|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الوقوف بعرفة وحكم التعريف بالأمصار: أحكام وأسرار أ. د. فهمي أحمد عبدالرحمن القزاز الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيوم عرفة يومٌ مشهودٌ، وهو يوم المغفرة والرضوان والتجلي الإلهي على خلقه، وهو يوم المباهاة، ويوم أفضل الدعاء وخيره، وهو الركن الركين في الحج؛ من فاته الوقوف فيه فاته الحج إجماعًا، وبهذا تكاثرت النصوص النبوية. وقد يسر الله لي في عام 1442هـ الحج بمنه وكرمه وفضله في زمن وباء كورونا، وشهدت عرفة في مسجد نمرة في بطن الوادي، وحضرت خطبة عرفة وصلاة الظهر والعصر في المسجد جمعًا وقصرًا جمع تقديم كما ثبت ذلك في السنة النبوية، ودار في خَلَدي سؤال حيرني كثيرًا، وشغلني طوال عام كامل؛ وهو: ما الحكمة من خطبته صلى الله عليه وسلم وصلاته يوم حجه في يوم عرفة خارج حدود عرفة في مسجد إبراهيم -مسجد نمرة- وليس داخل عرفة؟ فلماذا لم يخطب ويصلِّ صلوات ربي وسلامه عليه داخل حدود عرفة، وإنما فعل ذلك خارجها؟ وهذا السؤال دعاني للرجوع إلى كتب السنة النبوية وكتب الفقهاء للوقوف على حقيقة هذا الأمر، فاستعنت بالله وتوكلت عليه في بحثي هذا للإجابة عن المذكور أعلاه، ومما ينبغي أن يعلمه قارئ هذا البحث أن أكثر ما نقلته من مذاهب العلماء الفقهية نقلته عمومًا من الموسوعة الفقهية الكويتية في أبواب متفرقة جمعتها في مكان واحد، وأشرت إلى المصادر بعد التحقق منها، والرجوع إليها، وأضفت لها ما رأيته به حاجة إلى مزيد إيضاح وتحقيق، مع تغيير في العبارة وصياغتها في بعض الأحيان؛ لأن أغلب ما نقلته عنهم هو مذكور في مظانه في كتب الفقهاء، فلا يحتاج إلى مزيد إيضاح، فجزاهم الله عنا خير الجزاء. فأقول وبالله التوفيق ومنه العون والسداد: عرفة: اسم للموقف المعروف، ويتم الحج بالوقوف به، وحده: من الجبل المشرف على بطن عرنةإلى الجبال المقابلة إلى ما يلي حوائط بني عامر، ويوم عرفة هو التاسع من ذي الحجة [1]. ولقد وردت في فضل يوم عرفة أحاديث وآثار كثيرة لا تخفى على طالب علم، منها: أنه يوم المغفرة، ويوم المباهاة، ويوم العتق من النار...إلخ. والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، ثبتت ركنيته بالسنة والإجماع[2]. وشروط الوقوف بعرفة بكونه ركنًا من أركان الحج شرطان متفق عليهما: أحدهما:كون الوقوف في أرض عرفات. الثاني:أن يكون الوقوف في زمان الوقوف؛ وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة، وليلة العاشر من ذي الحجة إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر ولم يقف في شيء من عرفة فقد فاته الحج [3]. وعليه فالوقوف بأرض عرفة من يوم عرفة هو ميقات زماني ومكاني. 1- فأما المكاني؛ فهي أرض عرفة، وأما حددوها فقد قال الإمام الشافعي: هي ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وقد وضعت الآن علامات حول أرض عرفة تبين حدودها، ويجب على الحاج أن يتنبه لها؛ لئلا يقع وقوفه خارج عرفة، فيفوته الحج، أما جبل الرحمة ففي وسط عرفات، وليس نهاية عرفات، ويجب التنبه إلى مواضع ليست من عرفات يقع فيها الالتباس للحجاج؛ وهي: أ -وادي عرنة. ب -وادي نمرة. ج -المسجد الذي سماه الأقدمون مسجد إبراهيم[4]، ويسمى مسجد نمرة، ومسجد عرفة، قال الشافعي: إنه ليس من عرفات، وإن من وقف به لم يصح وقوفه، وقد تكرر توسيع المسجد كثيرًا في عصرنا، وفي داخل المسجد علامات تبين للحجاج ما هو من عرفات، وما ليس منها؛ ينبغي النظر إليها [5]. وينبغي أن يعلم أن مسجد إبراهيم -نمرة- الذي خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في وادي عرنة، وعرنة ليست من عرفة؛ فذهب جمهور الفقهاء إلى أن عرنة، ويقال: بطن عرنة، ليس من عرفة، ولا يجزئ الوقوف فيه، قال ابن عبدالبر: أجمع العلماء على أن من وقف فيه لا يصح وقوفه ولا يجزئ، وجاء في المجموع: وادي عُرَنة ليس من عرفات، لا خلاف فيه، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنة))[6] ؛ ولأن الواقف فيه لم يقضه بعرفة[7]. وعُرَنة بضم أوله وفتح ثانيه، ويقال أيضًا: بطن عرنة: وادٍ بحذاء عرفات من جهة المزدلفة ومنى ومكة[8]، وعرنة هو وادٍ بين العلمين اللذين على حد عرفة، والعلمين اللذين على حد الحرم، فليس عرنة من عرفة، ولا من الحرم[9] عند جمهور الفقهاء[10]. وعليه فالوقوف بمسجد إبراهيم -مسجد نمرة- الموضع الذي خطب فيه رسول اللهصلى الله عليه وسلم لا يصح؛ لأنه خارج عرفة عند مذهب جمهور الفقهاء؛ قال أبو محمد الجويني من الشافعية: إن مقدم مسجد إبراهيم في طرف وادي عرنة لا في عرفات، وآخره في عرفات، قال: فمن وقف في مقدم المسجد المسمى بمصلى إبراهيم لا يصح وقوفه، ومن وقف في آخره صح[11]. 2- وأما الزماني؛ فقد أجمع الفقهاء على أن آخر وقت للوقوف في عرفة هو طلوع الفجر يوم النحر[12]. وأما ابتداء وقت الوقوف بعرفة فقد وقع فيه اختلاف: 1- ذهب الجمهور (الحنفية والشافعية) إلى أن أوله زوال شمس يوم عرفة. 2- وذهب مالك إلى أن وقت الوقوف هو الليل، فمن لم يقف جزءًا من الليل لم يجزئ وقوفه، وعليه الحج من قابل، وأما الوقوف نهارًا فواجب ينجبر بالدم بتركه عمدًا بغير عذر. 3- وعند الحنابلة: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر[13]. وأما واجب الوقوف بعرفة فهو: 1- الجمع بين الليل والنهار لمن وقف بها نهارًا، بأن يستمر إلى أن تغرب الشمس عند الحنفية والحنابلة على الصحيح من المذهب، ومقابل الصحيح عند الشافعية، ويرى الشافعية في الصحيح والإمام أحمد في رواية عنه أنه سنة. 2- ويرى المالكية أنه يجب الوقوف بعرفة نهارًا، أما الوقوف بعرفة ليلًا ولو لحظة فهو ركن[14]. 3- وقال الشافعية: من لم يواف عرفة إلا ليلًا فيجزئه الوقوف ولو لحظة في بعض جوانبها، لقول النبيصلى الله عليه وسلم: ((من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، ولا دم عليه))؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يدرك الحج، وأنه قد تم حجه، وقضى تفثه، ولم يذكر أن عليه دمًا، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز[15]. وعليه فالوقوف بعرفة أقله أن يحصل بعرفة في وقت الوقوف ولو لحظة، ولو مارًّا بها، أو نائمًا أو جاهلًا بها، فمن حصلت له هذه اللحظة في وقت الوقوف صار مدركًا للحج، ولا يجري عليه الفساد بعد ذلك... وينبغي أن يلاحظ أن الوقوف بعرفة كيفيتان يتحقق بهما؛ إحداهما: كيفية الإجزاء، ويطلق عليها بعض الفقهاء كالشافعية أقل الركن، والثانية: كيفية الكمال؛ وهي الكيفية التي توافق السنة[16]. وأما الخطأ في يوم عرفة: 1- فإذا أخطأ الناس فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة أجزأ، وتم حجهم ولا قضاء، وهو مذهب الحنفية وقالوا: إن وقوفهم صحيح وحجتهم تامة استحسانًا، والقياس أنه لا يصح، ووجه القياس أنهم وقفوا في غير وقت الوقوف فلا يجوز، كما لو تبين أنهم وقفوا يوم التروية ولا فرق بين التقديم والتأخير [17]. 2- ومذهب المالكية أنه إذا أخطأ في رؤية الهلال جماعة الموقف لا أكثرهم، فوقفوا بعاشر ظنًّا منهم أنه اليوم التاسع، وأن الليلة عقبه ليلة العاشر بأن غم عليهم ليلة الثلاثين من ذي القعدة، فأكملوا العدة فإذا هو العاشر، والليلة عقبه ليلة الحادي عشر فيجزئهم، وعليهم دم، واحترز عن خطأ بعضهم ولو أكثرهم، فوقف العاشر ظنًّا أنه التاسع مخالفًا لظن غيره فلا يجزئه، ونقل اللخمي عن ابن القاسم عدم الإجزاء إذا وقفوا في العاشر[18]. 3- ومذهب الشافعية: أنهم إن غلطوا بيوم واحد، فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة أجزأهم وتم حجهم ولا قضاء، هذا إذا كان الحجيج على العادة، فإن قلوا أو جاءت طائفة يسيرة، فظنت أنه يوم عرفة، وأن الناس قد أفاضوا فوجهان مشهوران، حكاهما المتولي والبغوي وآخرون، أصحهما لا يجزئهم؛ لأنهم مفرطون؛ ولأنه نادر يؤمن مثله في القضاء، والثاني يجزئهم كالجمع الكثير[19]. 4- ومذهب الحنابلة أنه يجزئ أيضًا[20]. واستدلوا جميعًا بحديث: ((يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه))، وحديث: ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)). قلت: والحديث الذي اعتمده الفقهاء في المسألة أعلاه هو ما أخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس))، قال الترمذي: سألت محمدًا: قلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ قال: نعم، يقول في حديثه، سمعت عائشة؛ هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه[21]. ومن حديث أبي هريرة، أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون))، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وفسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس[22]؛ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: ((الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون))[23]. وقال الشافعي: وأحسبه قال: قال النبيصلى الله عليه وسلم: ((فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون))، أراه قال: ((وعرفة يوم تعرفون))[24]. وأخرجه من هذه الطريق البيهقي في السنن الكبرى[25]، ومعرفة السنن والآثار[26]، والسنن الصغرى؛ وقال: وروي ذلك عن عبدالعزيز بن عبدالله بن خالد بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، والله أعلم [27]. وأخرجه أبو داود في المراسيل؛ فقال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا هشيم، أخبرنا عوام، عن السفاح بن مطر، عن عبدالعزيز بن عبدالله بن خالد بن أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يوم عرفة اليوم الذي يعرف فيه الناس))[28] ، وأخرجه الدارقطني في سننه[29]. قال عنه البيهقي بعد إخراجه: هذا مرسل جيد أخرجه أبو داود في المراسيل[30]. وقال ابن رجب: مرسل حسن[31]. واستفاض ابن الملقن في بيان طرقه وحكمه[32]، وكذا ابن حجر في إتحاف المهرة [33]، والتلخيص الحبير[34]. مسألة: فلو وقفوا في الثامن ظنًّا منهم أنه التاسع: 1- فإن مذهب الحنفية[35]، والمعروف من مذهب المالكية[36]، والأصح من الوجهين عند الشافعية أنه لا يجزئهم، قالوا: والفرق بين عدم إجزاء الوقوف فيه وبين إجزائه بالعاشر، أن الذين وقفوا فيه فعلوا ما تعبدهم الله به على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، لأمره بإكمال العدة حيث حصل الغيم دون اجتهاد بخلافه بالثامن، فإنه اجتهادهم، أو شهادة من شهد بالباطل[37]؛ ولأنه نادر غاية الندرة فكان ملحقًا بالعدم؛ ولأنه خطأ غير مبني على دليل فلم يعذروا فيه[38]. 2- ومذهب الحنابلة وقول ابن القاسم من المالكية ووجه عند الشافعية أنه يجزئهم لحديث: ((يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه))، قالوا: وهو نص في الإجزاء، وأنه لو كان هنا خطأ وصواب لاستحب الوقوف مرتين، وهو بدعة لم يفعله السلف فعلم أنه لا خطأ[39]. 3- وفي مذهب مالك قول لابن القاسم بعدم الإجزاء في الصورتين، قال الحطاب: يعني إذا أخطأ جماعة أهل الموسم -وهو المراد بالحج- فوقفوا في اليوم العاشر، فإن وقوفهم يجزئهم، واحترز بقوله فقط: مما إذا أخطئوا ووقفوا في الثامن، فإن وقوفهم لا يجزئهم، وهذا هو المعروف من المذهب، وقيل: يجزئهم في الصورتين، وقيل: لا يجزئ في الصورتين[40]. قلت: والذي أميل إليه في ذلك كله ما ذهب إليه ابن بطال رحمه الله فقال: "قالت طائفة: من وقف بعرفة بخطأ شامل لجميع أهل الموقف في يوم قبل يوم عرفة أو بعده أنه يجزئ عنه، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأبي حنيفة والشافعي، واحتج أصحابه على جواز ذلك بصيام من التبست عليه الشهور، وأنه جائز أن يقع صيامه قبل رمضان أو بعده"[41]. وأما حكم التعجيل في الوقوف: فاتفق الفقهاء على أنه إذا فرغ الناس من صلاتي الظهر والعصر؛ فإن السنة أن يسيروا في الحال إلى الموقف، ويعجلوا المسير، قال النووي: هذا التعجيل مستحب بالإجماع[42]؛ لحديث سالم بن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم قال: "كتب عبدالملك بن مروان إلى الحجاج: أن لا يخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنهما وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج، فخرج وعليه ملحفة معصفرة، فقال: ما لك يا أبا عبدالرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة، قال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج، فسار بيني وبين أبي، فقلت: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف، فجعل ينظر إلى عبدالله، فلما رأى ذلك عبدالله قال: صدق"[43]. وأما دخول عرفات قبل وقت الوقوف: 1- فقال الحنفية: يدفع الحاج إلى عرفات بعد صلاة الفجر يوم عرفة، وقالوا: هذا بيان الأولوية حتى لو ذهب قبل طلوع الفجر إليها جاز[44]. 2- وقال الإمام مالك: أكره للحجاج أن يتقدموا إلى عرفة قبل عرفة هم أنفسهم أو يقدموا أبنيتهم. 3- وصرح الشافعية بأن دخول الحجاج أرض عرفات قبل وقت الوقوف خطأ وبدعة، ومنابذة للسنة، وتفوتهم بسببه سنن كثيرة[45]. 4- ونص الحنابلة على أنه يستحب للحاج أن يخرج إلى منى يوم التروية، ويبيت بها، فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة، فأقام بنمرة ندبًا حتى تزول الشمس، فمن خرج من منى إلى عرفة قبل طلوع الشمس لم يأتِ بالمستحب[46]. وهذا الذي قدمته معلوم ومشهور عند الفقهاء في كتبهم لا يخفى على طلبة العلم وأهله. قلت: ومن المعلوم قطعًا في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة بمسجد نمرة -مسجد إبراهيم- في عرنة في بطن الوادي وهي خارج حدود عرفة وبعد زوال الشمس، وصلى بالناس جمع تقديم الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ثم أمر الناس بدخول عرفة، ثم دخلها هو والأصحاب رضي الله عنهم، ووقف عند الصخرات ثم قال: ((...ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف...))، وفي حديث جابر المشهور:... وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))،... ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول اللهصلى الله عليه وسلم، حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس...[47]. فإذا علم ذلك فما الحكمة من أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة خارج حدودها؟ 1- قال بعض الأفاضل: فعله صلى الله عليه وسلم للتخفيف على الناس بجمعهم خارج عرفة، ثم أمرهم بدخولها جملة واحدة. قلت: وهذا لا يسلم، فأين الحرج في جمعهم داخل عرفة وليس بخارجها، ولا سيما أن عرفة أوسع على الناس من بطن الوادي، والدخول إلى أرض مسطحة كبيرة أخف عليهم من وادٍ كما هو معلوم بالمشاهدة، علمًا أن الوادي لا يتسع كما أظن لعدد الأصحاب ممن حضر خطبة الوداع، وقدرهم أهل الحديث بمئة ألف أو يزيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل عرفة في خطبته، فامتداد الصفوف يقتضي أن منهم أعدادًا ليست بالقليلة قد صلت، واستمعت الخطبة في داخل عرفة كما هو في أيامنا هذه، فجزء من مسجد نمرة كما علمت يقع في عرنة، والآخر في عرفة، فالاستدلال بالحرج لا يسلم، والله أعلم بالصواب. 2- وقال بعض الأفاضل: ورد في الحديث: ضربت للنبي صلى الله عليه وسلم قبة بنمرة، فليس هذا من فعله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما من فعل الأصحاب فلا يستدل به. قلت: وهذا لا يسلم أيضًا، فقد ورد بالنص أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يضرب له قبة بنمرة كما في حديث جابر في صحيح مسلم، ولو سلمنا بالقول إن الأصحاب هم من فعلوا ذلك، فأصبح فعله صلى الله عليه وسلم بالنزول بها والخطبة في ذلك الموضع تشريعًا للأمة زيادة على إقراره لذلك، والدليل أن الأصحاب والخلفاء ومن جاء بعده إلى يومنا هذا يخطبون بهذا الموضع في مسجد نمرة، وهو خارج حدود عرفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم))، فأصبحت الخطبة والصلاة في هذا الموضع نسكًا لا يتنازل عنه. والذي أراه والله أعلم أن فعله صلى الله عليه وسلم هذا يستأنس به لمن قال: إن فضل عرفة العام بالمغفرة العامة، وقبول الدعاء يشمل من وقف بأرض عرفة وغيرها في يوم عرفة، وهذا لا يعني نفي الاختصاص بالفضل العام لمن حضر عرفة بالمغفرة والرضوان، والتجلي الإلهي والعفو، وعتق الرقاب والتباهي، ونزول الملائكة في البقعة المخصوصة، فمن وقف بأرض عرفة فقد جمع فضل الزمان والمكان؛ وإنما شمول أمة النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا بالفضل العام لا الخاص، وهذا ما فهمناه من وقوفه خارج حدود عرفة في خطبته وصلاته صلى الله عليه وسلم، وهذا نفهمه على سبيل المثال بفضل الدعاء العام يوم عرفة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))[48] ، وبلفظ: ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة))[49] ، فجميع الأمة مشمولة بهذا الفضل لا يقتصر فيه على من شهد الموقف دون غيره. قال الباجي: قوله: ((أفضل الدعاء يوم عرفة))؛ يعني: أكثر الذكر بركة، وأعظمه ثوابًا، وأقربه إجابة، ويحتمل أن يريد به الحاج خاصة؛ لأن معنى دعاء يوم عرفة في حقه يصح وبه يختص، وإن وصف اليوم في الجملة بيوم عرفة، فإنه يوصف بفعل الحاج فيه، والله أعلم[50]. وقال ابن رجب الحنبلي: (ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله من النار من وقف بعرفة، ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين؛ فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدًا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة؛ وإنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام رحمة من الله وتخفيفًا على عباده، فإنه جعل الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام؛ وإنما هو في كل عام فرض كفاية، بخلاف الصيام فإنه فريضة كل عام على كل مسلم، فإذا كمل يوم عرفة، وأعتق الله عباده المؤمنين من النار اشترك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك، وشرع للجميع التقرب إليه بالنسك؛ وهو إراقة دماء القرابين)[51]. قلت: وهذا ما أفهمه أيضًا من توجيهه صلى الله عليه وسلم لمن لم يحضر يوم عرفة في مكانها أن يصوم هذا اليوم لمن لم يشهده في مكانه، فأجاب صلى الله عليه وسلم عن أجر صيام يوم عرفة فقال: ((... صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده...))[52] ، فهذا من باب مشاركة فضل هذا اليوم الذي يمنع الحاج من صيامه لاشتغاله بالأهم وهو الدعاء، فسن لغيرهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يحضر الحج مشاركة لهم في الأجر والثواب، والله أعلم بالصواب [53]. وقلت: ووقوفه صلى الله عليه وسلم خارج حدود عرفة وصلاته بها يستأنس به لمن قال بجواز "التعريف" في يوم عرفة لمن لم يحضر عرفة للتشبه بحال الواقفين بأهل عرفة؛ فالمعرفون يقفون خارج حدودها في بلدهم ليشارك الحجيج وقفتهم، ويتشبهوا بحالهم، وفعله يستأنس به لذلك، فمن المعلوم أن التجلي الإلهي ونزول الرحمات في وقت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصل لا محالة، وهذا الحصول حدث في خارج حدود عرفة ولأهل عرفة، وهذه النفحات والرحمات أصبحت بهذا التكييف لمن شهد أرض عرفة ومن لم يشهدها، وهذا لا يعني التساوي بينهما في كل الجزئيات؛ إنما أهل الموقف لهم فضل الزمان والمكان، وعليهم تتنزل الرحمات والفيوضات، فهم المقصودون أصلًا بذلك، وأما غيرهم فهم تبع لهم، وللوقوف على هذا الجزئية إليك التعريف به وحكمه عند العلماء، فأقول وبالله التوفيق: يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |