الأساس التقابلي في البلاغة العربية - مقاربة تأويلية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 586 - عددالزوار : 24508 )           »          فضل الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          حاجتنا إلى الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          ضوابط التسويق في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الآمنون يوم الفزع الأكبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          نعمة وبركة الأمطار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          فضائل الحياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          إصلاح المجتمع، أهميته ومعالمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          من أراد أن يسلم، فليحذر من داء الأمم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          وقفات مع شهر رجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 14-10-2021, 05:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,777
الدولة : Egypt
افتراضي الأساس التقابلي في البلاغة العربية - مقاربة تأويلية

الأساس التقابلي في البلاغة العربية - مقاربة تأويلية
محمد بازي






تمهيد:

نسعى في هذا المقال إلى تَبيُّن أسرار بلاغة التقابل التي تَضمَّنَتها علوم البلاغة العربية القديمة، عبر تَبْيين معالمها وتجلياتها في العوالم الداخلية المتقابلة للنصوص ثانيا، للتأكيد على بلاغة الخالق في خلقه، وفي تعليمه المخلوقين جمال التعبير عبر التقابل، والمعاني المتواجهة ظاهريا أو باطنيا. معتمدين في مقترحنا على دراسة استكشافية للكتابات البلاغية، للتدليل على حضور هذا البناء التقابلي الظاهر والخفي، ثم تمكين المتلقي من الوقوف عليه بنفسه في أنماط نصية وخطابية أخرى. وهذا جوهر منهجية التأويل التقابلي، ولذلك سنحاول أن نبين أن التقابل المتناسق للمعاني في النصوص، وما ينتج عنه من أثر جمالي مرجعه التناسق الجمالي ذي الأبعاد التقابلية الذي أودعه الله تعالى في الكون وظواهره أولا، ثم عُبِّر عنه في التواصل العادي أو الأدبي بمفردات ذات منحى بلاغي تقابلي، عبر الحقائق و المجازات (التراكيب الاستعارية والتشبيهية كما سنبين)، وهي تختزل بذلك تقابل العوالم المادية والمعنوية؛ فيحصل التواصل على هذا الأساس التقابلي المتواضَع عليه؛ حيث تتشكل النصوص والخطابات- تبعا لذلك- وفق ناموس التقابل الكوني، وهذا ما يستدعي اليوم التأسيس لتأويلية تقابلية تستمد بعض أسسها من الدراسات البلاغية، فتكون منطلقا للقراء والمؤولين لفهم النصوص المبنية أصلا على تقابلات ظاهرية وخفية.



تبسط هذه الدراسة تصورات أولية، نحن بصدد توسيع مجالها ومرجعياتها ومباحثها، ضمن اهتمامنا بالتأويليات العربية، وترتبط تحديدا بالتقابلات الجُملية والنصية والخطابية. لقد ظل للتقابل حضور ضمني قوي في كل الظواهر البلاغية القديمة بشكل أو بآخر، وسنوضح ذلك من خلال بعض التصورات البلاغية في "الصناعتين" لأبي هلال العسكري، و"المزهر" للسيوطي، و"أسرار البلاغة" للجرجاني، و"منهاج البلغاء" لحازم القرطاجني، و"مفتاح العلوم" للسكاكي وغيرها.



1- التصور المقترح والإشكالات المرتبطة به

ألا يمكن أن نؤسس اليوم للمؤولين بلاغة جديدة نسميها بلاغة التأويل التقابلي، انطلاقا من تراثنا التأويلي والأدبي البلاغي، تستند على الأنساق التقابلية الضمنية والظاهرة التي تنبني عليها النصوص والخطابات، وعلى أنساق تفاعلية في الفهم والتأويل؟



وهل من الضروري، ونحن نعود إلى هذا التراث، وما تضمنه من تصورات عالية القيمة حول المعنى وتشكلاته، أن نبقى أَسْرى التصورات والأطر المعرفية التي وضعها البلاغيون القدامى، بحيث نتبع بشكل حرفي ما رسموه من أسس وقواعد في كل مسألة بلاغية على حدة؟



لا ريب أن التطور المعرفي، وتوافر تصورات جديدة مرتبطة بعلم النص وتحليل الخطاب، والغنى الذي تعرفه نظريات القراءة والتأويل، يحتم إغناء أدوات الفهم والتأويل المعروفة. لكن ألا يمكن القول - من زاوية نظر أخرى - بأن الكثير من الأدوات البلاغية القديمة مثل التشطير، التقسيم، التعطف، التلطف، التطريز،المضاعفة، الأرداف والتوابع، وغيرها...أصبح خافت الحضور لدى محترفي الكتابة، و لدى المؤولين أثناء مقاربة الظواهر التواصلية المختلفة، وأنه من الأجدر باهتمامات البلاغة الجديدة، والبلاغيين الجدد، ومحللي الخطابات، وضع أنساق تصورية للتعامل مع الأشكال الثقافية والتواصلية الكثيرة التي نتفاعل معها اليوم، والتي تبني أنظمتها وبلاغتها في التأثير والإبلاغ على أنساق تواصلية تتجاوز بلاغة الجملة وبلاغة النص إلى بلاغة الصورة، والخطاب الرقمي المتشعب وغير المتشعب؟



2- مِلاك التأويل التقابلي

تحاول هذه الأبحاث مقاربة العديد من الظواهر البلاغية ذات الأساس التقابلي، سواء ما ارتبط منها بالتقابلات الظاهرة، أو ما تعلق بالمعاني الخفية فيها، للتأكيد على سر جمال الخلق في الأشياء والعوالم، والقائم بفضل الخالق عز وجل على التقابل في مستوياته الظاهرة أو الخفية، والتي علَّمَها الخلق، أو توصلوا إلى بلاغتها في التواصل وبناء النصوص والخطابات،وإبلاغ المعاني، فتشكلت وتشاكلت، وتتبعَتْ البلاغة والنقد الأدبي أشكالها وتشكُّلات المعنى فيها.



أسرار التقابل كثيرة، والوقوف عند معالمه ظل غير واضح في ثقافتنا وتراثنا البلاغي والنقدي؛ ولذلك نحاول في هذه المقاربات وضع أسس بلاغة التأويل التقابلي، وتوضيح معالمها وتجلياتها في الكون، وفي العوالم الداخلية المتقابلة للنصوص، للتأكيد على بلاغة الخالق، الذي أودع نفوس المخلوقين جمال التعبير عبر التقابل، والمعاني المتواجهة ظاهريا أو باطنيا.



يهدف الاشتغال على أنماط نصية متباينة إلى تأكيد حضور البناء التقابلي في النصوص والخطابات، من أجل إيقاف القارئ عليها، وتزويده بالأداة المنهجية لبناء المعاني واكتشاف أسرار الجمال التعبيري، ثم التعمق في ذلك للوصول إلى أن جمال التناسق التقابلي للمعاني مرجعه التناسق الجمالي الذي أودعه الله تعالى في الكون وظواهره، ثم عُبِّر عنه بمفردات ذات منحى تقابلي، وتراكيب استعارية وتشبيهية وكنائية... تختزل تقابل العوالم؛ تبعا لذلك يحصل التواصل على هذا الأساس التقابلي المتواضع عليه، والبناء المتقابل المبني حسب المقامات؛ فتشكلت المعاني النصية وفق هذا الناموس الكوني المتقابل، وهو ما يستدعي اليوم التأسيس لمنهجية تأويلية تقابلية،ينطلق منها القراء والمؤولون لفهم النصوص المبنية أصلا على تقابلات ظاهرية و خفية.



3- التقابل الخفي في البنيات التشبيهية

التشبيه إلحاق شيء بذي وصف في وصفه؛ والغرض منه كما ذكر السيوطي (ت911ه) في "الإتقان" تأنيس النفوس بإخراجها من خفي إلى جلي، وإدناء البعيد من القريب ليفيد بيانا، وقيل الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار[1].



يقوم البناء التشبيهي باعتباره تقابلا للعالم وللمعنى على مستويين: ظاهر عبر تشبيه شيء بشيء، يدل عليهما لفظا المشبه والمشبه به، وخفي وهو القوة العاملة على إحداث تقابل بين شيئين بينهما تشابه لقصد من المقاصد التعبيرية؛ فالباني للتشبيه يقابل بين أمرين بينهما جامع الشبه، ليقوم المتلقي بدوره بإحداث تقابل بين المشبه والمشبه به لمعرفة أوجه الشبه والوقوف على المعنى. ينبني التشبيه إذًا كغيره من الظواهر البلاغية على تقابل خفي ذي صبغة إنتاجية وصبغة تأويلية.



إن التقابل من الأسس التعبيرية الخفية التي تتحكم في مناحي التعبير، وليست الظواهر البلاغية المعروفة إلا تفريعات له، وتدقيقات ترصد التباينات الحاصلة بين لون تعبيري وآخر، أما الأساس المتحكم في إنشاء الخطاب فهو التقابل. قال ابن سيده: "مقابلة الشيء بالشيء أذهب في الصناعة"[2]؛ ولذلك نسعى إلى الوقوف على هذا الأساس التقابلي في التفكير البلاغي العربي، تبعا للتقابلات الخفية التي يتأسس عليها إنتاج المعنى، وسننتقي من علوم البلاغة الثلاثة: البيان والمعاني والبديع ما يفي بتبيين هذا الأساس التقابلي في إنتاج الخطاب بهدف بناء مبادئه وقواعده.



التشبيه وصف بأن أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة تشبيه[3] أو بغيرها، و يهدف إلى إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، نحو قوله تعالى: ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ﴾[4]، فالتشبيه قائم على مقابلة ما هو معنوي (عمل الكافر) بما هو مادي (السراب). والوجه الآخر لبناء التشبيه هو إخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة{إنما مثل الدنيا كماء أنزلناه من السماء}[5] إلى قوله ﴿ كأن لم تغن بالأمس ﴾، وفيه بيان لما جرت به العادة إلى ما لم تجر به، والمعنى هو الزينة والبهجة ثم الهلاك.



أما الوجه الدلالي التقابلي الثالث في التشبيه فهو إخراج مالا يُعلم بالبديهة إلى ما يُعلم بها، نحو قوله تعالى: ﴿ وجنة عرضها السموات والأرض ﴾[6]، والجامع بين العنصرين المتقابلين هو العِظم، والقصد التشويق إلى الجنة.والوجه الرابع هو إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، نحو قوله عز وجل: ﴿ وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ﴾[7] والجامع بين الأمرين العِظم.



يقوم التشبيه، كغيره من الوجوه البلاغية عند مُنتجِه، على تصور المعاني بشكل تقابلي، انطلاقا من عالم تتقابل فيه الماديات والمعنويات: ما يُعرف بالحواس وما يُعرف بالفكر؛ وهكذا يتأسس التقابل في التشبيهات العربية على المعروفات المتماثلات، فشُبِّه الجواد بمقابله البحر، والحسن بمقابله الشمس، وشُبِّه الحليم الرزين بمقابل معروف وهو الجبل، والقاسي بمقابله المعروف عند الناس وهو الحديد،....



يُبنى التشبيه على استحضار المقابلات (المشبه به المناسب للمشبه)، والقصد من هذا الاستحضار التوضيح المعنوي والتأكيد. وهو أس من أُسس التعبير الإبلاغي في سائر اللغات والثقافات، وَفْق هذا البعد التقابلي الحاصل أصلا في الوجود المادي والمعنوي.وقد طال هذا البناء التقابلي خطاب الحكمة فانبنت كثير من الأمثال والحِكم على المقابلة بين الأشياء قصد التقريب والتفهيم والتوضيح والتأكيد،مثل قول ابن المقفع:" الدنيا كالماء المالح كلما ازددت منه شربا ازددت عطشا"، وقال بعض الحكماء: "الدنيا كالمنجل استواؤها في اعوجاجها"[8]. كما أن التواصل اليومي بين الناس ينبني على التقابل في الكثير من الأحوال والمقامات، ومن هنا ضرورة التفكير في دراسة الخطاب التواصلي اليومي من هذه المنطلقات التقابلية.



بسط البلاغيون الكلام في وجوه التشبيه وإمكانياته، كتشبيه الشيء بالشيء صورة، أو صورة ولونا، أو حركة، أو معنى. ووقفوا على بدائعه، حين يُوفَّق الشاعر في تشبيه أربعة أشياء بأربعة في بيت واحد، وتطرقوا لعيوب التشبيه مثل إخراج الظاهر إلى الخافي، والمكشوف إلى المستور، والصغير إلى الكبير[9]، والتشبيهات البعيدة... وغيرها من الاهتمامات التي اعتنت بصناعة الكلام، ودرجات البراعة أو الإخفاق فيه، ووجوه حصوله، مع الإتيان بالنماذج الشعرية، وإبراز حدود التعالق والتناص بينها. وكل ذلك مفيد في بابه، غير أن غرضنا من تتبعه هو الإشارة إلى البعد التقابلي الذي انبنت عليه الأساليب البلاغية القديمة، وقد كان بناء قاعديا متحكما في الكثير من الظواهر دون أن يتعمق البلاغيون في دراسته.



غير أن هذا الأمر ليس مقصدنا الوحيد من هذه المقاربات، وإنما الاستئناس بذلك النظام العميق الذي انبنت عليه الخطابات الأدبية، وتتبعتها الأبحاث البلاغية وخطاب الشرح والتفسير، بهدف تعزيز مقترحنا، والاستدلال على سداد المقاربة التقابلية التي تجد أساسها المشترك بين الخطابات، وتجد لها دعما قويا في الدراسات البلاغية القديمة، وقد وقفنا بتركيز شديد عند التشبيه، لنتناول البعد التقابلي في التمثيل و الاستعارة وغيرهما من الظواهر البيانية.



4- البعد التقابلي في التمثيل

التمثيل هو أن تمثل شيئا بشيء فيه إشارة؛ وسمي المثل مثلا لأنه ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به[10]، والماثل الشاخص والمنتصب. قالوا:في المثل ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه[11]؛ كما روي في الأثر: "المؤمن في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، ونعم الصهر القبر".



ومن التمثيل التعبير عن معنى بلفظة موضوعة لمعنى آخر[12]، مثل " فلان نقي الثوب"والقصد أنه لا عيب فيه، والتقابل الحاصل فيه على المستوى الصناعي هو أن المتكلم أراد معنى (أ) وهو "أنَّ فلانا لا عيب فيه"، من خلال إيراد معنى (ب) وهو " نقي الثوب" على سبيل التمثيل. ونفهم من هذا أن التقابل ليس تام الحضور وظاهرا في البنية القولية دائما، وإنما يُستفاد بالفهم والتأويل، وإيجاد علائق رابطة بين البنية الظاهرية غير المرادة، وبين البنية المؤَوَّلة وهي المرادة، وهو قريب من الكناية. مقابل هذه البنية، يُقال: "فُلانٌ دَنِس الثوب" فليس المقصود هو تدنس الثوب، مع أنه يمكن أن يكون المقصود في سياق تعبيري معين، وإنما المراد به أنه "غادر وفاجر".



وللعرب استعمالات لغوية كثيرة على هذا النحو، مثل: "فلان طوى كشحه عن فلان"، إذا ترك صحبته ومودته، وقولهم:" أفلَ نجمُه"، و"ذهبت ريحه"، و"أطفئت جمرته"، و"انكسرت شوكته"، و"تضعضع ركنه"، و"رق جانبه"....وفي الحديث: "إياكم وخضراء الدمن"، فالقصد من خضراء الدمن المرأة الحسناء في المنبت السيء، فأتى بغير اللفظ الموضوع لها على سبيل التمثيل.



5- التقابل الخفي في البنيات الاستعارية والمجازية

يتقابل في البنيات الاستعارية المستعار له والمستعار منه، والاستعارة انتقال وتنقيل من الحقيقة المتروكة إلى الاستعارة لبلاغتها، فقولنا: "تضحك الأرض من بكاء السماء" يكشف عن التصور التقابلي الأولي الثاوي وراء بناء العبارة الاستعارية، وهو التقابل المستحضر ذهنيا عند المنتج: الإنسان يضحك أي يبدي عن الثغر، فالضحك يدل على الفرح والانشراح، ويقابله "الأرض تضحك" أي تبدي حَسَن النبات.بكاء السماء يقابل بكاء الإنسان (انهمار الدموع). ثم هذا التقابل بين ضحك الأرض وبكاء السماء، ومقابله إنبات الأرض وانفتاح الزهور بسبب المطر.



انشغل البلاغيون القدامى في تناولهم لمبحث الاستعارة بإيراد كثرة الشواهد والأمثلة من القرآن الكريم، والخطب، والأقوال، والشعر. وإذا تتبعنا مُنجز العسكري، مثلا، نجده يقوم على جمع المادة المتعلقة بالاستعارة مثل أي ظاهرة يدرسها، ثم يقدم شروحا قليلة؛ وكأن الكتاب مدونة نصية تمد الكُتاب ومُحترِفي الصناعتين (الكتابة والشعر) بالنماذج البلاغية الموفَّقة في كل باب من أبواب البلاغة على حدة. وهو عمل قيم، لأن حفظ هذه الآثار البلاغية وتصنيفها داخل أبواب البلاغة دليل معرفة بضروب القول البلاغي، وبالفروقات القائمة بينها؛ كما يتوجه بالنقد أحيانا إلى الشعراء والكتاب، مثل ما فعل مع أبي تمام حينما انتقد إكثاره من الاستعارات البعيدة. قال: "وقد جنى أبو تمام على نفسه بالإكثار من هذه الاستعارات، وأطلق لسان عائبه"[13].



يقوم بناء الصورة الشعرية على التقابل بين الأشياء والعناصر، فالتصوير تركيب تقابلي بين مكونين أو عنصرين أو أمرين، تبعا للعلاقات التي تتأسس عليها صور الانزياحات، وهي علاقة المجاورة، وتقوم على الإرداف والماثلة والكناية والتعريض، ثم علاقة المشابهة[14] وتقوم على الاستعارة والتشبيه التمثيلي والضمني، وكلها قائمة على استحضار عنصرين تتم المقابلة بينهما ذهنيا وبنائيا. و انطلاقا من ذلك يُبنى المعنى إنتاجا، كما يُفهم ويُؤَوَّل اعتمادا على العناصر الحاضرة أو الموحى بها.



إن علاقتي المشابهة والمجاورة ليستا - في تصورنا - إلا تنويعا عن العلاقة الأم وهي التقابل، فهو الأساس الذي تتفرع عنه العلائق البيانية الأخرى في صناعة المعنى، وليست التسميات الأخرى إلا تحديدا لملمح في تلك العلاقة. و باختصار، كل بناء للمعنى يتضمن جانبا من الأبعاد التقابلية الحاضرة أو الخفية التي يمكن الانطلاق منها لفهمه على أحسن الوجوه؛ ولذلك فالأبحاث البلاغية،وبالأخص تلك المتعلقة بالظواهر القائمة على البيان والإبانة، وعلى المعاني، تسمح بالانطلاق منها في التأويليات الحديثة، لتأسيس مقاربات جديدة للنص و الخطاب من منظورات تقابلية.



وقد أسس كثير من البلاغيين تصوراتهم على أساس تقابلي، ومن ذلك العلاقة بين العنصرين المتقابلين: المسند والمسند إليه، وهو عند السكاكي (ت626ه) وجه من وجود التقابل في البنية العميقة للخطاب بين مسند ومسند إليه، وقد أسس عليه دراسته البلاغية لكثير من الظواهر البلاغية مثل ربط مساق الحديث بمقتضى الحال عند المتكلم،مبينا أن الخبر يُوَجَّه إلى فئات متقابلة من المخاطبين، وهو تقابل ثلاثي المراتب اعتبارا لمقام المخاطب: (الخالي الذهن /السائل المتحير /الناكر). وتبعا لهذه الأوضاع الاعتبارية للمتلقي يأتي الخبر بدون مؤكد (زيد عارف) فيسمى ابتدائيا، أو خبر بمؤكد واحد (إن زيدا عارف) ويسمى خبرا طلبيا،أو خبرا بمؤكدين أو أكثر (إن زيدا لعارف) ويسمى خبرا إنكاريا، وتتأسس على كل نمط من الأخبار مقاصد ومعان.



إلى جانب الإسناد يقف المتأمل في "مفتاح العلوم" على تقابل آخر عميق هو الملزوم واللازم، واللزوم هو تصور بين شيئين، فإما أن يكون بين شيئين (الأمام/الخلف) بحكم العقل، أو بين طول القامة وطول النجاد بحكم الاعتقاد. ويرى السكاكي أن علم البيان يقوم على "اعتبار هاتين الجهتين: جهة الانتقال من ملزوم إلى لازم، وجهة الانتقال من لازم إلى ملزوم"[15]. ويبين هذا أن علم البيان بدوره قائم على تقابل ذي طبيعة تلازمية، أي بين ملزوم ولازم، وعليهما تتأسس المجازات باعتبارها انتقالا من ملزوم (رعينا الغيث) مثلا والمراد لازمه وهو النبت.أو الانتقال في الكناية من اللازم مثل "طويل النجاد" إلى الملزوم، وهو طول القامة. ومرادنا أن التفكير البلاغي العربي تأسس في شطر هام منه انطلاقا من هذا التقابل بين المسند والمسند إليه في علم المعاني، والملزوم واللازم في علم البيان. وهو ما يؤكد على أهمية هذا التقابل العميق الذي استند إليه البلاغيون العرب، منطلقين من حقيقة تقابل المعاني والمقاصد وآليات التعبير في الكلام العربي، وقد كانوا وهم يقاربون هذه القضايا من منظورات تقابلية عميقة يضعون آليات تأويلية تقابلية وجدت امتداداتها وتطبيقاتها في الشروح والتفاسير.



6- المقابلة بين الحقيقة والاستعارة وتبيان الأبلغ

تناول العسكري (ت395ه) الاستعارة والمجاز مبينا التقابل الحاصل بينهما وبين الحقيقة، انطلاقا مما درج عليه البلاغيون من كون الاستعارة نقلا للعبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض، وهذا الغرض إما الشرح أو التأكيد، أو الإشارة باللفظ القليل، أو تحسين طريقة العرض، وإلا لكانت الحقيقة أولى منها بالاستعمال[16]. غير أنه لا بد من استحضار مرجع الحقيقة لفهم كل استعارة أو مجاز؛ لأنها أصل الدلالة على المعنى في اللغة.قال تعالى: ﴿ إنا لما طغى الماء ﴾[17]، حقيقته "على" و"طما".



قال العسكري مقارنا ومقابلا: "الاستعارة أبلغ، لأن فيها دلالة القهر، وذلك لأن الطغيان فيه غلبة وعلو"[18]، وعلى هذا المنوال يسير التحليل التقابلي للظاهرة البلاغية عنده، فكلما أورد مثالا فيه استعارة إلا ويقارن بينها وبين الحقيقة، مستخلصا أن الاستعارة أبلغ وأدق، ومستعملا اسم التفضيل لتبيان بلاغتها، وهو تناول ذو منحى تقابلي حاضر - كما ذكرنا - بقوة في الكتاب.



قال في قوله تعالى:" ﴿ واشتعل الرأس شيبا ﴾[19] حقيقته كَثُر الشيب في الرأس وظهر، والاستعارة أبلغ؛ لفضل ضياء النار على ضياء الشيب، فهو إخراج الظاهر إلى ما هو أظهر منه، ولأنه لا يتلافى انتشاره في الرأس، كما لا يتلافى اشتعال النار"[20].



أسس العسكري في خطابه البلاغي نظرية واسعة للمعنى في التراث العربي، ومن بين الآليات الخفية لهذه النظرية البعد التقابلي الحاضر، وقد مثلنا له هنا بالمقابلة بين الحقيقة والاستعارة، حيث يبين في كل مرة أفضلية التعبير الاستعاري وبلاغته وقوته.



7- التقابل الخفي في ظواهر بلاغية أخرى

7 - 1- التقابل في التشطير

ذكرنا أن الظواهر البلاغية انبنت على التقابل، وهي آلية ضمنية عميقة غير مصرح بها، ولكنها حاضرة في الكثير من الظواهر البلاغية مثل التشطير، وهو أن يتوازن المصراعان والجزآن، وتتعادل أقسامهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه واستغنائه عن صاحبه[21]، كما في قول الشاعر:





فَقِفْ مُسْعِدًا فيهن إن كنتَ عاذِرا

وسِرْ مُبْعِدًا عنهن إن كُنْتَ عاذلا




فأنت تلاحظ أن البعد التقابلي حاضر بقوة في بناء البيت الشعري، (قف/سر)، (مسعدا/مبعدا)، (فيهن/ عنهن)، (إن كنت عاذرا/ إن كنت عاذلا)، وهي تقابلات مقصودة ومختارة من طرف الشاعر لوفائها بالمقصود.وقد انتبه إليها البلاغيون وسموها"التشطير"، وهو قائم على التوازن وتعادل الأقسام، واستغناء كل منها عن الآخر. ومرد ذلك انبناء الصناعة القولية على أساس تقابلي، وليست المقاربات البلاغية إلا تتبعا لأصل القول، مع تسمية الظواهر الجزئية للتقابل بتسميات تدل على الملمح المميز للظاهرة عن سواها، فلم يُشر هنا إلى الطباق ولا إلى المقابلة مع أن حضورهما واضح،ولكن تمت التسمية على أساس حُسن التقسيم بين الشطرين أو قسمي الكلام، فالتشطير إذًا ملمح إضافي متفرع عن الأصل التقابلي، مثلما هو الشأن في التضاد الذي يحصل بين كلمتين، أو المقابلة التي يحصل فيها التضاد بين مجموعة كلمات على ترتيب مخصوص.



7 - 2- التقابل في الاستشهاد

ومما نجده مؤسسا على أساس تقابلي ما سماه العسكري "الاستشهاد والاحتجاج"، ويقوم على الإتيان بمعنى، ثم تأكيده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الأول، والحجة على صحته[22]، نحو قول بشار:





فلا تجعل الشورى عليكَ غَضاضةً

فإنَّ الخوافي قوة للقوادم






إن تتبع الظواهر التي تقوم على خلفية تقابلية في كتاب "الصناعتين" مثلا، يوقفنا على هذه القدرة التصورية والتبَيُّنِية العالية التي تسمح بالتمييز بين ظاهرة بلاغية وأخرى قريبة منها، مع الاستشهاد لكل واحدة بالعدد الكافي من الأمثلة؛ وهو دليل نضج المباحث البلاغية العربية، وتشكيلها لتصورات واضحة داخل نظرية المعنى، وكيفيات تشكله وصناعته، ودليل تبصر البلاغيين القدامى بالمعنى والأساليب المتنوعة التي تنقله. وفيما يتعلق بالاستشهاد، فهو عندنا نوع تقابل، لأن المعنى الأول يقابله المعنى الثاني المستشهد به، وهو منطلق تقابلي في صناعة القول، طرفاه المعنى الجديد المستدل عليه بمعنى معروف، أو قوة استدلالية سابقة.



7 - 3 - التقابل في التَّعَطُّف

من الأساليب المتضمنة للتقابل، كذلك، ما سماه العسكري "التعطف"، وقد كنا أشرنا إليه بتقابل المشتركات اللفظية[23]، وهو أوضح. قال: "التعطف أن تذكر اللفظ ثم تكرره، والمعنى مختلف"[24]، مثل قول الشاعر:





السيف أصدق إِنْباءً من الكتب

في حَدِّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللعب




وهذا من الألفاظ المشتركة، فالحد: حد السيف، والحد: الفصل.وهذا من التقابل اللفظي، ولكن الألفاظ حمالة للمعاني، وهي معان تتباين بتباين السياقات التي ترد فيها؛ فالتقابل البنائي تم أولا من قِبل الشاعر الذي قابل المعنيين بناء على التكرير اللفظي، وينطلق التقابل التأويلي من ذلك عند التفهم والتفهيم.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 166.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 164.69 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.03%)]