|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() الحال مع القرآن في رمضان[1] مساعد بن سليمان الطيار (1) والصلاة والسلام على رسوله الكريم الذي خصَّه اللهُ بوحيه، وأنْزَل عليه خيرَ كُتبه، القائل: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»، ثمَّ أُتمِّم الصلاة على آل البيت الأطهار، وعلى أصحابه البررة الأخيار، ثمَّ على التابعين لهم ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد: فلقد خَصَّ اللهُ هذا الشهر الكريم بخصائص؛ منها: أنه أفضل شهور السنة، وفيه ليلة القدر، وفيه نزل القرآن. ونزول القرآن بنوعيه الجملي والابتدائي كان في ليلة القدر؛ أما الجملي فقد أخبر عنه ابن عباس (ت: 68هـ) -رضي الله عنهما- بقوله: «أُنزِل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان اللهُ إذا أراد أن يُحدِث في الأرض شيئًا أَنزَل منه، حتى جمعه»[2]. وهذا القول ثابت عن ابن عباس، وله روايات متعددة. وأما ابتداء النُّزول، فقد نُسِب للشعبي (ت: 103هـ)، وهو الذي يدلّ عليه ظاهر القرآن في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: 185]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}[الدخان: 3]. وهداية الناس وبيان الهدى لهم ونذارتهم إنما هي في القرآن النازل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وليس يمتنع أن يُراد المعنيان معًا في هذه الآيات، فتكون دالَّة على النُّزولَيْنِ؛ إِذْ ليس بينهما تعارض ولا تناقض، والقولان إذا صحَّا في تفسير الآية، والآية تحتملهما، ولم يكن بينهما تعارض؛ فإنه يجوز حمل الآية عليها كما قرَّره العلماء. وعلى كلّ حالٍ فإنّ التلازم بين القرآن وشهر رمضان ظاهر في هذه الآيات، فَشَرُفَ الشهرُ بنُزُول القرآن فيه؛ لذا صار يُسمى: شهر القرآن. أحوال الناس في قراءة القرآن: ![]() يقع سؤال بعض الناس عن أيّهما أفضل: قراءة القرآن بتدبُّر، أو قراءته على وجه الحَدْر، والاستزادة من كثرة ختمه إدراكًا لأجر القراءة؟ وهاتان العبادتان غير متناقضتين ولا متشاحَّتين في الوقت حتى يُطلب السؤال عن الأفضل، والأمر في هذا يرجع إلى حال القُرّاء، وهم أصناف: - الصنف الأول: العامّة الذين لا يستطيعون التدبّر، بل قد لا يفهمون جملة كبيرة من آياته، وهؤلاء لا شكَّ أنّ الأفضل في حقِّهم كثرة القراءة. وهذا النوع من القراءة مطلوب لذاته لتكـثير الحسنات في القراءة على ما جاء في الأثر: «لا أقول {ألم} حرف، بل ألِف حرف، ولام حرف، وميم حرف». - الصنف الثاني: العلماء وطَلبة العلم، وهؤلاء لهم طريقان في القرآن: الأول: كطريقة العامّة؛ طلبًا لتكثير الحسنات بكثرة القراءة والخَتماتِ. الثاني: قراءته قصد مدارسة معانيه والتدبُّر والاستنباط منه، وكلٌّ بحسب تخصّصه سيبرز له من الاستنباط ما لا يبرز للآخَر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأعود فأقول: إنَّ هذين النوعين من القراءة مما يدخل تحت تنوّع الأعمال في الشريعة، وهما مطلوبان معًا، وليس بينهما مناقضة فيُطلب الأفضل، بل كلُّ نوعٍ له وقته، وهو مرتبط بحالِ صاحبه فيه. ولا شكَّ أنَّ الفهم أكمل من عدم الفهم؛ لذا شبَّه بعض العلماء مَنْ قرأ سورة من القرآن بتدبّر بمَن قدَّم جوهرة، ومن قرأ كلّ القرآن بغير تدبّر كان كمن قدَّم دراهم كثيرة، وهي لا تصلُ إلى حدِّ ما قدَّمه الأول. ومما يحسن التنبيهُ على أمورٍ تتعلّق بتلاوة القرآن في رمضان: الأمر الأول: ![]() أن يتعرف المرء على نفسه، فليس الناس ذَوِي حالٍ واحدةٍ في العبادة، لكن من الخسارة أن يمرَّ على المسلم رمضان ولم يختم فيه القرآن، وتلك سُنَّةٌ سنَّها جبريل -عليه السلام- في مراجعة القرآن في رمضان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي سنّة ماضية عند المسلمين منذ عصر الرسول. والملاحظ أنَّ كثيرًا من الناس ينشطون في أول الشهر في أعمال الخير، ومنها تلاوة القرآن، لكن سرعان ما يفترون بعد أيام منه، وترى فيهم الكسل عن هذه الأعمال باديًا. ولأجل هذا فمَن اعتاد من نفسه هذا الأسلوب فإنّ الأَولى له أن يرتِّب قراءته، ويخصِّص لكلّ يومٍ جزءًا، فإنه بهذا سيختم القرآن مرَّة في هذا الشهر، ولو استمرَّ على هذا الأسلوب في كلّ شهور السنة لاستطاع ذلك، والأمر يرجع إلى العزيمة والإصرار. ولو أنَّ المسلم خصَّص لكلّ وقت من أوقات الصلوات الخمس أربع صفحاتٍ، فإنه سيقرأ في اليوم عشرين صفحة، وهذا ما يعادلُ جزءًا كاملًا في المصاحف الموجَّهة المكتوبة في خمسة عشر سطرًا في الصفحة؛ كمصحف المدينة النبوية. وبهذه الطريقة يكـون مـداومًا على عملٍ من أعمـال الخـير غير منقطع عنه، و«أَحَبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قَلَّ»، كما قال -صلى الله عليه وسلم-[3]. الأمر الثاني: ![]() يحسن بمن يقرأ القرآن عمومًا وبمَن يقرؤه في رمضان على وجهِ الخصوص، أن يكون معه تفسيرٌ مختصَرٌ يقرأ فيه لِيَعْلَم معاني ما يقرأ، وذلك أدعى إلى تذوُّق القراءة والإحساس بطعم قراءة القرآن، وليس من يدرك المعاني ويعلمها كمن لا يدركها. ومع أهمية هذا الأمر، فإنك ترى كثيرًا من قارئي القرآن يغفل عنه، ولو خَصَّصَ القارئُ لنفسه كتابَ تفسيرٍ مختصرٍ يرجع إليه على الدوام لأدرك كثيرًا من معاني القرآن. ولقد عُني المسلمون في هذا العصر بتأليف بعض التفاسير المختصرة، تجد ذلك في بعض بلدان المسلمين، ومنـها بلاد الحرمين التي أصدرت وزارتها للشؤون الإسلامية كتاب (التفسير الميسر) وهو اسم على مسمّى، وهذا التفسير مع أنَّ الغرض منه الإفادة في الترجمة، إلا أنه نافع لعامّة من يريد أن يعرف المعنى الجملي للآيات، ولا يعرف فضل الجهد الذي بُذِل فيه، والقيمة العلمية التي يحتويها إلا من مارس التعامل مع اختلاف المفسرين. والمقصود أن يحرص المسلم على أن يكون له تفسير من هذه المختصرات يقرأ فيه ويداوم عليه كما يقرأ القرآن؛ ليجتمع له في قراءته الأداء وفهم المعنى. الأمر الثالث: ![]() في حال قراءة القرآن تظهر -على وجه الخصوص عند طلاب العلم- بعض الفوائد أو بعض المشكلات، ولا بدَّ من التقييد لهذه الفوائد أو المشكلات؛ لئلا تضيع. إنّ هذا القرآن لا تنـقضي عجائبه، ولا يَخلق من كثرة الردِّ، وبما أنه قرآن كريم مجيد (أي: ذا شرف في مبناه ومعناه، وذا سعة وفضل في مبناه ومعناه)، فإنّ ما يتعلق به من المعاني والاستنباطات كذلك، فهي معانٍ واستنباطات شريفة لشرف ذلك الكتاب، وكثيرة متّسعة لا يحدُّها حدٌّ لمجد ذلك الكتاب. ولما كان هذا حاله، فَلَكَ أن تتصوّر: كم من الفوائد التي ستكون بين يدي طلاب العلم لو أنّ كلّ عالمٍ كتب ما يتحصَّل له من التدبّر أو المشكلات أثناء قراءته لكتاب الله تعالى! الأمر الرابع: ![]() إنّ القراءة بالليل من أنفع العبادات، وكم من عبادة لا تخرج لذّتها للعابدين إلا في وقت الظلمة؛ لذا كان أهم أوقات اليوم الثلث الأخير من الليل؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان ثلث الليل الآخر يَنْزِل ربُّنا إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟…»[4]. وكثيرًا ما نغفل عن عبادة الليل خصوصًا في رمضان -مع ما يحصل منّا من السهر- وتلك غفلة كبيرة لمن حُرِم لذّة عبادة الليل. فَشَمِّرْ عن ساعد الجِدِّ، وأدرِكْ فقد سبَق المشمِّرون قبلك، ولا تكن في هذه الأمور ذيلًا بل كن رأسًا، واللهُ يوفقني وإياك لما يحب ويرضى. ولو رتَّب المسلم لنفسه برنامج قراءة للقرآن كلّ ليلة؛ لارتبط بعبوديةٍ لله، ولم يكن في لَيلِهِ من الغافلين، لا جعلني اللهُ وإياك منهم. ومما قد يغيب عن أذهاننا في أيامنا هذه أيامِ الإضاءةِ الليلية التي قلبَت الليلَ إلى نهارٍ، فانقلبَتْ بذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها بجعلهِ الليل لهم سُباتًا يرتاحون فيه، أقول: إنه قد يغيب عنا لذّة العبادة في الظُّلْمة؛ لذا لو جرَّب المسلمُ قراءةَ القرآن مِن حفظِه أو الصلاة النافلة الليلية بلا إضاءة، فإنّ في ذلك جمعًا لهمِّه، وتركيزًا لنفسه؛ لأن البصر يُشْغِل المرءَ في قراءته أو صلاته. ومن جرَّب العبادة في الظُّلمة وجدَ لذّة تفوق عبادته وهو تحت إضاءة الكهرباء. الأمر الخامس: ![]() إِنّ من فوائد صلاة التراويح في رمضان سماع القرآن من القُرّاء المتقنين، ومن أصحاب الأصوات الندِيَّة، الذين يقرؤون القرآن ويؤثِّرون بقراءتهم على القلوب، فتراك تجد بقراءتهم أثرًا في قلبك، فاحرص على من يتَّصف بهذه الأوصاف، واعلم أنّ الناس في قبول الأصوات ذوو أذواق، فلا تَعِبْ قارئًا لأنه لا يُعجِبك؛ فإن ذلك من الغِيبة بمكان، لكن احرص على مَنْ تنتفع بقراءته، وهذا مطلب يُحْرَص عليه، ومقصد يُتوَجَّه إليه. وهاهنا استطرادٌ من باب الفائدة والتذكير أُوَجِّهُهُ إلى الكرام أئمة الصلوات الذين يؤمُّون الناس في التراويح الذين مَنَّ الله عليهم بما أعطاهم من الحفظ وحُسن الصوت والقدرة على الأداء المتميِّز في القراءة والتأثير على الناس، أقول لهم: احرصوا على أن يكون تأثيركم على الناس في سماعهم لكم قراءةَ كلام ربكم، وإياكم أن يكون تأثيركم عليهم في دعاء القنوت فقط، فإنَّ في ذلك خللًا كبيرًا، وأنتم حين تعمدون إلى ذلك تغرسون في الناس ذلك الخلل؛ إِذْ كيف يكون تأثُّر الناس بكلام الناس، ولا يكون تأثُّرهم بكلام ربِّ الناس، سبحان الله! أليس ذلك أمرًا عجيبًا يحتاج إلى مدارسة وَحَلٍّ له؟! ألستم تلاحظون الاستعداد النفسي لبعض الأئمة ولكثير من المصلِّين للقنوت أكثر من استعدادهم لسماع كلام ربهم؟! ألا تلاحظون أنَّ بعض الأئمة يغيِّرون طبقات صوتهم، ويُلحِّنون في قنوتهم استجلابًا لقلوب المأمومين، ودعوة لهم إلى البكاء والخشوع؟! أين ذلك كلّه حال قراءة كلام الله سبحانه؟! أين ذلك حال سماع كلام الله سبحانه؟! ذلك ما تُسْكَب له العَبَرات، وتخشع له النفوس الصالحات، وتَخِفُّ به الأرواح الطاهرات، فاحرص على الخشوع والتأثّر بكلام ربك الذي تكلَّم به فوق سبع سماوات، وسمعه منه جبريل رسول ربِّ البريَّات، وأدَّاه كما سمعه لخير الكائنات محمد، وها أنت تسمع من إمامِك ما تكلَّم اللهُ به في عليائه، أفلا يكون ذلك كافيًا في حضور القلوب، واقشعرار الجلود ثمَّ ليونتها بعد ذلك، وطمأنينة النفوس؟! إنه كلام الله، إنه كلام الله، فأدرِكْ معنى هذه الكلمة أيها المسلم. الأمر السادس: ![]() يسأل كثيرون عن كيفية التأثر بالقرآن، ولماذا لا نخشع في صلواتنا حين سماع كلام ربِّنا؟ ولا شكَّ أنّ ذلك عائدٌ لأمور، من أبرزها أوزارنا وذنوبنا التي نحملها على ظهورنا، لكن مع ذلك فلا بدَّ من وجود قدرٍ من التأثّر بالقرآن، ولو كان يسيرًا، فهل من طريق إلى ذلك؟ إنَّ البُعد عن المعاصي، وإصلاح القلب، وتحليته بالطاعات هو السبيل الجملي للتأثّر بهذا القرآن، وعلى قدر ما يكون من الإصلاح يبرز التأثُّر بالقرآن. والتأثّر بالقرآن حال تلاوته يكون لأسباب متعددة؛ فقد يكون حال الشخص في ذلك الوقت مهيَّأً، وقلبه مستعدًّا لتلقِّي فيوض الربِّ سبحانه وتعالى. فمن بكَّر للصلاة، وصلى ما شاء الله، ثمَّ ذكر الله، وقرأ كتاب ربِّه، ثمَّ استمع إلى الذِّكر فإنَّ قلبه يتعلّق بكلام الله أكثر من رجلٍ جاء متأخِّرًا مسرعًا خشية أن تفوته الصلاة، فأنَّى له أن تهدأ نفسه ويسكن قلبه حتى يدرك كلام ربِّه، ويستشعر معانيه؟! ومن قرأ تفسير الآيات التي سيتلوها الإمام واستحضر معانيها؛ فإنَّ تأثره سيكون أقرب ممن لا يعرف معانيها. ومن قدَّم جملة من الطاعات بين يدي صلاته؛ فإنَّ خشوعه وقرب قلبه من التأثّر بكلام ربِّه أَوْلَى ممن لم يفعل ذلك. وإِنّك لتجد بعض المسرفين على أنفسهم ممن هداهم اللهُ قريبًا يستمتعون ويتلذذون بقراءة كلام ربهم، وتجدهم يخشعون ويبكون، وما ذاك إلا لتغيُّر حال قلوبهم من الفساد إلى الصلاح، فإذا كان هذا يحصل من هؤلاء فحريٌّ بمَن سبقهم إلى الخير أن يُعزِّز هذا الجانب في نفسه، وأن يبحث عن ما يُعِينه على خشوعه وتأثره بكلام ربِّه. الأمر السابع: ![]() يسأل كثيرٌ من المسلمين، كيف أحافظ على طاعاتي التي منَّ الله عليَّ بها في رمضان، فإنني سرعان ما ينقضي الشهر أَبْدَأُ بالتراجع عن هذه الطاعات التي كنت أجد لذةً وحلاوةً في أدائها؟ إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد رسم لنا منهجًا واضحًا في كلّ الأعمال، وقد بيَّنه بقوله: «أَحَبُّ الأعمال إلى الله أدومُها وإن قَلَّ»[5]، ولو عملنا بهذا الحديث في جميع عباداتنا لحافَظْنا على الكثير منها، وَلَمَا صِرْنا كالمُنْبَتِّ؛ لا أرضًا قَطع، ولا ظَهرًا أبقى. فلو اعتمد المسلم في كلّ عبادة عملًا يوميًّا قليلًا يزيد عليه في وقت نشاطه، ويرجع إليه في وقت فتوره؛ لكان ذلك نافعًا له، فالمداومة على العبادة -ولو كانت قليلة- أفضل من إتيانها في مرات متباعدة أو هجرانها بالكلية. فمن أدَّى فرائضه، والتزم بالسنن الرواتب، ثمَّ زاد عليها من أعمال العبادة ما شاء، فإنه يدخل في محبوبية الله التي قال فيها: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه». ففي صلاة الليل يحرص أن لا ينام حتى يصلي ثلاث ركعات، ولو كانت خفيفات، فإن أحسَّ بنشاط زادَ، وإلا بقي على هذه الثلاث. وفي قراءة القرآن يعتمد قراءة جزءٍ كلّ يوم، حتى إذا بلغ تمام الشهر، فإذا به قد ختم القرآن. وفي الصيام يعتمد ثلاثة أيام من كلّ شهر، وإن استطاع الزيادة زادَ، لكن لا ينقص عن الأيام الثلاثة. وفي النفقة يعتمد مبلغًا -ولو يسيرًا- بحيث لا يمرُّ عليه الشهر إلا وقد أنفقه. وهكذا غيرها من العبادات، يَعتمِد القليلَ أصلًا، ويزيد عليه في أوقات النشاط، فإذا قصرَتْ همَّـتُه رجع إلى قَلِيلِه، فيبقى في عباداته من غير كَلَفَة ولا مشقّة ولا نسيان وإهمال، أسألُ اللهَ أن يوفقني وإياكم إلى ما يحبُّ ويرضى، ويجعلنا من أهل القول والعمل. وإذا تأملْتَ رمضان وجدته أشبه بمحطَّةٍ يتزوَّد منها الناس وَقُودهم، وهو محطة الصالحين الذين يفرحون ببلوغه فيتزوّدون منه لعباداتهم في الدنيا، ولجنَّتهم في الأخرى، وهو محضن تربوي فريد يدخله كلّ المسلمين، مُصلِحيهم وصالِحيهم وعُصاتهم، فهلَّا استطَعْنا اغتنام هذا الشهر؟! وأخيرًا: ![]() أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يرفع البلاء عن هذه الأمة، وأن يهدي قادتها لما يُحبُّ ويرضى، وأن يُرينا في هذا الشهر انتصاراتٍ للمسلمين في كلِّ مجال من مجالات الحياة، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين. ========================== [1] نُشرت هذه المقالة بملتقى أهل التفسير بتاريخ 2 /9 / 1424هـ - 27 /10 / 2003م. (موقع تفسير). [2] انظر: جامع البيان (3/ 190). [3] رواه البخاري (6464). [4] رواه أحمد (16745)، وابن خزيمة في «التوحيد» ص(133)، والنسائي في الكبرى (10321). [5] سبق تخريجه. ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() ٤٥ فائدة من كتاب " تكرار الفاتحة : القوة الكامنة "* د. إبراهيم الدويّش (2) ١. سورة الفاتحة : اشتملت على التعريف بالمعبود بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا ومدارها عليها (الله، الرب، الرحمن ) ابن القيم ٢. في الفاتحة وسيلتان عظيمتان لا يكاد يرد معهما الدعاء: توسل بالحمد والثناء على الله توسل لله بعبوديته ٣. بسم الله: استعانتك بحول الله وقوته في إنجاز أي عمل ، متبرئا من حولك وقوتك فتذكر هذا المعنى فهو وقود ودافع لكل خطوة في حياتك ٤. بسم الله حتى تجد أثر الفاتحة من بدايتها وبدقائق حياتك عظِّم ربك وأنت تقول ( بسم الله) ليصغر كل شيء في دنياك ٥. بسم الله نحفظ أنفسنا من كل سوء ونحفظ ذرياتنا من شر الشيطان الرجيم ٦. الحمد لله ![]() { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } أليست كلمة ( الحمد لله ) دارجة على الألسن كال تنفس للهواء اليوم؟ إنها تبعث في النفوس القوة ، فحملة العرش ومن حوله يستقوون بتسبيحهم بحمد ربهم ، ونحن بأمس الحاجة للاستقراء بها في رحلة الحياة الدنيا وفواجعها ٧. الحمد لله الحمد للاستغراق ، لاستغراق أنواع المحامد كلها ، فله سبحانه الحمد كله أوله وآخره ٨. الحمد لله وهو المستحق الحمد المطلق لأن له وحده الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ٩. الحمد لله على نعم لا تٌحصى ، وأرزاق تترى وأخرى نراها ، وأخرى تخفى الحمد لله بالجنان قبل اللسان وبالأفعال والأركان الحمد لله في السراء والضراء في الشدة والرخاء طمأنينة في القلب ورضا في النفس وانشراح في الصدر واحتساب وأجر ١٠. أيها المصلي تأمل وأنت تتلو ( الحمد لله رب العالمين ) أعمل العقل وقلّب النظر تأمل، تفكر،تدبر كم بهذا الوجود مما نراه من صنوف بفضله شاهدات ١١. رب العالمين ![]() " دلّ على انفراده سبحانه بالخلق والتدبير والنعم وكمال غناه وتمام فقر العالمين إليه بكل وجه واعتبار " السعدي فأعلن فقرك لربك في كل مرة تقرأ فيها هذه السورة لتذوق السعادة الأبدية ١٢. الرحمن الرحيم كيف وأنت كمسلم تكررها عشرات المرات في يومك فتشعر أن ظلال الرحمة يحوطك من كل اتجاه وتكرار الآية يرسخ في عقلك الباطن أنك كبشر تتعامل مع رب رحيم ١٤. الرحمن الرحيم الأمر لا يقف عند حد الثناء لله تعالى بل هو أيضاً دعاء واستحداث وطلب متكرر بأن : يارب ،،، يارحمن ،،،، يا رحيم أدخلني برحمتك التي وسعت كل شيء فلا غنى لي عنها لحظة ولا طرفة عين ولا أقل من ذلك فالزمن صعب والدنيا دار هموم وغموم ودار بلايا ورزايا آلامها ومصابها ، وتقلباتها ومفاجأتها متتاليات لا تنتهي ولولا دوام رحمة الله بك لهلكت ١٥. تأمل : روعة الدمج بين الثناء والدعاء وأنت تردد ( الرحمن الرحيم ) كدعاء غريق مضطر يعرف يقينا أنه هالك لولاها ١٦. الرحمن على وزن فعلان يدل على السعة والشمول فهي أشد مبالغة من الرحيم ١٧. الرحمن اسم خاص بالله تعالى لا يجوز تسمية غيره به متضمن لصفات الإحسان والجود والبر أي يرحم جميع الخلق المؤمنين والكافرين في الدنيا ، وذلك بتيسير أمور حياتهم ومعيشتهم والإنعام عليهم بنعمة العقل وغيرها من نعم الدنيا ١٨. الرحيم ![]() خاص بالمؤمنين فيرحمهم في الدنيا والآخرة ١٩. ذكر الرحمن ٥٧ مرة في القران وذكر الرحيم ١١٤ مرة ، أي ضعفها ٢٠. إذا كنت تثني على الله ، وتطلب منه الرحمة بهذا الإلحاح والتكرار اليومي فسيكون لها أثر في سلوكياتك وتعاملاتك فطريق الرحمة وبابها أن ترحم أنت أيضاً ، فاتصف بالرحمة مع الناس واعمل بها كُن رحيما تُرحم ٢١. الرحمن الرحيم املأ جنبات نفسك طمأنينة وراحة وثقة وأملا مادمت تكررها وتتدبر أسرارها ٢٢. مالك يوم الدين أما والله إن الظلم لؤم إلى ديان يوم الدين نمضي وما زال المسيء هو الظلوم وعند الله تجتمع الخصوم ٢٣. يوم الدين أمل الصابرين والمحتسبين الذين جاهدوا أنفسهم على ترك المعاصي والسيئات وصبروا عن الشهوات وصبروا على أقدار الله المؤلمة في الدنيا ٢٤. يوم الدين ![]() عزاء للمظلومين والمحرومين يوم تجتمع الخصوم لعلك تدرك هذا السر العظيم الذي سيثمر الصبر والرضا والتسليم وتهدأ آلامك وجراحك وأحزانك ودموعك بل سيعينك على تحمّل الظلم الذي تقاسيه ، والحرمان الذي تعيشه في الدنيا لأنك تعلم أنك منصور ٢٥. ( مالك يوم الدين ) هل سيجرؤ مسلم يردد هذه الآية أن يبخس حق أحد أو أن يظلم أحد أو أن يعتدي على عرض أحد ٢٦. ( مالك يوم الدين ) قراءة هذه الآية يقرع جرس الإنذار عند كل تعامل مع الآخرين أن تنبه ،،، احذر ،،،، لا تغفل ،،،،، لا تنسٓ ،،،،، ٢٧. مالك يوم الدين كأن سورة الفاتحة تصرخ في ضمائرنا يوميا مرات تذكروا يوم الدين ، وذكٍّروا الظالم بيوم الدين ٢٨. إياك نعبد وإياك نستعين قدم العبادة على الاستعانة ١. لشرفها لأن الأول غاية والثاني وسيلة لها ٢. تقديم العام على الخاص ٣. تقديم حقه تعالى على حق عباده ٤. توافق رؤوس الآي ٢٩. وإياك نستعين أنفع الدعاء طلب العون على مرضاته وأفضل المواهب إسعافه لهذا المطلوب " تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في ( إياك نعبد وإياك نستعين ) " ابن تيمية ٣٠. أيها المصلي وأنت تردد ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ![]() هل تشعر بأنك تطلب العون حقاً ممن بيده ملكوت السماوات والأرض ؟ هل تشعر بأنك صاحب توحيد وشجاعة ؟ وأنك قوي القلب عزيز النفس ؟! هل تشعر بأنك قوي بالله ؟! اللهم اجعلنا أفقر خلقك إليك ، وأغنى خلقك بك اللهم أعنا وأغننا عمن أغنيته عنا اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ٣١. اهدنا الصراط المستقيم إذا كثرت الأقاويل ، واشتد الخلاف وتنازلت الملل والفرق والأحزاب وانتشرت الخرافات إذا اشتدت المحن وكثرت الفتن ونزلت الهموم والغموم وتتبع الناس الأبراج والنجوم إذا ضاقت الأنفاس واشتد القنوط واليأس وحلّ الضر والبأس وسيطر الشك والوسواس ليس لك إلا أن تردد ( اهدنا الصراط المستقيم ) ٣٢. حاجة العبد إلى الهداية ( فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه ، بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات ، والموت لا مفر منه ، فإذا كان من أهل الهدى كان سعيدا قبل الموت وبعده وكان الموت موصلا للسعادة الأبدية ، وكذلك النصر إذا قُدّر أنه غلب حتى قُتِلَ فإنه يموت شهيدا وكان القتل من تمام النعمة ، فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق ،، بل لا نسبة بينهما ) ابن تيمية ٣٣. الهداية هي الحياة الطيبة وأُسُّ الفضائل ولجام الرذائل بالهداية تجد النفوس حلاوتها وسعادتها ، وتجد القلوب قوتها وسر خلقها وحريتها ٣٤. الهداية لها شرطان : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ٣٥. (من أكبر المنن أن يٌحبب الله الإيمان للعبد ويزينه في قلبه ويذيقه حلاوته وتنقاد جوارحه للعمل بشرائع الإسلام ويبغض إليه أصناف المحرمات) ابن سعدي ٣٦. اهدنا الصراط المستقيم ![]() (هذا أجلّ مطلوب وأعظم مسؤول ، ولو عرف الداعي قدّر الداعي هذا السؤال لجعله هجّيراه ، وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه ، ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة ، لا يقوم غيره مقامه ، ومن ثَمّ يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها) ابن القيم ٣٧. ( لهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة ، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته ، وترك معصيته ، فلم يصبه شرّ لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان ، وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة ، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب ، ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه ، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء ) ابن تيمية ٣٨. ( من هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل كتبه هُدي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت العبد على هذا الصراط في هذه الدار ، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على هذا الصراط فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا الصراط ، حذو القذة بالقذة " جزاء وفاقا ". ) ابن تيمية ٣٩. غير المغضوب عليهم ولا الضالين " من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى " " لما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان لهما ضدان: الضلال والغضب ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه" ابن القيم ٤٠. الفاتحة نور وسرور قال صلى الله عليه وسلم ( لن تقرأ بحرف منها إلا أُعطيته ) وفي الحديث القدسي ( هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) فيه بشارة عظيمة : من قرأ الفاتحة بصدق وإخلاص وحضور قلب يعطيه الله ما جاء من الفاتحة من مطالب سامية ودرجات رفيعة ٤١. الفاتحة أم القران " هي الكافية تكفي عن غيرها ولا يكفي غيرها عنها " ابن تيمية ٤٢. لماذا هي أم القرآن ؟ ١. اشتمالها على كليات المقاصد والمطالب العالية للقرآن ٢. اشتملت على أصول الأسماء الحسنى ٣. اشتملت على كليات المشاعر والتوجيهات ٤٣. سيصبح للحياة طعم آخر وأنت تردد الفاتحة بفهمك الجديد لمكامن القوة فيها ٤٤. لم سميت القرآن العظيم ؟ ![]() لتضمنها جميع علوم القرآن ، وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص والاعتراف بالعجز والابتهال إليه في الهداية وكفاية أحوال الناكثين القرطبي ٤٥. توسل ووسيلة في الفاتحة وسيلتان عظيمتان لا يكاد يرد معهما دعاء التوسل بالحمد والثناء على الله التوسل إليه بعبوديته فهل أنت حاضر القلب والفكر بأنك فعلا تتوسل بهاتين الوسيلتين كل يوم وليلة سبع عشرة مرة لا شك أن ذلك سيكون له أثر في حياتك ودقائق تفاصيلها ======================= * منقول من موقع مثانى القرأن ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() تألُّهٌ في محراب عظمة القرآن الكاتب : كريم حلمي (3) تكتنف العظمةُ كتابَ الله العزيز من كلّ جوانبه، وحول بعض جوانب هذه العظمة تدور هذه المقالة، لافتةً النظرَ إلى بعض ما اختصَّ الله -عزّ وجل- به كتابه المجيد. تخيّل أننا الآن نسير سويًّا مع بني إسرائيل في ممشى بقلبِ بحرٍ عظيم ضربه موسى -عليه السلام- بعصاه فانفلق، فكان كلّ فِرْقٍ كالطود العظيم! أو أننا نقف في ساحة شاسعةٍ لنرى رجلًا يُقذف في نارٍ عظيمة، ثم لا يلبث أن يخرج منها بسكينةٍ بالغة، ليُقبِل على قومه تارة أخرى يدعوهم ويأمرهم وينهاهم! أو أننا نرى أوصال طير ممزقة مُفرّقة تهفو بعضها إلى بعض؛ لتلتئم وترفرف مقبلةً على إبراهيم -عليه السلام- لمَّا ناداها! تخيّل أننا نطوف بين جبال ثمود فنرى ناقةً تخرج من صخر أحدها، أو نتجول في ضواحي بيت لحم فنرى عيسى -عليه السلام- يُبرئ الأكمه والأبرص، ويَستحيل الطينُ في يده طيرًا يسبح بحمد الله في جوِّ السماء! تأمّل قدر العظمة التي يستشعرها مَن عاين هذه المعجزات! قدر الدهشة التي تسكن صدره، والإعظام الذي يملأ فؤاده، والعَجَب الذي يُذهب عقله! أتدري شيئًا؟! القرآن أعظم من كلّ هذا، وأعجب، وأكثر إدهاشًا! ![]() القرآن أعظم المعجزات التي أُرسل بها خاتم الأنبياء وأفضلهم -صلى الله عليه وسلم-. وهذا يدركه من صحّ عقله، وطَهُرَ قلبُه؛ لذلك لما أعرض المشركون عن القرآن ظُلمًا وعُلُوًّا، وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بآيةٍ مادية كبعض آيات الأنبياء السابقين التي ذكرناها، قال لهم ربهم -جلّ وعلا-: {أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. هل هناك ما هو أعظم أو أجلّ أو أحكم أو أرحم أو أبْيَن من القرآن ليكون معجزة وآية؟! تخيّل أن في غرفتك عصا موسى، أو في ساحة منزلك ناقة صالح -عليهما السلام-؛ مصحفك الذي أمام ناظريك هذا، والذي قد يكون علاه التراب، أعظم وأجَلّ وأشدّ إعجازًا. ولو قلّبتَ الطرف في أمر القرآن لوجدتَ أن العظمة تكتنفه من كلّ جانب. فانظر إلى عظمة مصدره ونقله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192- 195]، تأمل هذه السلسلة النورانية التي جاء منها القرآن إليك، ثم قل لنفسك: بَخٍ بَخٍ، أن شرّفها الله بسماع ِكتاب هذه حاله، والإيمانِ به. ![]() تأمل في جلالة لغته وجمال بيانه؛ نَظْمه أحسن من الدُرِّ في النِّظام، ألفاظه الزُّلال أو أرقّ، يسبي السمع ويملك القلب، تحدّى بفصاحته ملوك البيان وأمراء البلاغة أن يأتوا بمثله حُسنًا وبهاءً، أو بعَشْر سور منه، بل سورة واحدة، بل أن يجتمعوا كلّهم على ذلك وأن يَدْعُوا إنسهم وجِنّهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، لكن لمَّا أدركوا حقيقة إعجازه عجزت ألْسُنُهم عن المجاراة، فهل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزًا؟! أرادت قريشٌ من شيخها وفصيحها الوليد بن المغيرة أن يذُمّ القرآن وينكره، فقال: «وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم رجلٌ أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلَى عليه، وإنه ليَحْطِم ما تحته»[1]. وتأمل عِظَم تأثيره في النفوس، ولطف نفوذه إلى القلوب؛ جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليجادله في دينه، ويَدْعُوه إلى ترك ما هو عليه، فلما أنهى عَرْض صفقته، قال له النبي -صلى الله عليه ![]() وسلم-: (أَفَرغتَ يا أبا الوليد؟ اسمَعْ منِّي: ...)، فلم يزد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن تلا عليه صدر سورة فصلت؛ وإني لأرجو أن تقرأ صدر السورة وتتساءل ما الذي وقع في قلب الرجل؟! أَنْصَتَ الرجل إلى تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يزد على أن قام من مجلسه متغيّر الوجه، متبدّل الحال، فلمّا كلّم قومه فيما وقع في قلبه، قالوا له: «سحرك واللهِ يا أبا الوليد بلسانه». فالقوم قد رأوا تأثيرًا لا يعرفون له مرادفًا في معجم المعرفة البشرية سوى السحر أو نحو ذلك، تأثيرًا يبدّل الحال، ويغيّر الطبع، ويطهّر القلب، وقد كانوا يخافون من تطهير القرآن على سواد قلوبهم، وعمى أهوائهم، يسيرون على طريق إخوانهم الأقدمين ومَن شابههم في كلّ عصرٍ وحين: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، فكان رؤوس الكفر يتواصَون فيما بينهم: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، فإنكم لو سمعتموه حق السمع وفتحتم له أبواب أفئدتكم، غزاها وأنار ظلماتها وأَلان قسوتها. مَرَّ جُبَير بن مطعم -رضي الله عنه- بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، وكان جُبَير يومئذ على الكفر، فسمع النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة الطور، يقول: «فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35- 37]، قال: كاد قلبي أن يطير». ![]() دعك من تأثيره على قلوب البشر، حتى الجن، حارت عقولهم وخُلبت أسماعهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]. وكذلك الملائكة، ما تطيق انقطاعًا عن القرآن أو نأيًا عنه؛ قرأ أُسيد بن الحُضير -رضي الله عنه- القرآن ذات ليلة بصوته النديّ الشجيّ، فكان كلما قرأ رأى في السماء مثل الظُّلة فيها أمثال السُّرُج، فلما قصّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأْتَ لأصبحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم)[2]. بل حتى الجمادات: الصخر، الجبال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، فإذا علمتَ ذلك أيقنتَ أن هناك أقوامًا يصدق فيهم -حقًّا- قول ربنا: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]. وإن شئتَ تأمّل في عِظَم أثره في حياة الناس، في دنياهم وآخرتهم، وهو سراج الكون الذي أضاء به من بعد ظلمة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} ![]() [الأنعام: 122]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: «يعني بالنور: القرآنَ». انظر كيف بدّل وجه الأرض، وغزا ربوع الدنيا، كيف عمد إلى خَلْقٍ كانوا أذلّ قوم، يسجدون للحجارة ويَدْعُونها ويسألونها، يسفكون الدماء، فصيَّرهم خير الناس هديًا، وأحسنهم سمتًا، وأعقلهم قولًا، وأعدلهم حكمًا، وأعزّهم ذِكرًا، مَلّكهم رقاب الملوك، ومَكّنهم من قلوب العباد. إِي واللهِ، صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)[3]. انظر كيف يشفي الصدور ويداوي الهَمَّ ويبدد وحشة الحزن؛ ولأجْل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أصاب عبدًا هَمٌّ ولا حزنٌ، فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثَرْتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي. إلا أذهبَ اللهُ همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا)[4]. ![]() وإنْ شئتَ أَدِرْ بصرك في إحكام تشريعه، وجلال أحكامه، التي ما زالت الأمم يجتمع فلاسفتها وعقلاؤها قرنًا بعد قرنٍ على أن يأتوا بمثل ذلك، وما بلغوا معشاره، وانظر إلى شمول قوانينه واتساعها، تارة في أحكام الجهاد والدماء، وأخرى في الصلاة والزكاة والصدقة، ثم تجده يتكلم عن المواريث والحقوق المالية، ثم تسمعه يتكلم عن حقوق الزوجين، وأخلاقيات التعامل بينهما في الاجتماع والافتراق، وكلّ ذلك بلفظ بهيّ، وموعظة بالغة. وإن شئت تأمل عظمة حفظ الله وتدبيره له، وقد قال -سبحانه-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، قامت أمم وسقطت أمم، مرت القرون تلو القرون، والقرآن باقٍ محفوظ، متلوٌّ مسموع، معمورة به المساجد، مضيئة به ظلمات الليالي، جاريةٌ به دموع المآقي، قد جمع الله على خدمته أشرف خلقه في كلّ زمان، وتأمل مئات الأسماء المرقومة على كتب التفسير وعلوم القرآن المطبوعة فقط، تجدهم أحدَّ الناس من كلّ زمنٍ ذهنًا، وأرفعهم قدرًا، وأعلمهم بالمعقول والمنقول. وبعد كلّ ذلك، تأمل يُسْره على الألسنة والأسماع والقلوب، كما قال ربنا: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]، هذا القرآن الذي أعجز الفصحاء وأدهش الأدباء، واجتمع على بيانه وتفسيره ![]() واستخراج كنوزه العلماء من كلّ فنّ، هو هو الذي تراه في يد بائعة الفجل البسيطة التي تمر عليها صباحًا في طريقك إلى العمل، وتجدها تستمتع بتلاوته وتلتذ بحلاوته، يتهدّج صوتها حينًا، وتنهمل عينها أخرى، وما تشبع أبدًا! كيف تشبع وعثمان -رضي الله عنه- يقول: «لو طهرتْ قلوبُكم ما شبعَتْ من كلام ربكم»؟! يا خالة، أتعرفين ما (غسّاق)؟ أم تدركين ما (مجذوذ)؟ هل انتبهتِ أن ههنا كناية؟ وأن (إنّ) ههنا لما اجتمعت مع اللام أفادت توكيدًا شديدًا؟ الخالة قد لا تعرف شيئًا من ذلك، لا تفقه كثيرًا من لسان العرب، لكنها تحسن لغة القلوب الصافية والفِطَر الطاهرة، فوقع بها في فؤادها ما قد لا يفهمه كثيرٌ من العالمين بفنون اللسان. بل قد تجد مِنَ الأعاجم مَن لا يفهم أكثر لفظ القرآن، ثم إذا قرأه قراءة المؤمن بعظمته وجلال المتكلم به وجدتَ هيبة الخشوع تعلوه، ولمستَ فيه تأثرًا بالغًا يصل إلى شغاف قلبك، ورأيتَ سكينة نورانية لا تخطئها البصيرة. وهذا كلّه غيض من فيض، ويسير من كثير، هذا شيء مما في القرآن المسطور بين دفتي مصحفك، أعلمتَ الآن شيئًا من أسباب كونه أجلَّ من طير إبراهيم، وأعظمَ من عصا موسى، وأعجبَ من ناقة صالح، على نبينا ![]() وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم؟! ها قد علمتَ، فماذا أنت بفاعل؟ فسَلْ نفسك، ما فعلتَ في هذه المعجزة التي بين يديك كلّ يوم؟ هل عظَّمتها بما تستحق أم هضمتَ حقها وهجرتَ حروفها؟ هل أعملتَ معاول الجد في تهيئة وادي الصدر ليجري القرآن ربيعًا لقلبك؟ أم سألتَ الله ذلك ثم بنيت سدودًا من الصدود، وحواجز من الهجران، حتى توشك زهرة قلبك أن تذبل إِذْ مُنعَتْ عنها الحياة، وحُجِبَتْ عن النور؟ لو تأمل العاقل ما ذكرناه وأكثر لمَا فرّط في القرآن أبدًا، لمَا انقطع عن رسالة ربه إليه، لمَا شبع من قراءته اليوم بعد اليوم، يطهّر بذلك قلبه، وينفي عنه به أدران الدنيا، ويُضيء به ظلمات الحياة. لو استشعر المؤمن هذه العظمة وذلك الجلال، لانشغل بالقرآن تلاوة، وحفظًا، وتدبرًا، وتخلّقًا، وعملًا؛ وكلما فعل فُتحت له أبوابٌ من الأنوار والأسرار والفتوحات والهدايات لم يكن ليتصورها أبدًا، وقد سطر لنا التاريخ أخبار أقوامٍ من أهل العلم، اشتغلوا بالقرآن زمنًا حتى قد يظنّ الظانُّ أنهم قد بلغوا منتهى درره، وغاية كنوزه، ولُجَّة بحره، ثم لمَّا طالت خلوتهم بالقرآن في نهاية أعمارهم قال قائلهم -وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه-: «ندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن»! =============================== [1] أخرجه الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه، ووافقه الذهبي. [2] رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. [3] رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. [4] رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، بإسناد صحيح. ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد مختارة من كتاب " المواهب الربانية من الآيات القرآنية "* للشيخ عبدالرحمن السعدي (4) [١] {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} كل من كان في عبادة الله فهو في ذكر الله، ومن ترك منهيّا لله فهو في ذكر الله .المواهب الربانية ص ١٨ أعم من قوله " في سفر " ليدخل فيه من أقام في بلد أو برية ولم يقطع سفره، بل هو على سفر ، وإن لم يكن في سفر المواهب الربانية ص١٤ [٣] { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ...} ![]() فائدة من ذكر (بأنفسهن)لأن هذه المدة المحدودة للتربص مقصودة لمراعاة حق الزوج والولد ، ومع القصد لبراءة الرحم . فلا بد من أن تكون في هذه المدة منقطعة انظر عن الرجال ، محتسبة على زوجها الأول ، لا تُخطب ولا تتجمَّل للخطاب ، ولا تعمل الأسباب في الاتصال بغير زوجها . السعدي المواهب الربانية ص١٦ [٤] ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: ٣٢] لا يمنع الله تعالى عبده شيئا إلا فتح له بابا أنفع له منه وأسهل وأولى السعدي المواهب الربانية ص٢٢ [٥] {بعد وصية يُوصى بها أو دين } النساء ١١ { من بعد وصية توصون بها أو دين } النساء ١٢ { من بعد وصية يوصين بها أو دين } النساء١٢ فاتفقت على إطلاق الدين وتقييد الوصية بحصول الإيصاء بها، وهذا يدل على أن الدَّين مقدم على حقوق الورثة وغيرهم مطلقا سواء وصى المدين بقضائه أو لم يُوصِ ، وسواء كان دَيْنا لله أو للآدميين ، وسواء كان به وثيقة أم لا ، وأما الوصية فشرط الله في ثبوتها أن يوجد الإيصاء بها ... السعدي المواهب الربانية ص٢٢ [٦] قوله تعالى ( إنما المشركون نجس ) ![]() يدل على أن قوله تعالى ( وطهر بيتي للطائفين ) عام لتطهيره من النجاسات الحسية والمعنوية . المواهب الربانية ص ٢٩ [٧] (يوم يُحْمَى عليها في نار جهنم ) ولم يقل "تحمى في نار جهنم" ؛ ليدل على أنها مع حرارة نار جهنم تستعمل لها الآلات المحمية كالمنافيخونحوها فيضاعف حرها ، ويشتد عذابها . ص ٣٠ [٨] (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) ذكر المفسرون أن ذلك لأنه إذا جاءهم الفقير السائل صعّر أحدهم بوجهه، فإذا أعاد عليه ولّاه جنبه ، فإذا ألحّ عليه ولّاه ظهره ،فاختصت هذه الثلاث لذلك جزاء وفاقا . وظهر لي معنى أولى من هذا : وهو أن كي هذه المواضع الثلاثة هي أشد على الإنسان من غيرها ، وهي متضمنة لجهاته الأربع : الأمام والخلف واليمين والشمال . وهذه الوجوه التي يخرج منها الإنسان ، فلما منعوا الواجب عليهم منعا تاما من جميع جهاتهم ؛ جوزوا بنقيض مقصودهم ؛ فإن مقصودهم من المنع التمتع بتلك الأموال ، وحصول النعيم بها ، وخوف وحرارة فقدها لو بذلوها ؛ فصار المنع هو عين العذاب ، فَلَو أخرجوها وقت الإمكان لسلموا من كيها ، وفازوا بأجرها. ص ٣٠ - ٣١ [٩] ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: ١٧٢- ١٧٤] نية العبد تقوم مقام عمله : وإذا أحسن العبد في عبادة ربه ، ووطن نفسه على الأعمال الفاضلة الشاقة ؛ سهل الله له الأمور ، وهوّن عليه صعابها ، وربما انقلبت المخاوف أمنا ، وتبدلت المِحنة منحة ، وربما حصل من آثار ذلك خير الدنيا والآخرة . ![]() وفي الآية دليل أيضا على أن الله يُحدث لعبده أسباب المخاوف والشدائد ليُحدث العبد التوكل على ربه ، والإخلاص والتضرع ؛ فيزداد إيمانه ، وينمو يقينه . ص٣٩- ٤٠ [١٠] ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ) العزم الذي مدح الله به خيار خلقه هو : قوة الإرادة وحزمها على الاستمرار على أمر الله ، والهمة التي لا تني ولا تفتر في طلب رضوان الله وحسن معاملته ،وتوطين النفس على عدم التقصير في شيء من حقوق الله النقص إنما يُصيب العبد من أحد أمرين : إما من عدم عزمه على الرشد الذي هو الخير ، وإما من عدم ثباته واستمراره على عزمه ولهذا كان دعاء النبي ﷺ ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ) من أنفع الأدعية وأجمعها للخيرات ، فمن أعانه الله على نية الرشد والعزيمة عليها والثبات والاستمرار ؛ فقد حصل له أكبر أسباب السعادة . ص٤٢ [١١] (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ) فيها فضيلة التأدب بالآداب الشرعية ، وأنها رفعة عند الله ، ولو ظنها الإنسان منقصة .[ [١٢] الظاهر أن قوله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) تفسير لقوله تعالى ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) فالسماء منها مادة الأرزاق، والأرض محلها وموضعها.[ ص ٤٣ [١٣] (وإن يتفرقا يُغنِ الله كلا من سعته) اذا انغلق عليه باب وسبب من الأسباب التي قدّرها الله لرزقه ، فلا يتشوش لذلك ، ولا ييأس من فضل الله ، فيرجو الذي أغلق عليه هذا الباب أن يفتح له بابا من أبواب الرزق أوسع وأحسن من الباب الأول . بتصرف ص ٤٥ (يغن الله كلا من سعته) ولم يقل يُغنها ، مع أن السياق يدل عليه، لئلا يتوهم اختصاصها بهذا الوعد، وإنما الوعد لها وله، فائدة : من انقطع رجاؤه من المخلوقين ، ومن كل سبب ، واتصل أمله بربه ، ووثق بوعده ، ورجا بره ، فإن الله يغنيه ويقنيه ، ص٤٥ [١٤]﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠] ![]() سعي الإنسان في دفع أسباب التهمة السيئة عن نفسه والعار والفضيحة ليس بعار، بل ذلك من سيماء الأخيار . ص ٥٢ [١٥] {وتوكّل على الحي الذي لا يموت } إذا حقق العبد التوكل على الحي الذي لا يموت ؛ أحيا الله له أموره كلها ، وكفلها وأتمّها . ص ٥٢ [١٦] {وإنه لذكر لك ولقومك } من قام بالقرآن وتذكر به كان رفعة له ، وشرفا وفخرا ، وحسن ذكر وثناء . ص ٥٣ [١٧]يارب : أغلب أدعية القرآن مصدرة بالتوسل إلى الله بربوبيته ؛ لأنها أعظم الوسائل على الإطلاق التي تحصل بها المحبوبات وتندفع بها المكروهات . ص ٥٦ [١٨] {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } هذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بالحال قد يكون أبلغ من السؤال بلسان المقال . ص٦٥ [١٩] {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} ![]() الإخلاص لله تعالى من أعظم الأسباب لعون الله للعبد على جميع أموره ، ولثبات قلبه ، وعدم إنزعاجه عند المقلقات والشدائد . ص ٧٠ [٢٠] المؤمن حقا : هو الذي ينظر إلى قدر الله وقضائه ، وماله من العزة والقدرة ، ويعلم أن هذا لا تعارضه الأسباب وإن عظمت ، وأن نمو الأسباب ونتاجها متحقق إذا لم يعارضه القدر ، فإذا جاء القدر اضمحل عنده كل شيء ، ولكن الأسباب محل حكمة الله وأمره . ص٧٢ [٢١] {كل نفس بما كسبت رهينة ، إلا أصحاب اليمين} عمل الإنسان إما أن يكون سببا لارتهانه أو سببا لخلاصه ، بل الأصل أن الإنسان في حبس ، وأن عمله سيُرتهن ، لأنه ظلوم وجهول طبعا ، إلا من خلّصه الله من هذا ، ومنّ عليه بالصبر وعمل الصالحات . [٢٢] {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علمؤا بني إسرائيل } تدل على أن أهل العلم بهم يُعرف الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، فهم الوسائل بين الله وبين عباده ، ولهذا استشهد الله بهم على التوحيد وعلى النبوة ، وعلى صحة القرآن . ص٨٥ [٢٣] {وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به } بحسب إيمان العبد يزداد إيمانه عند تلاوة كتاب الله والحكمة ، وهذا أعلى ما يكون من الإيمان ، فإنه إيمان عن أكبر البراهين ، وإيمان عن بصيرة ، لا كإيمان ضعفاء المؤمنين ، الناشئ عن العادات والتقليد ، الذي هو عرضة للعوارض والعوائق . ص٨٩ [٢٤] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] ![]() من صفات المؤمنين الجليلة : أن الله يهديهم إلى الحق في المواطن المشتبهات ، وللصواب في محالّ المتاهات التي لا تحتملها عقول كثير من الناس ، ويزدادون إيمانا ويقينا في المواضع التي يزداد بها غيرهم ريبا وشكا . ص ٩٨ [٢٥] كمال العبد في تمام النعمتين : نعمة الدين ، ونعمة الدنيا ، فبهما تحصل السعادة العاجلة والآجلة . قال تعالى { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } وقد تضمن هذه الأمور الأربعة الدعاء الذي ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يدعو بهذا الدعاء ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ). [٢٦] ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: ٥] أبطل به قول من زعم أن لله ولدا من أربعة وجوه: ١. أنه قول بلا علم ؛ والمعلوم أن القول بلا علم من أعظم المختلقات . خصوصا في أعظم المسائل وهي التوحيد . ٢. أنها كلمة عظيمة شنيعة جدا لأنها متضمنة لشتم رب العالمين وسبه . ٣. أن قولهم هذا هو الكذب الصراح . ٤. ما يحصل به من مجموع هذه الأوجه ، فإن الهيئة الاجتماعية يحصل منها أثر ودلالة غير ما حصل لكل وجه على انفراده. بتصرف ص١٠٣-١٠٤ [٢٧] (اللطيف ) من لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه ، فيخرجهم من الظلمات إلى النور ، من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة .ص١٢٠ [٢٨] ومن لطفه : أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء ، التي هذا طبعها وديدنها ، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ، ويصرف عنهم السوء والفحشاء . فتوجد أسباب الفتنة ، وجواذب المعاصي ، وشهوات الغي ، فيرسل الله عليهما برهان لطفه ، ونور إيمانهم الذي منّ به عليهم ، فيدعونها مطمئنين لذلك ، منشرحة لتركها صدورهم . ص ١٢٠- ١٢١ [٢٩] ومن لطفه بعباده : ![]() أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم ، فقد يريدون شيئا وغيره أصلح . فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه ( الله لطيف بعباده يرزق من يشاء) بتصرف ، ص ١٢١ [٣٠] ومن لطفه : أنه يقدر عليهم أنواع المصائب ، وضروب المحن والابتلاء بالأمر والنهي الشاق ؛ رحمة بهم ولطفا ، وسوقا إلى كمالهم وكمال نعيمهم . ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) ص١٢١ [٣١] ومن لطفه : أن يأجره على أعمال لم يعملها بل عزم عليها ، فيعزم على قُربة من القرب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها . ص ١٢٦ [٣٢] ومن لطفه : أن يُقيّض لعبده طاعة أخرى غير التي عزم عليها ، هي أنفع له منها ، فيدٓعُ العبد الطاعة التي ترضي ربه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها . ص١٢٦ [٣٣] من لطفه : أن يُقّر الله خيرا وإحسانا من عبده ، ويُجريه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقا إلى وصوله للمستحق، فيثيب الله الأول والآخر . ص١٢٧[/COLOR] ======================== * منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() واجبنا نحو القرآن[1] محمد البشير الإبراهيمي (5) ولعَمري، لقد وُفّق هذا العالِم القرآني إلى الصواب فيما أجاب به؛ فالقرآن كتاب يحمل في ثِنْيَيْهِ دينَ الله الكامل، وكلُّ ما سبقه من الكتب والصحف فهي إرهاصات له، وبشارات به، وإشارات إليه. ابتعث به نبيَّه الأمين محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لهذا العالَم الإنساني كلّه، حين بلغ رشده الاجتماعي واستعد للكمال، واستشرف لسائق من وراء العقل يكون سندًا له إذا زلّ، وهاديًا له إذا ضلّ، ومصححًا لخطئه إذا أخطأ، ومخرجًا له من ظلمات الحيرة إذا التبست عليه مناهج الحياة، ومفسحًا له في آماله إذا ضَيّقت عليه هذه الحياة المحدودة حدود الآمال، ومحررًا له من أصناف العبودية الفكرية والبدنية التي تقلَّب فيها قرونًا، ومرشدًا إياه إلى وسائل الكمال التي كان يطلبها فلا يجدها. والآية الكريمة التي جعلها جوابًا لسائله بيان إلهي معجِز للحِكَم التي اقتضت نزول القرآن، والحِكَم التي نزل لبيانها القرآن، والمثُل العليا للكمال الإنساني الذي دعا إليه القرآن، متدرجة في وضعها البياني تدرجها الطبيعي من نفس سامعها؛ بلاغ، فإنذار، فعِلْم، فتذكّر. وأمثال هذا العالم من ربَّانِيِّي هذه الأمّة ممن درسوا القرآن وتدبروه ومارسوه وراضوا أنفسهم على بيانه، واستنبطوا منه الحِكَم التي أُنزل لتحقيقها، والعلوم التي جاء لتجليتها على الناس، يكون من خصائصهم هذه الملَكة، ![]() مَلَكة استعراض القرآن في مِثل ارتداد الطرف كلما تحرك لهم وجدان وأرادوا أن يَزِنوه، أو نَجَم في آفاق نفوسهم خاطر وأرادوا أن يصححوه، أو أُلقي عليهم سؤال وأرادوا أن يُجيبوا عليه. وما نظنّ بصاحبنا هذا أنه راعى القانون الاصطلاحي الجدلي في انطباق الجواب على السؤال، وإنما هي هيمنة القرآن على نفوس أصحابه، وإلهامها الإصابة في الرأي، والتسديد في الجواب، والفيح في الخصومة. فالسائل يطلب آية جامعة (لوظائف) القرآن، لا جرَم أن أول ما يخطر ببال المجيب أمثال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ...}[المائدة: 67] الآية، وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ...}[الأنعام: 19] الآية، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...}[الكهف: 110]، وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق: 45]، وغيرها من الآيات المبيّنة لأصول الدعوة القرآنية، ثم يلتمس راية تجمع هذه الأصول مع التنويه بهذا الكتاب الجامع لها، فيقع على تلك الآية أو ما شاكلها، والآيات الجامعة (لوظائف) القرآن كثيرة، ومن السهل السريع الوقوع عليها عند هذه الطائفة التي أوتيَتْ قوة الاستعراض. وقد يُسأل عالِم آخر فيقع على قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 138]، أو قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}[الجاثية: 29]. والكلّ مُصيب، رضي القانون الجدلي أم سخط، وإن كان هناك تفاوت بين الآيات في الإحاطة والبيان، فلكلّ جملة تزيد في آية موقعٌ ودلالةٌ، ولكلّ كلمة تزيد في جملة معنى وحالةٌ. أما أنا -ولا أعوذ بالله من كلمة أنا- فلو أُلقي عليّ هذا السؤال لتمردتُ على قوانين الجدال، وأجبتُ على المُغافَصَة والارتجال، ولم أَرْعَ إلَّا الاعتبار المناسب ومقتضى الحال، وجرَرْتُ السائل عن (وظائف القرآن) إلى (وظائف أهل القرآن مع القرآن)، وقلتُ للسائل: ضع على ظهر المصحف بالقلم العريض قولَه تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأنعام: 155]، وقولَه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، واجعلْ جملتي: {فَاتَّبِعُوهُ}، و{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} بين أقواس؛ عَلَّ هذه الأقواس المحنيّة تصيب مِن قارئه شاكلة انتباه فتزعجه إلى معرفة أن هاتين الآيتين هما جواز الداخل إلى أقطار القرآن، وعلَّ هذه القلوب القاسية تستشعر حقّ القرآن عليها ووظيفتها التي يجب أن تقوم بها نحوه، وهي التدبُّر لمعانيه واتّباعه. إنّ حقوق القرآن علينا من التدبر والاتّباع، هي التي يعروها ما يعروها من الإهمال والضياع، والتفريط والغفلة؛ فهي التي يجب التنبيه لها والتذكير بها دائمًا، والدلالة على مواقعها من آيات الكتاب العزيز، وهي التي يجب على العالِم القرآني أن يختار للتذكير بها أصرح الآيات في معناها، وأظهر الجمل في الدلالة عليها، وأقرب الألفاظ لأذهان الناس. ![]() وإذا قارنّا بين: {لِيُنْذَرُوا} وبين: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، وجدنا بينهما فرقًا جليًّا لا يُستهان به في مقام التذكير، والإبلاغ في التأثير؛ فإن الإنذار -وإن كان معناه الإعلام بالشيء مع التخويف من عواقبه- لا يستلزم التدبّر الذي هو انفعال نفساني ذاتي، يُفضي إلى النظر في أدبار الشيء وغاياته على وجه من التكلّف والتدرج يفيده بناء (تفَعُّل)؛ وأثر الإنذار تأثير خارجي، وأثر التدبّر تأثر ذاتي، والإنذار لا يشعر النفس ما يشعرها التدبّر من العهد المسؤول والأمانة الثقيلة. أما الاتِّباع فهو ثمرة التدبر، وهو الذي لا تتحقق الغايات التي يرمي إليها القرآن إلا به، وقد تكرّر ذكره في القرآن في معارض شتّى، تدلّ مُستعرضها على أنه هو سرّ التديّن والتألّه، وأنه المحقق للكمال، وأنه العاصم من الضلال والهلاك، فليتدبر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}[الأعراف: 3]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام: 153]، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31]، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}[لقمان: 15]، {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}[يس: 20]، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ...}[يس: 21]، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}[طه: 123]، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}[الجاثية: 18]، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي}[يوسف: 38]. ويا للعجب من بيان القرآن وبيّناته! وإعجازه بفنون إيجازه! إنّ الاتباع ضَرْب من قَفْوِ أثر الغير، وترسُّم خطاه والانقياد له، وجعْل الهوى تبعًا للهوى، مع اطمئنان بالمشاركة في النتيجة خيرًا كانت أو شرًّا؛ وفي معناه من الهُجْنة أنه ينافي الاستقلال الفكري في الفكريات، والذاتي في الذاتيات، فتجد القرآن يدفع عنك أثر هذه الهُجْنة العارضة، فيأمرك بالتدبر واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة في وظائفها الفطرية قبل أن يأمرك بالاتباع، حتى تطمئن إلى أنك إنما تتبع فيما فيه حَقّ وخير ورحمة، ثم إذا أمرك بالاتباع فإنما ذاك فيما يتعالى على فكرك إدراكه، أو يصعب عليك تمييزه، أو يخاف فيه غلبة الأهواء عليك، وبعد الأمر ينهى عن اتباع الهوى المضِلّ عن سبيل الحقّ، وعن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وعن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباع أولياء من دون الله، وعن اتباع السُّبل المتفرقة؛ توكيدًا للمعنى الإيجابي، وإيضاحًا للحقّ الذي يجب أن يتبع. إلَّا أنّ المتدبرين للقرآن لا يخرجون من هذا الاستعراض البديع إلا مؤمنين موقنين بأن الاتباع الذي يدعو إليه القرآن هو عين الاستقلال التام للفكر والإرادة والعقل والوجدان؛ لأنه يحميها من شرور الأهواء، ويؤويها إلى حِمَى الحقّ وحده، والاحتماء بالحق الذي قامت به السموات والأرض، واستقر عليه تدبير الكون ونظامه، استقلالٌ ما وراءه استقلال. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون: 71]، هذا حقّ القرآن علينا؛ يجب أن نتخذ الآيات المنبّهة عليه فواتح في المدارسة، وأن تتجاوب أصداؤها في جوانب نفوسنا؛ حتى لا ندخل حرمه إلا بعد أن نكون عرَفْنا حقه. إنه لم يمضِ على المسلمين في تاريخهم الطويل عصرٌ هم فيه أبعد عن القرآن منهم في هذا العصر، ولم يمضِ على الدعاة إلى الحق وقت عظمتْ فيه العُهْدة واستغلظ الميثاق مثل هذا الوقت، وإنه لا مَخرج لهم من هذه العُهْدة ولا تحلل من هذا الميثاق إلا بالدعوة إلى القرآن، فلا عجب -ونحن نشعر بثقل هذه الأمانة- من أن ترتفع أصواتنا بالدعوة إليه، وإنما العجب الذي لا عجب بعده أن نسكت أو نقصر! وإنّ مِن أحكمِ الوسائل لجذب الأمّة إلى القرآن، وصْفَ القرآن، وتشويقَ الناس إلى الإقبال عليه وتدبّره وفهمه. ![]() فمن التسديد في الرأي والمقاربة في العمل أن تُرْشَدَ الأمّة الإسلامية إلى معرفة ما ضيّعت من خير وما خسرت من هداية؛ بتضييعها للقرآن، وإنما تعرف ذلك ويبلغ مكامن الوجدان من نفوسها، مِن وصْفِه والإشادة بشأنه، والتنويه بجلاله وخطَره، والتنبيه على ما يحتوي عليه من العلوم الكثيرة بألفاظ قليلة، وتقريب ما ينطوي عليه من المرامي المفيدة بالكلمات القريبة، وشرح ما فيه من الحقائق المتفرقة بالجمل الجامعة، فإنّ ذلك يكون أدعى لرجوع النفوس الجامحة عنه إليه، وأعون على فَيْأَتِهَا إلى حِماه والاستظلال بظلّه والاستمساك بحبله. وليت شِعري، أيّ بيان يضطلع بهذا؟! إنّ وصْفَ القرآن وأساليب التشويق إلى القرآن لا توجد على أكملها في غير القرآن، فلو أن البلغاء من كلّ أمّة وفي كلّ جيل اجتمعوا على أن يصفوه ببعض ما وصف به نفسه، وكانت قلوبهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ، وألسنتهم على لسانِ رجلٍ واحدٍ لعجزوا وقعد بهم القصور دون الغاية من ذلك. ولقد وصفه جماعة من الباحثين في إعجازه وأسراره، والمتكلمين على قصصه وأخباره والمنقِّبين على مَثُلاته وعِبَره، والغائصين على نُكَت التناسب بين آيهِ وسُوَره؛ فجاؤوا بما يشبه قصورهم الإنساني لا بما يشبه كماله الإلهي! ووصَفه قبلهم أعداؤه اللُّد من مَضَغَةِ الشيح والقيصوم أوصافًا منصفة، فما بلغ هؤلاء ببلاغتهم، ولا أولئك بإيمانهم وعلومهم غايةً مما يريدون. وصَفه الوليد بن المغيرة فقال: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر»، فعبّر بهذا الوصف عن وجدانه النفسي وعن أثر القرآن في ذلك الوجدان؛ ولاتصال الشعور بالوجدان جاء هذا الوصف شِعريًّا كما ترى، وكأنه إنصاف منتزع من نفس جائرة، وإقرار مقتلع من سريرة حائرة. ووصَفه شرف الدين البوصيري وصفًا لا غاية بعده من كلام المخلوق في الروعة الشعرية، وتمكّن الاقتباس، وصِدْق التمثيل، فقال: الله أكبر إن دين محمد ويا لله لهذا التمثيل المحكم في المصراع الأخير وما يحدثه في النفوس المفتونة بالمحسوسات!وكتابه أقوى وأقوم قيلا طلعتْ به شمس الهداية للورى وأبى لها وصف الكمال أُفولا ![]() والحقّ أبلج في شريعته التي جمعتْ فروعًا للهُدى وأصولا لا تذكروا الكُتْبَ السوالف عنده طلع الصباح فأطفِئُوا القنديلا إننا نعدّ من إعجاز القرآن في البلاغة ما هو شائع في جميع آياته من الدقّة المتناهية في تحديد المعاني، وتصوير الحقائق، وتنزيل الألفاظ في مراتبها، وتلوين الأساليب، والتزاوج بين الصِّفَتَيْن أو الصفات حتى كأنهما صفة واحدة؛ كالقوي الأمين، والغني الحميد، والحفيظ العليم، والعليم الحكيم؛ فليقصر الواصفون وليدَعوا القرآن يصف نفسه بتلك الدقة العجيبة وذلك التصوير الرائع، وليسلك الدعاة سبيلهم إلى نفوس الناس بهذه الأوصاف الرائعة من هذه الآيات الجامعة؛ فإن ذلك أدعى إلى التأثير والتأثّر، وأبلغ في باب التشويق من كلّ تبويب في الكلام وتحبير وتزويق، أين يقع كلّ ما وصفه به البشر من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57]، وما في هذه الآية من جمْع أصول الإصلاح التي جاء بها القرآن مرتّبة في الذكر ترتيبها في الوجود؟! وأين يقع كلّ ذلك من قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[المائدة: 15، 16]؟! اللهم لا. كانت الأمّة العربية قبل الإسلام -ومثلها جميع الأمم- في جاهلية جَهْلاء، فهي من الوجهة الفكرية في أحطّ الدرجات، ومن الوجهة الاجتماعية في أخسّ الحالات، وكانت لا تملك من أسباب النهضة إلا لسانًا قويمًا، وفطرة غير معقدة، ولكن ماذا يُغني اللسان الخصيب إذا كان يصدر عن فكر جديب؟! فجاءها الله بالقرآن وفيه كلّ ما كان الفكر العربي يتطلبه من العقائد النقية والحقائق العلمية، وكلّ ما كان اللسان العربي يصبو إليه من آفاق وميادين، فنهض العرب به وبلسانهم الذي نزل به، وأنهضوا الأمم معهم، تلك النهضة التي زلزلَت العالَم الروحي العقلي فأذهبَتْ مخارقه وثبّتَتْ حقائقه، وزلزلَت العالَم المادي فذهبت بطغيانه وشروره ورذائله، وأقرّته على التشريع العادل والمعاملة الرحيمة، ثم لاءمت بين الروح والمادة بمعاني التوسط والاعتدال البادية في عقائد الإسلام وآدابه وأحكامه، وجاءت بالمعجزة الكونية الكبرى في تحقيق الحُلم الإنساني بتلك ![]() الملاءمة، وهي أمنية عجزت عن تحقيقها كلّ تعاليم الأرض، ولم تفِ بها تعاليم السماء قبل الإسلام؛ لحكمةٍ وأمْرٍ قد قُدِر. وانساح الإسلام في الأرض يُزجي جيوش الأخلاق قبل جيوش الخلائق، وبسط ظلّه على الأقطار الممتازة بخصوبة الأرض، وعلى الأمم الممتازة بخصوبة الفكر، وزرع تعاليمه في عقول مستعدة، وأفاض عليها من روحه: إنّ الغاية في هذا الوجود سيادة في الحق وسيادة بالحق، وأن لا سبيل إليهما إلا بالعلم والعمل، وأن عمران الأرض متوقف على عمران العقول والنفوس، وبنَى بذلك تلك الحضارة التي لا يُنكرها إلا مكابر يماري في الشمس وضحاها. إنّ الآفة الكبرى التي قضت على الحضارات وجعلت عاليها سافلها، هي التفرق بين بُناتها والمستحفظين عليها، وقد كان للمسلمين -من بين الأمم القديمة والحديثة- معتصم باذخ، لو اعتصموا به لوقاهم من التفرق فوَقى حضارتهم من الانهيار، وهو القرآن ودينه الإسلام، نعمةٌ خُصُّوا بها دون الأمم. كانت تعصف بهم من عواصف التفرّق، وتثور فيهم من طبائع المُلْك وغرائز المنافسة فيه ما أقلّه كافٍ في تدمير الممالك وتَتْبير الحضارات، فيرجعون إلى القرآن ويعتصمون بالإسلام فيجدون فيهما الْوَزَر الواقي، إلى أنْ داخلَتْهم الأعراق المدسوسة، ومازجَتْهم الجراثيم الغريبة، وابتُلوا بلقاح سوء مما أَفسد مَنْ قبلهم، وكان من تأثير ذلك أنهم انتقلوا من التفرق الذي يعصم منه الدين إلى التفرق في الدّين نفسه وفي القرآن نفسه، ثم زَهدوا في الدين فلم تبق إلا الصور العملية بلا روح، وزهدوا في القرآن إلا الألفاظ المتلُوَّة بلا نذير، حتى كانت عاقبة أمرها خُسرًا، وذاقت السوء بما صدّت عن سبيل الله. إنّ أسلافنا قاموا بما شرط عليهم القرآن في قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}[الحج: 41]، فتحقق معهم وعد الله في القرآن: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}[النور: 55]، فكانوا خلفاء الأرض يقيمون فيها الحقّ والعدل، وينشرون فيها الخير والرحمة، ويطهرونها من الشرك والوثنية، ويحققون حكمة الله بإقامة سننه الكونية والشرعية، لا يراهم الله إلا حيث يُرضيه أن يراهم؛ لأن مما أفادهم القرآن استجلاء العِبَر من قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[يونس: 14]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}[الأنعام: 165]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}[الأعراف: 100]. ![]() وكان هؤلاء السلف يعلمون لماذا أُنزل القرآن، ويعلمون أنه كتاب الدهر ودستور الحياة، وحجة الله الباقية إلى قيام الساعة، وأنه وافٍ كلّ الوفاء بإسعاد البشر في الحياتَين، وأن عدم فهمه وعدم العمل به وعدم تحكيمه كلّ ذلك تعطيل له. ففهموه أولًا وحكّموه في أهوائهم ونزعاتهم، فاستأصل باطلها ولطف من نزواتها، ورجعوا إليه في فهم الحقائق الغامضة في الحياة والدقائق المشكلة في الكون والأخلاق التي يجب أن يتعايش بها الناس، فرجعوا إلى معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد انضوت تحت لوائه أمم مختلفة الأهواء والمنازع والفهوم؛ فوحّد أهواءها، وقارب بين منازعها وفهومها، ووفّق بين مصالحها، وهذه النقطة التي عجزت عنها التربية التعليمية والقوانين الوضعية إلى يومنا هذا. يعتقد المسلمون كلُّهم أن سلَفهم كانوا أكمل إيمانًا من خلَفهم وهذا صحيح، ولكنهم لا يبحثون عن علّة كمال الإيمان في السلَف، حتى لكأنهم يعتقدون أن ذلك بوضع إلهيّ وتخصيص ربانيّ لا يدَ للكسب فيه، وهذا خطأ فاحش وجهل فاضح. وما دام الكلام في الإيمان، فهاته وانظر كيف فهمه السلَف؟ ومن أيِّ مَعِينٍ استقَوا فهمه؟ ومن أيِّ أفقٍ استجلَوا حقائقه؟ ثم انظر كيف فهمه الخلف؟ ومن أين سقطتْ عليهم هذه الفهوم السخيفة؟ ثم أرجِعْ كلّ معلول إلى علته بلا إجهاد للذهن ولا إنضاء للقريحة. إنّ السلف تذرّعوا لفهم القرآن ذريعتَيْن: الذوق العربي الصحيح، والسنة النبوية الصحيحة، وقد كانوا يؤمنون بأنه كلٌّ لا يتجزأ، وأن بعضه يفسِّر بعضه، وقد استعرضوه بعد فهمه بتلك الذرائع، فوجدوه يُعرِّف الإيمان بالصفات اللازمة والتي يتكون من مجموعها، فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[الحجرات: 15] الآية، ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}[الأنفال: 2- 4]، ويقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون: 1] إلى آخرها، ويقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}[البقرة: 177] إلى آخرها، ويقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: 63] إلى آخرها، ويقول غيرها من الآيات الجامعة لشعب الإيمان وخصاله وصفاته الذاتية، ثم وجدوه لا يذكر الإيمان في المَعارِض المختلفة إلا مقرونًا بالعمل الصالح، ففهموا من القرآن ما هو الإيمان وما هي الأعمال الصالحة؛ فآمنوا وعملوا الصالحات، فكان إيمانهم أكمل إيمان بالعمل والكسب لا بشيء آخر من الخوارق والاختصاصات، وعلى هذا النحو فهموا العبادة وتوحيد الله وكمالاته المطلقة، والرسل ووظائفهم، والملائكة... إلخ. ![]() أما الخَلَف فقد عدَلوا عن هذا كلّه منذ صاروا يفهمون الإيمان من القواعد التعليمية، وفقدوا الذوق والاسترشاد بالسنّة. إنّ هذه القواعد الجافّة التي لا صلة بينها وبين النفس إنما تنفع في الصناعات الدنيوية، أما في الدين فإنها لا تغني غَناء، وقد أفسدته منذ أصارها الناس عمدة في فهمه، حتى ضعف إيمانهم وضعفت تبعًا له إرادتهم وأخلاقهم، وكيف يُفلح من يَعدِل في تفهُّم الإيمان عن الآيات المتقدمة إلى قولهم: إنّ الإيمان هو التصديق، وإنّ النطق شرط أو شطر فيه، وإنّ النسبة بين الإيمان والإسلام كذا... إلى آخر القائمة؟! وكيف يكون مؤمنًا -حقًّا- من يبني إيمانه على هذا الجُرف الهاري؟! إنّ هذا موضوع واسع الجنبات، وهو يتصل بباب أمراض المسلمين وأسبابها، ولا تتسع هذه الكلمة لبعض القول فيه، فكيف باستيعابه؟! تدبُّر القرآن واتِّباعه هما فَرْقُ ما بين أول الأمّة وآخرها وإنه لفرقٌ هائلٌ، فعدم التدبر أفقدَنا العلم، وعدم الاتباع أفقدَنا العمل، وإننا لا ننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه، ولا نُفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 157]. [1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (الشهاب)، الجزء الرابع، المجلد الرابع عشر، يونيو - يوليو 1938م، ص156، كتصدير لأحد أعداد المجلة، وعنونت بـ(تصدير هذا العدد)، فاخترنا لها هذا العنوان المناسب لموضوعها. وطُبعت ضمن (آثار محمد البشير الإبراهيمي)، جمع نجله: د. أحمد طالب الإبراهيمي - ط. دار الغرب الإسلامي (1/320)، وقد ختمها الكاتب -رحمه الله- بالكلام عمَّا خُصِّص به هذا العدد من المجلة من الكلام على ختم الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- لمجالس تفسيره، مع ذكر بعض جهود معاصريه، مما هو خارج عن موضوع المقالة، فاقتصرنا على صُلب المقالة وحذفنا ما يتعلق بموضوع العدد. (فريق موقع تفسير). ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد من محاضرة ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ د. خالد السبت (6) ١- ﴿ كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ﴾ تنكير " كتاب " يفيد التعظيم ، واللام في ( ليدبروا ) تفيد التعليل ، أي أن الإنزال من أجل التدبر الذي هو الطريق للانتفاع والاتعاظ بعبر القرآن وأمثاله وعظاته ، فلا سبيل إلى الوصول إلى كنوزه وهداياته إلا بالتدبر . ٢- إذا حصل التدبر فإنه يحصل بعده التذكر ، فيتذكر أصحاب العقول الصحيحة وينتفعون بذلك ﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ فالفاء تفيد التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وإن أبلغ وأجلّ ما يُذكّر به هو كلام الله ﷻ ٣- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ هي واسطة العقد في أعظم سورة في القرآن ، في السورة التي هي ركن في الصلاة ( في فرضها ونفلها ) ، لا تصح صلاة العبد حتى يقرأ بأم القرآن ، حيث ترجع معاني القرآن على كثرتها إلى هذه السورة ، فمضامين القرآن ومقاصده مضمنة في هذه السورة ٤- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ هي الآية الرابعة ، في سورة الفاتحة التي هي بالإجماع سبع آيات ![]() التي قال الله ﷻ فيها ﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ﴾ وصح عنه ﷺ قوله ( هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) ٥- سميت بالسبع المثاني لأنها - تثنّى في كل صلاة وكل ركعة - اشتملت على المثاني والثناء على الله ﷻ ، فأولها الحمد الذي هو ذكر المعبود بأوصاف الكمال مع المحبة والتعظيم ، ثم يثني هذا الحمد بالثناء ، فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ) قال ﷻ ( حمدني عبدي ) ، وإذا ثنى هذا الحمد قال ﷻ ( أثنى علي عبدي ) فإذا زاد الثناء قال ﷻ ( مجدني عبدي ) والمجد والتمجيد يدل على السعة . هذا الحمد مقدمة بين يدي السؤال ، فالسورة اشتملت على الحمد والثناء والتمجيد مع السؤال ٦- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ جاءت قبل طلب الهداية ، وسبقها الحمد ، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد الدعاء معهما كما قال ابن القيم ؛ التوسل بأسماء الله وصفاته ، والتوسل بعبوديته . ٧- سورة الفاتحة نصفها للرب ونصفها للعبد كما جاء في الحديث ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) فالآيات الثلاث الأولى للرب ، والثلاث الأخيرة للعبد ، و ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ نصفها للرب ونصفها للعبد ![]() ٨- ﴿ الحمد لله ﴾ الألف واللام تفيد - الاستغراق ؛ فجميع المحامد لله ﷻ - الاستحقاق ؛ فهو المستحق ﷻ للحمد دون سواه فلواحدٍ كن واحدا لواحدٍ أعني سبيل الحق والإيمان ٩- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ليعلم العبد في كل وقت أن له غاية ﴿ إياك نعبد ﴾ وله منتهى يسأله ويستمد منه العون وهو الله ﴿ وإياك نستعين ﴾ ، فيكون الله غايتنا في كل ما نقدمه ، ومنه نستمد العون ، ولو شاء لأقعدنا كما أقعد كثيرين ١٠- إذا استعمل الله عبدا في مرضاته فليستحضر أن الله ﷻ هو الذي وفقه واجتباه وهداه فيزداد شكرا ![]() ١١- لا يمكن أن ننهض بعمل من الأعمال إلا بعون الله ﴿ وإياك نستعين ﴾ ، وإذا لم يكن العمل خالصا لله لم ننتفع به ﴿ إياك نعبد ﴾ وهذان الأمران ما اشتملت عليه هذه الآية ١٢- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ قدمت العبادة على الاستعانة مع كون العبادة لا تكون إلا بالاستعانة من أوجه - لأن العبادة هي الغاية والمقصودة لذاتها ، أما الاستعانة فهي وسيلة ، فهو من تقديم الغاية على الوسيلة - ﴿ إياك نعبد ﴾ متصلة بما قبلها ، فهي حق الله ﷻ ، و ﴿ وإياك نستعين ﴾ متصلة بما بعدها وهو حظ العبد ، وحق الله مقدم على حظ العبد - جاء ترتيبها موافقا لترتيب الأسما التي ذكرت في بداية السورة ، الله متعلق بالعبادة ( إياك نعبد ) ، ثم الرب متعلق بالاستعانة . - العبادة هي سبب لحصول الإعانة ، وإجابة الدعاء ، فالعبد إذا حقق العبودية أجاب الله دعاءه ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع ) فذكرهم ﷻ بوصف العبودية الخالصة التي تدل على الاختصاص وليست العبودية القهرية التي يستوي فيها المؤمن والكافر . ![]() - الاستعانة جزء من العبادة ، لكن لحاجة العبد دائما إلى الاستعانة في كل عباداته وأموره خصت بالذكر بعدها ١٣- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ تأمل حديث الرسول ﷺ ، الذي هو من جوامع الكلم ( احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ) ، تجده موافقا للاية ، فلا أنفع للعبد أن يحرص عليه من طاعة الله ورسوله وهي العبادة ١٤- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ الفاتحة شفاء من أمراض القلب التي تعرض له ، فهو إما أن ينصرف لغير ربه ( شرك ورياء) أو ينصرف لنفسه ( عجب وكبر) وكلاهما مما يبطل العمل ، ف ( إياك نعبد ) تطرد أمراض الشرك والرياء ، و ( إياك نستعين ) تطرد أمراض العجب والمبر والتعاظم ١٥- إذا عوفي العبد من مرض الشرك والرياء ب ( إياك نعبد ) وعوفي من مرض الكبر والعجب ب ( إياك نستعين ) وعوفي من مرض الجهل والضلال ب ( اهدنا الصراط المستقيم ) ![]() فقد عوفي من جميع العلل والأوصاب القلبية ، وكذلك فالسورة شفاء من الأمراض البدنية لقوله ﷺ ( وما أدراك أنها رقية ) ١٦- ذكر ابن القيم أن الناس في تحقيق هذين الأصلين ( العبادة والاستعانة ) أربع أصناف ، أكملهم أهل العبادة والاستعانة ، من جعل عبادة الله غايته ، واستعان به في كل أمره ، ولذلك فإن من أفضل الدعاء ما علمه النبي ﷺ لمعاذ رضي الله عنه ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ، قال ابن القيم إن مدار كل الأدعية هو هذا الدعاء ١٧- وقال ابن تيمية : تأملت أنفع الدعاء فوجدته طلب العون على مرضاته ووجدته في ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ١٨- ( نعبد ) جاءت بهذا الإطلاق ، فصاحب هذا المقام ليس له غرض في تعبد بعينه ، قد يوافق هوى في نفسه فيؤثره على غيره ، بل هو صاحب التعبد المطلق يتنقل فيه بين أنواع العبادات ، أينما طلبته وجدته ، وهذا هو القائم بالعبودية حقا ١٩- ( نستعين ) جاءت أيضا مطلقة ، فهي استعانة في كل أمر من أمور العبادة أو أمور الدنيا ، نستعين به ﷻ لكل أمر من أوامره ، وعلى كل نهي من نواهيه ، وللصبر على مقدوراته ، ومشاق الحياة وآلامها ، فلا تتحقق الاستقامة على العبادة إلا بالاستعانة بالله ٢٠-﴿ إياك نعبد ﴾ حقيقة الإخلاص ﴿ وإياك نستعين ﴾ حقيقة التوكل ، فهذا هو الكمال ، كما قال ﷻ ﴿ فاعبده وتوكل عليه ﴾ وقال ﴿ قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ﴾ وقال ﴿ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ﴾ ٢١- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ ![]() تقديم إياك فلم يقل نعبدك ونستعين بك ، والمعمول إذا تقدم على العامل يفيد الحصر ، فالقصد : لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين بأحد غيرك ٢٢- ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ أسلوب الالتفات في الآية فبعد أن كان الكلام بصيغة الغائب جاء في هذه الآية بصيغة المخاطب وهو نوع من بلاغة الأسلوب ، لتنشيط السامع ، وكأن العبد لما أثنى على الله وحمده ومجده صار في غاية القرب من ربه فتوجه إليه بالمخاطبة ، كأنه حضر بين يديه ٢٣- التكرار في قوله ( إياك ) ولم يقل إياك نعبد ونستعين ؛ وهذا يفيد التوكيد والاهتمام ، وكأنهما قضيتان منفصلتان ٢٤- ( نعبد ) جاءت النون مع أن المتكلم واحد ، وفيها فوائد - أن العبد لما تشرف بالعبودية صار من أهل العزة والشرف وعلت مرتبته - من قبيل تعظيم الله ﷻ فهي نون الجمع ، وهذا أبلغ في تعظيم الله ﷻ مما لو قال أعبد ، فكأنه يقول : كلنا نعبدك ، وكلنا جندك - قيل إنها نون الاستتباع ؛ فالصلاة بنيت على الجماعة ، فكأنهم يتحدثون بلسان واحد ========================= *منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() التفاعل مع القرآن الكاتب : محمد الخولي (7) لا يشعر بأثر القرآن وهديه إلا من تفاعل مع كلّ آية يقرؤها أو يسمعها، فكيف نتفاعل مع القرآن؟ وما الوسائل المُعِينة على ذلك؟ وكيف كان تفاعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام مع القرآن؟ هذا ما تكشفه لنا هذه المقالة. في خِضَمِّ الواقع الذي نعيش فيه، كثيرًا ما يحتاج المسلم إلى الشعور بالطمأنينة والسكون، وذلك لا يتجلَّى إلا مع الخلوة بكتاب الله -عزّ وجلّ-، هذه الواحة الغَنَّاء؛ ليرتشف من مَعِينها الصافي، ويتنفس من أريجها الزّاكي؛ لينعم بطمأنينة النفس وراحة القلب وسلامة الصدر، ولِمَ لا؟! وقد خَلا بكتاب ربه -عزّ وجلّ- الذي فيه شفاء ورحمة وموعظة للمتقين. ولكن لا يشعر بأثر القرآن وهَدْيه إلا مَن تفاعل مع كلّ آية يقرؤُها أو يسمعها، وأدرك أن كلّ آية تحمل رسالة من الله -عزّ وجلّ- ينبغي عليه أن يرعي لها قلبه وعقله قبل سمعه وبصره. أصناف الناس في التعامل مع القرآن: والناس في تعاملهم مع القرآن أصناف وأنواع: فمنهم مَن يهتم بكثرة التلاوة، ومنهم مَن يهتم بإقامة الحروف وضبط المخارج، ومنهم مَن كلُّ همِّه تجميل صوته والتغني بالقرآن، ولكن ربما نسي أكثر هؤلاء أهمّ شيء وأعظم شيء، ألا وهو التفاعل مع آيات القرآن الكريم، فربما يمرّ الواحد على الآية تِلو الآية بقلبٍ غافلٍ ساهٍ، ثم يشتكي بعد ذلك: لماذا لم أشعر بحلاوة القرآن برغم أني أداوم على القراءة، ولم ألبث أن أنتهي من ختمة حتى أبدأ في أخرى؟! ![]() لم يفطن هؤلاء إلى حقيقة مهمّة، ألا وهي: أن أكثر الناس استمتاعًا بالقرآن مَنْ علم أن هذا القرآن يتكون من (مبانٍ) و(معانٍ)، فهو ليس مجرد حروفٍ ومبانٍ تتحرك بها الألسنة، بل إن روح القرآن هي المعاني، وأنه لا ينبغي أن ينشغل المسلم بضبط المباني وينسى التفاعل والتفكّر في المعاني. فالقرآن ليس مجرد نصّ جامد أنزله الله -عزّ وجلّ- لمجرد القراءة والحفظ، بل القرآن روح للأرواح، ونور للقلوب، وحياة للأبدان؛ فقد قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الزخرف:52]. وهذا القرآن لو أُنْزِل على الجبال لخشعت وتحطّمت من خشية الله -عزّ وجلّ-، فقد قال -سبحانه-: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]. ولن يتجلّى أثر القرآن على النفس إلَّا بتدبر آياته ومعرفة المقاصد والمعاني، وهذا أعظم ما ينبغي أن يراعيه المسلم عند التعامل مع القرآن، فمع عظيم أجر قراءة القرآن، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)[1]، إلَّا أن تدبّر القرآن والتفاعل مع معانيه أعظم أجرًا وفضلًا؛ لأنه المقصد والمطلب الأول الذي من أجله أُنْزِل القرآن، فقد قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29]، وقال -تعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء:82]، وقال -تعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24]. وقد ذمَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من يقرؤون القرآن لمجرد القراءة ولا يتفاعلون معه، فقال عن هؤلاء: (سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)[2]. تفاعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القرآن: لقد علَّمَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كيف يكون التفاعل مع القرآن؛ فقد كان إذا مرَّ بآية من آيات العذاب تعوَّذ بالله، وإذا مرَّ بآية رحمة سأل الله من رحمته، وإذا مرَّ بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مرَّ بآية ثناء ![]() على الله أثنى عليه، وإذا مرَّ بآية سجدة سجد. فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: «صلَّيت مع النبِي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح الْبَقَرَةَ... إِذَا مَرَّ بِآية فيها تسبيح سَبَّح، وإِذا مرَّ بسؤال سأل، وإِذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ»[3]، وزاد النسائي بلفظ: «إذا مرّ بآية عذاب وقف وتعوَّذ». وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: «قمتُ مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوَّذ...»[4]. وكثيرًا ما كانت تذرف عيناه -صلى الله عليه وسلم- ويخشع قلبه عند سماع القرآن، فعن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَأْ علَيَّ القُرآنَ)، قلتُ: يا رسول الله، أقرأُ عليك، وعليك أُنزِل؟! قال: (إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)، فقرأتُ عليه سورة النِّساء، حتى جئتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}[النساء:40]، قال: (حَسْبُكَ الآن)، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان[5]. تفاعل الصحابة مع القرآن: ولقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرفون أن هذا القرآن رسالة من الله -عزّ وجلّ- إليهم، فكانوا كثيرًا ما يتفاعلون معه، ولا تمرّ عليهم الآية إلا بعد تدبُّرها، والوقوف على مقصودها، وكيفية تطبيقها؛ فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أنه لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله -تعالى-: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، اشتد ذلك على أصحابه رضوان الله عليهم، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بَرَكُوا على الرُّكَب، يسألون النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- التخفيف في المؤاخذة بما تتحدث به نفوسهم، فنسخ الله هذه الآية وأنزل -سبحانه-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. ويقول ابن مسعود: «كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن»[6]. بعض الوسائل المُعِينة على تحقيق التفاعل مع القرآن: ![]()
ويقول ابن القيم: «الشيطان يجلب على القارئ بخَيْلِهِ ورَجِلِهِ، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به -سبحانه-، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله -عزّ وجلّ- منه»[8].
ولقد كان ذلك دأب السلف الصالح، حيث كان الواحد منهم إذا مرَّ على الآية لا يتركها حتى يتدبرها ويفهم معانيها، وإلَّا لا يعدّ لها أجرًا عند الله؛ فقد نقل الغزالي عن بعض السلف قوله: «آية لا أتفهّمها، ولا يكون قلبي فيها لا أعدّ لها ثوابًا»[9].
فالعمل بعد القراءة له أهمية كبيرة وهو أمر لطالما نعى السلف على إهماله وعدم رعايته والانشغال فقط بالقراءة دون العمل، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: «أُنْزِل عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا درسه عملًا، وإنّ أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يُسْقِط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به»[11]، ويقول الحسن البصري -رحمه الله- عن التدبر: «والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأتُ القرآن كله، ما يُرَى له القرآنُ في خُلقٍ ولا عملٍ». وختامًا أيها القارئ الكريم، هذه مجرد نبضات حول التفاعل مع القرآن أردتُ من خلالها أن أدقّ ناقوس الإنذار؛ لينتبه المسلمون لبعض أخطائهم في التعامل مع أعظم رسالة وصلت إليهم، هذه الرسالة التي إن أحسنوا التعامل معها نالوا شرف الدنيا وعزَّ الآخرة، ولِمَ لا؟! وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته يوم حجة الوداع: (وقد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله)[12]. فنسأل الله أن يردّنا إلى القرآن مَرَدًّا جميلًا، وأن يجعلنا من العالِمين العامِلين، والحمد لله ربّ العالمين. ![]() ================================= [1] رواه الترمذي (2910). [2] رواه مسلم (1067). [3] رواه مسلم (772). [4] رواه أبو داود (873)، والنسائي (1049). [5] رواه البخاري (5050)، ومسلم (800). [6] تفسير الطبري: (1/ 80). [7] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص:825). [8] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: (1/ 93). [9] إحياء علوم الدين: (2/ 48). [10] رواه مسلم (119). [11] الجواهر الحسان في تفسير القرآن، (1/ 134). [12] رواه مسلم (1218). ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد لابن القيم في قوله تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦] (8) في هذه الآية عدة حكم وأسرار، ومصالح للعبد. 1- فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه. لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرّة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب. فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد - أوجب ذلك للعبد أمورا -. منها: أنه لا أنفع له من امتثال أمر ربه، وإن شق عليه في الابتداء. ![]() لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات. ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب المنهي، وإن هويته نفسه، ومالت إليه. وأن عواقبه كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب. وخاصة العاقل تحمّل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل. فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيّس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مباديها. فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل. فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه عنه ما فيه من السم. ويرى الأوامر كدواء مرّ المذاق، مفض إلى ![]() العافية والشفاء، وكلما نهاه مرارة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول، ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم، تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق، لما يؤمل عند الغاية من حسن العاقبة. فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك. وإذا قوى يقينه هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة -. 2- ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقتضيه له، لما يرجو من حسن العاقبة. 3- ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم. فلعل مضرته وهلاكه فيه. وهو لا يعلم. فلا يختار على ربه شيئا، بل يسألهحسن الإختيار له، وأن يرضيه بما يختاره. فلا أنفع له من ذلك. ![]() 4- ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه. وأراه من حسن عواقب اختياره ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. 5- ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الإختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات، التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى. ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم عنده غير ملطوف به فيه، مع اختياره لنفسه. ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به. فيصير بين عطفه ولطفه. فعطفه يقيه ما يحذره. ولطفه يهون عليه ما قدره. ![]() إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه: تحيله في رده. فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميت. فإن السبع لا يرضى أن يأكل الجيف. ................ المصدر: ( بدائع التفسير لابن القيم ( 1/ 172-173) ) * منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() أثر القرآن في تغيير الإنسان الكاتب : مسعد عرفة (9) لما نزل القرآن العظيم تغيَّر العرب، وأُعيد بناء شخصياتهم وفق المنهج الرباني، وتغيروا بآيات الله. وهذه المقالة تكشف طرفًا من أثر القرآن في تغييرهم، وتسلِّط الضوء على عدة عوامل من عوامل تأثير القرآن في نفوسهم وفي نفوس الناس. منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ وقبل أن ينعم الله -عزّ وجلّ- على البشرية بأعظم نعمة، وهي: إنزال القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-، ما كان العرب إلّا شَراذِمَ متفرقة وقبائلَ متناحرة، ثم بين عشية وضحاها صاروا إخوة متحابّين، ورفاقًا متآلفين، يفدي بعضهم بعضًا بالغالي والثمين! وقد نصّ الله تعالى في القرآن على هذه النعمة، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. كانوا يتقاتلون على الناقة والشاة، ثم ما لبثوا أن آثر بعضهم بعضًا على نفسه؛ ونزل فيهم قول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]. لم يكن لأحدهم ولاءٌ إلا لقبيلته التي ينصرها في الباطل قبل الحقّ، ولم يكن في وسع أحدهم إلا الاستجابة لصراخ أخيه في القبيلة، بلا برهان ولا بينة على قوله؛ كما قال الواصفُ لهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانًا[1] ثم ما كان منهم بعد الإسلام إلا أن صار أحدهم ينصر الحقّ ولو كان مع غير قبيلته، امتثالًا لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}[النساء: 135]. وكانت العصبية القبلية دينهم، فإذا بهم يُجاهِد أحدُهم مع إخوانه في الإسلام ولو كانوا من غير قبيلته؛ بل ولو لم يكونوا من العرب بالأساس! فكان المسلم الأوسي يقاتل بجوار المسلم الخزرجي، بجوار المسلم القرشي، بجوار المسلم الحبشي، بجوار المسلم الرومي، بجوار المسلم الفارسي، كلهم ذابوا في بوتقة واحدة، يقاتلون يدًا واحدة حتى لو كان عدوهم هو قبيلة أحدهم. كانوا يتفاضلون فيما بينهم بالمال والجاه وكثرة العدد والولد وجمال الْخِلْقَة وقوة البدن، ثم أصبحت التقوى هي معيار التفضيل، والذي لا يعلمه إلا الله، بعد أن سمعوا كلام ربهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]. ![]() كانوا ينتقصون ويكرهون النساء والبنات، حالهم في ذلك كما أخبر الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[النحل: 58- 59]. ويحتقرونهن ولا يعتبرونهن شيئًا؛ ثم أكرموهن وورثوهنَّ، وأعلوا قدرهن؛ كيف لا وقد فرض الله لهن نصيبًا في آيات المواريث، {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}[النساء: 7]. كان سعي أحدهم وكَدُّهُ طول عمره في تحصيل أكبر قدر من المال والإبل والغنم والعلوّ في الأرض، ثم أصبح منتهى أمل أحدهم أن يُطْعَن في سبيل الله طعنة تنقله إلى منازل الشهداء؛ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 23]. كان ليلهم مع شرب الخمور وتمايل الغانيات وفعل المنكرات، فصاروا لا يبيتون إلا وقد صفّوا أقدامهم بين يدي الله -عزّ وجلّ-، يناجونه في جوف الليل، وقد تركوا الغانيات والخمور، وقد كانوا يفرطون في حياتهم التي بين جنوبهم ولا يفرطون فيها! كانوا لا يعتبرون العبيد شيئًا، وكان العبد أهون على سيده من شراك نعله؛ ثم أصبح بعد الإسلام أخًا مساويًا له في الحرمة، بل قد يفوقه ويعلوه إن كان أكثر منه في التقوى والإيمان؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]. والسؤال الآن: ما سبب كلّ هذه التغيرات والتحولات وغيرها مما يحيّر الألباب؟ والإجابة على ذلك بشيء واحد: إنه أثر القرآن في تغيير الإنسان. هذا القرآن الذي أعاد بناء شخصياتهم وفقًا للمنهج الرباني، ولا يراد بذلك مجرد الحفظ والترديد لآيات القرآن؛ وإنما القصد أن يكون القرآن منهج حياة، وخط سير لا يحيد عنه الإنسان. تأملوا هذا المنهج الرباني التربوي، الذي جاء تفصيله في حديث جُنْدُبِ بن عبد الله بن سفيان البَجَلِيِّ العَلَقِيِّ -رضي الله عنه-؛ قال: «كُنَّا فِتْيَانًا حَزَاوِرَةً [جمع حَزَوَّر، وهو الغلام لم يبلغ وقد قارب] مَعَ نَبِيِّنَا -صلى الله عليه وسلم-، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا؛ وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ»[2]. فتأمل قول الصحابي الجليل: «فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ»، وتدبر كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علّمهم الإيمان قبل القرآن، فلما تعلموا القرآن ازدادوا به إيمانًا. ثم هو -رضي الله عنه- يوضح المنهج المقابل، فيقول: «وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ»؛ فحريٌّ بنا أن نجعل هذا الحديث مركزًا للمنهج التربوي الذي نأخذ به أنفسنا وأبناءنا وبناتنا وأهلينا. ولم لا؟! أليس هو المنهج الرباني والأسلوب النبوي في التربية، الذي تكلم به من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-؟! وما فائدة أن يكون الإنسان قادرًا على ترديد القرآن كلّه من الفاتحة إلى سورة الناس، ولكنه في الواقع يسير عكس المنهج التربوي للقرآن تمامًا؟! وحال النبي -صلى الله عليه وسلم-خير مثال يُحتذى به؛ إذ كان -صلى الله عليه وسلم- يهتمُّ بالجانب العملي، ويقدّم الناحية التطبيقية؛ فأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حينما سئلت عن خُلُقِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم تجد سوى أن تقول: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ الْقُرْآن»[3]. فالقرآن في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-كان واقعًا عمليًّا؛ فمثلًا لمَّا نزل قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 3]، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمتثل ذلك[4]، كما أخبرت عائشة -رضي الله عنها-: «يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)؛ يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ»[5]. ![]() وهكذا كان جيل الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كما جاء وصفه في الأثر الرائع عن أبي عبد الرحمن، قال: «حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ آيَاتٍ، وَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ؛ فَإِنَّا عُلِّمْنَا الْعَمَلَ وَالْعِلْمَ»[6]. فتأملوا هذا الفرق بين هذا المنهج وبين ما وضحه الصحابيّ جُنْدُبِ بن عبد الله بن سفيان -رضي الله عنه- مِن حال مَنْ كان بعدهم، قال: «وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ». فهناك فارق بين المنهجين: المنهج الأول: وهو القائم على الاهتمام بالفهم والعمل. المنهج الثاني: وهو القائم على الاهتمام بالحفظ والترديد، حتى إن كان بغير العمل، أو حتى بغير فهم! ولا ريب أنَّ المؤمنين المتقين يتبعون المنهج الأول؛ ولا علاقة لهم بمن يرددون القرآن ولا يفهمونه، ومن ثمَّ لا يتأثرون به، هؤلاء الذين ذمّهم الله تعالى بجميع أصنافهم؛ فقال: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء: 78]، وقال -سبحانه وتعالى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة: 124]. العامل الأول من عوامل تأثير القرآن: التدرج: وذلك كما جاء الخبر في الحديث عن يوسف بن ماهك؛ قال: إنِّي عند عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، إذ جاءها عراقيٌّ، فقال: أَيُّ الكَفَنِ خير؟ قالت: «وَيْحَكَ، وما يضرُّك؟!»، قال: يا أم المؤمنين، أرِينِي مصحفك؟ قالت: «لِمَ»؟ قال: لَعَلِّي أُوَلِّفُ القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غيرَ مُؤَلَّفٍ. قالت: «وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟! إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ ![]() نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا؛ لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر: 46]، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ»، قال: فأَخْرَجَتْ له المصحف، فَأَمْلَتْ عليه آيَ السُّوَرِ[7]. فلنتأمل هذا الأثر العظيم عن أمِّنا عائشة -رضي الله عنها-؛ إذ فيه بيان المنهج الرباني القائم على التدرّج في التأثّر بالقرآن؛ فهذا الرجل العراقي جُلُّ هَمّهِ في ترتيب المصحف؛ فقالت عائشة -رضي الله عنها-: «وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟!»؛ لأن المهم هو ما نستفيده من الآية من أحكام؛ لنعبد الله تعالى على بصيرة، ولنعمل بها في حياتنا، كما أمر الله خالقنا. فكان بناءُ شخصية الإنسان المسلم في المرحلة الأولى من الإسلام متعلِّقًا بجانب العقيدة، والرقائق، والحديث عن الجنة والنار، والساعة، والصراط، ومشاهد يوم القيامة، وثواب المتقين، وعقوبة المجرمين؛ حتى إذا ترسخت العقيدة في القلوب، وصارت الجنة والنار كأنهما رأي العين، أنزل الله تعالى آيات الأحكام، وبيَّن فيها الحلال والحرام. وفي عصرنا الحديث يوجد مَن يسلكون سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ولكن على غير هذا المنهج، فيبدؤون الناس بالأمر والنهي، والحلال والحرام، قبل أن تترسخ خشية الله -عزّ وجلّ- في القلوب، وقبل أن تنغرس في صدورهم الرهبة من النار، والرغبة في الجنة، فتكون النتيجة كما أخبرت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: «لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا،... لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا». ومن هنا ننتقل إلى مجال آخر من مجالات التدرج؛ فالتدرج في القرآن لم يكن قاصرًا على الأحكام الشرعية؛ بل كان القرآن أيضًا منهجًا ربَّانيًّا متدرجًا لإعداد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- للرسالة. قال الفيروزابادي: «اتَّفقوا على أَنَّ أَوّل السُّور المكِّية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق: 1]، ثمَّ {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم: 1]، ثمَّ سورة المزمِّل، ثمَّ سورة المدَّثِّر،...»[8]. ![]() فقبل أن يُنَزِّلَ اللهُ تعالى على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ}[المدثر: 1-2]، كانت التهيئة والإعداد لتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، فقال -سبحانه وتعالى-:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}[المزمل: 1- 5]. وهذه لفتة رائقة تؤكد أنّ الهدف الأسمى من قيام الليل هو ترتيل القرآن وتدبّر معانيه، ومن ثم تتم تربية قائم الليل، وتأهيله لحمل أعباء الدعوة، وليعينه القرآن على تحمل كلّ أذى في سبيل الدعوة؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل: 10]، فأكد -سبحانه وتعالى- في الآية الكريمة أن القرآن مُعينٌ لمن يقوم به الليل على تحمّل الأذى في سبيل الدعوة. العامل الثاني من عوامل التأثير: الترتيل: إذ ليس القصد تحقيق أكبر عدد من الختمات، وذلك أن الأمر من الله -سبحانه وتعالى- جاء بترتيل القرآن، فقال -سبحانه وتعالى-: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل: 4]؛ وهكذا كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-. واتبعه الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فقد كان ترتيل القرآن سببًا لحرمان أبي موسى -رضي الله عنه- والأشعريين من النوم؛ وذلك أن القرآن متى دخلت محبته القلب خرجت منه كلّ محبة تصرفه عن كلام ربّ العالمين، وأول أثر للقرآن على صاحبه أنه يحرمه النوم الطويل. جاء عن أبي موسى -رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ...)[9]. فأيُّ شرفٍ لهذه الشخصيات الإيمانية، هؤلاء الذين تُعْرَفُ بيوتهم، وتُميّزُ من بين البيوت، كما يميّز البشر النجوم المضيئة في السماء المظلمة، وما ذلك إلا بالقرآن؛ ليس كما في عصرنا الآن الذي فيه بيوت تُعرفُ بسماع المنكرات. وقد عاب الصحابة -رضي الله عنهم- مَنْ اهتمَ بكثرة القراءة وعدد الختمات على حساب ترتيل القرآن؛ حيث جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، فقال: قرأتُ المُفَصَّلَ الليلةَ في ركعةٍ. فقال عبد الله -رضي الله عنه-: «هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ! إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ، إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ»[10]. لقد ظنّ الرجل أن ابن مسعود -رضي الله عنه- سيفرح ويُثني عليه عندما يعلم بأنه يقرأ المفصل كلّه في ركعة واحدة! ولكن المفاجأة كانت في شدة إنكار ابن مسعود -رضي الله عنه- عليه؛ إذ أعلمه أن العبرة ليست بكثرة الآيات؛ بل بترتيلها، وتدبر معانيها، وفهم مراميها. ![]() وهذا ينقلنا إلى العامل الثالث: التدبر: إنّ تأثر الإنسان بالقرآن لا يمكن أن يتم حقيقة إلا بتطبيق القرآن، والتطبيق الصحيح للقرآن لا يتحقق إلا بعد فهم آيات القرآن، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]؛ فمن أخذ القرآن بهذا المأخذ الرباني، وتدبَّر آيات القرآن، فعساه أن يحقق ذلك الأثر الإلهي للقرآن. تأملوا أثر القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم-: بكاؤه -صلى الله عليه وسلم- عند سماع القرآن، وتأثره بمعانيه؛ كما جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ قال: «قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَأْ عَلَيَّ). قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: (فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي). فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}[النساء: 41]؛ قَالَ: (أَمْسِكْ). فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ»[11]. ولم يكن أثر القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتصرًا على دموع العين؛ بل كان يؤثر في أعماله -صلى الله عليه وسلم-، فالقرآن كان يرفع من درجة السخاء النبوي؛ فعن ابن عباس-رضي الله عنه-؛ قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»[12]. فانظروا ذلك الأثر العملي لمدارسة القرآن، وكيف كان الأثر في مضاعفة الاستعداد الجبلّي للنبي -صلى الله عليه وسلم- للنفقة؛ فهكذا تكون الثمرة الحقيقية لتدبر القرآن برفع مستوى إيمان العبد، ومضاعفة أعماله الصالحة. وقد يقول قائل: ولكن هذا الأثر للقرآن يحدث للطائعين المتقين، ولكن أين العصاة من ذلك؟! تأمل هذه القصة: سُئِل ابن المبارك: عن ابتداء طلبه العلم؛ فقال: «كنت شابًّا أشرب النبيذ، وأحبّ الغناء، وأطرب بتلك الخبائث، فدعوتُ إخوانًا حين طاب التفاح وغيره إلى بستانٍ لي، فأكلنا وشربنا حتى ذهب بنا السُّكْر، فانتبهت آخر السَّحر فأخذت العود أعبث به وأنشد: ألم يأن لي منك أن ترحما ونعصي العواذل واللُّوَمَا فإذا هو لا يجيبني إلى ما أريد؛ فلما تكررت عليه بذلك، وإذا هو ينطق كما ينطق الإنسان: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: 16]؛ قلتُ: بلى، يا رب! فكسرت العود، ومزقت ظروف النبيذ، وجاءت التوبة بفضل الله -سبحانه وتعالى- بحقائقها، وأقبلت على العلم والعبادة»[13]. ![]() وقد أثّر القرآن في عامة المشركين؛ كما جاء ذلك في الحديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؛ أنها قالت: «لَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، فردّه ابنُ الدَّغِنَةِ وأجاره من المشركين؛ فقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ [أي: يزدحمون عليه ليسمعوه]، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ،...»[14]. فانظر كيف كان القرآن يؤثر في عامة المشركين حتى النساء والأطفال! وأخيرًا... أفلا ننتبه إلى المعاتبة الربانية الحانية التي كانت سببًا في توبة الكثيرين من الغافلين الذين لم تقض الغفلة على بقية من خير في قلوبهم؟! ألم يأن لنا أن نستحيي من المعاتبة الربانية في قوله -سبحانه وتعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: 16]؛ أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه، فتلين عند سماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتطيعه! فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: «إنّ الله استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال-سبحانه وتعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}»[15]. ======================================= [1] عيون الأخبار (1/ 285). [2] رواه ابن ماجه في افتتاح كتابه (ح: 61)، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 12). [3] رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض (ح: 746). [4] انظر: فتح الباري لابن رجب (7/ 272). ![]() [5] رواه البخاري في الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود (ح: 817)، ومسلم في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (ح: 484). [6] رواه ابن أبي شيبة (ح: 29929). [7] رواه البخاري في فضائل القرآن، باب تأليف القرآن (ح: 4993). [8] بصائر ذوي التمييز (1/ 98). [9] رواه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر (ح: 4232)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين (ح: 2499). [10] رواه البخاري في الأذان، باب الجمع بين السورتين في الركعة (ح: 775)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب ترتيل القراءة، واجتناب الهذِّ، وهو الإفراط في السرعة، وإباحة سورتين فأكثر في ركعة (ح: 822). [11] رواه البخاري في تفسير القرآن، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، (ح: 4583)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر (ح: 800). [12] رواه البخاري في كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ح: 6)، ومسلم في الفضائل، باب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (ح: 2308). [13] ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض (3/ 43). [14] رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة (ح: 3905). [15] رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (18825). ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد من تفسير السعدي [ سورة البقرة ] تغريدات د . محمد الربيعة (10) 1.{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله } الشكر مفسر في قوله {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) } 2. } إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { { ولَا يُزَكِّيهِمْ } لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله والاهتداء به والدعوة إليه . 3. } وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ { { وابن السبيل } الغريب المنقطع فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته وخوله من نعمته أن يرحم أخاه الغريب . ![]() 4. { ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ( يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الله يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبر مافي أحكامه من الحكم والمصالح . 5.{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } { كما كتب على الذين من قبلكم } فيه تنشيط لهذه الأمة بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال والمسارعة إلى صالح الخصال . 6. { يريد الله بكم اليسر } جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله... ويدخل فيه جميع الرخص والتخفيفات . 7. { فإني قريب } قرب بعلمه من كل خلقه ، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق . 8. { كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } إذا بان لهم الحق اتبعوه وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه .. فكان ذلك سببا للتقوى . 9. { لَا تَأْكُلُوا ( أَمْوَالَكُم ) بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } أضافها إليهم لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه مايحب لنفسه ، ويحترم ماله كما يحترم ماله . 10. { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم ( بِالْبَاطِلِ) } ![]() يدخل فيه الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حق منها . 11. { وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } الوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى {ولا تكن للخائنين خصيما} 12. { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } ينبغي في كل أمر من الأمور أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب الذي قد جعل له موصلا . 13. { وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } من لم يتق الله لم يكن له سبيل إلى الفلاح . 14. {وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره, سواء سرتكم أو ساءتكم . 15. { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله } هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية . 16. { أولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها, ويعول عليها, بل يرجو رحمة ربه . 17. { وَلَا تَجْعَلُوالله عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } ![]() "إذا تزاحمت المصالح, قدم أهمها" 18. { لَّا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال, كما هي معتبرة في الأفعال . 19. { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } هذا يدل على محبته تعالى, للألفة بين الزوجين, وكراهته للفراق . 20. { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } ينبغي للإنسان, إذا أراد أن يدخل في أمر ,نظر في نفسه ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك, أقدم, وإلا أحجم . 21. { وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم هم المنتفعون بها, وفيه أن الله تعالى يحب من عباده, معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها . 22. دل قوله: {مَوْلُودٌ لَهُ} أن الولد لأبيه, لأنه موهوب له, ولأنه من كسبه، فلذلك جاز له الأخذ من ماله, رضي أو لم يرض . 23. { ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُوا } الأسباب لاتنفع مع القضاء والقدر،وخصوصا التي تترك بها أوامر الله . 24. { قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } ![]() الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء. 25. { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } العلم والرأي مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات . 26. { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم . 27. { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } في عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها . 28. آية الكرسي هذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى . 29. { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ } أي : بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ، والمتمسك به على ثقة من أمره . 30.{ وَإِن تُخْفُوهَا ( وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ ) فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} إذا صرفت في مشروع خيري لم يكن في الآية مايدل على فضيلة إخفائها ، بل قواعد الشرع تدل على مراعاة المصلحة . [السعدي] ![]() 31.{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} { وما تنفقوا من خير } كرر علمه تعالى بنفقاتهم لإعلامهم أنه لايضيع عنده مثقال ذرة ،وإن تك حسنة يضاعفها [السعدي] 32.{ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } لايسألون الناس بالكلية وإن سألوا اضطرارا لم يلحفوا في المسألة، فهذا الصنف أفضل ما وضعت فيهم النفقات [السعدي] 33. { وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها وانتفاء موانعها ؛ وليس فيها حجة للخوارج [ السعدي] 34. { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } أدخل هذه الآية بين آيات الربا لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ماحرم الله تكميل الإيمان وحقوقه [السعدي] فوائد وأسرار آية الدين : 35. آية الدين سر تكرر لفظ الكتابة ٨ مرات ١- أهمية الكتابة في الحقوق المالية ٢- أهمية تعلم الكتابةاستعدادا لانقطاع الوحي وحفظ الشريعة بكتابتها . ![]() 36. آية الدين سر كونها أطول آية : ١- لكون المعاملات المالية وكتابتها عادة تكون طويلة. ٢- لتكون الآية مشهورة مميزة لكونها تعنى بحفظ الحقوق. 37. آية الدين سر كونها من آخر مانزل : ١- لكون الفتوحات في آخر الإسلام ٢- كأنها وصية من الله في آخر وحيه بحفظ الحقوق ولذلك نزل بعدها { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |