حفرنا له ، وهذا المذهب ضعيف ; لأنه منابذ لحديث الغامدية ولرواية الحفر لماعز .

وأما من قال بالتخيير فظاهر ، وأما من فرق بين الرجل والمرأة ، فيحمل رواية الحفر لماعز على أنه لبيان الجواز ، وهذا تأويل ضعيف ، ومما احتج به من ترك الحفر حديث [ ص: 401 ] اليهوديين المذكور بعد هذا ، وقوله جعل يجنأ عليها ، ولو حفر لهما لم يجنأ عليها ، واحتجوا أيضا بقوله في حديث ماعز : فلما أذلقته الحجارة هرب ، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة والله أعلم ، انتهى كلام النووي ، وقد ذكر فيه أقوال أهل العلم في المسألة ، وبين حججهم ، وناقشها ، وقد ذكر في كلامه ، أن المشهور عن أبي حنيفة عدم الحفر للرجل والمرأة ، والظاهر أن المشهور عند الحنفية الحفر للمرأة دون الرجل ، وأنه لو ترك الحفر لهما معا فلا بأس ، قال صاحب كنز الدقائق في الفقه الحنفي : ويحفر لها في الرجم لا له ، وقال شارحه في تبيين الحقائق : ولا بأس بترك الحفر لهما ; لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك اهـ ، وقال ابن قدامة في " المغني " في الفقه الحنبلي : وإن كان الزاني رجلا أقيم قائما ، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له ، سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر لماعز .

قال أبو سعيد : لما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز ، خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ، ولا أوثقناه ، ولكنه قام لنا ، رواه أبو داود ; ولأن الحفر له ، ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه ، فوجب ألا تثبت ، وإن كان امرأة فظاهر كلام أحمد أنها لا يحفر لها أيضا ، وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف ، وذكر في المحرر أنه إن ثبت الحد بالإقرار لم يحفر لها ، وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر .

قال أبو الخطاب : وهذا أصح عندي ، وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر ، وبريدة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ، رواه أبو داود ، ولأنه أستر لها ، ولا حاجة لتمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة ، فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالإقرار ، فإنها تترك على حال ، لو أرادت الهرب تمكنت منه ; لأن رجوعها عن إقرارها مقبول ، ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر للجهنية ولا لماعز ، ولا لليهوديين ، والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ، ولا يقولون به ، فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها بإقرارها ، ولا خلاف بيننا فيها ، فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف ، وقد روى أبو داود بإسناده عن عمران بن حصين ، قال : فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشدت عليها ثيابها ، ولأن ذلك أستر لها ، اهـ من " المغني " .

[ ص: 402 ] وقد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم وأدلتهم في مسألة الحفر للمرجوم من الرجال والنساء .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقوى الأقوال المذكورة دليلا بحسب صناعة أصول الفقه ، وعلم الحديث : أن المرجوم يحفر له مطلقا ذكرا كان أو أنثى ، ثبت زناه ببينة أو بإقرار ، ووجه ذلك أن قول أبي سعيد في صحيح مسلم : فما أوثقناه ولا حفرنا له ، يقدم عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة ، بلفظ : فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، اهـ ، وهو نص صحيح صريح في أن ماعزا حفر له .

وظاهر الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحافر له ، أي بأمره بذلك فبريدة مثبت للحفر ، وأبو سعيد ناف له ، والمقرر في الأصول وعلم الحديث : أن المثبت مقدم على النافي ، وتعتضد رواية بريدة هذه بالحفر لماعز بروايته أيضا في صحيح مسلم بنفس الإسناد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحفر للغامدية إلى صدرها ، وهذا نص صحيح صريح في الحفر للذكر والأنثى معا ، أما الأنثى فلم يرد ما يعارض هذه الرواية الصحيحة بالحفر لها إلى صدرها ، وأما الرجل فرواية الحفر له الثابتة في صحيح مسلم مقدمة على الرواية الأخرى في صحيح مسلم بعدم الحفر ; لأن المثبت مقدم على النافي .

وقول ابن قدامة في " المغني " : والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ظاهر السقوط ; لأنه حديث صحيح وليس بمنسوخ ، فلا وجه لترك العمل به مع ثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - كما ترى ، وبالرواية الصحيحة التي في صحيح مسلم من حديث بريدة : أنه - صلى الله عليه وسلم - حفر للغامدية ، وزناها ثبت بإقرارها ، لا ببينة تعلم أن الذين نفوا الحفر لمن ثبت زناها بإقرارها مخالفون لصريح النص الصحيح بلا مستند كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيمن يبدأ بالرجم فقال بعضهم : إن كان الزنا ثابتا ببينة ، فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم ، وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم ، إن كان ثبت عنده ، ثم يرجم الناس بعده ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وأحمد ، ومن وافقهما ، واستدلوا لبداءة الشهود ، وبداءة الإمام بما ذكره ابن قدامة في الفقه الحنبلي ، وصاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:18 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (393)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 403 إلى صـ 410




قال صاحب " المغني " : وروى سعيد بإسناده عن علي - رضي الله عنه - ، أنه قال : [ ص: 403 ] الرجم رجمان ، فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس ، وما كان ببينة ، فأول من يرجم البينة ثم الناس ; ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه ، اهـ منه .

وحاصل هذا الاستدلال : أثر مروي عن علي ، وكون مباشرتهم الرمي بالفعل أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه ، وهذا كأنه استدلال عقلي لا نقلي ، اهـ .

وقال صاحب " تبيين الحقائق " في شرحه لقول صاحب " كنز الدقائق " : يبدأ الشهود به فإن أبوا سقط ثم الإمام ثم الناس ، ويبدأ الإمام ولو مقرا ثم الناس .

ما نصه : أي يبدأ الشهود بالرجم . وقال الشافعي : لا تشترط بداءتهم اعتبارا بالجلد ، ولنا ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال حين رجم شراحة الهمدانية : إن الرجم سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ، ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها بحجر ، قال الراوي : ثم رمى الناس وأنا فيهم ، ولأن الشاهد ربما يتجاسر على الشهادة ثم يستعظم المباشرة فيأبى أو يرجع ، فكان في بداءته احتيال للدرء بخلاف الجلد ، فإن كل أحد لا يحسنه ، فيخاف أن يقع مهلكا أو متلفا لعضو ، وهو غير مستحق ولا كذلك الرجم ; لأن الإتلاف فيه متعين .

قال - رحمه الله - : فإن أبوا سقط ، أي : إن أبى الشهود من البداءة سقط الحد لأنه دلالة الرجوع ، وكذلك إن امتنع واحد منهم ، أو جنوا ، أو فسقوا ، أو قذفوا فحدوا أو أحدهم ، أو عمي ، أو خرس ، أو ارتد ، والعياذ بالله تعالى ; لأن الطارئ على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء ، وكذا إذا غابوا أو بعضهم ، أو ماتوا أو بعضهم لما ذكرنا ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف ، وروي عنه أنهم إذا امتنعوا أو ماتوا أو غابوا ، رجم الإمام ، ثم الناس ، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون أن يرموا أو مقطوعي الأيدي رجم بحضرتهم بخلاف ما إذا قطعت أيديهم بعد الشهادة ، ذكره في النهاية .

قال - رحمه الله - : ثم الإمام ثم الناس لما روينا من أثر علي - رضي الله عنه - ، ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه ، فإنه لا يقصد مقتله ; لأن بغيره كفاية .

وروي أن حنظلة استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه ، وكان كافرا فمنعه من ذلك ، وقال " : دعه يكفيك غيرك " ; ولأنه مأمور بصلة الرحم ، فلا يجوز القطع من غير حاجة .

[ ص: 404 ] قال - رحمه الله - : ويبدأ الإمام ، ولو مقرا ثم الناس ، أي : يبدأ الإمام بالرجم إن كان الزاني مقرا لما روينا من أثر علي - رضي الله عنه - ; ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغامدية بحصاة مثل الحمصة ، ثم قال للناس " : ارموا " ، وكانت أقرت بالزنا ، انتهى محل الغرض من " تبيين الحقائق " ممزوجا بنص " كنز الدقائق " .

هذا حاصل ما استدل به من قال ببداءة الشهود أو الإمام .

وذهب مالك وأصحابه ومن وافقهم ، إلى أنه لا تعيين لمن يبدأ من شهود ولا إمام ، ولا غيرهم ، واحتج مالك لهذا بأنه لم يعلم أحدا من الأئمة تولى ذلك بنفسه ، ولا ألزم به البينة .

قال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي : ولم يعرف بداءة البينة ، ولا الإمام ، ما نصه : قال مالك : مذ أقامت الأئمة الحدود ، فلم نعلم أحدا منهم تولى ذلك بنفسه ، ولا ألزم ذلك البينة خلافا لأبي حنيفة القائل : إن ثبت الزنا ببينة بدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس ، اهـ منه ، واستدل له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ برجم ماعز ، وأنه قال لأنيس " : فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يحضر - صلى الله عليه وسلم - ليبدأ برجمها ، وقول مالك - رحمه الله - إنه لم يعلم أحدا تولى ذلك بنفسه من الأئمة ، ولا ألزم به البينة يدل على أنه لم يبلغه أثر علي أو بلغه ولم يصح عنده . وكذلك الحديث المرفوع الذي استدل به القائلون ببداءة الشهود والإمام ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى الغامدية بحصاة كالحمصة ، ثم قال للناس " : ارموا " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما هذا الحديث المرفوع ، فليس بثابت ، ولا يصلح للاحتجاج ; لأن في إسناده راويا مبهما .

قال أبو داود - رحمه الله - في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن زكريا أبي عمران ، قال : سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ، ثم قال أبو داود : حدثت عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا زكرياء بن سليم بإسناده نحوه زاد :

ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ، ثم قال " : ارموا واتقوا الوجه " الحديث ، وهذا الإسناد الذي فيه زيادة ، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ، هو بعينه الإسناد الذي فيه قال : سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة ، وهذا الشيخ الذي حدث عن ابن أبي بكرة لم يدر أحد من هو ، فهو مبهم ، والمبهم [ ص: 405 ] مجهول العين والعدالة ، فلا يحتج به ، كما ترى . وقال صاحب " نصب الراية " في هذا الحديث بعد أن ذكر رواية أبي داود التي سقناها آنفا : رواه النسائي في الرجم .

حدثنا محمد بن حاتم عن حبان بن موسى ، عن عبد الله ، عن زكريا أبي عمران البصري ، قال : سمعت شيخا يحدث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بهذا الحديث بتمامه ، ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه .

قال البزار : ولا نعلم أحدا سمى هذا الشيخ وتراجع ألفاظهم ، وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة النسائي ، ولم يعله بغير الانقطاع ، اهـ منه ، وأي علة أعظم من الانقطاع بإبهام الشيخ المذكور .

فتحصل أن الحديث المرفوع ضعيف ليس بصالح للاحتجاج .

أما الأثر المروي عن علي - رضي الله عنه - ، فقد قال البيهقي في سننه الكبرى في باب من اعتبر حضور الإمام والشهود ، وبداءة الإمام بالرجم ، ما نصه : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، ثنا أبو الجواب ، ثنا عمار هو ابن رزيق ، عن أبي حصين عن الشعبي ، قال : أتي علي - رضي الله عنه - بشراحة الهمدانية قد فجرت فردها حتى ولدت ، فلما ولدت قال : ائتوني بأقرب النساء منها ، فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بالسنة ، ثم قال : أيما امرأة نعي عليها ولدها أو كان اعتراف ، فالإمام أول من يرجم ، ثم الناس ، فإن نعاها الشهود فالشهود أول من يرجم ، ثم الإمام ، ثم الناس . وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني ، ثنا محمد بن عبد الوهاب ، أنبأ جعفر بن عون ، أنبأ الأجلح عن الشعبي ، قال : جيء بشراحة الهمدانية إلى علي - رضي الله عنه - ، فقال لها : ويلك لعل رجلا وقع عليك وأنت نائمة ؟ قالت : لا ، قال لعلك استكرهت ؟ قالت : لا ، قال : لعل زوجك من عدونا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلي عليه ، يلقنها لعلها تقول نعم ، قال : فأمر بها فحبست ، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة ، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة فأحاط الناس بها ، وأخذوا الحجارة ، فقال : ليس هكذا الرجم ، إنما يصيب بعضكم بعضا ، صفوا كصف الصلاة صفا خلف صف ; ثم قال : أيها الناس أيما امرأة جيء بها وبها حبل ، يعني : أو اعترفت ، فالإمام أول من يرجم ، ثم الناس ، وأيما امرأة جيء بها أو رجل زان فشهد عليه أربعة بالزنا [ ص: 406 ] فالشهود أول من يرجم ، ثم الإمام ثم الناس ، ثم أمرهم فرجم صف ثم صف ، ثم قال : افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم .

قال الشيخ - رحمه الله - : قد ذكرنا أن جلد الثيب صار منسوخا ، وأن الأمر صار إلى الرجم فقط ، اهـ ، من السنن الكبرى بلفظه ، وذلك يدل على أن المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه ، وهو كذلك ، وقد جاءت النصوص بالصلاة على المرجوم ; كما هو معلوم .

وقال صاحب " نصب الراية " في أثر علي هذا ، ما نصه : قلت : أخرجه البيهقي في سننه عن الأجلح عن الشعبي ، قال : جيء بشراحة الهمدانية إلى علي - رضي الله عنه - إلى آخر ما ذكرنا ، عن البيهقي باللفظ الذي سقناه به ، والعجب من صاحب نصب الراية ، حيث اقتصر على رواية البيهقي للأثر المذكور من طريق الأجلح عن الشعبي ، ولم يشر إلى الرواية الأولى التي سقناها التي الراوي فيها عن الشعبي أبو حصين فاقتصاره على رواية الأجلح عن الشعبي وتركه للرواية التي ذكرنا أولا لا وجه له .

والأجلح المذكور في الإسناد المذكور ، هو : ابن عبد الله بن حجية بالمهملة والجيم مصغرا ، ويقال : ابن معاوية ، يكنى أبا حجية الكندي ، ويقال : اسمه يحيى ، قال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق شيعي ، وقال عنه في " تهذيب التهذيب " : قال القطان : في نفسي منه شيء ، وقال أيضا : ما كان يفصل بين الحسين بن علي وعلي بن الحسين . وقال أحمد : أجلح ومجالد متقاربان في الحديث ، وقد روى الأجلح غير حديث منكر ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : ما أقرب الأجلح من فطر بن خليفة ، وقال ابن معين : صالح ، وقال مرة : ثقة ، وقال مرة : ليس به بأس ، وقال العجلي : كوفي ثقة ، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال النسائي : ضعيف ليس بذاك ، وكان له رأي سوء ، وقال الجوزجاني : مفتر ، وقال ابن عدي : له أحاديث صالحة ، ويروي عنه الكوفيون وغيرهم ، ولم أر له حديثا منكرا مجاوزا للحد لا إسنادا ولا متنا إلا أنه يعد في شيعة الكوفة ، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق . وقال شريك عن الأجلح : سمعنا أنه ما يسب أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلا أو فقيرا ، وقال عمرو بن علي : مات سنة مائة وخمس وأربعين في أول السنة ، وهو رجل من بجيلة مستقيم الحديث صدوق .

قلت : ليس هو من بجيلة ، وقال أبو داود : ضعيف ، وقال مرة : زكريا أرفع منه بمائة درجة ، وقال ابن سعد : كان ضعيفا جدا ، وقال العقيلي : روى عن الشعبي أحاديث [ ص: 407 ] مضطربة لا يتابع عليها ، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة ، حديثه لين ، وقال ابن حبان : كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان أبا الزبير ، انتهى منه .

وقد رأيت كثرة الاختلاف في الأجلح المذكور إلا أن روايته لهذا الأثر عن الشعبي عن علي تعتضد برواية أبي الحصين له عن الشعبي ، عن علي ، وأبو حصين المذكور ، هو بفتح الحاء ، وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي أخرج له الجميع ، وقال فيه في " التقريب " : ثقة ثبت سني وربما دلس ، اهـ .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في بداءة الشهود والإمام بالرجم وما احتج به كل منهم .

فاعلم : أن أظهر القولين هو قول من قال ببداءة الشهود أو الإمام ، كما ذكرنا ، وقول الإمام مالك - رحمه الله - : إنه لم يعلم أحدا من الأئمة فعله ، يقتضي أنه لم يبلغه أثر علي - رضي الله عنه - المذكور ، ولو بلغه لعمل به ، والظاهر أن له حكم الرفع ; لأنه لا يظهر أنه يقال من جهة الرأي ، وإن كان الكلام الذي قدمنا عن صاحب " المغني " ، وصاحب " تبيين الحقائق " يقتضي أن مثله يقال بطريق الرأي للتعليل الذي عللوا به القول به ، وقال صاحب " نصب الراية " بعد أن ذكر رواية البيهقي للأثر المذكور عن علي من طريق الأجلح ، عن الشعبي ما نصه : ورواه أحمد في مسنده ، عن يحيى بن سعيد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، ثم ساق متن رواية الإمام أحمد بنحو ما قدمنا ، ثم قال : ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن يزيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا - رضي الله عنه - ، ثم ساق الأثر بنحو ما قدمنا ، ثم قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن الحسن بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن علي ، ثم ساق الأثر المذكور بنحو ما قدمنا ، اهـ .

وهذه الروايات يعضد بعضها بعضا وهي تدل على أن عليا كان يقول ببداءة الإمام في الإقرار وبداءة الشهود في البينة ، وإن كان له حكم الرفع فالأمر واضح ، وإن كان له حكم الوقف فهي فتوى وفعل من خليفة راشد ، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليه ، ولهذا استظهرنا بداءة البينة والإمام في الرجم ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أن المرجوم إذا هرب في أثناء الرجم عندما وجد ألم الضرب بالحجارة ، فإن كان زناه ثابتا ببينة ، فلا خلاف في أنهم يتبعونه حتى يدركوه ، فيرجموه [ ص: 408 ] لوجوب إقامة الحد عليه الذي هو الرجم بالبينة ، وإن كان زناه ثابتا بإقرار ، فقد اختلف أهل العلم فيه .

قال النووي في شرح مسلم : اختلف العلماء في المحصن : إذا أقر بالزنا فشرعوا في رجمه ، ثم هرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد ؟ فقال الشافعي وأحمد وغيرهما : يترك ، ولا يتبع لكي يقال له بعد ذلك ، فإن رجع عن الإقرار ترك ، وإن أعاد رجم .

وقال مالك في رواية وغيره : إنه يتبع ويرجم ، واحتج الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه " ؟ وفي رواية " : هلا تركتموه فلعله يتوب فيتوب الله عليه " ، واحتج الآخرون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمهم ذنبه ، مع أنهم قتلوه بعد هربه ، وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع ، وقد ثبت إقراره فلا يترك حتى يصرح بالرجوع ، قالوا : وإنما قلنا لا يتبع في هربه لعله يريد الرجوع ، ولم نقل إنه سقط الرجم بمجرد الهرب ، والله أعلم ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أنه إن هرب في أثناء الرجم لا يتبع بل يمهل حتى ينظر في أمره ، فإن صرح بالرجوع ترك ، وإن تمادى على إقراره رجم ، ويدل لهذا ما في رواية أبي داود التي أشار لها النووي ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : اعلم أن البكر من الرجال والنساء ، إذا زنا وجب جلده مائة جلدة كما هو نص الآية الكريمة ، ولا خلاف فيه ، ولكن العلماء اختلفوا هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب ؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد . قال ابن قدامة في " المغني " : وهو قول جمهور أهل العلم ، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين ، وبه قال أبي وابن مسعود ، وابن عمر - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهب عطاء ، وطاوس ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال مالك والأوزاعي : يغرب الرجل دون المرأة ، وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يجب التغريب على ذكر ولا أنثى ، وقال النووي في شرح مسلم : قال الشافعي والجماهير : ينفى سنة رجلا كان أو امرأة . وقال الحسن : لا يجب النفي ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ، وروي مثله عن علي - رضي الله عنه - إلى أن قال : وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي :

[ ص: 409 ] أحدها : يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث ، وبهذا قال سفيان الثوري ، وأبو ثور ، وداود ، وابن جرير .

والثاني : يغرب نصف سنة ; لقوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا ، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث ، والصحيح عند الأصوليين : جواز تخصيص السنة بالكتاب ; لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى .

والثالث : لا يغرب المملوك أصلا ، وبه قال الحسن البصري ، وحماد ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الأمة إذا زنت " : فليجلدها " ، ولم يذكر النفي ، ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده ، وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي ، والآية ظاهرة في وجوب النفي ، فوجب العمل بها ، وحمل الحديث على موافقتها ، والله أعلم ، اهـ كلام النووي ، وقوله : إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر ، فانظره .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، وأن الأئمة الثلاثة : مالكا ، والشافعي ، وأحمد ، متفقون على تغريب الزاني البكر الحر الذكر ، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الإناث والعبيد ، وعلمت أن أبا حنيفة ، ومن ذكرنا معه يقولون : بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقا ذكرا كان أو أنثى ، حرا أو عبدا ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

أما الذين قالوا : يغرب البكر الزاني سنة ، فاحتجوا بأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده ، وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام " الحديث ، وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضين بينهما بكتاب الله ، ثم صرح بأن من ذلك القضاء بكتاب الله جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عاما ، وهذا أصح نص وأصرحه في محل النزاع . ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي قدمناه ، وفيه " : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة " ، وهو أيضا نص صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في محل النزاع ، واحتج الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلة :

[ ص: 410 ] منها : أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له ، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخا للآية فهم يقولون : إن الآية متواترة ، وأحاديث التغريب أخبار آحاد ، والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد ، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم ، أما الأول منهما وهو أن كل زيادة على النص ، فهي ناسخة له ليس بصحيح ; لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق ، إلا إن كانت مثبتة شيئا قد نفاه النص أو نافية شيئا أثبته النص ، أما إذا كانت زيادة شيء سكت عنه النص السابق ، ولم يتعرض لنفيه ، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد دليل ناقل عنه ، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتا بدليل شرعي .

وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] .

وفي سورة " الحج " في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات " الحج " وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:36 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (394)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 411 إلى صـ 418




وأما الأمر الثاني : وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد ; فقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على آية " الأنعام " المذكورة آنفا ، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطا لا شك فيه ، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد ; إذا ثبت تأخرها عنه ، ولا منافاة بينهما أصلا ، حتى يرجح المتواتر على الآحاد ، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين ; لأن كلا منهما حق في وقته ، فلو قالت لك جماعة من العدول : إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن ، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته ، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة ; لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم ، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق ، وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور ; فالمتواتر في وقته قطعي ، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي ، [ ص: 411 ] فنسخه بالآحاد إنما نفى استمرار حكمه ، وقد عرفت أنه ليس بقطعي ، كما ترى .

ومن أدلتهم على عدم التغريب : حديث سهل بن سعد الساعدي عند أبي داود ، وقد قدمناه : أن رجلا أقر عنده - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة سماها فأنكرت أن تكون زنت ، فجلده الحد ، وتركها ، وما رواه أبو داود أيضا عن ابن عباس : أن رجلا من بكر بن ليث أقر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة أربع مرات ، وكان بكرا فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ، وسأله - صلى الله عليه وسلم - البينة على المرأة إذ كذبته ، فلم يأت بها ; فجلده حد الفرية ثمانين جلدة ، قالوا : ولو كان التغريب واجبا لما أخل به النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومن أدلتهم أيضا : الحديث الصحيح " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " الحديث ، وهو متفق عليه ، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد ، فدل ذلك على أن التغريب منسوخ ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامه - صلى الله عليه وسلم - أن الجمع بين جلد البكر ، ونفيه سنة قضاء منه - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله .

وإيضاح ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع ، ما لم يبلغه شيء آخر يعارض به .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين ، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، قال : وخطب بذلك عمر - رضي الله عنه - على رءوس المنابر ، وعمل به الخلفاء الراشدون ، ولم ينكره أحد فكان إجماعا ، اهـ منه .

وذكر مرجحات أخرى متعددة لوجوب التغريب .

والحاصل : أن حديث أبي داود الذي استدلوا به من حديث سهل بن سعد وابن عباس ليس فيه ذكر التغريب ، ولا التصريح بعدمه ، ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله أو بعده ؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح ، وعلى تقدير أن الإقسام هو المتقدم ، فذلك التصريح ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل ; ولو تكررت الروايات به تكررا كثيرا ، وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحق ، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما : أبو هريرة ، وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله ، لا شك في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن . أما [ ص: 412 ] كونه في السند فظاهر ، وأما كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب ، والصريح مقدم على غير الصريح كما هو معروف في الأصول ، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب .

وأما الاستدلال بحديث الأمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحد ، فهي تجلد خمسين ، ولو محصنة ، ولا ترجم ، والأحرار بخلاف ذلك ، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدود قد تختلف .

وقد بينت آية " النساء " اختلاف الحرة والأمة في حكم حد الزنا من جهتين :

إحداهما : أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة ، فعليها الجلد لا الرجم .

والثانية : أن عليها نصفه ، وذلك في قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، فتأمل قوله : فإذا أحصن ، وقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، يظهر لك ما ذكرنا .

ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلة الصحيحة في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن الذين قالوا بالتغريب ، وهم الجمهور ، اختلفوا في تغريب المرأة ، فقال جماعة من أهل العلم : تغرب المرأة سنة لعموم أدلة التغريب ، وممن قال به : الشافعي وأحمد ، وقال بعض أهل العلم : لا تغريب على النساء ، وممن قال به مالك والأوزاعي ، وروي مثله عن علي - رضي الله عنه - .

أما حجة من قال بتغريب النساء فهي عموم أدلة التغريب ، وظاهرها شمول الأنثى ، وأما الذين قالوا : لا تغريب على النساء ، فقد احتجوا بالأحاديث الصحيحة الواردة بنهي المرأة عن السفر ، إلا مع محرم أو زوج .

وقد قدمناها في سورة " النساء " في الكلام على مسافة القصر ، قالوا : لا يجوز سفرها دون محرم ، ولا يكلف محرمها بالسفر معها ; لأنه لا ذنب له يكلف السفر بسببه ، قالوا : ولأن المرأة عورة وفي تغريبها تضييع لها ، وتعريض لها للفتنة ، ولذلك نهيت عن السفر إلا [ ص: 413 ] مع محرم أو زوج ، قالوا : وغاية ما في الأمر ، أن عموم أحاديث التغريب بالنسبة إلى النساء خصصته أحاديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم أو زوج ، وهذا لا إشكال فيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أنها إن وجد لها محرم متبرع بالسفر معها إلى محل التغريب مع كون محل التغريب محل مأمن لا تخشى فيه فتنة ، مع تبرع المحرم المذكور بالرجوع معها إلى محلها ، بعد انتهاء السنة ، فإنها تغرب ; لأن العمل بعموم أحاديث التغريب لا معارض له في الحالة المذكورة ، وأما إن لم تجد محرما متبرعا بالسفر معها ، فلا يجبر ; لأنه لا ذنب له ، ولا تكلف هي السفر بدون محرم ، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

وقد قدمنا مرارا أن النص الدال على النهي يقدم على الدال على الأمر على الأصح ; لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وهذا التفصيل الذي استظهرنا لم نعلم أحدا ذهب إليه ، ولكنه هو الظاهر من الأدلة ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا في تغريب العبد والأمة ، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك .

وأظهر أقوالهم عندنا : أن المملوك لا يغرب ، لأنه مال ، وفي تغريبه إضرار بمالكه ، وهو لا ذنب له ، ويستأنس له بأنه لا يرجم ، ولو كان محصنا ; لأن إهلاكه بالرجم إضرار بمالكه ، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " الحديث ، ولم يذكر تغريبا ، وقد فهم البخاري - رحمه الله - عدم نفي الأمة من الحديث المذكور ، ولذا قال في ترجمته : باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى .

وقد قدمنا اختلاف الأصوليين في العبيد هل يدخلون في عموم نصوص الشرع ، لأنهم من جملة المكلفين ، أو لا يدخلون في عموم النصوص ، إلا بدليل منفصل لكثرة خروجهم من عموم النصوص ، كما تقدم إيضاحه .

وقد قدمنا أن الصحيح هو دخولهم في عموم النصوص إلا ما أخرجهم منه دليل ، واعتمده صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :


والعبد والموجود والذي كفر مشمولة له لدى ذوي النظر


وإخراجهم هنا من نصوص التغريب ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بجلد الأمة الزانية وبيعها ، ولم [ ص: 414 ] يذكر تغريبها ، ولأنهم مال ، وفي تغريبهم إضرار بالمالك ، وفي الحديث " : لا ضرر ولا ضرار " ، والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

أظهر القولين عندي : أنه لا بد في التغريب من مسافة تقصر فيها الصلاة ; لأنه فيما دونها له حكم الحاضر بالبلد الذي زنى فيه .

وأظهر القولين أيضا عندي أن المغرب يسجن في محل تغريبه ; لأن السجن عقوبة زائدة على التغريب ، فتحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليها ، والعلم عند الله تعالى .

والأظهر أن الغريب إذا زنى غرب من محل زناه إلى محل آخر غير وطنه الأصلي .
المسألة السادسة : اعلم أن من أقر بأنه أصاب حدا ، ولم يعين ذلك الحد ، فإنه لا يجب عليه الحد ، لعدم التعيين وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - ، قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، قال : ولم يسأله عنه ، قال : وحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ، قام إليه الرجل ، فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله ، قال " : أليس صليت معنا " ؟ قال : نعم ، قال " : فإن الله قد غفر لك ذنبك " ، أو قال " : حدك " ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، والحديث متفق عليه ، ولمسلم وأحمد من حديث أبي أمامة نحوه : وهو نص صحيح صريح في أن من أقر بحد ولم يسمه ، لا حد عليه كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : في حكم رجوع الزاني المقر بالزنى أو رجوع البينة قبل إتمام إقامة الحد عليه .

أما الزاني المقر بزناه إذا رجع عن إقراره ، سقط عنه الحد ، ولو رجع في أثناء إقامة الحد من جلد أو رجم ، هذا هو الظاهر .

قال ابن قدامة : وبه قال عطاء ، ويحيى بن يعمر ، والزهري ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وقد حكى ابن قدامة خلاف هذا عن جماعة وروايته عن مالك ضعيفة .

والظاهر لنا هو ما ذكرنا من سقوط الحد عنه برجوعه عن إقراره ، ولو في أثناء إقامة [ ص: 415 ] الحد لما قدمنا من حديث أبي داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم لما تبعوا ماعزا بعد هربه " : ألا تركتموه ؟ " ، وفي رواية " : هلا تركتموه ؟ فلعله يتوب فيتوب الله عليه " ، وفي ذلك دليل على قبول رجوعه ، وعليه أكثر أهل العلم ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وأما رجوع البينة أو بعضهم فلم أعلم فيه بخصوصه نصا من كتاب ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه .

واعلم : أن له حالتين :

إحداهما : أن يكون رجوعهم ، أو رجوع بعضهم قبل إقامة الحد على الزاني بشهادتهم .

والثانية : أن يكون رجوعهم ، أو رجوع بعضهم بعد إقامة الحد عليه ، والحد المذكور قد يكون جلدا ، وقد يكون رجما ، فإذا رجعوا كلهم أو واحد منهم قبل إقامة الحد ، فقد قال في ذلك ابن قدامة في " المغني " : فإن رجعوا عن الشهادة ، أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين ، وهو قول أبي حنيفة ، والثانية : يحد الثلاثة دون الراجع ، وهو اختيار أبي بكر ، وابن حامد ; لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله ، فسقط عنه الحد ، ولأن في درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة المشهود عليه ، وفي إيجاب الحد زجر له عن الرجوع خوفا من الحد ، فتفوت تلك المصلحة ، وتتحقق المفسدة ، فناسب ذلك نفي الحد عنه ، وقال الشافعي : يحد الراجع دون الثلاثة ; لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه . وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم ، وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع ، ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد ، كما لو لم يرجع ، ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد ، فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة ، وقولهم : وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم ، وبالراجع وحده ، فإن الحد وجب ، ثم سقط ، ووجب الحد عليهم بسقوطه ، ولأن الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه ، وإسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه ، وإحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى ، انتهى من " المغني " .

وحاصله : أنهم إن رجعوا كلهم حدوا كلهم ، وإن رجع بعضهم ، ففي ذلك ثلاثة أقوال :

الأول : يحدون كلهم .

[ ص: 416 ] والثاني : يحد من لم يرجع دون من رجع .

والثالث : عكسه ، كما هو واضح من كلامه .

والأظهر : أنهم إن رجعوا بعد الحكم عليه بالرجم أو الجلد بشهادتهم أنه لا يقام عليه الحد ، لرجوع الشهود أو بعضهم ، وقول بعض المالكية : إن الحكم ينفذ عليه ، ولو رجعوا كلهم أو بعضهم قبل التنفيذ خلاف التحقيق ، وإن كان المعروف في مذهب مالك أن الحكم إذا نفذ بشهادة البينة ، أنه لا ينقض برجوعهم وإنما ينقض بظهور كذبهم ; لأن هذا لم يعمموه في الشهادة المفضية إلى القتل لعظم شأنه ، والأظهر أنه لا يقتل بشهادة بينة كذبت أنفسها ، فيما شهدت عليه به ، كما لا يخفى . وأما إن كان رجوع البينة بعد إقامة الحد ، فالأظهر أنه إن لم يظهر تعمدهم الكذب لزمتهم دية المرجوم ، وإن ظهر أنهم تعمدوا الكذب ، فقال بعض أهل العلم : تلزم الدية أيضا ، وقال بعضهم : بالقصاص ، وهو قول أشهب من أصحاب مالك ، وله وجه من النظر ، لأنهم تسببوا في قتله بشهادة زور ، فقتلهم به له وجه ، والعلم عند الله تعالى . وإن كان رجوعهم أو رجوع بعضهم بعد جلد المشهود عليه بالزنى بشهادتهم ، فإن لم يظهر تعمدهم الكذب ، فالظاهر أنهم لا شيء عليهم ، لأنهم لم يقصدوا سوءا ، وإن ظهر تعمدهم الكذب وجب تعزيرهم بقدر ما يراه الإمام رادعا لهم ولأمثالهم ، لأنهم فعلوا معصيتين عظيمتين :

الأولى : تعمدهم شهادة الزور .

والثانية : إضرارهم بالمشهود عليه بالجلد ، وهو أذى عظيم أوقعوه به بشهادة زور ، والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

اعلم : أنا قدمنا حكم من زنى ببهيمة في سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ 17 \ 33 ] ، وقدمنا حكم اللواط وأقوال أهل العلم وأدلتهم في ذلك في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وقد قدمنا الكلام أيضا على أن من زنى مرات متعددة ، قبل أن يقام عليه الحد ، يكفي لجميع ذلك حد واحد في الكلام على آيات " الحج " ، وقد أوضحنا أن الأمة تجلد خمسين ، سواء كانت محصنة أو غير محصنة ; لأن [ ص: 417 ] جلدها خمسين مع الإحصان منصوص في القرآن كما تقدم إيضاحه ، وجلدها مع عدم الإحصان ثابت في الصحيح .

وأظهر الأقوال عندنا : أن الأمة غير المحصنة تجلد خمسين ، وألحق أكثر أهل العلم العبد بالأمة .

والأظهر عندنا : أنه يجلد خمسين مطلقا أحصن أم لا ، وقد تركنا الأقوال المخالفة لما ذكرنا لعدم اتجاهها عندنا مع أنا أوضحناها في سورة " النساء " في الكلام على قوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة الآية [ 4 \ 25 ] ، ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الزنى المتعلقة بهذه الآية التي نحن بصددها .
وعادتنا أن الآية إن كان يتعلق بها باب من أبواب الفقه أنا نذكر عيون مسائل ذلك الباب والمهم منه ، وتبيين أقوال أهل العلم في ذلك ونناقشها ، ولا نستقصي جميع ما في الباب ; لأن استقصاء ذلك في كتب فروع المذاهب كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

قد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول ، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب ، وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك ، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة .

وإيضاح ذلك : أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية ، فقال جماعة : المراد بالنكاح في هذه الآية : الوطء الذي هو نفس الزنى ، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح ، قالوا : فلا يجوز لعفيف أن يتزوج زانية كعكسه ، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحته ، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية ; لأن الزاني المسلم لا يحل له نكاح مشركة ، لقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] وقوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] ، وقوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] ، وكذلك الزانية المسلمة لا يحل [ ص: 418 ] لها نكاح المشرك ; لقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا [ 2 \ 221 ] ، فنكاح المشركة والمشرك لا يحل بحال ، وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء الذي هو الزنى ، لا عقد النكاح ; لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة ، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة ، والزانية للمشرك منسوخ ظاهر السقوط ; لأن سورة " النور " مدنية ، ولا دليل على أن ذلك أحل بالمدينة ثم نسخ ، والنسخ لا بد له من دليل يجب الرجوع إليه .
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة

اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية ، ونكاح العفيفة الزاني ، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه ، ومن وافقهم ، واحتج أهل هذا القول بأدلة :

منها عموم قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة ، وعموم قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وهو شامل بعمومه الزانية أيضا والعفيفة .

ومن أدلتهم على ذلك : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، قال " : غربها " ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ؟ قال " : فاستمتع بها " ، قال ابن حجر في " بلوغ المرام " في هذا الحديث بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا : رواه أبو داود ، والترمذي ، والبزار ورجاله ثقات ، وأخرجه النسائي من وجه آخر ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ قال " : طلقها " ، قال : لا أصبر عنها ، قال " : فأمسكها " ، اهـ ، من " بلوغ المرام " ، وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات ، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر ، وقد ذكره في الموضوعات مرسلا عن أبي الزبير ، قال : أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي . . . الحديث ، ورواه أيضا مرسلا عن عبيد بن عمير ، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور ، ولا يجوز هذا ; وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صح الحديث .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:39 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (395)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 419 إلى صـ 426



قال أحمد بن حنبل : هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل ، انتهى [ ص: 419 ] من موضوعات ابن الجوزي ، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة ، عن عدم العفة عن الزنى ، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، اهـ ، وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر ; لأن لفظ : لا ترد يد لامس أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحل كما لا يخفى ، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر ; لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر ، كما ترى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها ، وهي تحت زوج ، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه ، وبين المسألتين فرق ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .

ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية [ 24 \ 3 ] من وجهين :

الأول : أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه ، قالوا : والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدة التنفير منه ; لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة .

وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه ، كعكسه ، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك .

الوجه الثاني : هو قولهم : إن المراد بالنكاح في الآية التزويج ، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، منسوخة بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وممن ذهب إلى نسخها بها : سعيد بن المسيب ، والشافعي ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ، ما نصه : هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية ، أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة [ ص: 420 ] لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان ، أي : عاص بزناه ، أو مشرك لا يعتقد تحريمه .

قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا ، وقد روي عن مجاهد وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد نحو ذلك ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية : الجماع ، لا التزويج ، وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أن يعلمه تأويل القرآن ، وعزاه لمن ذكر معه من أجلاء المفسرين ، وابن عباس - رضي الله عنهما - من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم ، ولا شك في علمه باللغة العربية .

فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدل على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح ، فدعوى أن هذا التفسير لا يصح في العربية ، وأنه قبيح ، يرده قول البحر ابن عباس ، كما ترى .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد روي عن ابن عباس وأصحابه ، أن النكاح في هذه الآية : الوطء .

واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية ، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع ، وقوله : إن النكاح لا يعرف في القرآن ، إلا بمعنى التزويج ، مردود من وجهين :

الأول : أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى الوطء ، وذلك في قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر قوله : حتى تنكح زوجا غيره بأن معنى نكاحها له مجامعته لها ، حيث قال " : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ومراده بذوق العسيلة : الجماع ، كما هو معلوم .

الوجه الثاني : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، يطلقون النكاح على الوطء .

[ ص: 421 ] وقد يكون العقد ، اهـ ، وإنما سموا عقد التزويج نكاحا ; لأنه سبب النكاح أي الوطء ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه معروف في القرآن ، وفي كلام العرب ، وهو مما يسميه القائلون بالمجاز ، المجاز المرسل ، كما هو معلوم عندهم في محله ، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء ، قول الفرزدق :
وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق


لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج ، إذ لا يعقد على المسبيات ، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر ، ومنه قوله أيضا :
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله


فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين لا العقد ; كما صرح بذلك بقوله : ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله .

وقوله :
إذا سقى الله قوما صوب غادية فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطي دجلة البقرا


ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج .

قالوا : ومما يدل على أن النكاح في الآية غير التزويج ، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حد المتزوج بزانية ; لأنه زان ، والزاني يجب حده ، وقد أجمع العلماء على أن من تزوج زانية لا يحد حد الزنى ، ولو كان زانيا لحد حد الزنى ، فافهم ، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء ، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام ، كعكسه .
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وقد روي عن الحسن وقتادة ، واستدل أهل هذا القول بآيات وأحاديث .

فمن الآيات التي استدلوا بها هذه الآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ 24 \ 3 ] قالوا : المراد بالنكاح في هذه الآية : التزويج ، وقد نص الله على [ ص: 422 ] تحريمه في قوله : وحرم ذلك على المؤمنين قالوا : والإشارة بقوله : ذلك راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية ، أو المشركة وهو نص قرآني في تحريم نكاح الزاني العفيفة ، كعكسه .

ومن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان [ 5 \ 5 ] قالوا : فقوله محصنين غير مسافحين أي : أعفاء غير زناة ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة ، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب ، وقوله تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] ، فقوله : محصنات غير مسافحات أي : عفائف غير زانيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية ، أنهن لو كن مسافحات غير محصنات ، لما جاز تزوجهن .

ومن أدلة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية ، كلها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء ، والمقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وأنه قد جاء في السنة ما يؤيد صحة ما قالوا في الآية ، من أن النكاح فيها التزويج ، وأن الزاني لا يتزوج إلا زانية مثله ، فقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " ، وقال ابن حجر في بلوغ المرام في حديث أبي هريرة هذا : رواه أحمد ، وأبو داود ورجاله ثقات .

وأما الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية :

فمنها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه ، قال : فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له أمرها ، فقرأ عليه نبي الله : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك رواه أحمد .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في شرحه لهذا الحديث : وقد عزاه صاحب المنتقى لأحمد وحده ، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط ، قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد ثقات .

[ ص: 423 ] ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده : أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة ، وكانت بمكة بغي يقال لها عناق ، وكانت صديقته ، قال : فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني ، فنزلت : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي ، وقال " : لا تنكحها " ، رواه أبو داود ، والنسائي والترمذي .

قال الشوكاني في " نيل الأوطار " في كلامه على حديث عمرو بن شعيب هذا الذي ذكره صاحب المنتقى ، وعزاه لأبي داود والنسائي والترمذي : وحديث عمرو بن شعيب حسنه الترمذي وساق ابن كثير في تفسير هذه الآية الأحاديث التي ذكرنا بأسانيدها ، وقال في حديث عمرو بن شعيب هذا : قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقد رواه أبو داود ، والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به .

قالوا : فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن النكاح في قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة أنه التزويج لا الوطء ، وصورة النزول قطعية الدخول ; كما تقرر في الأصول ، قالوا : وعلى أن المراد به التزويج ، فتحريم نكاح الزانية والزاني منصوص في قوله تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين .

وقال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : وأما نكاح الزانية فقد صرح الله - سبحانه وتعالى - بتحريمه في سورة " النور " وأخبر أن من نكحها فهو إما زان أو مشرك ، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ، ويعتقد وجوبه عليه أو لا ، فإن لم يلتزمه ، ولم يعتقده فهو مشرك ، وإن التزمه واعتقد وجوبه ، وخالفه فهو زان ، ثم صرح بتحريمه ، فقال : وحرم ذلك على المؤمنين ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم [ 24 \ 32 ] من أضعف ما يقال ، وأضعف منه حمل النكاح على الزنى .

إذ يصير معنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وكلام الله ينبغي أن يصان عن مثل هذا ، وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها ، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان ، وهو العفة ، فقال : [ ص: 424 ] فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] ، فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها ، وليس هذا من دلالة المفهوم ، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم ، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع ، وما عداه فعلى أصل التحريم ، انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم .

وهذه الأدلة التي ذكرنا هي حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه ، وإذا عرفت أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني ، فهذه مناقشة أدلتهم .

أما قول ابن القيم : إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله ، فيرده أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرآن صح عنه حمل الزنى في الآية على الوطء ، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله لصانه عنه ابن عباس ، ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله .

وقال ابن العربي في تفسير ابن عباس للزنى في الآية بالوطء : هو معنى صحيح ، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه .

وقول ابن القيم في كلامه هذا الذي ذكرنا عنه : فإن لم يلتزمه ، ولم يعتقده فهو مشرك يقال فيه : نعم هو مشرك ، ولكن المشرك لا يجوز له نكاح الزانية المسلمة ، وظاهر كلامك جواز ذلك ، وهو ليس بجائز فيبقى إشكال ذكر المشرك والمشركة واردا على القول بأن النكاح في الآية التزويج ، كما ترى .

وقول ابن القيم في كلامه هذا : وليس هذا من باب دلالة المفهوم ، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم يقال فيه : إن تزويج الزانية وردت نصوص عامة تقتضي جوازه ; كقوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 25 ] وهو شامل بعمومه للزانية والعفيفة والزاني والعفيف ، وقوله : وأنكحوا الأيامى منكم [ 24 \ 32 ] فهو أيضا شامل بعمومه لجميع من ذكر ، ولذا قال سعيد بن المسيب : إن آية وأنكحوا الأيامى الآية ، ناسخة لقوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، وقال الشافعي : القول في ذلك كما قال سعيد من نسخها بها .

وبما ذكرنا يتضح أن دلالة قوله : محصنات غير مسافحات على المقصود من [ ص: 425 ] البحث من باب دلالة المفهوم كما أوضحناه قريبا ; لأن العمومات المذكورة لا يصح تخصيص عمومها إلا بدليل منطوقا كان أو مفهوما ، كما تقدم إيضاحه .

وأما قول سعيد بن المسيب والشافعي بأن آية : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم فهو مستبعد ; لأن المقرر في أصول الشافعي ومالك وأحمد هو أنه لا يصح نسخ الخاص بالعام ، وأن الخاص يقضي على العام مطلقا ، سواء تقدم نزوله عنه أو تأخر ، ومعلوم أن آية وأنكحوا الأيامى منكم أعم مطلقا من آية : الزاني لا ينكح إلا زانية فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين ، وإنما يجوز ذلك على المقرر في أصول أبي حنيفة - رحمه الله - كما قدمنا إيضاحه في سورة " الأنعام " ، وقد يجاب عن قول سعيد ، والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية ، وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح ، وإنما قيد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء ، ولذا قال بعد الآية : والصالحين من عبادكم وإمائكم [ 24 \ 32 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقا; لأن حمل النكاح فيها على التزويج ، لا يلائم ذكر المشركة والمشرك ، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلقة بالآية ، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية : التزويج ، ولا أعلم مخرجا واضحا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف ، وهو أن أصح الأقوال عند الأصوليين كما حرره أبو العباس ابن تيمية في رسالته في علوم القرآن ، وعزاه لأجلاء علماء المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه ، أو معانيه ، فيجوز أن تقول : عدا اللصوص البارحة على عين زيد ، وتعني بذلك أنهم عوروا عينه الباصرة وغوروا عينه الجارية ، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضته .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج ، خلافا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما ، مجاز في الآخر كما أشرنا له سابقا ، وإذا جاز حمل المشترك على معنييه ، فيحمل النكاح في الآية على الوطء ، وعلى التزويج معا ، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد ، وهذا هو نوع التعسف الذي أشرنا له ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 426 ] وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية ، والمانعون لذلك أقل ، وقد عرفت أدلة الجميع .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن من تزوج امرأة يظنها عفيفة ، ثم زنت وهي في عصمته أن أظهر القولين : أنه نكاح لا يفسخ ، ولا يحرم عليه الدوام على نكاحها ، وقد قال بهذا بعض من منع نكاح الزانية مفرقا بين الدوام على نكاحها ، وبين ابتدائه ، واستدل من قال هذا بحديث عمرو بن الأحوص الجشمي - رضي الله عنه - أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله ، وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال " : استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " .

قال الشوكاني في حديث عمرو بن الأحوص هذا : أخرجه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عمرو بن الأحوص المذكور : وحديثه في الخطبة صحيح ، اهـ ، وحديثه في الخطبة هو هذا الحديث ، بدليل قوله : فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، وهذا التذكير والوعظ هو الخطبة ; كما هو معروف .

ومن الأدلة على هذا الحديث المتقدم قريبا الذي فيه : أن الرجل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، فقال " : طلقها " ، فقال : نفسي تتبعها ، فقال " : أمسكها " ، وبينا الكلام في سنده ، وأنه في الدوام على النكاح ، لا في ابتداء النكاح ، وأن بينهما فرقا ، وبه تعلم أن قول من قال : إن من زنت زوجته فسخ نكاحها وحرمت عليه خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:41 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (396)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 427 إلى صـ 434



الفرع الثاني : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي ، أنه لا يجوز نكاح المرأة الحامل من الزنا قبل وضع حملها بل لا يجوز نكاحها ، حتى تضع حملها ، خلافا لجماعة من أهل العلم ، قالوا : يجوز نكاحها وهي حامل ، وهو مروي عن الشافعي وغيره ، وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن نكاح الرجل امرأة حاملا من غيره فيه سقي الزرع بماء الغير ، وهو لا يجوز ، ويدل لذلك قوله تعالى :وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] ، ولا يخرج من عموم هذه الآية إلا ما أخرجه دليل يجب الرجوع إليه ، فلا يجوز نكاح حامل [ ص: 427 ] حتى ينتهي أجل عدتها ، وقد صرح الله بأن الحوامل أجلهن أن يضعن حملهن ، فيجب استصحاب هذا العموم ، ولا يخرج منه إلا ما أخرجه دليل من كتاب أو سنة .

الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا وندما على ما كان منهما ونويا أن لا يعودا إلى الذنب ، فإن نكاحهما جائز ، فيجوز له أن ينكحها بعد توبتهما ، ويجوز نكاح غيرهما لهما بعد التوبة ; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ويدل لهذا قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [ 25 \ 68 - 70 ] ، فقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية أن الذين يزنون ، ومن ذكر معهم إن تابوا وآمنوا ، وعملوا عملا صالحا يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وهو يدل على أن التوبة من الزنا تذهب أثره ، فالذين قالوا : إن من زنا بامرأة لا تحل له مطلقا ، ولو تابا وأصلحا فقولهم خلاف التحقيق ، وقد وردت آثار عن الصحابة بجواز تزويجه بمن زنى بها إن تابا ، وضرب له بعض الصحابة مثلا برجل سرق شيئا من بستان رجل آخر ، ثم بعد ذلك اشترى البستان فالذي سرقه منه حرام عليه ، والذي اشتراه منه حلال له ، فكذلك ما نال من المرأة حراما فهو حرام عليه ، وما نال منها بعد التوبة والتزويج حلال له ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن قول من رد الاستدلال بآية : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية [ 25 \ 68 ] ، قائلا : إنها نزلت في الكفار لا في المسلمين ، يرد قوله : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما أوضحنا أدلته من السنة الصحيحة مرارا ، والعلم عند الله تعالى .

الفرع الرابع : اعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية ، لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثا ; لأنه إنما يتزوجها ليحفظها ، ويحرسها ، ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعا باتا بأن يراقبها دائما ، وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها ، وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها ، مع شدة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة ، وإن جرى منها شيء لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شيء عليه فيه ، ولا يكون به ديوثا ، كما هو معلوم ، وقد علمت مما مر أن أكثر أهل العلم على جواز نكاح العفيف الزانية كعكسه ، وأن جماعة قالوا بمنع ذلك .

[ ص: 428 ] والأظهر لنا في هذه المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوج إلا عفيفة صينة ، للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيده حديث " : فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، والعلم عند الله تعالى ،
قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم قوله تعالى في هذه الآية : يرمون معناه : يقذفون المحصنات بالزنا صريحا أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه ; لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى ، وهذا القذف هو الذي أوجب الله تعالى فيه ثلاثة أحكام :

الأول : جلد القاذف ثمانين جلدة .

والثاني : عدم قبول شهادته .

والثالث : الحكم عليه بالفسق .

فإن قيل : أين الدليل من القرآن على أن معنى يرمون المحصنات في هذه الآية ، هو القذف بصريح الزنى ، أو بما يستلزمه كنفي النسب ؟

فالجواب : أنه دلت عليه قرينتان من القرآن :

الأولى : قوله تعالى : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء بعد قوله : يرمون المحصنات ومعلوم أنه ليس شيء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى ، ومن قال : إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط .

وقد قدمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة " هود " ، كما أشرنا له غير بعيد .

القرينة الثانية : هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني ، في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، وقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني ، يدل على إحصانهن ، أي : عفتهن عن الزنى ، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى ، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرآن ، ومثلنا لها كلها من القرآن في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فذكرنا أن من المعاني التي [ ص: 429 ] تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات ; كقوله : محصنات غير مسافحات [ 4 \ 24 ] ، أي : عفائف غير زانيات ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات أي : العفائف ، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب ، ومنه قول جرير :
فلا تأمنن الحي قيسا فإنهم بنو محصنات لم تدنس حجورها


وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني


فقوله : رماني بأمر يعني : أنه رماه بالكلام القبيح ، وفي شعر امرئ القيس أو غيره : وجرح اللسان كجرح اليد

واعلم أن هذه الآية الكريمة مبينة في الجملة من ثلاث جهات :

الجهة الأولى : هي القرينتان القرآنيتان الدالتان على أن المراد بالرمي في قوله : يرمون المحصنات هو الرمي بالزنى ، أو ما يستلزمه كنفي النسب ; كما أوضحناه قريبا .

الجهة الثانية : هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى ، ولكن الله - جل وعلا - بين أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية ، وأنه إن لم يأت الشهداء تلاعنا ، وذلك في قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم الآية [ 24 \ 6 ] .

ومضمونها : أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه ، والمعنى : أنه لم يقدر على الإتيان ببينة تشهد له على الزنى الذي رماها به ، فإنه يشهد أربع شهادات يقول في كل واحدة منها : أشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى ، ثم يقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت كاذبا عليها فيما رميتها به ، ويرتفع عنه الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات ، وتشهد هي أربع شهادات بالله ، تقول في كل واحدة منها : أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى ، ثم تقول في الخامسة : غضب الله [ ص: 430 ] علي إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى ; كما هو واضح من نص الآية .

الجهة الثالثة : أن الله بين هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا ، ولم يبين ما أعد له في الآخرة ، ولكنه بين في هذه السورة الكريمة ما أعد له في الدنيا والآخرة من عذاب الله ، وذلك في قوله : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 23 - 25 ] ، وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهن مؤمنات غافلات لإيضاح صفاتهن الكريمة .

ووصفه تعالى للمحصنات في هذه الآية بكونهن غافلات ثناء عليهن بأنهن سليمات الصدور نقيات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن ، ليس فيهن دهاء ولا مكر ; لأنهن لم يجربن الأمر فلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء ، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء ، وتطلق العرب على المتصفات به اسم البله مدحا لها لا ذما ، ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :
نفج الحقيبة بوصها متنضد بلهاء غير وشيكة الأقسام


وقول الآخر :
ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها


وقول الآخر :
عهدت بها هندا وهند غريرة عن الفحش بلهاء العشاء نئوم

رداح الضحى ميالة بخترية لها منطق يصبي الحليم رخيم


والظاهر أن قوله تعالى : لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [ 24 \ 23 - 24 ] ، محله فيما إذا لم يتوبوا ويصلحوا ، فإن تابوا وأصلحوا ، لم ينلهم شيء من ذلك الوعيد ، ويدل له قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله : إلا الذين تابوا الآية .

وعمومات نصوص الكتاب والسنة دالة على أن من تاب إلى الله من ذنبه توبة نصوحا [ ص: 431 ] تقبلها منه ، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر ، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاء المفسرين أن آية : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء التي جعل الله فيها التوبة بقوله : إلا الذين تابوا عامة ، وأن آية : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة الآية [ 24 \ 23 ] ، خاصة بالذين رموا عائشة - رضي الله عنها - أو غيرها من خصوص أزواجه - صلى الله عليه وسلم - وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : لا يخفى أن الآية إنما نصت على قذف الذكور للإناث خاصة ; لأن ذلك هو صريح قوله : والذين يرمون المحصنات وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكور للذكور ، أو الإناث للإناث ، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصت عليه الآية ، من قذف الذكور للإناث ; للجزم بنفي الفارق بين الجميع .

وقد قدمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه ، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة " الأنبياء " ، في كلامنا الطويل على آية : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
المسألة الثانية : اعلم أن المقرر في أصول المالكية ، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات ، أو مفردات متعاطفات ، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها ، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :
وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو

دون دليل العقل أو ذي السمع والحق الافتراق دون الجمع


ولذا لو قال إنسان : هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين ، وبني زهرة ، وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع ، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخيرة ، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط ، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية ، إلا لجملة الأخيرة التي هي : وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فقد زال عنهم الفسق ، ولا يقول : ولا تقبلوا لهم شهادة [ ص: 432 ] أبدا إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : إن شهادة القاذف لا تقبل أبدا ، ولو تاب وأصلح ، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة .

وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم : القاضي شريح ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر ، وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب ، قاله ابن كثير .

وقال جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة : إن الاستثناء في الآية راجع أيضا لقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأن القاذف إذا تاب وأصلح ، قبلت شهادته ، أما قوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة فلا يرجع له الاستثناء ; لأن القاذف إذا تاب وأصلح ، لا يسقط عنه حد القذف بالتوبة .

فتحصل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله : وأولئك هم الفاسقون يرجع لها الاستثناء بلا خلاف ، وأن الجملة الأولى التي هي : فاجلدوهم ثمانين جلدة لا يرجع لها الاستثناء في قول عامة أهل العلم ، ولم يخالف إلا من شذ ، وأن الجملة الوسطى ، وهي قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة ، وقد ذكرنا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخرين ، كابن الحاجب من المالكية ، والغزالي من الشافعية ، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع ، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل .

وإنما قلنا : إن هذا هو الأظهر; لأن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .

وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى الله وجدنا القرآن دالا على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا ، وهو الوقف ، وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى ، وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة ، فدل ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئا مطردا .

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط ; لأن المطالبة بها تسقط [ ص: 433 ] بتصدق مستحقها بها ، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعا ، لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ .

ومن أمثلة ذلك آية " النور " هذه ؛ لأن الاستثناء في قوله : إلا الذين تابوا لا يرجع لقوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة كما ذكرناه آنفا .

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 90 ] ، فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل المذكورة إليه ، أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليين ، أعني قوله تعالى : فخذوهم واقتلوهم [ 4 \ 89 ] ، أي : فخذوهم بالأسر ، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فليس لكم أخذهم بأسر ، ولا قتلهم ; لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم ، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن هذه الآية نزلت فيه ، وفي سراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر ، وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع ، ولا إلى الأخيرة ، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل ، ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة ، كان ظاهرا في رجوعه للجميع .

وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، ولذلك اختصرناه هنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أن من قذف إنسانا بغير الزنى أو نفي النسب ، كأن يقول له : يا فاسق ، أو يا آكل الربا ، ونحو ذلك من أنواع السب يلزمه التعزير ، وذلك بما يراه الإمام رادعا له ولأمثاله من العقوبة ، من غير تحديد شيء في ذلك من جهة الشرع ، وقال بعض أهل العلم : لا يبلغ بالتعزير قدر الحد ، وقال بعض العلماء : إن التعزير بحسب اجتهاد الإمام فيما يراه رادعا مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 434 ] المسألة الرابعة : اعلم أن جمهور العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين; لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى ، قال القرطبي : وروي عن ابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، وقبيصة بن ذؤيب : يجلد ثمانين ، وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين ، وبه قال الأوزاعي ، واحتج الجمهور بقوله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنا لله ، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه ، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه .

وأما حد القذف ، فهو حق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف ، والجناية لا تختلف بالرق والحرية ، وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر ، كما في الزنى .

قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول وبه أقول ، انتهى كلام القرطبي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا : أن العبد إذا قذف حرا جلد ثمانين لا أربعين ، وإن كان مخالفا لجمهور أهل العلم ، وإنما استظهرنا جلده ثمانين ; لأن العبد داخل في عموم : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا يمكن إخراجه من هذا العموم ، إلا بدليل ولم يرد دليل يخرج العبد من هذا العموم ، لا من كتاب ، ولا من سنة ، ولا من قياس ، وإنما ورد النص على تشطير الحد عن الأمة في حد الزنى وألحق العلماء بها العبد بجامع الرق ، والزنى غير القذف .

أما القذف فلم يرد فيه نص ولا قياس في خصوصه .

وأما قياس القذف على الزنى فهو قياس مع وجود الفارق ; لأن القذف جناية على عرض إنسان معين ، والردع عن الأعراض حق للآدمي فيردع العبد كما يردع الحر ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:43 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (397)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 435 إلى صـ 442



تنبيه .

قد قدمنا في سورة " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني الآية [ 5 \ 32 ] ، أن الحر إذا قذف عبدا لا يحد له ، وذلك ثابت في [ ص: 435 ] الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : من قذف عبده بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " اهـ ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح " : أقيم عليه الحد يوم القيامة " ، يدل على أنه لا يقام عليه الحد في الدنيا وهو كذلك ، وهذا لا نزاع فيه بين من يعتد به من أهل العلم .

قال القرطبي : قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة ، واقتص لكل واحد من صاحبه إلا أن يعفو المظلوم ، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي .
المسألة الخامسة : اعلم أن العلماء أجمعوا على أنه إذا صرح في قذفه له بالزنى ، كان قذفا ورميا موجبا للحد ، وأما إن عرض ولم يصرح بالقذف ، وكان تعريضه يفهم منه بالقرائن أنه يقصد قذفه ; كقوله : أما أنا فلست بزان ، ولا أمي بزانية ، أو ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنى ، أو يا حلال ابن الحلال ، أو نحو ذلك .

فقد اختلف أهل العلم : هل يلزم القذف بالتعريض المفهم للقذف ، وإن لم يصرح ، أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحا واضحا لا احتمال فيه ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحد ، ولو فهم منه إرادة القذف ، إلا أن يقر أنه أراد به القذف .

قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا القول هو رواية حنبل عن الإمام أحمد ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، وبه قال عطاء ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وابن المنذر ، واحتج أهل هذا القول بكتاب وسنة .

أما الكتاب فقوله تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ 2 \ 235 ] ، ففرق تعالى بين التصريح للمعتدة والتعريض ، قالوا : ولم يفرق الله بينهما في كتابه ، إلا لأن بينهما فرقا ، ولو كانا سواء لم يفرق بينهما في كتابه .

وأما السنة : فالحديث المتفق عليه الذي قدمناه مرارا في الرجل الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود وهو تعريض بنفيه ، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قذفا ، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل " : ألك إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : فما ألوانها " ؟ [ ص: 436 ] قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءها ذلك " ؟ قال : لعل عرقا نزعه ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، قالوا : ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف ، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا ، هذا هو حاصل حجة من قالوا بأن التعريض بالقذف ، لا يوجب الحد ، وإنما يجب الحد بالتصريح بالقذف .

وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحد ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وروى الأثرم وغيره ، عن الإمام أحمد أن عليه الحد ، يعني المعرض بالقذف ، قال : وروي ذلك عن عمر - رضي الله عنه - وبه قال إسحاق إلى أن قال : وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض ، اهـ .

واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما ذكره القرطبي ، قال : والدليل لما قاله مالك : هو أن موضوع الحد في القذف ، إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، وإذا حصلت المعرة بالتعريض ، وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم ، وقد قال تعالى مخبرا عن قوم شعيب أنهم قالوا له : إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 87 ] ، أي : السفيه الضال ، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة " هود " ، وقال تعالى في أبي جهل : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 49 ] ، وقال تعالى في الذين قذفوا مريم أنهم قالوا : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، فمدحوا أباها ، ونفوا عن أمها البغاء ، أي : الزنى وعرضوا لمريم بذلك ، ولذلك قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها ، أي : ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا أي : أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد ، وقال تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 \ 24 ] ، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهدى ، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد .

وحاصل كلام القرطبي المذكور : أن من أدلة القائلين بوجوب الحد بالتعريض آيات قرآنية ، وبين وجه دلالتها على ذلك كما رأيته ، وذكر أن من أدلتهم أن المعرة اللاحقة [ ص: 437 ] للمقذوف صريحا تلحقه بالتعريض له بالقذف ، ولذلك يلزم استواؤهما ، وذكر أن من أدلتهم أن المعول على الفهم ، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح .

ومن أدلتهم على أن التعريض يجب به الحد بعض الآثار المروية عن بعض الخلفاء الراشدين ، قال ابن قدامة في " المغني " : لأن عمر - رضي الله عنه - حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية ، فقالوا : قد مدح أباه وأمه ، فقال عمر : قد عرض بصاحبه وجلده الحد ، وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض ، وروى الأثرم : أن عثمان - رضي الله عنه - جلد رجلا قال لآخر : يا ابن شامة الوذر ، يعرض له بزنى أمه ، والوذر : غدر اللحم يعرض له بكمر الرجال ، وانظر أسانيد هذه الآثار .

ومن أدلة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها ، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية ، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف ، فلا شك في أنه لا يكون قذفا ، انتهى من " المغني " .

ثم قال صاحب المغني : وذكر أبو بكر عبد العزيز : أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض ، يعني بأبي عبد الله الإمام أحمد - رحمه الله - وقال القرطبي : وقد حبس عمر - رضي الله عنه - الحطيئة ، لما قال :


دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
.

لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير ، ومنه قول الحطيئة أو النجاشي :


قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل


فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح ، وقال : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، ولما قال الشاعر بعد ذلك :


ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل


قال عمر أيضا : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ، ولذا ذكروا أن عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته ; لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا [ ص: 438 ] نزاع ، ويدل على ذلك أول شعره وآخره ، لأن أول الأبيات قوله :


إذا الله عادى أهل لؤم وذلة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يخفرون . . . . . . البيت


وفي آخر شعره :


وما سمي العجلان إلا لقوله خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل


وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شك فيه ، وقول الحطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها


يهجو به الزبرقان بن بدر التميمي ، كما ذكره بعض المؤرخين ، وما ذكره القرطبي - رحمه الله - في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على مريم : هو تعريضهم لها بقولهم : ما كان أبوك امرأ سوء الآية [ 19 \ 28 ] ، لا يتعين بانفراده ; لأن الله - جل وعلا - ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره القرطبي ، وذلك في قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، فقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جدا في إرادتهم قذفها ، كما ترى ، والكلام الذي ذكر ابن قدامة : أن عثمان جلد الحد فيه وهو قول الرجل لصاحبه : يا ابن شامة الوذر ، قال فيه الجوهري في صحاحه : الوذرة بالتسكين الغدرة ، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة ، ومنه قولهم : يا ابن شامة الوذرة ، وهي كلمة قذف ، وكانت العرب تتساب بها ، كما كانت تتساب بقولهم : يا ابن ملقي أرحل الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ونحوها ، والجمع وذر مثل : تمرة وتمر ، اهـ من صحاح الجوهري .

والشامة بتشديد الميم اسم فاعل شمه ، وقال صاحب " اللسان " : وفي حديث عثمان - رضي الله عنه - أنه رفع إليه رجل قال لرجل : يا ابن شامة الوذر ، فحده ، وهو من سباب العرب وذمهم ، وإنما أراد يا ابن شامة المذاكير يعنون الزنا ، كأنها كانت تشم كمرا مختلفة فكنى عنه ، والذكر قطعة من بدن صاحبه ، وقيل : أرادوا بها القلف جمع قلفة الذكر ; لأنها تقطع ، انتهى محل الغرض من " لسان العرب " ، وهذا لا يتضح منه قصد الزنا ولم أر من [ ص: 439 ] أوضح معنى شامة الوذر إيضاحا شافيا ; لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح .

والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن قائل الكلام المذكور يشبه من عرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات ; لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شم فرجها ، واستنشق ريحه استنشاقا شديدا ، ثم بعد ذلك ينزو عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشم ذكر الرجل كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أنثاه ، وشمها لمذاكير الرجال كأنه مقدمة للمواقعة ، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكير ، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة ; لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم ، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر ، حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع ، والعلم عند الله تعالى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم ، وحججهم في التعريض بالقذف ، هل يلزم به الحد أو لا يلزم به .

وأظهر القولين عندي : أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهما واضحا من القرائن أن صاحبه يحد ; لأن الجناية على عرض المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهما واضحا ، ولئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا ، والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم : إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة : قال القرطبي في تفسيره : الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم ، وقال الزهري ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم ، وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد ، قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول ، ولم أدرك أحدا ، ولا لقيته يخالف في ذلك ، وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة ، لا أعلم في ذلك خلافا ، انتهى منه .
المسألة السابعة : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي في مسألة ما لو قذف رجل رجلا ، فقال آخر : صدقت ، أن المصدق قاذف فتجب إقامة الحد عليه ; لأن تصديقه للقاذف قذف خلافا لزفر ومن وافقه .

[ ص: 440 ] وقال ابن قدامة في " المغني " : ولو قال : أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفا سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه ، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا كذبه الآخر ، وبه قال مالك ، وعطاء ، ونحوه عن الزهري ; لأنه أخبر بزناه ، اهـ منه .

وأظهر القولين عندي : أنه لا يكون قاذفا ولا يحد ، لأنه حكى عن غيره ولم يقل من تلقاء نفسه ، ويحتمل أن يكون صادقا ، وأن الذي أخبره أنكر بعد إخباره إياه كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلا وأنكر المشهود عليه ، فلا يكون الشاهد قاذفا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : أظهر قولي أهل العلم عندي فيمن قذف رجلا بالزنى ، ولم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف أن الحد يسقط عن قاذفه; لأنه تحقق بزناه أنه غير محصن ، ولو كان ذلك لم يظهر إلا بعد لزوم الحد للقاذف; لأنه قد ظهر أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على من قذفه ، فلا يحد لغير عفيف ؛ اعتبارا بالحالة التي يراد أن يقام فيها الحد ، فإنه في ذلك الوقت ثبت عليه أنه غير عفيف .

وهذا الذي استظهرنا عزاه ابن قدامة : لأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والقول بأنه يحد هو مذهب الإمام أحمد .

قال صاحب " المغني " : وبه قال الثوري ، وأبو ثور ، والمزني ، وداود ، واحتجوا بأن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب .

والأظهر عندنا هو ما قدمنا ; لأنه تحقق أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على قاذفه ، فلا يحد لمن تحقق أنه غير عفيف .

وإنما وجب الحد قبل هذا ، لأن عدم عفته كان مستورا ، ثم ظهر قبل إقامة الحد ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ، أنه ليس بقذف ، ولا يحد قائله ; لأنه رماه بفعل لا يعد زنا إجماعا ، خلافا لابن القاسم من أصحاب مالك القائل بوجوب الحد زاعما أنه تعريض به ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 441 ] المسألة العاشرة : اعلم أن حد القذف لا يقام على القاذف إلا إذا طلب المقذوف إقامة الحد عليه ; لأنه حق له ، ولم يكن للقاذف بينة على ما ادعى من زنا المقذوف ; لأن الله يقول : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ومفهوم الآية : أن القاذف لو جاء بأربعة شهداء على الوجه المقبول شرعا أنه لا حد عليه ، وإنما يثبت بذلك حد الزنا على المقذوف ، لشهادة البينة ، ويشترط لذلك أيضا عدم إقرار المقذوف ، فإن أقر بالزنا ، فلا حد على القاذف ، وإن كان القاذف زوجا اعتبر في حده حد القذف امتناعه من اللعان ، قال ابن قدامة : ولا نعلم خلافا في هذا كله ، ثم قال : وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد ، فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط ، وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور . وقال الحسن وأصحاب الرأي : لا يسقط بعفوه ; لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود ، ولنا أنه حد لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص ، وفارق سائر الحدود ، فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها ، وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد ، ولأنهم قالوا تصح دعواه ، ويستحلف فيه ، ويحكم الحاكم فيه بعلمه ، ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف ، فدل على أنه حق لآدمي ، اهـ من " المغني " ، وكونه حقا لآدمي هو أحد أقوال فيه .

قال أبو عبد الله القرطبي : واختلف العلماء في حد القذف ، هل هو من حقوق الله ، أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما ؟

الأول : قول أبي حنيفة .

والثاني : قول مالك والشافعي .

والثالث : قاله بعض المتأخرين .

وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه ، وإن لم يطلب ذلك المقذوف ، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا ، وإن كان حقا للآدمي ، فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ، ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف ، اهـ كلام القرطبي .

ومذهب مالك وأصحابه كأنه مبني على القول الثالث ، وهو أن الحد يسقط بعفو [ ص: 442 ] المقذوف قبل بلوغ الإمام ، فإن بلغ الإمام ، فلا يسقطه عفوه إلا إذا ادعى أنه يريد بالعفو الستر على نفسه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن القذف حق للآدمي وكل حق لآدمي فيه حق لله .

وإيضاحه : أن حد القذف حق للآدمي من حيث كونه شرع للزجر عن فعله ، ولدفع معرة القذف عنه ، فإذا تجرأ عليه القاذف انتهك حرمة عرض المسلم ، وأن للمسلم عليه حقا بانتهاك حرمة عرضه ، وانتهك أيضا حرمة نهي الله عن فعله في عرض مسلم ، فكان لله حق على القاذف بانتهاكه حرمة نهيه ، وعدم امتثاله ، فهو عاص لله مستحق لعقوبته ، فحق الله يسقط بالتوبة النصوح ، وحق المسلم يسقط بإقامة الحد ، أو بالتحلل منه .

والذي يظهر على هذا التفصيل أن المقذوف إذا عفا وسقط الحد بعفوه أن للإمام تعزير القاذف لحق الله ، والله - جل وعلا - أعلم .
المسألة الحادية عشرة : قال القرطبي : إن تمت الشهادة على الزاني بالزنا ولكن الشهود لم يعدلوا ، فكان الحسن البصري ، والشعبي يريان ألا حد على الشهود ، ولا على المشهود عليه ، وبه قال أحمد ، والنعمان ، ومحمد بن الحسن .

وقال مالك : وإذا شهد عليه أربعة بالزنا وكان أحدهم مسخوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا ، وقال سفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى : يضربون ، فإن رجع أحد الشهود ، وقد رجم المشهود عليه في الزنى ، فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ، ولا شيء على الآخرين ، وكذلك قال قتادة ، وحماد ، وعكرمة ، وأبو هاشم ، ومالك ، وأحمد ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ، فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا عفوا ، وأخذوا ربع الدية وعليه الحد ، وقال الحسن البصري : يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية ، وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت وأردت غيره ، فعليه الدية كاملة ، وإن قال تعمدت قتل ، وبه قال ابن شبرمة ، اهـ كلام القرطبي ، وقد قدمنا بعضه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابوالوليد المسلم 11-11-2022 11:45 PM

رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
 
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (398)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 443 إلى صـ 450




وأظهر الأقوال عندي : أنهم إن لم يعدلوا حدوا كلهم ; لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة ، كمن لم يأت بشيء ، وأنه إن أقر بأنه تعمد الشهادة عليه ; لأجل أن يقتل [ ص: 443 ] يقتص منه ، وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية ، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية عشرة : قال القرطبي : قال مالك ، والشافعي من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد ، وقاله الحسن البصري ، واختاره ابن المنذر ، ومن قذف أم الولد حد ، وروي عن ابن عمر ، وهو قياس قول الشافعي ، وقال الحسن البصري : لا حد عليه ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما حده في قذف أم الولد ، فالظاهر أنه لا يكون إلا بعد موت سيدها ، وعتقها من رأس مال مستولدها ، أما قبل ذلك فلم تتحقق حريتها بالفعل ، ولا سيما على قول من يجيز بيعها من العلماء ، والقاذف لا يحد بقذف من لم يكن حرا حرية كاملة فيما يظهر ، وكذلك لو قيل : إن من قذف من يظنه عبدا ، فإذا هو حر لا يجب عليه الحد لأنه لم ينو قذف حر ، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر; لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف : ما قصدت قذفك ولا أقول : إنك زان ، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبدا فأنت عفيف في نظري ، ولا أقول فيك إلا خيرا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة ، أو قذف واحدا ، مرات متعددة . وقد قدمنا خلاف أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات " الحج " 0

قال ابن قدامة في " المغني " ، في شرحه لقول الخرقي : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة ، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم ، ما نصه : وبهذا قال : طاوس والشعبي ، والزهري ، والنخعي ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، وأبو حنيفة وصاحباه ، وابن أبي ليلى وإسحاق ، وقال الحسن ، وأبو ثور ، وابن المنذر : لكل واحد حد كامل ، وعن أحمد مثل ذلك ، وللشافعي قولان كالروايتين ، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم ، فلزمه له حد كامل ; كما لو قذفهم بكلمات ، ولنا قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ; ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة ، فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا ، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على [ ص: 444 ] المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف .

وتزول المعرة ، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا منفردا ، فإن كذبه في قذفه لا يلزم منه كذبه في آخر ، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر ، فإذا ثبت هذا ، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم ، وإن طلبه واحد أقيم الحد ; لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل ، فأيهم طالب به استوفى ، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها ، إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه ; لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه ، وليس للعافي الطلب به ، لأنه قد أسقط حقه .

وروي عن أحمد - رحمه الله - رواية أخرى : أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد ، وكذلك إن طلبوه واحدا بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد ، وإن طلبه واحد فأقيم له ، ثم طلبه آخر أقيم له ، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة ; لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه ، وقع استيفاؤه لجميعهم ، وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده ، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ( في ) إسقاطهم ، وإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد ، وبهذا قال عطاء ، والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة والشافعي ، وقال حماد ومالك : لا يجب إلا حد واحد ، لأنها جناية توجب حدا ، فإذا تكررت كفى حد واحد ، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء ، أو شرب أنواعا من المسكر ، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص ، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق لله تعالى ، إلى أن قالا : وإن قذف رجلا مرات فلم يحد ، فحد واحد رواية واحدة ، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات ، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت ، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم ، وحكي عن ابن القاسم : أنه أوجب حدا ثانيا ، وهذا يخالف إجماع الصحابة ، فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانيا ، فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة ، قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان ، فبلغ ذلك عمر فكبر عليه ، وقال : شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة ، وجاء زياد ، فقال : ما عندك ؟ فلم يثبت فأمر بجلدهم فجلدوا ، وقال : شهود زور ، فقال أبو بكرة : أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه ؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده ، فقال أبو بكرة : وأنا أشهد أنه زان ، فأراد أن يعيد عليه الحد ، فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الحد ، أوجبت عليه الرجم ، وفي حديث آخر : فلا يعاد فيه فرية جلد مرتين . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله ، قول علي : إن جلدته فارجم صاحبك ، قال : كأنه جعل [ ص: 445 ] شهادته شهادة رجلين ، قال أبو عبد الله : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني ، ثم قال يقول : إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر ، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان نظرت ، فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان ; لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال ، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان :

إحداهما : يحد أيضا ; لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد ، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ، ولأن سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه ، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب .

والثانية : لا يحد ; لأنه قد حد له لمرة فلم يحد له بالقذف عقبه ، كما لو قذفه بالزنا الأول ، انتهى من " المغني " ، وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات أو قذف واحدا مرات .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسائل لم نعلم فيها نصا من كتاب ولا سنة .

والذي يظهر لنا فيه ، والله تعالى أعلم : أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد ، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع ، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع .

والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات أنه يتعدد عليه الحد ، بعدد الكلمات التي قذف بها ; لأنه قذف كل واحد قذفا مستقلا لم يشاركه فيه غيره وحده لبعضهم لا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر ، ولا تزول به عنه المعرة . وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفا مفردا لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه ، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرر عليه الحد بعددهم ، كما اختاره صاحب " المغني " .

والأظهر عندنا أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد ، وأنه إن رماه بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضا ، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد ; كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة ، وإن كان القذف الثاني غير الأول ، كأن قال في الأول : زنيت بامرأة [ ص: 446 ] بيضاء ، وفي الثاني قال : بامرأة سوداء ، فالظاهر تكرره ، والعلم عند الله تعالى .

وعن مالك - رحمه الله - في " المدونة " : إن قذف رجلا فلما ضرب أسواطا قذفه ثانيا أو آخر ابتدئ الحد عليه ثمانين من حين يقذفه ، ولا يعتد بما مضى من السياط .
المسألة الرابعة عشرة : الظاهر أن من قال لجماعة : أحدكم زان أو ابن زانية لا حد عليه ; لأنه لم يعين واحدا فلم تلحق المعرة واحدا منهم ، فإن طلبوا إقامة الحد عليه جميعا لا يحد ، لأنه لم يرم واحدا منهم بعينه ، ولم يعرف من أراد بكلامه ، نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز ، ووجهه ظاهر كما ترى ، واقتصر عليه خليل في مختصره في قوله عاطفا على ما لا حد فيه ، أو قال لجماعة : أحدكم زان .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل ، فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم . وكذلك إن اختلف رجلان في شيء ، فقال أحدهما : الكاذب هو ابن الزانية ، فلا حد عليه ، نص عليه أحمد ; لأنه لم يعين أحدا بالقذف ، وكذلك ما أشبه هذا ، ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم ، لم يكن عليه حد ; لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه ، انتهى منه .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : أنت أزنى من فلان ، فهو قاذف لهما ، وعليه حدان ; لأن قوله أزنى صيغة تفضيل ، وهي تدل على اشتراك المفضل ، والمفضل عليه في أصل الفعل ، إلا أن المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه ، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل : أنت وفلان زانيان ، ولكنك تفوقه في الزنى ، وكون هذا قذفا لهما واضح ، كما ترى . وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أنه يحد للمخاطب فقط ، دون فلان المذكور لا ينبغي أن يعول عليه ، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي ، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول ، ولا للثاني إلا أن يريد به القذف ، كل ذلك لا يصح ولا ينبغي التعويل عليه ; لأن صيغة : أنت أزنى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة ، لا إشكال فيها .

وقال ابن قدامة في " المغني " محتجا للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة : أنه لا حد على الثاني ، ما نصه : والثاني يكون قذفا للمخاطب خاصة ; لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل ; كقول الله تعالى [ ص: 447 ] أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما الآية [ 10 \ 35 ] ، وقال تعالى : فأي الفريقين أحق بالأمن [ 6 \ 81 ] ، وقال لوط : بناتي هن أطهر لكم [ 11 \ 78 ] ، أي من أدبار الرجال ، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه ، ولم يعول عليه .

وحاصل الاحتجاج المذكور : أن صيغة التفضيل قد ترد مرادا بها مطلق الوصف لا حصول التفضيل بين شيئين ، ومثل له هو بكلمة : أحق أن يتبع وكلمة : أحق بالأمن وكلمة : أطهر لكم ; لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف ، كما هو معلوم ، ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب " المغني " ، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل ، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك ، والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للتفضيل ; لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقية الاتباع أصلا في قوله : أحق أن يتبع أمن لا يهدي ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن ، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة .

ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضا قوله تعالى : وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، أي : هين سهل عليه ، وقول الشنفرى :


وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل


أي : لم أكن بالعجل منهم ، وقول الفرزدق :


إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول


أي : عزيزة طويلة ، وقول معن بن أوس :


لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول


أي : لوجل ، وقول الأحوص بن محمد الأنصاري :


إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل


أي : لمائل ، وقول الآخر :

[ ص: 448 ] تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
.

أي : بواحد ، وقال الآخر :
لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل


أي : وفاضل ، إلى غير ذلك من الشواهد ، ولكن قدمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف ، إلا لدليل خارج ، أو قرينة واضحة تدل على ذلك .

وقوله له : أنت أزنى من فلان ، ليس هناك قرينة ، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل عن أصلها ، فوجب إبقاؤها على أصلها ، وحد القاذف لكل واحد منهما ، والإتيان بلفظة من في قوله : أنت أزنى من فلان ، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة عشرة : اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى ، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى ، ومن رمى أحدهما فعليه الحد ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ; لأنه لم يثبت عليها زنى ، ولا على ولدها أنه ابن زنى ، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه .

وفي سنن أبي داود : حدثنا الحسن بن علي ، ثنا يزيد بن هارون ، ثنا عباد بن منصور عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فجاء من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه . . ، الحديث ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ، ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد . . إلى آخر الحديث ، وفي هذا الحديث التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد .

واعلم : أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة : لست لأبيك الذي لاعن أمك ، فعليه الحد خلاف التحقيق ; لأن الزوج الملاعن ينتفي عنه نسب الولد باللعان ، فنفيه عنه حق مطابق للواقع ، ولذا لا يتوارثان ، ومن قال كلاما حقا ، فإنه لا يستوجب الحد بذلك ; كما لو قال له : يا من نفاه زوج أمه ، أو يا ابن ملاعنة ، أو يا ابن من لوعنت ; وإنما يجب الحد على قاذفه ، فيما لو قال : أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 449 ] المسألة السابعة عشرة : في حكم ما لو قال لرجل : يا زانية بتاء الفرق ، أو قال لامرأة : يا زاني ، بلا تاء ، قال ابن قدامة في " المغني " : هو قذف صريح لكل منهما ، قال : واختار هذا أبو بكر ، وهو مذهب الشافعي ، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به ، وهو قول أبي حنيفة ; لأنه يحتمل أن يريد بقوله : يا زانية ، أي : يا علامة في الزنا ; كما يقال للعالم : علامة ، ولكثير الرواية : راوية ، ولكثير الحفظ : حفظة ، ولنا أن ما كان قذفا لأحد الجنسين كان قذفا للآخر ; كقوله : زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعا ، ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا ، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها ، ولذلك لو قال للمرأة : يا شخصا زانيا ، وللرجل : يا نسمة زانية ، كان قاذفا ، وقولهم : إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإنما كان اسما للفعل ، إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة ; كقولهم : حفظة للمبالغ في الحفظ ، وراوية للمبالغ في الرواية ، وكذلك همزة لمزة وصرعة ; ولأن كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح ، انتهى كلام صاحب " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي فيمن قال لذكر : يا زانية بصيغة التأنيث ، أو قال لامرأة : يا زاني بصيغة التذكير ، أنه يلزمه الحد .

وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون عاميا لا يعرف العربية ، أو يكون له علم باللغة العربية ، فإن كان عاميا فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين ، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه .

وإن كان عالما باللغة ، فالله يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصا .

وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان - رضي الله عنه - :
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم من حبيب أصاب قلبك منه
سقم فهو داخل مكتوم


ومراده بالحبيب أنثى ، بدليل قوله بعده :


لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم


[ ص: 450 ] وقول كثير :


لئن كان يرد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب


ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي :


ولكن ليلى أهلكتني بقولها نعم ثم ليلى الماطل المتبلح


يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح .

وقول عروة بن حزام العذري :
وعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عني المعرض المتواني


أي : الشخص المعرض .

وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته ، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس ، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف ; كقوله :


أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال

المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن من رمى رجلا قد ثبت عليه الزنى سابقا أو امرأة ، قد ثبت عليها الزنى سابقا ببينة ، أو إقرار ، فلا حد عليه ; لأنه صادق ، ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنى ، ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله : والذين يرمون المحصنات الآية ، فهو يدل بمفهومه أن من رمى غير محصنة لا حد عليه ، وهو كذلك ، ولكنه يلزم تعزيره ; لأنه رماه بفاحشة ولم يثبتها ، ولا يترك عرض من ثبت عليه الزنى سابقا مباحا لكل من شاء أن يرميه بالزنى دون عقوبة رادعة ، كما ترى .
المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الإنسان إذا كان مشركا وزنى في شركه ، أو كان مجوسيا ونكح أمه أو ابنته مثلا في حال كونه مجوسيا ، ثم أسلم بعد ذلك فرماه أحد بالزنى بعد إسلامه ، فله ثلاث حالات :

الأولى : أن يقول له : يا من زنى في أيام شركه أو يا من نكح أمه مثلا في أيامه مجوسيا ، وهذه الصورة لا حد فيها ; لأن صاحبها أخبر بحق والإسلام يجب ما قبله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg


الساعة الآن : 03:57 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 1,056.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 1,054.60 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.17%)]