باختصار – حاجاتنا إلى النضج الدعوي
في زمن تتسارع فيه التغيرات، وتتعدد فيه التحديات الفكرية والاجتماعية، وتزداد فيه الفتن، تبرز الحاجة الملحّة إلى وجود دعاة يتمتعون (بالنضج الدعوي)، يتجاوزون من خلاله حدود المعرفة النظرية إلى الوعي العميق والفهم الرشيد للواقع، يتعاملون مع المواقف بحكمة، ويخاطبون العقول بلغة الرحمة، ويعززون دور الإسلام في البناء، ويحسنون تنزيل الأحكام بما يحقق مقاصد الشريعة في الإصلاح والتغيير. النضج الدعوي ليس لحظةً عارضة، ولا موقفًا عابرًا، بل هو ثمرة تجارب، وخلاصة تربية، وتراكم أيام من الصبر والمجاهدة، إنه اكتمال الشخصية الدعوية علمًا وفكرًا ووجدانًا؛ بحيث تتجلى معها الحكمة في القول، والرحمة في الفعل، والرشد في التقدير، فيصبح الداعية واعيًا لا منفعلاً، بصيرًا لا متهورًا. قال -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، بهذه القاعدة الإلهية، تتجلّى معالم الدعوة الناضجة في حكمة تزن المواقف، وموعظة تلامس أعماق القلوب، وجدال بالحسنى، يشرح ولا يجرّح، يُقرّب ولا يُفرّق. لقد علّمنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الدعوة ليست صدامًا، بل هي رفقٌ يُهذّب، ورحمةٌ تُلهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه»، فلم تكن دعوته - صلى الله عليه وسلم - يومًا انتصارًا للذات، ولا تعبئةً ضد الآخر، بل كانت نداء حبٍّ وهدايةٍ، يصطفّي القلوب ويوقظ العقول. خرج - صلى الله عليه وسلم - من الطائف مهمومًا، مُثقل القلب، مجروح الجسد، بعد ما لقي من أهلها ما يشقُّ على النفس، فجاءه مَلك الجبال يعرض نُصرة تُفنيهم، فإذا به - صلى الله عليه وسلم - يردّ بكلمةٍ تهزّ الوجدان وتدهش العقول: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا»، أي عظمة وأي نضج وأي سعة أفق! لم تجرفه العاطفة، ولم يأسره الغضب، كان - صلى الله عليه وسلم - يبصر الغاية الكبرى؛ وهي هداية الناس لا الانتقام منهم. وفي فتح مكة يوم النصر والتمكين، كان بإمكانه - صلى الله عليه وسلم - أن يردّ الصاع صاعين، لكنه اختار أن يفتح القلوب قبل أن يستردّ الأرض، فقال لمن آذاه: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» كأن الرحمة حين تكتمل تعلن النضج، وكأن النضج حين يبلغ منتهاه يحرر القلب من الضغينة، والنفس من شهوة الانتقام. إنَّ الداعية الناضج لا يستعجل الثمرة قبل أوانها؛ فتغيير المجتمعات لا يتم في لحظة؛ بل هو زراعة وبناء ومكابدة. إننا اليوم بأمس الحاجة إلى من يحمل عبء الرسالة بقلب نقي وفكر ناضج؛ فصلاح الأمة يبدأ من صلاح الدعوة، وصلاح الدعوة ونجاحها في التأثير والإصلاح يكمن في ارتقاء الداعية في فكره وسلوكه، فالدعوة رسالة ربانية تحتاج إلى إيمان عميق وخلق وثيق وفهم دقيق للمقاصد والمالآت.
اعداد: وائل رمضان