بداية الشعر الجاهلي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 610 - عددالزوار : 24755 )           »          الأخطاء الطبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          إصدارات لتصحيح المسار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12 - عددالزوار : 10440 )           »          قناديل على الدرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 41 - عددالزوار : 25591 )           »          حديث أبي ذر.. رؤية إدارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 145 )           »          أسبـــاب هـــلاك الأمـــم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 490 - عددالزوار : 203723 )           »          قراءة سورة الأعراف في صلاة المغرب: دراسة فقهية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          دلالة الربط ما بين الحب ذي العصف والريحان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أقسام الشرك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 08-11-2022, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,815
الدولة : Egypt
افتراضي بداية الشعر الجاهلي

بداية الشعر الجاهلي (1)


د. إبراهيم عوض





يقف الشِّعر على رأس قائمة الثقافة الجاهلية كما هو معروف؛ ولهذا نذكره أول شيء من تلك الثقافة، وفي هذا الفصل نناقش بعض القضايا المتصلة به؛ تمحيصًا لما تَعِجُّ به الساحة الأدبية من آراء في ذلك الموضوع، وأُولى تلك القضايا عُمر هذا الشعر الجاهلي؛ يقول الجاحظ في كتابه: "الحيوان": "وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة، وكتب أرسطاطاليس ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقراطس وفلان وفلان قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب، ويدل على حداثة الشعر قول امرئ القيس بن حُجر:

إنَّ بني عوفٍ ابتنوا حسنًا
ضيَّعه الدُّخْلُلُون إذ غدروا

أدَّوْا إلى جارهم خفارتَه
ولم يضِعْ بالمغيب مَن نصروا

لا حِميريٌّ وفى ولا عُدَس
ولا استُ عَيرٍ يحكُّها الثفَرُ

لكن عُوَيرٌ وفى بذمتِه
لا قِصَرٌ عابه ولا عَوَرُ


فانظر كم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام".

وقد ترددت هذه المقولة في خطها العام لدُنْ مؤرخي الشعر الجاهلي ودارسيه؛ إذ يرون أن الشعر الجاهلي الذي يمكن الاطمئنان له إنما يبدأ من ذلك التاريخ الذي ذكره الجاحظ (انظر مثلًا نيلدكه/ من تاريخ ونقد الشعر القديم/ من ترجمة د. عبدالرحمن بدوي في كتابه: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي"/ ط2/ دار العلم للملايين/ 1986م/ 19، وكارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربي/1/ ترجمة د. عبدالحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1977م/ 55، وأحمد الإسكندري ومصطفى عناني/ الوسيط في الأدب العربي وتاريخه/ ط4/ مطبعة المعارف ومكتبتها/ 1342هـ - 1924م/ 44- 45، وريجي بلاشير/ التأثيرات الوراثية والمشاكل التي تضعها رواية الشعر العتيق/ من ترجمة د. عبدالرحمن بدوي في كتابه: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي"/ 283، ود. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ ط7/ دار المعارف/ 1976م/ 38 - 39، ود. عبدالعزيز نبوي/ دراسات في الأدب الجاهلي/ ط3/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1999م/ 12 - 13)، وإن كان أرنولد نيكلسون المستشرق البريطاني المعروف ينزل بهذا التاريخ إلى مدى قرن واحد فقط أو أكثر قليلًا، بدءًا من عام 500م تقريبًا (Reynold A، Nicholson، A Literary History of the Arabs Cambridge، 1969، P، 71)، والواقع أن الجاحظ، مع احترامي الشديد له وإعجابي البالغ به وبفكره وأسلوبه وشخصيته كلها، لم يقدم دليلًا على هذا الذي قال؛ إذ كيف يمكن الاقتناع بأن الذي مهد السبيل للشعر هو امرؤ القيس والمهلهل بما يعني أنهما أول من قال الشعر من العرب، وأن شعرهما من ثم يتسم بما يتسم به أول كل شيء من البدائية وقلة الفن والسذاجة بالنسبة لما جاء بعده، على حين أن ما خلفه لنا الملك الضليل من شعر، سواء من ناحية المقدار أو من ناحية القيمة الفنية حتى لقد جعلوه أميرًا للشعراء الجاهليين، يكذب ذلك تكذيبًا شديدًا؟!

ولقد لفتت هذه المسألة أنظار الباحثين فأبدوا استغرابهم أن يكون الشعر الجاهلي بما فيه من فن متقدم وليد تلك المدة القصيرة التي يحددها الجاحظ بمائة وخمسين عامًا أو مائتين فقط قبل الإسلام، يقول مثلًا أحمد حسن الزيات: "وليس يسُوغ في العقل أن الشعر بدأ ظهوره على هذه الصورة الناصعة الرائعة في شعر المهلهل بن ربيعة وامرئ القيس، وإنما اختلفت عليه العُصُر وتقلبت به الحوادث وعملت فيه الألسنة حتى تهذب أسلوبه وتشعبت مناحيه"؛ (أحمد حسن الزيات/ تاريخ الأدب العربي/ ط24/ دار نهضة مصر/ 28)، ويقول أيضًا حنا الفاخوري: "وأقدَم شعر وصل إلينا كان ما قيل في حرب البسوس، أو قبل ذلك قليلًا، وكان قصائد كاملة تدل على محاولات كثيرة سبقتها وهيأت طريقها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من استقامة الوزن واللغة والبيان"؛ (حنا الفاخوري/ تاريخ الأدب العربي/ دون دار نشر أو تاريخ/ 52)، ومثلهما في ذلك د. عبدالعزيز نبوي، الذي يقرر أن "الشعر الجاهلي، منذ أقدم نصوصه التي وصلت إلينا، قد اكتملت له أو كادت مقوماته الفنية، بدءًا من طرائق التعبير، وانتهاءً بالموسيقا من وزن وتقفية، وهذا يعني أنه مرت حقبٌ طويلة قبل أن يستقر للشعر الجاهلي سماته وخصائصه"؛ (د. عبدالعزيز نبوي/ دراسات في الأدب الجاهلي/ 12) ... إلخ، ويؤكد تشارلز ليال أن "تعدد البحور التي كان يستعملها الشعراء الجاهليون وتعقدها، وكذلك القواعد الراسخة التي تتعلق بالوزن والقافية، فضلًا عن الأسلوب الواحد الذي كانوا ينتهجونه في بناء قصائدهم رغم المسافات التي تفصل كلًّا منهم عن الآخر، كل ذلك يشير إلى دراسة وممارسة طويلة سابقة لفن الشعر وإمكانات اللسان العربي، وإن لم يكن بين يدينا سجلٌّ لشيء من هذا"؛ (C، J، Lyall، Translations of Ancient Arabian Poetry، London، 1885، P، xvi)، وهو ما يوافقه عليه رينولد نيكلسون (A Literary History of the Arabs، P، 75 - 76)، وبالمثل يقرر إجناطيوس جويدي في كتابه (L` Arabie Anteislamique) أن القصائد الجاهلية الرائعة التي وصلتنا عن القرن السادس الميلادي تشير إلى أن وراءها صنعة طويلة ( I، Guidi، L` Arabie Anteislamique، Paris، 1921، P،21)، ويعلل كليمان هوار اختفاء الشعر السابق على ذلك التاريخ بأن الذكريات البشرية، ما لم يتم حفظها كتابة على الجدران أو الحجارة أو الأوراق، فإنها حَريَّة أن تضيع مع الأيام، ومن ثم يضيف قائلًا: إن الشعر العربي الذي وصلنا لا يرجع إلى أبعد من القرن السادس الميلادي عندما استعملت الألفباء النبطية في تسجيل ذلك الشعر (Clement Huart، A History of Arabic Literature، William Heinmann، London، 1903، P، 7)، ثم إن كلام الجاحظ عن زرارة والمسافة الزمنية التي تفصله عن الرسول عليه السلام لا علاقة له بهذا الذي نحن فيه، فضلًا عن أن الأبيات التي استشهد بها عميد الكتَّاب العرب القدماء لا تتضمن شيئًا مما يشير إليه.

وفوق ذلك فلست أستطيع أن أجد مناسبة بين كلامه في هذا السياق عن امرئ القيس والمهلهل من جهة وكلامه عن فلاسفة اليونان من جهة أخرى، وإن كان عبدالفتاح كيليطو قد تصور أن الجاحظ إنما يوازن بين الشعر والفلسفة معليًا من شأن الأخيرة، جاعلًا إياها كالشيخ المجرب الطويل العمر، أما الشعر فصبي نزق لم تعركه الحياة بعد؛ لأن عمره لا يزال قصيرًا، وهذه هي عبارته: "لا جدال أن هذا المتكلم يقدم الفلسفة على الشعر، ليس في الزمن فحسب، وإنما في القيمة أيضًا، فكأن الأسبقية الزمنية تمنح الفلسفة جدارة ومزية واستحقاقًا، بينما تأخر ظهور الشعر علامة على طفولته وسذاجته وعدم نضجه، الفلسفة كالشيخ الذي جرب الأمور واستفاد من عمره الطويل، بينما الشعر كالصبي الطائش النزق الذي لا يؤبه لكلامه ولا يُعتمد عليه ولا يعتد به"؛ (عبدالفتاح كيليطو/ بين الفلسفة والشعر/ موقع "lycos")، لكن التركيب النحوي في كلام الجاحظ لا يساعد على تفسير العبارة على هذا النحو، وإلا لجاء هكذا مثلًا: "أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة، وأما كُتُب أرسطاطاليس ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديموقراطس وفلان وفلان، فموجودة قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب"، وبذلك تكون هناك مقارنة بين الشعر والفلسفة، علاوة على أن تركيب جملة الجاحظ، فيما لو أبقيناها رغم ذلك كما هي، ينقصه خبر المبتدأ، وهو كلمة "موجودة" أو ما يشبهها، اللهم إلا إذا كان الجاحظ قد قصد أنه قبل الشعر كانت هناك كتب في فلسفة الشعر مهدت الطريق إليه، لكن لا بد أن نفترض في هذه الحالة أنه قد سها فاستطرد قافزًا من الكلام عن الشعر الجاهلي إلى الكلام عن الشعر عمومًا؛ لأنه لا صلة، كما نعرف، بين شعر الجاهليين وفلسفة الإغريق، وعندئذ يكون قول الجاحظ: "وكتب أرسطاطاليس ..." معطوفًا على قوله: "امرؤ القيس بن حُجر والمهلل بن ربيعة"، وهو ما قد يرشح له ورود "كتب أرسطوطاليس" بعد فاصلة، لا بعد نقطة كما كتبها كيليطو.

وعلى أية حال، فهناك أشعار تُروى عن أزمان أبعد كثيرًا من تلك المدة التي حددها الجاحظ؛ كتلك التي تنسب لعاد وثمود مثلًا، صحيح أن ابن سلام قد نفى أن تكون مثل تلك الأشعار حقيقية، إلا أن الحجة التي استند إليها في ذلك النفي ليست بالحاسمة؛ ذلك أنه اعتمد فيها على ما جاء في القرآن الكريم عن أولئك القوم من أنهم لم تبقَ منهم باقية، وهو ما أدى به إلى التساؤل قائلًا: إنه إذا كانت عاد وثمود قد استؤصلتا كما جاء في القرآن، فمن الذي أدى لنا تلك الأشعار يا ترى؟ لكن فاته أن القرآن لم يقل: إنهم جميعًا استؤصلوا، بل الذين استؤصلوا منهم هم الكافرون فقط؛ كما جاء في الآيات 50 - 68 من سورة "هود"، كذلك من الممكن جدًّا أن يكون غيرهم من العرب ممن كانوا يحفظون تلك الأشعار هم الذين أدوها لنا، ولست أقصد بذلك أن هذه الأشعار وأشباهها صحيحة بالضرورة، فليس ذلك همي في هذا السياق، بل كل ما أريد أن أوضحه هو أن الحجة التي ساقها ابن سلام، على جلالة قدره، لا تستطيع أن تحسم المسألة، وبخاصة أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون الثموديون قد قالوا شعرًا، ولا أن يكون ذلك الشعر قد بقي تلك المدة التي تفصل بينهم وبين الإسلام؛ إذ هي ليست بالمدة الطويلة، فها نحن أولاء ما زلنا نهتم بأشعار الجاهلية التي يُقر بها الباحثون، ونقرؤها وندرسها ونحفظ كثيرًا من نصوصها رغم انصرام كل هاتيك القرون التي تبلغ الألف والستمائة من السنين، ومثلهم في ذلك تلك الأمم التي اختفت من مسرح التاريخ واختفت معها لغاتها فلم يعد يعرفها إلا المتخصصون القليلون، والتي نعرف مع ذلك عن تراثها وآدابها وأفكارها وعقائدها الشيء الكثير، كما هو الحال مع الأكاديين مثلًا من التاريخ القديم، والهنود الحمر من تاريخنا الحديث، وعلى الوجه الآخر قد يكون تراث أمة من الأمم مصونًا متاحًا بين أيدي أخلافها، لكنهم لا يعرفون عنه شيئًا، كما كان وضع الحضارة المصرية الفرعونية مثلًا بالنسبة لنا نحن المصريين قبل الحملة الفرنسية وقبل فك حجر رشيد، الذي كان بمثابة كلمة "افتح يا سمسم" لكنوز علي بابا.

ولقد كانت اللهجة الثمودية تجري على القواعد التي نعرفها في الفصحى في اشتقاقاتها وأزمنة أفعالها ووجود صيغ التثنية وأسماء الإشارة والضمائر وحروف الجر والعطف فيها، وإن كانت أداة التعريف عندهم هي "الهاء" بدلًا من "أل"؛ (د. شوقي ضيف/ العصرالجاهلي/ 112)، مما يمكن أن يفسَّر على أنه مظهر لهجي يختفي عند نظم الشعر مثلًا، فلماذا نحيل إذًا أن يكون الثموديون قد قالوا شعرًا، أو أن يكون شعرهم قد بقي حتى وصل بعض منه أهل الجاهلية القريبين من الإسلام؟ أما قول د. جواد علي، تحت عنوان "العربية الفصحى" في الفصل التاسع والثلاثين بعد المائة من كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، إن النصوص التي وصلتنا عن الثموديين تختلف عن العربية التي نعرفها - فمن الممكن، لو صح هذا الكلام وكان شيئًا مطردًا في اللغة كلها، الرد عليه بأن هذه النصوص ليست نصوصًا أدبية، وأنه كان من عادتهم تخصيص اللغة التي نسميها الآن بـ: "الفصحى" للإبداع الأدبي فقط، وتخصيص اللهجات القبلية لما عدا ذلك حتى لو كان شيئًا مكتوبًا، الواقع أنه لا يوجد عقلًا ولا نقلًا ما يُحيل هذا، وأما اعتراض الدكتور طه حسين مثلًا على الرائية التي ينسبها صاحب "الأغاني" لأحد أصهار إسماعيل من العرب بحجة أنها مكتوبة بلغة لينة مفهومة الألفاظ مستقيمة القواعد النحوية والصرفية والعروضية كلغة العرب أيام النبي - عليه السلام - بما يفيد أن اللغة العربية قد ظلت كل ذلك الزمن الطويل دون تطوير؛ (في الأدب الجاهلي/ دار المعارف/ 1964م/ 182 - 183، وبالمناسبة فعبارة "عليه السلام" هذه فمن عندي؛ إذ لم يحدث مرة أن صلى الدكتور طه على النبي في ذلك الكتاب!)، فيمكن الجواب عليه بأننا لا نزال حتى الآن، ورغم مرور زمن أكبر من الزمن الذي يفصل بين إسماعيل والجاهلية القريبة من الإسلام، نفهم كثيرًا من الشعر الجاهلي مع اختلاف حياتنا الآن عن الحياة آنذاك أكثر مما كانت مختلفة بين العصرين المذكورين، وبخاصة أن موضوع القصيدة المشار إليها موضوع إنساني بسيط لا يتعلق بوصف الحصان ولا الناقة وما إلى ذلك مما يكثر فيه الغريب بالنسبة لنا؛ لأن حياتنا الآن تخلو من الناقة والحصان، ولا نعرف أسماء أعضائهما ولا وجوه الحسن والسوء فيها كما كان يعرفها الجاهليون، بل يتعلق بحدثان الدهر وتقلبات الأيام وحتمية الموت وعجز البشر عن الوقوف في وجه تصاريف القدر، مما يخلو عادة من حُوشيِّ الألفاظ، ولا يجد القارئ صعوبة في فهمه، كما أن قواعد النحو والصرف والعروض ما زالت باقية كما تركها لنا الجاهليون رغم اختلاف ظروف حياتنا تمامًا عن حياتهم، ومع هذا فلا بد أن أسارع إلى التوضيح بأني لا أقول بالضرورة: إن تلك القصيدة صحيحة فعلًا؛ إذ يحتاج الأمر إلى دراسة أوسع وأعمق وأكثر أناة مما فعل طه حسين المتسرع دون سبب وجيه إلى الرفض والإنكار، لا لشيء إلا لأن المستشرق البريطاني مرجليوث (كما سنوضح لاحقًا) قد شاءت له حماقتُه وعصبيته على العرب والإسلام من قبله أن يحمل على الشعر الجاهلي كله لينسفه نسفًا، فجاء طه حسين فنسج على منواله وأنكر الشعر الجاهلي بدوره: كله أو جُله! وقد ننتهي بعد هذا إلى قبول القصيدة كلها أو بعضها، أو إلى رفضها جملة، أو إلى التوقف بشأنها.

وعلى أية حال، فهذا نص ما قاله ابن سلام في كتابه: "طبقات فحول الشعراء" في سياق هجومه على ابن إسحاق صاحب سيرة النبي عليه السلام: "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبدمناف، وكان من علماء الناس بالسير، قال الزهري: لا يزال في الناس علم ما بقي مولى آل مخرمة، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلامٌ مؤلفٌ معقودٌ بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: مَن حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [الأنعام: 45]؛ أي: لا بقية لهم، وقال أيضًا: ﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ﴾ [النجم: 50، 51]، وقال في عاد: ﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [سورة الحاقة: 8]، وقال: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [سورة إبراهيم: 9]، وقال يونس بن حبيب: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه: إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، أخبرني مسمع بن عبدالملك أنه سمع محمد بن علي يقول: قال أبو عبدالله بن سلام، لا أدري أرفعه أم لا، وأظنه قد رفعه: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه: إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء، قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حِمْيَر وبقايا جرهم، وكذلك يُروى أن إسماعيل بن إبراهيم جاورهم وأصهر إليهم، ولكن العربية التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه، وتلك عربية أخرى غير كلامنا هذا، لم يجاوز أبناء نزار في أنسابهم وأشعارهم عدنان، اقتصروا على معدٍّ، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لَبِيد بن ربيعة الكلابي في بيت واحد قاله، قال:
فإن لم تجِدْ مِن دون عدنان والدًا ♦♦♦ ودون مَعدٍّ فلتَزَعْك العواذلُ

وقد رُوي لعباس بن مرداس السُّلمي بيت في عدنان قال:
وعكّ بن عدنان الذين تلعَّبوا ♦♦♦ بمَذحجَ حتى طُرِّدوا كلَّ مطرد

والبيت مُريب عند أبي عبدالله، فما فوق عدنان أسماء لم تؤخذ إلا عن الكتب، والله أعلم بها، لم يذكرها عربي قط، وإنما كان معدٌّ بإزاء موسى بن عمران صلى الله عليه أو قبله قليلًا، وبين موسى وعاد وثمود الدهر الطويل والأمد البعيد، فنحن لا نُقِيم في النسب ما فوق عدنان، ولا نجد لأولية العرب المعروفين شعرًا، فكيف بعاد وثمود؟!".

وواضح أن ابن سلام يظن أن عادًا وثمود كانتا قبل زمنه بآلاف السنين وأنه لم يبقَ منهما شيء، لكن ثمود لم يكن يفصل بينها وبين الإسلام في الواقع أكثر من ألف سنة أو أقل؛ إذ يعود تاريخ الثموديين إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون، واستمروا بعده فترة، وكانوا يسكنون مدائن صالح وما حولها، وجاء في القرآن الكريم أنهم قد أخذتهم الرجفة، إلا أنهم رغم هذا قد خلفوا لنا كثيرًا من النقوش في بلادهم وخارج بلادهم (د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 33، 111)، مما يدل على أن فهم ابن سلام للآية الكريمة الخاصة باستئصالهم لم يكن فهمًا سليمًا، كذلك فاللغة التي كتبوا بها نقوشهم لا تختلف عن العربية الفصحى كما نعرفها، اللهم إلا فيما لا يقدم أو يؤخر حسبما رأينا، كما أن ثمود على الأقل تتلو تاريخيًّا إسماعيل بن إبراهيم ولا تتقدمه، كما سبق إلى وهم عالمنا الجليل؛ إذ إن إبراهيم وإسماعيل إنما سبقا ميلاد السيد المسيح بأزمان طوال، وليس بقرون قليلة، كما هو الحال مع ثمود حسبما عرفنا قبل قليل، فضلًا عن أنه لا يوجد فارق زمني يُذكر بين ثمود وموسى عليه السلام حسبما يقول ابن سلام، فقد قرأنا آنفًا أن ثمود سبقت عيسى عليه السلام بعدة قرون، وهو ما يصدق على سيدنا موسى أيضًا، كذلك فإسماعيل لا يمكن أن يكون هو أول من تكلم العربية طبقًا لما يقوله ابن سلام، الذي يضيف مع ذلك أنه عليه السلام قد نسي لغته الأولى لصالح لغة الضاد؛ إذ السؤال هو: وكيف ينسى ذلك النبي الكريم لغته ويتخذ لغة أخرى إلا إذا كانت هذه اللغة الأخرى لها وجود آنذاك، وهو ما يعني أنها سابقة على نسيانه للغته؟ وهذه اللغة هي لغة زوجته العربية؛ أي إن اللسان العربي كان موجودًا في ذلك الحين، ولم يكن إسماعيل أول من تكلم به كما قال ابن سلام؛ فالفرد (أي فرد) لا يمكنه استحداث لغة لم تكن؛ لأن اللغة تحتاج إلى أزمان وأزمان، وهي تنمو وتتطور وتتسع وتتعقد بالتدريج لا دفعة واحدة كما يوحي كلام ابن سلام رحمه الله.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 09-11-2022 الساعة 01:49 PM.
رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 160.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 158.32 كيلو بايت... تم توفير 1.75 كيلو بايت...بمعدل (1.09%)]