|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تفسير سورة التوبة (الحلقة الثامنة) نشأة النفاق في المجتمع الإسلامي الأول الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. قال الله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 42 - 54]. لا تغتر بِمُوالٍ لك محبٍّ متربِّحٍ بك غيرِ متضرر، في صعود نجمك وتمام أمرك، فالناس إلا من رحم ربي عبيد مصالحهم، وأسرعُ إلى إبطال أعمالهم إذا تحول الرخاءُ إلى شدة أو الشدةُ إلى رخاء، والأخذُ إلى عطاء والعطاءُ إلى أخذ، قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، وأخرج ابن أبي حَاتِم عَن أبي العَالِيَة قال: "كَانَ أَصْحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرَوْنَ أَنه لَا يضر مَعَ لَا إِلَه إِلَّا الله ذَنْب كَمَا لَا ينفع مَعَ الشِّرك عمل، حَتَّى نزلت ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]، وعَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْآيَة نفسها قَالَ: "من اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَلَّا يبطل عملًا صَالحًا بِعَمَل سوء فَلْيفْعَل، وَلَا قوَّة إِلَّا بِاللَّه، فَإِن الْخَيْر ينْسَخ الشَّرَّ، وإِنَّمَا مِلَاك[1] الْأَعْمَال خواتيمها"؛ لذلك كان إسلام من استُدْرِجَ بالإكرام والعطاء أضعفَ ممن استخلصه الإسلام من خلال الابتلاء والمعاناة، وكان إسلام الرعيل الأول ممن أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة أثبت وأقوى وأشد رسوخًا، فلم يظهر فيهم تردد أو ردة، وقد أوذوا واضطهدوا واضطروا للهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فما ضعفوا وما استكانوا، فلما تكاثر المسلمون وأقبلت عليهم الدنيا، واندس في صفهم بعض من أسلم إيثارًا لسلامة أو مصلحة، أو تقيةً أو تمهيدًا لمكر يمكره أو غدر يعد له، وفشا في بعضهم الركون للدنيا بأثره في السلوك والأقوال والتصرفات والعلاقات والأخذ والعطاء، رصد القرآن الكريم هذه الظاهرة في بعضهم بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾ [محمد: 36 - 38]، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يداري هذه الظاهرة، ويتألف أصحابها تثبيتًا لهم على الإيمان بالعطاء والإحسان، كما صرح بذلك بقوله: ((إني أعطي قريشًا لأتألَّفهم؛ لأنهم حديثو عهد بجاهلية))[2]، وقوله: ((إني أعطي قومًا أخاف ظلَعهم [3] وجزعهم، وأَكِلُ قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى))، إلا أن ذلك ما زاد الظاهرة إلا استفحالًا، ونشأت بها أورام خبيثة في المجتمع الإسلامي، أخذت تسعى لتخريبه من الداخل، والتآمر عليه مع أعداء الخارج، فاستحدث لها القرآن مصطلحًا جديدًا في اللغة العربية هو "النفاق"، طوَّره من أصل لغوي في البيئة العربية؛ إذ يتخذ اليربوع [4] لجحره عدة أبواب يغلق بعضها بساتر ترابي خفيف، فإذا دهمه الخطر لم يخرج من الأبواب المفتوحة المرئية، وإنما يضرب برأسه الباب المغلق بالساتر الخفيف فينتفق – أي: فينفتح - ويخرج فينجو، والعرب تسمِّي هذا الباب السري لليربوع "النُّفَقَة" بضم النون وفتح الفاء كهُمَزة، وظهر بذلك لفظ النفاق في القرآن والسنة بمعنى لم تعرفه العرب من قبل؛ إذ أطلق على الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، والذي يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل منه فيه، وكذلك المنافق حين يدعي الإيمان وباطنه كفر، ويدعي الصدق وقوله الكذب، ويدعي الإخلاص وسريرته الخيانة، كما في قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]؛ لذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر مبكرًا من النفاق، تعريضًا وتصريحًا ويقول: ((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَفِ))، ونزل القرآن الكريم ينهى عن الاتصاف بأخطر مقدماته ومسبباته بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]، وقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3] وأخذ كرام الصحابة يحتاطون لأنفسهم من النفاق، ويراقبون أقوالهم وتصرفاتهم، ويحاسبون أنفسهم على الصغيرة والكبيرة، حتى إن حنظلة -رضي الله عنه - قال: لقيني أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: "كيف أنت يا حنظلة؟" قلت: "نافق حنظلة"، قال: "سبحان الله ما تقول؟"، قلت: "نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأيُ العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا (أي: لاعبنا) الأزواج والأولاد والضيعات؛ فنسينا كثيرًا"، قال أبو بكر: "فوالله، إنا لنلقى مثل هذا"، قال حنظلة: "فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: "نافق حنظلة يا رسول الله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: "يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرًا"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) وكرر هذه الكلمة: ((ساعة وساعة)) ثلاث مرات[5]. لقد رمي بالنفاق أول الأمر في الصف المسلم عقب الهجرة إلى المدينة قليل من المسلمين في مكة أمروا بالهجرة فتخلَّفوا عنها لظروف قاهرة أو غير قاهرة، ولم يثبت في حقهم نفاق، ثم في المدينة ظهرت أعراضه في بعض من أسلم ولم يتخلص من عصبيته القبلية أو عزته بالإثم، كحال عبدالله بن أُبَيٍّ وذي الخويصرة التميمي والجد بن قيس السهمي وغيرهم، ثم اشتدت وضوحًا عقب فتح مكة وإقبال الناس على الإسلام فرادى وأفواجًا، واتساع رقعة أرض الإسلام، وظهور أثر ذلك في الصف نفاقًا خفيًّا أو صريحًا، جبنًا أو خيانة، بالقول أو العمل أو بهما معًا، في حالة السلم تشكيكًا وشغبًا ودسًّا وتآمرًا، وحالة الحرب تخذيلًا أو تخليًا وتخلُّفًا وتوليًا، فتصدَّى لها القرآن الكريم بالبيان والكشف والتحذير، ونزلت فيها وفي أهلها عشرات الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد: 20، 21]، وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41]. كما تصدى لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان والشجب والتحذير متابعة منه صلى الله عليه وسلم لما ينزل من القرآن حذو القذة بالقذة، فقال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر))، ثم نزلت سورة التوبة فاستوعبت صفات المنافقين وأثر النفاق في المجتمع حربًا وسلمًا، حاضرًا ومستقبلًا، بدءًا من الآية الثانية والأربعين بقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42]، إلى قوله تعالى: ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 87]، وأقامت بذلك الشهادة على الحالة الإيمانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية التي كان عليها المجتمع الإسلامي في السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وسلم، وتشكلت بها ومنها نظمه واختياراته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، لا سيما وقد ازداد فيها المنافقون جراءة على مقام النبوة عندما دعوا للخروج إلى الغزوات الأخيرة، فانهزم في حنين بعضهم عمدًا تخذيلًا لجيش المسلمين، لولا أن الله ثبَّتهم بالصادقين ونصرهم، وعند الدعوة للخروج إلى تبوك؛ إذ أبدى المنافقون ضروبًا من المعاذير والمراوغات والمناورات تبريرًا لتخلُّفهم عنها؛ بل وخرج بعضهم معه لتنفيذ مؤامرة اغتياله صلى الله عليه وسلم، وكشف الحق تعالى حقيقة إيمانهم ونواياهم بقوله للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42]. والآية بمطلعها هذا استئناف للحديث عن المنافقين ونقائضهم وسوء معاملتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل غزوة تبوك وبعدها، وامتداد لقوله تعالى قبلها في المتثاقلين عن الجهاد من المؤمنين بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ [التوبة: 38]. ولفظ ﴿ عَرَضًا ﴾ [التوبة: 42]، بفتح العين والراء جمع عروض، وهو ما يُعَد متاعًا للحياة الدنيا، نقودًا وذهبًا وفضة ومَكِيلاتٍ وموزوناتٍ وغيرها مما له قيمة، وُصِف بالقريب؛ أي: سهل التناول والامتلاك، والسفر القاصد من القصد وهو اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ وسهولتها، من قَصَد يَقْصِدُ قَصْدًا، فَهُوَ قاصِد، قال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النحل: 9]؛ أي: على الله تبيين الطريق المستقيم والهداية إليه، والسفر القاصد ما لا مشقة فيه ولا تعب ولا نصب، والشقة لغة من أصل واحد صحيح هو فعل "شق"، كما في معجم مقاييس اللغة، يدل على انصداع في الشيء، ثم يحمل عليه ويشتق منه استعارة، فيقال لنصف الشيء: شِقّ، ويقال للأخ: "الشقيق" مُشبَّهًا بخشبة جعلت شقين، ويقال للأمر الشديد كأنه يشُق المرء من شدته: مشقة، وللشَّظية تَشَظَّى من الخشبة: "الشِّقة" بالكسر، وللخلاف بين الناس "الشِّقاق"، ومنه قوله عز وجل: ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ﴾ [النحل: 7]، ومنه "الشُّقة" بالضم على حرف الشين، وهي المسيرة المتعبة إلى الأرض البعيدة في قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ﴾ [التوبة: 42] بالضمة على حرف العين في "بعُدت" وعُدِّيَ فعل "بعُدت" بحرف "على" لتضمنه فعل "ثَقُل"، قرأها عيسى بن عمر، والأعرج: "بَعِدَت" بكسر العين، وقرأ عيسى: "الشِّقَّة" بكسر الشين كذلك. وحرف: ﴿ لَوْ ﴾ [التوبة: 42]، للشرط غير الجازم، و﴿ كَانَ ﴾ فعل ماضٍ ناقص مبنيٌّ على الفتح، حذف اسمها للدلالة عليه من سياق الجملة، و﴿ عَرَضًا ﴾ خبره منصوب بالفتحة الظاهرة، و﴿ قَرِيبًا ﴾ نعته، و﴿ سَفَرًا ﴾ معطوف على ﴿ عَرَضًا ﴾، و﴿ قَاصِدًا ﴾ نعته، واللام في ﴿ لَاتَّبَعُوكَ ﴾ رابط لجواب ﴿ لَوْ ﴾؛ أي: لو كان فيما دعوتهم إليه مكسب دنيوي قريب المنال أو شهوة نفس سهلة المأخذ تُجتنَى بدون تعب أو مشقة، لاستجابوا لدعوتك واتبعوك وخرجوا معك، ولكن ما تدعوهم إليه شاق متعب وبعيد عن هممهم الوضيعة، لا ترقى إليه أنفسهم الوطيئة، والطريق التي دعوتهم إليها واضحة مستقيمة، لا يتردد في اقتحامها إلا أحد ثلاثة: جبان رعديد يتنكبها اتقاء مخاطرها ومشاقها، أو كافر جاهل ختم على قلبه، أو منافق هو للكفر أقرب، وآفتهم كلهم في أفئدتهم الفارغة الجوفاء، ونفوسهم الرعشاء، وطباعهم اللئيمة، وجهلهم المكين. وقد أوردت الروايات المنقولة نماذج من هؤلاء المنافقين الذين كانوا يحاولون تخريب الصف كلما حقق الإسلام اختراقًا في المجتمع الجاهلي، لا سيما وقد تجاوز النفاق في تلك الظروف الحالات الفردية إلى محاولة التكتل التآمري، كما وقع إذ أسلم عبدالله بن سلام، فغضب جمهور من اليهود، وظاهرَهم قوم منافقون من الأوس والخزرج كانوا يظهرون الإسلام مداراة لقومهم من الأنصار، وذكر ذلك ابن حزم مفصلًا في كتابه: "جوامع السيرة"، مستعرضًا أسماء كثير من المنافقين حسب انتمائهم القبَلي، قال: "ثم فرضت الزكاة بالمدينة حينئذٍ، وأسلم عبدالله بن سلام، وكفر جمهور اليهود، وظاهرَهم قوم من الأوس والخزرج منافقون، يظهرون الإسلام مداراة لجمهور قومهم من الأنصار، ويسرون ما يسخطون الله تعالى به من الكفر، فممن ذكر منهم من الأوس..ثم من بني لوذان بن عمرو بن عوف....إلخ". ويعقب الحق تعالى بلمحة من الغيب تكشف حقيقة نوايا المنافقين وخلفية أيمانهم الكاذبة، وتتوعَّد المخلفين بما يملأ قلوبهم ندمًا وحسرةً، وتبشِّر الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه بالنصر والتمكين، بقوله تعالى: ﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ [التوبة: 42]، للجهاد؛ أي: سوف تنتصرون على أعدائكم وتعودون إلى المدينة فيندم المخلفون، ويحاولون استرضاءكم بالحلف بالله كذبًا مؤكدين اضطرارهم للتخلف ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [التوبة: 42]، وما هذه الأيمان منهم إلا زيادة إثم يهلكون به أنفسهم، في إشارة منه تعالى إلى أن اليمين الفاجرة تهلك صاحبها في الدنيا والآخرة ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42]، كاذبون فيما ذكروه تبريرًا لتخلفهم قبل الغزوة، وفيما اعتذروا به بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم منتصرًا، وفي أيمانهم الكاذبة التي غطوا بها خياناتهم، وإنما النفاق الذي استوطن قلوبهم هو الأصل في جميع مواقفهم وتصرفاتهم واختياراتهم، وهو ما بيَّنه الحق تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من قبل وحيًا في سورة الفتح بقوله عز وجل: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [الفتح: 11، 12]، وهو موقفهم نفسه وندامتهم يوم لا تنفعهم الندامة في الآخرة ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 13 - 15]. لقد جبل الرسول صلى الله عليه وسلم على الحياء والرحمة والخلق الكريم وهو القائل: ((إن الله تعالى حيي سِتِّير يحب الحياء والستر))[6]، وقال عنه تعالى: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وقال له: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وكان المنافقون يستفيدون مما جبل عليه من هذه الأخلاق الحميدة فيحرجونه بالاستئذان للتخلف عن الجهاد بمختلف الأعذار، حتى بلغ عدد المأذون لهم قريبًا من الأربعين[7] أذن لهم بناء على أَيْمانهم ومواثيقِهم التي يقدمونها بين يديه، وما جبل عليه من الخلق الكريم، وما ملأ قلبه من الثقة بنصر الله والغنى عن نصرة المنافقين، وقد قال له ربه تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]، وقد أخرج ابْن جرير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: إن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ: ألا تغزو بني الْأَصْفَر لَعَلَّك أَن تصيب ابْنة عَظِيم الرُّوم؟ فَقَالَ رجلَانِ: قد علمت يَا رَسُول الله أَن النِّسَاء فتْنَة فَلَا تفتنا بِهن فأْذَن لنا، فَأذن لَهما، فَلَمَّا انْطَلقَا قَالَ أَحدهما: "إِن هُوَ إلا شحمة لأوّل آكل"[8]، فَسَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم ينزل عَلَيْهِ فِي ذَلِك شَيْء، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق نزل عَلَيْهِ وَهُوَ على بعض الْمِيَاه ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ ﴾ [التوبة: 42]، وَنزل عَلَيْهِ ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43]، وَنزل عَلَيْهِ ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 44]. إلا أن هذا الإذن لهم منه صلى الله عليه وسلم لم يكن مناسبًا لظروف المعركة وما يعلمه الله تعالى وحده من المآلات، ولما يريده عز وجل للمنافقين من تعرية وفضح وزراية؛ لذلك بادره عز وجل بالعفو عنه لقراره بالإذن لهم قبل عتابه بقوله: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ﴾ [التوبة: 43]، رفقًا به ورحمة له وتهدئة لروعه وتأكيدًا لدوام رعايته وحفظه، ثم بيَّن ما كان ينبغي أن يعامل به المنافقين من التضييق عليهم حتى تنكشف نواياهم وحقائق نفاقهم وما يبيتونه لدعوة الإسلام وحركته الناهضة، بقوله تعالى: ﴿ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43] في التخلف عن الجهاد ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ [التوبة: 43]؛ أي: ما كان لك أن تأذن لهم بما اعتذروا به من العجز المالي أو البدني أو الاجتماعي حتى تتبين صدقهم فيما أخبروك به ﴿ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43]، في ذلك فتنكشف لك وللمؤمنين مواقفهم ومكرهم وما يكيدون ويلفقون ويدبرون؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتردد أحيانًا في تعيين أسماء بعض المنافقين إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، ويخبر أحيانًا حذيفة رضي الله عنه بأسماء بعضهم ويستكتمه لضرورات سياسية أو عابرة، ونزل من رب العزة الحسم في أمرهم بتحريم إشراكهم في الجهاد مستقبلًا، وتحريم الصلاة عليهم أو القيام على قبورهم للترحم عليهم بقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 83، 84] بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإغلاظ عليهم قبل نزول سورة التوبة بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73]، وبإخراج بعضهم من المسجد كما ذكر ذلك ابن هشام في سيرته بقوله: "وكَانوا يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَمِعُونَ أَحَادِيثَ الْمُسلمين ويسخرون ويستهزئون بِدِينِهِمْ، فَاجْتَمَعَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ مِنْهُمْ نَاسٌ، فَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، خَافِضِين أَصْوَاتَهُمْ، قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجُوا مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجًا عَنِيفًا، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ، خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْب، إلى عمر بْنِ قَيْسٍ، أَحَدِ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ كَانَ صَاحِبَ آلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَحَبَهُ، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَتُخْرِجُنِي يَا أَبَا أَيُّوبَ مِنْ مِرْبَدِ بَنِي ثَعْلَبَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ أَيْضًا إلى رَافِعِ بْنِ وَدِيعَةَ، أَحَدِ بَنِي النَّجَّارِ فَلَبَّبَهُ بِرِدَائِهِ ثمَ نَتَرَهُ نَتْرًا شَدِيدًا، وَلَطَمَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِن الْمَسْجِدِ، وَأَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ لَهُ: "أُفٍّ لَكَ مُنَافِقًا خَبِيثًا، أَدْرَاجَكَ يَا مُنَافِقُ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وَقَامَ عِمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَادَهُ بِهَا قَوْدًا عَنِيفًا حَتَّى أَخْرَجَهُ مِن الْمَسْجِدِ، ثُمَّ جَمَعَ عِمَارَةُ يَدَيْهِ فَلَدَمَهُ بِهِمَا فِي صَدْرِهِ لَدْمَةً خَرَّ مِنْهَا. قَالَ: يَقُولُ: "خَدَشْتَنِي يَا عِمَارَةُ"، قَالَ: "أَبْعَدَكَ اللَّهُ يَا مُنَافِقُ، فَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِن الْعَذَابِ أَشَدّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وَقَامَ رَجُلٌ من رَهْطِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، يُقَالُ لَهُ عبدالله بْنُ الْحَارِثِ، إلى رَجُلٍ ذي جُمَّةٍ، فَأَخَذَ بِجُمَّتِهِ فَسَحَبَهُ بِهَا سَحْبًا عَنِيفًا، عَلَى مَا مَرَّ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ. فقَالَ الْمُنَافِقُ: "لَقَدْ أَغْلَظْتَ يَا بن الْحَارِثِ"، فَقَالَ لَهُ: "إنَّكَ أَهْلٌ لِذَلِكَ؛ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّكَ نَجِسٌ". يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |