|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() شبهات الاستشراق حول السنة النبوية الطعن في الأحاديث النبوية سندًا ومتنًا[1] أ. د. فالح بن محمد الصغير رابعًا: الطعن في الأحاديث النبوية سندًا ومتنًا، ونقسمه إلى ما يلي: أ - زعمهم أن الحديث مزيج من عقائد الأديان السابقة وأفكارها من اليهودية والنصرانية: يقول بروكلمان: "وأغلب الظن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جدًّا، وهو أمر لم يكن مستغربًا عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن إرواء ظمئهم الروحي. وتذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد"[2]. ويقول جولد تسيهر في كتاب "العقيدة والشريعة في الإسلام": "لكي نقدر عمل محمد صلى الله عليه وسلم من الوجهة التاريخية، ليس من الضروري أن نتساءل عما إذا كان تبشيره ابتكارًا وطريفًا من كل الوجوه ناشئًا عن روحه، وعما إذا كان يفتح طريقًا جديدًا بحتًا. فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية، عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها التي تأثر بها تأثرًا عميقًا والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة حقيقية عند بني وطنه"[3]. ويرى ريتشارد بل: مؤلف كتاب "مقدمة القرآن": أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمد في كتابته للقرآن على الكتاب المقدس، وبخاصة على العهد القديم في قسم القصص، فبعض قصص العقاب كقصص عاد وثمود مستمد من مصادر عربية، ولكن الجانب الأكبر من المادة التي استعملها محمد ليفسر تعاليمه ويدعمها قد استمده من مصادر يهودية ونصرانية، وقد كانت فرصته في المدينة للتعرف على ما في العهد القديم أفضل من وضعه السابق في مكة حيث كان على اتصال بالجاليات اليهودية في المدينة، وعن طريقها حصل على قسط غير قليل من المعرفة بكتب موسى على الأقل[4]. ونقول للرد على هؤلاء: لا ريب أن هناك أمورًا مشتركة كثيرة في التشريعات بين الإسلام والديانات الأخرى، مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مصدر الديانات كلها من عند الله الواحد الأحد، وكلها تأتي إلى البشر عن طريق الوحي إلى الرسل والأنبياء، ورغم أن الديانات السابقة أصابها التحريف والزيادة والنقصان إلا أنه بقي منها بعض الأمور التي توافق القرآن الكريم والسنة النبوية؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 44، 45]. ومما جاء أيضًا في الإسلام ويوافق ما في التوراة ما ورد في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم"، فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبدالله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبدالله فرأيت الرجل يَجْنَأُ على المرأة يقيها الحجارة"[5]. ثم إنه لو كانت رسالة الإسلام مقتبسة من تلك الأديان لما جاء في كتاب الله تعالى الأمر بمخالفتهم ومحاربتهم، وعدم موالاتهم ونصرتهم، هذا فضلًا عما اتصف به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدق وإخلاص لهذا الدين، فلو كان للقرآن علاقة بالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية من حيث الاقتباس، لرأينا الكثير من هؤلاء الصحابة ينقلون إلينا ذلك، ولكن لم يحدث شيءٌ من هذا، وهذا دليل على بطلان قولهم من أن السنة مزيج من العقائد والأديان السابقة. ب - الطعن في رواة الحديث: كثر القول في رواة الأحاديث النبوية في كتابات المستشرقين ووسائلهم الأخرى، ووضعوا مجموعة من هؤلاء الرواة الثقات موضع الشبهة والتشكيك في رواياتهم لتأثرهم بالأحوال السياسية أو الاقتصادية التي كانوا يعيشون فيها، وكان على رأس قائمتهم عَلَمان كبيران ومن أعلام الرواية: هما الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، والإمام الزُّهْري رحمه الله، وكان جولد تسيهر من أوائل الذين كتب عنهما وافترى عليهما الفريات العظام، معتمدًا في ذلك على الخلافات التي نشبت بين المسلمين بعد الخلافة الراشدة، والفتن التي مزقت الصف الإسلامي، فاستغلها أمثال تسيهر وغيره ليطعنوا في أهم مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وذلك بالطعن في رجال سنده. وهذه بعض الشبهات والتشكيكات التي أثارها المستشرق جولد تسيهر حول الإمام الزُّهْري، وهي ليست كل الشبهات؛ لأنها كثيرة، ولكننا نتناول هنا بعضها ونناقشها بموضوعية. يقول أجناس جولد تسيهر فيما يفتريه على الإمام الزهري: "ولم يكن الأمويون وأتباعهم ليهمهم الكذب في الحديث الموافق لوجهات نظرهم، فالمسألة كانت في إيجاد هؤلاء الذين تنسب إليهم، وقد استغل هؤلاء الأمويون أمثال الإمام الزُّهْري بدهائهم في سبيل وضع الأحاديث... إلخ"[6]. ويقول أيضًا: "إن عبدالملك بن مروان منع الناس من الحج أيام فتنة ابن الزبير، وبنى قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها ويطوفوا حولها بدلًا من الكعبة، ثم أراد أن يحمل الناس على الحج إليها بعقيدة دينية، فوجد الزُّهْري وهو ذائع الصيت في الأمة الإسلامية مستعدًّا لأن يضع له أحاديث في ذلك، فوضع أحاديث، منها حديث: "لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، ومنها حديث: "الصلاة في المسجد الأقصى تعدل ألف صلاة فيما سواه" وأمثال هذين الحديثين، والدليل على أن الزُّهْري هو واضع هذه الأحاديث، أنه كان صديقًا لعبدالملك، وكان يتردد عليه وأن الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مروية من طُرُق الزُّهْري فقط"[7]. إن هذه الفرية ردَّدَها هذا المستشرق وتبعه تلامذته من بعده، واقتنع بها كثير من أبناء المسلمين، وهي فرية قديمة حديثة تبنتها الرافضة للطعن في كل رواية وردت في العهد الأموي أو ممن كانوا تحت الولاية الأموية، إلا أن التاريخ والشواهد الكثيرة والأدلة العلمية الواضحة التي لا شبهة فيها ولا غبار عليها، قادرة على نفي هذا التشكيك في أعظم شخصية إسلامية؛ كالإمام الزُّهْري الذي اتَّصَف بالحزم والثبات في المواقف، وكان من أوائل الذين خدموا السنة بروايتها وتدوينها، إلا أن أقلام هؤلاء الأعداء لا يتركون أحدًا من المخلصين من رجالات هذه الأمة، حتى يتحول التاريخ الإسلامي في أذهان المسلمين إلى مجرد صراع ونفاق وكذب، ومن ثمَّ يكون هذا الدين كله مبنيًّا على أوهام وخرافات، ولكن هيهات لهؤلاء أن يدركوا أهدافهم ومآربهم؛ لأن الله تعالى حفظ هذا الدين بحفظ كتابه، على أيد أمينة وصادقة، وهذه الحقيقة تناقلتها الأجيال بعد الأجيال. وجعل الله تعالى جيل الصحابة من خير الأجيال، ثم الذين يلونهم؛ لأنهم جيل القدوة وجيل الرفقة بالنبي صلى الله عليه وسلم والرفقة بأصحابه، فمهما كاد هؤلاء وأذنابهم فلن يصلوا إلى الغبار الذي كان تطؤه أقدامهم الطاهرة، ومن أجل أن تدحض فرية هؤلاء القوم على عالم جليل مثل الإمام الزُّهْري، الذي عاش مع الصحابة وسلك نهجهم، لا بد من توضيح بعض الأمور منها: 1- الإمام الزُّهْري هو الإمام محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب بن عبدالله بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري، اتصف هذا العالم في عصره بالحرص الشديد على تلقي العلم والسعي الدؤوب من أجل الحصول عليه، كما اتصف بقوة الحفظ والذاكرة، واتصف بصفات أخرى؛ كالكرم والسخاء والشجاعة وحسن الخلق، ومعروف عنه المواقف الثابتة لمن خالف شيئًا من الدين، وشهد له بذلك شيوخه وعلماء الأمة. 2- الأمانة التي اتصف بها الإمام الزُّهْري، تجعل هذه الافتراءات ترتد على أصحابها وتقذف في عيونهم القذى وفي بصائرهم ضلالهم وحقدهم؛ إذ يتبيَّن من خلال دراسة سيرة حياة هذا العالم أنه كان لا يقبل أدنى تنازل في أية جزئية من جزئيات الدين، فكيف لمن هذا شأنه أن يفتري على النبي صلى الله عليه وسلم ويضع الأحاديث حسب أهواء الأمراء والخلفاء؟ ويكفي هنا أن نذكر أحد مواقفه العظيمة أمام أحد خلفاء بني أمية عندما أراد أن يؤول حديثًا في غير موضعه، حيث "دخل الزُّهْري على الوليد بن عبدالملك، فقال له: ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبدًا رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال الزُّهْري: باطل يا أمير المؤمنين، أنبيٌّ خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال: بل نبي خليفة، قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]، فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة، فما ظنك بخليفة غير نبي؟ قال الوليد: إن الناس ليغووننا عن ديننا"[8]. 3- إن كبار العلماء في الدولة العباسية أخذوا عن الزُّهْري جميع الأحاديث والروايات، ولم يذكر أن أحدهم قدح فيه، من أمثال الإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وغيرهم، رغم أنه كان من رجال بني أمية، الذين لم يسلموا من مهاجمة العباسيين لهم في معظم أمورهم، وهذا دليل كافٍ للردِّ على المفترين الذين افتروا على هذا العالم الجليل. 4- أما بالنسبة لكلام تسيهر على منع عبدالملك بن مروان الناس الحج، وبناء قبة الصخرة ليحج الناس إليها وأمره الإمام الزُّهْري بوضع حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" فإن هذا الكلام لا يستند إلى دليل علمي أو تاريخي، وإنما هو سرد مغلوط ومشبوه يراد منه كعادته إثارة التشكيك في التاريخ الإسلامي ورجالاته، وتنجلي الغمة، ويتضح الأمر من خلال الأمور التالية: أ- أجمع المؤرخون قاطبة أمثال الطبري وابن خلدون وابن الأثير على أن الذي بنى قبة الصخرة هو الوليد بن عبدالملك، وليس عبدالملك بن مروان، وكان الناس يقفون عندها في يوم عرفة، حيث كانت عادة المسلمين في كثير من البلاد حيث كانوا يخرجون إلى أطراف المدينة في هذا اليوم ويشاركون إخوانهم الحجاج في هذا اليوم، بالرغم من أن كثيرًا من العلماء كرهوا هذا الفعل، فالأمر لم يكن مقتصرًا على قبة الصخرة وإنما كان في كل مكان. ب- لو كان كلام جولد تسيهر صحيحًا على فعل عبدالملك بن مروان، لما سكت علماء الأمة من ذلك الوقت وإلى يومنا على ذلك؛ لأن منع الناس من الحج لبيت الله وإنشاء مكان آخر للحج فيه يعد كفرًا، لا يقبل التهاون معه والمجاملة فيه. ج- يذكر المؤرخون أن الزُّهْري لم يلتقِ بعبدالملك بن مروان في عهد ابن الزبير، وإنما كان أول لقاء بينهما بعد مقتل ابن الزبير حينما كان شابًّا، وإن السنة التي ولد فيها الزُّهْري كانت إحدى وخمسين أو ثمانية وخمسين، وكان مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، فيكون عمر الزُّهْري عشرين عامًا أو خمسة عشر عامًا، وغير معقول أن يشتهر الزُّهْري في هذه السن المبكرة ثم يفتي بالحج إلى قبة الصخرة بدلًا من الكعبة؟ د- أما كلام تسيهر أن حديث "لا تشد الرحال" لم يروه غير الزُّهْري فهذا باطل لا أصل له، فقد روي من طرق كثيرة غير طريق الزُّهْري كما أخرجه البخاري ومسلم. ج- زعمهم التعارض في الأحاديث: يقول جولد تسيهر: "إنه لا توجد مسألة خلافية سياسية أو اعتقادية إلا ولها اعتماد على جملة من الأحاديث ذات الإسناد القوي" [9]. إن تعارض الأحاديث وقوة صحتها لا تعني بأي حال أنها موضوعة أو غير صحيحة، فمن المعلوم أن التعارض الظاهري بين بعض الأحاديث إنما نتيجة بعض الأسباب: 1- أن الفعل الذي يُروى مرتين بشكل مختلف ربما يكون لكل واحد منهما حالة خاصة أو ظروف خاصة بالوضع الذي كان فيه الصحابي، أو بحسب حال الصحابي الذي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعني أبدًا أن هناك تناقضًا في الأحاديث، مثل الحديثين: "الوضوء من مَسِّ الذَّكَر" و"هل هو إلا بضعة منك". 2- ومنها أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل على وجهين إشارة إلى الجواز، فيروي صحابي ما شاهده في المرة الأولى، ويرويه آخر ما شاهده في المرة الثانية، مثل أحاديث الوتر أنها سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة. 3- منها اختلاف الصحابة في فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث، فبعضهم يفهمه بالوجوب، والآخرون يفهمونه بالاستحباب. 4- منها اختلاف الصحابة في حكاية حال شاهدوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل اختلافهم في حجة الرسول صلى الله عليه وسلم هل كان فيها قارنًا أو مفردًا أو متمتعًا؟ وكل ذلك حالات يجوز أن يفهمها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، فكل يحكم بما يرى. 5- ومنها نسخ الحكم السابق بحكم لاحق، وهذا كثير كما في بعض أحكام حَدِّ الزاني. وقد بيَّن علماء الأمة أسباب اختلاف الحديث، فما كان سببه الوضع بَيَّنوه، وما كان سببه شيئًا آخر بيَّنوه أيضًا، وقد صنفوا في ذلك كتبًا ومراجع[10]. وهذا بيان واضح لمعرفة أسباب الاختلاف والتعارض بين بعض الأحاديث ليعلم الناس ذلك، ويكون حجة في وجوه المغرضين الذين يثيرون مسألة التعارض بوصفها مسألة أحاديث صحيحة وغير صحيحة. وإذا وجد تعارض، بيَّن أهلُ العلم حَلَّ هذا التعارض وَفق قواعد معلومة لدى أئمة الحديث، عرفت بـ (مختلف الحديث). وخلاصتها أن ينظر في الأحاديث المتعارضة، هل يمكن الجمع بينهما؟ فإن كان كذلك فيحمل كل واحد منهما على محمل خاص؟ فإن لم يمكن الجمع بينهما نظر في التاريخ، هل أحدهما متأخر والآخر متقدم، فيكون المتأخر ناسخًا، والمتقدم منسوخًا، وإن لم يعلم المتأخر من المتقدم عمل بترجيح أحدهما على الآخر وفق المرجحات المعروفة عند المحدثين[11]، وإن لم يمكن الترجيح بحيث تساوت طرق الحديثين فيتوقف فيه -إن وجد- وهو الذي يُسمَّى بالحديث المضطرب إلى حين يتبين الترجيح. د - زعمهم أن الأحاديث النبوية هي نتيجة التطور الديني: يقول جولد تسيهر: "إن القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحًا ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود الإسلام في عهد النضوج"[12]. ويقول بروكلمان: "كان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلون مرتين في اليوم في مكة، أو ثلاث مرات في المدينة كاليهود، ثم جعلت الطقوس المتأخرة المتأثرة بالفرس عدد الصلوات في اليوم خمسًا"[13]. ويقول أيضًا: "القسم الأعظم من الحديث المتصل بسنة الرسول لم ينشأ إلا بعد قرنين من ظهور الإسلام، ومن هنا تعين اصطناعه مصدرًا لعقيدة النبي نفسه". ويقول برنارد لويس: "لقد استحدثت طرق جديدة في الحياة مع مرور الزمن وتوسع البلاد الإسلامية، وظهرت حاجات أدت إلى أوضاع غريبة تمامًا على الحياة البسيطة والفكر الذي كان سائدًا في عصر الصحابة - وبالإضافة إلى ذلك فإن الأحداث الغريبة والتأثيرات الأجنبية التي كان لا بد من استيعابها وهضمها كان لا بد أن تحدث خللًا في التمسك بالمفهوم الجامد للسنة على أنها المعيار الوحيد للصدق والعدل"[14]. إن هذا الكلام فيه كثير من اللغط والافتراء؛ لأن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن في منتصف طريق دعوته إلى الله، وإنما كان بعد أن أدى الرسالة وبَلَّغ الأمانة، حتى نزل قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه"[15]، وهذا يدل على أن التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان بعد أدائه رسالة ربه للناس، وهذا يعني أن هذا الدين أُرسيت أصوله وأحكامه الثابتة في الحياة، وكان شريعة واضحة المعالم، لم تكن فيه مبهمات أو غموض أو أسرار، وإنما كان صحيفة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وإن التطور الذي حدث بعد عهد الرسالة كان في بعض الفروع والجزئيات التي ظهرت عندما توسعت رقعة الخلافة الإسلامية، وعندما فتح المسلمون البلاد الأخرى، فكان لا بد أن تعتريهم بعض الحوادث الجديدة التي لم يكن لها نص في القرآن أو السنة، فتعامل العلماء معها بطرق علمية متينة وقواعد معلومة تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ كالإجماع والقياس وغيرهما من مصادر التشريع الإسلامي. ومن ناحية أخرى لو نظر الإنسان إلى هذا الدين منذ عهد النبوة إلى الآن سيجد فيه حجة قوية على بقاء الأصول على حالها منذ ذلك الوقت، ووحدة المسلمين في أداء عباداتهم وشعائرهم مع اختلاف يسير في بعض فروعها، في جميع أرجاء العالم رغم تباين أقطارهم واختلاف لغاتهم وتمايز أعراقهم وأجناسهم، ولو كانت الأحاديث النبوية نتيجة التطور الديني والاجتماعي كما يدعي هؤلاء القوم، لوجدنا المسلمين في كل بلد بل في كل منطقة يختلفون في كيفية أداء الصلوات وعدد ركعاتها وأوقاتها وكذلك الصيام والحج وغيرها من العبادات، ولكن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يكون هكذا إلى يوم الدين؛ لأنه جل ثناؤه تكفل بحفظه وحمايته من أيادي الانحراف والتزييف والتضليل. وهذا الإيجاز كافٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. هـ- الطعن في منهج المحدثين في النقد: في سند الحديث ومتنه: يقول شاخت: "إن أكبر جزء من أسانيد الأحاديث اعتباطي، ومعلوم لدى الجميع أن الأسانيد بدأت بشكل بدائي ووصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث، وكانت الأسانيد لا تجد أدنى اعتناء، وأي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين كان يختار تلك الشخصيات ويضعها في الإسناد"[16]. يقول جولد تسيهر: "نقد الأحاديث عند المسلمين قد غلب عليه الجانب الشكلي منذ البداية؛ فالقوالب الجاهزة هي التي يحكم بواسطتها على الحديث بالصحة أو بغيرها، وهكذا لا يخضع للنقد إلا الشكل الخارجي للحديث، ذلك أن صحة المضمون مرتبطة أوثق الارتباط بنقد سلسلة الإسناد، فإذا استقام سند حديث لقوالب النقد الخارجي؛ فإن المتن يصحح حتى ولو كان معناه غير واقعي أو احتوى على متناقضات داخلية أو خارجية، فيكفي لهذا الإسناد أن يكون متصل الحلقات، وأن يكون رواته ثقات اتصل الواحد منهم بشيخه، حتى يقبل متن مرْويّه، فلا يمكن لأحد أن يقول بعد ذلك: إني أجد في المتن غموضًا منطقيًّا أو أخطاء تاريخية؛ لذلك فإني أشك في قيمة سنده"[17]. يقول المستشرق الإيطالي (كايتاني): كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز في وادٍ جدب ممحل من سرد الأشخاص الذين نقلوا المروي، ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه"[18]. ويقول أيضًا: "إن المحدثين والنقاد المسلمين لا يجسرون على الاندفاع في التحليل النقدي للسنة إلى ما وراء الإسناد، بل يمتنعون عن كل نقد للنص؛ إذ يرونه احتقارًا لمشهوري الصحابة، وقحة ثقيلة الخطر على الكيان الإسلامي"[19]. ويقول غوستاف ويت: "قد درس رجال الحديث السنة بإتقان، إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض..."، ثم يقول: "لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة، ثم جمعه الحفاظ ودونوه، إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن؛ ولذلك لسنا متأكدين من أن الحديث وصلنا كما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يضيف عليه الرواة شيئًا عن حسن النية في أثناء روايتهم، ومن الطبيعي أن يكونوا قد زادوا شيئًا عليه في أثناء روايتهم؛ لأنه كان بالمشافهة"[20]. أما بالنسبة لشبهاتهم حول الأسانيد فنقول: ربما كانت شبهات المستشرقين حول أسانيد الأحاديث أقل حظًّا إذا قورنت بمثيلتها بالنسبة للمتون، فالقلة من المستشرقين الذين نقدوا الأسانيد؛ لأنهم لم يجدوا فيها ثغورًا يستطيعون أن يثيروا من خلالها الشبهات والادعاءات حول الأحاديث، ليس هذا فحسب بل هناك الكثيرون منهم أشادوا بجهود علماء الحديث واعتنائهم الكبير في الأسانيد ورواة الأحاديث، كما قال غوستاف ويت: "قد درس رجال الحديث السنة بإتقان، إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض...". ولكن رغم ذلك لم يسلم الإسناد من أباطيلهم وشبهاتهم، من أجل ذلك لا بد من إلقاء نظرة سريعة حول الإسناد المتَّهم من قبل هؤلاء، لمعرفة حقيقته والمنهج العلمي الذي اتبعه العلماء للوصول إلى الحديث النبوي، وذلك بما يلي: كان اهتمام علماء الحديث بالأسانيد قبل كل شيء انطلاقًا من قول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]. فقد روى مسلم عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه. فقال: يا بن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع. فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف[21]. فكان لا يؤخذ الحديث من أحد إلا إذا كان ثقة، حتى اشتهر بين المحدثين أن السند للخبر كالنسب للمرء. والحديث الذي ليس له سند ليس بشيء. ومعروف عن ابن سيرين قوله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم[22]. وقول عبدالله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء[23]. وكان الإسناد علم بذاته من علوم الحديث اعتنى به علماء الأمة عناية مميزة؛ لأنه سند السنة التي هي المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم، وقد تفردت الأمة الإسلامية بهذا العلم وهذه المنهجية في أخذ الأخبار والروايات بخلاف جميع أمم الأرض وأديانها الأخرى؛ حيث اعتمدت على المشافهة والروايات التي اختلط فيها الحق بالباطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سُلَّمًا إلى الدراية. فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات. وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات. وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم. وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد. وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل. وأما هذه الأمة المرحومة وأصحاب هذه الأمة المعصومة، فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، ظهر لهم الصدق من المَين كما يظهر الصبح لذي عينين"[24]. وقد فاقت جهود الصحابة وعلماء الأمة من بعدهم التصور البشري لشدة اهتمامهم وعنايتهم بالحديث النبوي، فهذا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يسافر من المدينة إلى مصر من أجل أن يتأكد من صحة حديث يحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من عقبة بن عامر رضي الله عنه. وهذا الحديث في الستر على المؤمن، فعن عطاء ابن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري (وهو أمير مصر) فأخبره فعجل عليه، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغير عقبة، فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة، فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة"، فقال له أبو أيوب: صدقت. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعًا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر[25]. ويقول سعيد بن المسيب أحد كبار التابعين: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد[26]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |