|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (1-14) أهمية الأقصى عند الصحابة الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: سنتذاكر معكم أيها الأحبة الكرام في هذه الخواطر، بعض الحقائق المرتبطة بأرض طيبة باركها الله وقدسها، تميزت منذ أن أوجدها الله بالمكانة والأهمية الدينية والتاريخية، كيف لا، وهي لب الصراع بين الحق والباطل بمختلف الحقب والأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. عندما نتحدث عن الأرض المقدسة؛ نتكلم ابتداء عن المسجد الأقصى البيت المبارك، وعن بيت المقدس تلك المدينة العريقة، وعن جنة الله في أرضه فلسطين، وعن خيرة الله من أرضه بلاد الشام عموما.سنحذو في هذه الخاطرة حذو الصحابة الكرام خير من يقتدى بهم بعد الأنبياء، فقد كان للمسجد الأقصى مكانة كبيرة في نفوسهم ووجدانهم، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكره وتذكّره وإن لم يشاهدوه أو يزوروه، وكأنهم بلسان حالهم ومن شدة اهتمامهم قد رأوه بأعين قلوبهم قبل أعين أبصارهم، وسمعوا عنه بآذان عقولهم قبل آذان أسماعهم. على الرغم من أن الأمة هذه الأيام تمر بحالة من الضعف والذل والهوان والتفرق والتقهقر، وكل دولة وبقعة من أماكن المسلمين تغص بالمصائب والويلات والفتن والمحن، وفيها ما يكفيها من الهموم والابتلاءات، إلا أن عزاءنا في استحضار التذكير بالأرض المقدسة، لنا فيه سلف من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، بمجرد إسلامه في مكة بدأت علاقته القوية مع بيت المقدس، حاملا هم قضايا الأمة مستشرفا مستقبلها، من خلال رؤية ثاقبة وفكر نيّر وبُعد نظر عميق، رغم الظروف القاسية التي رافقت إسلامه في بداية الدعوة. أبو ذر رضي الله عنه كان رابع ثلاثة أو خامس أربعة أسلموا، فهو من أوائل من أسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة يصلون إلى بيت المقدس منذ البعثة، ومع صعوبة بدايات العهد المكي وتأسيس دين الإسلام، إلا أن هذه القضية كانت من أركان الدين عنده! فلا نستغرب اهتمام أبي ذر رضي الله عنه وسعيه لتكوين صورة متكاملة وتأسيس معلومات شاملة وإدراك تام، حتى يقوى التعلق، وتبقى حاضرة في الذاكرة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي ذر قلت: يا رسولَ الله، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أول؟ قال: (المسجدُ الحرامُ) . قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: (المسجدُ الأقصى). قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: (أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه). وما يؤكد أهمية تلك البقعة في حياة الصحابة، أن الحديث أعلاه كان بعد إسلام أبي ذر بفترة وجيزة بمكة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر فيه المسجد النبوي، فهذا الحديث يدل على اهتمام بالغ من قبل أبي ذر في تحصيل العلم المتعلق بتلك الأرض المباركة. تمر الأيام وينتقل أبو ذر إلى المدينة النبوية، ويرافق النبي عليه الصلاة والسلام ويلازمه، وهذا فيه إشارة إلى تمام إدارك ووعي منه في علم النبي عليه الصلاة والسلام وما يشغله وأولوياته، ويبقى المسجد الأقصى حاضرا في وجدان أبي ذر مع مرور السنين والأعوام، حتى تصبح مذاكرة بيت المقدس أولوية كأنها حلقة نقاشية وورشة عمل ولقاء حواري عند الصحابة عموما وأبي ذر خصوصا. قال أبو ذر رضي الله عنه : تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه -أي المسجد الأقصى- ولنعم المصلى هو»، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه من الأرض - الشطن: الحبل- حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً، أو قال خير له من الدنيا، وما فيها(1). هذا مشهد عظيم وموقف فريد من نوعه، يدل دلالة قاطعة على تلك الأهمية الكبيرة المغروسة في نفوس الصحابة للمسجد الأقصى، كما يدل على وعي تام في الخطط الاستراتيجية النبوية المستقبلية للأمة الإسلامية ومقدساتها المغتصبة، حتى أصبح المسجد الأقصى مادة نقاشية حوارية في مجالس الصحابة! لم يكتف أبو ذر رضي الله عنه بالتنظير والاستذكار وبيان تلك الأهمية، بل جاهد بنفسه مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وهي بداية فتوح الشام، وشهد فتح بيت المقدس مع عمر رضي الله عنه سنة 15هـ، وكان ضمن وجهاء وكبار علماء الصحابة الذين حرروا بيت المقدس، حتى سكنها أبو ذر وتحقق له الجمع بين العلم والعمل. كان أبو ذر من ضمن عدد من الصحابة ممن غادروا أوطانهم وسكنوا بيت المقدس، لتوكيد هذا الارتباط الوثيق بتلك الأرض الطيبة، وفي ذلك يقول أبو ذر: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في مسجد المدينة فضربني برجله، وقال: ألا أراك نائما فيه؟ قال: قلت يا نبي الله غلبتني عيني، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: قلت آتي الشام الأرض المقدسة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام قال: أعوذ بالله ....)(2). في ضوء ما مر بنا يظهر جليا، أهمية تلك الأرض في نفوس الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وحياتهم، وأبو ذر أنموذج لهذا التعلق، فمنذ إسلامه وفي أحلك الظروف في مكة، ثم انتقاله إلى المدينة، ثم مشاركته في فتح بيت المقدس، تبقى حاضرة حية في خلجات صدره ووجدانه. هذا الارتباط الشامل من النواحي الدينية والروحية والإيمانية، بل حتى العسكرية والسياسية والاستشرافية والاستراتيجية؛ لدى الصحابة الكرام لم يكن عشوائيا أو عاطفيا أو من قبيل ردود الفعل العابرة، بل كان تأصيلا شرعية مبنيا على إعمال فكر ونظر وتعبئة روحية، من خلال صحبتهم للنبي الأعظم [، وترجمة ذلك على أرض الواقع. الهوامش: 1- أخرجه الطبراني في الأوسط والهيثمي في مجمع الزوائد والحاكم في المستدرك، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2902. 2- تاريخ دمشق. اعداد: أيمن الشعبان
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (2-14) «فلسطين ورسالة السماء» اعداد: أيمن الشعبان الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: الله -سبحانه وتعالى لحكمة بالغة- يصطفي بعض الأماكن على غيرها، ويختار من البشر ما يشاء، ويجتبي من الأزمان ويفضلها على غيرها، كمحمد خيرة البشر، ورمضان وليلة القدر من الزمان، ومكة والمدينة وبيت المقدس من الأماكن. بيت المقدس وفلسطين خصوصا وبلاد الشام عموما، ارتبطت برسالة السماء ارتباطا وثيقا، في بداية الزمان ووسطه وآخره، حتى عُرفت بمهد الرسالات ومهبط الوحي ومعدن الأنبياء ومهاجرهم، والحدث المتجدد الحاضر في أذهان جميع المسلمين ونفوسهم وقلوبهم وعقولهم.لبيت المقدس مكانة عظيمة في حياة الأنبياء والمرسلين؛ فهو قبلتهم ومنارة الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، فإما ولد فيها نبي أو مر أو مات أو دفن، أو صلى وتقرب إلى الله أو لجأ وهاجر إليها أو عاش. بيت المقدس مبتغى الفاتحين، وفيه رباط المجاهدين، وهو محل الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها، وفيها يحسم الصراع مع الباطل ويقتل المسيح الدجال، وهي أرض المحشر والمنشر، وفي الشام عقر دار المؤمنين. يبدأ ارتباط تلك الأرض المباركة والبقعة المقدسة والمكان الطيب، برسالة السماء في بداية الزمان؛ إذ بمجرد بناء المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام؛ يصبح لتلك المدينة وما حولها شأن عظيم ومنزلة كبيرة، ولاسيما إذا عرفنا أنها ثاني مدينة عرفت التوحيد بعد مكة شرفها الله. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ؟ قال: المسجدُ الحرامُ. قال: قلتُ: ثم أيُ؟ قال: المسجدُ الأقصى. قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه»(1). وقد رجح الحافظ ابن حجر أن بناء المسجد الأقصى في عهد آدم، كما بني المسجد الحرام في عهده، فيقول: وكذا قال القرطبي: إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدأ وضعهما لهما بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما(2). هذه البداية لتلك الأرض المقدسة، تعطينا دلالات وإشارات لأحداث عظام وأمور جسام ستقع وتحصل عليها، فهي لب الصراع بين الحق والباطل ومحوره، منذ أن أوجدها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لم يعرف التاريخ بقعة ارتبطت زمانيا برسالة السماء كما هي في بيت المقدس، وكان لها شأن عظيم وتعلق كبير في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين؛ إذ بشر بفتحها، كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوكَ، وهو في قُبَّةٍ من أُدْمٍ، فقال: «اعددْ ستًا بين يديْ الساعةِ: مَوْتِي، ثم فَتْحُ بيتِ المقدسِ ...»(3). لم يكتف صلى الله عليه وسلم ببشارة أصحابه بفتح بيت المقدس، بل شارك بنفسه في غزوة تبوك، ثم جهز عليه الصلاة والسلام سرية بقيادة أسامة بن زيد في معركة مؤتة، واستمر هذا البعث بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت بيت المقدس في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15 هـ. وعن أبي أمامة قال قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما كانَ أوَّلُِ بدءِ أمرِكَ؟ قالَ: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسَى بي ورأت أمِّي أنَّهُ خرج منها نورٌ أضاءت لَهُ قصورُ الشَّامِ(4). يقول ابن كثير(5): وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها. ورغم الظروف الصعبة التي عاشها عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام، في أوائل سنوات البعثة في مكة وما لاقوه من اضطهاد؛ إلا أن تثبيت حقيقة الارتباط بتلك الأرض المقدسة، كان أولوية كبرى؛ إذ حصلت تلك المهمة العاجلة والرحلة السريعة، للنبي صلى الله عليه وسلم ، من مكة إلى بيت المقدس، تلك المعجزة العجيبة والرحلة الفريدة والحادثة المبهرة. الله -سبحانه وتعالى- قادر أن يكون المعراج مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلا ثم العودة إلى مكة، لكن لحكمة بالغة ومعان عظيمة، كانت هذه الفضيلة للأرض الطيبة التي تشرفت بأن تكون مسرى حبيبنا عليه الصلاة والسلام، ثم معراجه إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، وفرض أعظم ركن بعد التوحيد، واجتمع في هذه الليلة جميع الأنبياء وصلى بهم نبينا عليه الصلاة والسلام إماما. أما في آخر الزمان تبقى هذه الصلة الوثيقة والرابط المتين، بين رسالة السماء وفلسطين، حتى يحسم الصراع بنزول عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويقتل مسيح الضلال المسيح الدجال في باب لد بفلسطين. يقول عليه الصلاة والسلام: فيُدْرِكُه- أي عيسى عليه السلام- عند بابِ لُدٍّ الشرقيِّ، فيقتلُه – أي المسيح الدجال-، فيَهْزِمُ اللهُ اليهودَ، فلا يَبْقَى شيءٌ مِمَّا خلق اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- يَتَواقَى به يهوديٌّ.(6). ويقول عليه الصلاة والسلام: لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي يقاتِلونَ على الحقِّ، ظاهِرِينَ على مَن ناوَأَهُمْ، حتى يقاتِلَ أخِرُهم المسيحَ الدجالَ(7). بل ذهب عليه الصلاة والسلام لوصف دقيق وبُعد عميق، لما يحصل آخر الزمان وإعجاز مبهر، عندما أخبر أننا سنقاتل اليهود! مع أنه في زمانه صلى الله عليه وسلم كان الروم هم من يسيطر على بيت المقدس! يقولصلى الله عليه وسلم : «تُـقـاتِـلـونَ الـيـهودَ، حتى يَـخـتَــبِـئَ أحــدُهــم وَراءَ الحجَرِ، فيقولُ: يا عبدَ اللهِ، هذا يهودِيٌّ وَرائي فاقتُلْه» وفـي رواية: «حـتـى يـقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسـلم هذا يـهـودي ورائي فاقتله»(8). وهنا لفتة عجيبة تؤصل بقوة لحقيقة ارتباط تلك الأرض المباركة برسالة السماء بمختلف الأزمان، وهي أن النصر لن يتحقق إلا بمقدمات وأسباب من أعظمها: تحقيق العبودية والاستسلام لرب البرية، التي هي خلاصة رسالة السماء التي يحملها جميع الأنبياء والمرسلين لدعوة كافة البشر. فهذه وقفات وحقائق عابرة، تبين الارتباط الوثيق والصلة المتينة والعلاقة القوية، بين رسالة السماء والأرض المقدسة، فينبغي على كل مسلم استحضار فقه هذه الحقيقة وفهمها، بل حفظها؛ لأنها أصل مهم في صراعنا من اليهود، وتثبيت حقنا الشرعي لمقدساتنا. الهوامش: 1- متفق عليه. 2 - فتح الباري( 6/409)، ط. دار المعرفة. 3 - صحيح البخاري. 4 - صحيح السيرة النبوية ص52. 5 - تفسير ابن كثير(1/444). 6 - صحيح الجامع برقم 7875. 7 - صحيح الجامع برقم 7294. 8 - متفق عليه واللفظ للبخاري.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (3-14) إبراهيم عليه السلام الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن خير الخلق بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأبو الأنبياء، له قصة ومواقف وعبر، مع الأرض المقدسة؛ إذ قصدها بالسكنى والعبادة، وهو أول من هاجر إليها في سبيل الله فرارا بدينه من القوم الكافرين، حتى عرفت بعدها بمهاجر إبراهيم. بعد أن نجى الله -سبحانه- إبراهيم من تلك النار العظيمة، التي ألقاه فيها عبّاد الأصنام في العراق النمرود ومن معه من الكلدانيين، ومن كيدهم ومكرهم كما قال تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} ( الأنبياء:70)،أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين، ونجاه الله من النار.(1). قيل: سلط الله على النمرود أضعف خلقه البعوض، وقعت في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت إلى دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمزربة من حديد، وبقي هكذا قرابة أربعمائة سنة. وقيل: إنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْآشُورِيِّينَ فَأَخَذُوا بِلَادَهُمْ، وَانْقَرَضَ مُلْكُهُمْ وَخَلَفَهُمُ الْأَشُورِيُّونَ، وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ الْعِيلَامِيِّينَ مِنْ أَهْلِ السُّوسِ تَسَلَّطُوا عَلَى بِلَادِ الْكَلْدَانِ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ فِي حُدُودِ سَنَةِ 2286 قبل الْمَسِيح. (2). بعدها هاجر إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوط وزوجه سارة، إلى حران ثم مصر، ولوط انتقل إلى أرض الغور بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في زمانهم، وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا، وهي الآن في أغوار الأردن على حدود فلسطين. وحصلت القصة المعروفة في مصر مع ذاك الملك وزوجه سارة، ثم وهب لها هاجر القبطية أمة، ثم هاجروا إلى الأرض المقدسة في فلسطين، قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:71). أي إنه تعالى أتم عليه النعمة فأنجاه وأنجى لوطا معه إلى الأرض التي باركها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء الذين انتشرت شرائعهم فى أقاصى المعمورة وكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها، فهى أس الخيرات الدينية والدنيوية معا.(3). هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدو له كافرين بربه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان) . وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. والأرض: هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالمين، أي للناس، يعني الساكنين بها؛ لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن. (4) ثم قال تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} (الأنبياء:72)، نافلة: أي زيادة وفضلا من غير سؤال.(5). {جَعَلْنَا صالحين} بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين.(6). إبراهيم عليه السلام لما تقدم به العمر، سأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقه من الصالحين، فقال سبحانه عن إبراهيم: {ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿100﴾ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات 99-101)،أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته؛ وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحس من قومه العداوة الشديدة، هاجر، فلأن يجب على غيره بالأولى.(7). رب هب لي من الصالحين أي ولدا صالحا يعينني على الدعوة والطاعة فبشرناه بغلام حليم أي متسع الصدر حسن الصبر والإغضاء في كل أمر، والحلم رأس الصلاح وأصل الفضائل.(8). الله -سبحانه وتعالى- وهب لإبراهيم مستجيبا لدعوته إسماعيل، في الأرض المقدسة فلسطين، ثم وهب له زيادة وفضلا وهبة إسحاق ويعقوب، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت:27)، فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.(9). وعندما ترك هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام في مكة، كان يتردد بين بيت المقدس ومكة، في إشارة لأهمية البقعتين الدينية وارتباطهما الكبير، وأسس جيلا من خيرة الخلق على التوحيد، يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، حتى أصبحت تلك الأرض منارا للعلم ومنبرا للأنبياء ومحرابا للأتقياء. ففلسطين هي الأرض التي عاش فيها أنبياء الله إسحق ويعقوب وذريته، صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم، فقال تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ { 72 } وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(الأنبياء: 72 - 73). وفي بيت المقدس جعلهم الله أعلاما ومقاصد يقتدى بهم في الدين لما آتاهم من العلم والنبوة، ثم أثنى عليهم في نهاية الآية بقوله سبحانه {وكانوا لنا عابدين}. بذلك عرفت الأرض المقدسة بأنها مهاجر الأنبياء، بعد أن سن ذلك خليل الرحمن عليه السلام، بل ستبقى كذلك إلى قيام الساعة، فيهاجر إليها أتباع الأنبياء من الصالحين، يقول عليه الصلاة والسلام (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم). الهوامش: 1- التفسير المنير للزحيلي. 2- ابن عاشور. 3- تفسير المراغي. 4- ابن عاشور. 5- تفسير القاسمي. 6- تفسير أبي السعود. 7- تفسير القاسمي. 8- تفسير القاسمي. 9- السعدي. اعداد: أيمن الشعبان
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (4-14) إسحق ويعقوب ويوسف – عليهم السلام – الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: من الحقائق الشرعية والقصص والعبر، أن الله -سبحانه وتعالى- بشر إبراهيم بإسحق ويعقوب، وهو في الأرض المقدسة فلسطين، بعد ما تقدمت به السن وزوجه سارة عقيم،بإرسال ملائكة كرام كانوا في طريقهم ليدمروا القرية التي فيها قوم لوط، ويخبروه لينجو والذين آمنوا معه، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } (هود:69-71). وما حصل هو معجزة ومنة ربانية لخليل الرحمن، فقد ذكرت زوجه سارة ثلاثة موانع لحصول الحمل والولادة، أنها عجوز وعقيم وزوجها شيخ كبير، فقالت الملائكة: «أتعجبين من أمر الله»، فأمر الله لا عجب فيه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس: 82)، وأن هذه المعجزة من تمام رحماته وبركاته وإحسانه على عباده المتقين.وقبل ذلك بشر الله إبراهيم بإسماعيل في الأرض المقدسة، قال تعالى: {وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (الصافات:99-101). بعد وفاة إبراهيم عليه السلام ودفنه في الأرض المقدسة، قامت ذريته إسحق ويعقوب بواجبهم في الدعوة إلى الله وهداية الناس، وحافظوا على إمامتهم وقيادتهم للناس، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(الأنبياء: 73). عن أبي هريرة رضي الله عنه:سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم لله». قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: «فأكرم الناس: يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله». قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: «فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية: خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».(1). وفي رواية يقول عليه الصـــلاة والسلام: الكريمُ ، ابنُ الكريمِ ، ابنِ الكريمِ ، ابنِ الكريمِ ، يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحقَ بنِ إبراهيمَ عليهم السَّلامُ»(2). وَقَالَ النَّوَوِيّ: وأصل الْكَرم كَثْرَة الْخَيْر وَقد جمع يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَكَارِم الْأَخْلَاق مَعَ شرف النُّبُوَّة، وَكَونه ابْنا لثَلَاثَة أَنْبيَاء متناسلين وَمَعَ شرف رياسة الدُّنْيَا ملكهَا بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان. والرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام وأخبر والده يعقوب بها كانت في الأرض المقدسة، وكذلك البشارة ليوسف بأن الله سيجتبيه ويعلمه تأويل الأحاديث أيضا في بيت المقدس، قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿4﴾قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿5﴾وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (يوسف:4-6). فلما حزم إخوة يوسف أمرهم وألقوه في غيابت الجب، وقيل هو مكان في بيت المقدس، ثم حصل ما حصل مع يوسف عليه السلام من محن وابتلاءات ثم تمكين ورفعة وغلبة وهو في مصر. يوسف عليه السلام من شدة تعلقه بالأرض المقدسة، ولم يتيسر له العيش فيها والتعبد بعد النبوة، أوصى علماء بني إسرائيل أن ينقلوا عظامه معهم عند انتقالهم إلى فلسطين، وكان يعلم بأنهم سيتركون مصر، وحصلت بعد وفاته معجزة؛ فهو كريم حيا وميتا عليه السلام. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فأكرَمه فقال له ائتِنا فأتاه فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَلْ حاجتَك فقال ناقةٌ نرَكَبُها وأعنُزٌ يحلُبُها أهلي فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعجَزْتُم أن تكونوا مِثلَ عجوزِ بني إسرائيلَ فقال: إنَّ موسى لَمَّا سار ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ ضلُّوا الطَّريقَ، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤُهم إنَّ يوسفَ لمَّا حضَره الموتُ أخَذ علينا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ ألَّا نخرُجَ مِن مصرَ حتَّى ننقُلَ عِظامَه معنا، قال: فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه؟ قال: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ، فبعَث إليها فأتَتْه، فقال: دُلِّيني على قبرِ يوسُفَ قالت: حتَّى تُعْطيَني حُكْمي! قال: وما حُكْمُكِ؟ قالت: أكونُ معك في الجَنَّةِ؛ فكرِهَ أن يُعْطِيَها ذلك فأوحى اللهُ إليه أن أعطِها حُكْمَها، فانطلَقَتْ بهم إلى بُحَيرةٍ مَوضعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالتِ: انضُبوا هذا الماءَ، فأنضَبوه، قالتِ: احتفِروا واستخرِجوا عِظامَ يوسُف،َ فلمَّا أقَلُّوها إلى الأرضِ إذ الطَّريقُ مِثلُ ضوءِ النَّهارِ.(3). يوسف عليه السلام الذي اتصف بالكرم كما ذكرنا، أكرمه الله -عز وجل- بذلك حتى بعد موته، فحصلت تلك المعجزة وأنار بجسده الطاهر الطريق لموسى ومن معه، في إشارة لأهمية الأرض المقدسة وارتباطها بأنبياء الله وأصفيائه. الهوامش: 1- السلسلة الصحيحة برقم 3996. 2- صحيح البخاري. 3- السلسلة الصحيحة برقم 313. اعداد: أيمن الشعبان
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (5-14) «موسى عليه السلام» الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: بعد أن نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل، وأغرق فرعون وجنوده، بدأت مرحلة جديدة من الحرية والخضوع لرب البرية، سار بهم موسى إلى الأرض المقدسة، في أول خطوة وأهم واجب عليهم، لتحريرها من الوثنيين العمالقة الجبارين من الكنعانيين. لكن لما كان النصر والتمكين له أسباب ومقدمات كلها معنوية! ولا زال قوم موسى غير مهيئين لذلك ولم يكونوا على استعداد لهذه المهمة الكبرى العظيمة؛ لأن ما يتبعها خلافة في الأرض بدين الله، فأول اختبار بأصل مهم يقوم عليه الدين وهو التوحيد، رأوا قوما يعبدون صنما، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم وثنا يعبدونه، {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(الأعراف: 138).ثم حصلت لهم أحداث عظام عدة، ذهب موسى لميقات ربه، فعاد وهو يحمل ألواح التوراة غضبان أسفا وقد عبد قومه العجل، ثم وقعت معجزات عدة وآيات خوارق، بعدها سار موسى بقومه باتجاه الأرض المقدسة. أمر موسى قومه بالجهاد والقتال في سبيل الله، وتحرير تلك الأرض من الوثنيين؛ لأنها أرض مقدسة وأحق من يتعبد الله فيها، هم عباد الله المتقين، وهذا يكاد يكون آخر اختبار وامتحان لبني إسرائيل من بين سلسلة اختبارات فشلوا فيها. بدأ موسى عليه السلام بتذكير قومه بالنعم التي أسداها وتفضل بها ربنا سبحانه وتعالى عليهم، لأهمية المهمة وعظم المكان المتجهين إليه، والقوم لهم سوابق في التنصل والتخلي والتراجع، قال تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ}(المائدة:20)، فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق، وأكرمهم على الله تعالى، وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية، الداعي ذلك لإيمانهم وثباته، وثباتهم على الجهاد، وإقدامهم عليه(1). بعد هذا التذكير بنعم الله، أمرهم موسى بالقتال ودخول الأرض المقدسة، بطريقة فيها تطمين ويقين بأن الله سينصرهم؛ لأنه كتب عليهم ذلك، {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}(المائدة: 21). يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء، ثم تلوثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين. فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه، (التي كتب الله لكم) أي: التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره، ولا ترتدوا على أدباركم أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا فتنقلبوا خاسرين أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة(2) {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}(المائدة: 22). إلا أن قومه ما استجابوا وقالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين أي: متغلبين ليس لنا مقاومتهم، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها أي: من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها، فإن يخرجوا منها أي: بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فإنا داخلون(3)، يذكر أن عدد من كان معه قرابة (600 ألف) ولم ينضم لموسى في القتال إلا هارون واثنين معه، قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(المائدة: 23). فكان جوابهم: { قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }(المائدة: 24)، فما أشنع هذا الكلام منهم، ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق، الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم، وإعزاز أنفسهم(4). فلما رأى موسى عليه السلام عنادهم وعتوهم وإصرارهم على الخذلان، دعا ربه لينتقم منهم، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }(المائدة: 25)، أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلّغه عنه- إني لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسي وأمر أخي ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر والمنشط والمكره(5). ونتيجة لهذا الخذلان وعدم الانصياع لأمر العزيز الديان على لسان موسى، عاقبهم الله -سبحانه وتعالى- بالتيه، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }(المائدة:26)، أي: إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم، مدة أربعين سنة، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين، وهذه عقوبة دنيوية، لعل الله تعالى كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر(6). بقي موسى عليه السلام في فترة التيه يدعو ويأمر قومه بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وحصلت معجزات عدة منها: قصة البقرة، ثم مات هارون في التيه وبعده بثلاث سنوات جاء ملك الموت ليقبض روح موسى عليه السلام ولما يدخل بيت المقدس، ولشدة تعلقه بتلك الأرض عندما أيقن أن الموت نازل به دعا الله أن يدفن بأطرافها. أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أُرسِلَ ملكُ الموتِ إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءهُ صَكَّهُ، فرجعَ إلى ربهِ، فقال: أرسَلْتني إلى عبدٍ لا يُريدُ الموتَ، فردَّ اللهُ عليه عيْنَهُ، وقال: ارجع، فقُلْ له يضعُ يدَهُ علَى متْنِ ثورٍ،فلهُ بكلِّ ما غطَّت بهِ يدُهُ بكلِّ شعرةٍ سنةٌ. قال: أيْ ربِّ، ثم ماذا؟ قال: ثم الموتُ، قال: فالآن، فسأل الله أن يُدْنِيَهُ مِن الأرضِ المُقَدَّسةِ رميةً بحجرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكُم قبرَهُ، إلى جانبِ الطَّريقِ، عندَ الكَثيبِ الأحمَرِ». بذلك تنتهي قصة كليم الله موسى عليه السلام، بدفنه في بيت المقدس تلك الأرض التي طالما تمنى دخولها وإقامة مجامع موحد يحقق العبودية، إلا أن حكمة ربانية بالغة حالت دون ذلك. الهوامش: 1- تفسير السعدي. 2- تفسير القاسمي. 3- القاسمي. 4- السعدي. 5- تفسير المراغي. 6- تفسير السعدي. اعداد: أيمن الشعبان
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (6-14) يوشع عليه السلام الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: بعد أن خذل بنو إسرائيل موسى، ورفضوا الجهاد لفتح بيت المقدس، عاقبهم الله بالتيه أربعين سنة، وتوفي موسى في فترة التيه، ليقود بني إسرائيل نبي الله يوشع بن نون عليه السلام، فتى موسى في قصته مع الخضر. تغير الجيل الذي خذل موسى وقعد عن الجهاد، وجاء بعده جيل موحد صالح مطيع لله، فسار بهم نبي الله يوشع لفتح بيت المقدس، وكانت من أحصن المدائن سورا وأعلاها قصورا وأكثرها أهلا، فحاصرها ستة أشهر.وبعد أن حاصروا المدينة المقدسة، واحتدمت المعركة بين الجيشين، واقتربت الشمس من الغروب يوم الجمعة، وإن دخل عليهم المغيب لدخل بغياب الشمس يوم السبت، فلا يتمكنون معه من القتال. نظر يوشع إلى الشمس فقال لها: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئا، فحبست وحصلت معجزة لم تحصل عبر التاريخ إلا ليوشع وفي تلك الأرض المقدسة، وفتح بيت المقدس. وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس».(1). والقصة بتمامها فيها عبر وفوائد ودرر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم فجاءت يعني النار لتأكلها، فلم تطعمها فقال: إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده فقال: فيكم الغلول فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعها فجاءت النار فأكلتها. زاد في رواية: فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفناوعجزنا فأحلها لنا».(2). وهنا التفاتة جميلة لطالبي النصر والتمكين، التي أسبابها كلها معنوية كما في كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة؛ إذ طلب يوشع ألا يشارك معه في فتح بيت المقدس، كل من تعلق قلبه بالدنيا، أو انشغل فكره وعقله بأمر من شؤونها، لذلك يقول النووي في شرحه على مسلم(3): إن الأمور المهمة ينبغي ألا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها، ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها؛ لأن ذلك يضعف عزمه، ويفوت كمال بذل وسعة فيه. قال عياض، اختلف في حبس الشمس هنا، فقيل: ردت على أدراجها، وقيل: وقفت، وقيل: بطئت حركتها. وكل ذلك محتمل، والثالث أرجح عند ابن بطالوغيره.(4). قال الألباني: وأيها كان الأرجح، فالمتبادر من الحبس أن الغرض منه أن يتمكن النبي يوشع وقومه من صلاة العصر قبل غروب الشمس، وليس هذا هو المراد، بل الغرض، أن يتمكن من الفتح قبل الليل؛ لأن الفتح كان يوم الجمعة، فإذا دخل الليل دخل يوم السبت الذي حرم الله عليهم العمل فيه(5). وعندما فتحها يوشع أمره الله سبحانه أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس، أن يدخلوابابها سجدا ويقولون حط عنا ذنوبنا،فخالفوا ودخلوا متعالين متكبرين، يقول ربنا سبحانه: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } ( الأعراف:161). {وادخلوا الباب سجدا} أي: خاضعين لربكم مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، فأمرهم بالخضوع، وسؤال المغفرة، ووعدهم على ذلك مغفرة ذنوبهم والثواب العاجل والآجل.(6). يقول عليه الصلاة والسلام: «قيل لبني إسرائيل {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً، وَقُولُوا حِطَّةٌ} فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعيرة».(7). ويقول سبحانه في موضع آخر: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } ( البقرة:58-59). {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم، ولم يقل فبدلوا؛ لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا {قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة، استهانة بأمر الله، واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم، ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم، قال: {فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم {رِجْزًا} أي: عذابا {مِنَ السَّمَاءِ} بسبب فسقهم وبغيهم.(8). بهذا كلما حقق بنو إسرائيل الاستجابة لأنبيائهم، أثابهم الله سبحانه بالاستقرار والأمن والأمان والخيرات، وإذا خالفوا عاقبهم وحرمهم من الانتفاع الديني والدنيوي من الأرض المقدسة المباركة. الهوامش: 1- السلسلة الصحيحة برقم 202. 2- متفق عليه. 3- (12/51). 4- فتح الباري لابن حجر. 5- السلسلة الصحيحة ( 1/398). 6- تفسير السعدي. 7- صحيح الجامع برقم 4430. 8- تفسير السعدي. اعداد: أيمن الشعبان
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() الأرض المقدسة.. حقائق وعبر (7-14) داود عليه السلام الحمد لله الذي فضَّل بعض الأماكن واصطفاها، وقدَّم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد: بعد (يوشع) -عليه السلام- انفصل في بني إسرائيل الحكم عن الدين، فأصبحت الملوك تسوسهم وتحكمهم والأنبياء تهديهم، فزاد طغيانهم فاستكبروا، وكذبوا الرسل، وقتلوا الأنبياء، فسلط الله عليهم ملوكا ظلمة جبارين طغوا وبغوا عليهم. وتتالت الهزائم على بني إسرائيل، حتى إنهم أضاعوا التابوت، وكان في التابوت بقية مما ترك آل موسى وهارون، فقيل: إن فيها بقية من الألواح التي أنزلها الله على موسى، وعصاه، وأمورا أخرى، كان بنو إسرائيل يأخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا النصر، فساءت حالهم.(1).فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمدا. وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبيا من الأنبياء يقال له (شمويل)، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا ليقاتلوا معه الأعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.(2). وكان بين وفاة (يوشع) وبعث (شمويل) 460 سنة. بعد ذلك طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا لقتال عدوهم من العماليق، واسترداد أرضهم المقدسة وأموالهم التي سلبت، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة:246). ثم حصل لهم من الجدال والتعنت، إلى أن بعث الله لهم (طالوت) ملكا، جمع بين العلم والقوة، وقبلوا ملكه، ورد الله إليهم التابوت، خرجوا معه لفتح بيت المقدس، وفي الطريق مروا في أرض قفرة فأصابهم حر وعطش شديد، فابتلاهم الله بنهر وقال لهم طالوت: فمن شرب منه فليس مني، سيخرج من الجيش ولن يتشرف بالقتال معنا؛ لأنه ليس أهلا لذلك، إلا من اغترف غرفة واحدة بيده، فشرب معظمهم منه حد الارتواء. فلما جاوز النهر مع من بقي من المؤمنين ممن لم يشرب من النهر، رأوا قلتهم وكثرة أعدائهم، فقال كثير منهم {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، فهم أكثر عددا وعدة منا! فقال أهل الإيمان والصبر والثبات واليقين الراسخ: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}(البقرة:249)، بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، {والله مع الصابرين} بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.(3). ثم دعوا الله بأن يثبتهم ويفرغ عليهم صبرا، {فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة}(البقرة:251)، أي ملكه على بني إسرائيل مع النبوة، بذلك أقام داود عليه السلام مملكة التوحيد في بيت المقدس. عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، نَتَحَدَّثُ: أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ.(4) لقد أكرم الله نبيه الكريم داود بمعجزات عدة،لقد أنزل عليه الزبور: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}(الإسراء:55)، وآتاه جمال الصوت، فكان عندما يسبّح، تسبح الجبال والطيور معه، والناس ينظرون، وألان الله في يديه الحديد، حتى قيل إنه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع، وقد تكون هذه الإلانة بمعنى أنه أول من عرف أن الحديد ينصهر بالحرارة، فكان يصنع منه الدروع.(5) وأعطاه الله ملكا قويا عظيما يخيف أعداءه حتى بغير الحروب، ورزقه الحكمة وفصل الخطاب وقدرة على تمييز الحق من الباطل، وربنا -سبحانه وتعالى- أوحى لداود ألا يحكم حتى يسمع من الطرفين الخصمين. وداود عليه السلام كان يأكل من عمل يده كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».(6) داود عليه السلام كان إذا دخل في محرابه يصلي ويتعبد، يأمر حراسه بألا يسمحوا لأحد بالدخول عليه، وذات يوم فوجئ باثنين من الرجال أمامه، وفزع منهما وسألهما من أنتما؟ قال أحدهما: لا تخف جئناك لتحكم بيننا بالحق في خصومة. قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ }... الآيات ص. 22،21). وحكم داود دون أن يسمع رأي الطرف الآخر، واختفى الرجلان ليدرك داود أن الله أرسلهما ليختبره وهما ملكان، فخر داود راكعا وسجد لله واستغفره وتاب إليه، فغفر الله له ذلك، وكان له منزلة عالية وصار بعد التوبة أحسن منه قبلها. يقول عليه الصلاة والسلام: «السجدة التي في (ص) سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا».(7) ويقول عليه الصلاة والسلام مبينا أن داود عليه السلام كان أعبد الناس: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا».(8) بذلك يكون لنبي الله داود عليه السلام، مواقف وعبر، في الحكم والقضاء والعلم والملك والنبوة، من جهاد في سبيل الله لفتح بيت المقدس، وإقامة شعائر الله من صوت حسن وتعبد وسرعة رجوع وتوبة وإنابة، وبعد وفاته ورثه سليمان عليه السلام في الملك والنبوة، وهذا ما سنقف عليه بمشيئة الله في حلقة قادمة من تلك الحقائق والعبر المتعلقة بالأرض المقدسة. الهوامش: 1- قصص الأنبياء، علي حسين سندي. 2- قصص الأنبياء، ابن كثير. 3- تفسير السعدي. 4- صحيح البخاري. 5- قصص الأنبياء، علي حسين سندي. 6- صحيح البخاري. 7- صحيح الجامع برقم 3682. 8- صحيح البخاري. اعداد: أيمن الشعبان
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |