|
الملتقى العام ملتقى عام يهتم بكافة المواضيع |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() جهود الدكتور يوسف القرضاوي في خدمة السنة النبوية ![]() د. محمد سليم العوا بقلم الدكتور محمد سليم العوا (الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) . السنة النبوية هي المصدر الثاني لشريعة الإسلام، وهي التفسير العملي للقرآن الكريم، وهي النموذج الذي يحتذى لتحقيق الحياة الإسلامية في أكمل صورها، والمثال الذي يقتدى به من أحب أن يضع موضع التنفيذ قول الله تبارك وتعالى: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرٍ ﴾. والالتزام بالسنة النبوية هو معيار الحب الصحيح لله عز وجل: ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ . بل إن النزول على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ـ في حياته ـ وعلى الأحكام التشريعية الثابتة بصحيح السنة, بعد وفاته, هو مقتضى الإيمان نفسه، حتى إن القرآن الكريم ينفي الإيمان عمَّن رغب عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل عمَّن وجد في صدره مجرد حرجٍ مما قضى به أو لم يسلِّم لحكمه تسليما تاما: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ . لذلك ـ ولغيره مما هو مذكور في مواضعه من مباحث مكانة السنة النبوية في التشريع ـ لا يكون المرء عالما إلا إذا جمع إلى علمه بأي فرع من فروع العلم الإسلامي يتخصص فيه أو يبرع في مسائله، العلم بالسنة النبوية، علما يمكّنه من الوقوف على صحيحها وضعيفها، ويتيح له التمييز بين ناسخها ومنسوخها، وبين ما كان منها خطابا للأمة كلها، على توالى عصورها وتتابع أجيالها، وما كان خطابا للحاضرين في « قضية عين لا عموم لها». وأعلى العلماء كعبا في العلم، وأبقاهم أثرا في الناس هم الذين يجمعون بين علوم الرواية وعلوم الدراية، فلا يقفون عند نقل المتون، ومعرفة طبقات الرجال، وعدولهم من مجروحيهم، بل يضيفون إلى ذلك النظر في النصوص نفسها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وينزلون كل نص منزلته وفق الضوابط العلمية المتقنة التي سبق بها المحدثون علماء الدنيا كلها، فأسسوا علما موطأ الأكناف لا نظير له في علوم أهل الأديان، فضلا عن علوم غيرهم من الناس. وحين دعاني الاخوة الكرام القائمون على إصدار مجلد يهدى إلى الأخ الجليل الشيخ يوسف القرضاوي لمناسبة بلوغه السبعين ـ مدَّ الله في عمره ونفع بعلمه ـ تردداً متوالياً، وأبطأت على نفسي قبل أن أبطئ عليهم، فعلم الشيخ وعمله وجهاده أوسع من أن يحصر الحديث عنه في مقال، وفي أثناء هذا التردد أهداني الشيخ ـ حفظه الله ـ كتابه: (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) ووجدتني وأنا أقرأ أولى صفحاته أتجه إلى الكتابة عن خدمة الدكتور القرضاوي للسنة النبوية في كتبه المختلفة وبحوثه المتنوعة. وليس في الوسع الإلمام بكل موضع من كتب الشيخ ـ التي بلغ عددها سبعة وستين كتابا ـ فيه خدمة للسنة النبوية الشريفة. ولذلك اخترت من قائمة مؤلفاته كتباً أربعة رأيت أن أجعلها موضوعا لهذه الكلمة الوجيزة عن جهوده في خدمة السنة النبوية. والكتب التي اخترتها هي: 1- مشروعه لمنهج موسوعة الحديث النبوي ( 1404 = 1984 ) 2- كيف نتعامل مع السنة النبوية ( 1409 = 1989 ) 3- المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ( 1406 = 1986 ) 4- السنة مصدرا للمعرفة والحضارة ( 1415 = 1995 ) (1) نحو موسوعة للحديث النبوي: مشروع منهج مقترح: كان إصدار«موسوعة للحديث النبوي تضم صحاح الأحاديث، محققة، مبوبة مفهرسة، مخرجة إخراجاً عصرياً مشوقاً، معلقاً عليها بما يوضح المفاهيم، ويدفع الشبهات والمفتريات»، أملاً من الآمال التي روادت نفوس العلماء زمنا طويلا. وفي سبيل وضع هذا المشروع موضع التنفيذ أعدّ الدكتور القرضاوي مشروعا لمنهج مقترح للموسوعة قال عنه إنه يعرضهُ «على أهل العلم في عالمنا الإسلامي، ليبدوا ملاحظاتهم عليه.. والموسوعة إنما هي للمسلمين جميعا، فمن حقهم أن يكون لهم رأيٌ فيها. وما تشاور قوم قط إلا هُدوا لأرشد أمرهم.... والمسلم لا يكتفي بطلب الحسن من الطوائف بل يسعى إلى التي هي أحسن...». وقد بدأ الدكتور القرضاوي منهجه المقترح بتوطئة ذكر فيها أهم الكتب الموسوعية التي جمع أصحابها فيها ما ضمته كتب شتى من مصنفات الأئمة المحدثين، ووصف كل كتاب وصفاً مختصراً. فذكر أولا أهم الكتب الجامعة بين الصحيحين (ويجب أن يضاف إليها الآن كتاب محدّث مصر الشيخ محمد أحمد بدوي، حفظه الله، وقد سمّاه كفاية المسلم في الجمع بين البخاري ومسلم واستوعب فيه رواياتهما مع المحافظة على تراجم أبواب صحيح البخاري المعبّرة ـ كما وصفها العلماء ـ عن فقه الإمام البخاري، وذكر كل حديث أخرجاه بلفظيهما. كما ذكر متابعات البخاري وتعليقاته، والآثار الموقوفة والآيات القرآنية التي اشتمل عليها صحيحه، وقد صدر في مصر أربعة في مجلدات عام 1990.) ثم ذكر الدكتور القرضاوي الكتب الجامعية بين الصحاح وغيرها من مدونات الحديث، فذكر كتاب:«التجريد للصحاح الستة» للحافظ أبي الحسن رُرَيْن بن معاوية العبدري السرقسطي الأندلسي، وكتاب «جامع الأصول في أحاديث الرسول» للحافظ الإمام مجد الدين بن الأثير الجزري، وأسهب في التعريف به وبمنهج صاحبه. وذكر كتاب «جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن» للحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير، الزرعي ثم الدمشقي، ثم ذكر«مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» للحافظ نور الدين الهيثمي، ثم كتاب «جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد» للحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم كتاب«إتحاف السادة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» للحافظ شهاب الدين البوصيري، ثم كتاب «الجامع الصغير» و«زيادته»للإمام السيوطي، ثم«الجامع الكبير» أو«جمع الجوامع» له أيضاً، ثم كتاب «كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال» للمتقي الهندي، ثم كتاب«الجامع الأزهر في حديث النبي الأنور» للعلامة عبد الرؤوف المناوي. وقد وصف الدكتور القرضاوي هذه الكتب جميعاً وصفاً مختصراً كافياً للتعريف الوجيز بكل منها. ولكن الأهم من هذا الوصف هو المآخذ التي بينها عليها جميعاً، والتي من أجلها كان لابد من مشروع موسوعة عصرية للحديث النبوي الصحيح. فقد ذكر الدكتور القرضاوي أن آفات هذه المحاولات التي ذكرها هي: 1- تجريدها الأحاديث من أسانيدها. 2- الجمع بين المقبول والمردود من الحديث. 3- أن بعضها فيه الشديد الضعف والمنكر والموضوع. 4- أن بعضها لم يبين درجة الحديث تصحيحاً وتضعيفاً. 5- أن البعض الذي عني ببيان درجة الحديث لم يسْلَم من انتقاد وتعقب. 6- عدم الاستيعاب. 7- عدم مناسبة التبويب لهذا العصر. وأرجع ذلك كله إلى سببين أولهما « أن تلك الجهود كانت جهودا فردية، وعمل الفرد ـ إذا لم يراجع ويناقش ـ لا يسلم من القصور والآفات» والثاني «أنها كتبت في زمن غير زمننا». وقد أدى ذلك بالدكتور القرضاوي إلى الدعوة إلى موسوعة «عصرية تقوم بجهود جماعية.... ويستخدم فيها ما وصل إليه عصرنا من إمكانات علمية وعملية... لتوازن الأمة بين ما كسبته من نتاج العلم، وما تتطلع إليه من رحيق الإيمان، ثم تكون هذه الموسوعة للصحيح والحسن من الحديث، وهما اللذان يقبلان ـ دون غيرهما ـ في الاستدلال على الحكم الشرعي. وهي موسوعة لكل مثقف مسلم في عصرنا ... تأخذ بيده نحو فهم سليم للإسلام ومصادره». وقد اقترح الدكتور القرضاوي أن يكون ترتيب الموسوعة الحديثة العصرية ترتيباً موضوعياً يعطينا«تعالى من السنة في الموضوع الواحد مجتمعة مرتبة في موضوع واحد». وذكر طريقة ذلك التصنيف الموضوعي والأقسام الرئيسية الكبرى فجعلها اثني عشر قسما. وضرب مثالا واضحاً للتقسيم الداخلي أو الفرعي في كل قسم. والحق أن الترتيب الموضوعي هو الذي يتفق مع هدف الموسوعة كما تصوره مشروع الدكتور القرضاوي لها. فإن الترتيب المعجمي ( الألفبائي ) لا يستفيد منه إلا من كان يعرف أول ألفاظ الحديث، وقد يكون للحديث روايات عدّة تختلف اللفظة الأولى في بعضها عن البعض الآخر فيصعب، وقد يستحيل، الوصول إلى الحديث حتى لمن عرف أولى كلماته ما لم تكن هي المروية في النص الذي ضمته الموسوعة. أما الترتيب الموضوعي فإن النظر في الباب أو الفصل أو الفرع يضع أمام الباحث النصوص النبوية الصحيحة كافة فيجد ضالته وإن لم يعرف ـ في الأصل ـ نصاً معيناً يبحث عنه، أو لفظاً بذاته يهتدي إلى الحديث به. واقترح الدكتور القرضاوي أن «تضم الموسوعة الصحيح والحسن من الحديث فقط، وإذ هما اللذان يحتج بهما. تؤخذ منهما الأحكام، وتعرف في ضوئهما هداية الله تعالى، وهَدْيُ رسوله صلى الله عليه وسلم». وهذا الكلام حق كله. ومثله في وجوب العمل به والاعتماد عليه الأسباب الثلاثة التي ذكرها في وجوب الاستغناء عن الحديث الضعيف وهي: أن في الصحيح كفاية وغنىً، وأن الشروط التي اشترطها العلماء لرواية الضعيف لا تراعى عند التطبيق عادة، فيظن القارئ أو السامع أن كل ما تسبقه عبارة تدل على نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح يحتج به، وأن الأحاديث الضعيفة، وإن كانت لا تثبت حكماً شرعياً، وكثيراً ما تتضمن مبالغات يرفضها العقل الصحيح، ويردها الدين الصحيح. وأقوى من ذلك في وجوب رد الحديث الضعيف، وعدم روايته أو نقله في الموسوعة المنشودة بل في الكتب المؤلفة عامة، ما ذكره الدكتور القرضاوي ـ وهو صحيح ـ ومن أن العلماء الذي نقل عنهم التساهل في رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال إنما كانوا يعنون به ما عرف المصطلح المتأخر باسم (الحسن)، وعلى ذلك فلا عذر لأحد في الاحتجاح بالضعيف أصلاً. والتفرقة التي يجريها كثير من العلماء ـ وقد ذكرها الدكتور القرضاوي ـ بين ضعيف لا ينجبر ضعفه، وضعيف خفيف الضعف تقوية الشواهد، وتفرقة محل نظر، لأن القائلين بها شرطوا في الشواهد المقوية أن تكون «سالمة من الضعف» أو من «سبب الضعف»، وهذا الاشتراط يجعل الحجة في الرواية التي خلت من سبب يضعفها لا في الرواية الضعيفة أصلاً. وقد أحسن الدكتور القرضاوي حين نهج منهج أئمة التحقيق فقرر أنه لا عبرة بتعدد الطرق وكثرتها، وإنما العبرة بسلامة الطريق التي يروي بها نص منسوب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من العلل القادحة. وهذا المبدأ الذي قرره الدكتور القرضاوي وقرره من قبله المحققون من أئمة هذا الشأن يغني عن القيود الثلاثة التي ذكرها لتقوية الحديث الضعيف «بكثرة الطرق». فالحق أن كثرة الطرق الضعيفة لا يزيد الحديث إلا ضعفاً. وطريق واحدة صحيحة أو حسنة، سالمة من الشذوذ والعلة، تكفي ليثبت بها النص وليعمل بما تضمنه من حكم، أو يتبع ما فيه من توجيه، أو يصدّق ما فيه من خبر. فالحجة في الطريق الواحدة الصحيحة ولا حجة في طرق كثيرة ضعيفة بالغة ما بلغت كثرتها. ومن أجمل ما تضمنه مشروع الموسوعة التذكير بعدم صحة المقولة الذاهبة إلى أن علماء عصرنا لا يجوز لهم أن يصححوا أو يحسنوا ما لم ينص الأئمة السابقون على حسن أو صحته. فالحق أن باب التصحيح في الحديث مثل باب الاجتهاد في الفقه، كلاهما غير قابل للإغلاق. وقد حفظت عن شيخنا العلاّمة محمد مصطفي شلبي قوله: «هذه مسألة اجتهادية، لا يقبل القول فيها إلا ممن بلغ رتبة الاجتهاد في الفقه أو رتبة النظر في الحديث رواية ودراية. فإن كان القائل بها من هؤلاء فوجوده يرد عليه قوله، إذ هو فكلامه لا قيمة له ولا عبرة به ». والشرط الوحيد لذلك هو الأهلية العلمية بشروطها المعروفة في علم أصول الفقه وعلم أصول الحديث. وقد تناول الدكتور القرضاوي في مشروعه موضوع المصادر التي يؤخذ منها الحديث النبوي، ورأى أن الواجب الرجوع إلى المصدر الأصلي دون المختصرات أو الجوامع التي ضمت أحاديث كتاب واحد مجردة من السنة، أو ضمت أحاديث الكتب، وعن ترتيب ذكرهم عند بعض. وتحدث عن نسبة الحديث إلى من أخرجه من أصحاب الكتب، وعن ترتيب ذكرهم عند تعددهم، وعن كيفية انتقاء الروايات وذكر الزيادات والمخالفات. واقتراح أن تضم الموسوعة الأحاديث الموقوفة على الصحابة باعتبارهم:«نقلة القرآن والسنة، وأفهم الناس لهما لمشاهدتهم أسباب النزول والورود، ومعرفة القرائن والملابسات، والعيش في مدرسة النبوة، والتمكن من ناصية اللغة.... مع سلامة فطرة، ونور بصيرة، وقوة إيمان، وصدق التزام...». ولا شك أن هذا العمل يقوي الموسوعة، ويزيد بمعاني الحديث التي يتداولها العلماء مما له أصل من فهم الصحابة أو عملهم، فإذا قدم كل باب ـ كما اقترح الدكتور القرضاوي ـ بآيات القرآن الكريم المتصلة به، كان أمام القارئ صورة، أقرب ما تكون إلى الاكتمال، للموضوع الذي يبحث فيه. ولم يكتف الدكتور القرضاوي بالاقتراح النظري ـ بكل ما تضمنه من تفصيلات ـ بل زاد على ذلك أن ألحق به مثالين لحديثين نبويين، بيّن فيهما كيف يكون العمل في الموسوعة: جمعا ً بين الروايات، وشرحا للحديث، وتخريجاً له مع ذكر حال رجاله باختصار ولا سيما إن كان فيهم من «تُكُلِّم فيه». وقد مهّد القرضاوي بهذا العمل، الصغير في حجمه، الكبير في قيمته ومعناه، طريق العمل في الموسوعة المعاصرة للحديث، والتي ندعو الله أن يتم إنجازها في أقرب وقت وعلى أحسن صورة. (2) كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط: وضع الدكتور القرضاوي هذا الكتاب ليبين كيف نتعامل مع السنة النبوية «بعيداً عن تضييق الحَرْفيين الذين يجمدون على الظواهر، ويغفلون المقاصد، ويتمسكون بجسم السنة، ويهملون روحها! وبعيدا أيضاً عن تمييع المتهاونين والمتعالين الذي يدخلون البيوت من غير أبوابها، والذين يقحمون أنفسهم فيما لا يحسنون، ويقولون على الله ورسوله ما لا يعلمون». وحاول أن ينصف «السنة من خصومها اللدّ، ثم من أنصارها، الذين يسيئون إليها بضيـق أفقهم ـ مع حسن نيتهم الجليلتين شاغلا لعالم، وموضوعاً لكتاب. وسجّل الدكتور في مطلع الكتاب (ص27) أن «أوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم السنة والتعامل معها، وخصوصا من بعض تيارات الصحوة الإسلامية فكثيرا ما أُتي هؤلاء من جهة سوء فهمهم للسنة المطهرة». وحذّر من آفات ثلاث ـ يقع فيها كثير من الناس ـ هي: الغلوّ الذي يقود إلى التحريف اتباعاً للهوى. وانتحال أهل الباطل الذين يحاولون أن يدخلوا الإسلام ما ليس منه، ويلصقوا به من المبتدعات والمحدثات ما تأباه طبيعته وترفضه شريعته، وتنفر منه أصوله فروعه. وتأويل أهل الجهل الذي تُشوّه به حقائق الإسلام، ويُحرّف به الكلم عن مواضعه، وتُنْتقص به أطراف الإسلام. وقد قعد العلماء لهذه الطوائف كل مرصد. فوقف للغلاة أهل الوسطية الإسلامية الذين أشربوا سماحة الشريعة ورحمتها وبساطتها فردّوا عليهم غلوّهم، وبينوا فساد عملهم وسوء عاقبتهٍ. ووقف لأهل الباطل، المنتحلين في الإسلام ما ليس منه، علماء الرواية الذين سماهم أحمد بن حنبل ( الجهابذة )، وهم حفظة السنة، وعلماء الرجال، ونقلة الصحيح ونقدة الضعيف فسدّوا منافذ الانتحال وبينوا المقبول من المردود، وأصبح علمهم علماً على علم الحديث الإسلامي، حتى قال العلماء: «الإسناد من الدين. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»!! وتصدى لأهل الجهل الفقهاء العاملون الذين ردوا مقولاتهم وبينوا انحرافاتهم، وأثبتوا الحق بدليله، وردوا الضلالة على أصحابها مهما يكن شأنهم غير خائفين في الله تعالى لومة لائم. والكتاب ـ بعد بابه الأول ـ دليل علمي وعملي موثق لتجنب هذه الآفات مجتمعة. وإذا كان كل ما ذهب إلى الدكتور القرضاوي في المسائل المتعددة التي أثارها وبحثها موثقاً، مردوداً إلى أصوله من علم السلف الصالح، فإن جمعه بين دفتّي كتاب واحد، وعرضه بالأسلوب القوي المشوّق الذي تتميز به كتابة الدكتور القرضاوي، وترتيبه ذلك الترتيب المنطقي القويم، كل ذلك جدير بأن يسلك الكتاب في عداد المصنفات العصرية الرائدة في علوم الدراية. وقد شدَّد الدكتور القرضاوي في القسم الأخير من باب الكتاب الأول على ضرورة الاقتصار على الاستدلال بالحديث الصحيح والحسن دون الضعيف. وقد ذكر سوء صنيع بعض المفسرين واستشهادهم بالضعيف بل دفاعهم عن «الموضوع» من الأحاديث بزعم أنها كذب (رسول الله ) وليست (كذباً عليه) مما هو محرم!! ولا يملك مسلم إلا أن ينضم إلى الدكتور القرضاوي حيث يقول: «ولا نملك هنا إلا أن نحو قل ونسترجع... فقد جهل هذا الشيخ ذو النزعة الصوفية أن الله أكمل لنا الدين... فلم نعد في حاجة إلى من يكمله لنا، باختراع أحاديث من عنده، كأنما يستدرك على الله أو يمتن على محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله له: أنا أكذب لك لأتمم لك ينك الناقص...»(ص36). وقرن الدكتور القرضاوي التحذير من رواية الضعيف وقبول الموضوع بالتحذير من ردّ الأحاديث الصحيحة، لا سيما«ردها بناءً على فهم خاطئ لاح في ذهن امرئ غير متخصص ولا متثبت، مما يدلنا على ضرورة التأني والتحري والتدقيق في فهم السنة، والرجوع إلى مصادرها وأهلها.. »(ص39). وضرب القرضاوي أمثلة للفهم الخاطئ الذي ردت به أحاديث صحاح: فذكر من ردّ حديث ( اللهم أحييني مسكينا... ) بناءً على فهمه أن المسْكَنَة هي الفقر من المال، والحاجة إلى الناس وهما ينفيان استعاذة النبي من فتنة الفقر، وسؤاله الله تعالى العفاف والغنى.. والحق أن المسكنة هنا لا يراد بها الفقر وإنما يراد بها ـ كما بين العلماء ـ التواضع والإخبات، وألا يكون من الجبارين المتكبرين، وقد كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم كله بعيداً عن الكبر بكل صوره، حتى قال لمن هابه حين دخل عليه: ( هوّن عليك، فلست بملكٍ، وإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ). وذكر إنكار بعض المعاصرين حديث تجديد الدين، إذ فهم من التجديد أنه التطوير بحيث يلائم الزمن، فقال إن الدين لا يجدد، بل هو ثابت لا يتغير.!! وهذا الفهم ليس بشيء، فالصحيح أن تجديد الدين هو تجديد فهمه، والإيمان به، والعمل له. فليس التجديد إخراج صورة جديدة للدين، وإنما هو «العودة به إلى حيث كان في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم بإحسان»(ص43). وذكر ردّ بعض جراء أهل عصرنا حديث أركان الإسلام الخمسة بحجة أن الجهاد لم يذكر فيه، فهو موضوع!! فقال الدكتور القرضاوي معقباً عليه «وجهل هذا أن الجهاد إنما يجب على بعض الناس دون بعض، ولا يفرض عيناً إلا في ظروف خاصة ولاعتبارات معينة، بخلاف هذه المعاني الخمسة، التي طابعها العموم لكل الناس». والحق أن آفة رد الحديث الصحيح بفهم خاطئ متعجل كادت تصبح آفة عامة، لا يقع فيها العامة والدهماء وحدهم، بل يقع فيها كثير ممن يتصدون للكتابة في الصحف، ولمخاطبة الناس من خلال مختلف وسائل الاتصال والإعلام. وهذا البحث في كتاب الدكتور القرضاوي بالغ الفائدة في تنبيه هؤلاء إلى خطورة ما يصنعون. وفي تنبيه الجماهير المستمعة أو القارئة إلى عدم التسليم بإنكار الحديث قبل سؤال أهل العلم، ومعرفة معناه الصحيح، أو تأويله المقبول. وفي الكتاب الثاني من الكتاب تناول الدكتور القرضاوي بحث السنة باعتبارها مصدرا للفقيه والداعية. ففي مجال الفقه والتشريع تحدث عن مكانة السنة، ونقل أقوال الأئمة المعتبرين في الاحتجاج بها والنزول على ما يثبت فيها من أحكام باعتبارها بيان القرآن الكريم. ومن أمتع ما في هذا الباب، وانفعه، الموضوع المعنون: ضرورة الوصل بين الحديث والفقه. (55_59). وفي هذا الموضوع بين الدكتور القرضاوي أنه من الضروري سدّ الفجوة بين المشتغلين بالفقه والمشتغلين بالحديث. «فالغالب على المشتغلين بالفقه أنهم لا يتقنون فنون الحديث، ولا يتعمقون في معرفة علومه ولا سيما علم الجرح والتعديل.... ولهذا تنفق عندهم أحاديث لا تثبت عند أئمة هاذ الشأن من صيارفة الحديث، ومع هذا يثبتونها في كتبهم ويحتجون بها لما يقررونه من أحكام الحلال والحرام، والإيجاب والاستحباب.«(ص55).ثم قال:» والغالب على المشتغلين بالحديث أنهم لا يجيدون معرفة الفقه وأصوله والقدرة عي استخراج كنوزه ودقائقه، و الاطلاع على أقوال أئمته.... وأسباب اختلافهم، وتنوع اجتهاداتهم»...«مع أن كل فريق في حاجة إلى علم الآخر، ليكتمل به ما عنده، فلابد للفقيه من الحديث.... ولابد للمحدث من الفقه، حتى يعي ما يحمله، ولا يكون مجرد ناقل، أو يفهمه على غير وجــهه» (56).وهاتان الآفتان فاشيتان اليوم، فالذين يطلبون الحديث أكثرهم لا يعتنون بعلوم الدراية، فضلاً عن الفقه وأصوله، والذين يطلبون الفقه لا ينظرون في الحديث أصلاً ويتناقلون منه ما في كتب الفقهاء دون بحث ولا تمحيص وما أحسن ما نقله الدكتور القرضاوي عن سفيان بن عيينة:«لو كان الأمر بيدنا لضربنا بالجريد كل محدث لا يشتغل بالفقه، وكل فقيه لا يشتغل بالحديث». ويوجد في كتب الفقه ـ كما يقول القرضاوي ـ «الضعيف الشديد الضعف، وما لا أصل له بالمرة»(ص56). بل إن «كتب أصول الفقه نفسها لا تخلو من الأحاديث الواهية والموضوعة والتي لا اصل لها...»(ص56). وكل ما قاله الدكتور القرضاوي في هذا الموضوع صحيح. والمخرج من هذه الآفة عندي ـ آفة الانفصال بين الفقه والحديث ـ يكمن في أمرين أولهما: إصلاح مناهج التعليم في الجامعات والمعاهد المعنية بالعلوم الدينية بحيث لا يتخرج الطالب في أحد القسمين إلا وقد أخذ حظاً كافياً من علوم القسم الآخر. وثانيهما: أن يتنبه العلماء والدعاة والمدرسون الذين يعقدون حلقات العلم في المساجد والبيوت إلى ضرورة الربط بين علوم الفقه وعلوم الحديث، لأن المتخرجين على هؤلاء العلماء والدعاة المدرسين لا يقلون تأثيراً على الناس عن نظرائهم المتخرجين في الجامعات والمدارس الرسمية. بل إن خريجي الحلقات العلمية قد يكونون أشد خطراً من هؤلاء، وإذ كثيرا ما يكتفي الواحد منهم ببعض أطراف ما سمعه من شيخه وينطلق بعد ذلك خطيباً للجمعة، ومفتياً للناس، وقد «يتزبب قبل أن يحصرم» فيصبح شيخاً متبوعاً وليس له من العلم شيء نافع أو قدر كافٍ. ومعظم من يسمّون«بالدعاة» و«الشيوخ»، من نتاج العمل الإسلامي العام في المساجد والبيوت والزوايا، من هؤلاء الذين فارقوا شيوخهم، قبل أن يستكملوا جمع ما عند هؤلاء من العلم، لأسباب متعددة، وتحولوا، بدورهم، إلى مشايخ لغيرهم... وهكذا يقل العلم، ويقبض العلماء، فيتخذ الناس رؤساء جهالاً: يفتون بغير علم فيضلون ويضلون. وتدارك هذا الوضع الخطير واجب على العلماء العاملين، قام الدكتور القرضاوي ـ في بحثه هذا ـ بالتنبيه إليه ، فجزاه الله خيراً كثيراً ونفع بما كتب، وهدي من بيدهم مقاليد الأمور إلى العمل به. وفي القسم الثاني، من هذا الباب، حقق الدكتور القرضاوي القول في مسألة رواية الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب. ونقل أقوال أئمة المحدثين في شأنها، وجمع بينها جميعاً حسناً بكلام العلاّمة ابن رجب الحنبلي في شرحه لكتاب العلل للترمذي. ومن أهم ما في هذا ل الموضع من الكتاب تنبيه الدكتور القرضاوي إلى فرض العلماء قديماً وحديثاً أن يُروى الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب والرقائق والمواعظ، أو في غيرها من أبواب الحكم وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره. وهو صحيح مذهب المنقول عنهم جواز رواية الضعيف في فضائل الأعمال، كما نقله القرضاوي نفسه عن عدد من العلماء القدماء والمحدثين. ثم إن الشروط التي اشترطها المجيزون لرواية الضعيف في الترغيب والترهيب لا تراعى كما قال القرضاوي بحق ف يهذ الموضع وغيره من كتبه ـ فلا حجة في التمسك بها بوصفها عاصماً من توهم الصحة أو ثبوت العمل، أو مشروعيته، أو وجوبه، ومع كون العمل، في التطبيق، يجري على خلافها. وبعد أن ذكر الدكتور القرضاوي منع العلماء من ذكر الحديث الضعيف بصيغة الجزم: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهو ضابط مهم، بيّن أن الخطباء والمذكرين والمؤلفين الذين يروون الأحاديث الضعيفة لا يلقون بالا لهذا التنبيه.!!(ص76). ثم ذكر أن رواية الضعيف في فضائل الأعمال لا تعني إثبات حكم به (ص78ـ82). وإنما أجازوا روايته للحض «علي عمل صالح ثبت صلاحه بالأدلة الشرعية الضعيف صلاح العمل أو سوءه». ثم استدرك فقال: «ولكن كثيرا من عامة الناس ـ بل من المحدثين أنفسهم ـ لم يفرقوا بين جواز رواية الضعيف بشروطه وإثبات العمل به».(ص79). وضرب أمثلة لذلك كالاحتفال بيوم عاشوراء، والذبح فيه، واتخاذ عيداً، والاحتفاء بليلة النصف من شعبان بقيام ليلها وصيام نهارها.. ووجود هذه الأمثلة وغيرها في حياة الناس، وصحيح معني كلام العلماء المحققين في المسألة، يدعوان إلى القول بعدم جواز رواية الحديث الضعيف في شيء أصلاً. ففي الصحيح ـ كما قال الدكتور القرضاوي ـ كفاية ومقنع. وسد ذرائع الفساد مقدم على فتح ذرائع المصلحة. والثابت بطريق شرعي معتبره لا يحتاج إلى تقويته بطريق ضعيفة أو مشكوك فيها. ويؤيد ما نراه ما ذكره الدكتور القرضاوي، بعد أن نقل كلاماً دقيقاً وصادقاً لابن تيمية في معني العمل بالحديث الضعيف(ص80 ـ 81)حيث قال القرضاوي:«ورغم هذا البيان رأينا الكثيرين يثبتون التحديدات والتقديرات بالحديث الضعيف».!! ولذلك، فإن فائدة بيان العلماء لحقيقة هذه المسألة هي أن نمتنع عن رواية الضعيف أصلاً إلا مع بيان ضعفه، إذ الثابت أن كل تحذيرات العلماء قد ذهبت هباءً فيتعين الوقوف عند الصحيح والحسن، وعدم تجاوزهما إلى الضعيف إلا مبيناً ضعفه لئلا يغتر به أحد. وقد عنون الدكتور القرضاوي للباب الثالث والأخير، من الكتاب بعنوان: «معالم وضوابط الحسن فهم السنة النبوية»، وجمع فيه ثمانية أمور لا غنى عن واحد منها لفهم صحيح للسنة النبوية مهما يكن موقع الناظر فيها: فقيهاً، أو داعية، أو واعظاً، أو مدرساً، أو باحثاً، أو مهتماً بغير ذلك من الاهتمامات التي يحتاج في أدائها إلى النظر في السنة النبوية والتزود من معينها. ففي الضابط الأول بيّن الدكتور القرضاوي ضرورة فهم السنة في ضوء القرآن الكريم.«فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي، وأساس بنيانه، وهو بمثابة الدستور الأصلي، الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها. والسنة النبوية هي شارحة هذا الدستور ومفصلته، فهي البيان النظري والتطبيق العملي للقرآن، ومهمة الرسول أن يبين للناس ما نزّل إليهم.... ومعنى هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن».(ص93). وعلى هدي هذه القاعدة بين الدكتور القرضاوي بطلان حديث (الغرانيق) لمنافاته لسياق الآيات التي زعموا أنهن ذكرن فيها، فالآيات من سورة النجم ( 19ـ23 ) تندد بالأصنام وتنكر على عبّادها من دون الله فكيف يدخل فيها مدح الغرانيق ورجاء شفاعتهن؟! وبالقاعدة نفسها أبطل الدكتور القرضاوي الحديث الذي تقول كلماته عن النساء: «شاوروهن وخالفوهن»، فهو حديث مكذوب لمنافاته قول القرآن الكريم:«فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما»(البقرة:233). وانتهي من فهمه لآية الأنعام (141)«وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله، والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده» ـ انتهي من فهمه لهذه الآية، كما سبق له أن فعل في «فقه الزكاة» ـ إلى وجوب الزكاة في كل مزروع تنبته الأرض؛ وإلى ضعف الأحاديث المعارضة لذلك.
__________________
مدونتي ميدان الحرية والعدالة
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |