|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() نوح عليه السلام (1) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد نتحدَّث عن نوح عليه الصلاة والسلام أوَّل أُولِي العزم من المرسلين، وأول رسول يحذِّر مِن الشِّرك وعبادة غير الله عز وجل؛ إذ كانت أمته هي أولى الأمم المشركة على ظهر الأرض، وقد يقال لنوح: آدم الثاني؛ لأن جميع الباقين على الأرض من ذرِّيته على حدِّ قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]، وقد اختلف الناس في المدَّة التي بين آدم وبين نوح عليهما الصلاة والسلام؛ فعند أهل الكتاب أن نوحًا عليه السلام وُلد بعد موت آدم بمائة وست وأربعين سنة، وذكر ابنُ جرير أن مولد نوح عليه السلام كان بعد وفاة آدم بمائة وست وعشرين سنة، وقد ذكروا في عمود نسبه إلى آدم ثمانيةَ آباء. وكل هذه الأقاويل في المدة التي بين آدم ونوح عليه السلام، وكذلك ما ذكر في عمود نسبه إلى آدم هي أقاويل مرسَلة لا دليل عليها، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"، فإن أُرِيد بالقرن مائة سنة فيكون بين آدم ونوح عليه السلام ألف سنة، وإن كان المراد بالقرن الجيل من الناس فيكون بين آدم ونوح ألوف السنين؛ لما عرف مِن أن الناس قبل نوح كانوا يعمرون الدهور الطويلة، ولا يَعلم تحديد ذلك إلا الله عز وجل، على أنَّ قول حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "كان بينَ آدمَ ونوحٍ عشرةُ قرونٍ كلهم على الإسلام"، لا يدلُّ على الحصر في هذه القرون العشرة بين آدم ونوح عليه السلام، وإنما مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الإنسانيَّة مرَّ عليها عشرة قرون بعد آدم وقبل نوح، وكلُّها على دين الإسلام لم تشرك بالله شيئًا، وإنما هي على التوحيد الخالص لله عز وجل، ثمَّ أَدخل عليهم الشيطانُ أسبابَ الشرك وأوقعَهم في ألوان من عبادة غير الله؛ فعبدوا الأصنام، وإلى هؤلاء المشركين بعث الله عز وجل نوحًا عليه السلام، وقد ذكر البخاريُّ في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وَسَمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم عُبدت". وذِكْرُ الأصنام الخمسة الواردة في هذه الآية الكريمة لا يدلُّ على حصر أصنام قومِ نوح في هذه الخمسة؛ بل قد عَبَدَ قومُ نوح أصنامًا كثيرة، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله: ﴿ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ﴾ [نوح: 23]، ثم عطف على ذلك قوله: ﴿ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23]، وقد نقل عمرو بن لُحي الخزاعي أصنامًا إلى جزيرة العرب بأسماء أصنام قوم نوح، ودعا إلى عبادتها، فأخذ بنو عذرة "وَدًّا" وجعلوه بدومة الجندل، واستمرَّ بها إلى أن جاء الإسلام وهدمه خالد بن الوليد رضي الله عنه، كما أخذَتْ مُضَر بن نزار "سواعًا" ونصبوه ببطن نخلة، وعبدته هذيل، واستمرَّ حتى جاء الإسلام وهدمه، وأخذت مذحج "يغوث" ونصبوه في أكمة في بلادهم، واستمرَّ كذلك حتى جاء الإسلام وهدمه، وأخذت همدان "يعوقَ" ونصبوه بقرية يقال لها: خيوان، واستمرَّ حتى جاء الإسلام وهدمه، وأخذت حمير "نَسرًا" وجعلوه في مكان بسبأ تعبده حمير حتى جاء الإسلام وهدمه. وقد ذكر اللهُ تبارك وتعالى قصَّةَ نوح عليه السلام في سور شتى من كتابه الكريم، فذكرها في سورة الأعراف وفي سورة يونس، وفي سورة هود، وفي سورة الأنبياء، وفي سورة المؤمنون، وفي سورة الشعراء، وفي سورة العنكبوت، وفي سورة الصافات، وفي سورة اقتربت الساعة، كما جعل سورة نوح بتمامها في قصَّة نوح عليه السلام، كما ذكر الله عز وجل نوحًا عليه السلام في جملة من المرسلين في مواضع شتى من كتاب الله عز وجل، ولا شك في أنه أَوَّلُ أُولي العزم من المرسلين. وقد أشرتُ كثيرًا إلى أن من أهم فوائد قصص الأنبياء هي العبرة والتأسِّي بالأنبياء والرسل، والبُعد عما حذروا منه، وقد أطال الله تبارك وتعالى الحديثَ عن قصة نوح عليه السلام في موضعين من كتابه الكريم، أحدهما في سورة هود عليه السلام، والآخر في سورة نوح عليه السلام، وعندما تتمعَّن في مفردات هذه القصة وجملها تقف على الشيء الفريد العظيم من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل وأساليب الهداية وتبصرة العباد بطريق الله عز وجل، وبيان ما عليه الكافرون وأعداء الله وأعداء المرسلين من محاربة الدين وأهله. وقد بدأ الله عز وجل قصَّةَ نوح في سورة هود بقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [هود: 25]، وبهذا يعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس بدعًا من الرسل، وليس أول المنذرين، فهو في رسالته جاء على درب مسلوك وطريق مطروق سار فيه قبله الأنبياء والمرسلون عليهم من ربهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة إذ قال في شأن هود عليه السلام: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 21]، ولتقرير هذه الحقيقة كان مطلع قصة نوح في سورة هود هو إعلان رسالة نوح عليه السلام وإنذاره قومَه حتى يرتدع اليهود ومَن على شاكلتهم الذين يقولون: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]، فإرسال الرسل مستقرٌّ في الفطرة السليمة تتناقله الأجيالُ جيلًا بعد جيل؛ ليعلم أن الله عز وجل أرسل الرسلَ ليدلُّوا العباد على مراسيم سعادتهم في العاجلة والآجلة، ولئلا يقول الناس: ما جاءنا مِن بَشير ولا نذير، وبعد أن ذكر أن نوحًا رسولٌ من الله أعقب ذلك ببيان أهم وظائف المرسلين وهي دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده حيث قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [هود: 25، 26]؛ وهذا دَيْدَنُ جميع الأنبياء والمرسلين، أنهم يبدؤون قومهم بالدَّعوى إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له؛ لأنَّ توحيد الله تبارك وتعالى هو الذي مِن أجله خلق السماوات والأرض، ومن أجله خلق الإنس والجن، على حدِّ قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]. يتبع ...
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() نوح عليه السلام (2) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد ذكرتُ في المقال السابق أن نوحًا عليه السلام بدأ قومَه بدعوتهم إلى توحيد الله عز وجلَّ وإخلاص العبادة له، وذكرتُ أن هذا هو دأب جميع الأنبياء والمرسلين؛ فجميع أنبياء الله ورسله إنما جاؤوا لقومهم ليعبدوا اللهَ ويجتنبوا الطاغوت، وفي ذلك يقول اللهُ عز وجل في سورة الأنبياء: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]؛ لأنَّه من أجل حقيقة توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، خلق الله الإنس والجن على حد قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ومن أجل توحيد الله رفع الله السماوات وبسط الأرض، وأنزل الكتبَ وأرسل الرسل، وجعل الجنَّةَ والنار، وحرَّمَ الجنَّةَ على من مات وهو يشرك بالله شيئًا على حد قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، فتوحيد الله هو رأس العبادات، وهو أصل كلِّ منهج يوصل إلى الله عز وجل من المناهج التي رسمها أنبياء الله ورسله لأممهم وأقوامهم، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن نوحًا بعد أن دعا قومَه إلى إخلاص العبادة لله وحذَّرهم من الشرك خوَّفهم عذاب الله في الدار الآخرة، وأشار تبارك وتعالى إلى أن المستكبرين في الأرض بغير الحق أثاروا ثلاث شبه ليصدوا الناسَ عن دعوة نوح عليه السلام، وقد دحض الله شبههم وفضح باطلهم جملةً وتفصيلًا، وذكر عاقبة المكذبين، وما منَّ به على نوح ومن آمن به، وفي ذلك يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 25 - 49]، وقد أبرز الله تبارك وتعالى في صدر هذه الآيات المباركات حقائقَ ثلاثًا، هي أهم ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون، فالحقيقة الأولى: هي وجوب العلم بأنَّه لا إله إلا الله، والحقيقة الثانية: هي إثبات الرسالة، والحقيقة الثالثة: هي الإيمان بالبعث بعد الموت، وقد لوحظ أنَّ جميع السور المكِّية من القرآن الكريم يدور فلكها لتحقيق هذه الحقائق الثلاث، ولا شك في أنه لا سعادة للإنسانية ولا استقرار لها ولا أمن ولا طمأنينة إلَّا إذا استظلَّت في ظلِّ هذه الحقائق الثلاث، وآمنت بها، وسارت على منهاجها في جميع ما تفعل وما تذر من شؤون حياتها، وهذه الحقائق الثلاث نبَّه الله عز وجل عليها في مطلع قصة نوح هنا حيث قال: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن المستكبرين في الأرض من قوم نوح قد سارعوا فأثاروا ثلاث شبه ضدَّ دعوة نوح عليه السلام؛ ليضللوا المستضعفين عن قبول الحق الذي جاء به نوح عليه السلام، وليصدوا عن سبيل الله، ورموا بهذه النظريات الفاسدة في وجه الحقِّ، وقد لوحظ أن المسارعين إلى الكفر والعناد والمتجرئين على نوح عليه السلام هم الملأ، وهم رؤساء القوم ووجهاؤهم؛ خوفًا على مناصبهم أن يَذهب بها الدينُ الجديد الذي جاء به نوح عليه السلام، وهذه الشبه الثلاث التي أثاروها هي: أن نوحًا عليه السلام من البشر، والشبهة الثانية: أن أتباعه هم الفقراء، والفقر في نظرهم الفاسد يقتضي أن يكون الفقير غير ثاقب الرأي ولا عميق الفكر، والشبهة الثالثة: أن نوحًا عليه السلام ومن تبعه ليسوا زائدين عنهم في الخلق، ولا مزية لهم على غيرهم في التكوين الجسمي، وفي شبههم الثلاث هذه يقول الله عز وجل: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() نوح عليه السلام (3) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد ذكرتُ في المقال السابق أن المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ هم الذين سارعوا إلى معارضة دعوة نوح عليه السلام، وقد جرت العادةُ بأن الكبراءَ هم الذين يَبدؤون بمحاربة الأنبياء والمرسلين ودعاة التوحيد لله عز وجل؛ لاعتقادهم بأنهم إذا ردوا هذا الحقَّ استبقوا مناصبهم ورياستهم؛ ولذلك قال هنا: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27]، والملأ هم وجوهُ القوم ورؤساؤهم وأعيانهم، وهذا أمرٌ عجيب وفساد في الرأي ظاهر؛ إذ هم ينكرون نبوَّته؛ لأنه بشر، وهذه الشبهة بعينها وُجِّهَتْ من أعداء المرسلين لرسلهم، فكلما جاء أمةً رسولٌ ردوا دعوتَه بدعوى أنه بشر، وقالوا: كيف تكون رسولًا وأنت من البشر؟ وجهلوا أن إرسال الرسول من البشر هو مِن أعظم منن الله على خلقه؛ لأنَّه هو الذي يتكلَّم بلسانهم، ويتمكَّنون من مجالسته والاستفادة منه، ولو أرسل لهم ملكًا لأرسله في صورة البشَر، وقد وصف الله سائرَ المكذِّبين للرسل بأنهم ردوا دعوةَ الحق التي جاء بها المرسلون بدعوى أن الرسل بشر؛ حيث يقول تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [إبراهيم: 10، 11]، وهذه الشبهة في غاية الضَّعف، وقد ردَّها الله تبارك وتعالى في مقامات من كتابه الكريم؛ حيث يقول في سورة الإسراء: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95]، وبيَّن أنه لو أرسل رسولًا غير بشر وجعله من الملائكة ما أطاقه الناس ولا يتمكَّنون من معايشته؛ ولذلك يقول عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 9]، فالذي يفرُّون منه لا بد من أن يقعوا فيه، ولا طاقة للبشر على مصاحبة الملائكة في دار الدنيا، فإنَّ جبريل عليه السلام عندما تبدَّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المهيأ صلى الله عليه وسلم لاستقبال الوحي، ورأى جبريل جالسًا على كرسي بين السماء والأرض له ستمائة جناح يملأ الأفق، خاف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورعب منه ورجع إلى أهله وقال: ((زمِّلُوني))؛ وذلك من شدَّة الخوف، فلو أن جبريل عليه السلام جاء للبشر غير المهيئين للرِّسالة والوحي ما تمكَّنوا مِن الاستفادة منه؛ ولذلك يتوعَّد الله عز وجل المكذِّبين المعاندين الذين يردون رسالةَ الرسل بدعوى أنهم بشر، وأنهم لا يؤمنون إلَّا إذا جاءهم رسول ملكي، حيث يقول عز وجل في سورة الفرقان: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ﴾ [الفرقان: 21، 22]، وقد كان جبريل عليه السلام يأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا في صورة رجل كدحية بن خليفة الكلبي، وأحيانًا يأتيه في صورة رجل مِن الأعراب، ولا يعرف الناس أنه جبريل حتى يخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك بعد انقضاء الوحي وذهاب جبريل عليه السلام؛ فقد روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منَّا أحد، حتى جلس إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزَّكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا))، قال: صدقتَ، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه))، قال: صدقتَ، فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: ((أن تلد الأَمة ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: ثمَّ انطلق، فلبثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلِّمكم دينكم))، فالرسل هم الذين يتهيَّؤون للملائكة بما أعدهم الله تبارك وتعالى لذلك. وعامَّة الناس إنما يتهيَّؤون للملائكة في الجنة إذا ماتوا على الإيمان، كما يجعل الله الموكلين بعذاب الكفار في النار ملائكة غلاظًا شِدادًا لا يَعصون اللهَ ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ تفصَّد جبينه عرقًا في اليوم الشديد البرد، قالت عائشة رضي الله عنها كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: "ولقد رأيتُه ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا"، ومعنى "يتفصد عرقًا"، أي: يسيل العرق من جبينه، كما ذكر أن عنقه كان يسيل منه مثل الجمان، أي: قِطَع الفضَّة أو اللؤلؤ من العرَق عند نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعِدَّ لذلك وهُيِّئَ له على حد قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]. أمَّا الشبهة الثانية من شبه الملأ الذين كفروا مِن قوم نوح فهي أنَّ الذين اتَّبعوا نوحًا من الفقراء؛ ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ [هود: 27]، وهذا كذلك أمر عجيب؛ إذ إنَّ هذه الشبهة مبنية على أن الغِنَى دليل العقل الثاقب والرأي السديد، وأنَّ الإنسان إذا كان عنده مال صار عاقلًا حكيمًا، مع أنه لا رابطة بين العقل والغنى على حد قول الشاعر: كم عاقلٍ عاقل أَعْيَتْ مذاهبُه ![]() وجاهلٍ جاهل تلقاه مَرزوقا ![]() وكما قال الشاعر: ولو كانتِ الأرزاقُ تَجري على الحِجا ![]() هلكْنَ إذًا مِن جهلهنَّ البهائمُ ![]() والغنى والعلم والعقل والصحَّة وغيرها أرزاق يَمنحها الله لمن يشاء مِن خلقه؛ ولذلك قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم توكلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا))، فالله تبارك وتعالى قد يعطي إنسانًا مالًا ولا يعطيه علمًا، وقد يعطيه علمًا ولا يعطيه مالًا، وقد يعطيه مالًا وعلمًا، وأمَّا كون أتباع الأنبياء من الفقراء فقد ذكره هرقل عظيم الروم لأبي سفيان كما جاء في صحيح البخاري. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() نوح عليه السلام (4) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد ذكرتُ في ختام المقال السابق أن كون أتباع الأنبياء من الفقراء قد ذكره هرقل عظيم الروم لأبي سفيان رضي الله عنه؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن عباس، أنَّ أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في رَكْب من قريش وكانوا تجَّارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه منِّي وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، قال: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبتُ عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسَب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم"، وساق الحديث إلى أن قال: "فقال للترجمان: قل له: سألتُك عن نسَبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسَّى بقول قيل قبله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل..."؛ الحديث، وفيه: "فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بُصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على مَن اتبع الهدى؛ أما بعد، فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِمْ تَسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت فإن عليك إثم الأريسيين، ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]. هذا، وقد بيَّن اللهُ تبارك وتعالى في آخر سورة (ص) أنَّ المشركين من قريش الذين ماتوا على الكفر يتحزَّنون يومَ القيامة عندما يدخلون جهنم ولا يرون فيها الفقراء من أمثال صهيب وعمَّار وبلال وجعيل بن سراقة وخباب بن الأرت رضي الله عنهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴾ [ص: 62، 63]، فقد رفع الله تبارك وتعالى الفقراءَ لَمَّا آمنوا وأدخلهم الجنَّةَ، وأدخل الكبراءَ والرؤساء في النار لما ماتوا على الكفر، ولما قالت قريش: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، أي: على غنيٍّ من أغنياء مكة أو من أغنياء الطائف، قال تعالى موبخًا ومبينًا فساد رأيهم حيث يقول: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 32 - 35]، والفقر أو الغِنى ليس معيارًا لمقادير الرجال ومقاييسهم؛ فالمرء لا يقاس بغناه أو بفقره، وقد يكون الرجل غنيًّا وهو لا يساوي في عين الله شيئًا، ولا عند الناس، وقد يكون فقيرًا وهو عند الله عظيم. وقد مرَّ رجل مِن الأغنياء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسألهم عنه فقالوا: حَرِيٌّ به إن خطبَ أن يُنكح، وإن قال أن يُستمع، وإن شفَع أن يُشفَّع، ثم مرَّ به رجل من فقراء المسلمين وهو جعيل بن سراقة، فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حَرِيٌّ به إن خطب ألَّا يُنكح، وإن قال ألا يُستمع، وإن شفع ألا يشفَّع، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الفقير أنه يساوي ملء الأرض من هذا الغني؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حَرِيٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال: ((ما تقولون في هذا؟))، قالوا: حَرِيٌّ إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا - يعني الفقير - خير من ملء الأرض مثل هذا - يعني الغني))، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفقيرَ الصالح خيرًا من ملء الأرض من أغنياء غير صالحين، علمًا أنَّ الغنى الحقيقي ليس عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس؛ كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس))، على أنَّ الغنى والفقر أعراض تتبدَّل وتتغيَّر؛ فالمال ظِلٌّ زائل وعارية مستردَّة، ولله درُّ الشاعر حيث يقول: لا تهين الفقير علَّك أن ![]() تركع يومًا والدَّهر قد رفعَه ![]() ![]() ![]() وقد نبَّه الله تبارك وتعالى إلى سوء فهم مَن يظن أنَّ الغنى يرفع قيمة الرجل في الحقيقة، حيث يقول: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]؛ ولذلك كان الميزان العدل يوم القيامة أن يرفع الصالحين، ولو كانوا في الدنيا فقراء مستضعفين في أعين الناس، وأن يخفض غير الصالحين ولو كانوا كبراء أغنياء، وفي ذلك يقول عز وجل: ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾ [الواقعة: 1 - 3]، فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية عند الله يوم القيامة، ويا رُب عارية في الدنيا كاسية عند الله يوم القيامة. وهذه الشُّبهة التي أثارها المستكبرون من قوم نوح قد أثارها المستكبرون مِن قريش، حتى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعد الفقراء عن مجلسه ليجيئوا إليه، وأنهم لا يرضون أن يجالسوا هؤلاء الفقراء، فقال الله تعالى لرسوله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 52، 53]، فالمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، لا يقاس بماله ولا جماله ولا طوله ولا عرضه؛ وبهذا يتَّضح أن الشبهة الثانية التي أثارها قوم نوح هي شبهة داحضة عاطلة باطلة فاسدة كاسدة. أما الشبهة الثالثة من هذه الشبه فهي أن نوحًا والمؤمنين به لا مزية لهم في الخَلْق على غيرهم، وقد حكى الله تبارك وتعالى هذه الشبهة عنهم في قوله: ﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾ [هود: 27] علمًا بأن قولهم هذا يرد شبهتهم بدعواهم أنهم أَفْهَمُ مِن الفقراء الذين وصفوهم بأنهم أراذل بادي الرأي؛ لأنهم لم يتميزوا في شيء من خلقتهم على الفقراء، فتركيب أجسام الجميع سواء، وهذه الشبهة بعينها أثارها الكفَّار ضد جميع المرسلين، وهي تنبئ عن عقلية فاسِدة ونظرية مادية ملحدة؛ فهم يريدون أن يتحكَّموا في رحمة الله، وأن يحجروا على فضل الله. وقد بدأ نوح عليه السلام في ردِّ هذه الشبهة وصدر بها الأجوبة الشافية الكافية؛ حيث قال لهم فيما حكى الله عز وجل عنه: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28]، فهو يجيبهم بأنَّ النبوَّة رحمة من الله، وهدى من فضله، ولا يملك أحدٌ من خلقه التحكم فيها فيمنحها من يشاء ويمنعها عمَّن يشاء، وخزائن رحمة الله بيده هو لا شريك له؛ ولذلك ردَّ الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء على مَن أنكر أن يكون الرسول بشرًا بدعوى أنه لا مزية لبشر على بشر فقال: ﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإٍسراء: 100]، وقال تعالى في سورة (ص) مثيرًا لشبهتهم مبطلًا لها حيث يقول: ﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ [ص: 8، 9]، وكأن نوحًا عليه السلام يرد شبهة قومه فيقول لهم: "ماذا أفعل لقلوبكم إذا كانت متحجرة، لا تؤمن بالله ولا تصدق المرسلين، ولا تبحث عن أسباب سعادتها؟ وليست خزائن الله بيدي أتصرف فيها كما أشاء، بل خزائن الله بيده هو جل وعلا، يمنح من يشاء ويمنع من يشاء، فله وحده خزائن السماوات والأرض، كما أنَّ قلوب العباد بيد الله يصرفها كيف يشاء، ولا سلطان لي على قلوبكم ولا سيطرة لي عليها، ثمَّ يبرز نوح عليه السلام حجَّةً قوية في الدلالة على رسالته وصدقه فيما يخبر به فيقول لهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]؛ أي: أنا لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا، مع أنِّي أدعوكم إلى أسباب سعادتكم في الدنيا والآخرة؛ إذ هو يدعوهم لأقوم المناهج وأحسن أساليب الحياة الطيِّبة؛ مما يجلب لهم عزَّ الدنيا ورضوان الله في الآخرة لو ساروا على المنهج الذي جاء به نوح عليه السلام. ولا شك أنَّ مَن ينتصب للدعوة لإقامة هذا المنهج الراشد الذي يحفظ لهم أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم دون أن يطلب منهم أجرًا في مقابلة عمله هذا الذي يعود عليهم بكل خير، ويحفظهم من كل شر مع تعرُّضه لتكذيب المكذِّبين، وعناد المعاندين وافتراء المفترين، وأذى السُّفهاء الجاحدين - لا بد من أن يكون صادقًا، ولا شك في أنَّ دعوة جميع الأنبياء والمرسلين تدور في فلك الكليات الخمس، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض والنسب، وحفظ العقل، وحفظ المال؛ وهي الأساس المتين للمجتمع المثالي السعيد. وقد دلَّتْ تجاربُ الإنسانية في تاريخها الطويل على أنَّه ما استمسكت أمة بمنهج نبيها إلا عزَّت وسعدت، ولا انحرفت أمَّة عن منهج الأنبياء والمرسلين إلا ذلَّت وهانت، ولو أن جماعة من الجماعات أو أمة من الأمم أرادت أن تضع لنفسها منهجًا يحفظ عليها مصالحها لأنفقت أموالًا جزيلة على (اللجان والهيئات) التي تقوم بوضع المنهج الذي تطلبه والذي قد تقضي في إعداده الأشهر والسنين، ومع ذلك لا بد من أن يكون أبتر قاصرًا، قد يحتاج إلى تعديل وتبديل، وتعديل التعديل، وتبديل التبديل مرات ومرات؛ كما هي الحال في جميع الأنظمة الوضعيَّة التي تتقاصر جملة وتفصيلًا عن منهج الأنبياء والمرسلين؛ لأنَّ المناهج الإلهية يضعها العليمُ الخبير؛ لذلك تتَّسِم بالكَمال والشُّمول لمصالح الدنيا والآخرة والغيب والشهادة ممَّا لا مجال فيه البتة للنَّظريات الوضعية والمناهج الأرضية التي لا بقاء لها ولا شمول. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() نوح عليه السلام (5) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد استمرَّ نوحٌ صلوات الله وسلامه عليه في ردِّ شبهات قومه، ونبَّه إلى أمر خطير؛ وهو أن الفقراء لا ينبغي أن يُهانوا، ولا ينبغي أن يذلوا بسبب فقرهم، وأن من يتعرَّض للفقراء بالإهانة والإذلال يعرِّض نفسه لعقوبة الله العاجلة والآجلة؛ ولذلك يقول نوح عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 29 - 31]، وهنا انقطعت حجَّةُ القوم، وبان باطلهم وبطلت شبههم، فلم يجدوا إلَّا المكابرة واستعجال العذاب، فقالوا: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [هود: 32]، فأجابهم نوح عليه السلام بأنه ليس بيده تعجيل عقوبتهم أو تأجيلها، إنما تعجيل العقوبة أو تأجيلها بيد الله وحده، وفي ذلك يقول: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [هود: 33]؛ أي: إذا أراد الله إنزالَ العقوبة بكم لا تستطيعون الفرارَ منها، ولا تتمكَّنون من دفعها عنكم، ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [هود: 34]، فنَواصيكم بيده، يحكم فيها بما يشاء، لا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه، وأنا لا أملك لكم نفعًا ولا ضرًّا، وإنما عليَّ البلاغ، وفي هذا التنبيه إشارة كريمة جميلة إلى وجوب إخلاص التوحيد لله عز وجل؛ لأن قلوب العباد بيد الله يهدي من يشاء فضلًا، ويضلُّ من يشاء عدلًا، فمن علم في نفسه خيرًا وفَّقه وسدده وأيَّده واستعمله في طاعته، ومن علم في نفسه شرًّا خذله، ووكله إلى نفسه، ومن كتب الله له الهدايةَ لا يشقيه أحد، ومن كتب شقوته لا يهديه أحد. ولذلك كانت زوجة نوح من الكافرين؛ بل جعلها الله قدوة سيئة لكل كافر إلى يوم القيامة، كما جعل امرأةَ فرعون مثلًا صالحًا وقدوة حسنة لكلِّ مؤمن إلى يوم القيامة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 10 - 12]. الأسلوب نفسه الذي سلكه كفَّار قوم نوح مع نوح عليه الصلاة والسلام قد سلكه الكفَّارُ مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسلكته سائرُ الأمم الكافرة مع أنبيائها ورسلها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة (ص) حيث يقول: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 12 - 16]؛ أي قالوا: ربنا عجِّل لنا نصيبنا مِن العقوبة قبل يوم القيامة؛ استهزاء برسل الله، وكفرًا بالبعث بعد الموت؛ إذ يقولون لأنبيائهم: نحن لا نصبر على تأجيل العذاب إلى يوم القيام، فإن كان عندكم عذابٌ لنا فعجِّلوا به، يحسبون أن نظام الكون يخضع لشهواتهم وتمنِّياتهم واقتراحاتهم ويجهلون أن كلَّ شيء عند الله بمقدار؛ لأنه ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]؛ ولذلك قال لهم نوح عليه السلام لما استعجلوا العذاب: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [هود: 33]؛ لأن الأمور كلها ترجع إليه، وترد جميع قضايا الكون له وحده لا شريك له؛ ولذلك ينبغي للعاقل أن يضرع إلى الله أن يثبت قلبه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يكثر من قول: "يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقك طرفة عين، إنك إن وكلتني إلى غيرك وكلتني إلى عجز وضعف وفاقة". وبعد بيان موقف نوح عليه السلام هذا لفت الله تبارك وتعالى انتباهَ الناس إلى إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما يخبر به، وهو النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه القرآن، فأخبر بما كان بين نوح وقومه ولم يكن شاهدًا ولا دارسًا حيث يقول عز وجل: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ [هود: 35]، وبهذا يثبت فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم، ويبرز العبرة من سياق قصة نوح عليه السلام، وكما أشار إلى نحو ذلك في سياق قصة موسى عليه السلام حيث يقول: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44 - 46]، وقد أخبر الله تبارك وتعالى نوحًا عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه بعد ذلك أحدٌ حيث يقول: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]. وهنا يتجلَّى موقف من المواقف الكبار لأنبياء الله ورسله، وكثيرًا ما يقفونها، وهو أن نوحًا عليه السلام لما استَيْئَس من قومه وعلم أنه لن يؤمن من قومه إلا مَن قد آمن بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وقف خطيبًا بينهم وقال: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، يقول لهم: هاتوا جميع معبوداتكم من دون الله وحزِّبوا أحزابكم وأصنامكم ضدي، وكونوا يدًا واحدة عليَّ وحاربوني إن قدرتم وكيدوا لي ما استطعتم ولا تمهلوني وانظروا أينا يؤيِّده الله ويسعده ويعزه ويعليه في الدنيا والآخرة. وهذا مقام تتقاصر دونه مقامات كبار الرجال وصناديدهم من غير الأنبياء والمرسلين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() نوح عليه السلام (6) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد أشرتُ في المقال السابق إلى الموقف المعجز الذي وقفه نوح عليه السلام من قومه عندما قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، وقد وقف مثل هذا المقام النبيون بعد نوح عليه السلام؛ كما ذكر الله تبارك وتعالى عن هود أنه قال لقومه وقد تحزَّبوا عليه وتجمَّعوا وأصرُّوا على الكفر والعناد: يا قوم ﴿ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 54 - 56]، وسأنبِّه إن شاء الله تعالى على مثل هذه المقامات في مواقعها من قصص الأنبياء. وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في سورة نوح طُرق دعوته التي ينبغي لكل داعٍ إلى الله عز وجل أن يتأسَّى به فيها، وأن يحرص على سلوكها، ولو أن الدعاة من المسلمين سلكوا الطرق التي سلكها نوح عليه السلام في الدعوة إلى الله لامتلأت الأرضُ بالإسلام، ولم يبقَ في الأرض إلا دين الله الذي بعث به حبيبَه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر الله تبارك وتعالى عن نوح عليه السلام أنه كان يدعو قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهرًا حيث يقول عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 5 - 14]، فنوح عليه السلام كان يقضي سحابةَ نهاره وسحابة ليله في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي قوله: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ بيانٌ جَلِيٌّ لأهداف دعوة الأنبياء والمرسلين، فهي دعوة العباد لمغفرة الله عز وجل ولرضوان الله عليهم، وفي هذا النص الكريم بيان لأساليب الدعوة من أبٍ يَكبُر الأنبياء، وأول أولي العزم من المرسلين نوح عليه السلام، وقد شرح نوح عليه السلام في هذا المقام آثارَ الاستغفار، وبيَّن أن الاستغفار يجلب للمستغفرين خيرَ الدنيا والآخرة؛ فهو من أعظم أسباب نزول الأمطار الصالحة للعباد والبلاد، وهو من أعظم أسباب رغد العيش ووفرة الأموال والأولاد، وزينة الحياة الدنيا وتيسير وجود المزارع والجنات وجريان الأنهار والمتاع الحسن ومنح العباد صحة ونشاطًا. وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن هودًا ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبَّها إلى هذه الآثار للاستغفار في قوله تعالى في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 1 - 3]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52] وفي قوله تعالى في هذا المقام من سورة نوح: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13، 14]، أي: ما لكم لا تخافون عظمة الله ولا تأملون ما عند الله؟! ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾، أي: خلقًا من بعد خلق في ظلماتٍ ثلاثٍ؛ إذ كنتم أولًا نطفة، ثم صرتم علقة، ثم مضغة، ثم خلق المضغة عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأكم خلقًا آخر ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]. وقد فسَّر بعض الجاهلين الغاوين في عصرنا الأطوار التي ذكرها نوح عليه السلام في قوله: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14]، بأنها دليل على صحَّة نظرية داروين في التطور والارتقاء، وأن الإنسان كان في أول وجوده حيوانًا بحريًّا كالسمك، ثم حيوانًا بريًّا كالقرود والحمير، ثم تطوَّر وارتقى حتى صار على هذه الحال المشاهدة؛ وفي ذلك يقول بعض هؤلاء الغواة الضالين: "لقد فضح الجنين القصَّة، يعني: قصة التطور والارتقاء وأطوار خلق الإنسان؛ فإنَّ الجنين عندما يبدأ تكوينه في بطن أمه يكون كالسمكة تمامًا له زعانف وخياشيم، ثم يغطَّى جسمه بالشعر كالقرود تمامًا، ثم ينحسر الشعر عن مواضع من جسمه كالإنسان تمامًا، لقد فضح الجنين القصة كما فضح مبضع الجراح القصة، فإن مبضع الجراح وهو يعمل خلف الأذن البشرية اكتشف عضلات ميتة هي التي كانت تحرك آذان أجدادنا الحمير". وهذا الذي قاله هؤلاء الدهريون محض اختلاق في جملته وتفصيله، وقد ذكرت في قصة خلق آدم أسباب فساد مقالة هؤلاء. وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |