|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() •قناديل الحكم (1) د. صفية الودغيري لا تُحَلِّل كلَّ ما تشعرُ به، وتخصِّص له مساحةً كبيرة في داخلك؛ فالمشاعر تنمو وتُزْهِر إذا كانت حُرَّةً خارج طَوْقِ التَّفكير.. • لا تَبْحَثْ عن راحَتِك خارج ذاتك؛ لأنَّ الرَّاحة هي شعورٌ يبدأُ من الدَّاخل، إلا أنَّك قد تشعرُ بالفرح والسَّعادة وحولك مَن تُحِب، وذاك الشعور ليس إلا شعورًا مؤقَّتًا.. • تَعَلَّمْ ألا ترى نفسَك في مرآتك في جميع حالاتك، وإلا سترى كلَّ ما تقولُه أو تفعَلُه صائِبًا.. • كُنْ مع الكبار؛ كي تطمَحَ إلى أن تكونَ كبيرًا وعظيمًا، تتمثَّل أجمل قيمة يحمِلونَها، ولا تكُنْ مع الصِّغار؛ فتظَلَّ خامِلًا، لا شيءَ يُغريكَ بالصُّعودِ إلى القِمَّة.. • وأنتَ تتَلذَّذ بفَصلِ عُمرِكَ الرَّبيعي، وتتمتَّع بحُلَلِ الشَّباب وحَلْيِه، لا تَجعَل ذاك الحُسنَ والنَّضارةَ يسرقانِ منكَ أجمل قيمة تحملها.. • نحن لا نتقَدَّم في طورٍ، ولا نتعَلَّم من فصلٍ واحد، ولا نولَدُ كبارًا، بل نولَدُ صغارًا، ثم نَكبَرُ بالتَّجارِب، والمِحَن، والاختبارات، والمواقف.. • مَن خانَك فقد خانَ نفسَه وضميرَه الإنساني، أو لعلَّه لم يكُنْ يستَحِقُّ كلَّ ما وهَبتَه من اهتمامٍ وحُبٍّ زائد، أو ربما خانَتْه قوَّته وصموده عند مواجهة الظُّروف والمواقف، أو ربما خذلَتْه عواطفه عند تحدِّي المِحَن والشَّدائد، ورَدِّ طعناتِ الغدر، فما عاد بعدها كما كان يتمَثَّلُ أخلاقَهُ الحقيقية.. • لا تنتظِرْ مِن غيرِك أن يهَبَك القيمة التي تستَحِقُّها، بل أنتَ من تمنَحُ نفسَك تلك القيمة التي تطمَحُ إلى أن تُدرِكَها؛ فالثِّقة والاعتزاز بذاتِك هي التي تفرض وجودك، واختياراتك، وقراراتك، وتسمَحُ لك بممارسة حرِّياتك المشروعة.. • إنَّ الاحترامَ لا يوهَب عطاءً بخسًا، بل أنت مَن تكتَسِبُه عندما تشعُرُ بذاتك وكيانك الحر، وحين تختارُ ما تريده، وتقرِّر وَفقَ الأصول والثَّوابت، وحين لا تخالف قِيَمَك ومبادئك، وتظل متمسِّكًا بخِلالك وفضائلك، مهما كان أمامَك الطريق شاقًّا وطويلًا، ومهما بذَلتَ مِن تنازلاتٍ في حساباتِ الدُّنيا الفانِيَة.. • أنتَ لا تُجبِر أحدًا على احترامك، إلا إذا كنتَ صادِقًا في التزامِك بمبادئ الدِّين، وتملِكُ ضميرًا صاحِيًا، وأهلًا للاتِّباع والاقتِداء، مِن خلال منهج تفكيرك، وأسلوب تعبيرك، وسلوكك ومعاملاتك؛ فالاحترام رسالة، والاحترام غايةٌ نبيلة، والاحترام سلوك ومعاملات، لا تُلزِم بها أحدًا قسرًا، بل هي اختيارٌ حُرٌّ نبيل.. • إنَّ غِناك الحقيقيَّ هو غِنَى نفسك، الطَّاهرةِ من الآثام والذُّنوب والمعاصي، الزَّاهدة في مُتَعِ الدنيا الزَّائدة عن حَدِّ الاحتِياج، وإنَّ غِناك الحقيقيَّ يهَبُك حياةً مُضاعَفَة، وشعورًا بالأمان والسَّلام، فإذا استَغنى قلبُك بالله فلا شيءَ يُفقِرُه، وإذا افتقَر قلبُكَ لغير الله، فلا شيءَ يُغْنيه بعد ذلك.. • لا تُصَدِّقِ الوُعودَ الزَّائفة، التي لا تكاد تفارِقُ الشِّفاهَ المُطبقَة على ابتسامةٍ ماكرة، فما أشجى دَندنَةَ الكلماتِ الصَّادِحَة على قِيثارةِ القلب الكسير! إلا أنَّ التَّغريدَ يرحَلُ مع الطُّيورِ المهاجرة، ولا يستقِرُّ على غصنٍ ولا شجر، وليس له أرضٌ ولا وطن.. • العقل يُلجِمُه العلم، وبه يستقيم على الفهم الحق، الذي يميزُه عن الجهل، ويَصرِفُه عن الباطل، وعن الحُكم بلا دليلٍ ولا معرفة، ولا اعتقادٍ صحيح، ولا منهجٍ قويم.. • العقول الكبيرة لا تُقاس بالأعمار، بل تُقاس بطريقة التَّفكير، ومنهجِ الشَّرحِ والتَّحليل، وأسلوبِ المنطِق واللسان والتعبير، ومن خلال الحوار والنِّقاش والنقد.. • إذا تعلَّمتَ ثقافة الحوار والنِّقاش، ستتقَبَّل الرَّأيَ المخالِف، الذي سيحرِّك مخاضًا بعقلك، وسيبعث طاقةً بتفكيرك تدعوك للرَّد والتَّحليل، ولن تدرك هذه الثقافة إلا إذا تحَرَّرت مِن تعَصُّبِك للأفكار والأشخاص، وتحرَّيتَ في نقدِك أن يكون بنَّاءً ووَفْقَ الأصول والقواعد، وانتصَرتَ للحق والصواب حيث كان وممَّن كان.. • إذا غاب الطِّفل الذي يسكُنُنا نتحَوَّل إلى أشرار؛ لهذا فالإنسان الشِّرير قد مات ذاك الطِّفل الذي بداخله.. • يَخرَسُ الكلامُ حين يكونُ ما بداخِلِك أعمَقَ مِن أن تُعَبِّر عنه باللِّسان، فيظلُّ أَنينُ صمتِك هو روحَ منطقِك، وأنفاسَ حروفِك وكلماتك.. • كلما ارتقَتِ الأحلام في عقولِ الكبار، فقَدوا الشُّعورَ والتَّفكير في التَّفاصيل، وانفَصلوا عن ارتباطهم الشَّديد بالفروع الزَّائِدة، والأشياء التَّافِهة، التي تَشغَلُ عقول الصِّغار.. • لا تَنتظِر من سيحلمُ معَك، أو من سيُشارِكُك أحلامك الجميلة، بل تعلَّمْ كيف تحلم لأجل تلك الأنا التي بداخلك، بلا قيود ولا شروط تحصد أحلامك، وتعلَّم كيف تصنعُ أحلامك بكفاحِك، ونضالك، وجهادك في الحياة.. • لا تتنازَلْ للآخَر إلا بدافع الحُبِّ، والاحترام، والثِّقة المُتبادَلَة، ولا تتنازَل إلا في مُقابِل تنازُلٍ يماثِلُه في القيمة، والمحتوى، والجوهر؛ حتى لا تشعُرَ بطَبائِع الاستبداد، ومشاعر القهر.. • إذا أردتَ أن تغضَبَ انتِصارًا للحق، لا تتَأخَّر لفصولٍ من عُمرِك كي تغضبَ؛ لأنَّك بعدها لن يُجديَكَ أن تغضَب.. • لا تُبالِغْ في ممارسَةِ اللَّومِ والعِتاب، وجَلدِ نفسك حين تفشل، أو حين يخونُك الأحِبَّة والأهل والأصدقاء؛ لأنَّك ستجد تلك الأنا التي بداخلك تتمَثَّل أخلاقَك، وطباعَك، في كلِّ المواقف، وإن تكرَّرَت معاناتك، وتجرَّعتَ كؤوسَ الخيانة والخِذلان..
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (2) د. صفية الودغيري • كن صاحبَ رسالةٍ عظيمة، تُعلِّم مَن حولك احترام الفضائل الإنسانية، والتحرك وَفْق غاياتٍ نبيلة، تَصِل أبناء أمتك بوشائجَ متينة، وعهود السلم والأمان؛ فأنت بلا قيمٍ ولا مبادئ كوعاءٍ خالٍ مِن محتواه النافع، أو كعيدان خشبٍ جافٍّ، وأنت بلا جوهرٍ براقٍ كجسدٍ بلا روحٍ ولا حياة.. • عبِّرْ عن ذاتِك بألوانك، ورسومك، وصُوَرك، وتعبيراتك الخاصة بك، وخُضْ غمارَ تجارِبك؛ لتتعلمَ كيف تصنَع تاريخك بنفسك، وكيف تمارس حريتك المشروعة بلا شعورٍ بالخوف، ولا التردد، ولا الخجل، ولتتعلم كيف تكون جريئًا في الانتصار للحق، بلا وجهٍ مستعارٍ لا يُشبِهك.. • كن أنت؛ حتى لا تضِيعَ أحلامُك وأنت تركض خلف المحاكاة والتقليد، في فضاءٍ يضيق بك وبوجودك المقيَّد، وكن أنت التغييرَ الذي تنشُدُه، ويعجِز غيرك عن بلوغ مداركه وتحقيق غاياته، وكن بصمتَك التي تميز شخصيتَك عمن حولك؛ فأنت بدون أثرٍ طيبٍ نافعٍ لن تكونَ إلا خيالًا، أو ظلًّا، أو نسخةً مكررة.. • كُنْ شجرةً يستظلُّ بها الناس، لا ورقةً ذابلة يعبُرُ الناس على رُفَاتِها، فتدوسَك الأقدام.. • اجعَلْ أخلاقَك عنوان كتابٍ مفتوح، لها تاريخٌ عتيد، وقلمٌ مجيد، وفِكر مستنير، كأنها الشمس لا يغرُبُ عن محيَّاها الشروق.. • لا تكُنْ ممن يَهذي بالكلام؛ فأغلب مَن يُفرِط في الثرثرة، وتقديم الوعود الزائفة، قلما يُطبِّق أو يمارس أقواله سلوكًا ومعاملات؛ فاجتهِدْ واعمَلْ في صمت، واجعل مواقفك، وأخلاقك، وسيرتك تتقدم أقوالك، وهي مَن تتحدَّث عن أخبارك؛ فالأفعالُ الحسنة أبلغُ من الكلام البديع، والأثر الطيب أبلغُ من المقال الآسِر للقلب والوجدان.. • إن الحدود الفاصلة بينك وبين مَن حولك هي صمام أمانك الذي يحافظ على انعتاقك مِن قيود الملازمة، التي تجعَلُ ارتباطَك بالأشخاص أشبهَ بالإدمان والاحتياج الدائم، الذي يُجبِرُك على أن تصيرَ عبدًا لمشاعرك، ورهينًا بتقديم مجموعة مِن التنازلات لغيرك.. • خُذْ عن كل مَن حولك أجملَ قيمة يمتلِكونها، ولا تبحث عن سياجٍ يحيط بمشاعرِك الجميلة؛ حتى لا تتحولَ حياتُك إلى سدود، وحدود، وأسلاك شائكة، ولا تتحوَّل علاقاتك الإنسانية إلى قوالبَ فارغةٍ مِن محتواها، ومفاهيمَ ومصطلحات خالية مِن معانيها ومقاصدها.. • لا تعاتِبْ إلا مَن يستحقون عتابَك، ومَن لا تملِك أن تحيا بدون وجودهم في حياتك، ومَن يستحقون أن تحافظَ عليهم في ذاكرتِك؛ لأنهم كاللآلئِ، والدُّرِّ، والماس.. • قد تكونُ الفرحة التي تقتلعها مِن قلب إنسان، في لحظات شعوره بالسعادة، هي كل ما يملِكه مِن أحلام جميلة، فتحرَّر مِن مِنجَلِك الذي تحمِله في كل الفصول؛ فقد تحصُدُ به يومًا حتى أحلامَك، وأفراحَك، وأعيادَك.. • اجعَلْ صمتَك حكمة، لآثارها إشراقاتُ تغييرٍ وإصلاح، تحثُّك على التعبير الصادق، والفعل الملتزم، والتأنِّي في التفكير، بعد مخاضٍ بين تجاذبات العقل والإحساس والشعور.. • قد يكون نبضُ خفَقانك الصارخ في أعماق ذاتِك المُلْتاعة، يعبِّر عن وجَع قلبِك النازف، وجُرحك الغائر، الذي يأبى أن يطِيبَ أو يندمل، أو ثورة خامدة في صدرك، وبين حناياك وأضلعك، تجاهد كي تضمَّ شتاتها في صمت، فلا تبوحَ بأسرار رُوحك، ولا تذيبَ على شِفاهك ما تبقى مِن كلماتك وحروفك الناطقة، ولا تصهَر غيرك بشظاياها الحارقة.. • عندما تتعوَّد على ألا تُصغيَ إلا لصوت الآخر في كل حالاتك، ستخرس بداخلك صوت الأنا الحرة، وتطفئ وهَج أفكارك المستنيرة قبل أوان إشراقها، وتقتلع جذور تاريخك قبل امتداد أصوله وفروعه، في دفائن نفسك، وقبل أن تنموَ براعمُك، وتترعرع في ذاكرتك وتُزهر.. • اصنَعْ لوجودك تاريخًا مستقلًّا، يسمح لك بأن تعبِّر عن ذاتك بحرية، وترفع صوتك باعتزازٍ وافتخار، وحماسة وجرأة، وأنت تنتصر للحق والعدل والإنصاف، وأن تبديَ رأيَك في اختياراتك وقراراتك، بلا تقليدٍ ولا تبعية، وتطلق سراح مشاعرك، لتحلِّق خارج قضبان صدرك، مع التزامك في التعبير عن حريتك بالانضباط بالأخلاق والقيَم، وأحكام الشريعة، واحترام التقاليد والأعراف الاجتماعية.. • لا تترُكْ مكانَك لغيرك؛فأنت لا تحتاج إلا أن ترتديَ معطفك كي تشعُرَ بالدفء، وأن تُفسِحَ مكانًا لمن كان أهلًا ليتربع عرشَ قلبك، ومن يستحق أن يكون لك السكن، والمرسى، والوطن.. • حين تهَبُ نفسَك بالكامل إلى ما هو أعظمُ، سيصبح للزمن عندك قيمة نفيسة، وسيصبح لوجودك هدفٌ أسمى، يدعوك لتخلِّدَ بصماتك المشرقة، وأعمالك الجليلة، بعيدًا عن أولئك الذين اقتحموا حياتك قسرًا، وأجبروك على أن تكون تحت بطانتهم ذليلًا صاغرًا، ومسخًا بشريًّا، وحينها ستشعر بلذة الحرية والانعتاق، فتَنْفكُّ عقدة لسانك، وينكسر الطوقُ الذي كان يتحكم باختياراتك وقراراتك.. • لا تصاحِبْ إلا مَن يرتقي بأخلاقك، ويحافظ على التزامك بدِينك، وقِيَمك، وتقاليدك، وأعرافك، ومَن يسمو بتفكيرك، وثقافتك، ومعارفك.. ولا تصاحِبْ إلا مَن يحترم وجودَك في حضورك وغيابك، ويحترم شخصيتك بطباعك، وعاداتك، وتقاليدك، وإرادتك الحرة في الاختيار واتخاذ القرار.. ولا تصاحِبْ إلا مَن يحافظ على أمانة الكلمة، فلا يغتابك، ولا يُشِيع أخبارك وأسرارك بين الناس، ولا ينتهك عِرْضَك وشرَفَك.. • توقَّفْ عن الحديث حين تشعُرُ أن استمرارك في الحوار والنقاش سينحرف بك عن الطريق الصحيح، والمنهج القويم، أو لا ينسجم مع ذوقك الراقي، وأسلوبك ولغتك، واختياراتك للكلمات الأنيقة، أو حين لا يرقى الحوارُ والنقاش إلى مراتبِ القمة، في الذوق الإنساني، والسمو في التواصل الحضاري؛ فللحديثِ ضوابطُ وشروط، وللحديث آدابٌ وأخلاق، كما للحوار والنقاش مراتبُ ومقامات، إما أن ترفَعَك إلى الأعلى، أو تسقُطَ بك إلى قاع الحضيض؛ فكُنْ مع مَن يرفعك إلى القمة، ولا تكن مع مَن يسقُطُ بك مِن القمة إلى المنحدَر الوعر.. • أنصِتْ قليلًا، والزَمِ الصمتَ؛ فما أكثرَ الكلماتِ التي تتلاشى وسط الضوضاء والضجيج، وتفقد قيمتها وسط هدير الأصوات المرتفعة، والصرخات المجلجلة! وما أكثرَ المعانيَ التي تنفرط مِن عقد الالتزام، فيخبو بريقها الوهاج، وتنطفئ شعلتها الموقدة وسط السرج المعتمة! • لا تجعَلْ ردَّك على الإساءة والظلم انتقامًا لنفسك، إنما انتصارًا للحق والفضيلة؛ فأنت بذلك تعلِّم المسيءَ إليك، والظالم المنتهِك لحقوقك، والمستبد بمطالبك واختياراتك، دروسًا في الأخلاق، وأنت بذلك تمارس رسالة التغيير والإصلاح بالسلوك والمعاملات، فتقوِّم فساده داخل المجتمع، وتكسر شوكته فلا تقوَى ولا تشتد، وتجتثُّ زرعه الفاسد قبل أن تمتد جذورُه وفروعه في الأرض.. • تمهَّلْ قليلًا، ولا تعجَلْ بالكلام، فلا تُلقِ له بالًا؛ فما أكثرَ الكلماتِ التي ينطقها اللسان في ساعاتِ الضيق والضَّجَر، وعند الشدائد والمِحَن، وفي لحظاتِ الشعور بالهيجان والغضب، فتنطلق كالسهام المسمومة، تُفسِد القلوب، وتُثير الأحقاد، وتعكِّر صفو المحبة والوئام، وتقطع شريان الوداد، وتمزق أواصر الأخوَّة بين الأفراد والجماعات، وما أكثرَ الكلمات التي لم يلجمها أصحابها بلجام العقل والحكمة، فأوقعَتْهم في مساقط التِّيه والزلل، وخوارم المروءة، فهلَكوا وأهلكوا، وعاثوا فسادًا وإفسادًا في الأرض!
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (3) د. صفية الودغيري • إن للعبادة لذةً تتذَوقُها أَمنًا وسَلامًا؛ فهي الوطنُ الذي يحتويك، وتتنعَّم في ظِلاله برغدِ الحياة.. • إن سلوكَ القلب يتقدَّم سلوك الخُطى والأقدام، فتعجل النبضات خافِقةً بالتكبير والتهليل؛ لتصِل طريق الله بالمحبة والإخلاص، والصدق في السعيِ والإقبال، ثم تلبي الجوارح ذاك النداء الآتي مِن الأعماق، وتُذْعن في التذلُّل والخضوع التام، فيغشاها الأمن والسلام.. • تعامَلْ بأخلاق الإسلام قبل أن تدعوَ غيرَك إلى أن يتحلَّى بتلك الخلال، وتمثَّلِ المشاعرَ الصادقة قبل أن تبحث عنها خارج ذاتك، أو تستجديها ممن حولك.. • إن إسلامَك هو سلوكٌ تمارسه في حياتك، ومنهجٌ قويم تتمثَّلُه في أقوالك وأفعالك، وغاياتٌ نبيلة تحثُّك على أن تنهضَ بالقضايا العظيمة، والمهمَّات الجليلة، التي تستحقُّ أن تشحَذَ لأجلها ساعدَ همتك، وتخصِّص لها أنفَسَ ساعاتك.. • إن إسلامَك هو حياةٌ كاملة، لا يقتصر على أن تنطقَ الشَّهادة بلسانك، بل يُلزِمك الإقرارَ بقلبك، والإيمانَ الصادق، وأن تسلِمَ جوارحَك كلها لله في انقيادٍ تام، وخشوعٍ وخضوعٍ في الأقوال والأفعال، واتباعٍ صحيح في الاقتداء، والالتزام بالأحكام.. • اجعَلْ عبادتَك تحتويك بكل أجزائك وتفاصيلك، وتحرِّك فيك كلَّ حواسك، فتدعوك إلى أن تُمعِنَ النظر والتأمل في نفسك، وفي الآفاق، والتفكُّر في أسرار الكون والكائنات، وإعمال العقل، ومهارات التفكير العميق، حتى تصلَ إلى المعرفة الصحيحة، وتُدرِك سر وجودك في الحياة، فتسعى وتعمل على هدًى وبصيرة، وبأهدافٍ وغايات هي أعظمُ مِن مطامعك الذاتية، ومصالحك الشخصية.. • تحرَّكْ في الأرض وأنت تلهَجُ بذِكر الله آناء الليل وأطراف النهار، واجعَلْ تلك الأرض التي تشقُّ مناكبها هي بساطَك المسجَّى، الذي تطرِّزه بطراز عملك الصالح، وتزيِّنه بجواهر علمك النافع، واجعَلْ كل خطوةٍ تشهد لك لا عليك، وكل مكانٍ تزوره أو مجلسٍ تحضُره، يتحدَّث عنك وعن آثارِ أعمالك، ويحكي عن محاسِنِك وخلالك، وسجاياك ومكارم أخلاقِك.. • احرِصْ على أن تُلجِمَ لسانَك بلِجام الصدق، وقول الحق، وصُنْ جوارحَك مِن الوقوع في الحرام، ومِن السقوط في مراتع الفساد، وكن ممن يسارعُ إلى صنائع المعروف، حيثما حلَلْتَ أو ارتحلت، وخلِّدْ أثرًا طيبًا، وذِكْرًا حسنًا، وصدقةً جارية، يمتد نفعُها، ويعمُّ خيرها، وتصِلُ بركتُها إلى الأجيال التي ستأتي بعدك.. • إننا لا نلتقي في الحياة عبَثًا، بل لغاياتٍ عظيمة تجمَعُنا، ولأجل تلك الحقيقةِ الخالدة التي تربط وجودَنا بالله، وتشُدُّ أيديَنا فتتشابك وتتماسك ببعضها البعض؛ لسلوكِ طريق الحق، والتعاون على البر والتقوى، والتكافل لبناء مجتمعٍ فاضل، تتَّحِد فيه القلوبُ بالمحبة والوئام، وترتبط بأواصرِ الدم وروابط القَرابة، وصلات الأخوة، والصُّحبة الطيبة، والرُّفقة الصالحة.. • علينا أن نحافظَ على الفضائل والمعاني السامية، التي تبعث في وجودنا الشعورَ بالتضامن والوَحدة، حتى إذا ما اختلَفْنا أو تفرَّقَتْ بنا السُّبل والمذاهب، نظل نجتمع على كلمةٍ سواء، ويضمنا صفٌّ واحد متماسك الأركان، يربط حلقاتِ وجودنا بلا انفصال، كما يربطنا النبضُ الواحد بشريان الحياة، فينتظم الخفقانُ في الصدر، ويجري صبيب الدم في العرق بلا انقطاع، وكما نستنشق الهواء العليل بلا اختناق، علينا أن نتعوَّدَ على أن نستنشقَ أنفاس الحياة في وجودٍ مشترك يجمعنا، بلا اختلافٍ يوقِعنا في التناحر والشِّقاق .. • إن مفاتيحَ السعادة لا يملِكُها إلا مَن أشرق قلبُه بأنوار الإيمان، فانجلى عن صدرِه ظلامُ الجهل والضلالة، وتزوَّد في طريقه بزاد العلوم والمعارف النافعة، وصان نفسَه مِن العلل والأسقام، وصدَّها عن الإقبال على الشَّهوات والمحرَّمات، وشغَلها بذِكر الله والطاعات، وارتقى بها مدارجَ السالكين طريقَ الاستقامة والهداية والصلاح، فاصطفاه اللهُ مع الأتقياء الأخيار، ومِن زمرة السُّعداء الأبرار.. • إن الحريةَ الحقيقية هي التي وهَبنا الله إياها، فجعلها خلاصًا للرُّوح مِن قيود المادة وأثقالها، وخلاصًا للجسد مما يوهِنه ويستعبِده، في وجودٍ متوازن ومتكامل، يوفِّر لهم شروطَ الحياة الكريمة، وَفْق انتظامِ حركة الإنسان وسعيه في الأرض، ووَفْق ضوابط الشريعة التي سنَّتْ أحكامها لتلبِّي مصالح العباد، ووَفْق غايات الاستخلاف، وعلى وجه الطاعة والتعبُّد والالتزام.. • إن أشدَّ ما نعاني منه اليوم ناتجٌ عن تعلُّقنا الشديد بمُتَع الحياة وملذاتها بإسراف، وطمعنا الزائد عن حد الاحتياج، وغفلتنا عن المداومة على العمل للآخرة، والاستعداد ليوم العَرْض والحساب.. • إن أشواقَنا المعلَّقة بالدنيا الفانية تنقطع، وتشدُّنا إلى ترطيب القلوب الكالحة، التي لا ترتوي ولا تهدَأ، أما أشواقُنا المعلقة بالآخرة، فهي تصلُ النعيمَ المقيم، وترغَب في امتلاكِ السعادة الأبدية، والارتواء مِن مجراها العَذْب الذي لا يجفُّ ولا ينضُبُ .. • كلُّ كمالٍ إذا ما تم نقصان، فإن تسَلْ عن المرء، فسَلْ عن مبطنه والمخبر، ولا يغريك مِن حاله جمال المظهر، وما أبلَغَ ما قاله أبو البقاءِ الرنديُّ: لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ ![]() فلا يُغرَّ بطِيبِ العيشِ إنسانُ ![]() هِيَ الأمورُ كما شاهَدْتُها دُوَلٌ ![]() مَن سرَّه زمنٌ ساءَتْه أزمانُ ![]() • حين يتحوَّلُ السباق في هذه الحياة العامرة بالفتن والشهوات، إلى سباقٍ يلبِّي المطامع الذاتية، والرغبات الساقطة، يصبِح الإنسان مستعدًّا ليتنازلَ عن قيَمه الدِّينية والأخلاقية، ويتقن مختلف اللغات باستثناء لغته التي تمثِّله، ويتابع عن كَثَبٍ أخبار العالم من حوله، ويفتخر بمختلف الحضارات، ويتجاهل تاريخَ أجداده الحافل بالأمجاد، وحضارة بلده وأمته، فيفقِد مقوِّمات شخصيته وهوِّيته، وينسلِخ عن أصوله وفروعه، وعن كل ما يربطه بمنبته وجذوره، إلى أن تبرُدَ في صُلبِه جذوةُ الحياة الكريمة.. • إن النفوسَ السويَّة لا يستقيم حالُها إلا بانتهاج سبيل الفِطرة، والعودة إلى الأصول والثوابت، والحفاظ على الطبيعة الإنسانية في أسمى تجلياتها ومظاهرها وصُوَرها؛ فهي التي تجعلُ لحياة الإنسان نظامًا معتدلًا، وفكرًا متوازنًا، وشعورًا مستقرًّا، وتجعل لما يصدُرُ عنه منهجًا مستقيمًا، وأصلًا ثابتًا على دِين الحق، لا يَحيد عن أحكامه ولا يُخالِفها.. • إن اليقينَ في الله، والثقة بقدرة الله وكفايته، هي التي تزوِّدُنا بالطاقة المضاعفة، التي تحثُّنا على مواصلة الطريق، مهما كان شاقًّا ووعرًا، وهي التي تشحَذُ همَّتَنا لتحمُّل المِحَن ومكابدة المشاقِّ، والتحلي بالصبر عند نزول البلاء، وتوالي الخطوب، وتعاظم الشدائد.. • إننا نحيَا النقيضينِ، فهناك الخيرُ والشر، والعدل والظلم، والسلم والحرب، والفرح والحزن، والهدوء والثورة، ونقابل في الحياة الخبيثَ والطيِّب، والصديق والعدو، والمحب والمُبغِض، والقريب والغريب، والصادق المخلِص والكاذب المنافق... فهي ألوانُ الحياة التي نتلوَّن بها، وننقش وَشْم رسومها المختلفة على قلوبنا؛ كي تخالطَ مجرى عروقنا، وتمتزج بدمائنا، حتى نخرجَ مِن هذه الدنيا ونحن الفُرسان الأقوياء الأشداء، وعباد الله العتقاء الأحرار، وقد ملَكْنا الدنيا ولم تملِكْنا، وفُزْنا مِن غنائمها ونعيمها بزادٍ قليلٍ يكفينا لسلوك طريق الدنيا الفانية، وتطهَّرت أرواحنا مِن الآثام والمظالم والانتهاكات.. • إن الكونَ بما حوى قد جمَع بين المعدن الأصيل والمنتحل، والدُّرِّ النفيس والحصى والحجر، كما جمَع طبقات الخلائق؛ فمنهم أهل الفضيلة والرذيلة معًا، وجرَتِ الأوديةُ والأنهار بالماء الصافي العَذْب، وخالَطها الكدَر..
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (4) د. صفية الودغيري • ابحثْ عن تلك الأنا التي تسكنُ بداخلك، قبل أن تحيا مشطورًا في زمن الاغتراب، ورهين أشواقٍ تهفو إلى انبعاثِها من جديد، فتضيع منك وسط دهاليز حياتك المُعتِمة، ووسط زحام الفتن والخطوب المتتالية. • إن ما تفقدُه اليوم قد تجده غدًا، أو قد تقابله في مواقفَ عدَّة، وبصورٍ شتى، وتعبيرات أخرى، ورؤى مختلفة. • حين يكونُ المعنى الذي يُحرِّكك صادقًا خالصًا، يكون ظهورُه أقوى، وله انبعاث يتجدد ويتكرر، بقدر تمسُّكك بجذوره، وارتباطك الوثيق بوجوده، وبقدر رغبتِك القوية وإرادتك الطامحة إلى إحياءِ تاريخه، في أي فصل من فصول حياتك. • لا تصاحبْ مَن كان ممن يُخشى مِن زلات لسانه وخوارم مروءته، ولا يُستَأمن على صَوْن عِرْضك وشرفك، ولا على حفظ أسرارك، ولا يملك عِقاله ولا لِجامه، فإن لم تجدْ سبيلًا إلى هدايتِه، ويئِستَ من صلاح حاله، فتعجَّل بمفارقته، واحذَرْ من مخالطتِه ولزومِ مجالسه. • كُنْ ذا عقلٍ يُفكِّر قبل أن تختار أو تقرر، فإذا ملكتَ اللبَّ الرشيد والرأي السديد، ملكتَ الرصانة والحصافة، والأناة والصبر الجميل، والقدرة على التعبير بلسان بليغ فصيح، فتَأْسِر القلوب، ويصطف الناس حولك، كما الفراش تلفُّ وتدور حول الزهور. • كُنْ أنتَ المفكِّر، ولا تبحثْ عن ذاك المفكر خارج ذاتِك، وخارج جغرافية تفكيرِك، وكن مميزًا بتفكيرك ومختلفًا عن غيرك، لك أفكارُك وأحلامُك التي تختلف عمَّن تقدموك في النجاح والإنجاز، وكن عظيمًا كما أنت، لا خيالًا ينشد أن يكون انعكاسًا للحقيقة، أو ظلًّا يختفي خلف ستار التقليد للعظماء. • كلما شعرتَ بالاحتياج والافتقار إلى غيرك، والارتباط الشديد بالأشخاص، استَعْبَدك الخوف والهلع، وصرت مسلوب الإرادة، فاجتَهِدْ أن تصنع لنفسك وجودًا حرًّا ومستقلًّا، يَهَبك الشعور بالأمان والاكتفاء، والاستغناء بالله عمَّن سواه. • إذا اتَّسعت مساحة عقلِك، أدركتَ أن لا شيء أضيق على الصدر من انسدادِ شريان القلب، إذا حمل مجراه ما يضيق بحمله. • أنتَ لستَ مِلْكًا مُشاعًا للعابرين الغرباء، حتى تُشارِكهم فصولَ حياتك وشريط يوميَّاتك، ولستَ كِتابًا مفتوحًا أمام كل طبقات القرَّاء، أو ألبومًا من الصور للعَرْض والمشاهدة والإبهار. • احتفِظْ بجوهرِك في أصدافِه، فالجمال والبهاء يسطعُ من قوقعتِك المصونة، والعيون تغضُّ الطرفَ عن الصور المشاعة، والقلوبُ إنما تهفو إلى ما يختبئ خلف السترِ الكثيف الغموض. • لا تُقدِّم إلى مَن حولك إلا ما ظهر منك وانكشف، أما ما يتحرَّك بداخلك من الخبايا والأسرار، فهي مِلْك عالَمِك الخاص، المحاط بسياجِ الستر، وحجاب الحفظ والصيانة. • لا تجعلْ كلَّ تغيير أو تجديد بحياتك يُؤثِّر على نظرتِك وتقييمك لمَن حولك، فتتحوَّل إلى شخصٍ يلازم مِنصَّة القضاء، ويحاكم الناس على اختياراتهم وقراراتهم بلا رويَّة أو أناة. • لا تُعلِّقْ أخطاءك على حركة الزمن، فالساعات تمضي ولا شيء سيتغيَّر فيك أو في وجودك، إلا إذا اخترت أن تكون في كل طورٍ من أطوار حياتك إنسانًا جديدًا، لك غاية عظيمة ورسالة نبيلة، وقرَّرت أن تتخلَّى عن عجزك وخمولِك، وسعيتَ بهمَّة وعزيمة إلى الارتقاء بمؤهلاتك العِلمية والمعرفية، وحسَّنت أسلوبَ تفكيرك ومنطِق لسانك وتعبيرك، واكتسبتَ مهارات جيدة في التواصل والحوار وتنمية الذات. • إذا حل ميقات الرحيل، فاعلم أن رحلة سفرك قد ابتدأت، فلا تُطِلِ المكوثَ عند محطَّات الانتظار الطويل، تُمنِّي نفسك بأحلام لن تتحقق. • لا تُلوِّح بمناديل الوداع إلى أولئك الأشخاص العابرين على رفات الذاكرة؛ فهم لا يستحقون أن تُخلِّد تاريخهم المنسي، أو تحنَّ إلى وداعهم بعد أن رحَلوا عنك منذ أمد بعيد. • تعلَّم أنْ تُواصِلَ طريقك وإن كنت فردًا بلا صاحب ولا رفيق؛ فطريق حياتك لا ينتهي عند محطات أولئك الذين يَظهَرون عند الشروق، ثم يُودِّعونك عند الغروب. • لا تُدمِن الشعور بوخزات الألم، ولا تعتكفْ في محراب حزنك الطويل النزف، بل يكفيك أن تُهيِّئ نفسك لاستقبال صروف الحياة، والرضا بأقدار الله خيرِها وشرِّها، والاستعداد لتقلُّبات الفصول وتبدُّل الأحوال، وشُدَّ ساعد الهمَّة للانتصار على تجاذبات المحن، ومغالبة الشدائد بجرأة واقتدار. • إن قوة إيمانك تظهَرُ في لحظات الامتحان العسير والابتلاء الشديد، وثباتك على الحق هو ما يشحذ همَّتك ويُقوِّي عزيمتك لتواجهَ تلك اللحظات العسيرة التي تمر بها، وإن ارتباطَك بالله وافتقارك إلى الله في كل أحوالك وشؤونك هو ما يمنحُك طاقة الصبر على الشدائد، والقدرة على الصمود والمواجهة ومجاهدة النفس، مهما طالت رحلة مشقَّتك وطريق كفاحك. • إن تلك اللُّغة التي تتعلَّمها بالدأب على قراءة القرآن، لن تجد لغةً تحاكيها أو تماثلها في الروعة والجمال، إنه الأدب الخالد الذي أفحَم بفصاحتِه وبلاغته وبيانه لغةَ فطاحل الشعراءِ والأدباء الفصحاء، وإنه الأدب الجامع للحِكَم والمواعظ والآيات المعجزات الباهرات، التي تَهَب نفسك الطُّمأنينة والسكينة، والقدرة على مواجهة ما يَعْتريك من مشاعر التمزُّق والانكسار. • لا تُخصِّص للناس مساحةً أكبر من المساحة التي يستحقونها في حياتك، بل عاملهم بالتي هي أحسن وأقوم، وعامِلْهم كما تعامل الطيور، فهي في فضائها الرحب تُحلِّق، ومهما ألفتَ الإصغاء إلى تغريدها على غصونك، لا تلبَث أن تُفارِقك وتهاجر أَوْكارها وترحل. • اعلَمْ أن حياتك لا تتوقَّف عند خط الفراق والوداع، ولا تنتهي الآمال والأحلام والرغبات والمطامح عند محطَّات مَن يرحلون أو ينكثون العهود، بل حياتك تستمر ما شاء الله لها الاستمرار، وتبعث في فصولك وأيامك مشاعر الغبطة والسرور، في وجود مَن كان محبًّا صادق الوعد، وفيًّا لمواثيق الصحبة والإخاء. • حين تصل إلى مرحلةٍ من الألم العميق والوجع الشديد، وتفقِدُ معها الرغبة في البكاء، وتَركَن إلى الصمت الطويل، فاعلَمْ أن المحنَ قد حصدَتْك بمِنْجَلها الحادِّ، واقتلعت بَراعِمَك الصغيرة، وسنابل زرعِك الفتيِّ، ثم طحنَتْك وغربَلَتْك في غربالها الدقيق، وعجنَتْك وعرَكَتْك، فأخرجَتْ منك إنسانًا صلبًا لا ينكسر أو يَلِين. • لا تُبالِغ في تقديم الاعتذارات والمبررات لأقوالك وأفعالك وتصرفاتك، ما دمتَ تشعر بالثقة والاعتزاز بذاتِك، والافتخار باختياراتك وقراراتك، وتلزم العدل والإنصاف، وتتحرَّى الصدق والإخلاص، وتراعي رقابة الله في السر والعلن. • إن الأيام كالصورِ، هي لقطات من مشاهد تنتهي، وفصول تكتب تاريخها على سطور ذاكرتك، لتظلَّ حبيس ذكريات تحملُ بداخلك إحساسًا قد لا يتكرر. • إن استطعَت أن تغير من نظرتِك، ومنحت عقلك مساحةً أوسع للتفكير والتأمل، وتخليتَ عن تعصبك لأفكارك وآرائك، ونظرتَ في أفكار غيرك، وإن كانت مخالفة لأفكارك، وقارنتَ بين دليلك ودليل غيرك، واخترتَ منها ما يوافقُ الحق والصواب لا ما يوافق هواك، وأصغيتَ إلى صوتِ الآخر كما تُصغِي إلى صوتك - سيتغيَّر حينها تصوُّرُك الضيِّق للمشهد، كما سيتغير معنى القالب والصورة بداخلك، وستشعر أنك ترتدي لكل يومٍ ثوبًا جديدًا، ينسجم مع مجرى الحياة التي تتجدد.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (5) د. صفية الودغيري • اصنَعْ لك فضاءً أرحب من فضائك الضيق، وتنفَّسْ نسمات الحرية بلا اختناق؛ كي تلتذَّ بمباهج الأفراح، وتزفَّ إلى مواكب المسرَّات، وتسعد بطُمأنينة النفس، والسياحةِ في رياض الإيمان، وتنعم بأنوار العلوم والمعارف، والتدبر في أسرار الكون والكائنات. • حبك لن يكون كبيرًا وعظيمًا إلا إذا حرَّك فيك شعورًا صادقًا وخالصًا، وبعَث بداخلك رسالةً عظيمة تسع أكثرَ من اثنين، وتحتوي أكثر من قلبينِ وعقلين. • ليست الفرصةُ دعوةً مجانية تبسُط على موائدها آمالَك العريضة وأطباق أحلامك في لحظة اشتهاء، وليست الفرصة لقاءً ساحرًا يرف له خاطرك ووجدانك، فتنتشي لذَّته كجرعات ساخنة من فنجان قهوتك كل صباح، بل أنت مَن تصنع الفرصة حين تُنتج وتُبدع وتبتكر، وإن انعدمت حولك الأسباب وذُقت المرار والعذاب، وأنت مَن تنجب الفكرة تلو الفكرة، وتشق لها طريقًا مُعبَّدًا كي تمضي في ارتقاء، وأنت مَن تسعى وتكافح بهمة ونشاط، حتى تدرك مطمحك الأسمى وتبلغ مبتغاك. • تظل الأماكن خالدةً في الذاكرة، تبعث فينا شجنَ الحنين إلى وصل الأحبة، بأشواق تتلهف إلى لقاءٍ يجمعنا على أرصفة العابرين وفي محطات الحياة وفصولها، وترحل بنا الذكريات الجميلة فنَسيح في فضاءٍ يُوحِّدنا، تتناجى فيه أرواحنا وتتآلف في رحلةٍ تصل ماضيَنا بحاضرنا. • أنت لا تحتاج إلى أن تحقِّق كل أحلامك كي تشعر بالسعادة والاغتباط، بل يكفيك أن تحقق حلمًا يخلِّد أثرَك الطيب وعملك النافع، ويبلغ رسالتك النبيلة التي تستحق أن تحيا بها سعيدًا، ويكفيك أن تمدَّ مَن حولك بشريان الأمل الذي انقطع، وتُقوِّي فيهم الطموح الذي انحسر، وتشُد أَزْرَهم بوصل أسباب الرجاء؛ كي يهبُّوا لتحقيق أحلامهم بعزيمة ونشاط. • حين يتحوَّل قلبك إلى زنزانة مظلمة، ستموت بداخلك المشاعرُ والفضائل الإنسانية، وسيختفي ضميرك الصاحي خلف قضبان المطامع المبتذلة والرغبات الدنيئة، حتى تصير عبدًا صاغرًا لأساطين المادة، خاضعًا لسلطان أشياخ السُّؤدد والمجد، ومسخًا بشريًّا هجينًا دخيلًا على أبناء جنسك وقبيلتك. • حين يذوب الألم في مجرى العروق الضيقة، تخرس الحروفُ والكلمات على الشفاه المطبقة، فيهيج في العيون بريقٌ صامت يستجدي الآمالَ الراحلة. • لا تزرَعِ الشوك في حدائق الطامحين، فتقطع براعمَ أحلامهم قبل أن تزهر على أغصانها، وتطفئ شموعَ أفراحهم وقناديل آمالهم قبل أن تشرق وتتوهج في سمائها. • صمتُك في وجه السفاهة حكمةٌ تريح ذوي النباهة، وصمتُك في وجه اللئام كفاية المحتاج إلى الأمان والراحة، تردعُ بحده غيَّ مَن أسرفوا في اللغو والضلالة، وتصُد مَن أغرقوا ألسنتهم في بحور النذالة والتفاهة، وصمتك في وجه أهل الغباوة رجاحةُ عقلٍ تنبو عن الغفلة والجهالة، وصمتك فطنةٌ تقطع بنصلها حبلَ الثرثرة وفضول الكلام والهذيان. • الكلمة في موطن الثقلاء وأهل الفتن والأهواء تتجرَّع المرارة، فألجِمْها بلجامٍ يوثقها بالحصانة والمناعة، وصُنْها عن كل فِرْية مستعارة، وارتَقِ بها منازل أهل السمو والفضيلة والكرامة، وارفَعْها إلى قمم أهل المجد والشهامة. • أيامك كالصور، ولكل صورة تقاسيم مختصة بها، وجمال آسِر، وجاذبية ألوان وأشكال تميزها، ولكل صورة تاريخ يُحدِّد هُوِيَّتها، وجغرافية خاصة بوجودها، ولكل صورة مكانة خاصة ومنزلة في الذاكرة، ومَشاهد تنتهي عند حدود فصلها وميقاتها، ومشاهد قد تستمرُّ فتربط وجودها بوجود من تماثلها في التجارِب والأحداث، ولكل صورة إحساسٌ مختلف، وشعور منفرد لا يتكرر. • إن استطعت أن تُغير من نظرتك الحسيرة، وتحررت من تصوُّرك الضيق للحدث والمشهد، وتخلصت من فلسفتك المعقَّدة، ونمطيَّتك الجامدة، فستشعر حينها أن الانتصار للحق أَولى من الانتصار لكرامتك ولاعتزازك بنفسك، فإذا اجتهدت فأخطأت، عليك أن تصحح أخطاءك، وإذا انحرفت عن المنهج الصواب، والمعتقد الصحيح، والطريقة المثلى، عليك أن تردع نفسك عن غيِّها وهواها، وإذا جانبت الحق، وجُرْت في الحكم، عليك أن تعود إلى التوسط والإنصاف والعدل، فلا تأخذك العصبيةُ والجهالة فتصدك عن قَبول القول الراجح، والإذعان لصاحب الدليل الذي يفيد العلم اليقيني، ولو خالفك الرأي. • إذا تغيَّر المعنى والمحتوى بداخلك، سيتغير كذلك شكل القالب والصورة، وستشعر حينها أن المعاني والآراء والأفكار البشرية لا تُصاغ لتوضع في قوالب ثابتة لا تتغير في الشكل والمحتوى، فهي ليست إيمانًا ثابتًا، أو يقينًا راسخًا، أو اعتقادًا جازمًا لا يقبل النقاش أو الخلاف أو الشك، بل الأفكار والرؤى والمفاهيم والنظريات هي اجتهادات بشرية، قابلة للتقويم والتصويب، والمعارضة والنقد، والقَبول والرفض، وهي تتغير بتغير الزمان والمكان والواقع. • إننا لا نتكرر، كما أن الأيام لا تتكرر في كتاب الحياة، وإننا نشبه صفحاتنا حين تفتح ثم تطوى طيَّ الكتاب، ونشبه شموعنا الموقدة في سراج الحياة، ونشبه الشمس عند انبعاثها وانبساطها على الأرض، يسطع نورها فيتوهَّج ثم يخبو ببطء ويغرب، أو كأننا إيماضُ برقٍ أضاء الكون ثم أفل، أو ثغر تبسَّم للدنيا باغتباط ثم أطبق على همٍّ وكدر. • مهما مضى من فُصول عمرك، تظل ذكرياتك الجميلة هي شهد ماضيك وحاضرك، وهي سجل تاريخك الذي يمتدُّ من نقطة الابتداء حتى نقطة الانتهاء، وهي نبضاتك التي تطرق صدرك دون توقف، وأنفاسك التي تسري في عروقك، وتغاريدك الشادية على عرش قلبك، وبسماتك التي تتورَّد على وجنتَيْك لحظات فرحك، فتمسح عن خدك تجاعيدَ الحزن، وتجفف دمعاتك حين تنسكب من الألم والقهر. • مَن جمع بين جمال الظاهر والباطن، فقد جمع بين الحُسْنيينِ، وأدرك قيمة الجمال الحقيقي حين يحتوي اللب واللباب، وغنم الصدف البرَّاق وحاز الدر والجوهر. • إن شعورك بالانهيار ليس بداية السقوط، بل هي حالة مؤقتة تفصل عاطفتك الجياشة عن رباط العقل والحكمة والاتزان، فتضعف قواك وتنكسر، ثم تنتقل بعدها إلى حالة من القوة وفورة النشاط، والشعور بالاستقرار العاطفي والنفسي، فتفتح أمامك آفاقًا جديدة تحث همتك على الإنجاز والنجاح. • إذا اكتملت الحقيقة في عقل رجل واحد، واستأثر بالعلم والمعرفة كِبرًا وخُيلاء، لم تنفَعْه وإن بلغ منتهاها وأدرك غايتها، فكانت عليه خزيًا ووبالًا. • إن لبَّ اللسان البليغ أن يسد خوارمه برأي سديد، ويُوثِق لجامه بعقل رشيد، ويُصغي إلى حكمة قلبٍ نَبيهٍ، محبٍّ صادق الإحساس والشعور النبيل، قبل إفصاحه عما حواه الصدر من الفكر السامي، وما ارتقاه من درجات العلم النفيس. • إذا اغترف اللسان من وعاء قلبه النتانة والقذارة، نطق بالهوى فأصاب الناسَ بالقذى والشرر، وقذف أهل الاستقامة والصلاح بالطوب والحَجَر، فصار حالُه كالعُود الرطيب إذا تيبس وانكسر، وغصن البان إذا جفَّ واحترق، والماء الحلو إذا أصابه الكدر، ونضب مَعِينُه الصافي وانحسر. • تغيب الحقيقة ويتأخَّر ظهورها؛ لأننا لا نبصر في مرايا الروح والبصيرة، فتعكس مرايا الجسد الحقيقة وهمًا وسرابًا، وخيالًا وظلًّا باهتًا كلَوْنِ الخريف على الأوراق ينتحب، وكنورِ الشمس على مشارف الغروب ومغيب الشفق.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (6) د. صفية الودغيري • عندما يفقد الإنسانُ خارطتَه، وبوصلةَ إيمانِه، وثقتَه بنفسه، يتحوَّل إلى مَسْخ بشري يبحث عن أي سبب من أسباب الحياة الفانية كي يتعلقَ بأهدابها الواهية، ويتسلَّق خيوطها المنقطعة، ولو كانت خيوطَ السُّمعة والشهرة، والتفاخر بالمنصب والوظيفة، والألقابِ والشهادات العلمية. • كي ترتقي مقاماتِ العلم وتسموَ إلى مراتبه العليا، عليك بالمُضِي في طريق الكدِّ والكدح، وسلوك سبل السلام، وولُوجِ أبواب العلوم والمعارف، والصدود عن الخوض فيما يخوض فيه الخائضون من أهل الشِّقاق والنفاق، والتعصبِ المَقيت، والخلاف البغيض، واجتنابِ مواطن الضعة والهوان، والاستخفاف والتسفيه. •تبدأ الغربة قويةً كالإعصار، وجامحة في الثورة والصهيل، ثم تنتهي عند فرحة اللقاء وغياب مشاهد الآلام والأحزان، ورحيل فصل الخريف وحلول فصل الربيع. • يكون اللسان أصدقَ في الإفصاح، وأنصعَ في البيان والإفهام، إذا خلصت المقاصدُ وصَفَتِ النِّيات مِن الفساد والدخن، ويظل اللسان يجاهد ويناضل، ولا يخترق حاجز الإبهام، ويغلب عليه الكذبُ والافتراء، وشهادة الزور، والادعاء بالباطل والبهتان، إذا فسَدَتِ المقاصدُ وانحطَّتِ الغايات، وخالطت الشوائبُ النِّيات، وامتلأت القلوبُ بالعلل والأسقام. • إذا خبا وهجُ البصيرة، ظهرت الحقيقةُ بين الملامح والصور؛ كأطياف وأخيلة في ظلام مطبق، ويكون انكشافُها خلف ستار الجاذبية باهرًا للعين، آسرًا للقلب، كأَيْكةٍ وارفة الظل، أو روضة من رياض السعد ناضرةِ الحسن، إذا جنَّ الظلام لفَّها حجاب الستر، فتروم النفس أن تشق حجابَها وتمزِّق أستارها، وتصرف وحشة التعلق بذاك الجمال الفتان، الملفوفِ بلحاف الصمت والكتمان. • تمسَّكْ بالأمل على الرغم من مصارع الأحزان وتوالي النكبات؛ فلن تقدرَ على أن تُصحِّح وتغير وتنتج، وتتفوَّق وتنجح وتُبدِع، وأنت تشحن النفسَ بالكآبة والقنوط واليأس، ولن تتلذذ شهد الأفراح وأنت تحمل فوق رأسك الأحمالَ والأثقال، ويهزمك الانكسارُ تلو الانكسار. • إن مَن يؤمنون بما يحملونه من آمال وأحلام عريضة، وأفكارٍ ورسائلَ عظيمة، يُدرِكون مطامحَهم البعيدة المنالِ، ويَبلُغون غاياتهم المنشودة، ولو كان الطريق أمامهم شاقًّا وعسيرًا. • يُولَد الألم صغيرًا، ثم لا يلبث أن يكبر، وينتهي كما بدأ صغيرًا كالبرعم، فلا تقِفْ حيث أنت تتجرَّع غصص المرِّ، ولا تَدَعْ غضبك يثور فـي عروقِـك، ويمتزج بصبيب الدم، فتحترق مِن الكمد، وتجـف ينابيعك من القيظ والقحط. • أنت لا تحتاج إلى مَن يُقاسِمك معاناتك، أو مَن يحملها عن كاهلك؛ لأنك وحدَك مَن تشعر بأنينِ ألَمِك المزروع بصدرك، ومخاض أوجاعك حين تشتد ولا تهدأ، ولن تجد مصطلحاتٍ تحتوي معانيها العميقة كما تحتويها في رفوف ذاكرتك، ولن تجد لغةً تُفصِح عنها إلا لغة إحساسك الصادق، ولن تجد في استعمالات البشر حسابًا يقيسها بالعدد، أو ميزانًا يَزِنُ حجمها ويقدر مثقالَها الحقيقي، إنما هي جرعات مِن كأس الحياة تسقيك الحلو والمر. • إذا غضبتَ فلتغضب انتصارًا للدينِ والحق والعدل، وغَيرة على المبادئ والفضائل والشرف والعرض، إذا غضبتَ لا تقِفْ في مكانك منتصبَ القامة كالطَّوْد، تارةً تُهدِّد وتتوعد، وتارة ترغي وتزبد، وتارة تنفجر كالتنُّور الملتهب، وتارة تهيج وتعلو كالموج الهادر، وتارةً تضطرب كالعواصف. • إذا غضبتَ فلتكن حليمًا لا فظًّا غليظَ القلب، ولا تصرخ كالملدوغ، وترفع صوتك مزمجرًا كالرعود، تهز الأرض تحت أقدامك، وتجوبها بالطول والعرض. • لا تصبَّ جام غضبك وحُمَم ثورتِك على رؤوس الخلائق، بل يكفيك أن تجلس إن كنتَ واقفًا، أو تقف إن كنت جالسًا، وتغادر المكان وتتنفس خارج إطارك الضيِّق، وتستحم بهُطُول الغيمات، وتتطهر من مائها المنهمر. • لو تأمَّل الإنسان في تلك الروح التي لا يملك أن يحملها على أكفِّه، أو أن يحيط عقله القاصر بماهيتها والجوهر، لأدرَكَ - فيما يُدرِكه - أن هذا الجسد الذي يدبُّ على الأرض هو أوهن من بيت العنكبوت حين يكون خلاءً من إشراقات الإيمان، وقناديلِ البصيرة المستنيرة بنور الله. • لا تصرُخْ؛ فلن تجد آذانًا تُصغِي إليك وأنت تصرخ، وصوتك العالي هو ثورةٌ جامحة سرعان ما ستتوقف، لتتجرع بعدها مرارةَ الإحساس بالانشطار والانقسام والاغتراب. • لو تأمَّل الإنسان في الآفاق على امتدادِ الكون الذي لا يحده البصر، لأدرَك أن ما حواه من أسرار ونواميسَ يَعجِزُ عن الإحاطة بها، وأن أنفاسَه التي تصعد وتنزل لا سلطانَ له عليها؛ إنما السلطان لمَن أودع هذه الأسرار بقدر محدود مَن اصطفاهم من خلقه وآثرهم بالعلم والمعرفة. • كل نهضة لا تُؤسَّس على مبادئ الدين الصحيح، تكون خلوًا من كل مكرمة وفضيلة، وخطرًا يُهدِّد كِيان الإنسانية وعمارة الأرض؛ لهذا كانت بعثةُ الرسل لإعادة البناء وتأسيس القواعد، وتحصين النفس، وتجديد الدين، ونشر التوحيد، وتخصيص العبادة لله وحدَه، وتحرير الإنسان من مظاهر الوثنية والشرك. • لولا بعثة الرسالات السماوية، لَمَا تهذَّبتِ النفوس ولا استقامَت، ولا أدركت البشريةُ ما أدركَتْه مِن الرقي والتمدُّن، ولظل العباد محكومين بنظام الغالب والمغلوب، الذي تتحكم فيه قِيَمُ المادة والشهوات والمطامح الساقطة. • إذا رفَّ جناح الشكوى، هزَّك الحنين إلى وُلُوج رَوْض السعد، هناك ستنتشي لذة العبادة والذكر من قطارة الشهد. • إذا تأخَّرتَ في اتِّخاذ القرارات الحاسمة في ميقاتِها المناسب، قد تكون النتائج والأضرار وخيمةً، ويتعذَّر عليك أن تُصحِّح أخطاءك أو أن تبدأَ مِن جديد، وقد يصعب عليك أن تختار في زمنٍ انفلت فيه الرباط من بين أصابع يدك. • لا تُقلِّد جِيدَ المعالي ما يزريه، فتُلقِي بنفسك في لُجَّة الأدناس وشقوة الفتن، فحِلْية المرء شرفٌ يعتدُّ به، ومكارم أخلاق وحسن خلالٍ يَرُوم بها عالي القمم، ولا يقعده عن بلوغ غاياته خوفٌ ولا وَجَل. • أنت أيها الإنسان فردٌ ضمن مجموعة، ولن تكون عصبةً قوية إلا إذا شعرتَ أن كل فرد مِن هذه المجموعة بمثابة اللَّبِنة، التي لا يكتمل البناء حتى تتراصَّ مع بقية اللبنات، وتتلاحم مع بعضها البعض، وأنك عضوٌ من بين أعضاء هذا الجسم البشري، الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. • إذا أردتَ أن تعتلي صهوةَ السُّؤدد والمجد، عليك أن تنأى عن خوضِ ساحات الهزل ومراتعِ الزلل، وكنتَ ذا سمتٍ حَسَن وهيبة ووقار، وذا إيمانٍ ويقين ومِن غرة جبينك يسطع، فالنخلة الشامخة لا تُثمِر إلا الرُّطَب من العذق، وفي ظلها تطيب النفس وتلتذ. • لكل باب مغلقٍ مزلاجٌ يزاح ورتاج يُرفع، وكذلك هي صفحاتُنا، لها مغاليق ومفاتيح، فمَن أجاد منا اختيار عنوانٍ لصفحته، فقد أجاد التعبير عن هُوِيَّة كتابه، ورسم للقارئ معالم فكره، وخط طريقًا لثقافته ومقومات شخصيته، وقدَّم لنفسه بمقدمة وتمهيد يتحدَّث عنه ويخبر عن فحوى رسالته ومضمون خطابه. • إن تسَلْ عن المرء فسَلْ عن مبطنه والمخبر، ولا يغرك من أحواله جمالُ الأسلوب وحسن المنطق، ولا رشاقة الجسم وسحر المظهر. • ليس عيبًا أن تشعر باعتزازِك بذاتك واعتدادِك بأمجادك، حين تكون أهلًا لتعبِّر عن ذاك الاعتزاز والثقة بالنفس، بلا غرور ولا مباهاة ولا خيلاء. • لا تجمِّلي طفلتَك بمساحيق وجهِك الذي قد شاخ، ولا تُعوِّديها على ألوان الجمال المستعار، فبراءةُ طفولتِها هي البهاء الخلَّاب، وتمام الحُسْن البديع الصفات والخِلال. • يقولون إن للحب عيدًا، فهل جعلوا لرفيف النبض عدًّا وحسابًا بالساعات والأيام؟! وهل جعلوا للقلوب الخافقات بالحب عيدًا؟! وهو في كل الأعياد شمسٌ لا تغرُبُ عن مُحيَّا الشروق، وله دفءٌ في كل الأيام والساعات والفصول.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (7) د. صفية الودغيري • القلوب المؤمنةُ لها عيونٌ تُبصِر من حدقات شرايينها، ولها نبضاتٌ صادحة بأغاريد الحقيقة في ميقاتها، ولها صبيبٌ يجري إلى حيث مستقرُّها الآمن، الخالص مِن الشوائب والأخلاط المُردِية؛ فالوعاء إذا صفَا من الكدر والعفن سقَى شرابه الظمآن فارتوى. • زِنِ الأمورَ بميزان الإنصاف والعدل، ولا تجعَلِ الرِّفقَ يميل بك مَيلةً واحدة إلى ما يجيش به قلبك الرقيق، فتغفُلَ عما يُلجِمك به المنطق السليم والرأي السديد، ولا تأخُذْ بالشدة والقسوة في كل أحوالك، فتستبدَّ بحقوق غيرك، وتقصِّرَ في أداء الواجبات، والوفاء بالعهود والالتزامات. • اخلَعْ عنك رِداءك الملوَّث بالأنجاس والآثام، وارفَعْ أكفَّ الضراعة بالدعاء، وناجِ ربَّك في الخلوات، والبَسْ لِباس التقوى والعفاف، وتجمَّل بتاج الهيبة والوقار، وتزيَّن بعقد المكارم وحسن الخِلال، كي تسلمَ من الوقوع في شر المهالك، وتحيا في سلم وأمان. • سعادتُك تشرق في لحظاتِ شعورك بالافتقار إلى الله تعالى، فتعبر عن ذاك الشعور بحواسِّك، وحركاتك وخلجات أنفاسك، وعند قيامك وقعودك، وصعودك ونزولك، وعند سَعْيك وكسبك، وسعادتك تتجدَّد كلما أقبَلْتَ على الله تعالى، وتلذَّذت بقربه، واستغنيت بذكره عن ذكر مَن سواه. • إذا كنت بلا إيمانٍ، فأنت لستَ إلا وعاءً فارغًا مِن محتواك الطيِّب، أو قشرًا يابسًا انسلَخ عن لبِّه فجفَّ في عِرْقه ينبوع الحياة، أو جسدًا يبهر الناظرين إليه، وتنحسر الأبصار عن اجتلاء حقيقته وجوهره، كأنك في وجودك بلا بصمات تخلد آثار سيرتك لمن سيخلفك في حمل رسالة الإيمان والالتزام. • الكلمات الصادقة كهَطْلِ المطر، تسقي القلوب الكالحة، وتروي العروق الضيقة، وتشق طريقًا رحيبًا وسط مضايق الصدر، ولها روحٌ تسيح في الآفاقِ، وتقابل أرواحًا تُماثِلها في الصفاء والنقاء؛ فالصدق إذا ما صفا مَورده وتدفَّق صبيبًا في العروق، لبَّى اللسان النداء الصداح، وهتف بالقلم المداح أن أرسِلْ ينبوعك الصافي، واملأ ينابيع السطور بالرُّواء، وحسن المنطق وعذب الكلام. • مِن نعم الله تعالى علينا أننا لا نتشابه في الآراء والأفكار والتصورات، وأذواقنا تختلف، وعيوننا تبصر الألوان بحسب ما تهواه وتميل إليه، وكذلك شأن السمع وباقي الحواسِّ؛ فالاستقبال والتلقي والسماع والمشاهدة ليست إلا تعبيرات تتشاكل وتتواءم فيما بينها داخل البناء الذاتي والتكوين الشخصي لكل فرد، ليتحقَّق بسبب هذا التنوع الانتفاع العامُّ بالعلوم والمعارف، والاستفادة من مصادر الثقافة المختلفة المشارب والروافد. • مَن ليس له ماضٍ فليس له حاضر، ومَن لا يملك نقطة البداية ويتعجَّل نقطة النهاية، فأنى له أن يُدرِك باقي النقاط ويبصر فراغات البياض، وأنَّى له أن يتعلم مِن تاريخه دروسًا للدراية والاعتبار. • تلذَّذ وأنت تتنفَّس الهواء بلا اختناق، قبل أن يضيق صدرُك بأنفاسِك في لحظات الشدة والإعسار، واغنَم أنفاسك في طاعةِ الله تعالى، واعلم أنك تملِكُ بتلك الأنفاس أن تسعى وتنجز، وتنشر الخير والنفع والإصلاح. • حياتك أسمى من السقوط مع مَن سقطوا من القمة إلى القاع، وساعاتك أنفس من أن تبذرَها لأجل إرضاء مَن لا يرضيهم الحب ولا العطاء. • اصنَع الممكن الذي تحلم يومًا أن يكون، واصنع اختيارك كي تكون لك حياة ويكون لك وجود، وكن أنت كما تحب أن تكون. • كن أنت نقطةَ البداية، واصنع لك وطنًا خارج مستعمرات النقاط الحُبْلى بالجروح ومخاض الاحتلال، وكن حرًّا بتلك الحروف، وطليقًا بأجنحة الكلمات، ودَعِ الكلام يمضي ولا يتوقف عند نقطة الانتهاء. • تحرَّر من الأجهزة قبل أن تختنق أنفاسك بتلك القيودِ والأسلاك، وعُدْ إلى مرافئ الإحساس البهيج بلذَّة القراءة، وأنت تقلِّب صفحات كتابك المختار، واستنشق عبير الأوراق، وتنفَّس هواء الحبر والمداد، وتذوَّق حلاوة التفكير والتخيُّل خارج ضيق الأفكار وحصار السطور المتشابهات. • دَعْ بسماتك تُزهِر في عيونك، وتولد في حدائق الأنوار المشرِقات، وكن طروبًا بألوان فصولك وصدى الأصوات الشجيَّة الألحان؛ فالحسن يُولَد على صفحاتٍ زينها الفرح بحلل الابتهاج. • إن كنتَ في كل أحوالك تسعى لإرضاء الناس، فستظلُّ منقادًا لاختياراتهم ومستسلمًا لانتقاداتهم وملاحظاتهم في كل صغيرة وكبيرة، ولن تنعم بحريَّتك واستقلاليتك في التعبير عن أفكارك وآرائك واختياراتك، وستظل مقلِّدًا لغيرك ولن ترقَى كي تكون مبدعًا ومجددًا. • إذا اشتدَّ يأسُك وتمكَّن منك، ستعصف في حناياك مهج الاشتياق لبراعم الأفراح، وسيحنُّ الزهر في روضاتك لإشراقات أحلامك قبل المغيب، وسيلهج لسانك بالدعاء، ويصدح قلبك المشتاق على غصن الآمال الرطيب. • نحتاجُ إلى أن نستجدي مِن كتاب ماضينا ذكرياتٍ جميلة، كي نُقبِل على حاضرنا ومستقبلنا بلذَّة وانتشاء، ويسري إلى أوصالنا صبيب الدماء، ويبعث في فصولنا جذر النبات، فننتشي نسمات العطر الفواح، وتخضر أوراق خريف الأيام بعد الذبول واليباس. • كأن هذه الذاكرة هي الصديق الحميم والعدو الخصيم، فتارةً تُعيد إلينا رسائل الحنين للأجمل والأبهى، وتُذيقنا الشهد يقطر حلو المذاق من جديد، وتارةً تُعيد إلينا رسائل السفر الطويل، مشحونة بسطور الأسى والحزن، وتارة تفتح رسائلنا القديمة بعد أن خمدت جراحها منذ زمن سحيق، كي تريق على بياض الذاكرة نزيفَ أوجاع هبَّت منذ عاصفة الخريف. • دَعْ ثوبك الجديد يَرْتُق تمزُّقات ثوبك القديم، وأوقِدْ فَتيل الشوق كما كان بأمسك القريب، بلا أنات أوجاعك عند ميقات الوداع الأخير، ولا آلام تعتصر فؤادك عند الرحيل. • كتاب حياتك مفتوحٌ، يُسجِّل آثار خُطاك حيثما حللتَ أو ارتحلتَ، ويعدُّ أنفاسك اللاهثة ونبضات قلبك الجامحة، ويُنصِت خلسةً إلى طقطقات أقلامك الحالِمة، ليحفظ عنك أحلامك ومطامحك الشاردة، ويضم إلى سطوره أجزاءَك المبعثرة، وتفاصيلك الصغيرة والكبيرة، ورسائل العمر المنسي، ليذكرك بها في تاريخٍ لن ينساها ولن ينساك. • عليك أن تتأمَّل وتُفكِّر في هذه النفس التي تحملها وتنوء بحمل أثقالِك، وأن تسبر أغوارك الدفينة، وتُمِيط اللثام عن أسرار جمالها الشفيف، وتَلِج أبواب مكتبتك العامرة بالنفائس والذخائر، كي تكتشف ما قُدِّر لك أن تجمعه خلال فصول أيامك الماضية، وتحاسب هذه النفس على كل صغيرة وكبيرة، قبل أن تحاسب وتشهد عليك حواسُّك وأنفاسك، ويطوى كتابك وتعرض أعمالك. • اختَرْ لك حياةً أفضل من اعتكافك بين رفوف الذاكرة المشحونة بنبضاتك الخامدة داخل محراب قلبك الكسير، ودَعْ عنفوان شبابك يُشرِق مِن جديد، كي تطرب روحك وتصفق كطائر هزَّه الشوق إلى غصنِه القديم. • وما أنت أيها الصباح إلا فرحة قد أشرقت على خد الحياة، فأزهر الثغر وتبسم، وبعدها حل المساء وهو يتدلل، وأرخى سدله على شقه الأحمر، كي يمد الآمال بشريان الوصل بين الشروق والغروب.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (8) د. صفية الودغيري • مَن شُغِف حبًّا بما جُمع بين أيدي الناس مِن نعم وهبات، وألهاه حبُّ الدنيا والإقبال على الشهوات والفتن والملذَّات، غرِق في بحر من الأهواء، وذهبت ريحه في كل اتجاه، وتجاذبَتْه العللُ والأسقام، وران على قلبه الران، فصدِئ كما يصدأ الرتاج، وأظلمت بصيرتَه الغفلةُ والضلال، وسوَّدت صحيفتَه الذنوب والآثام، فسقط به في المنحدر والقاع، ولم تنفعه صولةُ المال والجاه. • مَن لم يقنع بسقاء ولا زاد، ولا التذَّ بطعام ولا شراب، ولا سكن إلى مرقد أو وِساد، ولا ارتاح له خاطرٌ أو بال، سيظل في نصب العداء تلو العداء، ومقارعة مَن سما منابر العلم واعتلى المناصب، وأدرك الحظوة والجاه، ولا يُسعده إلا زوالُ النعم وحلول النقم على رؤوس أصحاب المنحِ والعطايا، وسقوط مَن ارتفع في المراتب والدرجات العلا، وبُغض من أفلح وارتقى. • حين نخرُج إلى هذه الحياة الدنيا، فإننا نلتحف غطاءً أبيض مطرزًا ببشائر الميلاد، يزف أرواحنا النقية الشفَّافة، وحين يحل ميقاتُ الرحيل عن الديار ومفارقة الأهل والأحباب، نُودِّع الحياة الفانية ونُوضَع في الأكفان، وتلبسنا بلا طرازٍ، ويغطينا المسك، ويسجينا البياض، فتتخفف أجسادنا من أثقال الدنيا والأحمال، وتزف الأرواح الطاهرة إلى الروضات، وتبشَّر بالنعيم المقيم في الجنات، حاملة صحائفَها البيضاء المليئة بجلائل الأعمال وفضائل الخيرات، فالأبيض لا يليق إلا بأهل العفة والتقى والإيمان. • لحظات الموت تذهلنا مهما كنا أقوياء، وترعبنا مهما كنا نحمل مِن يقين وثبات وإيمان، ولحظاتُ الموت أكبر من شموخنا، وأكبر من مشاعر الحب والكره، والعيون حينها لا تملك أن تطيل النظر في وجوه مَن تحب وتكره، كي تهمس إليهم بالكلمات الأخيرة والحروف التي كانت مبعثرة على أرصفة فصولها الماضية. • إن لمعة الشعور بالتعلق بأهداب الحياة الفانية تنطفئ في حدقة تودِّع الشروق، وتصهرها حرارةُ الموت وسكراته، وإن الحقيقة التي تتجلَّى أمام الأحياء تختلف عن تلك التي يتجرع غصصَها ومُرَّها ذاك المودِّعُ الراحل عن ضفاف الحياة وشطآنها، بلا حقائب ولا تأشيرة سفر، ولا رسائل، ولا حروف ولا كلمات، فالموت يحتوي كل ذاك بين دفتَي كتابه وسطور أسراره العجيبة. • مشكلتك تكمن في العقدة الآسرة لطريقة تفكيرك وأسلوب تحليلك للمشكلة، فلا تبحث عن ذريعة لمساوئك وأخطائك، ولا تبتكر الأعذار والمبررات لتصرفاتك المنحرفة، فمَن كان ذا منهج صحيح في التفكير وإدارة الوقت، يتخذه منحاه وطريقته المثلى في السلوك والمعاملات، ومَن تعوَّد على أن يفيد ويستفيد، ويعلِّم ويتعلَّم، فلن تتغير عاداته الحسنة بحسب الظروف وتبدُّل الأحوال، فمَن شبَّ على شيء شابَ عليه. • إن العين الناقدة تُبصر الحقيقة بجلاء، وتكشف العيوب والأخطاء التي قد تختفي خلف ظلال الأذن غير الواعية بفنون الكلام، فليس مَن سمِع كمَن رأى فأشرقت بصيرتُه فوعى. • هي أخلاقنا، إن لم يزيِّنها المعروف بفضائله، ولم يغرسها الإيمان في بساتينه وحدائقه، صارت سوقًا يتاجر فيه بالأعراض، ويساس فيه الخلائقُ بلا عقل ولا ميزان، وتُساق فيه القيمُ إلى كسادٍ وبوار، فأين نحن من أخلاق لا تصم الجباهَ بالخزي والعار! • لا يليق بالجواهر واللآلئ الثمينة إلا أن تحتويَها قلائد الحسان، وأن تنظم في عقد فريد، ولا يليق بالمعاني الجميلة والمعارف إلا أن يحتويَها إكليل من الحروف والكلمات، يزيِّن سطور كتاب يسطع بجواهرها ولآلئها النفيسة. • إذا أوحت إليك هذه النفس الأمَّارة بالسوء بخواطر السوء، فلا تُصْغِ لعُجمة لغتها التي لا تفقه أساليب خداعها ومكرها، وإلا ستورثك الشعورَ بالهزيمة في لحظات انكسارك، وستصدك عن الصاحب الأليف والسند المعين، وستصرفك عمَّن يشد ساعدك، ويبعث فيك النشاط والهمة، وستطفئ في حنايا روحك فتيلَ الطموح، وستفصل شريانك عن شريان الحياة السعيدة. • أمُّك هي وطنك الذي لا يجود الزمان ولا المكان بمثله في الأمان والسلام، وإن حُزْتَ الدنيا بحذافيرها، وملكتَ كنوز الأرض بأسرها. وأمك هي قلبك النابض الخافق في صدرك على الدوام، وأنفاسك التي لا تخونك وإن خانتك أنفاسُ الحياة، وسكنك الذي يحتويك كما يحتويك اللباس. فيها الدفء، وفيها الحب والوداد، وفيها الحنان والرحمة المهداة، وفيها روحك بلا انفصام، وفيها أنت كما أنت بمحاسنك وعيوبك، وأفراحك ومسرَّاتك، وأحزانك وجروحك والآلام، وفيها أنت بقوتك وضعفك، وكلك وأجزائك بالتمام والنقصان، فأنت حبلها المشدود إلى رَحِمها منذ الميلاد إلى الوفاة، وأنت حملها ومخاضها، وأنت طفولتها وشبابها، وهَرَمها وشيخوختها، وفصولها الأربعة، بكل الألوان والصفات، ومهما أحببت فلن تجد نظير حبِّها في قواميس الحب والانسجام، ولن تجد لغةً تحاكي لغاتها في التعبير والإفصاح بلا مجاز ولا نغمات نشاز. • تجنَّبْ أن تخطئ في حقِّ غيرك خطأ أكبر من قبول اعتذارك، أو أن تجرح أحدًا جرحًا غائرًا في أعماقه، يوغر صدره ببركان من شرار الغضب والصدود، فيصهر ما وقَر فيه من حلمٍ وصفح وغفران. • الجمال ثريات في العيون تتلألأ، ورحيق يسقي الأرواح من مَعِين الشَّهد ولا ينضب، فيخلع عنها قيود الاستعباد، وأغلال الجسد الممزق بنصل الشهوات، والجمال في تلك النبضات التي لا يشيخ في شِريانِها الإحساس، ولا ينكسر في مجراها الصمود والشموخ. • حين يسكن الصمت أروقة العابرين، يمتطي الكلام صهوةَ فارس يناطح السحاب بسيف التحدي؛ كي يمسك قطر الحروف والكلمات قبل أن يجف في لحظة هطول. • حين يتسع ظمأ الحروب، يرتوي الكلام المكسور من دفق العيون، وتتسع السطور للآلام والجروح، وتهتز الأرض لجغرافية خرساء في زمن الصموت. • الطفولة قد تصنع رجلًا ناجحًا أو فاشلًا بالحياة، قد تؤسس مكتبة وثقافة وإبداعًا وإنجازًا وابتكارًا، أو تهدمها لتخلف جهلًا وتسويفًا وإخفاقًا، والطفولة هي تلك البراعم التي تزهر وتتفتح، والنباتُ الذي يهيج ويخضر، أو تنحني ويجف غصنها الأُمْلُود، ويصيبها الاصفرارُ والذبول، والطفولة يحتويها بيت وأسرة، وأب وأم لها وطن، فإن لم يتمثلا مسؤولية التكليف والرعاية، أخرَجَا للمجتمع أجيالًا تبيد أجيالًا، وأخرَجَا للمجتمع تخلفًا يورث تخلفًا، ودمارًا نفسيًّا يلازمها؛ فالطفولةُ هي المجتمع، وهي التاريخ المشرق أو المظلم في حياة الأمم.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (9) د. صفية الودغيري • مَن كان ذا علوم ومَعارفَ شتَّى، وكان لها مُجيدًا متقنًا، وحافظًا واعيًا، ومبلِّغًا مرشدًا، ستنير قناديلُه دروبَ التائهين والغارقين في عتمة الجهل، وستسطع أقمارُه ونجومه وتزيِّن صحيفتَه، وستُخلَّد ذِكراه ويُحتذى بسيرته. • حتى تنجح في تَحصيل العلم؛ عليك أن تضرب الأرضَ وتشقَّ مناكبها بحافر الجد، وتتحمَّل وَعْثاءَ السَّفر في سبيل التحصيل والطلب، وتُلازم شيوخ العلم وتُحاذي مَناكبهم، فتنتفع مِن مُجالستهم، وتزداد سموًّا ورفعةً في العلم، وتقبض بيدك على جمْر المحن ولا ينالك نصَبٌ ولا ضجر؛ فالغايات العظمى لا تُدرك إلَّا بالكفاح والمجاهدة، وشدِّ حزام المصابرة. • إذا لم يكن لك وجودٌ في الحاضر والمستقبل، ولم تكن لك مُساهمة في التأسيس والبِناء، ورسوخٌ في التغيير والإصلاح، ولم تكن سببًا في ضخِّ الدماء في شِريان الحياة، ولم تشارِكْ في صناعة التاريخ الحافل بالأمجاد - فمماتُك أكرم من إشباع بطونٍ تتغذَّى من رفات الضَّمائر، وترتوي مِن كؤوس الرذيلة والفساد، وتَثمَلُ مِن ظمأ الأخلاق. • الكلمات الجميلة تضمُّها بين الحنايا والضُّلوع، ولها تغاريد صادِحة على عَرْش القلوب، ووشمٌ يزيِّن الرسوم والخطوط، وتسقى مِن حِبر المآقي وكحل العيون، وذات حسنٍ بديـع الخيال قد تجاسرت على وصْلها القلوب، إذا أبصرتها العيون خالتْها قمرًا ساطعًا توسَّط عقد النجوم، وإذا هبَّت ريحها فاح شذاها فملأ الروابيَ والحقول في زمنٍ طويل المدود، كأنها نبـعٌ رقراقٌ مِن رشف الزهور سرى إلى الأرواح مع أول رفة شروقٍ بلا جسور. • حين تَقرأ وتكتب، ستتنفس ذاكرتك هواءَ الحريَّة، وستتعلَّم كيف تمارس طقوس الثقافة فلا تكون تابعًا ولا منقادًا للتقليد؛ فالقراءة والكتابة تُنشئ في كل يوم إنسانًا جديدًا، قد أنجَبتْه الفكرةُ الوقَّادة، وغذاه المعنى الجليلُ، وسقاه الأسلوب من كل عينٍ ما يناسب ذائقتَه اللغوية. • في ذاكرة الأقلام حقيقةٌ لا تنمحي، ترفع أعلامها في الأفق، وحقيقة يُخفيها ستار الصَّمت والشعور بالخوف والخجَل، كلَّما ارتفعتِ السدودُ والحدود، وامتدَّ حصارُ الاضطهاد والخنوع. • يندر أن يكون في هذا الوجود المادي قلَمٌ مِن لحم ودم، ولكن لا يَندر أن يكون في الوجود الإنساني قلمٌ يتمثَّل المعاني والأفكار بحِسٍّ عذْبٍ ووجدانٍ فياض، يكسر طوقَ الأقلام الجافة، ويحطِّم عيدانَ الأخشاب، ويصهر حصونَ الأقلام المرفوعة لنشر الاستعباد، كما لا يندر أن يكون في هذه الطبيعة التي فُطر عليها الإنسان مَن يُصغي لطقطقات الروح حين تحتوي رشفة الحبر والمداد فتمتزج بشريان الحياة. • كُتب على هذا القلم أن يُسقى كأس المذلَّة، ويَثمَلَ من مرِّ المحن، وكُتب على حامله أن يقاسي النَّصَب والعناء والتعَب، ويقلب له مَن عاداه ظهرَ المِجَنِّ، ويغرف السمومَ من أطباق موتى الضَّمير؛ حتى يتَّسع الخرْقُ، ويبلع شوك الصبَّار من ألسنةٍ تَعُبُّ من التجريح والقدح، بقَدْر ما حوى الصَّدر الملتاع مِن فَصيح الكلام وبليغه، وبقدر ما سَرى في مجرى القلم من مسيل المِداد والحبر. • مهما ابتعَدتَ عن مرساك ووطنك، وتشعَّبتْ بك الطرقُ والمنعرجات، ستهفو إلى حيث كنتَ، وستحنُّ إلى نقطة البداية؛ فالقلوب ترحل قبل الخُطى إلى مجالس الانبِساط، ولنسائم الذِّكريات هبوبٌ كهبوب نَسائم الربيع تحرك لواعج الأشواق، ولها أنوارٌ مشرِقاتٌ تُذكِّر بالأيام الخوالي قبل أن تتَّسع رقعة المطامِع، وتقوى جاذبيَّة الإغراء. • لا تكمن الغرابةُ في امتداد مَشاعر الحبِّ بين الزوجين في مختلف الفصول العمريَّة؛ إنما في خروج الحبِّ عن المألوف لدى جيلٍ لم يتعوَّد على السموق في المشاعر، والنَّقاء الروحي والصَّفاء، فحين يفقد الحبُّ هويَّتَه، تبرد جذوةُ المشاعر، ويخبو وهج المودة والرحمة، وتضيع معاني السَّكَن في الحياة الزوجية. • ستخبرك فصولُ العمر أنَّ في القلب أوراقًا لا تذبل، وأنَّ ربيع الحبِّ ليس له فصلٌ ولا عمرٌ عند مشارفه يَنْحَد، وله سطوعٌ لا يغيب في حدق الشيخوخة والهَرَم؛ فشمس الحبِّ لها أوطانٌ وإن شاخ في عنقود الزمن أشواق الصبا وخبا بريقها ورحل. • إن عاتبك أخٌ محبٌّ، فحق لِمن يحب أن يعاتبك على الرَّحيل وطولِ الغياب والهَجْر، وإن قصَّرتَ في السؤال عنه فلا تجعل قلبَك يقصِّر في وصل شريان الوداد، وإن انكسرَتْ أقلامك وجفَّ مدادُها، فاجعل قلبك خفَّاقًا يغرِّد بمشاعر الحبِّ في موطن السلام والأمان، فعلى مِهاده الرطيب تصبح وتمسي الكلمات منعمةً بالوصل على الدوام. • الإنسان بطبعه يألَفُ القريب ويستوحش البعيدَ، ويعتاد على سجايا مَن اصطفاهم الله بمكارم الأخلاق، ورفعهم بالفضائل، وزانهم بحُسن الخِلال، ويغفل عمَّن تفضَّل عليهم بالإبداع والابتِكار والعلم الوقاد، فالاعتياد يضعف حاسَّةَ الإعجاب، ويطفئ شعلةَ الانبِهار بصفوة القوم وأخيارهم وصلحائهم، ولا يوقظه مِن الغفلات إلَّا الدَّهشةُ أو الصَّدمة لحظة الرَّحيل والغياب، أو الصَّفعة التي تخلف صَحوةَ الضمير، وانقشاع العمى عن البصَر الحسير، حينها تنشط الحواسُّ وتلبِّي نداءَ الفطرة، وتفكُّ عنها قيودَ الاستعباد والاستلاب. • لا تملك أن تحكم على الشخصيَّات أو تقيم سلوكَهم، وأنت تقِف على مساحة زمنيَّة تحدُّ من إبصارك لعيوبهم، وتحيا واقعًا لا تلتقي فيه الوجوه بالوجوه إلَّا كملاقاة الأغراب؛ فالمواقف هي مَن تجعلك تميز الطيِّبَ من الخَبيث، والسلوك والمعاملات هي مَن تعرفك بالمَعدِن، والإنسان يتقلَّب بين فصولٍ كفصول الطَّبيعة؛ له زرعٌ وحَصاد، وزهرٌ يتفتَّح ويذبل، ونباتٌ يَربو ويخضر ثمَّ يصفر، والثمر الطيِّب لا يُجنى إلا مِن الشجرة الطيبة، التي تنبئ عن أصول الأرض والعِرْق والمَنْبت. • من السهل أن تكون معوجًّا في سلوكك، منحرفًا في طريقتك ومنهاجك، ولكن مِن الصعب أن تكون سويًّا، محافِظًا على فطرتك التي فطَرك اللهُ عليها، ومستقيمًا على طريق الهدى والصَّلاح، لا تحيد عنه ولا تنحرف مهما تبدَّلتِ الأحوالُ، وتغيَّر المكانُ والزمان. • حين تسدي مَعروفًا إلى غَيرك، لا تنظر إلى مَن أسديتَه كي يُثني عليك ويكافئك، وحين يَستعملك اللهُ في عملٍ فيه نَفْع ومزيد أجرٍ وثواب، فاعلم أنَّ الله قد تفضَّل عليك واصطفاك وأراد بك خيرًا عظيمًا. • إن لم تجِد صاحبًا صَدوقًا تتوكَّأ على عصاه في مِحنتك، فاعلم أنَّ الله قد امتحنك كي يطهِّرك، ويعلِّمك ويؤدِّبك؛ كي تعودَ إليه وتطرق بابَه، وتكتفي بحِفظه ورعايته، وتستعين به وتتوكَّل عليه، فتستغني به عمن سِواه ممَّن لا يملك لك ضرًّا ولا نفعًا. • إذا لم تقدِّر قيمةَ ذاك النَّاصِح الأمين، وكسرتَ مرآتك التي تبصِر مِن خلالها عيوبَك وأخطاءك، سيظهر في حياتك أشخاصٌ يتقِنون التمجيدَ والإطراء والتعظيم، مَن يسكتون عن قول الحقِّ في حضورك وغيابك، ويتغاضون عن أخطائك وإن تجاوزت الحدودَ والضوابط، وسكرْتَ مِن كؤوس الشَّهوات والمظالم. • إنَّ للعيون دمعاتٍ تَسكبها على صفحات القلوب، ولفصول العمر غيمات حُبلى بالجروح، لا تلبث أن تجفَّ من هطول المدامع، فينزاح الأسى وتَهدأ عاصِفة الخطوب، وتزهر الأفراحُ وتسقيها قطارةُ الحبِّ أريجَ العطور. • حين تَسقط أوراقُ الخريف، تولد براعم الزَّهرات في فصول الياسمين، فتشرق الفرحةُ في قلوبٍ أنهكها لفحُ الأشواق والحنين، وتخفُّ مصارع الخطوب وطعنات الحروب، فيَنجلي صدأُ الأحزان والكروب عن صَدرٍ مكلوم هدَّتْه مطارق الكسور. • إنَّ تواليَ الشدائد والمِحن، وتتابُع الانكسارات والهزائم: تنجب للحياة بطلًا مِغوارًا يتعلَّم كيف يفكِّر في إيجاد الحلول، ويتصدَّى للخيبات، ويواجه الإخفاق، ويروِّض نفسه على استِقبال الآلام والمواجِع في ساحات الخطوب والحروب. • في كلِّ يومٍ يشتدُّ الطعان في جوائف القلب، ويشتدُّ المرار في الحلق، والوخز يُخرس مقامات الكَسْر والنَّصْب، ويسقط قواعدَ التصريف على حافَةِ ألسنةٍ شكيمتُها الرَّفع لأعلام النَّصر، وحربة المواجع تخرِقُ صدورَ الصفحات، وفصول التاريخ تَشهد، وهذا القلم المَحموم بالحِبر المراق يترنَّح بين طاعنٍ ومَطعون، وينادي: هل مِن مستَقَرٍّ في أوطانٍ لا تثور؟!
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() قناديل الحكم (10) د. صفية الودغيري لا بد من تجاوُزِ تلك الهُوة السحيقة والنفرةِ الدائمة بين أنصارِ القديم وأنصار الجديد، والتحكُّمِ في الخلاف العميق بين أنصار الشريعة وأنصارِ الحياة المادية ومظاهر الحياة الغربية؛ حتى يتمكَّن الجميع من الانسجام والتوافق، ويتمكن حَمَلَةُ الأقلام وعدولُ الشريعة، والعلماء العاملون بما أمَرَهم الله، والمجدُّون في كل ميدان من ميادين العلوم والمعارف - من الكفاح والنضال في سبيل إثارة الدعوة المستنيرة، وإثباتِ الحقِّ في موطنه، والسهر على إقرار سلطته، وتنفيذِ خطته بقوة المنطق ونفوذ الحُجة، والاعتبار بالبيئات والنظريات العلمية والآراء السديدة؛ إخلاصًا لرسالة الثقافة والشريعة، وانتصارًا للحق المبين، وجهادًا في سبيل إعلاء كلمته، ودفاعًا عن أهله المخلِصين له، وللتغلُّب على المشاكل والقضايا في الحاضر والمستقبل، وتكثيفِ الجهود بواسطة الاجتماع والدراسة لِما استجد من الأمور والحوادث والنوازل، وتحليل أجزائها، والبحث عن جوابٍ لها، ومعرفة أسباب نشوئها، وحل مشكلاتها، والتمهيد لبعثِ الثقافة اللازمة لزمانها ومكانها، وتوظيف الفَهم الصحيح والإدراك السليم لتعاليم الإسلام وأحكامه، والمعرفة بأصول الحياة المتجدِّدة، وخلق الانسجام بينهما. وقد نبَّه الشيخ المحدِّث الرحالي الفاروقي ت (1405هـ - 1985م)[1] - إلى هذا المنهج التوفيقيِّ الداعي إلى سلوك مسلكِ التوسط والاعتدال، واعتبار أصول الشريعة وأحكامها متجددةً وصالحة لكل زمان ومكان، وذلك في مقالته "محافظون ومجدِّدون"، فقال: "فلا نصادم أصلًا من أصول الشريعة الواضحة، ولا نخلُّ بركن من أركانها الثابتة، وكلُّ مشكلة لها حل، وكل داء له دواء، والشرائع السماوية والقوانين الوضعية - وإن كان للأُولى فضل ومَزية - إنما كانا لنفع العباد وتحرِّي مصالحهم، ودفع المضارِّ عن ساحتهم، ولهذا المعنى تعلَّقت أحكام الشريعة بأفعالهم، وشريعةُ الإسلام من هذا الجنس، إلا أنها - باعتبارها آخرَ الشرائع السماوية - كانت تعاليمها أكثر ملاءمةً للحياة، وأقدر على مماشاة الأزمنة، فتراها في أقوالها وأحكامها تدعو إلى المُثل العليا، وإلى حياة السلم والعدل، وإلى احترام الحقوق البشرية، وإلى إدامة العمل، وحفظ نظامه لضمان بقائه ووجوده، وغير ذلك مما نسمعه في المجالس الدولية والمجامع السياسية، ومزَجت بين الروح والمادة، ولم تَفصِل بين الدين والدولة؛ ليكون عنصر الحكومة المسلمة قائمًا على تكوين الضمير بالوازع الدينيِّ، ومبنيًّا على مراقبة الأهلية، لا يفوتها صغيرٌ ولا كبير من الأعمال والحركات، وإذا صلَح القلب صلح الجسد، وإذا فسَد القلب فسد الجسد، فكان الإسلام نظامًا طبيعيًّا وحكيمًا وخالدًا، لا يقصر عن ممارسة الحياة، ولا يتأخر عن ركب الحضارة، اللهم إلا إذا قعَد به أهلُه وأبناؤه، أو نسَبوا له العقم والجمود كذبًا وافتراءً، وجهلًا واعتداءً. ومن أحكام هذه الشريعة ما يدوم ويبقى؛ لبنائه على مصلحةٍ دائمة أو مفسدةٍ مستمرة، والله أعلمُ بما كان وما يكون إلى نهاية هذا العالم، ومنها ما تتبدَّل وتتجدد بحسب الظروف والأطوار وباعتبار المنافع، وعلى ذلك كان نسخ الأحكام في الشرائع تبعًا لما جدَّ من المصالح، وكان أوفَقَ بسُنة الحياة وأنسَبَ لطبيعة العمران، وارتبطت الأحكام في أصول الشريعة ارتباطًا تامًّا بالعلل والأسباب"[2]. ♦ لا تُبالغ في النقد؛ فأنت حين تُكثر في إظهار العيوب وذكر الأخطاء، والتدقيق في الملاحظة، وتتبُّع ما تراه أو تسمعه أو تقرؤُه، ومخالفة غيرك في كل شيء لا يناسب ذوقَك، ولا يتفق مع طريقة تفكيرك - ستتحول إلى سجَّان يقيِّد الحريَّات المشروعة، وستصبح سجينًا في زنزانة جهلِك لمعاني الحرية وأصولها ومناهج ممارستها؛ لأنك تفكِّر من داخل شعورك وتفكيرك الخاص، وفلسفتِك في الحياة، وأسلوبِك في الفَهم، وترفض أن تفكِّر خارج عالمك الخاص بمسمَّياتك، وأن ترحل خارج محيطك وواقعك الضيق، ولأنك اعتدت أن تكون الجلَّاد والسجَّان الذي يقتص من الآخرين، والقاضيَ الذي يفصل بين العباد، ويضعُهم بين المِطرقة والسندان، ويُصنِّفهم إلى أبرياء يستحقون الرحمةَ والعفو، أو مجرمين يستحقون العقابَ على ممارستهم حقَّهم في التفكير والتعبير والتصرف. وما أجمل نبوغَ الأستاذ الأديب عباس محمود العقاد وعمقَ فكرته، ورجاحة عقله؛ حيث وجَّه معنى النقد توجيهًا سديدًا، وربطه برباط الحرية ومتعلقاتها، فاختار لمقالته وخاطرته عنوانًا هو: "الانتقاد والحرية"، فقال: "ليست كثرة الانتقاد دليلًا على الحرية في كل حين؛ إن الناس يُكثرون الانتقاد حين يجهلون الحرية؛ لأنهم لا يرون للآخرين حقًّا في التصرف كما يشاؤون"[3]. ♦ من وجوه البرِّ رفعُ الظن الفاسد عمن يَطعُن في قوم هم بُرآء مما وصموهم به، وإفهامُ مَن جهِل ما التبس عليه، وإزالةُ الباطل عن النفوس الجائرة في إيقاع الظن الفاسد بساحةٍ سالمة وسريرة نقيَّة، والحاكمةِ على الأمور بلا دليل، والقابلة للباطل دون علمٍ، والقاطعة في حكمها بلا برهان ولا يقين ولا تثبُّت، فقد روِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمن مرآة المؤمن))[4]. وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الراية، ويرفع الشعار: "رحِم الله امرأً أهدى إلينا عيوبَنا". وقال الشاعر: أصبحت في هيئةِ المرآة تُخبرُنا ♦♦♦ عيوبَنا كل ما فينا من الكَدرِ ♦ على كل امرئ أن يقرأ قدر استطاعته، وأن يختار من الكتب قدر طاقته في الفهم والاستيعاب، ولا يقلِّد غيره فيما يختاره ويقرؤه، وهو لا حول له ولا قوة ولا طَوْلَ، ولم يبلُغ بعدُ مبلغَ أهل العلم المتقدمين في القراءة والتحليل والنقد، ولم يدرِك منتهى أهل النظر في استخدامهم العقلَ السليم، والذهن الصافي، والفكرَ النقي.ويَلزم الطالبَ المبتدئ إذا سلك شعبًا من شعاب العلوم العسيرة، أو طلب فنًّا من الفنون التي تستوجب الوقوف على معانيها - أن يَجِدَّ أولًا في تحصيلها ودرايتها، ويجتهد في الأخذ بأسبابها وامتلاك أدواتها، وأن يتلَّقاها بالسماع والضبط والحفظ والتدوين عن المتقنين من الشيوخ، والحذَّاق من العلماء، والأكابر من الأساتذة، ومَن تمرَّسوا بمسائلها، وأفْنَوْا أعمارهم في دراستها وتدريسها، وعرَكتهم التجاربُ فاهتدَوا بمنارها، ووقفوا على أغراضها، وإلا فلن تنفعه تلك الكتبُ بفائدة، ولن تكشف عنه غُمة الجهل، ولن يحصُل من العكوف عليها على ما يبتغيه ويَنشُده، فليس كل فَهْمٍ تصلح له كلُّ عبارة، ولا كل كتاب يَفتح لقارئه أبوابه ومنافذه، ولا كل علم يستوي في تحصيله وإدراكه العالمُ والجاهل، والخواصُّ والعوام. وتحقيقًا لهذا المقصد نبَّه الإمامُ ابن حزم مَن يتناول كتب المنطق ويطالعها بالقراءة - من طلاب هذا العلم والراغبين فيه - لأن يكونوا ذوي حرصٍ شديد في تناوُلها، وحذقٍ في النظر إليها، وفي هذا الشأن يقول: "ورأينا هذه الكتب - يقصد الكتب المجموعة في حدود المنطق - كالدواء القويِّ، إنْ تناوَلَه ذو الصحة المستحكمة[5]، والطبيعة السالمة، والتركيب الوثيق، والمزاج الجيد - انتفع به وصفَّى بنيته، وأذهب أَخْلَاطَه، وقوَّى حواسَّه، وعدل كيفياته، وإنْ تناوَلَه العليل المضطربُ المزاجِ، الواهي التركيب، أتى عليه، وزاده بلاءً، وربما أهلكه وقتَله، وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكيِّ والفهمِ القوي، لم يعدم - أين تقلَّب وكيف تصرَّف - منها نفعًا جليلًا، وهديًا منيرًا، وبيانًا لائحًا[6]، وتنجحًا[7] في كل علم تناوله، وخيرًا في دينهودنياه، وإن أخذها ذو العقل السخيف أبطلته، وذو الفهم الكليل[8] بلَّدته وحيَّرته؛ فليتناول كلُّ امرئ حسب طاقته"[9]. ♦ تجنَّب أن تداهن أو تخادع، فالحقُّ أَولى أن يُتبع، والباطل يقوى ويضعُف، والظلم ظلمات يوم القيامة، فليحذر من يغتر بقوته وسطوته الوقوفَ بين يدي الله ليحكم بينه وبين من ظلمه بالإنصاف والعدل، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 69]. وقيل لبعض الحكماء: أيُّ الناس أحق أن يُتقى؟ قال: "عدوٌّ قوي، وسلطان غشوم، وصديق مخادع"[10]. ♦ احذر مودة صاحبٍ ماكرٍ مخادع، يجور عليك وينكث العهد، وإن صافيته لا يُخلص في المحبة والود، وتجنَّب رفيقًا مداهنًا مدَّاحًا، سرعان ما يصد عنك ويجافيك ولا يصونك، ولا يحفظ السر، وإذا ظهر له من ورائك منفعة تُرجى، أقبَل عليك وبالَغ في الثناء والمدح، وإذا خلا جِرابُك من الزاد، وفرغت قِرَبُك من الماء، وحصل منك على مراده ومبتغاه: أدبر عنك موليًا، وصد عن مجلسك وجوارك، وخاصَمك مخاصمة الأعداء الألِدَّاء، ولم يذكر لك إحسانًا أو معروفًا في زمن الوئام والعشرة والصحبة. وقد أنشد زيد بن علي: احذَرْ مودةَ ماذقٍ ![]() خلَط المرارةَ بالحلاوهْ ![]() يُحصي الذنوبَ عليك أي ![]() يامَ الصداقة للعداوهْ ![]() وقال ابن أبي طاهر الكاتب: حالَ عما عهِدتُ ريبُ الزمانِ ![]() واستحالتْ مودَّةُ الإخْوانِ ![]() واستوى الناسُ في الخديعةِ والمكْـ ![]() ـرِ فكلٌّ لسانُه إثْنانِ ![]() ولكثيِّر عزة: أنتَ في مَعشرٍ إذا غبتَ عنهمْ ![]() بدَّلوا كلَّ ما يَزينك شَيْنَا ![]() وإذا ما رأوك قالوا جميعًا: ![]() أنتَ مِن أكرمِ الرجالِ علَيْنَا ![]() وقال آخر[11]: ذهَب الناسُ وانْقضتْ دولةُ المجْ ![]() دِ فكلٌّ إلا القليلَ كلابُ ![]() إنَّ مَن لم يكن على الناس ذئبًا ![]() أكلتْه في ذا الزمانِ الذئابُ ![]() غير أن الوجوه في صورِ النَّاسِ ![]() وأبدانُهم عليها الثيابُ ![]() لسْتَ تَلقى إلا كذوبًا بخيلًا ![]() بينَ عَيْنَيْهِ للإياسِ كتابُ ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |