|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() المكان في ذاكرة الشاعر الجاهلي كاتب أمين الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلمأجمعين، وبعد: فقد كان المكان وما زال وثيق الصلة بالشعر والشعراء منذ العهد العربي القديم إلى العصر الحديث؛ فهو يشكل بالنسبة للشاعر عاملًا لتحريك شاعريته من خلال علاقة التلازم التي تسهم في تداعي الذكريات، ويفضي إلى إبراز منجز شعري يشكل مقياسًا ويشير إلى علاقة الشاعر وتعلقه بالمكان وما يحمله من ذكريات وأشجان، أو مواطن الحبيب، أو الموضع الذي رحل عنه الشاعر، وإليك نماذج شعرية لشعراء المعلقات: امرئ القيس: قفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزل ![]() بسِقْط اللِّوى بين الدَّخُول فحومَلِ ![]() وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيهم ![]() يقولون: لا تهلِكْ أسًى، وتجمَّلِ[1] ![]() النابغة الذبياني: يا دارَ ميَّةَ بالعلياء، فالسند ![]() أَقْوت، وطال عليها سالف الأبد ![]() وقفتُ فيها أصيلًا كي أُسائِلها ![]() عيَّتْ جوابًا، وما بالرَّبعِ مِن أحد[2] ![]() زهير: تبصَّرْ خليلي هل ترى مِن ظعائنٍ ![]() تحمَّلْن بالعلياءِ مِن فوقِ جُرثم ![]() بكَرْن بكورًا واستَحَرْنَ بسُحرة ![]() فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ للفَمِ[3] ![]() طرفة: لخَوْلة أطلالٌ ببُرْقةِ ثَهْمَدِ ![]() تلوح كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليدِ ![]() وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيَّهم ![]() يقولون: لا تهلِكْ أسًى، وتجلَّدِ[4] ![]() ما يلاحظه القارئ أول وهلة في هذه اللوحات الطللية هو استنطاق للمكان وأنسنة للطلل، إيقاع حركي وبصري وتأملي باستنكار الغياب، وضياع الشاعر النفسي لفقدانه حياة المكان، فالأطلال هي رمز لموت المكان، وفقدان الأهل والأحبة، وإن الحقيقة ما هي "إلا شعر في الحنين إلى الوطن والديار، مختلط بالحب والعواطف التي تشهدها هذه الأطلال"[5]، وإشارة واضحة للعلاقة القوية بين الشاعر العربي والمكان، فهو لصيق به مهما غاب عنه، أو أصابه التغيير، أو انتقل إلى غيره، يظل يختزنه في ذاكرته، ويتغنى به، وهو من أهم العناصر التي تشكل كيانه،فقد اتبع الشعراء الجاهليون أساليب شعرية في إبراز صورة المكان، من أهمها: اللهج بذكر الأماكن وتتابعها في البيت الواحد، أو الأبيات القليلة، مع تنوعها من أرض وسماء وما تحويهما. وللمكان أهمية في حياة الإنسان؛ فقد كان "أسبق في وجوده من الوجود الإنساني؛ فقد خلق الله سبحانه وتعالى الأرض وذلَّلها، وهيأها كما هيأ الكون كله، بوصفه المكان الأكبر لحياة الإنسان، وعلى الأرض وداخل هذا الكون كان إدراك الإنسان لـ(الزمان) و(المكان)، وإن اختلفت طريقة إدراكه لكل منهما"[6]؛ لأن "إدراك الإنسان للزمن إدراك غير مباشر، فهو يتحقق من خلال فعل الإنسان وعلاقته بالأشياء، في حين أن إدراك الإنسان للمكان إدراك حسي مباشر، وهو يستمر مع الإنسان طوال سِنِي عمره، مما يؤكد حميمية العلاقة التي تربط بين الإنسان والمكان مباشرتها وملازمتها لحركة الإنسان"[7]. على أن المكان يتجاوز الحد الجغرافي والوصفي إلى ما يسميه باشلار: "سمات المأوى التي تبلغ حدًّا من البساطة، ومن التجذر العميق في اللاوعي، يجعلها تستعاد بمجرد ذكرها أكثر مما تستعاد من خلال الوصف الدقيق لها"[8]، بناءً على هذا الطرح فإن المكان لم يعد مساحات وفراغات ونِسَبًا رياضية، بل يتعداها إلى الخيال وديناميات اللامتناهي من الفعل الإنساني، حتى تصبح الهوية ذاتها صورة من صور المكان الخيالي الدينامي المستعاد من أفق الديمومة الحية المتجددة، لا سبيل التكرار والاستنساخ الجامد، بل كائن له من الحياة ما ليس للموقع، ويظل يتوسع له ولنا حتى يظل يمتعنا بخاصية التمدد والانتشار على الدوام، فالنسق القيمي لأي مكان وأي ثقافة هو صورة رمزية مكانية تحدد له الصورة المكانية والزمانية للمكان. فالمكان هو منطلق الشاعر ومنتهاه في تشكيل نصه الشعري المكاني فـ: "العلاقة بين الشعر والمكان علاقة عميقة الجذور، متشعبة الأبعاد، ومن خلالها قد يصب الشاعر على مكان ما طابعًا خاصًّا، فيحوله من مسكن خرب إلى طلل مثير، ومن حجر أصم، إلى شاهد على لحظات مجد أو وجد، وقد تكتسب بعض الأماكن شاعرية تكاد تلازمها؛ كالقمر والبحيرة والغابة وغيرها، وقد يظل (سقط اللوى) و(حومل) و(جبل التوباد) و(رضوى) وغيرها من الأماكن التي اشتهرت في الشعر العربي ألفاظًا تحمل من الدلالات الشعرية أضعاف ما تحمل من الدلالات الجغرافية"[9]. "فعلاقة الشاعر بالمكان ذات أبعاد متعددة تستحضر الواقعي والخيالي والوهمي، ويكفي أن الشاعر يعيش في المكان على مستوى الوجود الحقيقي، ويسبح في المكان في عالمه الشعري، فيستحضر المكان من المعرفة الثقافية، ويقيم لنفسه وجودًا فيه، أو يعدل من صورة المكان الحقيقي، كما يخترع المكان في الفن ويحتله بالوجود"[10]، فالمكان يحمل قيمته الشعرية؛ حيث يعيد الشاعر إنتاج ما عرفه عن المكان وما استوحاه منه، بل إن الشاعر الحق ينتج المكان شعريًّا من جديد، وبطريقة لا تعزله عنه منظومة الفكر الذي يمنحه إياه التاريخ، أو يمنحه هو للإنسان تأملًا واستيحاءً، وحين تلتقي حدود الواقع مع حدود الخيال، في تلك المساحة المكانية ذهنيًّا، ترتفع رايات الشعراء، أولئك الذين يصنعون الرؤى من الكلمات؛ إذ تتضافر عين الجسد وعين الخيال في النظر إلى الطبيعة لخدمة الأفكار، وهذا ما نجده عند الشاعر الجاهلي، وهو "يعدد ليقول بأن الجزيرة العربية تخضع بأسرها لظروف متشابهة، كما عُني الشاعر الجاهلي بتحديد المكان وتأطيره حرصًا على بقائه في مواجهة الزمن، ولجأ إلى أسلوب الحوار مع المكان، ومناداته، وتحيته؛ وذلك لعمق صلته به"[11]. فهو مظهر عام في شعرهم، وطقس لا يغيب عنهم، ومثل هذا يُعَدُّ مِن الظواهر التي تستحق أن يوقف عندها؛ فقد برز المكان في الشعر الجاهلي في المعلقات حين أشار شعراؤها إلى بعض الأماكن ذات العلاقة القوية بهم - وقد أوردنا بعض شعر بعضهم، فكان من أهمهم امرؤ القيس؛ فقد كانت طبيعة الحياة وظروفها التي عاشها امرؤ القيس مصدرًا مهمًّا من مصادر تكرار التجربة وإعادة الحياة فيها، وذلك ظاهر في تجربة المكان ولهوِ الشاعر، ولو تتبعنا الألفاظ الدالة على المكان في القصيدة العربية، لوجدنا العديد من شعر الشعراء وحديثهم عن المكان واردًا في مقدمة القصيدة، وعندما نبحث عن نموذج رائع من العطاء الشعري الجاهلي نراقب فيه خصوصية استخدام الألفاظ الدالة على المكان، نجده في معلقة امرئ القيس[12]: قِفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومَنزلِ ![]() بسِقْط اللِّوى بين الدَّخُول فحَومَلِ ![]() فتُوضِحَ فالمِقراةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا ![]() لِمَا نَسَجَتْها مِن جنوبٍ وشَمْأَلِ ![]() تظهر أمامنا في البيتين السابقين مجموعة من الأماكن، منها: (سِقْط اللِّوى، وحَوْمل، تُوضِح، المِقراة، الدَّخُول). "وهي ترتبط بحالة تذكُّر يعيشها الشاعر، والمكان هنا أصبح معزولًا عن شرطه الإنساني؛ ذلك أنه لم يعد سوى بقايا آثار لم تندرس بعدُ بشكل كلي، ولكن أهميتها تأتي بما تثيره لدى الشاعر، ثم لدى المتلقي من ذكرى إنسانية ينقلها إلينا الشاعر بالتدريج، لتصبح تجربتُه الخاصة في المكان تجربة عامة لنا نحن القراء"[13]،ولقد تشرب امرؤ القيس بالفاجعة في وقوفه أمام المكان المتهدم، فالتجربة المكانية أساسية وجوهرية في معلقة امرئ القيس، وفي مقدمات الطلل الجاهلي، فقد توحدت بعض التجارب وشكلت إطارًا للقصائد المرتبطة بالمكان والتجذر فيه. إن البيت الأول من معلقة امرئ القيس لا يتحدث عن وصول فعلي إلى المكان الموصوف بأنه (سقط اللوى)، إنه بالأحرى دعوة إلى الوقوف كما لو كان من على مسافة وإلى التذكر، وإلى البكاء على ما كان ذات يوم منزل المحبوبة. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |