دلالة الاستقراء بين القطع والظن عند الأصوليين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 878 - عددالزوار : 119481 )           »          الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 8865 )           »          البشعة وحكمها في الشريعة الإسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 1197 )           »          لا تقولوا على الله ما لا تعلمون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 50 - عددالزوار : 21980 )           »          اصطحاب الأطفال إلى المساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          صلة الرحم ليس لها فترة زمنية محددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الدعاء بالثبات والنصر للمستضعفين من المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الأسباب المعينة على قيام الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 15-02-2023, 05:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,285
الدولة : Egypt
افتراضي دلالة الاستقراء بين القطع والظن عند الأصوليين

دلالة الاستقراء بين القطع والظن عند الأصوليين


الحسان شهيد
باحث من المغرب.





يعدّ الاستقراء أحد الأسس الكبرى التي قام عليها العمران العلمي لمفكري الإسلام, وخاصة الأصوليين منهم، بالنظر إلى أنه الأنسب في البحث والأجدى في الوصول إلى النتائج المرجوة من حيث القطع والعلمية.
وإن المتأمل في فلسفة البحث والنظر عند الأصوليين ــ من خلال كتاباتهم وتآليفهم ــ سيتضح له بجلاء أنها قائمة في أساسها على بُعْدٍ منهجي صِرْف، ويبدو ذلك من خلال بنائهم المعرفة الأصولية في صورة قواعد تجمع جزئيات كثيرة وضوابط تندرج تحتها أحكام متعددة، توحي بمعانيها الاستقرائية للنصوص الشرعية.
فما مفهوم الاستقراء الأصولي ؟ وما دلالاته العلمية ؟ وهل بينها وبين دلالاته لدى المناطقة من اختلاف ؟ هذه الأسئلة وغيرها تحاول هذه الصفحات البحث فيها.
أولاً: في معنى الاستقراء induction
الاستقراء لغة : من استقرأ يستقرئ استقراء, واستقرأه: طلب إليه أن يقرأ، واستقرأ الأمور: تتبع أقراءها لمعرفة أحوالها وخواصها، واقترى البلاد واستقراها وتقراها: تتبعها يخرج من أرض إلى أرض، واستقرأ الجمل الناقة: تركها لينظر ألقحت أم لا(1).
أما من الوجهة الاصطلاحية، فتتعدد معاني الاستقراء بتعدد مجالات الاختصاص.
فعند المناطقة، عرفه أرسطو بأنه «حكم على الجنس لوجود ذلك الحكم في جميع أنواعه، مثال ذلك الجسم إما حيوان أو إنسان أو جماد، وكل واحد من هذه الأقسام متحيز, فينتج عن ذلك أن كل جسم متحيز»(2)، فهو «لا يريد بالأمثلة الجزئية ــ في هذا السياق ــ أفراداً؛ بل يريد أنواعاً، بمعنى أنك تنظر إلى بقرة واحدة، لا على أنها فرد قائم بذاته؛ بل على أنها عَيِّنة تمثل نوعاً بأسره»(3)
وقال ابن سينا: «الاستقراء هو كل كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي، إما كلها وهو الاستقراء التام، وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور»(4).
وعرفه الغزالي ــ في معيار العلم ــ بأنه «أن تتبع الحكم في جزئيات كثيرة، داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكماً في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الجزئي به»(5)، فالاستقراء على هذا المعنى يعمل على ربط النتائج بالأسباب، وذلك بتحديد القوانين التي تضبط هذه الظواهر وبنياتها الداخلية والمخطط النظري الذي يساعدنا على تمهيدها(6).
وعرفه الخوارزمي بقوله: الاستقراء «هو تعرف الشيء الكلي بجميع أشخاصه»(7). أما الجرجاني، فالاستقراء عنده هو «الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته، وإنما قال: في أكثر جزئياته؛ لأن الحكم لو كان في جميع جزئياته لم يكن استقراء؛ بل قياساً مقسماً، ويسمى هكذا لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع جزئياته»(8).
أما الاستقراء في اصطلاح علماء التربية، فله معنيان وإن تقاربا من حيث المضمون: فالأول: هو نمط من الاستدلال، ينتقل بموجبه الفكر من ملاحظة ودراسة حالات جزئية إلى استخلاص حكم كلي يتم تعميمه على باقي الحالات المتشابهة للحالة الملاحظة.
والثاني: قدرة المتعلم على التدرج من الجزء إلى الكل، ومن المثال إلى القاعدة، ومن الحالات الجزئية إلى الكليات والأفكار العامة، ويشمل القدرة على ربط الحقائق بعضها ببعض للوصول إلى فكرة جديدة أو قانون عام(9).
ولا يبتعد مفهوم الاستقراء عند علماء الفقه والأصول عما سبق ذكره من تعريفات، فأبو حامد يرى أنه «عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات»(10).
وعرَّفه الإمام القرافي بأنه «تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في الصورة النزاع على تلك الحالة»(11).
وقال الرازي: «الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته»(12).
أما ابن قدامة، فالاستدلال بالاستقراء عنده «هو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على مثلها»(13).
ولعل من أوضح تعاريف الاستقراء ذاك الذي أودعه الإمام الشاطبي في موافقاته بقوله: هو «تصفح جزئيات ذلك المعنى لِيَثْبُتَ من جهتها حكم عام، إما قطعي وإما ظني، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية، فإذا تم الاستقراء حكم به في كل حكم تقدر»(14)
وإلى ذلك أشار ابن عاصم في منظومته الأصولية:
وهناك الاستقراء خـذه رسمـا تتبــع الجـزئــي حكـمــاً حكـمــا
ثم يــرى والحكــم فـيه يطّــردْ بــذلـك الحـــكــم حيثـمــا يـَـــرِدْ(15)
أما تعريفات المتأخرين لمصطلح الاستقراء، فلم تتميز عما ذكره سابقوهم من المتقدمين، منها على سبيل المثال:
تعريف المشاط إذ قال فيه: «تصفح الجزئيات ليحكم بها على أمر يشمل تلك الجزئيات، فهو استدلال بثبوت الحكم للجزئيات على ثبوته للكلي، عكس القياس المنطقي، وهذا هو الاستقراء التام»(16)
وكذا محمد باقر الصدر الذي قال بأنه «كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي أسهمت في تكوين ذلك الاستدلال»(17)، أو هو «تلك العملية التي بواسطتها يمكننا الانتقال من معرفة الوقائع إلى القوانين التي تخضع لها»(18).
أما من المعاصرين فقد حدده قطب مصطفى سانو «بأنه استدلال بثبوت حكم في الجزئيات، بناءً على ثبوته في الأمر الكلي لتلك الجزئيات»(19)، كما عرفه محمد محمد أمزيان بأنه المسلك الذي «يستخدم في إثبات الحقيقة العلمية، ويعتمد على الانتقال من الحكم على البعض إلى الكل على سبيل التعميم، وذلك بملاحظة الجزئيات وإيراد التجارب عليها كلما أمكن ذلك، ثم الارتقاء إلى نتائج عامة في صورة قوانين تضيف جديداً إلى المعرفة العلمية»(20).
وعليه فالدليل الاستقرائي نستدل به على ما نعرفه حقيقة في حالة أو حالات جزئية؛ ليصبح حقيقة في كل الحالات المشابهة للأولى من خلال بعض العلاقات المسوغة لهذا التشابه(21)
مـــلاحـــظ
بعد هذا الجرد المتنوع لأهم تعاريف الاستقراء عند كل من أهل الفلسفة والمنطق من جهة، وأهل الفقه والأصول من جهة أخرى، يمكن الخروج بالملاحظ الآتية:
أ ـــ أن الاستقراء في أصله دليل مشترك بين مختلف التخصصات العلمية، فهو منهج بحث وتتبع لجملة أفراد وجزئيات وأنواع ترشد إلى تكوين وصياغة قاعدة عامة، وقانون مطرد يستمر في بيان وكشف حقائق الأمور.
ب ـــ أن منهج الاستقراء في الفلسفة اليونانية ــ وخاصة المنطق الأرسطي ــ يتفرع عنه استقراء تام يفيد القطع والعلم اليقيني، كما يتفرع عنه استقراء ناقص يفيد الظن، أما جمهور الفقهاء والأصوليين، فالاستقراء الناقص يفيد الظن الراجح الذي يرتقي إلى مرتبة القطع؛ لغلبة الظن فيه.
ج ـــ أن من الأسس المادية للاستقراء في العلوم العقلية مسألتي الملاحظة والتجربة ثم وضع الفروض، وهذه عناصر أساسية تفضي إلى نتيجة، هي القاعدة أو القانون الاستقرائي، أما في علمي الفقه وأصوله فيختلف الأمر في بعضها؛ إذ يتم التركيز فيهما على تتبع الجزئيات واقتفائها، ومن ثم تعميم النتيجة المتحقق منها في تلك الفروع، وهذا ما يؤدي إلى حكم عام شامل كلي.
فالاستقراء إذن:
عملية علمية استدلالية.
القائم بها: متخصص في العلم المبحوث فيه.
منهجه: تتبع وتصفح كل الجزئيات والأفراد للمسألة أو أغلبها.
غايته: صياغة حكم كلي أو قاعدة عامة مستغرقة لكل الفروع أو أكثرها.
فائدته: الاستدلال به على بيان المسائل الأخرى وفهم الخطاب جملة.
ثانياً: في حجية الاستقراء
اختلف الفقهاء والأصوليون حول حجية دليل الاستقراء، ويعود ذلك إلى أسباب سأذكرها عقب التعرف على كل مذهب من المذاهب.
فالاستقراء بحسب تقسيمه التقليدي ضربان: استقراء تام واستقراء ناقص:
أما الاستقراء التام: فهو حجة عند جميع الفقهاء والأصوليين؛ لأنه ضرب من الاستدلال العقلي المنطقي، الذي لا يدع مجالاً للعاقل للشك في حجيته والظن في دلالته, وفي هذا يقول الناظم:
فـإن يعــم ذي اشتقـاق فـهــــو حـجـــة بالاتـفـــاق
وقال الشارح: «فالتام هو أن يعم الاستقراء غير صورة الشقاق؛ أي: النزاع، بأن يكون ثبوت الحكم في ذلك الكلي بواسطة إثباته بالتتبع في جميع جزئياته ما عدا صورة التنازع، وهو دليل قطعي في إثبات الحكم في صورة النزاع عند الأكثر ولا خلاف في حجيته»(22)
أما الاستقراء الناقص أو غير التام فهو الذي كان محل النزاع بين العلماء، أما المالكية والشافعية والحنابلة فيعدّ عندهم حجة في الاستدلال؛ لأن الغالب الأكثري في رأيهم كحكم الكلي العام، فيلحق الفرد النادر الخارج بالأعم الأغلب.
يقول الإمام القرافي بعد بيانه لدلالة الاستقراء الناقص المفيدة للظن: «وهذا الظن حجة عندنا وعند الفقهاء»(23). أما الإمام الغزالي فرأى أن الاستقراء «إن لم يكن تامّاً لم يصلح إلا للفقهيات؛ لأنه مَهْما وجد الأكثر على نمط غلب على الظن أن الآخر كذلك»(24).
فالاستقراء الناقص عند الإمام الغزالي يفيد ظناً راجحاً، يغلب عليه ميل إلى القطع، التي ترفعه إلى مرتبة الحجية المعتبرة، وعلى هذا السبيل ثبت عند الإمام الشافعي أن «أقل سن الحيض تسع سنين وأن أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر، وغالبه ست أو سبع، ومعلوم أن الشافعي لم يستقرئ حال جميع نساء العالم في زمانه، ولا حال أكثرهن، بل ولا حال نصفهن ولا ما يقرب منه، فضلاً عن نساء العالم على الإطلاق للقطع بعدم استقرائه حال جميع الأعصار المتقدمة عليه»(25)، وكان هذا هو مسلك الإمام الشافعي في تقرير كثير من أحكامه الشرعية وقواعده الأصولية(26).
وهو رأي إمامنا الشاطبي كما تبين وكما سيتضح أكثر فيما بعد؛ لأنه عادة ما يقيم معرفته العلمية في علوم الشريعة على قاعدة «أن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي»، ثم قاعدة «غلبات الظنون معتبرة في الشريعة».
ولا يفيد حكم الاستقراء الناقص لا القطع ولا الظن عند الإمام الرازي، ويستدل بأن من الشائع قولهم: «الجزئي لا يثبت الكلي؛ لجواز اختلاف الجزئيات في الأحكام، واستقراء بعض الجزئيات، مع عدم استقراء بعضها الآخر استقراءً جزئياً، فلا يثبت الحكم في الباقي؛ لجواز أن يكون حكمه مخالفاً لما استقرئ، فالحكم على الباقي بواسطة هذا استقراء باطل»(27).
أما الحنفية فلم يعترفوا بالاستقراء الناقص بصفته دليلاً مستقلاً في إثبات الأحكام الشرعية، ذهاباً منهم إلى أنه راجع إلى القياس إذا دل على وصف معتبر جامع لجميع الجزئيات، أو أنه راجع إلى العرف والعادة(28).
أما ابن حزم فكان أكثر صراحة في موقفه من الاستقراء بنوعيه؛ إذ حذر طالب الحقيقة والعلم ألا يعتمد إلا على ما تم من استقراء، فقال: «ينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما أوجبه العقل، ويقر بما شاهد وأحس، وبما قام عليه برهان راجع إلى الناس المذكورين، وألاّ يسكن إلا إلى الاستقراء أصلاً، إلا أن يحيط علماً بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي يحكم فيه، فإن لم يقدر فلا يقطع في الحكم على ما لم يشاهد، ولا يحكم إلا على ما أدركه، دون ما لم يدرك»(29)
فالاستقراء الناقص عند ابن حزم دلالته لا تقوى على طلب الحق وعلى إدراك المعرفة اليقينية، «وهذا لا يعني أن الاستقراء لا يكون تكهناً وتحكماً إلا إذا كان استدلالاً بالشاهد على الغائب، وتسوية بين طرفين لا متساويين؛ كالخالق والمخلوق والطبيعة وما فوقها، والإنسان والله، أما إذا كان توسيعاً وتعميماً لنتائج تجاربنا على تجارب أخرى لم نخبرها، فإن اطراد حوادث الطبيعة، واستمرارها وسببيتها ــ وكل ذلك معلوم عقلاً ــ ينتج لنا ذلك»(30)، وبالتالي لا يجوز الركون إليه وعدّه حجة قطعية في جميع الحالات؛ لأن إسقاط القياس من الاستدلال عنده مؤثر في إسقاط الاستقراء ابتداءً ومن باب أولى.
هذه أهم المواقف الأصولية من حجية الاستقراء بنوعيه، ولعل هذا الاختلاف بين العلماء مرده إلى أمور أهمها:
الأول: أن ورود أدلة أخرى من جهة أولى تغني عن إعمال دليل الاستقراء على حالته الظنية، لا في حالة اعتباره واعتماده من حيث الأصل كما هو ثابت عند الحنفية.
الثاني: أن دليل استقراء لا يصح الاستناد إليه في إدراك الحقائق العلمية، ولا يمكن الاحتجاج به؛ لأنه غير صالح على الإطلاق في التماس القطع، وهو رأي متأثر إلى حد ما بالاعتبارات المنطقية القادحة في الاستقراء الناقص، وعلى ذلك سار ابن حزم الظاهري.
الثالث: أن غالب الظن معتبر في الاستدلال وصحيح في الاحتجاج به؛ لأنه بمثابة العام الكلي المفيد للقطع؛ لأن النوادر وآحاد الجزئيات لا يقدح تخلفها في سلامة الكليات وقطعيتها، وعلى ذلك رأي الإمام الشاطبي وباقي المالكية وكذا الشافعية.
ثالثاً: في دلالة الاستقراء التام

l’indication de l’induction complÈte


الاستقراء التام يفيد القطع

لا يختلف أهل العلوم النقلية أو العقلية في أن الاستقراء التام يفيد القطع والعلم اليقيني؛ بل هو ــ من حيث أصله ــ تم على تمام حكم أو معنى يقوم عليه بحسب الضرورة المنطقية والعقلية، فلا ينتج عنه إلا قانون عام مطرد خال من الشذوذ ولا يتطرق إليه احتمال.
فالاستقراء التام المحصي لكل الجزئيات لا يعدو أن يدل على أحكام قطعية وعلوم يقينية بالطبيعة، فثبت بهذا ــ كما قال الغزالي ــ أن الاستقراء إن كان تاماً رجع إلى النظم الأول وصلح للقطعيات، فيحصل من هذا أن التام يفيد العلم(31).
ويطلق على هذا النوع من الاستقراء اسم القياس المنطقي الثابت فيه العلم والقطع عند أهل المنطق(32)
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن موجة إعادة النظر في المناهج العلمية، والثورة الفكرية ــ اللذين عرفهما البحث العلمي في الآونة الأخيرة ــ قد أفرزتا تصورات جديدة حول منهج النظر بالاستقراء، الذي أصبح لدى بعض المذاهب المنهجية لا يلبي الرغبة القطعية في كل ضروبه، وليس وسيلة يقينية للحصول على علم قطعي أو مضبوط(33)، كما جاء أيضاً «الفكر الحديث مبدياً عدم تفاؤله بأي حل لإنقاذ المعرفة البشرية من براثن الشكوك والظن»(34)؛ لأنه في نظر أصحابه يتميز بخصائص(35) منها:
أولاً: أن نتائج استدلاله ليس بالضرورة صحيحة.
ثانياً: وأنه لا ينطلق بالضرورة من مقدمة أو مقدمات منطقية.

وانطلاقاً من ذلك فمشكل الشك في الاستقراء ممكن عند البعض الآخر؛ لأنه من الواضح أن الناس يميزون بين ما هو صائب أو غير صائب في الغايات الاستقرائية(36).
وأعود إلى التمثيل في هذا المطلب بما جعلته مثالاً في استثمار الاستقراء التام؛ للارتباط الوثيق الذي يجمعهما، ولأنه يخدم الغرض نفسه.
ومن ذلك مسألة تلازم وتوافق الأدلة الشرعية لقضايا العقول، حيث استدل الشاطبي على هذه القاعدة بعدة وجوه، من بينها وجه الاستقراء التام الذي يفيد القطع بها، حيث رأى أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعاً بالاستقراء التام»(37)، وهذا الأمر مسلّم؛ لأن تمام الاستقراء واستغراقه لكل الفروع المستقرأة ينشأ عنه القطع واليقين وبالعلم المحصول.
كما يؤكد الشاطبي هذه القطعية من خلال موافقته لمستشكل أو معترض على مدى اعتبار الجزئي بعد حصول العلم والقطع بالقاعدة الكلية مع تحفظه على بعض التفصيلات التي رآها غير مناسبة للوفاق عليها؛ «لأن الاستقراء قطعي إذا تم، فالنظر الجزئي بعد ذلك عناء، وفرض مخالفته غير صحيح، كم أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلاً بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان، فالحكم عليه بالكلي قطعي لا يتخلف»(38).
وليبيّن أبو إسحاق أكثر قطعية أحكام الاستقراء ونتائجه المستخلصة من كماله، نَلْفَاهُ يساوي في القطعية بين الأصول الكلية الثابتة بالاستقراء ومن تتبع الفروع والأفراد، وبين الأصول المعتبرة بالأدلة القطعية المعينة، إلى حد ترجيحها عنها حالة ارتفاعها عليه من حيث القوة، كما تأخذ حكمها كباقي الأصول الثابتة يقول: «والأصل الكلي إذا كان قطعياً، قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحاً في بعض المسائل حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح»(39).
وفي مجال التقعيد لأصول الفقه وإثبات يقينيتها المفيدة القطع، استثمر الاستقراء الكلي التام أسلوباَ مهماً للوصول إلى ذلك، فرأى أن دلالة أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، وترجع بالأساس إلى وجهين: «أحدهما: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة، وذلك قطعي أيضاً، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما والمؤلف من القطعيات قطعي»(40).
فالاستقراء التام ــ كما سبقت الإشارة ــ يحصل منه العلم المفيد للقطع، الذي لا يمكن مخالفته أو التغاضي عن نتائجه العلمية؛ لأنه تترتب عنه أحكام شرعية عديدة، تلزم المكلف وتنبني عليها فروع فقهية أخرى ينبغي اعتبارها.
وتبقى من أهم الإشكالات المطروحة في مجال بحث دلالة الاستقراء التام ومنهجه العلمي في علوم الشريعة عند الأصوليين: مفهوم التمام أو الكلية المنسوبة إلى الاستقراء في تلك الأبواب الشرعية؛ إذ كيف يتصور تتبع وتصفح كل الجزئيات والفروع المندرجة تحت ذلك الحكم من دون استثناء، ومن دون نقص أو تقييد ؟، خاصة إذا علمنا تعذر ذلك على كل تقدير في مجال العلوم الإنسانية، وهذا ما جعل بعضهم يتساءل عن الأساس الذي يعتمد عليه في الانتقال من الجزئي إلى الكلي؛ أي من الحوادث المشاهدة إلى غير المشاهدة، ذاهباً إلى أن طرق الاستقراء لا تجيز هذا التمام والتعميم؛ «بل يبرهن على صدق الفرضية بالنسبة إلى الحقائق المشاهدة لا غير»(41)؛ لكن بعضهم الآخر يحدد دراسة عملية الاستقراء في مسألتين: «الأولى مسألة المبدأ أو البادئ التي تقوم عليها فكرة المنهج التجريبي نفسه، وثانياً مسألة الضمان الذي يضمن لنا الانتقال من الحالات الجزئية المشاهدة إلى وضع القانون العام»(42).
هذا بالإضافة إلى أن «قطعنا بالنتيجة الاستقرائية يتوقف على استحضار كل الجزئيات وتتبعها بشكل مطلق، فإن الاستقراء سيكون بالضرورة ناقصاً ما دام حصول ذلك غير ميسر»(43). وعليه فإن بعضهم يعتقد أن عملية الاستقراء تتم عبر استحضار مراقبة ليست نهائية إلا لما هو استثنائي، ولا يتم الوصول بها إلى الحقيقة في المعرفة العلمية إلا بإقصاء الأخطاء(44) أو الحالات غير المنسجمة مع المبدأ العام.
فهل هذا ينطبق على دراسات وبحوث الأصوليين في ميدان العلوم الشرعية، ذلك ما سأحاول معالجته في المطلب الثاني من هذا المبحث.
مفهوم التمام عند الأصوليين
من المفيد في تحرير هذا المفهوم إيراد تعريفات بعض الأصوليين للاستقراء؛ لأنها تحمل إشارات مهمة في ضبط ذلك، فالاستقراء عند أبي حامد: «إذا كان تاماً رجع إلى النظم الأول، وصلح للقطعيات، وإن لم يكن تاماً لم يصلح إلا للفقهيات؛ لأنه مَهْما وجد الأكثر على نمط غلب على الظن أن الآخر كذلك». ويظهر أن الغزالي قد قسم الاستقراء بحسب التقسيم المنطقي، غير أنه قد منح لعلوم الشريعة خصوصية المجال التداولي والطبيعة العلمية بحسبانها الاستقراء التام له من الاعتبار الظني على غير ما استقرئ، وبهذا يندر ورود استقراء تام، وعلى فرض وروده فهو قطعي، وما عداه يلحق بالظني، أما تعريف الشاطبي فهو «تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبُتَ من جهتها حكم عام، إما قطعي وإما ظني، وهو أمر مسلّم عند أهل العلوم العقلية والنقلية، فإذا تم الاستقراء حكم به في كل حكم تقدر, وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع»(45).
وما ينفعني في هذه المسألة هو الشق الثاني من التعريف الذي:
يسلم فيه الشاطبي باشتراك مفهوم الاستقراء بين أهل العلوم العقلية والنقلية.
ويربط فيه بين دلالة مفهوم الاستقراء ودلالة مفهوم العام.
ويركز فيه بقوة على الجانب المعنوي في العملية الاستقرائية.
فكيف يمكن فهم التمام في الاستقراء على ضوء هذه المعطيات الجوهرية ؟ وما أوجه التسليم به بين أهل الاختصاص النقلي والعقلي ؟ وما سر الربط بين دلالة العام ودلالة الاستقراء عنده ؟
يعدّ الاستقراء التام ــ بالمفهوم المنطقي ــ حُكْم على الجنس؛ لوجود ذلك الحكم في جميع أنواعه(46)، وهو الذي يصفه أهل هذا الاختصاص بالقياس المقسم أو القياس المنطقي(47)؛ أي: أن التام لا يخرج منه فرد واحد من الأفراد أو نوع واحد من الأنواع، فهو حكم يشمل كل الجزئيات والفروع من دون استثناء. فهل هذا المعنى وارد أو قابل للورود في مجال العلوم الشرعية التي يعمل فيها الشاطبي ؟.
والملاحظ أن المطلع على إنتاجات الأصوليين في هذا الصدد بالخصوص، يستوقفه تحاملهم الواضح والبين على علم المنطق وأهل علم المنطق، وآلياتهم التي يوظفونها في مناهج البحث التي لا تتناسب مع طبيعة البحث في العلوم الشرعية، وخذ على سبيل التمثيل مناقشة الشاطبي للقاعدة الشرعية (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)(48) ، التي وظّف في فقهها بعض المتحمسين للمناهج المنطقية اعتباراتهم الفلسفية، حتى أخلّوا بالمعنى والقصد الشرعي، فلم تتخلص لهم المسألة ولم يفد الإتيان بها، فقال معقباً عليهم: «واعلم أن المراد بالمقدمتين ها هنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التناقض والعكس، وغير ذلك وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح»(49).
وقال منتقداً أيضاً مسالكهم: «فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فلقفوها أو تلقفوا منها، فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى أصولهم، وجعلوا ذلك عقلياً لا شرعياً، وليس الأمر كما زعموا»(50)
فإذا لم يكن هذا الرأي المخالف الذي يتبناه الشاطبي لمنهج أهل المنطق وآلياتهم قادحاً في أساس اعتباره وإعماله على سبيل الكلية والإجمال، فلا شيء يمنع من تصوره وفهمه على وفق القدح في منهج التعامل به ووفق توجيه النقد لمدى استثماره في مجال العلوم الشرعية، بالصورة التي جرى عليها ذلك الإعمال المتعسف. الشيء الذي يضع ــ في نظري ــ الأرضية المعبّدة أمام الإمام الشاطبي لتسويغ العمل على توظيف المنهج الفلسفي والمنطقي في مواضع كثيرة من القضايا الشرعية بالشكل الذي يراه مناسباً وفعالاً، ووفق الضوابط التي رسمها في استعارة الآليات المنطقية، ومنها آلية الاستقراء في مجاله.
لكن لما نبحث في أوجه الربط التي وصل به الشاطبي مسلك الاستقراء مع مسلك العام ومسلك التواتر المعنوي، في فقه الخطاب الشرعي، نفهم أكثر حقيقة التمام والإطلاق المراد عنده.
والفرق بينه وبين الأصوليين أنه يقصد بالعموم: «العموم المعنوي كانت له صيغة مخصوصة أَوْ لا، فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره: إنه عام، فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم بدليل صيغة عموم أوْ لا، بناءً على الأدلة المستعملة هنا وهي الاستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم»(51)
فدلالة العموم عند الشاطبي مسألة بالغة مبلغ القطع بصيغها الدالة عليها، أو بأدلتها المتعددة القائمة؛ لأنها ثابتة من جهتين ــ كما يؤكد ذلك ــ :
الأولى: الصيغة الدالة على ذلك العموم القطعي.
والثانية: جهة الاستقراء المعنوي التام، وقد أسهب في بيان هذا المأخذ بمثال صريح عليه لما كان يقعد لمسألة رفع الحرج في الشريعة؛ إذ قال: «فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلاً مفقود فيه صيغة عموم، فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج... فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء، فكأنه عموم لفظي فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي ثبت في ضمنه ما نحن فيه»(52).
أما باقي الأصوليين فالاستقراء التام عندهم استصحب معه المعنى الذي تواتر عند المناطقة، بتتبع كل الجزئيات دون استثناء، حتى يتم تعميم الحكم وإطلاقه، ومن ذلك ما ذهب إليه ابن حزم من ضرورة إتمام التتبع للجزئيات كلها حتى يتم القطع بالحكم، وإلا فالاستقراء يعد ناقصاً لا يعتبر؛ حيث دعا الباحث عن الحق إلى أن يمحص في التحقيق، «وألاّ يسكن إلى الاستقراء أصلاً، إلا أن يحيط علماً بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي يحكم فيه، فإن لم يقدر فلا يقطع في الحكم على ما لم يشاهد، ولا يحكم إلا على ما أدركه، دون ما لم يدرك»(53).
فيظهر إذن من خلال ما تم إثباته من نصوص أن الاستقراء الأصولي يختلف عن نظيره المنطقي بحسب مجال الدراسة ومنهج البحث، فأبو إسحاق يؤسس لاعتباره الاستقراء التام في علاقته مع العموم، والمقصود بالتمامية أو الكلية عنده في الاستقراء تلحق الجانب المعنوي من الخطاب الشرعي أكثر من غيره، وهذا الأمر يتعذر معه استيفاء كل الفروع والجزئيات حقها من النظر والتصفح، وعليه يصعب حصول مطلق التعميم والتمام؛ «ذلك أن حصول القطع في المعرفة التواترية لا يتوقف على نقطة أو مرحلة بعينها، فالمستقرئ يظل يتتبع جزئيات ظنية كثيرة حتى يحصل له علم قطعي بمسألة ما وفي لحظة ما، وحصول تلك المعرفة القطعية لا يشترط فيها استنفاد جميع الجزئيات وحصرها، وإلا كان ذلك من المستحيلات المنطقية»(54).
وبهذا يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها أن مفهوم الاستقراء التام في مجال الخطاب الشرعي عند الإمام الشاطبي هو تصفح جزئيات ذلك المعنى إلى الحد الذي يطمئن فيه المستقرئ على حصول القطع المطلق، وإن لم يتم ذلك فعلياً على وجه عملي، مع وجود إمكانات تخول رد ما يمكن أن يكون استثناء عارضاً، وقد أفصح الشاطبي عن هذا المفهوم بشكل يقترب من التصريح لما قال: «ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت العوائد قد جرت بها سنّة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما»، ثم يؤكد ذلك بتنبيهه: «فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي»(55)
فالمقصود إذن بالتمام والكلية عند الشاطبي غيره عند باقي الأصوليين، فلدى الأول لا يخرج على المفهوم المرتبط بنطاق علوم الشريعة دون ارتباطه بالمفهوم الشائع عند أهل الفلسفة والمنطق، أما باقي الأصوليين فالتمام عندهم ينطبق على ما تواضع عليه المناطقة.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 136.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 134.50 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]