|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() العزلة الفكرية مبارك عامر بقنه أن يُربَط المربي بالمتربِّين ربطًا عضويًّا، بحيث يُتصَوَّر لهم أنه هو القدوة الكاملة، ويجعل دور المتربي هو التلقي فقط دون إعمال الفكر فيما تلقاه، ويتجه المربي بدافع الخوف والتربية نحو عزلهم فكريًّا عن الأفكار المخالفة، ظانًّا أن هذه الطريقة هي تحصين لهم من لُوثة الأفكار المنحرفة، وهو في الحقيقة يصنع بذلك شخصيات هشَّةً، لا يمكن أن تقاوم أيَّ هجمة فكرية إلا بالرفض المطلق، فلا يقوى على المدافعة العلمية، والمجادلة الفكرية، وتنعدم القدرة لديه على المحاورة في إقناع الآخرين. كنت أتأمل لو لم يَخُضِ ابنُ تيمية عالَمَ المنطق والفلسفة، هل كان يقوى على مواجهة الفلاسفة بهذا الطرح العميق؟ لو لم يكن يقرأ المذاهبَ المبتدعة الضالة، ويفهمُ آلياتها الفكرية، وأدواتها المنهجية، فهل يستطيع أن يَقصِمَ ظهور المبتدعة؟ العزلة الفكرية ليست طريقًا للحصانة، بل هي فتحُ الباب للآخرين، بأن يتسلَّلوا وينشروا أفكارهم وآراءهم، العُزلَةُ الفكرية لا تبني رجالاً قادرين على قمعِ الآراء الضالة قمعًا علميًّا، بل هي تدفع نحو السطحية، فلا يكاد يفهم حقيقةَ الأفكار المعاصرة المنحرفة، وتكون ردودُه ومجادلتُه سطحيةً، قِوامها - بشكل كبير - على السبِّ، والرمي بالبدع والضلال، دون محاورة أفكارهم ودحضها وبيان زيفها. وليست العزلة الفكرية فقط عن الأفكار المنحرفة؛ بل تكون العزلة الفكرية بثوب آخر، وهو عدم مناقشة أفكار الشخصيات العلمية المرموقة؛ إذ يزرع في مخيلةِ الشخص أن هناك شخصيات يصعب نقدُها، وهذا يشكِّل عقليةً متعصبة، لا تقبل الخلاف، وتجد في المناقشات العلمية لهؤلاء الشخصيات المرموقة نوعًا من التمرد والخروج عن الجادة، والأمَّة حين ترى أن النقاش العلمي ومخالفةَ السائدِ بدليل تمردٌ، فإنها لن تستطيع أن تقدِّمَ حلولاً لمشاكلها المعاصرة، بل إنها تكون مع مرور الوقت ضحيةً للأفكار المنحرفة، فالمتعصب أبرز صفةٍ لديه: أنه لا يفهم الأفكار، وبالتالي لا يقدر على نقدها، فهو لا يفهم إلا ما قال شيخُه، فما رجَّحُه شيخُه فهو الحق، وما لم يرجحه فهو الباطل، وهذه مأساة التلقين دون التركيز على القواعد العلمية، والضوابط المنهجية، إنها تنتج مقلدين لا مجتهدين. المربي من وظيفته الأساسية: تربية المتربي على العلم، وتنمية فكره على التفكير المستقل، القادر على التمييز بين الحق والباطل، فالمربي الحاذقُ يسعى لبناء منهجية علمية متماسكة يتمكَّنُ من خلالها المتربي مِن تقويم الأفكار والرجال وفق هذا المنهج. ويُخطئُ المربي حين يجعل نفسه بطريقة غير مباشرة هو المنهج وهو المقياس للحق، فالقيمة والمبدأ تسقط وتفقدُ قيمتها حين تكون موازيةً للشخص، أو حين يعلو عليها الشخص، فالمنهج هو المقياسُ وليس المربي، هذه الرؤية يجب أن تكون بارزةً في عقلية المربي، وأن يكون همُّه البناء المنهجي العلمي الصحيح في تلقي المعرفة العلمية وفي التقويم. المربي دوره الأساسي بناء العقل المستقل، المتَّبِع للهدي النبوي، وليس المتبع للرجال؛ فالله يقول: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3]، فالاتباع في الأصل يكون لما أنزل الله إلينا، وهو الكتاب والسنة، واتباع الرجال يكون لمن عجز عن معرفة الدليل بذاته، فيتَّبعُ من يَثِقُ في علميته وأمانته - لكن دون تعصب، وإسقاط للمخالف- فالمقلد عليه أن يتعلم آداب التقليدِ، فلا يحق له أن يجادِلَ ويناظر؛ لأنه لا يملك الأدوات المعرفية التي تُؤهِّلُه لذلك، وإلا لكان ترك التقليد من باب أَولى، والتقليد والتعصب هما أهم أسباب نكبات هذه الأمة. نحن بأمسِّ الحاجة لعقول مفكرة قادرة على استيعاب متطلبات الواقع وفق المنهج الرباني، تنطلق مع الحق حيثما كان؛ لتمزق حجبَ الباطل، وتنيرَ الطريق للبشرية بنور الوحي، نحن بحاجة ماسَّة لعقول متحررة من طغيان الجهل، وسلاسل الهوى، وقيود التقليد، قد كسرت الجمودَ، وانطلقت نحو العلم الديني والدنيوي، تبتغي إعلاءَ الحق لا إعلاءَ ذواتها. ولعلي أذكر هنا بعض الوسائل التي تُعينُ المربي في بناء عقليةٍ قادرة على المحاورة، واستيعاب مفهوم الخلاف، والخروج من مأزق العزلة: على المربي أن يتجاوز التلقينَ، ويتجه نحو الحوار، سواء كان الحوار المباشر، أو وضع مجموعات يتحاورون فيما بينهم، ويضع بينهم قضيةً مختَلَفًا فيها، ويجعلهم يتحاورون أمامَه، ويرصد عليهم إيجابيات الحوار وسلبياته، ويعالج ما يراه من سلبيات، سواء في الأسلوب العلمي في كيفية بناء الأفكار، وطرح الآراء، أو في المسائل الأخلاقية؛ كالتعصب، ورفع الصوت، وعدم الإصغاء، والخروج عن الموضوع، وغيرها من القضايا السلبية التي تنزل من رتبة التفكير العميق. يقوم المربي بزيارة شخصية علمية، أو استضافة أحد المفكرين الذين يختلف معهم المربي في قضية ما، تُطرَحُ هذه القضية المختلَفُ فيها، ويجعلهم يتحاورون ويتناقشون معه، بهذه الطريقة يسمعون حججَ الرأي المخالف، ويتربون عمليًّا منذ الصغر على المحاورة، فتتسع صدورهم للحوار وهم في سنِّ الطلب، فمن تربَّى على عدم الحوار والمناقشة وهو صغير، فلن يستطيع الحوار وهو كبير إلا بمنازعة شديدة مع نفسه. تقرأ بعض الأبحاث والمؤلفات التي تتحدث عن استقلالية التفكير، وأهمية النقاش، وعدم النزوع للتعصب والتمسك بالرأي، فالعلم ينير البصيرة ويرتقي بالإنسان نحو الكمال البشري. يُستفادُ من التواصل الاجتماعي الحديث في محاورة المخالف، فالتواصل الاجتماعي فرصة للإنسان أن يتحاور مع الآخرين، ولكن لا يتحاور إلا في قضايا يُحسِنُها؛ كي لا يسقط الفكرة، ولا يسقط ذاته، فمن مبادئ النقاش وأسس الحوار أن يكون لدى الإنسان علمٌ في القضية التي يتحاور حولها، أو فليسكت. ختامًا: علينا ألا نخشى من الباطل فنزوي بعيدًا عن مقارعة أهل الباطل، فالحق يمحق الباطلَ ويزهقه ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18]، فالباطل لم يَعْلُ لقوَّتِه؛ وإنما لانزواء أهل الحقِّ وبُعدِهم عن مواجهة الباطل، فأهل الحق يملكون الحُجة والبرهان، ولكن عليهم أن يُظهروا الحق ليدحضوا به الباطل.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |