|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() سفور (قصة) غدير عبدالمجيد عبد الله الخدام بعد يوم عمل طويل رَكِبَتِ الحافلة، وألقت بجسدها المنهك على كرسيٍّ، شعَرت بأن وزنها قد ازداد، وثمة احتمال لهبوط الكرسي، الذي بالكاد يسمى كرسيًّا، حافلات النقل العام رديئة، شبابيكها رديئة، كراسيُّها رديئة، رائحتها كريهة، تقتحم أنفك فور صعودك الحافلة، حتى إن بعض الناس في هذه الحافلات مثيرون للريبة، وربما مخيفون. لم تنتبِهْ ندى لِمَن كان يجلس خلفها أو أمامها، كانت سعيدة لمجرد أنها قد جلست وحدها على الكرسي دون أن تضطر - لكثرة عدد الإناث، وقلة عدد الحافلات في بلادنا - إلى الجلوس مع أخرى على الكرسي نفسه، أو الانضمام كثالثة إلى فتاتينِ تجلسانِ على كرسيين. كانت منهَكَةً، ولأن القراءة تبعث على الاسترخاء أخرجت ندى كتابًا من حقيبتها وبدأت بالقراءة، كعادتها لم تنتبه إلى عنوان الكتاب الذي أخذته على عجلٍ من مكتبة العمل؛ لأنها كانت قد نسِيَتْ أن تأخذ كتابًا من مكتبتها الخاصة، بدأت بالقراءة، لكنها سرعان ما شعَرت بالملل، لم يكُنِ الكتابُ سوى نصائحَ دينيةٍ بطريقة السرد الخالية من التشويق، كأنها تقرأ معلومات مصفوفة لا أكثر، أغلقت ندى الكتاب، ونظرت إلى الأمام، لمحت كرتونة تبدو قديمة جدًّا بلون بني يميل إلى السواد، وسخة، مثبتة إلى جانب المرآة الرئيسة التي ينظر إليها السائق، كتب عليها (تبرُّج + تَرْك صلاة = نار)، هكذا دون أية فراغات للمغفرة، أو أمل بالخلاص، حتى إن هذه العبارةَ قد فاقت علم الحساب في حَبكتها؛ لأنك قد تجد أكثرَ مِن طريقة لحل مسألة في علم الحساب، ولكن كاتب هذه العبارة أصرَّ على أن يجعل الحروف قريبةً، والمساحة صغيرة؛ ليُشعِرَ القارئَ بانعدام الطرق، وأنْ لا مَلاذَ ولا فرارَ ولا خلاصَ. عندما قرأَتْ ندى العبارة، شعَرت بحمَّى وقشعْريرة تجتاحانِ جسدها، هل كانت تستعد للنارِ بطريقة ما؟ إنها ترتدي لباسًا محتشمًا على أية حال، وإن لم يكنِ اللباسَ الذي يقره معظمُ شيوخ الدِّين، ولكنها كانت قد جمعَتْ صلاتي الظُّهر والعصر معًا، ترى هل يحسب هذا من باب ترك الصلاة؟ وهل لباسها تبرُّج؟ هذه هي الأسئلة التي أصابتها بالقشعريرة، وجعلَتْها تشيح بوجهها عن تلك العبارة، وتنظُرُ مِن الشباك إلى عالَمٍ أرحَبَ. وما انتظرها في الخارج كان أشدَّ وقعًا على حواسِّها مِن تلك المعادلة الرياضية المختنقة المرصوصة، شاهدَتْ لافتةً كُتِب عليها: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، أراحَتْها هذه الجملة، لمست كلَّ عِرق من عروقها، وأبدلت ذُعرها الصامتَ بسكينة، ثم أغمضت عينيها وقالت: "لا إله إلا الله، وأستغفر الله"، وبعدها لهج لسانُها بالكثير من الذِّكر، لهج لسانها بالذكر وهي مغمضة العينين، في محاولةٍ للسموِّ والتحليق في ملكوت الله بعيدًا عن عبارات البشَر القاسية. أخبرتني ندى بأنها قرأت القرآن كثيرًا، وبالرغم من وجود آيات الترهيب فإنها لم تشعُرْ يومًا بالخوف يقتحمها بهذا الشكل، كانت تقرأ وتبكي خشيةً وأملًا وفرحًا، لكنها زُلْزِلَتْ مِن تلك العبارة، لم يكن يعلم ذلك السائق الذي لم يترك بنتًا أو امرأة تصعد الحافلة قبل أن يتفحَّصَها بنظراتِه الوقحة من رأسها حتى أخمَصِ قدميها، لم يكن يعلم أن عبارةً مِثلَ تلك لا مجال فيها للقبول أو الرفض، ولا مساحات فارغة للخلاص، ولا حتى فاصلة بين الذنب والتوبة - قد تجعل بعض الناس يرتجفون خوفًا. أغمضَتْ ندى عينيها، واستسلمت لحُلْم جميل، لم تخبرني به كاملًا، قالت لي فقط: لو كانت أمي تعطيني حبة حلوى عندما كنت طفلة، لذهبتُ إلى سريري مبكرًا مبتهجة، لكنها دائمًا كانت توبِّخُني وتهددني بأبي رجل مسلوخة، والغول، والوحش، في المرات الأولى بكيتُ، لكنني لاحقًا تصادقتُ معهم، ولم يعُدْ أيٌّ منهم يُخيفني، ولم أعُدْ أنام بنصف عين، أو أحلُمُ بنصف ذاكرة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |