|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() شذرات عن طريق طالب العلم (1) إبراهيم العيدان الحمد لله مصليًا على رسوله وآلِه وصحبه ومسلِّمًا. وبعد: فهذه شذراتٌ عن طريق طالب العلم في طلبه، موجهة لطالب العلم المبتدئ، وإن كانت تَذكِرةً وذكرى للمنتهي، بعضها نقلًا، وبعضها رَقْمًا، أرسلتُها لمجموعة من الأحبَّة كرسائل قصيرة، ورأيتُ جمعَها وعرضها ليُنتفع بها، يا ربِّ حقق المنى، وأخلِص النيَّةَ، وأصلح العمل... إبراهيم بن محمد العيدان النية النيَّة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ أول النَّاس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهِد، فأُتي به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثمَّ أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النَّار، ورجل تعلَّم العلمَ وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ ولكنك تعلمتَ العلم ليقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثمَّ أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنَّك فعلتَ ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه، ثمَّ أُلقي في النار)). ♦ ♦ ♦ قال ابن أبي مُليكة: رأيتُ مجاهدًا يَسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحُه، فيقول له ابن عباس: اكتُب، قال: حتى سألَه عن التفسير كله! قال مجاهد: عرضتُ المصحفَ على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أُوقفه عند كلِّ آية منه وأسأله عنها. ولذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحَسْبُك به. [تفسير الطبري (١ / ٨٥)]. السؤال يا طالب العلم السؤال! ♦ ♦ ♦ يغفل كثير من النَّاس عن قراءة خُطب الكتب ومقدِّماتها؛ ظنًّا منه أنَّها لا قيمة لها، وأنَّها مجرَّد كلام فارغ؛ يضيِّع الوقتَ، ولا يضيف علمًا! ولعلَّه غفل أو تغافل عن عِظَمِ نفعها، ورفعةِ قَدرها. ففيها منهجيَّة الكتاب والكاتِب، وصناعة المؤلِّف، ومفتاح المصنف... والتجربة خير برهان... فلو طالع الطالب مقدمةَ النَّووي في منهاجه، وابن جزي في تسهيله، وابن حجر في فتحه، وابن خلدون في مقدِّمته، لَعلِم أهميَّة ذلك، وفداحة ما ارتكبه من تجاهل مسبقًا... والله وليُّ التوفيق. ♦ ♦ ♦ يفهم بعضُ طلَّاب العلم الصِّغار تواضع شيخه وازدراءه لنفسِه، ومساواته نفسه به - أنَّه وهو في مرتبةٍ واحدة، وهذا هو الجهل بعينه! يا صاحبي: تواضُعُه يَنبغي أن يؤدِّبك، لا أن يجرِّئك. ♦ ♦ ♦ قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "فإنَّ قلوب العباد أوعيةٌ لما أُودعَت من العلوم، وظروفٌ لِما جُعل فيها من المعارف بالأمور". [تفسير الطبري (١ / ٢٦٥)]. ♦ ♦ ♦ ينبغي لطالب العلم إذا وجد وقتًا يفرُغ فيه: أن يشغله؛ إما بقراءة كتاب، أو بحث وتحقيق، أو مراجعة ومدارَسة، أو بلُقيا شيخه والجلوس عنده؛ فإنَّه بذلك يَرتفع وينتفع... متمثلًا: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7، 8]. ♦ ♦ ♦ طالب العلم: مبادِر... منتهِز... مستغلٌّ. يَدفعه حبُّه الصادِق، وحرصه لأن يَستثمر كلَّ ما أُتيح له - لأنْ يَبلغ مراده... فالوقت يستغل... والدَّرس يضبطه.. والشيخ يلازِمه.. فإذا وجد مدخلًا لوَّى إليه يجمح... إذ "العُمر قصير، والعِلم كثير". و"إذا أعطيتَ العلمَ كلَّك، أعطاك بعضَه". ♦ ♦ ♦ قال ابن طاهر: ألم تر أنَّ المرء تَدْوَى يمينه ![]() فيقطعها عمدًا ليسلم سائرُهْ ![]() فكيف تراه بعدَ يُمناه صانعًا ![]() لمن ليس منه حين تُروى سرائرُهْ ![]() [اعتلال القلوب؛ للخرائطي (٢ / ٣٦٩)]. طالب العلم، إذا قرأ قولَ ابن طاهر هذا... عرف الطريقَ الصَّحيحة للتعامل مع (الجواذب والسوالب) الصارفة عن سبيل الطلب. فقط طالب العلم! ♦ ♦ ♦ من أكثر ما يُضعف ويحرف طالب العلم عن العلم: • عدم وضوح الهدف. • كثرة الصوارِف. • عدم التَّضحية. • سَيره على خُطاه قبل عزمه على الطلَب. • اتِّكاله على قواه وجهده. • ضعف الهمَّة. • تقصيره في العبادات. ♦ ♦ ♦ في لقاء للشيخ أ. د. عبدالله الطيار حفظه الله ورَدَ عليه سؤالٌ فحْواه: أنا شاب أريد طلب العلم و...،...،...؟ فاستفتح الشيخُ إجابتَه بقوله: "أقول: بارَك الله فيك، ثمَّ بارك الله فيك... رجل يهيِّئ نفسَه لأن يكون عالمًا تَنتفع به الأمَّةُ، هذا مشروعٌ عظيم، ومَقصَد طيب..."؛ بتصرف يسير. ♦ ♦ ♦ من آفات طالِب العلم ظنون ثلاثة: • ظنُّ الاكتفاء. • ظنُّ الاستغناء. • ظنُّ الاستعلاء. فالأول: يزهِّده في العلم. والثاني: يزهِّده في العلماء. والثالث: يزهِّده فيمن حوله. ♦ ♦ ♦ قال مالك بن دينار رحمه الله: "إذا ذُكر الصَّالحون، فتُف لي ثمَّ تُف". [حلية الأولياء (٦ / ٢٨٨)]. ♦ ♦ ♦ قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "إنَّما العلم مواهب، يؤتيه الله مَن أحبَّ من خلقه، وليس يناله أحد بالحسَب، ولو كان لِعلَّة الحسَب لكان أولى الناس به أهل بيت النَّبي"؛ [طبقات الحنابلة (١ / ١٧٩)]. ♦ ♦ ♦ وقال أبو عبدالله البلخي: "أدب العلم أكثر من العلم". [الآداب الشرعية (٣ / ٥٢٢)]. ♦ ♦ ♦ يوفِّق الله لبعض طلبة العلم وييسِّر له من يمنحه علمًا ووقتًا، ويقدِّمه ويكرمه، من شيوخه. ولا شك أنَّها نعمة، ولكن حذار حذار أن تَفقدها! فـ • ما تَوَادَّ اثنانِ في اللهِ عزَّ وجلَّ، أو في الإسلامِ، فَيُفَرَّقُ بينَهُما إلَّا بذَنْب يُحْدِثُه أحدُهما. و • إنَّ العبدَ لَيُحرَمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُه. فافهم! ♦ ♦ ♦ للعِلم رجاله. وليس كل من حمل كراسةً، وتأبَّط كتابًا، وتأذن قلمًا، والتحق كليةً، وثنى ركبةً، وحضر درسًا، والتزم شيخًا، سيخرج طالب علم... وإنَّما ما سبق وسائل، لعلها تُبلِّغ صاحبها... والعلم نور يقذفه الله في القلب! ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم: والوقتُ أنفَسُ ما عُنيتَ بحفظِه ♦♦♦ وأراه أسهل ما عليك يَضيعُ [الوزير أبو المظفر بن هبيرة الحنبلي]. ♦ ♦ ♦ يشكو بعض طلَبة العلم المبتدئين عدمَ وجود مَن يتفرَّغ لهم من المتخصصين والمشايخ، ويقابل هذا بالتذمُّر وعدم البذل. يا صاحبي: "إنَّ العلم يُؤتى ولا يَأتي"[1]. وما يُظن بمن أوتي علمًا أن تأتيه فيردك! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتيكُم أقوامٌ يطلبونَ العِلمَ، فإذا رأيتُموهم فقولوا لَهُم: مَرحبًا مَرحبًا بوصيَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأقنوهُم)). قلتُ للحكَم: ما أقْنوهُم؟ قالَ: علِّموهُم[2]. ♦ ♦ ♦ طالب العلم والدواير: كيف يَهنأ لطالب العلم أن يضيِّع وقتَه في قيل وقال، وأن يرخص أغلى ما يملك، وأكثر ما يحتاجه. أعني الزمن! ولكنْ لها طريقان: إما أنَّه تخلَّى عن الطلب، أو أنَّها أول خطى التخلِّي. إذا كنتَ تهتم (للدايرة) ![]() وتجذبك الكشتةُ المسهرة ![]() ويلهيك برُّ وإلفُ صديق ![]() تباروا على النتِّ في الثَّرثرة ![]() فأخذُك للعلم قل لي: متى؟ ![]() وقل لي: متى حصَّة الآخرة؟ ![]() ♦ ♦ ♦ ظاهرة رخص المعلومات: لا يضحِّي كثيرٌ من صغار طلَبة العلم أو المقبِلين ليكونوا منهم، ولا يُتعبون أنفسهم في سبيل الطلَب والجديَّة، ولهذا أسباب عديدة. ولعلَّ من (الشنكارات) التي يُتعلَّق بها، ومن المثبِّطات التي يُتعذر بها: قرب وجود المعلومة؛ فما يمرُّ به تساؤل إلَّا (وقوقله). ونسي أو تناسى أنَّ العلم ليس المعلومة فحسب! بل العلم المعلومة والأدب، والعمل والاستنباط والفهم! وهذه لا توفِّرُها نتائجُ بحث (قوقل). ♦ ♦ ♦ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فمَن طلَب العلمَ ليُحيي به الإسلام، فهو من الصِّدِّيقين، ودرجته بعد درجة النبوَّة". [مفتاح دار السعادة (١ / ١٢١)]. ♦ ♦ ♦ عجيبة! "قال هشام بن منصور: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: تدري ما قال لي يحيى بن آدم؟ قلت: لا! قال: يجيئني الرجل ممَّن أبغضه وأكره مجيئه، فأقرأ عليه كلَّ شيء معه حتى أستريح منه، ويجيء الرجل الذي أودُّه، فأرده حتى يرجع إليَّ". [طبقات الحنابلة (١ / ٣٩٥)]. بعض طلَّاب العلم يَنفر من المدَد الطويلة، والالتزام المديد، ويكره أسلوبَ الشيخ الذي يوسِّع، وما علم؛ لعلَّ هذا هو السبب! ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم، افهمها! لو لم تُرِدْ نَيلَ ما أرجو وأطلبه ♦♦♦ من جود كفَّيك ما علَّمتَني الطَّلَبَا ♦ ♦ ♦ قال أبو سليمان ابن الحافظ عبدالغني المقدسي (والحافظ هو صاحب عمدة الأحكام): "سمعتُ بعض أهلنا يقول: إنَّ الحافظ سئل: لمَ لا تَقرأ الأحاديثَ من غير كتاب؟ فقال: إنَّني أخاف العُجب". [ذيل طبقات الحنابلة (٣ / ٦)]. ♦ ♦ ♦ قال الإمام الذهبي رحمه الله: "فإنَّ من طلَب العلمَ للآخرة: كسَرَه علمُه، وخشع قلبُه، واستكانَت نفسُه، وكان على نَفسِه بالمرصَاد". [الكبائر (١ / ٧٩)]. ♦ ♦ ♦ طالب العلم: طالب العلم الصَّادق لا يَضعُف ولو ضيِّق عليه وأريد خفضه. كالشُّعلة؛ لا يزيدها الخفض إلا علوًّا، ولا التضييقُ إلا لهيبًا. ♦ ♦ ♦ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه ﷲ: "مَن أعرض عن اتِّباع الحق الذي يَعلمُه تبعًا لهواه، فإنَّ ذلك يورثه الجهل والضَّلال حتى يعمى قلبُه عن الحق الواضح". [مجموع الفتاوى (١٠ / ١٠)]. ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم: لن تَبلغ آخر الدَّرَج من غير صعود أوله. ولا تصِل للتشهُّد من غير إحرام وأركان. وكذلك، لن تنال علمًا، أو تحصل فهمًا من غير ضبط الأصول. تعب ساعة، ولا عتب دهر. ♦ ♦ ♦ قال الإمام السبكي رحمه الله: "والعلم صَعب لا ينال بالهوينى، وليسَت كلُّ الطباع تقبله؛ بل من النَّاس مَن يشتغل عمره ولا ينال منه شيئًا، ومن الناس من يُفتح عليه في مدة يسيرة، وهو فَضل الله يؤتيه من يشاء". [مجموع فتاوى السبكي (١ / ٤٤٨)]. ♦ ♦ ♦ خاطرة - بشرط أن تُحمل على أحسَن المحامل -: بعض الأحبَّة من صغار طلبة العلم إذا نُصح يفكِّر بعقلِ طفلٍ، وكأنك أخذتَ حلاوتَه. يا أُخي، اعلم أنَّك تُنصح لك؛ لأنَّ النَّاصح يحبُّك ويحبُّ الخيرَ لك، لا لِمصالحه الشخصية. ♦ ♦ ♦ • قال الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يقلُّ مع الإصلاح شيء، ولا يَبقى مع الفساد شيء". [الآداب الشرعية (٣ / ٣١٣)]. • هذه وإن قيلَت في المال؛ فهي كذلك تَنطبق وتطبَّق في العلم! ♦ ♦ ♦ يقول د. مصطفى السباعي: "لا يَصلح العلم إلَّا بثلاث: تعهُّد ما تَحفظ، وتعلُّم ما تجهل، ونَشر ما تعلم". [هكذا علمتني الحياة (١ / ٢٤٣)]. ♦ ♦ ♦ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "واشتدَّت غربةُ الإسلام، وقَلَّ العلماء، وغلب السُّفهاء". [زاد المعاد (٣ / ٤٤٣)]. ♦ ♦ ♦ قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "علامة المرِيد: قطيعة كلِّ خليط لا يريد ما تريد"[3]. من أراد العلم حقًّا بتر بِسيف التَّضحية كلَّ معوِّقٍ ومفوِّت. ♦ ♦ ♦ "فإن كان لَيبلُغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائلٌ، فأتوسَّد ردائي على بابه، فتَسْفِي الريح عليَّ التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا بن عم رسول الله، ألا أرسلتَ إليَّ فآتيَك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك". [سير أعلام النبلاء (٣ / ٣٤٣)]. هؤلاء هم قدوة طلَبة العلم! يصبر عند عتَبة باب شيخه؛ لينال حظَّه منه. هؤلاء هم الناس حقًّا! وأما كثير ممَّن يزعم أنَّه من طلَبة العلم الآن، فهو من النسناس، وليس من الناس! والنسناس - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما -: "الذين يشبِهون الناس، وليسوا بالناس". [سير أعلام النبلاء (٣ / ٣٤٢)]. ♦ ♦ ♦ قال ابن المقفع: "وليعرف العلماء حين تجالِسهم أنَّك على أن تَسمَعَ أحرَصُ منك على أن تقول". [الأدب الصغير والأدب الكبير (١ / ٩٩)]. ♦ ♦ ♦ قال عكرمة رحمه الله: "كان ابن عباس يَجعل في رجلي الكبل - القيد - ويعلِّمني القرآن والسنن". [حلية الأولياء (٣ / ٣٢٦)]. يا طالب العلم، هكذا العالم حقًّا. تجده حريصًا على تحصيل طالبه. أكثر من الطالِب نفسه! ثمَّ تجد الطالب غير مبالٍ ولا مضحٍّ... آسف! هذا ليس طالب علم بحق. [1] كشف المغطى (١ / ٢٩). [2] سنن ابن ماجه، وقال الألباني: حسن. [3] طبقات الحنابلة (٢ / ٤٧٧).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شذرات عن طريق طالب العلم (٢) إبراهيم العيدان الحمد لله مصليًا على رسوله وآلِه وصحبه ومسلِّمًا. وبعد: فهذا هو الجزء الثاني من مجموع رسائل (شذرات عن طريق طالب العلم)؛ تُعين الطالبَ في طلَبه، وهي في الأصل موجَّهة لطالب العلم المبتدئ، وإن كانت تَذكِرةً وذكرى للمنتهي، بعضها نقلًا، وبعضها رَقْمًا، سبق وأرسلتُها لمجموعة من الأحبَّة كرسائل قصيرة، ورأيتُ جمعَها وعرضها ليُنتفع بها، يا ربِّ حقق المنى، وأخلِص النيَّةَ، وأصلح العمل. إبراهيم بن محمد العيدان ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم: المنهجية.. التأصيل.. التوسُّع.. الضَّبط.. • أركانٌ لعلميَّة مميزة. ♦ ♦ ♦ قال الإمام سفيان الثَّوري رحمه الله: "كان يقال: أوَّل العلم الصَّمت، والثَّاني: الاستماع له وحفظه، والثالث: العمل به، والرَّابع: نشره وتعليمه". [حلية الأولياء (٦ / ٣٦٢)]. ♦ ♦ ♦ "وكان العلَّامة الكبير أبو المعالي محمود شكري الألوسي البغدادي، الحفيد، الأديب، المتوفَّى سنة ١٣٤٢ هـ رحمه الله تعالى - يَمتاز بالجدِّ الشديد والحِرص على الوقت، فكان لا يَثنيه عن دروسه حَمَارَّةُ القيْظ، ولا يؤخِّره عنها قرصُ برد الشتاء، وكثيرًا ما تعرَّض تلاميذه - بسبب تأخُّرهم عن موعد الدَّرس - إلى النَّقد والتعنيف. قال عنه تلميذُه العلَّامة الشيخ بهجة الأثري: أذكر أنَّني انقطعتُ عن حضور درسه في يومٍ مزعج، شديد الرِّيح، غزير المطر، كثير الوحْل؛ ظنًّا منِّي أنَّه لا يحضر إلى المدرسة، فلمَّا شخصتُ في اليوم الثاني إلى الدرس، صار ينشد بلهجة غضبان: ولا خيْر فيمَن عاقه الحرُّ والبرد" [قيمة الزمن عند العلماء (١ / ١٦٦)]. ♦ ♦ ♦ طالب العلم الحق قنَّاص فرَص... وصيَّادٌ متأهب.. إذا ما بدَت فرصة طار لها.. وإن لم تَبدُ سأل عنها.. كيف لا؟! وبين جنبيه تباريح وشغَف لا تخبو ما دام ذاك يَنبض! ♦ ♦ ♦ يَنبغي لطالب العلم أن يَكون فرحُه بالعلم أشد من فرح أهل الدنيا بما كسبوا من دنياهم، وأن يكون حزنُه على فقْده أشد من حزنهم على فقْدِ ما فقدوا منها... وإن لم يكن، فهل هذا طالب علم؟! ♦ ♦ ♦ العلم والصَّبر متلازمان. فلا علم لِمن لا صبْر له، ولا صبْر لِمن لا علم له. ولا يزال بعض من يتمنَّى أن يكون من أهل العلم يظنُّ أن العلم يَأتي له على أطباق الذَّهب، وهو لم يذهب! لا، حتى تذوق مرَّه ولا تستمره! ♦ ♦ ♦ المقامة العلمية.. فيها حِكَم وحكم: "كنتُ في بعض مطارح الغربة مجتازًا، فإذا أنا برجل يقول لآخر: بمَ أدركتَ العلم؟ وهو يجيبه، قال: طلبتُه فوجدتُه بعيد المرام، لا يُصطاد بالسِّهام، ولا يقسم بالأزلام، ولا يُرى في المنام، ولا يُضبط باللِّجام، ولا يورَث عن الأعمام، ولا يُستعار من الكرام، فتوسَّلتُ إليه بافتراش المدر، واستنادِ الحجَر، وردِّ الضجر، وركوب الخطَر، وإدمانِ السهر، واصطحاب السفر، وكثرةِ النَّظر، وإعمالِ الفكَر، فوجدتُه شيئًا لا يصلح إلَّا للغرس، ولا يُغرس إلا بالنَّفس، وصيدًا لا يقع إلَّا في النزْر، ولا ينشب إلَّا في الصَّدر، وطائرًا لا يخدعه إلَّا قنص اللفظ، ولا يعلقه إلَّا شَرَك الحفظ، فحملتُه على الروح، وحبستُه على العين، وأنفقتُ من العيش، وخزنتُ في القلب، وحرَّرتُ بالدرس، واسترحتُ من النظر إلى التحقيق، ومن التحقيق إلى التعليق، واستعنتُ في ذلك بالتوفيق، فسمعتُ من الكلام ما فتق السَّمع، ووصل إلى القلب، وتغلغل في الصَّدر". [مقامات بديع الزمان الهمذاني (١ / ٣٠٠ - ٣٠٣)]. ♦ ♦ ♦ قال جعفر بن درستويه رحمه الله: "وكنَّا نأخذ المجلسَ في مجلس علي بن المديني وقت العصرِ اليوم لمجلس غدٍ، فنقعد طولَ الليل مخافةَ أن لا يَلحق من الغد موضعًا يَسمع فيه، ورأيتُ شيخًا في المجلس يَبول في طيلسانه ويدرج الطيلسان حتى فرغ؛ مخافة أن يُؤخذ مكانه إن قام للبول". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (٢ / ١٣٨)]. انظر لحالهم مع مجالس مشايخهم؛ يَخشى فوتَ مقعده إن قام عنه لحاجته! وبعض مشايخنا اليوم يَجلس ولا أحد بين يديه! فواأسفًا! ♦ ♦ ♦ لا يَجتمع في قلبٍ طلبُ علم ومُلاحقة شهْوة؛ لأنَّه لا يكون العلوُّ والسُّفل معًا، إلَّا أن تكون تلك الشَّهوة هي العلم نفسه! فطالب العلم الحقُّ قد نحَرَ شهواته لأجل مَقصده الأجلِّ. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلم: في معرض مُناقشة الإمام ابن جرير الطَّبري رحمه الله في تفسيره لقولٍ يراه باطلًا؛ إذ لا دليل عليه قال: "والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحًا خطؤه؛ لأنه ادَّعى ما لا برهان على صحَّته، وادِّعاء مثل ذلك لن يتعذَّر على أحد". [تفسير الطبري (٢ / ٤٧٥)]. يا أخي، الدليل يأتي قبل المدلول. والدليل أصل عليه يُبنى.. ومتبوع على أثره يُخطا. ♦ ♦ ♦ قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "قلَّما رأيتُ أمرًا أمكن فضُيِّع، إلَّا وفات فلم يمكن بعدُ". [الأخلاق والسير (١ / ١٠٣)]. فاعتبِر يا طالبَ العلم بها في: سعَة وقتك، وتوقُّد عقلك، وشباب عمرك، وتوفُّرِ كتبك، وتيسُّر درسك، وإقبالِ شيخك، وكل ما منحك ربُّك... فإنِّي أخاف عليك فوات حظٍّ عظيم.. وخيرٍ عميم. ♦ ♦ ♦ طالب العلم يَعلم يقينًا أنَّ شأن ما يطلب عظيم وعزيز.. وأنَّه لو وُكل إلى نفسه أضناها ولم ينَل من مقصده شيئًا.. إذا لم يكُن عون منَ الله للفتى ![]() فأوَّلُ ما يَقضي عليه اجتهادُه ![]() ولذاك تَجده مفوِّضًا أمرَه لمولاه، سائلًا ربَّه التوفيقَ والإعانة؛ ليقينه بأنه: إذا كان تَوفيقٌ منَ الله للفتى ![]() تهيَّا له من كلِّ أمرٍ مرادُه ![]() ولسان مقاله وحاله: "يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلِح لي شأني كلَّه، ولا تكِلني إلى نفسي طرفةَ عين". ♦ ♦ ♦ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الإعجاب ضدُّ الصواب، وآفة الألباب". [أدب الدنيا والدين (١ / ٢٣٧)]. فاعلم يا طالب العلم هذا واحذرْه! فإنَّما مثَله مثَلُ من ضرَب بفأسه جذعَ شجرة فاغترَّ بوقع ضرْبه عليها؛ فنسيَ مكانه منها، حتى وقعَت عليه فأهلكَته. ولذا فقد ورَد عن كعب أنَّه قال لرجل رآه يتبع الأحاديث: "اتقِ الله، وارضَ بالدون من المجلس، ولا تؤذِ أحدًا؛ فإنَّه لو ملأ علمُك ما بين السماء والأرض مع العُجْب، ما زادك الله به إلا سفالًا ونقصانًا". [جامع بيان العلم وفضله (١ / ٥٦٧)]. طالب العلم الحق يُهلِك جُلَّ وقته على مطلوبه؛ حتى يَظفر بمقصوده. ولذا، فلن ينال الطالبُ شيئًا إن لم ينفِق وقتًا؛ أو يحدِّد قصدًا. ولذا لمَّا تذاكروا الطلَبَ عند يحيى بن سعيد القطان، قال: "كنتُ أخرج من البيت قبل الغداة فلا أرجع إلى العتمة"[1]. وبهذا نال من مقصده عظيمَ شيء، فترجَم له الذَّهبيُّ فقال: "أمير المؤمنين في الحديث"[2]. ♦ ♦ ♦ مُراجعة القصد من وراء أي عمَل، وتحسينُه والتركيز عليه: مِن أعظم العوامل لنَيله؛ إذ إنَّ القصد هو الدَّافعُ والمحرِّك الذي ما إذا كان شريفًا عظيمًا في القلب فإنَّه لن يَترك صاحبه يبلغ عتبة البلاط فحسْب! بل فسيَرفعه على العرش؛ ليرى مطلوبَه مستقرًّا عنده؛ فـ ((إنَّما الأعمال بالنيَّات))، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]؛ فتنبَّه يا طالب العِلم! ♦ ♦ ♦ أعظم ثَمرات العلم - وهو القصْد كله - رِضا الله تعالى عن صاحِبِه لمَّا صاحَبَه.. وإذا كان الطالِب لا يراعي حقَّ الله فيه؛ ولا تَظهر آثار العلم في عبوديَّته لله جلَّ جلاله، فليتَه ما علِم ولا تعلَّم: إذا ما لم يفدْك العلمُ خيرًا ![]() فخيرٌ منه أنْ لو قد جهِلتَا ![]() وليتَه يَسْلم! ألا يَكون حجَّة من الله عليه؛ ترْدِيه ولا تؤويه. ♦ ♦ ♦ "قال الوليد بن مسلم: سألتُ الأوزاعيَّ، وسعيد بن عبدالعزيز، وابن جريج: لِمن طلبتم العلم؟ كلهم يقول: لنَفسي. غير ابن جريج؛ فإنَّه قال: طلبتُه للناس. قلتُ (أي الذَّهبي): ما أحسن الصِّدق، واليوم تَسأل الفقيهَ الغبيَّ: لِمن طلبتَ العلم؟ فيبادِر، ويقول: طلبتُه لله، ويكذب، إنَّما طلَبَه للدنيا، ويا قلَّة ما عرف منه". [سير أعلام النبلاء (٦ / ٣٢٨)]. الإخلاص عزيز.. والصِّدق فريد. ربِّ أصلِح نيَّاتنا.. واغفر لنا. ♦ ♦ ♦ تجده يَنغمس في التخييم والتنزُّه والترفيه، ثمَّ يَعتذر عن ذلك بحجَّة أخْذ الرَّاحة للجدِّ؛ وما علم أنَّها إنما تكون بقَدر! وهو إنَّما يخادِع نفسَه! إذ إنَّها حبائل شيطانيَّة، وكبائل شهوانية.. يتَّخذها العاجِز شنكلًا يعلِّق عليه خيبتَه! ثم يُرجِّي أن يكون طالبَ علم. ♦ ♦ ♦ قال الإمام مالك رحمه الله: "إنَّ حقًّا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسَكينة وخشية، وأن يكون متَّبعًا لأثر من مضى قبله". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١ / ١٥٦)]. يا طالب العلم، احفظ للعلم حقَّه، وإيَّاك أن يؤتى العلم وأهله من قِبَلك. ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم: كان الإمام ابن الخشاب الحنبلي يقول: "أنا تلميذ تلامذتي". [الوصايا الجلية (١ / ١٤)]. العلم روح وأدَب وسلوك قبل أن يكون علمًا.. وفرْق بين طالب علم وطالب معلومات. ♦ ♦ ♦ طالب العلم يعمل جُهده قبل جَهده، فهو ما دام يَقوى فهو لا يدلي يديه، ولا يقلِّب كفَّيه. وإنَّما يَرمي بوقود العزم في موقد النَّشاط؛ لتسرع به مقطورته، وتصل إلى غايته مقصورتُه، كما قيل: "اجعل الاجتهاد غنيمة صحَّتك، والعملَ فرصة فراغك". [أدب الدنيا والدين (١ / ١٠٠)]. ♦ ♦ ♦ سئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله: طالبُ العلم، هل يَبدأ بحِفظ القرآن الكريم أم بقراءة كتب العلم؟ فأجاب: "لا والله، يَبدأ بحفظ القرآن؛ حِفظ القرآن لا شيء قبلَه ممَّا يحفظه الإنسان؛ فهو أفضل الكتب المنزَّلة من الله عزَّ وجلَّ، وأفضل من الكتب المؤلَّفة من النَّاس؛ ولا سواء...". [سلسلة فتاوى نور على الدرب - الشريط (٣٤٤)]. يا طالب العلم، بقدر أخذك منه.. بقدر تَحصيلك مرادك.. وهو حقًّا مرادك.. وهو حقًّا مرادك.. فلا ترتَضِ عنه بدلًا، ولا تبتغِ عنه حِوَلًا. ♦ ♦ ♦ إذا لم يكن لطالب العلم قلبٌ خاشع، وجسد خاضِع، وعين دامعة، فيا ويْحَه! ما يطلب هذا إذًا؟! وهل صدَق في طلبه حقًّا؟! قال ابن الجوزي عن شيخه ابن ناصر السلمي رحمهما الله: "كان حافظًا ضابطًا، متقنًا... وكان كثير الذِّكر، (سريع الدَّمعة)، وقال أيضًا: قرأتُ عليه ثلاثين سنَة، ولم أستفِد من أحد كاستفادتي منه". [ذيل طبقات الحنابلة (٢ / ٥١ - ٥٢)]. يا طالبَ العلم، هكذا يَصنع العلم بطالبه. ♦ ♦ ♦ من أعظم ما يتحلَّى به طالبُ العلم - وهو من تيجان حِليته - توقيرُه لشيخه وتبجيلُه، وإظهار ذلك جليًّا له، واستعمال أطيب الكلِم وأرقى العبارات: "عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: إنَّ من السنَّة، أن توقِّر العالم". [جامع بيان العلم وفضله (١ / ٤٥٩)]. يا طالب العلم، ارْعَ نبعك.. يصْفُ لك. ♦ ♦ ♦ روح طالب العلم قراءته وكتابته؛ فامرؤ لا يَقرأ ولا يَكتب، فمدَّعٍ للطلب وليس بطالب. قال حماد بن أسامة: "كتبتُ بيدي هذه مائةَ ألف حديث"[3]. وهذا أبو داود الطيالسي يقول: "أدركتُ ألفَ شيخ كتبتُ عنهم"[4]. "وحُكي عن ثعلب - إمام اللغة - أنَّه كان لا يفارقه كتاب يدرسه"[5]. وقال ابن الجوزي عن نفسه: "ولو قلتُ: إنِّي طالعتُ عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعدُ في الطَّلَب!"[6]. يا طالبَ العلم، آلة العلم كِتابٌ وكُتُبٌ. ♦ ♦ ♦ طالب العلم لا يستثقل حملًا، ولا يَستخسر فقْدًا، ولا يبالي ما أنفَق وما بذَل؛ ما دام في سبيل قصده، ودرب غايته. ولذا تجده يُنفق أزمنةً طويلة في تأصيل نفسه؛ في نيل فائدةٍ.. في تحصيل لَطيفة.. في سَماع كلمة.. هينًا في عينه قدْر التضحية. قال ابن شهاب الزهري: "تبعتُ سعيدَ بن المسيب في طلب حديثٍ ثلاثة أيام". وقال كذلك: "مكثتُ خمسًا وأربعين سنة أختلِف بين الشام والحجاز، فما وجدتُ حديثًا أستطرفه!"؛ أي: أستبعِد مكانَه. [حلية الأولياء (٣ / ٣٦٢)]. ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم، تعلَّم (لا أدري)، فما هي والله تزري بك كما تزري بك كلمةُ تعالُمٍ تطاولَتْ بها النَّفس كتطاول أنامل رضيع يريد جعْل الثريَّا في يده! يا صاحبي، الطَّريق طويل.. واختصارُه احتضاره.. فلا تتعجَّل فضْل ما لم تعْلم بغير (لا أدري)؛ فما لم تعلمْه اليوم تحيط به غدًا.. وما لم تتمكَّن منه غدًا فبعده، وإيَّاك ومزلق الهاوية.. ﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ﴾ [النحل: 94]! "وقال الشَّعبي: "(لا أدري) نِصفُ العلم". وقال ابن جبير: "ويل لِمن يقول لِما لا يَعلم: إنِّي أعلم". وقال الشافعي: سمعتُ مالكًا يقول: سمعتُ ابنَ عجلان يقول: "إذا أَغفل العالِم (لا أدري) أُصيبَت مَقاتلُه". [إعلام الموقعين (٢ / ١٢٨)]. ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم: إليك هذه الوصيَّة الجامعة النَّافعة.. التي جمعَت حقَّ النَّفس، وحقَّ العلم، وحقَّ العالِم، وحقَّ المتعلِّم: "عن عمران بن مسلم أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "تعلَّموا العلمَ وعلِّموه النَّاس، وتعلَّموا له الوَقار والسَّكينة، وتواضعوا لِمن تعلمتم منهالعلم، وتواضعوا لِمن تعلِّموه العلمَ، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم". [شعب الإيمان (٢ / ٢٧٨)]. ♦ ♦ ♦ طالب العلم الصُّوري يَفتأ خاويًا.. ولن يَبرح محلَّه في ظلمات الجهل والتعالُم مهما زخْرَف القولَ ونمَّقه. فإنَّما الصوريَّة سمٌّ زعاف، إذا ما سرى في جسَد طالب العلم وتغلغَل في نياط قلبِه، فإنَّه لا مَحالة قاتلُه؛ ومحيلٌ - كما الطَّود - بينه وبين المطلب الأسنى، والغايةِ الأسمى التي يَنشدها طالب الحقِّ والعلم. وترياقها الذي تَتهاوى أمامه، وبه العافية: الصِّدق مع الله؛ الصِّدق ولا شيء غير الصدق! ♦ ♦ ♦ يا طالب العلم: أجمِل بتلك الرُّوح الوقَّادة التي لا تملُّ مراجعةَ دروسها، ولا تكلُّ من تلخيص وتفحيص، ومن بحثٍ وتمحيص.. كما قال الإمام البخاري رحمه الله لمَّا سُئل: "إدامة النَّظَر في الكتب". [جامع بيان العلم وفضله (٢ / ١٢٢٧)]. يا طالب العلم: ادرس عِلمك قبل أن يَدْرس؛ وراجِعْه قبل أن يرجع؛ فإنَّ "العلم شيء لا يعطيك بعضَه حتى تعطيه كلَّك، وأنت إذا أعطيتَه كلَّك من إعطائه البعض على غرر"؛ كما روي عن أبي يوسف رحمه الله. [الجامع لأخلاق الراوي (٢ / ١٧٤)]. [1] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/ ١٥٠). [2] سير أعلام النبلاء (٩/ ١٧٥). [3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (٢/ ١٧٥). [4] المرجع السابق (٢/ ٢٢١). [5] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (٣/ ٦١٢). [6] صيد الخاطر (١/ ٤٥٤).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() شذرات عن طريق طالب العلم (٣) إبراهيم العيدان من الوسائل الناجعة، والطرائق الناجحة، والتي تقدم لطالب العلم العون حتى يبلغ بغيته، ويحصل مراده، مذاكرة العلم مع إخوانه، واتِّخاذ صاحب له يشاركه الدرب، ويناصفه الهم. وما المرءُ إلا بإخوانه ♦♦♦ كما تقبضُ الكفُّ بالمِعصمِ[18] ومما يدفع بطالب العلم لاتِّخاذ صاحب يُذاكِره ما قاله عبدالله بن أحمد بن حنبل: "لما قدم أبو زُرعة نزل عند أبي، فكان كثيرَ المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: ما صلَّيْتُ غير الفرض؛ استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي"[19]. واذْكر ما ذكره ابن رجب في ترجمة الحافظ عبدالغني المقدسي أنه "رحل إلى بغداد سنة إحدى وستين، هو والشيخ الموفق، فأقاما ببغداد أربع سنين"[20]. يا طالبَ العلمِ، ذاكر علمَك يبقَ عندك. ♦ ♦ ♦ الصدقُ إكسير الطلب ونبضه، والطالب الصادق متقلد للصدق ومتعلِّق به، يتحرَّاه، ويقول ويعمل به، ويسعى لبغيته وقد استشعره واستدثره؛ ولذا، فهو لا يدع وقتَه يضيع في غير بغيته، وتحصيل مراده، وما أعان على ذلك. قال إبراهيم الخواص: "الصادقُ لا تراه إلا في فرضٍ يؤديه، أو فضل يعمل فيه"[21]. وأما من ليس بذلك أو قلَّ عنده؛ فستجده أقل ما تجده مفرِّطًا في الفرص، وقاتلًا للوقت، وفي الجُبِّ ما يَجُبُّ ما يتفوه به ويتنمَّق به، ومهما تمنطق بدعوى الطلب وتنفَّج بالتحصيل، فإن مردَّه إلى بَوار، وسعيَه إلى اندثار. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] و﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14]. ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، الجدَّ الجدَّ، والعزمَ العزمَ؛ فإن النفس ركَّانة إلى الدَّعة واللهو إذا ما خُلِّي بينها وبينه. والنفسُ كالطفل إن تهمله شبَّ على ♦♦♦ حبِّ الرَّضاع وإن تفطمْه ينفطمِ وإذا ما أُخِذَتْ بالحزم، وقِيدت إلى القمم، انساقت ونصت إليه نصا. وبغيتُك عظيمة، ورغبتُك عزيزة، ومطيَّتك نفسك، ودابَّتك روحك، ولا بدَّ للمركوب من سوطٍ لينقاد، قال ابن الجوزي: "ليس في سِياط التأديب أجودُ من سوطِ العَزْم"[22]. فيا طالبَ العلمِ، لا هوادةَ. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، إن تصدِّيك لهذا العمل الجليل يُحتِّمُ عليك ألَّا تُفرِّط فيه، فهو وإن كان "طلبُ العلم الشرعي فرض كفاية، إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة"[23] - إلا أنه يبقى من الفرائض الإلهيَّة، وحقُّه الوجوب على مَن قال: أنا له. فاحرص على تنميته، وابذل واسعَ جهدك فيه، فإنما ينالُ المجدَ من جدَّ، "وعلى هذا؛ فكل طالب علم يعتبر قائمًا بفرض كفاية يُثاب على طلبه ثوابَ الفريضة، وهذه بشرى سارةٌ لطلاب العلم أن يكونوا على طلبهم قائمين بفريضة من فرائضِ الله عز وجل، ومن المعلوم أنَّ القيام بالفرائض أحبُّ إلى الله تعالى من القيام بالنوافل"[24]. فما أظنُّ بك بعد ذا إلا إنفاذ وصية ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، من سلك الدَّرْبَ، وتزوَّد للطريق، ومشى على بصيرة، وبذل وسعه، وشد مِئزره، ومضى ولم يلتفت - بلغ مراده، ولم يكن شيء ليرده. والأمر إنما هو توفيق وتضحية، وصبر ومصابرة، وبذل ومجاهدة، والله المستعان. "فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"[25]. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، إذا أردتَ أن تربحَ سوقك، ويبارك لك في صفقة يدك، وتروَّج بضاعتك، فعليك بالمحاسبة؛ فما تاجر ناجح إلا والمحاسبة وَليفُه ورفيقه، فجرِّد نيتك لله، وجَرِّدْ ما عندك من علم؛ لتعرفَ نقصك فتتمَّه، وتعرف ربحك فتتبحر فيه، وليكن ذا دأبَك وديدنَك. فهذا متن يحتاج لضبط، وهذه مسألة تبغي مراجعة، وذاك حكم يحتاج إلى تحرير، وتلك فائدة تنتظر التقييد، وهذا وهذا... والرابح من كانت تجارتُه عابرةً للدارين، ومستقرةً عند رب العالمين، له ذخرًا ومدخرًا. يا طالبَ العلمِ، احرص على دوانيقِ العلم ودنانيره. ♦ ♦ ♦ طالب العلم، اسأل وتساءل؛ فبالسؤال العلمَ تنال، واحرص يا أُخَيَّ على السؤال المفتاحيِّ، وليس أن تسأل لغرضِ السؤال وحسب. انظر فيما يجعل قناة علم شيخك تشخب في حياضك شخبًا، وتصب صبًّا؛ فيالَحظِّك بذاك السيل الثجاج! قال يعقوب بن بختان: "سألت أحمدَ عن مسألة، فقال: يقال: إن العلمَ خزائن، والمسألة تَفتحُه؛ دعني حتى أنظر فيها"[26]. يا طالبَ العلمِ، هذه الصرر؛ فَحُلَّ الوِكاء. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، تلطَّف حين المسألة، وتملَّق لشيخك؛ فإن أدب الطلب روح العلم، فلطالما كانوا يقولون بين يدي مسألتهم "رحمك الله، ما تقول في كذا وكذا؟"، وإياك ومسابقةَ شيخك في الكلام، ومنازعته الخطاب؛ فما هذا من الأدب في شيء. فأَذِلَّ نفسك بين يدي شيخك تُعَزَّ، قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا"[27]. ولا تمارِ شيخك وتستمهن المخالفة فيخبو ضوء علمك؛ فقد كان أبو سلمة يماري ابنَ عباس؛ فحُرِمَ بذلك علمًا كثيرًا[28]. يا طالبَ العلمِ، أحسِن سؤالك، أحسن الله إليك. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، لا تفرِّطن في لحظة طلب، ولا تحقرن هُنَيْهَةً تُقضى في علم؛ فإنه لولا الدقائقُ ما جاءت الجلائل. فحديثٌ مع حديث، وسطر مع آخر، ومسألة تلو أختِها يبارك الله سيرك، ويعظم مسيرك؛ فإذا بك - بعدَ منَّة الله وتوفيقه - بلَغت فوق ما كنت تظنُّ من مراتب العلم. لا تحقرِنَّ صغيرةً ♦♦♦ إن الجبالَ من الحصى يا طالبَ العلمِ، السلسلة حلقة وحلقة. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلمِ، أرعِ سمعك، وأصغِ لشيخك، وأنصت بقلبك وبِسَمْتِكَ إليه قبل أذنك؛ فإنك لن تملأ قِرابك إذا كان قاعها ذا خروق وشقوق، فصمتك وأُذُنُك أول علمك وثانيه، ومؤسِّسُه ومُرسيه، وذي هي شجية السابقين؛ فقد كانوا إذا تكلم متحدِّثُهم أطرقوا كأنما على رؤوسهم الطير، فإنصاتك يا طالبَ العلمِ لشيخك وعدم منازعته أمارة التواضع وزين العلم والأدب، وبه ينال العزيز؛ قال عبدالله بن المعتز: "المتواضع في طلب العلم أكثرُهم علمًا، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماءً"[29]. يا طالبَ العلمِ، استمع تَنَلْ حظَّك وترتفع. ♦ ♦ ♦ يتبع
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() شذرات عن طريق طالب العلم (4) إبراهيم العيدان الحمد لله، مصلِّيًا على رسوله وآلِه وصحبه ومسلِّمًا. وبعد: • فهذا هو الجزء الرابع من مجموع رسائل (شذرات عن طريق طالب العلم)؛ تُعين الطالبَ في طلَبِه، وهي في الأصل موجَّهةٌ لطالب العلم المبتدئ، وإن كانت تَذكِرةً وذكرى للمنتهي، بعضها نقلًا، وبعضها رَقْمًا، سبق وأرسلتُها لمجموعة من الأحبَّة كرسائل قصيرة، ورأيتُ جمْعَها وعرضها ليُنتفع بها. يا ربِّ حقق المنى، وأخلِص النيَّةَ، وأصلح العمل. ♦ ♦ ♦ يا طالبَ العلم، سُئل شيخ الإسلام - رحمات الله المتوالية عليه إلى يوم الدِّين - سؤالًا مهمًّا، فجاء الجواب حسنًا كعادته... تأمَّل! "أيهما أفضل طلب القرآن أو العلم؟ الجواب: • أمَّا العلم الذي يَجب على الإنسان عينًا كعِلم ما أمر الله به، وما نَهى الله عنه، فهو مقدَّم على حِفظ ما لا يجب مِن القرآن؛ فإنَّ طلب العلم الأول واجبٌ، وطلبَ الثاني مستحبٌّ، والواجب مقدَّم على المستحبِّ. • وأمَّا طلَب حِفْظ القرآن، فهو مقدَّم على كثيرٍ مما تسمِّيه الناس علمًا وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضًا مقدَّم في التعلم في حقِّ مَن يريد أن يتعلَّم علمَ الدين من الأصول والفروع؛ فإنَّ المشروع في حقِّ مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحِفْظ القرآن؛ فإنَّه أصلُ علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثيرٌ من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم؛ حيث يشتغل أحدُهم بشيء من فُضول العلم، من الكلام، أو الجدال والخلافِ، أو الفروعِ النَّادرة، والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تَثبُت، ولا يُنتفع بها، وكثير مِن الرياضيات التي لا تقوم عليها حجَّة، ويترك حِفْظَ القرآن الذي هو أهمُّ من ذلك كله، فلا بدَّ في مثل هذه المسألة من التفصيل. والمطلوب مِن القرآن هو فَهْمُ معانيه، والعملُ به، فإن لم تكن هذه هِمَّةَ حافِظِه، لم يكن مِن أهل العلم والدين، والله سبحانه أعلم". [الفتاوى الكبرى (٢/ ٢٣٤ - ٢٣٥)]. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، أيما وجدتَ فرصةً مِن إجازة ونحوها... فاعلم أنَّها فرصة ومنحة ربانيَّة. فخطِّط لها: • قراءة كتبٍ ورسائل. • وحضور دروس ودورات. • وحفظ متون ومنظومات. • ومذاكرة صحبك ومناقشتهم. • وضبط محفوظك ومراجعته. وأعظم ما يرفعك وينفعك وأُوصيك به أمران: • أحدهما: "شدَّة لزوم شيخك"؛ فأنت فارِغ. • وثانيهما: "كثرة قراءتك وحفظك". وإليك مثالًا (عمرو بن ميمون الأودي) للملازمة التي أثمرَتْ عِلمًا وفيرًا؛ حيث يقول: • "قدِم علينا معاذُ بن جبَل اليمنَ رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلينا، قال: فسمعتُ تكبيرَه مع الفَجر؛ رجلٌ أجشُّ الصَّوت، قال: ♦ "فأُلْقِيتْ عليه مَحبَّتي، فما فارقتُه حتى دفَنتُه بالشَّام ميتًا، ثمَّ نظرتُ إلى أَفْقَهِ النَّاس بعدَه، فأتيتُ ابنَ مَسعودٍ، فلزمتُه حتى مات"؛ [رواه أبو داود في سننه]. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، عليك بالحفظ؛ فهذا زمنه. • أخذ إسماعيل بن أميَّةَ حديثًا عن أبي هريرة رضي الله عنه مِن أعرابي، فأراد أن يتوكد حِفظه، فكان ما جرى: • "قال إسماعيل: ذهبتُ أُعيد على الرجل الأعرابي، وأنظر لعلَّه، فقال: يا بنَ أخي، أتظنُّ أنِّي لم أحفَظْه؛ لقد حجَجتُ ستِّين حجَّةً، ما منها حجَّة إلَّا وأنا أعرف البعيرَ الذي حججتُ عليه"[1]. • يا طالبَ العِلم، "فأَعْلَمُنا أحفَظُنا"[2]. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، الْتِزامك لشيخ، لا بدَّ أن يكون مبنيًّا على اختيارٍ صحيح. شيخ مُزكًّى في دينه وعلمِه، وأدبِه وسَمْتِه... وليس كلُّ مَن علَّم حرْفًا كان حَرِفًا. ولا مَن ضبَط شيئًا صار شيخًا. ولكن! أهل العلم معروفون... زادك الله مِن واسع فضله. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، قال العلَّامة مرتضى الزبيدي رحمه الله: ♦ "وقد أجمَع العلماءُ على فضل التعليم والتعلُّم مِن أفواه الشيوخ". [إتحاف السادة المتقين (١/ ٦٦)]. هم أهْلُه، وهم به أَبصَر! ♦ ♦ ♦ ومن الأمور التي تغُم القلبَ تكاسُلُ بعض الطلَّاب عن الاستفادة مِن مشايخهم - رغم توفُّرهم، وضرورتهم وحاجتهم إليهم - بحُججٍ واهية؛ كقول أحدهم: الشَّيخ قد لا يسمح؛ جدَلًا. يا صويحبي: • تعالَ له مرَّةً بدرس، ومرَّةً بسؤال، وأخرى اقضِ حاجتَه، وقل له ما تريد، ورابعة بإرسال أحدٍ إليه، وخامسة بمراسلته، وسادسةً بتحرِّيه عند باب بيته ومسجده... فإنَّه متى وجَد مِنك إقبالًا إليه وإلى ما عنده، رفع السترَ بينك وبينه ووضع الاستئذانَ... وحينها قد هبَّتْ رياحُك، وربح سوقُك. ولكن! لقد أسْمعتَ لو نادَيْتَ حيًّا! ♦ ♦ ♦ يتظاهر كثيرٌ من طلَّاب العلم بشغل مستمرٍّ، وضِيق وقتٍ، وتعدُّد ارتباطات؛ ويتَّخذها أعذارًا يخبِّئ وراءها ضعفَ همَّتِه، وكسلَ نفسه، ورداءةَ رأيه. والكثير الآخر يدَّعي العلم، وينتحل التعالُمَ، ويظنُّ أنَّه بلَغ مِن العلم مبلغَ الكِبار، ورفع المنارَ، لأجل سَطْر واحدٍ قرَأه بقراءته المتعتعة، وحديثٍ بالَّتي واللُّتيا بحِفْظه الرَّكيك حفِظه... وكلاهما في السوء سواء، ويتعالون الثغاء. ومتى سلِم المرءُ مِن هذين، وجَدَّ واجتهد، كان إلى الخير أقرب. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، اعلم أنَّ ارتباطك بشيخك هو ارتباطُ ابنٍ بأبيه؛ ولا عجب! فهذا الإمام النَّووي رحمه الله يقول: "إنَّهم أئمَّتنا وأسلافنا، كالوالدين لنا"[3]، وقال: " فإنَّ شيوخه في العلم آباءٌ في الدِّين، ووُصلةٌ بينه وبين ربِّ العالمين... مع أنَّه مأمورٌ بالدُّعاء لهم، وبِرِّهم، والثَّناء عليهم، والشكر لهم"[4]. بينك وبينه رَحِمُ العلم، رَحِمُ أرواح لا رَحِم أجسام، يبيِّن ذاك شيخ الإسلام ووالدُنا رحمه الله حيث يقول: • "فالشيخُ والمعلِّم والمؤدِّبُ أبو الرُّوح، والوالِدُ أبو الجِسم"[5]. فيا ليتَ شِعري، أين هم البررة؟! ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العلمِ، تلطَّف حين المسألة، وتملَّق لشيخك؛ فإنَّ أدَب الطَّلب روحُ العلم، فلَطالما كانوا يَقولون بين يدي مسألتهم: "رَحِمك اللهُ، ما تقول في كذا وكذا؟"، وإيَّاك ومسابقةَ شيخك في الكلام، ومنازعتَه الخِطاب؛ فما هذا مِن الأدب في شيء. فأَذِلَّ نفسَك بين يدَي شيخك تَعِزَّ؛ قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "ذللتُ طالبًا، فعززتُ مَطلوبًا"[6]. ولا تمارِ شيخَك وتستمهن المخالفةَ فيخبو ضوءُ عِلْمك؛ فقد كان أبو سلَمة يماري ابنَ عبَّاس؛ فحُرِمَ بذلك عِلمًا كثيرًا[7]. يا طالبَ العلمِ، أحسِن سؤالَك، أحسَن اللهُ إليك. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، ليس طلَب العلم حِكرًا على ساعة مُحاضرةٍ، أو جلسة عِلم معيَّنة، في ظروفٍ معيَّنة، مع شيخٍ معيَّن. وإن لم يَحصل ذلك، فلعب وتَرْفيه، أو نَدْب حَظٍّ وانتظار توفُّر الظُّروف على ما تَشتهي وتريد. الطلب الحَقيقيُّ هو حياة مكرَّسة للعلم، تعلُّمًا وضبطًا، وحِفظًا وعملًا، وتخلُّقًا وبحثًا، وثَنْيَ رُكَب، ومزاحمةَ مناكب، ونسخًا ونقلًا، وجِدًّا ومثابرة، وبهذا تَنال العلم حقًّا، وتبلغ منه منزلةً رفيعة عليَّة. • يا طالبَ العِلم، العلم عُمْر، و((خيركم مَن طال عمرُه، وحسُن عمله)). ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم: • سِرْ ووَقودُك الحُبُّ. • امضِ وحاديك الشَّوق. • تيم قلبك قلادةَ العلم، فغدوت تتلذَّذ بخرزها وجواهرها، ويحلو في فمك دقيقها وجليلها. قال النفيلي رحمه الله حين حدَّث بحديث سنده (حدَّثني وحدَّثنا): • "واللهِ إنَّه عندي أَحلى مِن العسَل"؛ [سنن أبي داود (٤/ ٣٣٠)]. • يا طالبَ العِلم، حلواك في حليِّك، وحليُّك عِلْمُك. ♦ ♦ ♦ كيف يرجو العلم مَن لا يريد أن يضحِّيَ بمالٍ أو تجارة من أجله؟! بل كيف يؤمِّله من أهرق دمَه للاتجار؟! كان السَّلَف وخلفهم مِن أهل العلم لا يساوِمون المالَ على العِلم، ولا يقدِّمونه عليه إلَّا أن يقدِّموه له! يتبع
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: • "أقام شُعبةُ على الحَكَم بن عُتَيْبةَ ثمانية عشَر شَهْرًا - يعني يطلب الحديث - حتى باع جُذُوعَ بيته!"[8]، وقال الإمام ابن عُيينة رحمه الله: • "سمعتُ شعبةَ يقول: • من طلب الحديثَ أفلَس!"[9]. وقد "أفضى بمالِك بنِ أنس رحمه الله طلَبُ العلم إلى أن نقَض سقفَ بيته فباع خشَبَه"[10]. • يا طالبَ العِلم، أكْرِم عينَ العلم، فلأجل عينٍ تغور عيون. ♦ ♦ ♦ للعلم تُحَلُّ الصُّرَرُ، ولنيله تُنفق الدنانير. • يا طالبَ العِلم! كان الكبار - من قدواتك - يشترون هذا العلمَ بجدِّهم وجهدهم ومالهم. قال خلف بن هشام رحمه الله: • "أَشكَل عليَّ بابٌ من النَّحو، فأنفقتُ ثمانين ألف درهم حتى حذقته!"[11]، وقال الإمام الشعبي رحمه الله: • "لو أن رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليَمَن فحفظ كلمةً تنفعه فيما يستقبل من عمره، رأيتُ أنَّ سفَره لم يَضِع"[12]، وكم مِن مال وجهد سيهراق في سبيلها؟! وإليك قول ابن المقرئ رحمه الله: • "مشيتُ بسبب نُسخة مفضل بن فضالة سبعين مَرحلة! ولو عرضَتْ على خبَّاز برغيف لم يَقْبَلْها"[13]. • يا طالبَ العِلم، اركب جهدك ومالك لعِلمك؛ فإنَّما هما ظَهْر والعلم منتهى. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، فِ لمشايخك، وتودَّد لهم؛ فإنَّ جفاء الشيخ ليس مِن صِدق الطلب، واذكر أنَّ ((حُسْن العَهْد مِن الإيمان))، و((مَن صنَع إليكم مَعروفًا فكافِئوه...))؛ الحديث. • يا طالبَ العِلم الوَفِي، كَمال علمك، وتاج فَهمك، أن تُكرم العينَ التي نبعَتْ لك فارتويتَ منها وكنتَ ظمآنَ! والعذقَ الذي أطعمَك وكنتَ جوعانَ! بل واللهِ مَن عَرَّفك عزَّك وشرفَك وكنتَ عنه شاردًا، وجذبك للحقِّ والكمال وكنتَ عنه ساربًا... الوَفاء إكسيرُ الطَّلب، وتَرْكُه كاسِره. ♦ ♦ ♦ ظاهرة بيع المشايخ.. • يا طالبَ العِلم، إيَّاك وبخس مشايخك وبيعهم! ولازِمْهم ولا تتخلَّف عنهم! فما بتَرْكك شيخك كرامةٌ ولا مُروءة، حتى لو هَجَرك؛ فإنَّما عليك التودُّدُ والتلطُّف والاصطبار. فقد قام الإمامُ أبو حنيفة عن مجلس شيخه حمَّاد، ظنًّا منه الغُنية، فسُئل عمَّا لا يعرف! قال: "فجعلتُ على نفسي ألَّا أفارِقَ حَمَّادًا حتى يَموت، فصحبتُه ثماني عشرة سنة"[14]. وقام الإمامُ مالكٌ وسليمان بن بلال عن مَجلس شيخه ربيعةَ، فقال له الشَّيخ: • يا مالِكُ، تَلْعب بنفسك؟! زَفَنْتَ وصفَّق لك سليمان، أبَلغتَ أن تَتَّخِذ لك مجلسًا؟ ارجِعْ إلى مجلسك!"[15]. • يا طالبَ العِلم، اتَّبع شيخك ولا تَبِعْه! ♦ ♦ ♦ يعزُّ على النَّفس ويكدِّر الخاطرَ: رؤيةُ طالب علم يزهَدُ فيمن حوله ومَن بقُربه من أهل العلم، ويسعى فيمَن قد لا يتيسَّر، فيَفوتُه القريب فيتحسَّر، ومدار القول في حال توفُّر المراد عند القريب، قال عروة بن الزبير: • "أَزْهَدُ الناس في العالِم أهلُه وجيرانُه"[16]؛ "كالسِّراج بين أظهُر القوم يستصبح النَّاس منه ويقول أهلُ البيت: • إنَّما هو معنا وفينا، فلم يَفْجَأْهم إلَّا وقد طفئ السِّراج، فأمسك الناس ما استَصْبحوا من ذلك"[17]. وما أجمل قول الماوردي في أدبه: • "وإذا قرب منك العالِم، فلا تَطلب ما بَعُد... وربَّما انبعثَتْ نفسُ الإنسان إلى مَن بَعُد عنه استهانةً بمَن قَرُب منه... فلا يدرِك مَطلوبًا، ولا يَظْفر بطائل"[18]. • يا طالبَ العِلم، كُن للقريب آفاقيَّ الشَّوق، لا زَهِد الجوار! ♦ ♦ ♦ • يا طلبة العلم، "يَنبغي لنا دائمًا في حال قِراءتنا وفي حال تعلُّمنا أن نَستشير مَن عنده تجربة وخبرة"[19]. فعقولٌ: أَحرى للصَّواب مِن واحدها، وملاقحَةُ فِكرِ ذَوي الفِكْر فِكرَك: أَدعى لإدراكِ الغاية، سواء كان في الطَّلب، أو التَّتلمذ، أو القِراءة، أو البحث، وكثير ممَّن يُعتدُّ برأيه يعتدي، ومَن رأى لنفسه فَضلًا عن الاستشارة ما يزداد إلَّا نَقصًا، وعن الحقِّ إلا بُعدًا. • يا طالبَ العِلم، استَشِرْ، تَشترِ عقولًا بالمجان، وتُوفَّق لخير رأي وأوسط سبيل. ♦ ♦ ♦ قال سفيان الثَّوري رحمه الله: • "إنَّما العِلم عندنا الرُّخصةُ مِن ثقة، فأمَّا التشديد، فيُحسِنه كلُّ أحَد"[20]. ♦ ♦ ♦ بعض طلبة العلم - لعدم وضوحِ الأمر لديه - يَصُبُّ جُلَّ اهتمامه على أقل الأمر، معتذرًا أنَّه لا ينقصه إلَّا هذا؛ وكأنَّه قد أتقن مهمَّات العلم وأصوله، دوافعه لهذا إمَّا عَجْزُه وكَسَلُه، وإمَّا ضَعْف بصيرته وبُعْده عن المشايخ الذين يَأخذون بيَده لِما فيه نَفْعه، فيَنساق وراءَ الصوريات والشكليَّات، ويدَع الجوهريَّات والرئيسات... هذا داءٌ دواؤه نَقيض دوافعه، فلْيُنْتبه له. ♦ ♦ ♦ • يا طالبَ العِلم، مِن شُكْر العلم أن تَحْفظ لِمن علَّمك حَقَّه، ولا تنسى له فَضْله؛ فإنَّ الله قال: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]. وأَجْمِلْ بكلمةِ الإمام الوَفيِّ محمد الشافعيِّ رحمه الله حين قال: • "الحُرُّ يحفظ ودادَ لَحظة، ولِمن أفادَه لَفْظة"، فكيف بمَن نال مِن عِلم شيخه ما قامت به قدَماه، وعرف العلمَ بسببه؟! واذكر أنَّ "أحبَّ الطلَّاب إلى الله أكمَلُهم أدبًا مع شيخه"[21]؛ كما قال العلَّامة محمد الشنقيطي حفظه الله. [1] سنن أبي داود (١/ ٢٣٤). [2] رواه مسلم. [3] تهذيب الأسماء واللغات (١/ ١١). [4] مواهب الجليل (١/ ٥). [5] المستدرك على الفتاوى (١/ ١٩٩). [6] جامع بيان العلم وفضله (١/ ٥٠٦). [7] جامع بيان العلم وفضله (١/ ٥١٧). [8] العلل ومعرفة الرجال (٢/ ٣٤٢). [9] سير أعلام النبلاء (٧/ ٢٢٠). [10] تاريخ بغداد (٢/ ١٣). [11] سير أعلام النبلاء (١٠/ ٥٧٨). [12] حلية الأولياء (٤/ ٣١٣). [13] تذكرة الحفاظ (٣/ ١٢١). [14] تهذيب الأسماء واللغات (٢/ ٢١٨). [15] الانتقاء (١/ ٣٧). [16] العلم؛ لأبي خيثمة (١/ ٣٨). [17] حلية الأولياء (٤/ ٢٤٥). [18] أدب الدنيا والدين (١/ ٨٢)؛ بتصرف. [19] "شرح لامية شيخ الإسلام"؛ للشيخ عمر العيد. [20] جامع بيان العلم وفضله (١/ ٧٨٤). [21] دروس العلامة محمد المختار (٢٥/ ١٣).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |