غربان الليل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1329 - عددالزوار : 138069 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 57 - عددالزوار : 42209 )           »          حكم من تأخر في إخراج الزكاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          حكم من اكتشف أنه على غير وضوء في الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          المسيح ابن مريم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 5462 )           »          يا ربيعة ألا تتزوج؟! وأنتم أيها الشباب ألا تتزوجون؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          فضائل الحسين بن علي عليهما السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - (صانعة البهجة في بيت النبوة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          حجة الوداع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          التشريع للحياة وتنظيمها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي
التسجيل التعليمـــات التقويم

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 27-07-2022, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,090
الدولة : Egypt
افتراضي غربان الليل

غربان الليل


د. زهرة وهيب خدرج




أوِلادةُ فجر جديد عملية سهلة، أم أنها صعبةٌ مؤلمةٌ لا بد لها من مَخاض عسير يتبعه انشقاقٌ لكبد السماء ليخرج الفجر الوليد من بين ثناياها؟ هل لتكرارها اليومي أمام نواظرنا منذ بَدَأَ الله الخليقةَ وحتى الآن هو ما يجعلنا نتجاهل دقائق تفاصيلها فنراها بسيطة سهلة رغم ما فيها من مشاقَّ وتعقيدات؟ أيمكن أن تحدث أية ولادة جديدة من غير ألمٍ كثير وصبرٍ وثباتٍ وتحدٍّ؟ وبما أن الحرية والكرامة كجنين الفجر لا بد أن يسبقها الكثير من المعاناة والآلام التي تحتاج للصبر والإصرار والمثابرة حتى تتم بسلام، فمَن يطلب الحرية والكرامة لا بد وأن يدفع الكثير، ويجابه عظيم التحديات في سبيله الذي اختاره لنفسه.



في الثُّلث الأخير من إحدى الليالي الظلماء التي اختفى قمرها باكرًا، ما زادها ظلامًا إلى ظلامها، ولم يكن قد مضى على زواجي شهر، أيقظَنا طرقٌ عنيفٌ على الباب، وأصوات تتحدث بلكنة غير عربية، نعرفها تمام المعرفة، تأمرنا بالإسراع بفتح الباب، وتهدد "عمر زوجي" بأنه سيتم إطلاق النار عليه إن حاول الهرب، وتأمره بأن يسلم نفسه بسرعة.. لم أستوعب ما يجري حولي.. تملَّكني رعبٌ شديدٌ، تمسكت بيده، نظر إليَّ محاولًا بث الطمأنينة في نفسي، وأزاح يدي عنه بهدوء، وأسرع يقفز من فوق الجدار الخلفي لحديقة المنزل التي تشرف على المقبرة من الجهة الغربية.. وخلال لمح البصر كان عمرُ قد اختفى وغاب عني في مكان لا أعرفه، وترك قلبي يقرع داخل صدري كطبل أجوف من شدة خوفي عليه وانفعالي من تسارع الأحداث الجارية.. أما دموعي فقد انهمرت على وجهي مِن دون وعي.



ركلوا الباب بقسوة، وكسروا مزلاجه، وشاهدتهم يندفعون إلى داخل البيت مدجَّجين بالسلاح، فتشوا البيت، وحطموا كل ما وصلت أيديهم الآثمة إليه، عاثوا فيه خرابًا حتى غدَا كحقل ذرة هاجمته الغربان، وقفتُ وحدي أرتجف كعصفور صغير أفقده عصف الريح ريشَه، فأخذ ينتفض عندما حاصره برد كانون بين وحوش شرسة.. وغدَا الليل كئيبًا، صامتًا، بغير مبالاة، وربما كان غاضبًا.



سألتني الغربان عن عمرَ: أين هرب ومتى؟ مَن أصدقاؤه؟ ماذا يحب؟ ما هي هوايات..؟ أجابهم صمتي بقوة وشجاعة، راوغوني كثيرًا، وأطلقوا وعودًا كاذبة إن أنا بُحتُ لهم بما يريدون سوف... وسوف... إلا أن ثرثرة الصمت لم تفارق لساني؛ فمس الضجرُ أكبرَهم، فصرخ في وجهي قائلًا: سنقتله أيتها الـ...، وستصبحين أرملة لا أمل لها بالحياة..



كنتُ أعلم أن عمرَ أسير محرَّر، كان قد قضى ثلاث سنوات في الاعتقال الإداري، وعانق الحرية بعد إضراب طويل عن الطعام كاد يموت خلاله، وأدركت أيضًا منذ اللحظة الأولى لارتباطي به أن حياتنا معًا ستكون كالبحر، يفوح جمالًا وهدوءًا ومتعة.. إلا أنه ما يلبَث أن ينقلب إلى هيجانٍ مخيفٍ جارف في بعض الأحيان، فيقلِب في هيجانه جميع المراكب التي تعتلي مياهَه وقد يغرقها.. بحر يحوي في داخله اللؤلؤَ والمرجان، ويحوي أيضًا الكثيرَ من الأسرار التي لا يعرف عنها شيئًا إلا الغواصُّ الماهر الذي قضى حياته في البحر، الغواص الذي يعرف عنه كل شيء، ولكني لم أكن أعلم أن عمرَ مجاهدٌ، يقاوم الاحتلال، يحمل رُوحه على كفه، ويتربص الموتُ به طوال مسيره الذي اختاره لنفسه.. ورغم ذلك، عمَّت سعادةٌ من نوع ما رُوحي.. فقلت لنفسي: ها قد حان الوقت لتبرهني على حبِّكِ لفلسطين.. فاصبِري وكوني على أُهْبَةِ الاستعداد..



وفي صبيحةِ أحد الأيام، وجدتُ ورقة ملقاة على الأرض، متدثِّرة بحروف عمر ورائحةِ يده.. أيكون قد مر من هناك وألقى بها؟ كيف لم أرَه؟ كيف أكملت نومي ولم يوقظني عبقه؟! ضممتُها إلى صدري، وأخذت أتنشَّق رائحتها، قبل أن أشرع في قراءتها، وأنا أتمنى أن تحمِل لي حروفُها ما يطفئ أُوَارَ قلبي، ويُسكن رُوحي..



"زوجتي الحبيبة، الحمد لله أنا بخير؛ فلا تقلقي، رغم أن قلبي يتفطر حزنًا لأجلك، فامرأة صغيرة مثلك بحاجة لزوج يقف إلى جانبها في الحياة الجديدة التي وجَدَتْ نفسها فيها.. زوج يحميها، ويلبي جميع احتياجاتها، لا زوج مطلوب مطارد يختفي عن الأعين، لا يستطيع أن يلتقيها ويستمع إلى أحلامها وآمالها ومتاعبها، ويغدق عليها بقليلٍ من حبِّه واهتمامه.. فاعذِريني، وسامحيني، فما نحن فيه مفروض علينا، لم نختَرْه نحن بإرادتنا.. أرجوك.. اصبري، وادعي اللهَ لي ولك؛ فعسى الله أن يحدِث بعد ذلك أمرًا.. ولا تيئَسي مِن رَوح الله.. فهو سيجمعنا بإذن الله على خير، ونعود لنكمل معًا بناء الأسرة الصالحة التي حلمنا أنا وأنت بإنشائها، ورسَمْنا معالمها خلال خِطبتنا.. فعِديني أن تكوني على قدر المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقك.. أحبك".



وأخذَتْ أيام عمري تنساب من ثقوب حياتي دون أن أشعر بها أو أعيشها، وتتكرر جميعُها بذات الرتابة والتفاصيل، دون جديد يشعرني أنني لا زلت على قيد الحياة، وأنا أتحرَّق شوقًا لعمرَ ولسماع أخباره والاطمئنان عليه.. وبعد ما يزيد عن أربعة أشهر، أخذت أُحسُّ بحركة خفيفة عزيزة تَدِبُّ داخل أحشائي، شعَرْتُ أنها تحمل بعضًا من عمر.. آنسَتْ وَحدتي، وأحيَتِ المشاعر الجميلة في نفسي، وأشعرتني بأنني أعيش لهدفٍ عظيمٍ، سرعان ما سيغدو واقعًا ألمِسُه بيدي.



وقدِم "عبدُالله" إلى الدنيا صارخًا باكيًا، واعدًا بكثير من الأمل.. وترددت كلمات عمر في ثنايا ذاكرتي، وكأنه يتحدث بها أمامي الآن: "سنسمِّي ابننا الأول عبدَالله"..



"ولماذا عبدالله يا تُرى؟ لماذا لا يكون أحمد على اسم والدك، أو سالم على اسم والدي؟"..



"أريد ابني الأول أن يكون عبدالله، ثم بعد ذلك سمِّي بقيةَ الأبناء بما شئتِ، عبدالله نسبة إلى عبدالله بن الزبير، الفارس الشجاع، الذي رفض أن يستكينَ للظلم، وبقي يقاتلُ حتى آخِرِ قطرةٍ في دمائه"..

تمنيتُ لو يأتي عمر ليشبع عينيه ورُوحه برؤية عبدالله، الذي كان يتمناه..



وحضَر عمرُ ذات مساء على عجَل، ضمني إلى صدره، واحتضن صغيره وقبَّله، وأذَّن في أُذنيه، ثم قال له: كن رجلًا يا عبدالله، أمك أمانة في عنقك.. لا أدري إن كنت سأبقى حيًّا لأربِّيك وأعلِّمك وأُعِينك لتغدوَ فارسًا شجاعًا كعبدالله بن الزبير، أم أن القدر سيعاجلني فأُعتَقَل أو أُستشهد.. ووجَّه كلامه لي قائلًا عندما رأى الدموع تفرُّ من عيني رغم البسمة العريضة البلهاء التي قنَّعتُ ملامحَ وجهي بها: كوني قوية، وأنشئيه أن يكون حرًّا عزيزَ النفس، وعلِّميه ما يُريده الله ويرضاه.. عِديني بذلك، فقلتُ: أعِدُك، وقبل أن يتم كلامه، كانت مكبرات صوت تحمل تهديداتٍ ذات لكنة غير عربية كتلك التي داهمت بيتنا سابقًا، تُنادي عمرَ وتأمره بأن يسلم نفسه.. علمت حينها أن هناك أناسًا قد خانوا الوطن، وخانوا الشرفاءَ والمجاهدين، ونذَروا أنفسهم للشيطان، فانطلقوا يسهِّلون مهمات الأعداء؛ سعيًا وراء هدف دنيوي دنيءٍ مقابل فتات من المال.. خائنون رصدوا البيت من جميع الجهات ليلَ نهارَ، حتى إذا ما اقترب عمرُ من البيت أبلغوا المحتل عن قدومه.. لم أنتبه كيف اختفى عمر من أمامي.. كما اختفى عام.. نجا عمر، وباء الأعداء بالخيبةِ مرة أخرى..



وبعد أشهر عدة، وفي اليوم الذي كان الفرح قد عم فيه بيتي بعد أن نطق عبدُالله بكلمة "بابا" للمرة الأولى، سمعتُ في نشرة أخبار الساعة السادسة مساءً: أن جيشَ الاحتلال قد تمكَّن أخيرًا من اغتيال مطلوب أقضَّ مضاجعهم بعمليات قَنْصٍ قضى من خلالها على سبعة مستوطنين متطرفين كانوا يحرِّضون اليهودَ على اقتحام المسجد الأقصى يوميًّا، ويؤذون الفِلَسْطينيين في القدس المحتلة.. لم يُذكر اسم الشهيد، ولكن المخاوف ضربَتْ أسوارها حول قلبي، وداخلتني مشاعرُ مِن نوع أن يكون ذلك المطارد عمر..



رابطتُ أمام التلفاز أقلِّبُ المحطات بحثًا عن نشرات الأخبار، ورُحْتُ أيضًا أتصفَّح المواقع الإخبارية على الإنترنت، عساني أعثر على خبر له صلة بالموضوع يخفِّف من أُوَارِ قلبي.. وبعد نصف ساعة لا أعلم كيف مرَّت عليَّ دقائقُها، وفي خبر عاجل كان نصه: "أعلن قبل قليل عن استشهاد الأسير المحرَّر عمر أحمد قاسم من مدينة القدس، بعد مطاردة دامت عامًا ونصفًا، وقد ألصق به الاحتلالُ تهمة قَنْصِ وقتل سبعة مستوطنين، كان آخرهم الضابط جلعاد ههار، الذي أطلق عليه المطارد النارَ مِن مسافة صفر، وقد قامت قوةٌ من الشرطة كانت قريبة من المكان برشق عمر محمد قاسم بوابل مِن الرصاص، استُشهد بسببها على الفور، وقد احتجز الاحتلالُ جثمانَ الشهيد في مكان غير معلوم".



لم أصدِّقِ الخبر، وبدأ عقلي يعبث بعواطفي، ويُلقي فرضيات كثيرة على نفسي، منها أن هناك خطأً ما في الموضوع، وأن عمرَ بخير الآن، ومنها أيضًا: أنهم قد اعتقدوا موتَ عمر بينما هو حي يرزق، فقط هي مجرد جروح متوسطة وسيشفى منها بإذن الله... إلخ.



وخلال دقائق عجَّ البيت بالأهل والأصدقاء والجيران والمعزِّين والصِّحافة، ولم أدرِ كيف غبتُ عن الوعي، أو كيف تم نقلي للمشفى، ولم أدرك أيضًا كيف انقضَّتْ جرافة متوحشة على بيتي فافترست جدرانه.. واجتثَّت أشجاره.. وداست أزهاره.. وتباهت بقدرتها على قتل الحياة والفَتْك بأحاسيس الإنسان.. ومضت تسير متغطرسةً، تقهقه ساخرةً، وتتوعَّد كلَّ مَن تراوده نفسه أن يسير على درب عمرَ بأنه سيلاقي المصير نفسه.. وأخذنا نتجرع أسى الفقدان، ونحاول تصبير بعضنا بعضًا، وأنفسنا.. ولكني لم أسمح لنفسي بأن تسقط في بئر اليأس والحزن، وقررتُ أن أعمل بوصية عمر، وأتابع طريقه الذي بدأه.. فحمِدتُ ربي على الابتلاء الذي ابتلاني به، وأنه رزَق عمرَ الشَّهادة.. ومضيتُ مع عبدالله في درب إعداد مجاهد، كان أوله حفظ القرآن.. وتعريفه بتاريخ وحضارة الدِّين الذي ينتمي له، والأرض التي روى والدُه بدَمِه ثَراها..


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 69.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.04 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]