|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الجامع لغزوات نبينا صلى الله عليه وسلم الشيخ صلاح نجيب الدق الحمد لله، الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمـًا، وأسبغ على عباده نعمـًا لا تعد ولا تحصى، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد: فلقد غزا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعًا وعشرين غزوة، وقاتل منها في تسع؛ وهي: بدر وأحد والخندق، وقريظة، والمُريسيع (بنو المصطلق)، وخيبر، والفتح، وحُنين، والطائف، وأما غزوة تبوك فلم يحدث فيها قتال؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد ج: 2، ص: 3]. وأول غزوة غزاها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه هي غزوة الأبواء (ودَّان)، وآخر غزوة هي غزوة تبوك؛ [تاريخ الطبري ج: 2 ص: 207]. وسوف نتحدث عن الغزوات الكبرى. (1) غزوة بدر: كانت غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عِيرًا مقبلة من الشام صحبةَ أبي سفيان، صخر بن حرب، في ثلاثين أو أربعين رجلًا من قريش وهي عير عظيمة، تحمل أموالًا جزيلة لقريش، فندب صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، وأمر من كان ظهره (دابته) حاضرًا بالنهوض، ولم يحتفل لها احتفالًا كثيرًا، إلا أنه خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لثمانٍ خلَون من رمضان، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالرَّوحاء رد أبا لبابة بن عبدالمنذر واستعمله على المدينة، ولم يكن معه من الخيل سوى فرس الزبير، وفرس المقداد بن الأسود الكندي، ومن الإبل سبعون بعيرًا، يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعليٌّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا، ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى مصعب بن عمير، وسار صلى الله عليه وسلم، فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني، وعَدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر؛ يتحسسان أخبار العير. وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصدُه إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخًا لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخ أهل مكة، فنهضوا مسرعين في الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوَّض عنه رجلًا كان له عليه دَين، وحشدوا ممن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد، وخرجوا من ديارهم؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47]، فجمعهم الله على غير ميعاد لما أراد في ذلك من الحكمة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد بما يقول الأنصار، فبادر سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله، كأنك تعرِّض بنا، فوالله يا رسول الله، لو استعرضت بنا البحر لخُضناه معك، فسِر بنا يا رسول الله على بركة الله؛ فسُرَّ صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين)). ثم رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قريبًا من بدر، فلما أمسى، بعث عليًّا وسعدًا والزبير إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدَين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال لهما: ((أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب، قال: كم القوم؟ قالا: لا علم لنا، فقال: كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يومًا عشرًا ويومًا تسعًا، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف)). انطلق أبو سفيان بالعير إلى طريق الساحل، فنجا، وبعث إلى قريش يعلمهم أنه قد نجا هو والعير، ويأمرهم أن يرجعوا، وبلغ ذلك قريشًا، فأبى أبو جهل وقال: والله لا نرجع حتى نرِد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثًا، ونشرب الخمر، وتضرب على رؤوسنا القِيان، فتهابنا العرب أبدًا، فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا إلى ماء بدر، ونزل على أدنى ماء هناك، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ قال: بل منزل نزلته للحرب والمكيدة، فقال: ليس هذا بمنزل، فانهض بنا حتى نأتيَ أدنى ماء من مياه القوم فننزله، وندفن ما وراءنا من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه، فنشرب ولا يشربون، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك، وحال الله بين قريش وبين الماء بمطر عظيم أرسله، وكان نقمة على الكفار ونعمة على المسلمين، مهَّد لهم الأرض ولبدها، وبُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيه، ومشى صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة، وجعل يريهم مصارع رؤوس القوم واحدًا واحدًا، ويقول: ((هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان))، قال عبدالله بن مسعود: فو الذي بعثه بالحق، ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فلما أصبح وأقبلت قريش في كتائبها، قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم هذه قريش، قد أقبلت في فخرها وخُيلائها، تُحادُّك وتحاد رسولك))، ونشبت الحرب، وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر وحده، وقام سعد بن معاذ وقوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ثلاثتهم جميعًا يطلبون المبارزة، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبدالله بن رواحة، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار، فقالوا: أكفاء كرام، وإنما نريد بني عمنا، فبرز لهم عليٌّ وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم، فقتل علي الوليدَ، وقتل حمزة عتبةَ، واختلف عبيدة وشيبة بضربتين، فأجهد كلٌّ منهما صاحبه، فكرَّ حمزة وعلي فتمما عليه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل طمثًا حتى مات رحمه الله تعالى، ثم حَمِيَ الوطيس، واشتد القتال، ونزل النصر، واجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وابتهل ابتهالًا شديدًا، حتى جعل رداؤه يسقط عن مَنكِبيه، وجعل أبو بكر يصلحه عليه ويقول: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإنه مُنجز لك ما وعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تُعبَد في الأرض))، فذلك قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 9، 10]، ثم أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، ثم رفع رأسه وهو يقول: ((أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع))، وقاتلت الملائكة كما أمرها الله، وكان الرجل من المسلمين يطلب قرنه، فإذا به قد سقط أمامه، ومنح الله المسلمين أكتاف المشركين، فكان أول من فرَّ منهم خالد بن الأعلم فأُُدرك فأُسر، وتبعهم المسلمون في آثارهم، يقتلون ويأسرون، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم، فكان من جملة من قُتل من المشركين ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعه بالأمس: أبو جهل، وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، وتمم عليه عبدالله بن مسعود، فقطع رأسه وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُر بذلك، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُحبوا إلى البئر، ثم وقف عليهم ليلًا، فبكتهم وقرعهم، وقال: ((بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس))، ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكان المعركة ثلاثًا، ثم ارتحل بالأسارى والمغانم، وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغانم كما أمره الله تعالى، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسارى: ماذا يصنع بهم؟ فأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يُقتلوا، وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفداء، وهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، فحلَّل لهم ذلك؛ وعاتب الله في ذلك بعض المعاتبة في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67]، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مظفَّرًا منصورًا، قد أعلى الله كلمته، ومكَّن له، وأعز نصره، فأسلم حينئذٍ بشر كثير من أهل المدينة، ومن ثَم دخل عبدالله بن أُبي بن سلول وجماعته من المنافقين في الدين تقية. جملة من حضر بدرًا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا: من المهاجرين ستة وثمانون رجلًا، ومن الأوس أحد وستون رجلًا، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلًا، وإنما قلَّ عدد رجال الأوس عن عدد الخزرج، وإن كانوا أشد منهم وأصبر عند اللقاء؛ لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة، فلما نُدبوا للخروج تيسر ذلك على الخزرج لقرب منازلهم، وأما المشركون فكانت عدتهم كما قال صلى الله عليه وسلم ما بين التسعمائة إلى الألف، وقُتل من المسلمين يومئذٍ أربعة عشر رجلًا: ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس، وكان أول قتيل يومئذٍ "مهجع" مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقُتل من المشركين سبعون، وأُسر منهم سبعون أيضًا، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر والأسرى في شوال؛ [الفصول في سيرة الرسول لابن كثير، ص: 71:62]. (2) غزوة أُحُد: غزوة أُحُدٍ امتحن الله عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين، وذلك أن قريشًا حين قتل الله زعماءهم ببدر، وأُصيبوا بمصيبة لم تكن لهم في حساب، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لعدم وجود أكابرهم، شرع يجمع قريشًا ويؤلِّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فجمع قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد وذلك في شوال من السنة الثالثة، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر إلى الإشارة بالخروج إليهم، وألحوا عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأشار عبدالله بن أبي بن سلول بالمقام بالمدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهض ودخل بيته، ولبس لَأْمَتَهُ وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل؛ فقال: ((ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمته - ثياب الحرب - أن يضعها حتى يقاتل))، واستخلف على المدينة عبدالله بن أم مكتوم، وخرج إلى أحد في ألف من أهل المدينة، فلما كان ببعض الطريق انخزل عبدالله بن أبي بن سلول نحو ثلاثمائة إلى المدينة، واستقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بقيَ معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح تعبأ صلى الله عليه وسلم للقتال في أصحابه، وكان فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبدالله بن جبير الأوسي، وأمره وأصحابه ألَّا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يُؤتوا من قبلهم، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، واستعرض الشباب يومئذٍ، فأجاز بعضهم ورد آخرين، فكان ممن أجاز سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة، وكان ممن رد يومئذٍ أسامة بن زيد بن حارثة، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر، وغرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، ثم أجازهم يوم الخندق، وتعبأت قريش أيضًا وهم في ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وقاتل المسلمون قتالًا شديدًا، وكانت الدائرة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم، فلما رأى ذلك أصحاب عبدالله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة، فذكَّرهم عبدالله بن جبير تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه في ذلك، فظنوا أن ليس للمشركين رجعة، وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، فذهبوا في طلب الغنيمة، وكر الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفرجة قد خلت من الرماة، فجاوزوها وتمكنوا، وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونه، فاستُشهد من أكرمهم الله بالشهادة من المؤمنين، فقُتل جماعة من أفاضل الصحابة، وتولى أكثرهم، وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجُرح في وجهه الكريم وكُسرت رَباعِيته – أسنانه - اليمنى السفلى بحجر، ورشقه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقه، وسقط في حفرة، فأخذ علي بن أبي طالب بيده، واحتضنه طلحة بن عبيدالله، وقُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه بين يديه، فدفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب، ونشبت حلقتان من حِلَق المِغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان الهتم يُزينه، وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه وسلم، وأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوًا من عشرة فقُتلوا، ثم قاتلهم طلحة حتى أبعدهم عنه صلى الله عليه وسلم، وترس أبو دجانة سماك بن خرشة عليه صلى الله عليه وسلم بظهره، والنَّبل يقع فيه، وهو لا يتحرك رضي الله عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذٍ رميًا مسددًا منكئًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارمِ فداك أبي وأمي))، وأُصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، فكانت أصح عينيه وأحسنهما، وصرخ الشيطان لعنه الله بأعلى صوته: إن محمدًا قد قُتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرهم، وكان أمر الله، ومرَّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس، ولقيَ سعد بن معاذ فقال: يا سعد، والله إني لَأجد ريح الجنة من قِبل أحد، فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه، ووُجدت به سبعون ضربة، وجُرح يومئذٍ عبدالرحمن بن عوف نحوًا من عشرين جراحةً، بعضها في رجله، فعرج منها حتى مات رضي الله عنه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشِروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أنِ اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم، فلما أسندوا في الجبل، أدركه أبي بن خلف على جواد، يُقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في تَرقُوتِه، ويكرُّ عدو الله منهزمًا فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، إنه قال لي: إنه قاتلي، ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه إلى مكة لعنه الله، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لما به صلى الله عليه وسلم، ولأنه ظاهر يومئذٍ بين درعين، فجلس طلحة تحته حتى صعد، وحانت الصلاة، فصلى جالسًا، ثم مال المشركون إلى رحالهم، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها، وكان هذا كله يوم السبت، واستُشهد يومئذٍ من المسلمين نحو السبعين؛ منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم جميعهم، فدفنهم في دمائهم ولم يصلِّ عليهم يومئذٍ، وفرَّ يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان؛ منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم؛ فقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]، وقُتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون؛ وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران؛ [الفصول في سيرة الرسول لابن كثير ص: 81:74]. (3) غزوة الخندق: كانت في سنة خمس في شوال، وكان سبب غزوة الخندق (الأحزاب)، أن نفرًا من يهود بني النضير الذين أجلاهم صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر؛ وهم أشرافهم: كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرجوا إلى قريش بمكة فألبوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعدوهم من أنفسهم النصر، فأجابوهم، ثم خرجوا إلى غطفان فدعَوهم فأجابوهم أيضًا، وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن، كلهم في نحو عشرة آلاف رجل، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، أمر المسلمين بحفر خندق يحول بين المشركين وبين المدينة، وكان ذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعمل المسلمون فيه مبادرين هجوم الكفار عليهم، فلما كمل قدم المشركون، فنزلوا حول المدينة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11]، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحصَّن بالخندق وهو في ثلاثة آلاف من أهل المدينة، وأمر صلى الله عليه وسلم بالنساء والذراري، فجُعلوا في آطام المدينة، واستخلف عليها ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وانطلق حُيي بن أخطب النضري إلى بني قريظة، فاجتمع بكعب بن أسد رئيسهم، فلم يزل به حتى نقض العهد الذي كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافق كعبٌ المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُروا بذلك، وثبت المشركون محاصرين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شهرًا، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينه وبينهم، إلا أن فوارسَ من قريش منهم عمرو بن عبد وُدٍّ العامري وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه لَمكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم يمَّموا مكانًا ضيقًا من الخندق فاقتحموه وجازوه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وجبل سلع ودعَوا للمبارزة، فانتدب لعمرو بن عبد ود عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه فقتله الله على يديه وكان عمرو لا يجارى في الجاهلية شجاعة، وكان شيخًا قد جاوز المائة يومئذٍ، وأما الباقون فينطلقون راجعين إلى قومهم من حيث جاؤوا، وكان هذا أول ما فتح الله به من خذلانهم، ولما طال هذا الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان، على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، ولم يتم الأمر حتى استشار صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في ذلك فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة، وإن كان شيئًا تصنعه لنا، فلقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما هو شيء أصنعه لكم))، وصوَّب رأيهما في ذلك رضي الله عنهما، ولم يفعل من ذلك شيئًا، ثم إن الله سبحانه وله الحمد صنع أمرًا من عنده خذل به بينهم، وفلَّ جموعهم، وذلك أن نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت فمُرني بما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنت رجل واحد فخذِّل عنا إن استطعتَ؛ فإن الحرب خدعة))، فذهب من حينه ذلك إلى بني قريظة - وكان عشيرًا لهم في الجاهلية - فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قريظة، إنكم قد حاربتم محمدًا، وإن قريشًا إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا شمروا إلى بلادهم وتركوكم ومحمدًا فانتقم منكم، قالوا: فما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم نهض إلى قريش فقال لأبي سفيان ولهم: تعلمون ودي ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يمالئونه عليكم، ثم ذهب إلى قومه غطفان فقال لهم مثل ذلك، فلما كان ليلة السبت في شوال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام فانهضوا بنا غدًا نناجز هذا الرجل، فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهنًا، فلما جاءهم الرسل بذلك، قالت قريش: صدقنا – والله - نعيم بن مسعود، وبعثوا إلى يهود: إنا والله لا نرسل لكم أحدًا فاخرجوا معنا، فقالت قريظة: صدق – والله - نعيم، وأبَوا أن يقاتلوا معهم، وأرسل الله عز وجل على قريش ومن معهم الخور والريح تزلزلهم، فجعلوا لا يقر لهم قرار، ولا تثبت لهم خيمة ولا قِدر ولا شيء، فلما رأوا ذلك ترحلوا من ليلتهم تلك؛ [الفصول في سيرة الرسول لابن كثير، ص: 98:93]. (4) غزوة بني قريظة: سبب هذه الغزوة: نقضت بنو قريظة العهد مع نبينا صلى الله عليه وسلم الخاص بالدفاع عن المدينة ضد المعتدين، وتحالفوا مع المشركين ضد المسلمين، فأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم. روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، فاخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم))؛ [البخاري حديث: 4117، مسلم حديث: 1769]. وحث النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الإسراع في السير للوصول إلى بني قريظة. روى الشيخان عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدًا منهم))؛ [البخاري حديث: 946، مسلم حديث: 1770]. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خِصال: إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريهم ويخرجوا جرائد (جماعة وهم راكبون الخيول)، فيقاتلوا حتى يُقتلوا عن آخرهم، أو يخلصوا فيصيبوا بعد الأولاد والنساء، وإما أن يهجموا على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم سبتٍ حين يأمن المسلمون شرهم، فأبوا عليه واحدة منهن، رأوه قاموا في وجهه يبكون؛ رجالهم ونساؤهم، وقالوا: يا أبا لبابة، كيف ترى لنا؟ أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، فأشار بيده إلى حلقه؛ يعني أنه الذبح، ثم ندم على هذه الكلمة من وقته، فقام مسرعًا فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدًا، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: ((دَعُوه حتى يتوب الله عليه))، وكان من أمره ما كان حتى تاب الله عليه رضي الله عنه. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |