|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() منهجية محمد عابد الجابري في التعامل مع التراث العربي الإسلامي د. جميل حمداوي توطئة: يعد التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يزال النقاش حول التراث مستمرا إلى يومنا هذا، من خلال طرح مفاهيمه ومصطلحاته الإجرائية، ورصد قضاياه الفكرية والمنهجية، وإبراز إشكالياته العويصة رؤية وموضوعا ومنهجا. ويتمظهر ذلك بشكل واضح في مختلف حقول العلوم الإنسانية و مجالات المعرفة الأدبية والفنية والفكرية؛ نظرا لأهمية التراث العربي الإسلامي في بناء الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة معرفيا وفكريا وتصوريا، ومدى دوره الكبير في الحفاظ على الهوية والذات والكينونة الوجودية، وكذلك نظرا لبعده الإستراتيجي في تحديد الانطلاقة الصحيحة من أجل تحقيق المشروع المستقبلي، وذلك بتشييد حداثة عقلانية متنورة، وذلك عبر ترسيخ ثقافة عربية أصيلة ومعاصرة. والآتي، أنه لن يتحقق ذلك إلا بالعودة إلى التراث العربي الإسلامي لغربلته من جديد، ونقد مواقفه فهما وتفسيرا، بغية استكشاف المواقف الإيديولوجية الإيجابية لمواجهة الاستعمار من جهة، ومحاربة التخلف من جهة ثانية، وتقويض النزعة المركزية الأوروبية من جهة ثالثة. هذا، ويمكن الحديث عن قراءات متعددة للتراث العربي الإسلامي، منها: القراءة التراثية التقليدية كما عند العلماء السلفيين، خريجي الجوامع الإسلامية (الأزهر- جامع القرويين-الزيتونة)، والقراءة الاستشراقية التي نجدها عند المستشرقين الغربيين، والمفكرين العرب التابعين لهم توجها ورؤية ومنهجا، والقراءة التاريخانية كما عند المفكر المغربي عبد الله العروي، والقراءة السيميائية كما عند محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو...، والقراءة التفكيكية كما عند عبد الله الغذامي وعبد الكبير الخطيبي...، والقراءة التأويلية كما عند نصر أبو زيد ومصطفى ناصف...، والقراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري وإدريس بلمليح -مثلا- وعلى الرغم من تعدد القراءات والمقاربات المنهجية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي، فإن كل قراءة منهجية تبقى نسبية، تحمل في طياتها نقطا إيجابية من ناحية، ونقطا سلبية من ناحية أخرى، وتحوي أيضا في منظومتها الفكرية والنظرية والتطبيقية أبعادا إيديولوجية مختلفة، ومقاصد مرجعية متباينة. وبعد ذلك، تصل هذه القراءات أو المنهجيات إلى حقائق احتمالية ونتائج نسبية، تختلف من قارئ إلى آخر.إذاً، ما هو التراث لغة واصطلاحا؟ وماهي بدايات التفكير في التراث؟ وماهي نظرياته تصورا ورؤية ومنهجا؟ وماهي منهجية محمد عابد الجابري في قراءة التراث العربي الإسلامي؟ وماهي خصوصيات هذه القراءة ومميزاتها المعرفية والمنهجية؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول رصدها في ورقتنا هاته. مفهوم التراث لغة واصطلاحا: من يتأمل الدلالة المعجمية لكمة التراث، فسيجدها بطبيعة الحال مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة والحسب، وما يتركه الرجل الميت، ويخلفه لأولاده. وفي هذا الإطار، يقول ابن منظور في كتابه" لسان العرب":" ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك. وقال الله تعالى إخبارا عن زكريا ودعائه إياه:" هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب". أي: يبقى بعدي فيصير له ميراثي. والورث والإرث والتراث والميراث: ما ورث؛ وقيل: الورث والميراث في المال؛ والإرث في الحسب. وورثّ في ماله: أدخل فيه من ليس من أهل الوراثة. وتوارثناه: ورثه بعضنا بعضا قدما. ويقال: ورثت فلانا من فلان أي جعلت ميراثه له. وأورث الميت وارثه ماله. أي: تركه له. التراث: ما يخلفه الرجل لورثته، والتاء بدل من الواو. والإرث أصله من الميراث، إنما هو ورث، فقلبت الواو ألفا مكسورة لكسرة الواو. أورثه الشيء: أعقبه إياه. وبنو ورثة: ينسبون إلى أمهم. وورثان: موضع."[1] وهكذا، نستنتج بأن كلمة التراث من مشتقات ورث، وأنها لم ترد بالمفهوم الثقافي والحضاري الذي التصقت به دلاليا كلمة التراث كما في عصرنا الحديث والمعاصر، بل وردت الكلمة بمفهومين: أحدهما مادي يتعلق بالتركة المالية، وماله علاقة بالأصول والمنقولات، والثاني معنوي يرتبط بالحسب والنسب. بيد أننا نفهم أن علماءنا المحدثين وظفوا التراث بمفهوم آخر، وهو: أن التراث كل ما خلفه الأجداد للأحفاد على صعيد الآداب والمعارف والفنون والعلوم، أو هو بمثابة الذاكرة الثقافية والحضارية والروحية والدينية التي تبقى للأبناء والأحفاد من أجدادهم وآبائهم. ويعني هذا أن الدلالة الحديثة للتراث بمثابة توظيف مجازي للدلالة المعجمية القديمة. ويرى الدكتور محمد عابد الجابري أن العرب القدماء لم يوظفوا كلمة التراث بحمولته المعجمية الحديثة، وأن هذه الدلالة لم تستعمل إلا مع الفكر العربي الحديث والمعاصر :" أما في الفقه الإسلامي حيث عني الفقهاء عناية كبيرة بطريقة توزيع تركة الميت على ورثته حسب ما قرره القرآن في باب الفرائض، فإن الكلمة الشائعة والمتداولة لدى جميع الفقهاء هي كلمة " ميراث" (بالإضافة طبعا إلى: ورث، يرث، ورّث، توريث، الورثة...الخ). أما لفظ التراث فلا نكاد نعثر له على أثر في خطابهم...وأما في الحقول المعرفية العربية الإسلامية الأخرى، مثل الأدب وعلم الكلام والفلسفة، فلا تحظى فيها كلمة تراث بأي وضع خاص، بل إننا لا نكاد نعثر لها على ذكر. هذا، ويمكن أن نلاحظ، بالإضافة إلى ما تقدم، أنه لا كلمة " تراث"، ولا كلمة ميراث، ولا أي من المشتقات من مادة (و. ر. ث)، قد استعمل قديما في معنى الموروث الثقافي والفكري- حسب ما نعلم-، وهو المعنى الذي يعطى لكلمة "تراث" في خطابنا المعاصر. إن الموضوع الذي تحيل إليه هذه المادة ومشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائما: المال، وبدرجة أقل: الحسب. أما شؤون الفكر والثقافة، فقد كانت غائبة تماما عن المجال التداولي، أو الحقل الدلالي، لكلمة تراث ومرادفاتها. فعندما يتحدث الكندي، مثلا، في مقدمة رسالته المعروفة بـ"كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"، عن فضل القدماء، وواجب الشكر لهم، وضرورة الأخذ عنهم- في مجال العالم والفلسفة- لا يستعمل العبارة الشائعة لدينا اليوم، عبارة عن "تراث الأقدمين"، بل يستعمل تعابير أخرى مثل: " ما أفادونا من ثمار فكرهم"، وبالمثل نجد ابن رشد في كتابه:"فصل المقال" يستعمل في المعنى نفسه عبارات تخلو تماما من كلمة "تراث" أو ما يرادفها. يقول مثلا:"فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك".[2] وحتى لو تصفحنا قواميس اللغات الأجنبية للبحث عن كلمة التراث ( Le patrimoine/ l’héritage)، فلن نجد دلالة هذه الكلمة بمعنى الموروث الثقافي والفكري والديني والمعرفي، بل نجد الدلالات نفسها التي وجدناها في المعاجم العربية، كالتركة والإرث والحسب، معتمدة في القواميس الفرنسية والإنجليزية. ويقول محمد عابد الجابري عن هاتين الكلمتين الأجنبيتين بأن معناهما:" لا يكاد يتعدى حدود المعنى العربي القديم للكلمة، والذي يحيل أساسا على تركة الهالك إلى أبنائه. نعم، لقد استعملت كلمة l’héritage بالفرنسية في معنى مجازي للدلالة على المعتقدات والعادات الخاصة بحضارة ما، وبكيفية عامة"التراث الروحي". ولكن، حتى في هذه الحالة، يظل معنى الكلمة فقيرا جدا بالقياس إلى المعنى الذي تحمله كلمة تراث في الخطاب العربي المعاصر.إن الشحنة الوجدانية والمضمون الإيديولوجي المرافقين لمفهوم التراث كما نتداوله اليوم، تخلو منهما تماما مقابلات هذه الكلمة في اللغات الأجنبية المعاصرة التي نتعامل معها."[3] ولكن هناك كلمات أجنبية يمكن أن تتضمن دلالة التراث بالمفهوم المعاصر، ككلمة الثقافة Culture وكلمة المعرفي أو الإبيستمي Epistimé. وإذا كان التراث بمعنى الذاكرة الشعورية واللاشعورية التي يخزنها الإنسان العربي المعاصر، فيمكن أن يكون أيضا بمعنى المعرفة الخلفية التي توجه مسار المثقف ذهنيا وثقافيا وحضاريا ومعرفيا ودينيا وفنيا وجماليا لمعرفة الحاضر، والاستهداء به للتكيف مع الواقع والآخر . وقد نعرف التراث تعريفا عاما وجامعا، فنقول: بأنه كل ما تركه الأجداد والآباء من معارف، وآداب، وعلوم، وتقنيات، وفنون، وتجارب دينية وروحية، وممارسات سياسية وقانونية، ودستورية وتنظيمية. وإذا كان عابد الجابري يعرف التراث بأنه هو: "الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني"[4]، فإن أحمد العلوي يعرف التراث بأنه:" القرآن وكلام محمد صلى الله عليه وسلم لا غير".[5] هذا، ومن المعلوم أن مصطلح التراث في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة مصطلح عام وغامض وفضفاض ومطاط، ومن الصعب الإحاطة به، وتطويقه بشكل دقيق؛ نظرا لتعدد دلالاته ومعانيه ومفاهيمه، واختلافها من مفكر إلى آخر، ومن مبدع إلى آخر. والسبب في ذلك التباين اختلاف المرجعيات الفكرية والذهنية، وتنوع المشارب الثقافية، وتعدد المقاربات المرجعية، وتناقض المنظورات الإيديولوجية. ولكن ما يمكن قوله : إن مصطلح التراث لم يطرح في ساحة النقاش الفكري والإبداعي إلا مع صدمة الحداثة، وتغلغل الاستعمار في العالم العربي الإسلامي، وتزايد منطق الاستغلال، وبروز ظاهرة الاستلاب والتغريب، وتفاقم المسخ الثقافي، بله عن ارتباطه بمناقشات المفكرين لجدلية الأصالة والمعاصرة، وظهور إشكالية الأنا والآخر، وطرح مفهوم الهوية والخصوصية الحضارية والثقافية. ويعني هذا أن مصطلح التراث لم يوظف إلا في الخطاب الفكري المعاصر. وهنا، يرى الدكتور سعيد بنسعيد بأن التراث:" يستعمل في خطابنا المعاصر استعمالا نهضويا، ويربط النهضة بالغربة في وعي الذات، وخاصة باعتباره نوعا من ميكانيزمات الدفاع عن الذات، فإن التراث بالنسبة للنهضة ولفكر النهضة، وحتى الآن، يلعب دورا إيجابيا..."[6] وعليه، فالتراث في مفهومه البسيط والعادي هو الذاكرة الإنسانية بكل تجلياتها المعرفية والتقنية والعلمية والثقافية والأدبية والفنية والجمالية، سواء أكانت عبارة عن ثقافة شعبية أم ثقافة عالمة أم ثقافة رسمية. بدايات التفكير في التراث، وأهم نظرياته : من المعلوم أن الإنسان، ولاسيما العربي منه، لا يمكن أن يعيش بدون تراثه وذاكرته وثقافته وفنونه وحضارته، وإلا أحس بالاغتراب الذاتي والمكاني، واستشعر النقص والانفصام والعزلة، واسترخص نفسه ازدراء واحتقارا. ويعلم الكل أن الإنسان المسلم قد عرف تراثا زاخرا بالمنجزات الهائلة في شتى الميادين والمجالات، وصار يضرب به المثل في التقوى والعطاء والعلم والإنجاز والاختراع والابتكار. والسبب في هذا الازدهار الثقافي هو التمسك بالشرع الرباني قرآنا وسنة، واهتداء بطريقة الأسلاف إلى غاية العصور الوسطى، وبالضبط إبان فترة الدولة العباسية. بيد أن المسلمين سرعان ما تقهقروا وانحطوا؛ بسبب انشغالهم بهموم الدنيا، وترك الآخرة، فانهزموا هزيمة نكراء أمام المغول، فتضعضعوا انكسارا وتخلفا، ولم يستيقظوا من سباتهم إلا مع دوي مدافع الغرب، ليجدوا أنفسهم منبهرين بتقنيات الحداثة الغربية. فبدأ المفكرون والعلماء والمصلحون والمبدعون يطرحون سؤالا مهما وجوهريا، أسال الكثير من الحبر إلى يومنا هذا: لماذا تقدم الغرب، وتأخر المسلمون؟ وللإجابة عن هذا السؤال، طرحت إجابات عديدة من خلال رؤى مختلفة ومتباينة، ومنظورات ومناهج متعددة ومتنوعة.هذا، وقد ترتب عن هذا السؤال أن طرحت للنقاش إشكالية الهوية والتبعية، وإشكالية الأصالة والمعاصرة، وجدلية الأنا والآخر، وإشكالية التقدم والتخلف... بل طرحت في المجال السياسي والاقتصادي: إشكالية التفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب، و تبعية دول المحيط لدول المركز. علاوة على ذلك، فقد خصص الفكر العربي المعاصر منذ القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ولاسيما الفلسفي منه، جل نقاشه للإجابة عن هذه الإشكاليات العويصة، لتبيان الطرائق التي سيتعامل بها مع الغرب من جهة، ومع الموروث العربي الإسلامي والعالمي والإنساني من جهة أخرى. ولقد امتد هذا النقاش إلى الإبداع الأدبي والفني. وعلى أي حال، فهناك ثلاث نظريات عامة حول التراث: نظرية تقديسية للتراث، وتسمى أيضا بالرؤية السلفية القائمة على إحياء الماضي، وبعثه من جديد تمجيدا وتنويها وإشادة. ونظرة تغريبية ليبرالية مغالية ترفض الرجوع إلى التراث، كما يتضح ذلك جليا عند سلامة موسى الذي قال:"إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء".[7] وهناك نظرية توفيقية تجمع بين إيجابيات العودة إلى الماضي وإيجابيات الانفتاح على الغرب. ويمثل هذا الموقف أغلب المثقفين العرب الأكاديميين المعاصرين. مفهوم التراث في الفكر العربي المعاصر: ثمة عدة رؤى ومنظورات متفاوتة ومختلفة ومتباينة حول مفهوم التراث، وثمة أيضا تصنيفات عديدة قدمها المثقفون العرب أثناء تعاملهم مع التراث. وقد برز الكثير من الباحثين والدارسين الذين يهتمون بالتراث، مثل: حسين مروة، والطيب التزيني، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي، وغالي شكري، وزكي نجيب محمود، وأدونيس، ويوسف الخال، وحسن حنفي، ومحمد عمارة... وهكذا، يرى عبد الله العروي صاحب التوجه التاريخاني - مثلا - أن ثمة نوعين من المثقفين : مثقف سلفي ينظر نظرة تقليدية إلى التراث، ومثقف انتقائي يختار من التراث ما يعجبه، ويخدم رؤيته. لكن هذين الاتجاهين يغفل الجانب التاريخاني للتطور الحضاري والفكري، سواء أكان ذلك في الغرب أم عند العرب. فلا بد – إذاً- من تبني المقاربة التاريخانية لعقلنة موروثنا الثقافي والحضاري، وتحقيق التقدم الهادف والبناء. وفي هذا السياق، يقول عبد الله العروي:" الغالبية العظمى منهم بحسب المنطق التقليدي السلفي، والباقي بحسب منطق انتقائي، إلا أن الاتجاهين، يعملان على إلغاء البعد التاريخي، ولكن إذا محا المثقف التاريخ من فكره، فهل يمحوه من الحقيقة الواقعة؟ بكل تأكيد لا. إن التاريخ من حيث هو بنية ماضية- حاضرة يشكل الشرط الحالي للعرب، تماما- بمقدار ما يشكل شرط خصومهم، وذلك أن الفكر اللاتاريخي لا يؤول إلا إلى نتيجة واحدة: عدم رؤية الواقع . وإذا ترجمنا هذا بعبارات سياسية، قلنا : إنه يوطد- في جميع المستويات- التبعية".[8] ومن زاوية أخرى، يرى الباحث المصري الدكتور حسن حنفي أنه من الضروري العودة إلى الماضي لفهمه جيدا، واستيعابه بشكل متأن وواع، وقراءته قراءة سياقية وظيفية، وذلك لفهم حاضرنا المعاصر، وتنويره بطريقة إيجابية بناءة وهادفة، قصد تحقيق أصالتنا من أجل السير به نحو التقدم والازدهار. وفي هذا النطاق، يقول الدكتور حسن حنفي:" الحديث عن القديم يمكن من رؤية العصر فيه، وكلما أوغل الباحث في القديم، وفك رموزه، وحل طلاسمه، أمكن رؤية العصر، والقضاء على المعوقات في القديم إلى الأبد، وإبراز مواطن القوة والأصالة لتأسيس نهضتنا المعاصرة، ولما كان التراث يشير إلى الماضي، والتجديد يشير إلى الحاضر، فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان، وربط الماضي بالحاضر , وإيجاد وحدة التاريخ".[9] و يرى حسن حنفي أيضا أنه من الصعب الفصل بين ثنائية الأصالة والمعاصرة أثناء حديثنا عن التراث، فبينهما اتصال بنيوي عضوي، وجدلية مترابطة حاسمة: " إنما تعني الأصالة والمعاصرة وحدة باطنية عضوية بينهما، بحيث تتحقق وحدة شخصية في حياة الفرد والمجتمعات."[10] ويذهب الدكتور عباس الجراري، ضمن منظوره التاريخي الجدلي، إلى القول بجدلية الماضي والحاضر والمستقبل، وترابط هذه الأزمنة في بوتقة واحدة لفهم ذواتنا، وفهم حقيقة الآخر، وفهم الطريقة التي نتعامل بها مع التراث:"إن الارتباط وثيق بين الماضي والحاضر والمستقبل في علاقة جدلية حتمية، تجعل الماضي منعكسا على الحاضر، ومؤثرا في المستقبل، وتجعل بذلك حركة التاريخ حركة كلية لا تتجزأ..."[11] أما علي زيعور فينظر إلى توظيف التراث نظرة سيكولوجية، وذلك باعتباره مؤشرا حقيقيا للدفء الذاتي، ومنبعا للاستقرار والتوازن النفسي، ووسيلة لتحقيق الشعور بالانتماء الحضاري والثقافي، وتوفير الراحة النفسية أثناء التعامل مع الآخر، فيقول علي زيعور بأن:" التشكيك بقيمة الموروث الحضاري عملية تزعزع الثقة بالنفس وبالنص؛ لأنها تخل بالتوازن بين الأنا وحقلها الحضاري الذي يعطي الإنسان عمقا، وقيمة، وشعورا بالانتماء. ومن ثمة، بالأمن والاطمئنان. أي: بالقدرة على الاستمرار والتكيف."[12] زد على ذلك، يرى أدونيس في معظم كتاباته، ولاسيما في كتابه: "الثابت والمتحول"، أن التعامل الحقيقي مع التراث العربي الإسلامي ينبغي أن يقوم على خلخلة هذا التراث، وغربلته غربلة جيدة، وذلك في ضوء مناهج حديثة ومعاصرة، عن طريق قراءة واعية ومتعمقة قائمة على التفكيك والتركيب، والبحث عن نقط التحول والتغير والمغامرة الحداثية في هذا الموروث الإنساني، مع إبعاد كل ما يمت بصلة إلى الدين والمقدس والثابت القيمي والأخلاقي. ويعني هذا أن أدونيس يدعو إلى قراءة للتراث قائمة على التثوير والتغيير والتطوير. وإن كانت هذه القراءة الحداثية غير موضوعية إلى حد ما، لكونها خاضعة لمشرح التغريب والاستلاب والهدم، وتنطلق من مرجعية تفكيكية أجنبية، لا تعترف بالدين والقيم والأخلاق والأعراف[13]. طرائق التعامل مع التراث: ثمة ثلاث طرائق رئيسية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي. وبالتالي، تتخذ هذه الطرائق- حسب محمد عابد الجابري- ثلاث صور منهجية، وهي: الطريقة التقليدية، والطريقة الاستشراقوية، والطريقة الماركسية . فالصورة الأولى هي صورة الطريقة التقليدية التي ترتكز على التعامل التراثي التقليدي مع التراث، كما يظهر ذلك جليا عند العلماء المتخرجين من المعاهد الأصيلة، كجامع القرويين بالمغرب، والأزهر بمصر، والزيتونة بتونس. ويتسم هذا التعامل مع ذلك التراث بالرؤية السلفية الماضوية، وغياب الروح النقدية العلمية، وفقدان النظرة التاريخية. ويعني هذا - حسب الجابري- "أن الصورة العامة التي نجدها عند هؤلاء عن المعرفة بالتراث، بمختلف فروعه الدينية واللغوية والأدبية، تقوم على منهج يعتمد، ما سبق، أن أسميناه بالفهم التراثي للتراث.الفهم الذي يأخذ أقوال الأقدمين كما هي، سواء تلك التي يعبرون فيها عن آرائهم الخاصة أو التي يرون من خلالها أقوال من سبقوهم. والطابع العام الذي يميز هذا النوع من المنهج هو الاستنساخ والانخراط في آفتين اثنتين: غياب الروح النقدية، وفقدان النظرة التاريخية. وطبيعي، والحالة هذه، أن يكون إنتاج هؤلاء هو "التراث يكرر نفسه"، وفي الغالب بصورة مجزأة ورديئة. ولا نحتاج إلى الوقوف هنا طويلا مع هذه الصورة التقليدية من المعرفة بالتراث فهي معروفة جدا."[14] ويعني هذا أن الصورة التقليدية تتسم بالطابع الديني الماضوي، وغياب النزعة النقدية الموضوعية، والارتكان إلى التعامل اللاتاريخي مع التراث العربي الإسلامي. أما الصورة الثانية من صور قراءة التراث العربي الإسلامي، فهي الصورة الاستشراقوية، كما يظهر ذلك جليا لدى المستشرقين أو المستعربين الغربيين من جهة، أو الدارسين العرب التابعين لهم من جهة أخرى، فتمتاز هذه الصورة بتكريس النزعة الاستعمارية، ومعاداة العقلية السامية، والغض من قيمتها على المستوى المعرفي والعلمي، وترجيح كفة العقلية الآرية، ويتمظهر هذا واضحا في عدم اعتراف بعض المستشرقين بالفلسفة الإسلامية، والانتقاص من علم الكلام والتصوف الإسلامي؛ لأن العقلية السامية غير قادرة على التجريد، والتركيب، وبناء الأنساق الفلسفية الكبرى وجودا ومعرفة وأخلاقا، كما يذهب إلى ذلك المستشرق الألماني رينان. ومن جهة أخرى، تمسك المستشرقون الغربيون منذ القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بالدفاع عن المركزية الأوروبية، باعتبارها نموذجا للمعرفة والعلم والحقيقة، وقد انطلق هؤلاء الدارسون من مناهج فيلولوجية أو تاريخية أو ذاتية. ويعني هذا أن المستشرق صاحب المنهج التاريخي:" يفكر شموليا في الفلسفة الإسلامية لا بوصفها جزءا من كيان ثقافي عام، هو الثقافة العربية الإسلامية، بل بوصفها امتدادا منحرفا أو مشوها للفلسفة اليونانية. وبالمثل، يفكر في النحو العربي ومدارسه، يوجهه هاجس ربطها بمدارس النحو اليونانية في الإسكندرية أو برغام وبيان تأثرها بالمنطق الأرسطي، كما لايتردد في ربط الفقه الإسلامي، نوعا من الربط، بالقانون الروماني وما خلفه في المنطقة العربية من آثار وأعراف"[15]. كما تعكس دراسات الباحثين العرب ذات الطابع الاستشراقي والاستغرابي مدى التبعية الثقافية والفكرية للغرب. ومن ثم، تعتمد هذه الصورة على الفهم الخارجي لمفهوم التراث. وفي هذا الصدد، يقول محمد عابد الجابري:" فالصورة العصرية الاستشراقوية الرائجة في الساحة الفكرية العربية الراهنة عن التراث العربي الإسلامي، سواء منها ما كتب بأقلام المستشرقين أو ما صنف بأقلام من سار على نهجهم من الباحثين والكتاب العرب، صورة تابعة.إنها تعكس مظهرا من مظاهر التبعية الثقافية، على الأقل على صعيد المنهج والرؤية."[16] أما المستشرق الفيلولوجي الغربي، فيبحث عن جذور جينيالوجية (البحث عن الأصول) للثقافة العربية الإسلامية، فيعيدها إلى مصادر يونانية أو هندوأوروبية . ويعني هذا أن:" المستشرق المغرم بالتحليل الفيلولوجي، فهو عندما يتجه إلى الثقافة العربية الإسلامية، بنظرته التجزيئية، لايعمل على رد فروعها وعناصرها إلى جذور وأصول تقع داخلها، أو على الأقل مقروءة بتوجيه من همومها الخاصة، بل هو يجتهد كل الاجتهاد في رد تلك الفروع والعناصر إلى أصول يونانية، أو عندما تعوزه الحجة إلى أصول هندوأوروبية، الشيء الذي يعني المساهمة، ولو بطريقة غير مباشرة، في العملية نفسها، عملية خدمة "النهر الخالد"، نهر الفكر الأوروبي الذي نبع أول مرة من بلاد اليونان."[17] أما المستشرق الذي يستخدم المنهج الذاتوي في دراساته وأبحاثه، فيميل إلى شخصيات معينة، فيتعاطف معها دفاعا ومناصرة ومآزرة، من دون أن يدلي في ذلك بحجج موضوعية، ترجح وجهة نظره الصائبة، وتقنعنا بأطروحته الفكرية أو تصوراته الحجاجية. وفي هذا السياق، يقول محمد عابد الجابري:" أما المستشرق صاحب المنهج الذاتوي فإنه، على الرغم من تعاطفه مع بعض الشخصيات الإسلامية، كتعاطف ماسينيون مع الحلاج، أو هنري كوربان مع السهروردي، فإنه يبقى مع ذلك موجها من داخل إطاره المرجعي الأصلي، إطار المركزية الأوروبية، مشدودا إليه، غير قادر ولا راغب في الخروج عنه، أو القطيعة معه. إنه يتمرد على حاضره الأوروبي، يتمسك بماضيه، فيعيشه رومانسيا عبر تجربة هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات الروحانية في الثقافة العربية الإسلامية.وقد يذهب إلى أبعد من هذا فيطالب، من خلال تلك التجربة، استعادة روحانية الغرب مما لدى الشرق."[18] ويعني هذا أن المستشرق الغربي حينما يطبق المنهج الذاتوي في تعامله مع التراث العربي الإسلامي، فإنه ينطلق في ذلك من رؤية رومانسية قائمة على الانبهار بسحر الشرق، والاندهاش بعجائبه الخارقة، كما تتعشعش في مخيلته الإثنوغرافية أو الفانطاستيكية. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |