المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 859 - عددالزوار : 118851 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 40195 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366998 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-01-2025, 10:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من

المضامين التربوية المستنبَطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام

ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن

د. عوض بن حمد الحسني

أولًا: توطئة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين؛ محمد بن عبدالله، الْمُرسَل رحمة للعالمين، وعلى أصحابه وآل بيته الأكرمين، وعلى من سار على نهجه بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن عنوان هذا البحث، الذي سيكون مقالًا بحثيًّا بإذن الله على عدة مقالات؛ حتى لا نطيل على القارئ، وكذلك حتى تفتح مجالًا فكريًّا للقارئ للإجابة عن بعض التساؤلات التي ستُطرح بإذن الله في المقالات القادمة لاستكمال جوانب الموضوع؛ فيكون مشاركًا لنا فكريًّا في التحفز لمتابعة ما سيُطرح، ومدى موافقته لتوقعاته؛ ولذا فإن عنوان البحث: (المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن).

والسؤال الرئيس لهذا البحث كما هو متبع في البحث التربوي: ما المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن؟


وهذا السؤال الرئيس يتفرع منه تساؤلات فرعية هي محور البحث والطرح في هذا المنبر للإجابة عن هذا التساؤل الرئيس؛ وهي كالآتي:
1- ما الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم؟

2- ما طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِعَ في السجن ظلمًا وبهتانًا؟

3- كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده في سجن عزيز مصر التوظيف الأمثل؟

4- تعبير يوسف عليه السلام رؤيا الملك، وتعامله الأمثل الراشد مع خبر خروجه من سجن عزيز مصر.

وقد بذلت - مستعينًا بالله أولًا وأخيرًا - كل ما بوسعي بذله من جهد عقلي وفكري وتربوي؛ للإجابة عن هذه التساؤلات؛ لعل ما سوف يتم طرحه هنا يُضفي شيئًا من الجِدَّة، أو يكون جمعًا لبعض المتفرقات، أو ترتيبًا لبعض الأفكار والرؤى حول هذه الفترة الزمنية من حياة رسول الله؛ يوسف عليه السلام.

فإن حياة الرسل والأنبياء عليهم السلام كلها تربية وتوجيه للأمة المسلمة في كل زمان ومكان، والمضامين التربوية التي يُمعن الباحث فكره لاستنباطها من حياتهم لَهِيَ كفيلة بإذن الله عز وجل للوقاية من كل سلوك غير سويٍّ، في معتقد قلبي، أو تصورٍ فكري، أو سلوكٍ عملي، وكذلك هي علاج وتصحيح مسار لكل من وقع في خطأ عقدي، أو تصور فكري أو سلوكي عملي غير سوي.

لذا؛ وجَّه الله رسولَه وحبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن كان قبله من الرسل والأنبياء، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين؛ قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، ومن هؤلاء الرسل والأنبياء يوسف عليه السلام، الذي سوف نعيش معًا في هذا البحث مع فترة زمنية من فترات حياته المليئة بكل توجيه وتربية، تحتاجه الأمة المسلمة في كل زمان ومكان، لا سيما في هذه الأزمنة العصرية التي تمر بها، ففيها كثير من التحديات في جميع المجالات، لا سيما المجال الأخلاقي، الذي يعتبر الأمان الأول لحماية المجتمعات من الإغراق في الشهوات، والتشبع بالماديات المميتة للقلب والإحساس، وما أجمل ما جادت بها قريحة الشاعر أحمد شوقي رحمه الله بهذه الأبيات الأخلاقية؛ فقال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقِيَتْ
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

[شوقي، 1425هـ، ص: 183].

فالمحافظة على أخلاقيات الأمة المسلمة من خلال تتبع حياة الرسل والأنبياء، والاستفادة منها، وتوظيفها التوظيفَ الإيجابيَّ، تعتبر من "ضروريات العصر للمحافظة على الهوية الإسلامية، وللنهوض بالمجتمع وتقدمه؛ فالأخلاق الحسنة وقِيَمُها النبيلة من عوامل استقرار وأمن وتقدم المجتمع، في جميع الأصعدة، وسوء الأخلاق من أسباب تفكك المجتمع وانهياره وذوبانه في هوية غيره"؛ [الحسني، 1427هـ، ص: 4، 5]، وهذه الفترة المحددة في البحث من حياة يوسف عليه السلام تتعلق بجوانب كبيرة من هذه الجوانب المشار إليها؛ لذا كان اختيار الباحث لهذا الموضوع.

وسنكتفي في هذا المقال بالتوطئة السابقة للموضوع، والإجابة عن التساؤل الفرعي الأول: ما الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم؟
سورة يوسف سورة مكية، وآياتها إحدى عشرة ومائة، نزلت هذه السورة في فترة حرجة من فترات مراحل الدعوة المحمدية؛ وهي فترة التحدي الْمُعْلَن من قريش على الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه أبي طالب؛ السياجِ المنيع الذي منع كفار قريش من الاعتداء المعلن أو التعرض لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء، أثناء مزاولة الدعوة، فبعد موته اشتد الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ فبلغت الحرب مبلغًا عظيمًا حتى كادت أن تتوقف الدعوة في مكة، حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحدٌ من مكة وما حولها؛ وذلك لشدة وطأة كفار وصناديد قريش على الإسلام وأهله في هذه الفترة الحرجة من فترات الدعوة المكية، وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه بيعة العقبة الأولى ثم الثانية، وفي هذه الفترة الحرجة نزلت هذه السورة التي تضمنت قصة يوسف عليه السلام كاملةً، بعد سورة هود، وكان في ذلك تسلية وتثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام.

إن هذه السورة تضمنت قصة من قصص الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، متكاملة في جميع أجزائها، ومحاورها، ومضامينها، لشخصية واحدة من الرسل والأنبياء؛ وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام أجمعين، ووصف الله عز وجل هذه القصة في مطلع السورة بوصف لم يصف به قصة من قصص القرآن الكريم؛ وصفها بأنها أحسن القصص؛ قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3].

وحسبُ الباحث أن يقف مع جزء من هذه القصة ابتداءً من الآية الحادية والعشرين؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]، إلى الثالثة والخمسين؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف: 53]؛ لاستنباط بعض المضامين التربوية من خلال المحاور التي سوف يتعرض لها الباحث ضمن بحثه التربوي لهذه الآيات القرآنية.

تميزت قصة سورة يوسف عليه السلام كاملة بأنها أحسن القصص كما وصفها الله عز وجل، وهذا ما جعل الباحث يطرح سؤالًا: لماذا سُمِّيَتْ سورة يوسف التي تضمنت هذه القصة بأحسن القصص؟!


فنَقَلَ (ماضي) في كتابه المسمى (سياحة إيمانية في سورة يوسف) عدة إجابات تعليلية لهذا التساؤل المطروح، نوردها [1414هـ، ص: 8-10]:
لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العِبَرِ والحِكَمِ ما تتضمن هذه القصة، وبيان ذلك فيما يقول الإمام القرطبي في [الجامع لأحكام القرآن، ج: 5، ص: 334، دار الريان للتراث]: "قوله تعالى في آخرها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].

وقيل: سمَّاها أحسن القصص؛ بحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد التقائهم - عن ذكر ما تعاطَوه وفعلوه، وكرمه في العفو عنهم؛ حتى قال: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92].

وقيل: لأن الله تعالى ذكر فيها الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجن والأنس، والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهَّال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة، وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا.

وقال بعض الحكماء: إنما كانت أحسن القصص؛ لأن كل ما ذُكِرَ فيها كان مآله السعادة، وانظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز، قيل: والملك أيضًا أسلم مع يوسف وحسن إسلامه، والساقي صاحب الرؤيا والشاهد فيما يُقال، فما كان أمر الجميع إلا إلى الخير.

وقصص الأنبياء كلها فيها العِبر النافعة، والأحكام الشافية، والتوجيهات الربانية الكافية لكل خير، والمحذِّرة من كل هلاك، ولكن تخصيص هذه السورة بأحسن القصص؛ لأن فيها "آيات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد؛ لِما فيها من التنقلات من حال إلى حال، ومن منحة إلى منحة، ومن منَّة إلى منة، ومن ذلة ورِقٍّ إلى عزٍّ وملك"؛ [السعدي، 1418هـ، ص: 13].

ويستمر السعدي رحمه الله في سرد بعض هذه الحكم والعبر لهذه التسمية قائلًا: "ومن فُرقة وشتات إلى اجتماع وإدراك غايات، ومن حزن وتَرَح إلى سرور وفرح، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة، فتبارك من قصَّها ووضحها وبيَّنها"؛ [السابق، ص: 13].

فالملمح البارز لهذه السورة كما اتضح مما سبق أنها تتكلم عن قصة يوسف عليه السلام، بأسلوب قصصي متكامل في الأدوار والأبعاد القصصية، مما يجعل المتابع لها والقارئ متحفزًا لمتابعة القصة بوعي وإدراك، ومتلهفًا لمعرفة النهايات.

فالقصة القرآنية "ذات مغزًى تربوي رفيع، دراستها على جانب كبير من الأهمية، خصوصًا من الناحية التربوية؛ فهي قالب تربوي، ومنبر إعلامي، تنفذ من خلاله الدعوة إلى القلوب فتهزها، وإلى النفوس فتنفُضها نفضًا، وفيها تربية شاملة متكاملة تربي الفرد والجيل المسلم على الأخلاق الإسلامية والتعاليم الربانية"؛ [الرحيلي، 1420هـ، ص ح].

وأخيرًا، فإن المقصود بـ"أحسن القصص" عامة ما في القرآن الكريم، فكلها حسنة؛ لأنها من الله عز وجل، ولكن مقارنة بما يقص القاص، فإن "قصص القرآن الكريم أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه، وبما يتضمنه من العِبر والحِكم، فكل قَصَص في القرآن هو حسن في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن، وليس المراد أحسن قصص القرآن، حتى تكون قصة يوسف عليه السلام أحسن من بقية قصص القرآن"؛ [ابن عاشور، 1420هـ، ج: 12، ص: 10].

وهكذا كانت هذه السورة مسلية ومثبتة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، وكل مَن يأتي مِن أمته إلى أن تقوم الساعة، بأن النصر والتمكين والعلوَّ لأهل الإيمان والتوحيد الصادقين الصابرين، وبأن الفرج آتٍ، والأمل قادم، والمحنة ستزول، مهما كان الظلام دامسًا، فلا بد أن يبزُغ الفجر بنوره، ويشع الدنيا كله بضيائه، فالمهم هو أن يُحسن المسلم الإيمان بالله والتوكل عليه، وأن يثبُت على صراطه المستقيم، كما حصل مع يوسف عليه السلام في محنته وبلائه، في هذه الفترة التي دخل فيها بيت عزيز مصر إلى أُودِعَ السجن وخرج منه.

المضامين التربوية المستنبطة من المحور الأول: الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام؛ ما يلي:
1- أسلوب التربية بالقصة عمومًا، وبالقصة القرآنية خصوصًا، من الأساليب التربوية الإسلامية.
فهو "من الأساليب التربوية الناجحة في تنمية القيم الأخلاقية؛ حيث يتشرب السامع للقصة بوعي وإدراك للقيم الأخلاقية المبثوثة في ثنايا القصة"؛ [الحسني، 1427ه، ص: 183]، وهذا واضح جليٌّ في هذه القصة المسمَّاة بأحسن القصص، التي تميزت به هذه السورة.

وكذلك إذا كان القاصُّ في غير القرآن الكريم "لديه مهارات فن العرض، وتحريك الأوتار الحساسة الفنية أثناء المرور على تلك القيم الأخلاقية، وكذلك إذا كانت خاتمة القصة فوزًا ونجاحًا لبطل القصة الذي تبنَّى القيم الأخلاقية في تعامله وسلوكه، فكان له هذا النجاح"؛ [السابق، ص: 183]، وهذا هو الذي حدث في هذه القصة الموصوفة بأحسن القصص، التي تمثلت في شخصية يوسف عليه السلام.

2- تأثير القصة في النفس الإنسانية، والحاجة إليها في البناء النفسي والفكري والتربوي للشخصية المسلمة في كل زمان ومكان.
وهذا التأثير الإيجابي في النفس الإنسانية للقصة، يتحقق بشرط أن تُوضَع في قالب عاطفي مؤثر، فت"عالج آفاق النفس، فتحرك الدوافع الخيرة في الإنسان، وتطرد الدوافع الشريرة منه، فهي قد تجعل القارئ أو السامع يتأثر بما يقرأ أو يسمع، فيميل إلى الخير وينفذه، ويمتعض من الشر فيبتعد عنه"؛ [الصالح، 1424هـ، ص: 124]، وهذه القصة في هذه السورة تحمل كل ما ذُكِرَ وزيادة، فهي من أحسن القصص القرآنية، والإنسانية من باب أولى.

3- التأدب مع الله عز وجل فيما قص في كتابه من قصص، وعدم تجاوز ما ورد عنها في القرآن الكريم.
فلا مجال لعقولنا ومداركنا أن نعرف ما لم يتطرق الله لذكره في قصة من القصص القرآنية؛ فهي أحسن القصص، فلا مجال لتجميلها بزيادات عقولنا وأفكارنا القاصرة، ويكفي الالتزام بوصف الله عز وجل لها، فهي أحسن القصص؛ فالحُسن مبنيٌّ على الحق، وكل ما ذكره الله حق، بخلاف ما يرِد في الإسرائيليات والأساطير من عقول البشر المجردة، فهي قاصرة وفاقدة لصفة الحق الصواب.

4- كلما اشتد البلاء على الصالحين بصنوفه وأنواعه المتعددة، زاد ثباتهم ويقينهم بصحة الطريق الذي هم له سالكون، وفي المقابل كلما ازداد عدوهم بثباتهم ضعفًا ووهنًا نفسيًّا لا ينفع معه عدة ولا عتاد.

وهذا المضمون التربوي واضح جليٌّ من خلال مناسبة نزول قصة يوسف عليه السلام في الفترة الحرجة من حياة المصطفى عليه الصلاة والتسليم، التي تُعرَف بعام الحزن؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من تكتُّل كفار قريش وتجمُّعهم عليه، ونبذه صلى الله عليه وسلم، وعزله حتى شعر بالوحشة والغربة والانقطاع، هو وصحابته الكرام رضي الله عنهم في الفترة المكية، واشتدت بعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة؛ فسُمِّيَ العام عام الحزن، وفي هذه اللحظات الصعبة من حياته صلى الله عليه وسلم يقص الله عز وجل عليه قصة يوسف عليه السلام، بما فيها من صنوف المحن والابتلاءات التي تعرَّض لها يوسف عليه السلام، وكيف صبر وثبت، وكيف تعامل معها، ثم ماذا كانت النتيجة في خاتمة السورة، من التمكين ليوسف عليه السلام، ومن الانتقال من المحن والابتلاءات إلى المنح الربانية، وأصبح يوسف عليه السلام هو المقدَّم والمحكَّم في أقوات الناس، وفي التعامل مع أحداث تلك المرحلة بعد أن كان رقيقًا، طريدًا، مسجونًا، بعيدًا عن أبويه، وإذا بمصرَ ومُلك مصر بين يديه.

فهذه القصة تسلية لرسول لله صلى الله عليه وسلم، وتثبيت له، وبشرى وإضاءة ربانية له بنهاية المطاف، وبأنه النصر والتمكين، وأن هذه الفترة الحرجة من حياته آذنت بالانبلاج والرحيل، وهذا ما حصل فعلًا وواقعًا بأن عقِبتها بيعة العقبة الأولى والثانية، ثم الهجرة للمدينة، وتكوين دولة الإسلام القوية المكينة التي لم يَرَ الوجود، ولن يرى مثلها في التعامل مع النفس البشرية.

5- لا تفضيل بين قصص القرآن الكريم؛ فإن القاص لها الله عز وجل.
فهو سبحانه وتعالى "يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعًا للسامعين في أبدع الألفاظ والتركيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح، وابتهاج النفس والذوق، مما لا تأتي بمثله عقول البشر"؛ [ابن عاشور، ج: 12، ص: 203، 204]، والصحيح "والعلم عند الله أن المراد بأحسن القصص؛ أي قصص القرآن عامة"؛ [الرحيلي، 1420هـ، ص: 70].

قال ابن تيمية رحمه الله: "فقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] يتناول كل ما قصه في كتابه، فهو أحسن مما لم يقصه، ليس المراد أن قصة يوسف عليه السلام أحسن ما قُصَّ في القرآن"؛ [ج: 17، ص: 22].

هذه بعض المضامين التربوية التي حاولت جاهدًا استنباطها من هذا الملمح التربوي، وعسى أننا وُفِّقنا في عرضها وربطها بمواطن الاستنباط، ولا شك أن هناك دُررًا من الفوائد والمضامين ما زالت في هذا الملمح، عجز عن الوصول إليه عمق تفكيري، وحسبي أنني حاولت أن أستعرض ما ذكرت؛ لعله أن يكون لي عمل صالح أنتفع به في حياتي، وبعد رحيلي؛ فأسأل الله النية الصالحة من القول والفعل.

وأرى الاكتفاء في هذا المقال بعرض ما سبق، حتى يستوعب القارئ والمتابع ما تم طرحه، وكذلك ما تم استنباط مضامينه، وكذلك نفتح مجالًا له للإضافة لهذا المحور بما يجُود به فِكره، وكذلك ليستعدَّ معنا ويتشوَّق لاستكمال الموضوع في الملمح الثاني ومضامينه بإذن الله، ونستودعكم الله إلى لقاء قريب بإذن الله، لاستكمال ما بقِيَ في هذا الموضوع.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-01-2025, 04:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروج

المضامين التربوية المستنبطة

من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2)

د. عوض بن حمد الحسني

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
استكمالًا لما تم طرحه في المقال الأول حول هذا العنوان البحثي لهذه الفترة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، ‏وما تضمنته من مضامين تربوية، حاولتُ جاهدًا استنباطها؛ لأن المقصود الأعظم من قراءة كتاب الله أن يتدبر القارئ الآيات القرآنية؛ ليسترشد بها في حياته، ولا شك أن قصص الأنبياء من المصادر العظيمة التي لا ينضب معينها مهما تدبر المتدبرون لها؛ لذا أطرح بين يدي القارئ الملح الثاني من ملامح هذا الموضوع البحثي، ونحن نتكلم عن هذه الفترة من حياة يوسف عليه السلام، وأسميتها: طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أودع في السجن ظلمًا وبهتانًا، وبعد استعراض هذه الطبيعة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام في هذه الفترة، سوف أبحر بفكري في استنباط بعض المضامين التربوية لعل الله أن ينفعنا بها، وينفع بها من يطالعها، والله الهادي لسواء السبيل.

فأقول مستعين بالله:
لتحديد طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِع السجن، فلا مجال لتحديدها وكيفيتها على الوجه الصحيح إلا من خلال ما اشتملت عليه الآيات القرآنية في كتاب الله تعالى؛ لأنه لا مجال للعقل فيما لم يرد فيه نص من الغيبيات الماضية أو المستقبلة إلا ما حدَّده الله عز وجل وتعرَّض لذكره في كتابه الكريم، أو تعرضت له السنة النبوية الصحيحة فيما ورد عن رسوله الكريم، وما عدا هذين المصدرين فيجب عدم التسليم له.


ومن هنا فإن الباحث يستعرض الآيات التي تضمنت هذه الفترة ويعود إلى بعض التفاسير الموثوق بها في هذا المجال التي لا تتعرض للخوض والتحديد إلا بما ورد نصًّا، وعدد آيات هذه الفترة اثنتا عشرة آية من الآية 21 إلى الآية 32.


أولى هذه الآيات لهذه الفترة، قاله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].


هذه الآية تشير بكل وضوح إلى طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام منذ وصوله بيت عزيز مصر، فقد أوصى به زوجته بأن تُحسِن رعايته وإكرامه ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، والمثوى مكان الثوي والمبيت والإقامة، والمقصود بإكرام مثواه: إكرامه، ولكن التعبير جاء هنا أعمق؛ لأنه جعل الإكرام لا لشخصه فحسب، بل ولمكان إقامته، وهذا مبالغة في إكرامه عليه السلام.


وهذا الإكرام من عزيز مصر ليوسف عليه السلام، كان لمَّا توسَّم فيه من النجابة؛ لذا قال: ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا "إما أن ينفعنا كنفع العبيد، بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع به استمتاعنا بأولادنا"[1].


فعاش كريمًا مكرمًا بعد تلك المحنة التي تعرض لها من إخوته بإلقائه في الجُبِّ وبيعه لعزيز مصر على أنه رقيق وعبد وخادم يُباع ويُشترى، ولكن الله عز وجل سخر له ذلك الرجل وهيَّأ له تلك الإقامة التي أتاحها له طريق العلم وتأويل الأحاديث، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، قال السعدي: "كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض، من هذا الطريق.. إذا بقي لا شغل له ولا هم سوى العلم؛ صار ذلك من أسباب تعلمه علمًا كثيرًا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك"[2].


ثم يُبيِّن الله حقيقةً وسنةً ربانيةً لا تتغيَّر بزمان ولا بمكان، بل هي ماضية ثابتة في كل زمان ومكان ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، قال السعدي: "أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب"[3]، وإن كان يجهل هذه الحقيقة أكثر الناس بنص القرآن، فالسنة الربانية مُتحقِّقة بأن الله غالب على أمره، وأن النصر والتمكين في نهاية المطاف لأهله وخاصته، وهذا مُتحقِّق في يوسف عليه السلام بعدما وجد وعانى ما عانى من الابتلاء في حياته؛ فتحقق في يوسف عليه السلام ما أراد الله له من التمكين مع ما فعل به أخوته ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ!


ويكبر يوسف عليه السلام ويشب في بيت عزيز مصر، ويبلغ مبلغ الرجال مع إتيانه العلم والحكمة وتأويل الحديث الذي هيأ الله له السبل في نيله في الفترة الماضية التي وجد فيه إكرام المثوى وحسن الإقامة.


وتبدأ مرحلة جديدة من حياته عليه السلام، يجد فيها محنةً وابتلاءً جديدًا من نوع آخر قل ما يثبت عنده الرجال الكبار، فكيف بالشباب الذين يتدفقون حيويةً ونشاطًا وطاقةً وقوةً في جميع مجالات حياتهم؟!


فكيف إذا امتلك أحد هؤلاء الشباب مقومات الجمال، وسهولة إرواء الغرائز البشرية الهائجة المتدفقة، وجاءته الدعوة صريحة من الطرف الآخر لإروائها في أمن وأمان من أعين الآخرين؟!


هنا لا يثبت أمام هذا الإغراء الفاتن إلا من ثبَّتَه الله عز وجل بالإيمان اليقيني، قال صلى الله عليه وسلم: "سبعة يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه -وعد منهم- ورجلٌ طلبتهُ امرأةٌ ذات منصب وجمال، فقال: إني أخافُ الله.."[4].


ويوسف عليه السلام نموذج حيٌّ لهذه الشخصية الشابة التي انتصرت على شهوتها، وقالت بكل صراحة ووضوح وإيمان واستعلاء: "إني أخافُ الله"، قال الله عز وجل حاكيًا هذه الفترة من عمره عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:22- 23].


فيحكي الله عز وجل في هذه الآيات قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام وهو في قعر بيتها "والمسكن واحد يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه من غير شعور ولا إحساس بشر، وزادت المصيبة بأن [غلَّقَت الأبواب] وصار المحل خاليًا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما؛ بسبب تغليق الأبواب"[5].


ومع هذا التهيؤ الكامل من امرأة العزيز في الوضع الداعي إلى الفاحشة بأنها بادرت بدعوة يوسف عليه السلام إلى نفسها: ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ؛ أي: افعل الأمر المكروه وأقبِل إليَّ، قال السعدي (ص408): ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك.


وهنا يعلن يوسف عليه السلام بكل ثبات المؤمن بالله، المعتز بإيمانه، المراقب لله عز وجل في خلجاته وسكناته، قال: ﴿ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.


والنص القرآني صريح وبيِّن وقاطع في أن رد يوسف عليه السلام كان مباشرًا على هذا الإغراء والدعوة إلى الفاحشة بالتأبي والتمنُّع المصحوب بخوف الله عز وجل ومراقبته، وتذكُّر نعمة الله تعالى عليه، وهكذا عندما يعلو الإيمان في قلب صاحبه لا يلتفت إلى شيءٍ من هذه التُّرَّهات الرخيصة الفانية؛ فما أعظم تلك النفوس المؤمنة عندما يعلو بها الإيمان!


وهنا لا بُدَّ أن نذكِّر بأن النفس المؤمنة وإن ضعفت؛ لكثرة المغريات، وتفنُّن العرض للشهوات الفاتنة؛ لكنها سرعان ما تنتصر عليها إذا تذكرت مخافة الله ومراقبته، علا بها الإيمان، ومضت في طريقها عزيزةً كريمةً، أمَّا إن كان ذلك الضعف مجرد خاطر وهم نفسي لا يعقبه عزم وفعل ولم يمضِ في طريق الغواية؛ فإن هذا يعد من كمال النفس الإنسانية، وواقعية هذا الدين الذي يتعامل مع هذه النفس في جميع مناحي الحياة بكل اعتدال ووسطية وفق منهج الإسلام الذي يقر الغرائز؛ ولكنه يُهذِّبها ويُوجِّهها إلى وجهتها الصحيحة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]، وقال صلى الله عليه والسلام: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تعمل، أو تتكلم" قال قتادة إذا طلَّق في نفسه فليس بشيء"[6].


ثم بعد هذا الاستطراد المهم لتوضيح هذه الفترة بالذات، نعود بالحديث إلى سياق أحداث يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، في هذه الفترة المحرجة، مع هذا الإغراء من امرأة العزيز؛ فحاول يوسف عليه السلام أن يهرب من موطن الشهوة، ويجد له منفذًا ينفذ من خلاله، فيلتفت يمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا؛ فيرى الباب لعل أن يكون فيه منفذ، وإن كانت امرأة العزيز أحكمت الإغلاق؛ ولكن يبقى لدى العفيف أمل أن يجد له مخرجًا من هذا الابتلاء؛ فيهرول مسرعًا نحوه؛ فتحاول امرأة العزيز في نفس الوقت منعه؛ فتعدو خلفه مسرعةً لتمسك به، وهي لا تزال في هيجانها الهستيري؛ فتشد قميصه من دبره لتمنعه من الوصول للباب ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ؛ ولذا يصور القرآن هذا المشهد وكأنه واقعة عين يشاهدها الناظر، وهذا مما امتاز به الأسلوب القصصي القرآني، قال تعالى: ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف: 25]؛ أي: "زوجها لدى الباب، فرأى أمرًا شق عليه"[7].


نعم لقد حصلت مفاجأة لم تكن في حسبان امرأة العزيز، وهي في كمال حلتها وجمالها وبهائها وزينتها المبالغ فيها التي لا يعد مثلها إلا لفراش الزوج، ومع ذلك فهي راكضة في هذه الحالة وراء يوسف عليه السلام إلى الباب، وهو يريد الخلاص منها، فيدخل زوجها ويرى المشهد ماثلًا أمامه، وهنا تفيق قليلًا من وَلَه الغرام والتعلُّق بيوسف عليه السلام، وإن كانت عازمة على المضي في إرواء عطشها منه!


فتقول بذكاء ودهاء وضبط للأعصاب فوق ما يتصور: ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف: 25] فتستغل ذكاءها ودهاءها بهذه السرعة الفائقة؛ لتوظف الموقف لصالحها، وتبرئ نفسها وتبرئ يوسف عليه السلام من الفعل، مع كل الأمور المحيطة بالحدث التي تشير إلى إدانتها، وبراءة يوسف عليه السلام، بل وتقترح آلية العقوبة التي تضمن لها سلامة من هي عازمة على مراودته!


قال السعدي: "(ولم تقل من فعل بأهلك سوءًا) تبرئة لها، وتبرئة له أيضًا، من الفعل. وإنما النزاع عن الإرادة، المراودة"[8]، ثم ما لبثت أن اقترحت امرأة العزيز العقوبة المناسبة فقالت: ﴿ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.


وفي هذا المشهد المهيب ووقوف عزيز مصر بنفسه، يعلن يوسف عليه السلام براءته من هذه التهمة الباطلة قائلًا: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف: 26].


ثم يذكر السياق القرآني أن أحدًا من أهلها تدخَّل ليحسم الموقف بشهادته، قال تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 26، 27]، وإذا بالقميص قُدَّ من دبر؛ لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته، فشقت قميصه من هذا الجانب"[9].


فلما ظهرت براءة يوسف عليه السلام بهذه الشهادة القاطعة، ورأى ذلك سيدها- أي: عزيز مصر وهو زوجها- فقال لها بكل برود وضعف غيرة وضعف امتعاض من موقفها المخزي، وهي في هذه الحالة الفاضحة: ﴿ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28]، ثم يلتفت إلى يوسف عليه السلام البريء الطاهر النقي التقي فيقول له: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يوسف: 29]؛ أي "اترك الكلام فيه، وتناسه، ولا تذكره لأحد، طلبًا للستر على أهله"[10]، ثم يُوجِّه الخطاب لامرأته قائلًا: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف: 29]، فأمر يوسف بالإعراض، وأمرها بالاستغفار"[11]، وانتهى الأمر في ظاهر السياق من قبل الزوج على هذا التوجيه للزوجة بما يتعلق بهذا التصرف الشنيع، بعد ثبوت الدلائل وتضافر القرائن على براءة يوسف عليه السلام، وإدانتها برغبتها بفعل الفاحشة بها!


ثم انتشر خبر امرأة العزيز ومراودته لغلامها يوسف عليه السلام، وهكذا الخبر والسر إذا خرج من صاحبه أو تجاوزه؛ فإنه لا يُكتَم مهما كان الحدث، ومهما كانت التوصيات والتحذيرات، والمشهد في الآيات التالية يدلل على ذلك، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف: 30]؛ أي: إن الخبر "اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة، فجعلن يلُمْنَها أن يحصل منها هذا الحدث، حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا ينبغي أن تحدث منها، وهي حالة تحطُّ قدرها، وتضع مكانتها، وكان هذا القول منهن مكرًا كبارًا، ليس المقصود به مجرد اللوم والقدح؛ وإنما أردْنَ أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي شغف امرأة العزيز حبًّا، لتستثار امرأة العزيز وتريهن إياه ليعذرنها؛ ولهذا سُمي: مكرًا"[12].


قال الله عز وجل على لسان امرأة العزيز لما وصل إليها خبرهن: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 31- 32].


وهذه فترة ابتلاءٍ جديدة من حياة يوسف عليه السلام بعد الثبات والخروج من الموقف السابق بالبراءة التي شهد بها شاهد من أهلها، وهذه الفترة لها طابع جديد بعد انتشار خبر امرأة العزيز في البلد، ووصول هذا الخبر إليها شخصيًّا، بأن هؤلاء النسوة يقلْنَ في مجالسهن ذلك الكلام الذي يَلُكْنَه في عرضها، فما كان منها إلا أن بادلت المكر بمكر أشد من مكرهن، فـ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31]؛ أي: محلًّا مهيَّأً بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في الضيافة طعام يحتاج إلى سكين"[13]، وهنا والنسوة مشتغلون بالضيافة، قالت امرأة العزيز: ﴿ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف: 31]، فماذا حدث بعد خروجه عليهن؟!


نستعرض الخطاب القرآني ونتوقف عنده ولا نتجاوزه؛ فهو أشد بلاغةً وتصويرًا للموقف، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31].


وهنا تحول الموقف من مراودة فردية من امرأة العزيز إلى موقف جماعي من النسوة، وشعرت امرأة العزيز بالنصر لهذا الإعجاب والذهول والافتتان بيوسف عليه السلام، حيث إنهن قطعن أيديهن، وما شعرن بذلك، وقالوا مقولتهن: ﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31]!


وهنا قالت امرأة العزيز أمامهن بكل تبجُّح وتفسُّخ، برغبتها الجامحة، وعشقها ليوسف عليه السلام، وعزمها الماضي على تحقيق مآربها الدنيئة منه: وإن لم يفعل ويطاوع ويُلبِّي وينجرَّ وراء تلبية غريزتها الشهوانية؛ ليودع في السجن، ﴿ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32] ويوسف عليه السلام يستمع إلى خطابها الموجه لهن: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32].


فهنا لهج يوسف عليه السلام بالدعاء الصادق الخالص في الشدة والمحنة إلى الله ضارعًا إليه أن يصرف عنه كيدهن؛ لأنهن جميعًا أصبحن يراودنه، فاستجاب له ربُّه، فصرف عنه كيدهن، فهو يسمع ويرى ويعلم بالصادق فلا يخذله، ومن يعرف الله في الرخاء فإن الله لا يخذله في الشدة؛ قال صلى الله عليه السلام: "من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء"؛ رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وحسَّنه الألباني"[14].


قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 33، 34].


وهكذا ينتصر الإيمان الممثل في شخص يوسف عليه السلام ويعلو على جميع الماديات والشهوات، واختار السجن على أن يعيش شريفًا محافظًا على دينه وخلقه وقيمه ومبادئه، فارتقى عليه السلام إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال، ونشر الله له الثناء بين العالمين"[15].

المضامين التربوية المستنبطة من المحور الثاني: طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِع في السجن ظلمًا وبهتانًا، ووعدد آيات هذه الفترة اثنتا عشر آية من الآية 21 إلى الآية 23 من سورة يوسف عليه السلام:
ما يلي:
1- لا مجال للعقل فيما لم يرد فيه نص من الغيبيات الماضية أو المستقبلية إلا ما حدَّده الله عز وجل، وتعرض لذكره في كتابه الكريم، أو تعرضت له السنة النبوية الصحيحة فيما ورد عن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وما عدا هذين المصدرين فهو مرفوض غير مقبول في تفسير كلام الله الصادق بما لم يثبت صدقه ولا صحته من الروايات والأخبار.


2- الفراسة من الصفات الإنسانية التي يمتلكها من يهبه الله قراءة للملامح العامة لمُحيَّا الإنسان منذ الوهلة الأولى، وهي للمؤمن والكافر على حدٍّ سواء؛ ولذا تحققت فراسة عزيز مصر في نجابة يوسف عليه السلام ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف: 21]، وإن كانت فِراسة المؤمن أدقَّ تحديدًا وأصدق هدفًا.


3- إذا أراد الله أمرًا لشخص ما هَيَّأ له السُّبُل الموصلة إليه، ولو كانت تلك السُّبُل في ظاهرها أنها شَرٌّ لذلك الشخص، فيوسف عليه السلام تعرَّض لمحن عدة، من الجُبِّ إلى الرقِّ إلى السجن، وما تلا ذلك من الابتلاءات المتعددة، وفي نهاية المطاف تحقق ما أراده الله له من التمكين والعلم والتأويل ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].


4- كثير من الناس يتناسى ويغفل السنن الكونية الربانية؛ ولذا إما أن يتخلى عن العمل الموصل لهذه السنن الربانية الكونية، وإما أنه يعتمد على ذاته وقوته البشرية؛ لمقاومة هذه السنن، وفي نهاية المطاف كلا الفئتين خاسر لا محالة، وأن سنة الله الكونية والربانية نافذة لا محالة؛ ولهذا حاول أخوة يوسف بطبعهم البشري الضعيف، حسدًا من أنفسهم إبعاد يوسف عليه السلام والتخلص منه ومع ذلك كان خلاف ذلك ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.


5- التفرغ وقلة الارتباطات من الأعمال الدنيوية لمن يحسن استثمار وقته من الأسباب الرئيسة للحصول على الخير الكثير من العلم والمعرفة؛ لذا بعدما ذكر الله إكرام المثوى وحسن الإقامة ليوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر، عقب عز وجل بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف: 21] إن يوسف عليه السلام بهذا الإكرام وحسن المثوى، وقلة الارتباطات الدنيوية، حصل له ما أراد الله عز وجل من العلم والتأويل، وهذا التفرغ وقلة الارتباطات من الأعمال الدنيوية، هو ما يحتاج إليه من يطلب العلم، ويبحث عنه هنا وهناك، سواء أكان في الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه أو البحوث العلمية أو لغيرها مما ينفع الناس، ويعود بالفائدة لذاته ولغيره، وهو ما كنا ننعم به في مرحلة الماجستير، ونحن متفرغون لطلب العلم، وافتقدناه في مرحلة الدكتوراه، فوجدنا شدة العناء وصعوبة الجمع بين الأمرين؛ إلا لمن وفَّقَه الله ومنحه الهِمَّة العالية؛ مما يجعل مرارة العلقم في طريقه حلوًا مصفًّى؛ لأنه يستحضر أنه سالكٌ طريقًا إلى الجنة، وأن الوصول إليه بإذن الله يُنسي صاحبه كل مرارةٍ وعلقمٍ تحسَّاه، وهو يسير في ذلك الطريق.


6- وجوب البعد عن مواطن الشهوات وأسباب الفتن؛ حمايةً للعرض والدين كما فعل يوسف عليه السلام حين راودته امرأة العزيز، وحاول الهروب مع العلم أن كل ما حوله كان موصدًا؛ ولكنه أخذ بالأسباب وحاول التخلص من مواطن الفتن والشهوات ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 26، 27].


7- إن الإخلاص سبب لكل خير في الدنيا والآخرة، وهو شرط لقبول العمل الصالح، فإن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغي به وجهه، ومما يعين على تحقيق الإخلاص أن يعلم المرء أن الضر والنفع بيد الله وحده[16]؛ لذا نجَّى الله عز وجل يوسف عليه السلام بهذا الإخلاص، فقال عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24].


8- على المربي الحكيم ومن يريد أن يفصل في أمر أو يصدر حكمًا في قضية ما، أن ينظر بعين الكلية وملاحظة جميع ما يقترن بالموضوع الذي يريد أن يبت فيه بقول أو بحكم أو بتوجيه؛ فالقرائن القوية من الحيثيات الشرعية التربوية للوصول إلى الحق، وقصة يوسف عليه السلام فيها ما يشير بوجوب العمل بالقرائن القوية، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 27]؛ لأنها تريده وهو يفر منها، ويهرب عنها، فقدَّت قميصه من خلفه فتبيَّن لهم أنها هي المراودة في تلك الحال"[17]، وكذلك من العمل بالقرائن وجود الصواع في رَحْل أخي يوسف عليه السلام" وحكمهم عليه بأحكام السرقة لهذه القرينة القوية"[18].


9- إن سيطرة الشهوة على الإنسان، سواء أكان رجلًا أو امرأة، إذا لم يكن له ضابط من الإيمان الداخلي، ومراقبة قلبية لله عز وجل، وإلا فإنها تهوي بصاحبها إلى حضيض الحيوانية، إذا لم تكن هي نفسها الحيوانية ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]؛ ولذا صدحت امرأة عزيز مصر أمام المجتمع النسوي بالشهوة عندما وجدت منهن التشجيع والتأييد، والوقوع في حبائل ما هي تشتكي منه من الوَلَه، فقالت لهن عند ذلك، وهي تودع الحياء الفطري عند المرأة العفيفة: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32].


10- إذا فقدت المرأة حياءها تفلتت من قيمها وأخلاقها، ونسيت وضعها ومكانتها، وأصبحت وأمست تركض لاهثةً وراء إرواء شهواتها ونزواتها والله المستعان!


وهذا ما يسعى إليه أعداء الإسلام؛ الوصول بها إلى مرحلة من الهيجان والبحث عن الشهوة؛ لتحقيق مآربهم الدنيئة والشهوانية في القضاء على الأسرة المسلمة من خلال القضاء على المرأة وإشغالها عن أهدافها السامية؛ فضمان استقرار المجتمع وأمنه وتماسُكه ينطلق ابتداءً من تلك المرأة المسلمة الواعية بدورها في بناء المجتمع المسلم؛ لذا أصبح المجتمع النسوي في قصة يوسف عليه السلام كلهن يسعين إلى إرواء شهواتهن، وتخلين عن قيمهن وأخلاقهن ومبادئهن ومكانتهن، ومن هن في الأصل؛ ولذا قال عز وجل على لسان يوسف عليه السلام يجسد هذه الصورة: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: 33].


11- استحضار مراقبة الله سبحانه وتعالى في قلب العبد المؤمن، وإن ألمَّت به من المكاره والابتلاءات والتحديات الظاهرة والمعلنة ما ألمت؛ لهي خير سياج وحافظ له بعد تثبيت الله عز وجل؛ ولذا يوسف عليه السلام في هذه المواطن كلها، وربما كانت أشدها تعرض امرأة العزيز ثم النسوة له بالإغراء بفعل الفاحشة أو السجن والتعذيب، ومع ذلك يعلو على شهوات الدنيا قاطبة، بل يختار ما يكون في الظاهر أن فيه ذلًّا وهوانًا، وحقيقته رفعة وانتصار، قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف: 33].


12- يجب على المسلم أن يأخذ بجميع الأسباب المانعة والدافعة أو النافعة والجالبة حسب الموقف، ثم يفوِّض أمره لله من قبل ومن بعد لله وحده، ويعتمد الاعتماد الكلي على الله في التثبيت على الخير والصلاح، وفعل ما يحبه ويرضاه، وألا يركن إلى إيمانه وقوته، وخيره وصلاحه؛ فربما يخذل والعياذ بالله؛ ولذا يوسف عليه السلام يختار السجن وما يكون فيه من الذل، ومع ذلك يرفع يديه لله ذليلًا منكسرًا مقرًّا معترفًا أن الحافظ له والمثبت له من الغواية والضلال والانجراف وراء أصحاب الشهوات ليس إيمانه وقوته المجردة، إنما توفيق الله وهديته له؛ فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 33، 34]، وهنا كانت الاستجابة المباشرة له ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فالفاء هنا في كلمة "فاستجاب" تفيد التعقيب والترتيب؛ أي: العطف بلا مهلة من الزمن، أو تراخٍ، بل استجابة فورية من الله عز وجل لحفظ يوسف عليه السلام من ذلك الكيد الكبار؛ فما أقرب الله من عباده المتوكلين عليه حقَّ التوكُّل.


13- إن أكثر من يتعرض للبلاء والفتن وينزلق إن لم يكن له هناك تربية أسرية ومجتمعية على القيم والأخلاق والمبادئ الشريفة، هم من يمرُّون بمرحلة الشباب، ومن ثَمَّ فهي مرحلة مهمة في التربية الأسرية والمجتمعية، تحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقرب منهم، وإشغال لهم بما يعود عليهم بالفائدة الدينية والدنيوية؛ ليكونوا أعضاءً صالحين في مجتمعهم، محافظين على قيمهم ومبادئهم، محافظين على ولائهم وانتمائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم، ومن يقدم الخير والرعاية لهم؛ ولذا يوسف عليه السلام كان يُمثِّل هذه المرحلة؛ فكان بتربيته وقيمه وأخلاقه ومبادئه وحفظه وولائه خير من يتجاوز هذه المرحلة، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 22-23] وهكذا التربية الصالحة تكون بإذن الله واقيةً وحاميةً وحافظةً للشباب في الخصوص وللجميع في العموم من الانحراف والانزلاق وراء الشهوات والشبهات، قال الله تعالى على لسان نبي الله يوسف عليه السلام الشاب: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 33، 34].


١4- الأصل أن السجن عقوبة، ومعالجة للمجرمين، ولمن لديهم مخالفة منصوص عليها للوائح والأنظمة التي وضعت لضبط أمن المجتمع واستقراره، ولكن ليس كل من دخل السجن كان دخوله لنقيصة أو عيب أو جرم أحدثه؛ فربما يبتلى به بعض الشرفاء والنبلاء لوشاية كاذبة أو نحو ذلك، ومنهم نبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد أُودِع السجن ظلمًا وبُهْتانًا مع وضوح الدلائل والبراهين على براءته مما اتُّهِم به، قال تعالى على لسانهن: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: 35] والآيَات هنا المقصود بها الأدلة الدالة على براءة يوسف عليه السلام.


وهناك في السجن تبدأ مرحلة جديدة من حياته الكريمة، نعيش مع أحداثها، وبعض المضامين التربوية المستنبطة منها في المحور الثالث بإذن الله، في المقال الثالث المكمِّل لهذا الموضوع، بإذن الله.


أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم تدبر كتابه، وفهم معاني آياته؛ لنزداد إيمانًا ويقينًا وتطبيقًا وسلوكًا لمضامينه في حياتنا اليومية.

[1] (السعدي، 1408هـ، ج2، ص406).

[2] السابق، ص406 - 407.

[3] السابق، ص407.

[4] البخاري، ج1، رقم الحديث: 660، ص168.

[5] السعدي، 1408هـ، ج2 ص408.

[6] البخاري، 1407هـ، رقم الحديث: 5269، ج7 ص59.

[7] السعدي، 1408هـ، ج2، ص509.

[8] السابق، ص409.

[9] السعدي، 1408هـ، ج2، ص410.

[10] السابق، ص410.

[11] السابق، ص410.

[12] السابق، ص410-411.

[13] السابق، ص411.

[14] الترمذي، ج5، رقم الحديث: 3382، ص462.

[15] السعدي، 1418هـ، ص37.

[16] السعدي، 1418هـ، ص38.

[17] السعدي، 1418هـ، ص39.

[18] السابق، ص39.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28-01-2025, 05:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروج

المضامين التربوية المستنبطة

من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن مقال رقم (3)

(كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟)

د. عوض بن حمد الحسني

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فاستكمالًا لِما تمَّ طرحُه في المقال الأول والثاني حول هذا الموضوع لهذه الفترة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، على الرابط:
المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن
المضامين التربوية المستنبطة من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2)

وما تضمنته من مضامينَ تربوية، حاولت جاهدًا استنباطها؛ لأن المقصود الأعظم من قراءة كتاب الله أن يتدبر القارئ الآياتِ القرآنية؛ ليسترشد بها في حياته، ولا شك أن قصص الأنبياء من المصادر العظيمة التي لا يَنْضُبُ مَعِينها الصافي، مهما تدبر المتدبرون لها؛ لذا أطرح بين يدي القارئ الملمحَ الثالث من ملامح هذه الفترة من حياة يوسف عليه السلام، وأسْمَيْتُه: كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟

وسوف أحاول جاهدًا أن أُبْحِرَ بفكري في استنباط بعض المضامين التربوية منها؛ لعل الله أن ينفعنا بها، وينفع بها من يطالعها، والله الهادي لسواء السبيل.

فالآيات المتعلقة بهذه الفترة تبدأ من الآية (35) إلى الآية (42)؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 35 - 41].

فأقول مستعينًا بالله:
كيف وظف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيف الأمثل؟

الأصل أن السجن عقوبة، ومعالجة للمجرمين، ولمن لديهم مخالفة منصوص عليها في اللوائح والأنظمة الشرعية، أو الوضعية التي وُضِعت لضبط أمن المجتمع واستقراره، ولكن ليس كل من دخل السجن كان دخوله لنقيصة أو عيب أو جُرم أحْدَثَه؛ فربما يُبتلى به بعض الشرفاء والنبلاء لوشاية كاذبة أو نحو ذلك، ومنهم نبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد أُودع في السجن ظلمًا وبهتانًا، مع وضوح الدلائل والبراهين على براءته مما اتُّهِم به؛ قال الله تعالى على لسانهم: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]، و﴿ الْآيَاتِ ﴾، هنا المقصود بها الأدلة الدالة على براءة يوسف عليه السلام، واتضح لهم ذلك الأمر وضوح الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك رأوا أن يُسجَنَ يوسف عليه السلام حتى حين؛ أي: إلى وقت آخر؛ قال السعدي رحمه الله: "أي: لينقطع بذلك الخبر، ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع، لم يزل يُذكَر، ويشيع مع وجود أسبابه، فإذا عُدِمت أسبابه نُسِىَ، فرأوا أن هذا مصلحة لهم؛ فأدخلوه في السجن"؛ [ج2، ص413].

وهناك في السجن تبدأ مرحلة جديدة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، نعيش مع أحداثها، وبعض المضامين التربوية المستنبطة منها، في هذا المقال بإذن الله.

فيوسف عليه السلام بعد طِيبِ العيش الذي كان يعيشه عليه السلام، في منزل عزيز مصر، وحسن المثوى - يتغير الحال به إلى السجن بين الجدران الأربعة، في بيئة خشنة لم يعرفها في حياته، تأتي بعد نعمة ورفاهية، فكيف يعيش هذه المرحلة؟ وكيف يتعامل مع هذه الفترة؟

إن أصحاب المبادئ والقيم، يحافظون على قيمهم ومبادئهم أينما كانوا؛ فيعيشون بها عِظامًا، ويموتون بها كبارًا، فيكونون لمن حولهم أقمارًا منيرة تضيء لهم غَيَاهِب الظلم، وأعظم ممن يتمثل هذه القيم والمبادئ واقعًا ونموذجًا مطبَّقًا في الحياة، وليس نظرية تُقْرأ وتُكْتب من بروج عالية - هم رسل الله وأنبياؤه، ومن سار على نهجهم، واقتبس من أضوائهم المنيرة؛ لذا يصور لنا القرآن الكريم شيئًا من هذه العظمة، في شخص رسول الله عليه السلام يوسف؛ بأن اختار السجن، بما تحمل كلمة السجن من معانٍ تقشعر منها الأبدان، وتصم منها الآذان، ولكن العظماء والشرفاء دائمًا يختارون ما يتماشى مع مبادئهم وقيمهم، ولو كان على حساب ذواتهم وأنفسهم.

وتبدأ هذه الفترة وأحداثها بعد قرارهم بإيداع يوسف عليه السلام السجنَ؛ بقول الله تعالى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].

قال السعدي رحمه الله: "ولما دخل يوسف السجن، كان في جملة من ﴿ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾؛ أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصَّها على يوسف ليعبُرَها... وقولهما: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: من أهل الإحسان إلى الخَلْقِ، فأحسِن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسَّلا ليوسف بإحسانه".

وهكذا نبدأ رحلة جديدة مع حياة يوسف عليه السلام، في مرحلة جديدة، وبيئة جديدة؛ إنها مرحلة السجن، وبيئة السجناء، وانتصار المبادئ والقيم، والثبات عليها، رغم التحديات والمغريات التي تعرَّض لها نبي الله يوسف عليه السلام.

والآية السابقة تحدد لنا بكل دقة أن يوسف عليه السلام دخل السجن ودخل معه فَتَيَانِ، ولم تتطرق الآيات لمدة المكوث، وكذلك لأسماء الفتيان، بل إن الأسلوب القرآني يختصر لنا هذه الفترة، وما حدث فيها من أحداث، بذكر بعض الأحداث التي تبرز شخصية يوسف عليه السلام، بعيدًا عن تحميل الفترة ما لا تتحمل من الاشتغال بما لم يتطرق له القرآن، أو تنص عليها السنة النبوية الصحيحة، وهذا معيار من معايير تعاملنا مع تفسير الآيات القرآنية؛ وهو الالتزام بما ذكره القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة لا غيرهما؛ فهذه الفترة تُجسِّد ما يمتلك يوسف عليه السلام، من مقومات إصلاح ظاهريٍّ، وحسن تعامل مع مَن حوله مِنَ السجناء، في هذه البيئة التي أودع فيها أولئك السجناء، بحسب أحوالهم وأسباب إيداعهم؛ فكلٌّ بحسب حاله.

فكانت تلك المقومات المذكورة آنفًا في شخصية يوسف عليه السلام، كانت لافتة وجاذبة لمن كان حول يوسف عليه السلام، بل أصبحت مَعْلَمًا بارزًا من معالم شخصيته عليه السلام؛ فتضمنت الصلاح الظاهري ليوسف عليه السلام كما قلنا، وكذلك الإحسان الخارجي للآخرين بحسن تعامل يوسف عليه السلام معهم، فهذان المقوِّمان أو الْمَعْلَمَان من شخصية يوسف عليه السلام كان لهما أبلغ الأثر في التأثير في سلوك المحيطين به، وكل ذلك وأبعد من ذلك؛ من المبادئ، والأخلاق، والقيم، والمعالم التي نسجتها شخصية يوسف عليه السلام في هذه الفترة، كان لها أثر بالغ في تحويلها من جانب نظري مجرد، لا يحقق التأثير، إلى سلوك تطبيقي عملي مُشاهَد للعِيان، يقود الآخرين للتأثر والتقبُّل؛ ولذا قال الفتيان في نهاية رؤيتهما ليوسف عليه السلام: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، إذًا سبب قصة رؤيتهما ليوسف عليه السلام أنهما كانا يريانه من المحسنين، كيف عرفا ذلك؟

عرفا ذلك من خلال تعامل عليه السلام وإحسانه لمن حوله، وهم من ضمن من كان معه في تلك البيئة، وهكذا تتحول المبادئ والأخلاق والقيم لدى أصحابها من جانب نظري لا حياة فيه، إلى جانب سلوكي تطبيقي عملي تسري فيه الحياة، لينتقل للآخرين بكل سهولة ويسر، من خلال تطبيقها في حياتهم، وهم يَدْعُون الآخرين إليها.

وهنا نلمح بكل دقة أن يوسف عليه السلام نجح في لفت انتباه من حوله من السجناء في هذه البيئة، بهذه الصفات الجاذبة، ويتضح ذلك جليًّا من خلال ما ذكره الفتيان السجينان لسبب طلبهما ليوسف عليه السلام أن يَعْبُرَ لهما رؤياهما؛ حيث إنهما ذكرا أنهما يريانه من المحسنين.

وهنا استهلَّ يوسف عليه السلام مع هذين السجينين التوظيف الأمثل لهذه الفترة التي أشرنا إليها في حديثنا؛ فلم يتعجل عليه السلام في تعبير الرؤيا لهما، بل طَمْأنَهما أنه لا يأتيهما طعام يرزقانه، إلا أخبرهما بتأويل رؤياهما قبل أن يأتيهما ذلك الطعام.

قال السعدي رحمه الله: "ولعل يوسف عليه السلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجعَ دعوته، وأقبل لهما"؛ [ص 414]، قلت: ويتضح هذا من قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37] إلى قوله عز وجل: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].

وهذا العرض من يوسف عليه السلام مع السجينين لدعوته، بعدما تقرر لديه بأنهما رأياه بعين التعظيم والإكبار لِما هو عليه من هذا التعامل الذي شدَّ انتباههما؛ فأخذ يرغِّبهما في اتباع للحق والهدى.

قال السعدي: "ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل لله وإحسانه؛ حيث منَّ على بترك الشرك، وباتباع ملة آبائي، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت؛ ثم صرح لهما بالدعوة فقال: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]"؛ [ج2، ص414].

وما بين ذلك أخذ يوسف عليه السلام يوظِّف هذا الحدث للهدف الأسمى لديه؛ الدعوة إلى الله عز وجل، فينسب الفضل والمعرفة أولًا إلى الله سبحانه وتعالى، فهو من أكرمه بهذا العلم، وهذا التأويل للرؤيا والحديث، ثم شرع عليه السلام يذكر لهما في دعوته لهما؛ أنه ترك ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، بل هم كافرون بذلك، وأكَّد عليه السلام في دعوته لهما أنه متَّبِعٌ لملة آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، الذين هم مؤمنون بالله واليوم الآخر.

وهنا ربما يُثار سؤال لدى القارئ من قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام، وهو يخاطب الفتيان: ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 37]: هل يوسف عليه السلام كان على غير ملة إبراهيم؟

فيجيب السعدي على هذا التساؤل؛ فيقول: "والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا، فلا يُقال: إن يوسف، كان من قبل، على غير ملة إبراهيم"؛ [السابق، ص 414].

وكذلك يُثار سؤال آخر؛ وهو لماذا لم يَرِد ذكر إسماعيل عليه السلام في قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [يوسف: 38]؟

ويجيب على هذا التساؤل بأن يوسف عليه السلام ليس من ذرية إسماعيل عليه السلام، بل من ذرية إسحاق؛ فلا يصح ذكر إسماعيل هنا؛ [بتصرف من روائع البيان القرآني (2023)، فاضل السامرائي، رابط: https://2u.pw/lwwSo7bD].

ثم فسَّر يوسف عليه السلام تلك الملة – أي: ملة إبراهيم - بقوله: ﴿ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 38]؛ أي: بأن نفرد الله بالتوحيد، ونخلص له الدين والعبادة، وهذا فضل ومنة وإحسان من الله علينا، وعلى من هداه كما هدانا.

ثم يقرر يوسف عليه السلام الحقيقةَ التي تأكدت في أكثر من موضع وآية، أن أكثر الناس لا يشكرون الله، ومن ثَمَّ فلا يتبعون الحق؛ ولذا فليس الأكثرية دلالة قاطعة على اتباع الحق والصواب؛ ومن ثَمَّ فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يرى الجفاء من أهله بمكةَ، وقلة الداخلين في الإسلام في بداية دعوته، سيما من كبار القوم وصناديدهم، وفي نفس الوقت فيها تسلية للدعاة إلى الله عز وجل بعد الرسول عليه السلام بألَّا يصيبهم الإحباط عندما يدعون إلى الله، ثم لا يتبعهم إلا الأقلية، ويبقى الغالبية والأكثرية على ما هم عليه من الانحراف وضعف الانقياد للحق واتباعه.

ثم تدرَّج يوسف عليه السلام من الدعوة غير المباشرة لهما إلى الحوار والدعوة المباشرة لعبادة الله وحده وترك ما سواه؛ فقال لهما عليه السلام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40].

فبعدما رغبهما في المنهج الصحيح، خاطبهما بياء النداء المباشر الذي يشد المنادى إلى الانتباه والتركيز لِما سيأتي بعد النداء؛ فقال لهما: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ... وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40].

وهكذا نجح يوسف عليه السلام في توظيف هذا الحدث لمبادئه وقِيَمِهِ التي تنبثق من عقيدته وإيمانه، واعتزازه بها في كل وقت وزمان، ثم إنه عليه السلام نوَّع في استخدام الأساليب التربوية في دعوته ما بين مباشر وغير مباشر؛ فالأسلوب غير المباشر قد يكون مؤثرًا في النفس وفي القناعات الداخلية للمخاطب، فلا يكون المخاطب متأهبًا للرد، بل إنه يستمع إليه ويحلله تحليلًا عقليًّا منطقيًّا بعيدًا عن الذات؛ فيكون له التأثير في كثير من الأحيان لقبول الحق واتباعه، بخلاف الأسلوب المباشر؛ فإنه عادة المخاطب يكون مستعدًّا ومتأهبًا للردِّ، وهذا ما يفوِّت عليه الاستماع الجيد، والتحليل العقلي المنطقي للخطاب، ومن ثَمَّ فلا يستفيد من ذلك الخطاب؛ فربما يُعرِض ويرفض قبول الحق، إلا إذا بلغ بتربية نفسه درجة عالية من القبول للحق والانقياد له، فيوسف عليه السلام استخدم في البداية أسلوبًا غير مباشر، فكان يخاطب عليه السلام في السجينين الفطرة التي الأصل فيها الاستعداد لقبول الخير والانقياد له، محاولًا نَفْضَ ما عليها من غشاوة الهوى والضلال أثناء مخاطبة صاحبها، فإذا بها تضيء الطريق نورًا لصاحبها، وتجذبه للحق انجذابًا، ثم شرع عليه السلام يتحاور معهما حوارًا عقليًّا مباشرًا، حول حقيقة من يعبدون ويرجون، ويدعون ويسألون، ويسلمون له الأمر كله.

فأثار سؤالًا استفهاميًّا يجعل العقل يأخذ حيزًا من التفكير في الإجابة المقنعة، بعيدًا عن السذاجة، وبعيدًا عن التعصب الممقوت والتبعية الممقوتة التي تصدر ممن يعطل نعمة العقل والفكر، اللتين هما من أجل نِعَمِ الله على الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].

فمن يستحق أن يكون ربًّا معبودًا؟ وما هي صفات استحقاقه لتلك العبودية؟
إن الذي يستحق أن يكون ربًّا يُعبَد ويُطاع أمره ويُتَّبع شرعه، هو الله الواحد القهار، وما سوى ذلك من المعبودات؛ فهي غير مستحقة لذلك، وهي مقهورة مغلوبة أمام الله القهار، القاهر لكل شيء في كل زمان ومكان، والمطلع سبحانه على كل شيء قبل أن يكون كيف يكون، ومتى يكون.

فإذا تقرر هذا التصور لدى الإنسان انقاد له سلوكًا تابعًا لذلك التصور، متوافقًا معه؛ فالسلوك تابع للتصور ومنقاد له إيجابًا وسلبًا.

ثم يذكر يوسف عليه السلام لهم صراحة تعييب آلهتهم المزعومة؛ بقوله: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [يوسف: 40]؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فإنهم سمَّوها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى، فما عبدوها إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها"؛ [ابن القيم، ص316].

ثم بعد هذه التجلية من يوسف عليه السلام لهذه المسميات الجوفاء وحقيقتها بهذه المحاورة العقلية المقنعة، يبين لهم أن حقيقة الأمر هو العبودية الخالصة لله رب العالمين وحده دون سواه، بمفهومها الشامل؛ فقال تعالى على لسانه: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40].

وهنا نسلط الضوء على معنى العبودية بمفهومها الشامل الوارد في الآيات؛ وهي الخضوع والذل التام للمعبود بحقٍّ في كافة مجالات الحياة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].

فالعبادة بمفهومها الشامل ركيزة أساسية في إصلاح النفس الإنسانية واستقامتها نحو الهدف الأساسي للوجود الإنساني في هذه الحياة، ولقد تطرقت لهذا الجانب في رسالتي للماجستير (تنمية القيم الأخلاقية في المرحلة الثانوية من خلال الأنشطة غير الصفية)؛ فوجدت العملية الإحصائية للبحث حصول أن التربية بالعبادة بمفهومها الشامل: بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، والظاهرة والباطنة، وهذا تعريف ابن تيمية رحمة الله للعبودية، حصلت على الترتيب الأول والثاني، وهذه النتيجة العالية من وجهة نظر أفراد العينة، تدل على أهمية استخدم أسلوب التربية بالعبادة، بمفهومها الشامل، فمن يحافظ على العبادة بمفهومها الشامل، تكتمل حياته وتتزن، وترتقي قِيَمُها الأخلاقية، وتسمو به في أمور دينه ودنياه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ [الحسني، 1427هـ، ص278].

لذا كان تأكيد يوسف عليه السلام هذا المعنى لمفهوم العبادة؛ وهو التسليم المطلق لله عز وجل بكل خضوع وذل ومحبة، في كل ما يحبه الله ويرضاه.

ثم في نهاية المطاف لهذه الفترة، شرع يوسف عليه السلام في تأويل رؤية السجينين؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، ثم لم يترك لهما فرصة في الأخذ والرد؛ وذلك بقوله: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، ثم أوصى يوسف عليه السلام السجين الذي ظن – أي: اعتقد - أنه سيخرج من السجن بقوله: ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 42].

ولبث يوسف عليه السلام بعد خروج السجين الناجي الذي أوصاه أن يبلغ أمره إلى الملك، مكث بضع سنين، والبضع ما يتراوح من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف، قدَّر لذلك سببًا لإخراج يوسف، وارتفاع شأنه، وإعلاء قدره؛ وهو رؤيا الملك؛ [السعدي، 1410هـ، ج: 4، ص: 199].

المضامين التربوية المستنبطة من المحور الثالث: كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟
1- من معايير التعامل القيِّم مع تفسير الآيات القرآنية الالتزامُ بما ذكره القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة لا غيرهما، والبعد عن تحميل الآيات ما لم تتطرق إليها من تحديد الأسماء أو الأزمان أو غيرهما؛ ولذا ذكر الله مَن دخل مع يوسف السجن وهما الفتيان، ولم يتطرق لذكر الأسماء أو فترة المكث، وكذلك السنة النبوية الصحيحة لم تتعرض لهذا الجانب؛ فالالتزام بهذا الجانب من المعايير الضرورية للتعامل مع ما ورد في كتابه العزيز.

2- إذا ابتُلِيَ العبد المؤمن بالاختيار بين أمرين؛ إما معصية، وإما عقوبة دنيوية، فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية، على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة، في الدنيا والآخرة؛ [السعدي، 1408هـ، ج: 2، ص: 447]؛ فيوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].

3- إن القِيَمَ إن لم تتحول إلى سلوك عملي في حياة أصحابها دون تكلف وتصنُّع، وإلا ستبقى في دائرة التنظير والترف الفكري، ولن تصل للآخرين أو للدائرة المسؤول عنها الإنسان المنظِّر؛ لذا لما سُئِلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ((كان خلقه القرآن))؛ أي: كان متمثلًا الخلق القرآني في حياته العملية، هنا فقط تتحول القيم وتنقل للآخرين من الأتباع، وهذا ما كان متمثلًا في يوسف عليه السلام في سجن العزيز؛ حتى قال له الفتيان: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].

4- الابتداء بالأهم فالأهم أولًا، من أهم قواعد النجاح في الحياة في كافة المجالات؛ فيوسف عليه السلام رأى أن دعوة السجينين إلى الله أولَى بالتقديم من تفسير رؤياهما، وهكذا قدم الأهم فالأهم؛ فعلى المربِّي والداعية والأب والمسؤول، والمسلم في العموم، الإلمامُ بهذه القاعدة التربوية الاجتماعية الإدارية الدعوية، التي لا غِنى عنها للمسلم في التطبيقات الحياتية.

قال السعدي رحمه الله: "وأنه إذا سُئل المفتي، وكان في حاجة أشد لغير ما سأل عنه، فإنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله"؛ [السعدي، 1409هـ، ج: 2، ص: 448].

5- إن أصحاب المبادئ والقيم يعيشون عِظامًا ويموتون كبارًا، وأعظم ممن يتمثل هذه القيم والمبادئ واقعًا ونموذجًا مطبقًا في الحياة، وليس نظرية تُقرَأ وتكتب من بروج عاتية، هم رسل الله وأنبياؤه، ومن سار على نهجهم، واقتبس من أضوائهم المنيرة.

6- التوحيد أولًا؛ فهو الأولى بالتقديم، ثم المطالبة بالمقتضيات واللوازم الأخرى شيئًا فشيئًا؛ "فلا يقدم الفروع على الأصول، والأحكام الجزئية على الكليات والقواعد الشاملة، وألَّا يقابلوا الغافلين والواقعين في الظلال الاعتقادي والعملي بالكراهية، والاحتقار، والازدراء، بل عليهم أن يوجهوا فكرهم إلى علاجهم ومواساتهم"؛ [ماضي، 1414هـ، ص: 84، 85].

7- إن استشعار العقيدة والتوحيد دلالة على نقاء الفطرة، وروحانية المستشعر؛ لأنها قضية قلبية إيمانية، لها انعكاساتها السلوكية في واقع الحياة، وهي في متناول الناس جميعًا لو اتجهوا إليها وأرادوها؛ فالفِطَرُ مجبولة في الأصل على حب الخير والصلاح والانقياد لذلك، ولكن تحتاج إلى تنظيف وإزالة وتجلية لبعض الشبهات والشهوات المحيطة بها؛ حتى تستيقظ من غفلتها، وفي الوجود من حولهم موحيات ودلائل لذلك، وفي رسالات الرسل ودعوتهم بيان وتقرير لذلك.

8- الصلاح الظاهري للإنسان ذاتيًّا مع حسن تعامله مع الآخرين مجتمعيًّا، مما يولد الثقة للآخرين فيه ويجذب الآخرين إليه؛ فيوسف عليه السلام كسب ثقة المسجونين حين توافق الصلاح الظاهر لديه، مع حسن التعامل مع الآخرين، عاملهم باللين والرقة والرحمة، حتى إذا ألقى بأمر دينه وعقيدته، وجد نفوسًا مهيئة، وقلوبًا متفتحة، وآذانًا مصغية.

9- استثمار الفرص والمناسبات لإيصال الرؤى والأفكار للآخرين بالسلوك العملي من خلال المعايشة والتعامل الهادف، فالناس يتأثرون بالسلوك المشاهد للشخص قبل أن يتأثروا بكلامه النظري: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].

10- إذا أردت أن تكسب الأشخاص لدعوتك ومبادئك وقيمك؛ فاكسب أولًا قلوبهم بحسن تعاملك، ورقي أسلوبك، وتقديم كل ما بوسعك من أجلهم: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].

11- الدعوة وإبلاغ الدين مسؤولية الجميع؛ فالداعية المصلح، والمربي المسلم عمومًا، والمسلم عمومًا حيثما كان، وأينما كان، وكيف كان، فلا يبرر بالوضع الذي يعيشه، والمحنة التي يمر بها، تخلِّيه عن دينه ودعوته، ومبادئه وقيمه؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].

12- إن النفوس العظيمة لا تُشغَل بالمحن والمصائب بعد وقوعها، بل تتجاوز الموقف، وتتعايش مع الواقع المحيط لإيصال ما لديها من مبادئَ وأفكار ورؤًى إلى الآخرين، بكل ثقة وإيجابية؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].

13- التريث وعدم التعجل في إبداء الرأي والمشورة للآخرين، إلا بعد دراسة كافية للجوانب المحيطة بهم، والتأمل للموقف وما يترتب عليه من إجراءات؛ ولذا يوسف عليه السلام لم يعبر للفتيان الرؤيا مباشرة، إلا بعد تريُّث وتأمل، وتوظيف للموقف لإيصال ما لديه من الخير والصلاح.

14- القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة تُزرَع، ولا تُفرَض في المجتمع، وزراعتها يكون من خلال السلوك المشاهد لأصحابها، والتطبيق العملي في واقع حياتهم: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].

15- الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ قال ابن القيم رحمه الله: "فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتًا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثْلِم عَرَضًا توفيره أنفع للعبد من ثَلْمِهِ، وإما أن تذهب مالًا بقاؤه خير من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامه خير من وضعه"؛ [ابن قيم الجوزية، 1408هـ، ص250]، فكفى بأصحاب العقول الرشيدة عبرة، أن تصبر عن الشهوة وتُقبِلَ على الطاعة، وإن وجدت فيها مضاضة وتعبًا آنيين، لكنها ستجد لذة وسعادة سرمدية.

ثم يكمل ابن القيم فوائد الصبر عن الشهوة؛ فيقول: "وإما أن تسبي نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب همًّا وغمًّا، وحزنًا وخوفًا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علمًا ذكرُه ألذ من نَيل الشهوة، وإما أن تشمت عدوًّا وتحزن وليًّا، وإما تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق"؛ [السابق، ص250].

16- تأدُّب المسلم في العموم مربيًا كان أو داعية، وأيًّا كان موقعه، مع المنهج والهدف المحدد من دعوته للمخاطب، مهما كان نوع أو جنس المخاطب؛ من أجل إيصال الحق والتأثير الإيجابي في قناعات الآخرين - من الأساليب التربوية الإسلامية الناجعة للتأثير والتأثر؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].

17- إذا صح التصور لدى شخص ما عن شيء ما، كان السلوك الناتج عنه موافقًا لذلك التصور، والعكس يكون صحيحًا، في حالة إذا كان التصور خاطئًا، فإن السلوك الناتج يكون خاطئًا؛ قال تعالى: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].

18- إن التسويق للنفس المقصود منه عرض ما لديك لنفع الآخرين، وتصحيح أو تحسين ما لديهم من أخطاء ونواقص أساسية في بناء وتكامل المنظومة، واستقامتها من الأساليب التربوية المرغبة فيما لديك، فمن لا يرغب فيما لديك، فلن يتقبل ما لديك؛ فحسن التسويق مطلب مُلِحٌّ لإيصال ما لديك، ولا يُعَدُّ ذلك من التزكية المحظورة، إذا دعا الأمر إلى ذلك الوصف للاستفادة مما عنده من العلم أو الحكمة؛ ولذلك وصف يوسف عليه السلام نفسه للفتيين لما سألاه عن تعبير رؤياهما؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37].

19- أهمية تصحيح مفهوم العبادة الشامل ومراعاة التعريف اللغوي للعبادة؛ وهو الذل والخضوع، والاستسلام والانقياد المطلق لله عز وجل بكل خضوع وذل ومحبة، في كل ما يحبه الله ويرضاه.

20- إن ﺍﻟﻤﻌﺪِﻥَ ﺍﻷﺻﻴﻞ يبقى على أصالته في كل مكان وزمان، ولا ينصهر ويتغير بتغير الظروف المحيطة به، مهما كانت المحكَّات الخارجية الضاغطة؛ فيوسف عليه السلام قبل السجن وبعد وما بينهما محافظ على مبادئه وقيمه وأخلاقه: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].

21- إن التغير للإيجاب أو السلب ابتداءً لا يكون إلا من الداخل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ فلا يمكن أن يُجبَر الإنسان على فعل ما لا يريده، وهو على قناعة بما هو عليه، ولابد أن يكون مستعينا بالله على الثبات على ما هو عليه؛ فامرأة عزيز مصر، وهي سيدة ومالكة، وأغلقت الأبواب، وتهيأت للإغواء بجمالها ومالها وسلطانها؛ فقال يوسف عليه السلام: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 23]، بل ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، عندما اجتمع عليه النسوة مع امرأة العزيز على فعل ما حرم الله.

22- على المربي والموجِّه أيًّا كان موضعه؛ أبًا كان أو قائدًا أو مسؤولًا أو داعية، عليه أن يستخدم الأساليب التربوية المتنوعة في التوجيه والتربية، وتعديل السلوك في دعوته مباشرة وغير مباشرة، وغيرها من الأساليب التربية المتنوعة حسب الموقف والشخص، ومن أنجع الأساليب للتأثير وهز القناعات دون مقاومة آنية - الأسلوب غير المباشر: ((نعم العبد عبدالله لو كان يقوم الليل))، ((ما بال أقوام..."))، وكذلك فعل يوسف عليه السلام في دعوته للسجينين معه؛ فقد استخدم الأسلوب غير المباشر معهما، فالأسلوب غير المباشر قد يكون مؤثرًا في النفس وفي القناعات الداخلية للمخاطب؛ فلا يكون المخاطب متأهبًا للرد، بل إنه يستمع إليه، ويحلله تحليلًا عقليًّا منطقيًّا بعيدًا عن الذات؛ فيكون له التأثير في كثير من الأحيان لقبول الحق واتباعه، بخلاف الأسلوب المباشر؛ فإن المخاطب عادة يكون مستعدًّا ومتأهبًا للرد، وهذا ما يفوِّت عليه الاستماع الجيد، والتحليل العقلي المنطقي للخطاب، ومن ثَمَّ فلا يستفيد من ذلك الخطاب؛ فربما يُعرِض ويرفض قبول الحق، إلا إذا بلغ بتربية نفسه درجة عالية من القبول للحق والانقياد له.

المراجع المستفاد منه:
القرآن الكريم.

المكتبة الشاملة.

ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم (1412): العبودية، تعليق: علي بن حسن بن علي، الأردن، دار الأصالة للنشر والتوزيع.

ابن قيم الجوزية، (د.ت)، التفسير القيم للإمام ابن القيم، حققه: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية.

ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد (1408هـ)، الفوائد، ط2، حققه: بشير محمد عون، مكتبة المؤيد.

السعدي، عبدالرحمن بن ناصر، (1408)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، دار المدني، جدة.

الحسني، عوض بن حمد، (1427)، تنمية القيم الأخلاقية في المرحلة الثانوية من خلال الأنشطة غير الصفية "دراسة ميدانية"، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، قسم التربية الإسلامية والمقارنة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.

ماضي، محمود (1414هـ)، سياحة إيمانية في سورة يوسف، دار المجتمع للنشر والتوزيع.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 140.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 138.28 كيلو بايت... تم توفير 2.59 كيلو بايت...بمعدل (1.84%)]