لبيك اللهم لبيك - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4957 - عددالزوار : 2061557 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4533 - عددالزوار : 1330177 )           »          ابتسامة تدوم مدى الحياة: دليلك للعناية بالأسنان في كل مرحلة عمرية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          كم يحتاج الجسم من البروتين يوميًا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          أطعمة ممنوعة للمرضع: قللي منها لصحة طفلك! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          مكملات البروبيوتيك: كل ما تحتاج معرفته! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          التخلص من التوتر: دليلك لحياة متوازنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          أطعمة مفيدة لمرضى الربو: قائمة بأهمها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كيفية التعامل مع الطفل العنيد: 9 نصائح ذكية! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          كيف يؤثر التدخين على لياقتك البدنية وأدائك الرياضي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-06-2022, 11:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي لبيك اللهم لبيك

لبيك اللهم لبيك (1)

د. حيدر الغدير




((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)).

هذا هو الهُتافُ الرَّبَّانيُّ الكريمُ الذي تُردِّدُه الحناجرُ المؤمنةُ في رحلة الحَجِّ، تلك الرحلةُ الكريمةُ التي يُجدِّدُ المسلمُ فيها عَهْدَه لله عز وجل، وبيعتَه إيَّاه، مُنْخَلِعًا عن كل ألوانِ الجاهليةِ ومبادِئها الضالَّة، وأخلاقِها الفاسدة، مُعْلِنًا أنَّ كُلَّ ولائه هو للإسلامِ، وللإسلامِ وحْدَه.

وإنَّ في النداء الكريم الوضيء ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) كنوزًا من المعاني المشْرِقةِ الرائعةِ، والمشاعرِ الساميةِ النبيلةِ، والإشراقاتِ الرُّوْحانية النورانية، هذه الكنوزُ السماويةُ الغنيَّةُ، الطيِّبةُ الزكيةُ، لها دَوْرُها الكبيرُ في إحداث النُّقْلة الإيمانية في حياة الحجِّ نحو الأفضل والأكمل.

إنَّ ممَّا تؤدِّيه هذه الكنوزُ أنها تجعل الحاجَّ يُصحِّح عقيدتَه بادئ ذِي بَدْءٍ حتى يكونَ مسلمًا تامَّ الإسلامِ، مؤمنًا مكتملَ الإيمانِ، اللهُ عز وجل هو ربُّه وغايتُه، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيُّه وقائدُه وهاديه، والقرآنُ الكريمُ دستورُه وإمامُه وكتابُه، والكعبةُ الغَرَّاءُ قِبْلتُه، والمسلمون عشيرتُه وأهلُه وذَوُوه، جنسيَّتُه هي دينُه الذي ينتسبُ إليه، وجُهْدُه الدؤوبُ هو السعْيُ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ عز وجل وتحكيمِ شريعتِه في الأرضِ.

ومن نتائجِ رحلةِ الحجِّ في نَفْسِ الحاجِّ، أن يظَلَّ يُحاسِبُ نفسَه، ويستشعرُ تقصيرَه، ويُجافي كُلَّ ما يُعوِّق سيرَه نحو الهدايةِ من عاداتٍ ومألوفاتٍ، وشهواتٍ ومُغْرياتٍ، وأهواءٍ وتطلُّعاتٍ، ويُسارعُ إلى كلِّ ما يستنقذُه من وَهْدَةِ الضَّعْفِ البشريِّ، ويحُثُّ خُطاهُ نحْوَ طاعةِ الرحمنِ، من عبادةٍ صادقةٍ، وارتفاعٍ فوق السَّفاسِف، وحمْلٍ للنَّفْس على ما تكرَه، وتلاوةٍ مُتدبِّرة، وذِكْرٍ مُتَفكِّر، وخدمةٍ لإخوانِه في اللهِ، وبَذْلٍ للمالِ والجُهْدِ والوقتِ والأعصابِ، وعملٍ موصولٍ من أجل إنقاذ المسلمين مما يعانون، ورغبةٍ في استئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ من جديدٍ بكُلِّ أبْعادِها الطاهرةِ المباركةِ، وفي جميعِ ديارِ الإسلامِ.

وإذا كان المرءُ قد وجَدَ في التلبيةِ أمثالَ هذه المعاني الساميةِ جميعًا، فإنه كذلك سيجِدُ في كل مَناسِكِ الحجِّ الأخرى بُسْتانًا من الخيرات، وحديقةً وارِفةَ الظِّلالِ من المعاني السامية، والتأمُّلات الصادقة، وروضةً طيبةً مِعْطارةً تفُوح بالنشْر الذكيِّ، والمِسْك العاطِرِ، والعَبِيرِ الدَّافِقِ.

ويا لَسعادة مَنْ فاز بهذه المعطيات الرائعة الثريَّة! التي يَهُون المالُ والعمرُ، والوقتُ والجهدُ، والمشقةُ والتعبُ، من أجل بعضِ بعضِها، فكيف بها كلها؟! يا لَسعادته! ويا لَروعة ما فاز به من تعرض للرحمة الربَّانية التي لا تنفد خزائنُها على العطاء! وإن كثُر السائلون، ولا يَبْلى ثراؤها قطُّ، بل إنه لَيَزْدادُ، ولا يِجفُّ مَعِينُها أبدًا، بل إنه ليَغْزُر.

يا لَسعادته ويا لَهناءته! طُوبى له طُوبى! طُوبى له وحُسْن مآب! طُوبى له إذ يقف بالبيت العتيق، ويسعى بين الصَّفَا والمروة، ويقف بعرفة، ويبيت بمُزْدَلِفة، ويرمي الجِمارَ في مِنى! طُوبى له إذ يُلبِّي ويَنْحَر، ويحلِق ويُهَرْوِلُ، ويشُدُّ الرِّحال إلى مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

طُوبى له إذ يسفَحُ العَبَراتِ مُتذلِّلًا خاضِعًا باكيًا مستغفرًا! طُوبى له إذ يحتمل المتاعبَ والمشاقَّ بنفس راضيةٍ وروحٍ مشرقةٍ! وطُوبى له إذ يصبر على تبديل العادات والمألوفات والتزام التجرُّد عن كل مظهر يتنافى مع المساواةِ بين جميع القادمين! طُوبى له إذ يفعل ذلك كُلَّه! فعسى أن تترك في نفسه مثلُ هذه المعايشةِ الممتازةِ، في هذا المناخ العظيم الرائع، جوًّا نفسيًّا عاليًا، وأُفقًا رُوحيًّا ساميًا، وعَزْمًا وحَزْمًا، وهِمَّةً وقَّادة، أن يلمَح بسرعةٍ وشفافيةٍ كُلَّ خيرٍ فيُسارع إليه، وكُلَّ شَرٍّ فيُجانِبُه، وأن يُقرِّر قرارًا حاسمًا جازمًا أن يعيشَ بالإسلامِ وللإسلامِ، عليه يحيا، وله يجاهد، وعليه يموت، وأن يدخل إلى ساحة المَبَرَّاتِ والمكرماتِ والفضائلِ، والاستقامة والعِفَّة والطُّهْر، والصدق والمروءة والهداية، فترسَخ عطايا هذه الساحة المباركة في نفسِه، وتتعمَّق في ذاتِه، لتغدُو له خُلُقًا ثابتًا، يُرافقُه في حجِّه، وبعد مُنْقَلَبِه المبارك المشكور إلى أهله، وأوْبَتِه الميمونة الحميدة إلى بلده، وما أعظم هذا الكسب حين يفوزُ به! وما أكرمَه من زاد يُحصِّله في هذه الدنيا الفانية!

وإذا كانت كارثةُ الأقصى الحزينِ الأسيرِ وما حوله من ديارِ الإسلامِ في فِلَسْطِين المسلمةِ تنزل بِكَلْكَلِها الرهيبِ على صَدْر هذه الأمة المنكوبة، وما أكثرَ كوارثَ أُمَّتِنا المبتلاة في الفلبِّين وكشمير، وإريتريا وتركستان، وشتى ديار الإسلام في كل مكان! فإن على المسلم أن يعي بدقَّةٍ وجديةٍ خطورةَ كارثةِ الأقصى، فهو جزءٌ من دار الإسلام، له حقُّ الذَّوْد والدفاع والجهاد لاستخلاصه، لكنه ينفرد عن الأجزاء الأخرى الأسيرة المنكوبة، بأنه ثالثُ الحرمينِ الشريفينِ، ومَسْرى الرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، وإذن فإن له علينا حقًّا مُضاعفًا ومسؤوليةً مؤكَّدةً، مما يجعل واجبَنا في السعي من أجل إنقاذه أكبرَ وأخطرَ.

يا أيُّها الإخوة الحجيج، يا أيُّها المسلمون عامة! حذارِ أن تبقى قُدْسُكم أسيرةً، وأن يبقى أقصاكم مُهانًا، وأن تبقى مآذنُه مكلومةً، وأن يبقى أذانُه جريحًا راعفًا.

واعلموا أن السبيلَ الوحيدَ لإنقاذِ القُدْسِ والأقْصَى وديارِ الإسلام جميعًا؛ إنما هو في الجهاد المؤمن الملتزم بكتاب الله عز وجل وسُنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فالبِدارَ البِدارَ إلى الجهاد! فيه تُرْضُون ربَّكم، وتُحرِّرون بلدَكم، وتُقيمُون دولةَ إسلامِكم، وتَشِيدُون مجتمعَها الطاهرَ الذي يحكمه الإيمانُ والقرآنُ دستورًا ومنهجَ حياةٍ.
*****

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 01-07-2022 الساعة 06:09 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-07-2022, 06:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيك اللهم لبيك

لبيك اللهم لبيك (2)



((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)).
إنَّ لك أن تُقرِّر أنَّ المسلمَ حين يُهِلُّ بهذه التلبيةِ الربانيةِ الكريمةِ، بحُرْقةٍ وشوقٍ، وصدقٍ وحنانٍ، إنما ينبغي له أن يصيرَ إنسانًا جديدًا، صَحَّ منه العزمُ على بَدْءِ حياةٍ جديدةٍ، كلُّها نأيٌ عن الشيطان، وطاعةٌ للرحمن، ذلك أنه حين يُلبِّي يُخاطِبُ خالِقَه السميعَ البصيرَ، القويَّ العزيزَ، الرؤوفَ الرحيمَ، دون أن يكون ثمة حجابٌ أو واسطةٌ.

يخاطِبُه معترفًا بالتقصير، مُقِرًّا بالذنبِ، طامِعًا بالتوبةِ والغُفْرانِ، وغَسْلِ الخطايا ومَحْوِ الآثامِ.

يُخاطِبُه بذلك وبغيرِ ذلك، فيهِيجُ الشوقُ فيه، وتتضرَّمُ العواطفُ الخيِّرةُ المباركةُ في أعماقِه، فيرقُّ القلبُ، ويصفُو الوِجْدانُ، ويفيضُ الحنانُ، ويشعُرُ بأنْسامِ الرحمةِ وإشراقةِ القَبُولِ، يتلقَّاها بِكَيْنُونته كُلِّها، ويستقبلُها بوجودِه جميعًا، فيغدُو أهلًا لتلقِّي هذه البشائرِ في حركاتِه وسكناتِه، ونومِه ويقظتِه، وطوافِه وسَعْيِه، وتَعَبِه وراحتِه.

كيفَ لا؟! وهو يعيشُ في هذا الجوِّ الروحانيِّ المباركِ الذي امتدَّ وتعاظَمَ حتى تغَلْغلَ في أعْمَقِ أعماقِه، وسَرَى منه مَسْرَى النَّفَسِ، وجَرَى فيه مَجْرَى الدَّمِ في العُروقِ، وتدفَّقَ في قلبِه وعقلِه، ونَفْسِه ورُوحِه، وملكَ عليه كيانَه كُلَّه، ومنافذَ الحسِّ والرُّؤيةِ، وطرائقَ التلقِّي والفَهْمِ، وأساليبَ التعاملِ والإدراكِ، ووسائطَ المعايشةِ بكُلِّ جوانبِها، وأنماطَ السلوك بكلِّ شِعابِه، فإذا به شلَّالٌ من نور، وأَلَقٌ من هداية، وبسمةٌ من غُفْران، ورضًا من قَبُول، ويَنْبُوعٌ من خيرٍ، ومَعِينٌ من صِدْقٍ وحنانٍ، وطُهْرٍ ونظافةٍ، وسمُوٍّ وارتفاعٍ، حتى لكأنَّه بُشْرى مجسَّدةٌ من بُشْرياتِ الرحمةِ، تكادُ تقولُ: هنيئًا لكم أيُّها الحُجَّاجُ! وطُوبى لكم وحُسْن مآبٍ!.. لقد تقبَّلَ اللهُ عز وجل منكم مَسْعاكُم فلن تنقلِبُوا من ضيافته خائبينَ.

ولا يُخطئ المسلمُ أن يلمح في فريضةِ الحجِّ بما تضمَّنَتْه من أركانٍ وشروط، وواجباتٍ ومندوباتٍ عنوانًا وعلامةً ودليلًا، على أمانة الأُمَّة الإسلامية لما ورِثَتْ من مِلَّة أبيها إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ، من التوحيد النقيِّ الخالصِ، الذي لا تُعكِّر صفاءه شائبةٌ قطُّ، ومن تعظيم الله عز وجل تعظيمًا يَلِيقُ به في بيته الحَرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمْنًا، ومَوْسِمًا للجُودِ الإلهيِّ الكبيرِ، حيثُ تتدفَّقُ رحمتُه الواسعةُ الكبيرةُ، على ضيوفه الشُّعْثِ الغُبْرِ القادمينَ من بلادٍ بعيدةٍ، الباذلينَ المالَ بطِيبِ نفْسٍ، المحتملينَ المشاقَّ برضًى وارتياحٍ، فيستجيب وهو الغفورُ الرحيمُ، غافرُ الذنبِ وقابلِ التَّوْبِ، يقبل دعاءهم، ويغفر خطاياهم، ويُعطيهم عطاءَ القدرة التي لا حَدَّ لها، والجُود الذي لا ساحِلَ لكرمِه ومَنْحِه وسَخائِه.

لا يُخطئ المرءُ أن يلمح ذلك، ولا يُخطئ كذلك أن يرى في كل شَعِيرةٍ من شعائر الحجِّ، وفي كل نُسُكٍ من مناسِكِه، هديةً من هدايا البِرِّ والجُود، ورحمةً سابغةً غنيَّةً، وروضةً من رياض القَبُول والغُفْران، يَرْتَع فيها المؤمنُ هانِئًا سعيدًا، فثمة عطاء الكريم المنَّان، وأكْرِمْ به من عطاء! وثمة إحسانُ ذي الجلال والإكرام، وما أعْذَبَه! وما أغْزَرَه! وما أطيبَ عبيرَه الطيبَ، ونَشْرَه الذكيَّ، ومِسْكَه الفَوَّاحَ، ونورَه الوهَّاجَ!

إنَّه الحجُّ، فرصةٌ ربانيةٌ غنيةٌ، نورانيةٌ ثريَّةٌ، يبُثُّ فيها المؤمنُ أشواقَه الحارَّة، وتطلُّعاتِ قلبِه الملهوفِ، وحبَّه الصادقَ، ودُعاءَه الخاشِعَ، ورجاءه الضارِعَ، ودموعَه الأبيَّةَ الحرَّى، التي لا تسيل إلا بين يدي خالِقِه عز وجل، يَسْكُبُها شوقًا إلى كل ما يُرضي مولاه، وخوفًا من كل ما يُسخِطُه ويُغضِبُه.

إنه مثابةُ الرُّوح التي طال بها الحنينُ، والنَّفْسِ التي ألحَّ عليها الظَّمَأُ، والقلبِ الذي استبدَّتْ به الأشواقُ، إنه المثابةُ التي يتلقَّى المؤمنُ في كل ساعةٍ من ساعاتها عطاءً إلهيًّا مُباركًا، وزادًا رُوحيًّا من السُّمُوِّ والتقوى، يشعُرُ بها كلُّ الذين تفتَّحَتْ قلوبُهم للنَّفَحاتِ الكريمة، والتجليات الحبيبة، وزالتْ عن أبصارِهم الغَشاوةُ، وعن بصائرهم رَانُ الغفلةِ، فإذا بهم وقد تَسَرْبَلُوا ثوبَ العبوديةِ الخالصةِ للهِ عز وجل، وائْتَزَرُوا بعِزَّةِ الذِّلَّةِ إليه، وقوة الافتقار والتضرُّع له، وتجرَّدُوا من كل قوةٍ سوى قوِّتِه، وبَرِئُوا من كلِّ حَوْلٍ سوى حَوْلِه، تمامًا كما تجرَّدوا من المخيط وتوشَّحُوا ملابسَ الإحرامِ، وهُرِعُوا يطوفون ويَسْعَونَ، ويبكُون ويستغفِرونَ.

وما يكادُ المؤمنُ في حجِّه يفرُغ من تلقِّي واحدةٍ من تلك النَّفَحات الربانية الكريمة، حتى يسعَدَ بثانيةٍ تَلِيها؛ وهكذا دوالَيْكَ.

وحينَ تقولُ: عطاءُ الكريمِ الجَوادِ فلا غرابةَ ولا عَجَبَ! وعندما تقولُ: إحسانُ ذي الجلال والإكرام فحَدِّثْ ولا حرجَ، وحين تُقرِّر بأنه الجُودُ الربانيُّ اللانهائيُّ الذي لا يحِدُّه شيءٌ قطُّ فبالِغْ ما استطعْتَ فيما تتصوَّر من هذا الجُودِ، فكُلُّ الذي تتصوَّر أقلُّ من القليل في كَرَمِ الله عز وجل، وإذا قلتَ: إنَّهُ العَفْوُ والمغْفِرةُ والاستجابةُ فلا حَرَجَ، فالكُلُّ في رِحابِ البيتِ العتيقِ، وفي ضِيافةِ ربِّ البيتِ العتيقِ، ومَنْ دَخَلَ هذه الرِّحابَ فهو آمِنٌ، ومَنْ قَصَدَ تلك الضيافةَ فهو فائِزٌ.

وبعد: فإننا إذْ نُقدِّمُ أعْمَقَ التحيةِ والتهنئةِ لحُجَّاج بيتِ اللهِ الحَرامِ، بأعظم وأكرم وأنجح رحلةٍ يقومُ بها إنسانٌ، وإننا إذ نزُفُّ لهم بشائرَ الخيرِ والقَبُولِ والفوزِ لا يفُوتُنا أن نَضَعَ أيديَهم وأنفسَهم، وإدراكَهم ومشاعرَهم على أنَّ الحجَّ هو عَهْدٌ ومَوْثِقٌ أنْ يستقيمَ الحاجُّ على دين الله، وأن يُجنِّدَ نفسَه لخدمته، وأن يكونَ من دُعاتِه وأنصارِه، الساعِينَ لإعْلاءِ رايَتِه، العامِلِينَ لطُلُوعِ فَجْرِه البهيجِ، المجاهدين من أجل قيامِ دولتِه، وتكوينِ مُجْتمعِه، وسُطُوعِ نُورِه في جميعِ رُبُوعِ العالمينَ.
__________________________________________________ ___

الكاتب: د. حيدر الغدير

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-07-2022, 06:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيك اللهم لبيك

لبيك اللهم لبيك (3)

د. حيدر الغدير




((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)).

ما أجملَها من نداءٍ علويٍّ جميلٍ، وهُتافٍ ربَّانيٍّ خالص، تتدفَّقُ على الألسنةِ، وتهتُف بها الحناجرُ، وتُدوِّي بها الألوفُ!

إنها إشارةٌ إلى عهد يقطعُه الحاجُّ على نفسِه؛ أن يلتزمَ أمرَ اللهِ تعالى فيما يفعلُ، ويحكُم بشرعِه، ويُطبِّقُ منهجَه، ويجتنبُ جميعَ صفوفِ الضَّلالِ.

((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) هُتافٌ ربانيٌّ جليلٌ، تتجاوَبُ به الدنيا، وتهفُو إليه الكائناتُ، إنه شعارٌ كريمٌ جاءت النصوصُ بالإكثارِ منه، والحثِّ عليه، والدعوةِ إليه، ذلك أن هذه التلبيةَ العظيمةَ التي تنطِق بالاستجابةِ الخالصةِ المحضةِ، والإنابةِ الممحَّصة النقيَّةِ، ترفَع ألفاظَها الحبيبةَ حناجرُ الملبِّينَ المخلصينَ، هي من أعظمِ دواعي التأثير في النفس، من حيث تنبيهها إلى لوازم الإيمانِ ومقتضى الشهادتينِ، ومدّها بزادٍ جديدٍ وعطاءٍ ثَرٍّ من حرارة الإيمان، وعزيمة التخلُّص من الشوائب والأدْران، بالهمَّة المصرَّة على مغالبة الشهوات والأهواء، والنَّزَوات والرغبات، وتجاوُز المعوِّقات التي تحول بين المرءِ المؤمنِ وبين أن يكون حيث يريدُ اللهُ تعالى له، عملًا وعقيدةً، وسلوكًا ومنهجَ حياةٍ، وأخذًا بكُلِّ الأسبابِ والوسائل التي تُؤدي إلى اليقظةِ والمنعةِ، والثقةِ والحصانةِ، والقوةِ والأصالةِ، على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الدولة كذلك.

لا يَغِبْ عنك أيُّها المسلم ذلك، ولا يَغِبْ عنك أنه حين تكونُ التلبيةُ على مثل هذا المستوى من الوعي والصدق والالتزام، وحيث تكونُ الأكُفُّ الضارعةُ المرتفعةُ صورةً حقيقيةً لقلوبٍ وعقولٍ على المستوى المطلوب من الوعي والصدق والالتزام أيضًا، فاعلمْ إذن أن شيئًا ضخمًا قد حدث في حياةِ المسلمين، وأنَّ نُقْلَةً كبيرةً للخير قد حقَّقوها في حياتهم، وأن فجْرَ الإسلامِ قد اقترب موعدُه بذلك، وموعِدُه قد أزِفَ، وبدايةُ ظهورِه قد أخذَتْ تتوالى بشائرُها الحبيبةُ الغاليةُ.

لا يَغِبْ عنك ذلك أيُّها الحاجُّ الكريمُ، أيُّها القادم الوافد إلى بيت الله الحرام.. تُعلِن التوبةَ، وتُجدِّد العهدَ والميثاقَ، واحرصْ أن تكون واحدًا من العاملين لمجْدِ الإسلامِ، الساعِينَ لإعلاء كلمتِه، وقيامِ دولتِه، يَكُنْ لكَ الخيرُ المباركُ العميمُ في دينك ودُنْياك وأُخْراكَ.

((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ)).

كأنَّ الحاجَّ إذْ يقولُها، يتجمَّع كيانُه كُلُّه؛ شعورُه ولا شعوره، عقلُه وقلبُه، حِسُّه وعاطفتُه، مداركُه ومطامحُه، ليكونَ له من ذلك وبسبب ذلك مِثْلُ هذا التوجُّه الضارع؛ لَبَّيْكَ يا رب، سوف نُسرِع إلى تلبية ندائك، ونُهْرَعُ إلى التزام أوامرك، ونُصِيخُ السَّمْعَ لكُلِّ ما تطلُبُه مِنَّا، فنُسارع إلى إنفاذه، سوف نُجدِّد التوبةَ والعَهْدَ والميثاقَ، والإنابةَ الصادقةَ، والإخباتَ الخاشِعَ، سنُجدِّد في أنفسنا ذكرياتِ المجدِ والغلبةِ لفوزِ الإسلامِ وظهُورِه، تلك الذكريات الأثيرة الغالية التي شاءَتْ إرادتُك يا ربَّاه أن تنطلق بادئ ذي بَدْءٍ من عند بيتك الحرام، ثم تمضي تجوب البلدان، تحمل الخيرَ والنورَ للناسِ جميعًا، الناسِ كل الناسِ، في الأرضِ كل الأرضِ.

وسنزور المسجدَ النبويَّ الشريفَ في المدينة المنورة، طيبة الطيبة الحبيبة، ذلك المسجد الذي شَهِد ولادةَ المجتمعِ المسلمِ الأوَّلِ بقيادة الرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، لنتذكَّر الدرس الكبير في قيامه، ونستشعر خطورةَ التكليف، وجدِّيَّةَ المسؤولية، وعظمةَ الأمانةِ، ونُجدِّد العَزْمَ أن نسير على المنهج الذي سار عليه الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بما كان عليه أصحابُه الأطْهارُ الأبرارُ، ونعقِد العزمَ على حمل اللِّواء المسلم الذي عُقِدَتْ رايتُه أوَّلَ ما عُقِدَتْ في رحاب الحرم الطهور في المدينة المنورة، إبَّان الأيام الغالية الأولى لقيام دولة الإسلام، وسنظل نحن- معشر المسلمين- نفعل ذلك حتى ننقُلَ الرايةَ إلى الجيلِ الذي بَعْدَنا ليُواصِلَ مسيرةَ الإسلامِ المؤمنةِ المباركةِ، وسنُحاوِل أن نتأسَّى بذلك الجيلِ الربَّانيِّ القُرْآني الفريد الذي صاغَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهذَّبه وربَّاه، ونمشي كما مشى، ونفعل كالذي فعل، عسى أن نُدرِكَ شيئًا من الأُفق السامي الذي حلَّق فيه، والمطامح الكِبار التي استطاعَ أنْ يُحقِّقَها في واقعِ الناسِ.

إنَّه النداءُ الربَّانيُّ السماويُّ الجليل ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) هو الذي جاء بهذه الأعدادِ الهائلةِ إلى ظِلالِ أوَّلِ بيتٍ وُضِع للناس، لتُلبِّي كلُّها، لتطوف كلُّها، لتسعى كلُّها، وتقِف بعرفة كلُّها، لتتحرَّك في السَّهْل والجبل، والبَرِّ والبَحْرِ والجوِّ، لَهِجَةً بالتلبية، ناطقةً بالدعاء، خاشعةً لله، ذليلةً بين يديه، ضارعةً منيبةً إليه.

إنه النداء الإيماني العظيم ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) الذي جاء بهذه الأعدادِ الهائلةِ المؤمنةِ جميعًا إلى مَهْدِ الإسلامِ الأوَّلِ ومَأْرِزِهِ ومُنْطَلَقِه، هو النداءُ نفسُه يحدُوها اليوم لأنْ تُصيخ السَّمْعَ إلى كلمة الإسلام من جديد، فتتذكَّر واقعَ المسلمين في كل صُقْعٍ من وطنها الكبير، وتضع كُلَّ طاقاتِها في خدمة العقيدةِ التي اجتمعت عليها الأمةُ، والمنهجِ الذي على هَدْيِها سادَتْ حضارتُها في العالمين، وهو النداءُ نفسُه الذي يدعوها لأن تعقِد العَزْم على أن تكون وفيَّةً لعهد الإسلام، صادقةً مع بني الإسلام، مستجيبةً لدعوة القرآن.

وهو النداءُ نفسُه الذي يدعو حشودَ الحجيج الهائلة هذه، أن تخلَع عن نفسِها كُلَّ ألوان الجاهليات المعاصرة، والمبادئ الدخيلة، والأفكار المستوردة، وأن يكونَ جميعُ ولائها للإسلام وحدَه، تدعو إليه، وتُجاهِد من أجلِه، وتسعى لإقامةِ دولتِه، وبِناءِ مجتمعِه، ورفْعِ رايتِه خفَّاقةً عاليةً في رُبُوع العالمينَ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-07-2022, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيك اللهم لبيك

لبيك اللهم لبيك (4)

د. حيدر الغدير




((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).


هذا النداءُ الربانيُّ البهيجُ، هو هُتافُ التلبيةِ المدوِّية، ترفعُها حناجرُ هذه الأعدادِ الهائلةِ من البشر، في رحلة الحَجِّ النورانيَّةِ منذُ كان حجٌّ، وحتى يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها. هذه التلبيةُ الربانيةُ تُردِّدُها في أيامنا هذه الأفواهُ الطاهراتُ المُباركاتُ، لوفُودِ الحجيجِ القادمةِ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ من كُلِّ مكانٍ؛ من أدْغالِ إفريقيا وصَحاريها، وأعماقِ آسيا وفيافيها، وجبالِ أوربا وثُلُوجِها، من الصَّحاري والجبالِ، والسُّهُولِ والشواطئ، والأمكنةِ القريبةِ والنائيةِ، ومن جميع شعوبِ الدنيا على اختلافِ بُلْدانِها وألوانِها وأجناسِها ولُغاتِها، من كلِّ مكانٍ، خرجَ المسلمونَ في رحلةٍ مباركةٍ كريمةٍ يَنْشُدُونَ بيتَ اللهِ الحَرامِ، مُؤمِّلينَ الفوزَ والمغفرةَ والقَبُولَ.

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].

رحلةٌ مرَّتْ عليها قُرونٌ وقُرونٌ، وكرَّتْ عليها الأحْقابُ والأجيالُ والدُّهورُ، تبدَّلَتْ دُوَلٌ وحكوماتٌ، وخِلافاتٌ وسلاطينُ، وانقرضَتْ حضاراتٌ، وقامتْ حضاراتٌ، وماتتْ إمبراطوريَّاتٌ ووُلِدَتْ أُخْرى، والرحلةُ المباركةُ هيَ هيَ، حيَّةٌ في ضمائر المسلمين، جيَّاشةٌ في أخْلادِهم، أثيرةٌ عليهم غاليةٌ، هم بها حفِيُّون، وعليها حريصونَ، لا تزال تدفَعُهم للمضيِّ فيها على الرَّغْمِ من الحرِّ والبرْدِ، والجُوعِ والعَطْشِ، والبُعْدِ والغُربةِ، والمشقَّةِ والمتاعِبِ، والنفقةِ والبَذْلِ، وآلامِ السَّفَرِ ومتاعبِ الطريقِ، بل مخاطره أحيانًا التي قد تُودي بالمرءِ إلى الهلاكِ كما كان الناسُ يعهدون إلى ما قبل نصف قَرْنٍ من الزمان أو أقل؛ لكنَّ ذلك كُلَّه لم يصرِفِ المسلمينَ عن أحَبِّ وأهمِّ رحلةٍ لديهم، وكيف ينصرِفون عنها، والشوقُ مُلِحٌّ، والسعادةُ كبيرةٌ، والقلبُ مشوقٌ، والمتعة عاليةٌ سماويةٌ، والأملُ بمغفرة الله عز وجل وعفوِهِ ورُضْوانِه وجنَّتِه كبيرٌ كبيرٌ، وإنها لأَهْدافٌ ومعانٍ يهُونُ من أجلِها كُلُّ شيءٍ؟!

إنَّ الرحلةَ إلى بيت الله عز وجل هي رحلةُ التاريخِ كُلِّه، وهي رحلةُ الدنيا كُلِّها، رحلةٌ بطولِ الزمانِ، وعَرْضِ المكانِ، وتَنَوُّعِ البُلْدان، واختلافِ البشرِ، رحلةٌ تَظَلُّ تهفُو إليها قلوبُ المسلمينَ فيُسارعونَ للمشاركةِ فيها، ما كان كونٌ وما كانت حياةٌ، رحلةٌ ستظَلُّ قائمةً ما قامتِ الأرضُ لجميعِ أبناء الأرض؛ ممن ارتضى اللهَ تعالى ربًّا، والقرآنَ الكريمَ دُسْتورًا وإمامًا، وهاديًا وحَكَمًا، ومنهجَ حياة، ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، والإسلامَ دينًا، واقتنع بذلك، ووَعَى لوازمَ قناعتِه هذه، واستقامَ عليها وتبنَّاها.

إنها رحلةُ الاغتسالِ والطُّهْر، والحبِّ والصفاء، والمودة والوفاء، والإيمان والهداية، والتوبة النَّصُوح، والأوْبةِ إلى دَرْبِ الاستقامةِ، والنَّأيِ عن مَزالقِ الشيطانِ، رحلةٌ يغتسِلُ الإنسانُ فيها من ذنوبِه وآثامِه وخَطاياه، ويفتَحُ صفحةً جديدةً في حياته أن يكونَ بالإسلام وللإسلام، على ذلك يحيا، وعليه يموتُ، ومن أجل إعلاء رايتِه يعملُ ويُجاهِدُ.

رحلةٌ يخرُجُ فيها الإنسانُ - إذْ يُحْرِمُ مُتجرِّدًا من ثيابِه إلَّا ما يستُرُه - ويندمِجُ في الناس جميعًا في موكبٍ ربانيٍّ عظيمٍ هو من شعائر هذا الدين وخصوصياته، حيث لا شبيهَ له قَطُّ في أُمَّةٍ من الأُمَم، أو دِيانةٍ من الدِّيانات.

وفي هذا الموكب تُلْغى جميعُ الطبقات والدرجات، والشَّارات والانقسامات، والألوان والبلدات، والأعراق واللُّغات، وتظهَرُ الأمةُ المسلمةُ في الصورة الحقيقية التي يريد دينُها العظيمُ منها أن تكون عليها، ويشعُر المسلمونَ في هذا الموكب الرائع العجيب أن الملائكةَ تحُفُّهم وتنظُر إليهم، وأن رحمةَ الله تعالى منهم قريبةٌ قريبةٌ، وأنَّ عينَه تحرُسُهم وتَرْعاهم وتَكْلُؤهم، وتَجْبُر عجزَهم، وتستُرُ نقْصَهم، وتُعِين مُحتاجَهم، وتُسَدِّدُ خُطاهم، وتتجاوَز عن سيِّئاتهم، وتعفُو عن آثامِهم وأخطائهم، وتُنْزِل عليهم شآبيبَ الرحمةِ والمغفرةِ والاستجابةِ والقَبُول، فتُؤمِّنهم ممَّا يخافون، وتمنحُهم ما يرجُون.

وتنتقل أرواح الناس في هذا الموكب، لتتذكَّر مع شعيرة الحج الخالدة العظيمة إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما الصلاة والسلام، وتتذكَّر رسولَ الهُدى محمدًا صلى الله عليه وسلم وصَحْبَه الكِرامَ: أبا بكرٍ وعُمَرَ، وعُثْمانَ وعليًّا، وخالدًا والجرَّاحَ، وآخرين كثيرين، فتمتلئ عزمًا وتصميمًا أن تُواصِل المسيرةَ على دَرْبِهم المباركِ وهَدْيِهم الكريمِ.

وتتذكَّر فيما تتذكَّر هاجرَ زوجةَ نبيِّ اللهِ تعالى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، وهي تعدُو بين الصَّفا والمَرْوة في لهفةٍ حَرَّى حزينةٍ، باحثةً عن قطرةِ ماءٍ، تبُلُّ بها صَدَى رضيعِها الذي أشْفَى على الهلاك، ويكون في تَذْكارِ الناسِ لها ما يُوقِدُ فيهم لهفةً جديدةً حزينةً، يخافون معها ذنوبَهم وخطاياهم أن تقودَهم إلى الهلاك، وأملًا صادقًا عارمًا أن يتداركَهم اللهُ برحمته ومغفرته كما تداركَتْ أمَّ إسماعيلَ من قَبْلُ.

ويمضي الرَّكْبُ هنا وهناك، ويمضي كذلك ليزور المدينةَ المنورةَ والمسجدَ النبويَّ الشريفَ، ويلتقي في رِحابِه بسيِّد الخَلْق، سيِّد البشرِ، أُسْتاذِ العالمينَ، ومُعَلِّمِ الناسِ، قائدِنا وإمامِنا وهادِينا، حبيبِنا وسيِّدِنا ونبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فتكمُل الفرحةُ، وتطيب السرائرُ، وتُشرِق الوجوهُ، وتصفُو القلوبُ، وتسمُو الأرواحُ، ويتَّقِد العَزْمُ في المسلم أن يعود من رحلته وقد عاهدَ ربَّه عز وجل أن يسيرَ على نهْجِ هذا النبيِّ الكريمِ صلى الله عليه وسلم وطريقِه في قابل الأيام، وأن يُجاهِد لإعْلاءِ الإسلام الذي بُعِثَ به رحمةً للعالمين حتى يرى دولتَه قائمةً، ومجتمعَه ماثلًا، ورايتَه ظافرةً.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-07-2022, 06:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيك اللهم لبيك

لبيك اللهم لبيك (5)

د. حيدر الغدير



((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).


ذلكُم هو الهُتافُ العُلويُّ الجليلُ الذي يملأُ أجواءَ أُمِّ القُرى في كلِّ عامٍ، وتتجاوَبُ به أرجاءُ مكَّةَ المكرمةِ كُلَّما اقترَبَ الحَجُّ، وأخذَتْ قوافلُ المؤمنينَ القادمينَ من كُلِّ صَوْبٍ تصِلُ إلى الأرضِ الآمِنةِ المُقدَّسةِ.

وهو هُتافٌ يفيضُ نغمةً حُلْوَةً عُلويَّةً، وأشواقًا متدفِّقةً نبيلةً، تتجلَّى فيه رُوح الحُبِّ والإيمانِ والحنانِ، يُعْلِنُ به المُحِبُّ هُيامَه، ويُصرِّح فيه عمَّا يُكِنُّه من شوق مُتَّقد، وعاطفةٍ حيَّةٍ.. ويجهَر بذلك كلِّه منذ أن يلبَسَ ملابسَ الإحرامِ، لكنه حين يصِلُ إلى البيتِ الحرامِ يفيض ما فيه ويتدفَّق، ويزداد فيضانًا وتدفُّقًا، فلا يرويه إلَّا أن يشعُر بأنه موصولُ الأسبابِ بالسماء، وثيقُ العُرْوةِ بالإيمان، مُترفِّعٌ على الصغائر والسَّفاسِف، مُتجرِّدٌ من المطامع والأهواء، يُدوِّي لسانُه وقلبُه: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).

إنه يبُثُّ لهذه الكلمات العلوية شوقًا أكَنَّه من زمان، وحبًّا انطوى عليه منذ دهر، وحنينًا سكَن أعماقَه من قديمٍ، وها هو يرى نفسَه قد تحقَّق أملٌ من أكرم آمالِها، وغايةٌ من أنْبَلِ غاياتها، فلا غرابةَ أن تراه يدعو دعاءَ الهائمين، ويُثني على ربِّه ثناءَ المؤمنين الموحِّدين، ولا يتمالكُ نفسَه من شدَّةِ الفرح الذي غمَر قلبَه مما أكرمه اللهُ به، فقد تنهلُّ دموعُه، ويستبدُّ به البُكاء، وقد يسبَحُ في لذَّةٍ رُوحيةٍ ساميةٍ، وقد تهدأ منه الجوارحُ قلبًا ورُوحًا وجسدًا، فتراه صامتًا متفكِّرًا خاشعًا، أو تراه وقد عَلَتْ وَجْهَهُ ابتسامةٌ هادئةٌ هانئةٌ شاكرةٌ.

لقد قرَّتْ عينُه بزيارةِ البَلَد الذي طالما تمنَّاه، فحلَّ بمكةَ المكرمةِ مَهْدِ الإسلامِ الأولِ ومَهْبَطِ الآياتِ الأولى من الوحي، وحلَّ بالمدينة المنورة، التي شرُفَتْ باستضافة سيِّدِ الخَلْق محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيًّا وميتًا، وكرُمَتْ بأنها كانَتْ أوَّلَ دولةٍ تُقامُ على وجْهِ الأرضِ بدوافع الفِكْرِ والعقيدةِ والاختيارِ الراشدِ؛ حيثُ كانت مبادئُ الإسلامِ تجد الطريقَ العمليَّ للتطبيقِ الواقعيِّ في دُنْيا الناسِ، لتصُوغ للبشرية أكْرَمَ مُجْتمعٍ، وتبني لها أشرفَ حضارةٍ، وتُطلِع للناسِ فجرًا سعيدًا هو أكرمُ عهودِها، وأشرفُ أيامِها، وأجملُ ما حفَلتْ به في تاريخِها الطويلِ على الإطلاقِ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 89.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 86.01 كيلو بايت... تم توفير 3.55 كيلو بايت...بمعدل (3.96%)]