نظرات في أصول التربية عند ابن القيم رحمه الله - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1430 - عددالزوار : 141365 )           »          معالجات نبوية لداء الرياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          التربية بالحوار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          صور من فن معالجة أخطاء الأصدقاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          في صحوةِ الغائب: الذِّكر بوابة الحضور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          آيات السَّكِينة لطلب الطُّمأنينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (العليم, العالم. علام الغيوب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          سبل إحياء الدعوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          التساؤلات القلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الحب الذي لا نراه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-08-2021, 12:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,204
الدولة : Egypt
افتراضي نظرات في أصول التربية عند ابن القيم رحمه الله

نظرات في أصول التربية عند ابن القيم رحمه الله
عبدالرؤوف محمد أبو شقرة




الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فـقد وقعتُ على درة غالية، ونفِيسة ثمينة من نبع العلوم، للعالم العامِل، ندير زمانه، ومُلجِمِ خصومِه؛ شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله، يتحدث فيها عن أصولٍ عظيمة، وقواعدَ راسخة، من بصيرة نافذة، عن أسس وفنون تربية الأبناء، ولله دَرُّه! فرغم أن الزمانَ ضرَب دونه سنينَ طويلة، وأجيالاً عديدة، فإنَّه رحمه الله قد أصاب في تأصيله ما يَنفعُنا في أخذ أبنائنا عن الخطأ والزلل، منذ المَنْبَتِ والصِّغر؛ فإن النَّبْتة إذا بَزغَتْ مُعوجَّةً سهل تصحيحُها في المبدأ، وعسر ذلك إذا ضرب الجذر أرضَه، وشدَّ السَّاق عودَه، وفرَّخ أصولاً وفروعًا.

فهَلُمَّ بنا نتجولْ مع نسماته العطرة، ونفحاته الخضرة، مضيفًا إليها على استحياء بعض التعليقات لا لأضيف؛ فإن النهر لا أثرَ له مع البحر، ولكن لنُسلِّطَ أضواءه على ما يَخصُّنا من زماننا، وعلى ما يَهمُّنا من أمورنا، ولِنتنبَّهَ أكثرَ لِمَا يعرضه بين طيَّات كلماته.

يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله:
"مما يحتاج إليه الطفل غايةَ الاحتياج الاعتناءُ بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوَّده المربي في صغره: من حرد وغضب، ولجاج وعجلة، وخفةٍ مع هواه، وطيش وحِدَّة وجشع، فيصعُبُ عليه في كِبرِه تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاقُ صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له، فلو تحرَّزَ منها غايةَ التحرُّز؛ فضَحَتْه - ولا بد يومًا ما - ولهذا تجدُ أكثرَ الناس منحرفةً أخلاقُهم! وذلك من قِبَل التربية التي نشَأ عليها، فيَجِبُ أن يُجنَّب الصبيُّ إذا عَقِل مجالسَ اللَّهو والباطل، والغناءِ وسماعِ الفُحْش، والبدع ومنطق السوء؛ فإنه إذا عَلِق بسمعِه عَسُر عليه مفارقتُه في الكِبَر، وعزَّ على وليِّه استنقاذُه منه، فتغييرُ العوائد من أصعب الأمور! يحتاج صاحبُه إلى استِجْداد طبيعةٍ ثانية، والخروج عن حكم الطبيعة عَسِرٌ جدًّا"؛ اهـ.

قلت - عبدالرؤوف -:
كثيرًا ما يكتسِبُ الابنُ خلقَ أبيه؛ لأنه المثل الأعلى والقدوة العظمى بالنسبة له؛ فهو يرى ويحاول تقليده على الدوام؛ فليتنبه الوالدُ من سوء الفِعال أمام أبنائه، ولتحذرِ الإفراطَ كما تحذر التفريط.

فمِن الوالدين مَن يُفرِّطُ في الحرص والتحذير والتنبيه، حتى ينشأ الولدُ على الجُبْن والخجل، والوسواس والتقزُّز من أمور كثيرة، ومنهم مَن يُفرِطُ في الضَّرب والتوبيخ، حتى يلجأ الطفلُ إلى الكذب؛ هربًا من العقاب، فيصبح بذلك - بسبب نهج أبيه - كذَّابًا، ومنهم مَن يُفرِط في إعطاء الابن ما يريد حتى يظنَّ الولدُ أن كل شيء من حقِّه، وهو مُمدَّدٌ على فرُشِ الراحة والدَّعَةِ، ثم يصبح عنيدًا عدوانيًّا إن لم يَنَلْ ما يريد.

وينبغي أن يُراقب الأبُ ابنَه مراقبةَ الباحث البصير، فإن لاحَظ فيه طبعًا سيِّئًا، قام على أسباب حَلِّه، وردَّه لفطرته؛ فإن الطفل لا يُدرِكُ مصالحَه، وهو يقع على منابعَ كثيرة يكتسب منها في بيئته؛ فمنها الصحيح ومنها السَّقيم، فمِن حولِه التلفاز والجيران، والحاسوب والهاتف، وأقرباؤه من جهة أبيه وأمه، والمدرسةُ يَقضي فيها ثلثَ يومه، يلتقي فيها بالغثِّ والسمين، وهو في ذلك كحَاطبِ ليلٍ، يأخذ من طِباع كلِّ مَن يراه، فلا بد أن تُنقِّبَ عن العادات الجديدة فيه على الدوام، وتُعالجَها من فَورِها قبل أن تَكبر وترسخَ فيه، فيعسر إزالتُها، فتندم؛ ولاتَ ساعةَ مندمٍ، وهي تنمو في الجسد نُموَّ العشب في الربيع.

ولاحِظ أن بعض الآباء - إسلاميِّي التوجُّه - يُعوِّدُ ابنَه أن يجلس أمام التلفاز ليشاهد محطات "إسلامية"، فيبقى يَسمع مِن الغناء والرقص واللعب ما يُرخي طبعَه، ويميل هواه، فماذا تتوقع من الولد بعدها؟! راقصًا أو مغنيًا أو لاعبًا!


وقال رحمه الله:
"وينبغي لوليِّه أن يُجنِّبَه الأخذَ من غيره غايةَ التجنُّب؛ فإنه مَتى اعتاد الأخذَ صار له طبيعةً، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطيَ، ويُعوِّدَه البذلَ والإعطاء، وإذا أراد الوليُّ أن يعطي شيئًا أعطاه إياه على يده؛ ليذوق حلاوة الإعطاء"؛ اهـ.

قلتُ: وهي عادةٌ نافعة جميلة، رغم أنَّها عزيزة في الكبار، ناهيك عن الصغار؛ لأن الناسَ ألصقُ بالمال مِن الأم برضيعها، وإن الأب إذا وُفِّق إلى نزع هذه الصفة من عمق قلب ولدِه، فإنه ليَشهد له بالفروسيَّة وحُسن الترويض، وإحكام التربية والتدبير، ولا بد أن كلَّ تربية بعد ذلك سهلةٌ عليه.


قال رحمه الله:
"ويُجنِّبُه الكذب والخيانة أعظمَ مما يُجنِّبُه السُّمَّ الناقع؛ فإنه متى سَهَّل له سبيل الكذب والخيانة، أفسَدَ عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحَرَمه كلَّ خير"؛ اهـ.

قلت: وهي أسوأ صفةٍ عُرِفتْ بين الناس؛ فإن الكاذب ديُّوثٌ لا أمان له، وهي أُولى خُطوات النِّفاق - أعاذنا الله وإياكم منها - لأنها آلةٌ يُظهِرُ فيها المرءُ خلافَ ما يُبطن، وإن رسَخَت في النفس صارت إزالتُها جِدَّ عسيرةٍ، وأصبحَت منزلقًا لكلِّ خُلق سيِّئ؛ فهي سِتارٌ لكل الطِّباع، وإنَّ رُسوخَها في الولد بمثابة انفِلاته في فَلاة لا مَعْلمَ فيها، فينبغي الحذرُ منها أشدَّ من الزنى والقتل وشرب الخمر؛ لأن هذه الكبائر يُرجَى من فاعلها توبة، ويمكن أن تربط على صاحبها نصيحةٌ تجرُّه للتوبة اليومَ أو غدًا، أما الكاذب فهو سيِّئ الباطن تقيُّ الظاهر، لا ترى منه سوءًا لتنصَحَه، ولا ترى منه بأسًا لتدعوَه، فيستمرُّ على غَيِّه، وكلما كشَفتَه وواجهتَه لتُصلِحَ، تستَّرَ بكذبة جديدة، فلا تدري أقاطفٌ أنت ثمرةً معه، أم عاد ليتخفَّى بتمويهِ لونه؟!

قال رحمه الله:

"ويُجنِّبُه الكسل والبطالة، والدَّعة والراحة، بل يأخذه بأضدادِها، ولا يُريحُه إلا بما يُجمُّ نفسه وبدنَه للشُّغلِ، فإن للكسل والبطالة عواقبَ سوءٍ، ومغبَّةَ ندم، وللجِدِّ والتعب عواقب حميدة: إما في الدنيا، وإما في العُقْبى، وإما فيهما، فأروحُ الناس أتعبُ الناس، وأتعب الناس أروحُ الناس، فالسِّيادة في الدنيا، والسعادة في العُقبَى؛ لا يوصَل إليها إلا على جسرٍ من التعب، قال يحيى بنُ أبي كثير: لا يُنالُ العلم براحة الجسد"؛ اهـ.

قلت: وكذلك فليُعوِّدْه الثقةَ بالنفس، وحمل المسؤولية، فلا ينبغي أن يقوم الأبُ بكل مهمَّة رأفةً به، حتى إذا كبر ولدُه شكى إهمالَه وقلةَ حركتِه، بل أنت مَن تجبله على النشاط والمسؤولية، أو الكسل وقلة الحركة.

كما أن هذا الخلق يُكسِب الولدَ خبرةً لازمة لأمور الحياة، وإن اعتاد العمل فإنه يَعتاد أن يكون حاملاً لا محمولاً، ومُعينًا لا مُعانًا، فترتسِمُ في نفسه صفاتُ الرجولة وملامح القيادة، وإن أحبَّ العمل وتعلم كلَّ ما حوله، فإنه لا بد سائرٌ نحو العبقرية؛ لأن العبقريَّ منذ صغره يحاول الخروج عن المألوف، ويخرقُ حجاب العادات؛ ليبحث عن مكنوناتها وحقائقها، يريد أن يعرف كلَّ شيء من أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟ وكيف يعمل؟ وما قوانينُه بالتحديد؟

وهذه الصفات يرسمُها الآباء في أبنائهم من حيث عَلموا أم لم يعلموا، فدقِّقْ في أبناء الناس تجد غالبًا أصغرَ أبنائهم أكسلَهم وأعندَهم وأقلَّهم مهارة، وهذا ناتج عن نظرتهم للصغير، وتعامُلهم مع الكبير!

قال رحمه الله:
"ويُعوِّدُه الانتباهَ آخرَ الليل؛ فإنه وقتُ قَسْمِ الغنائم، وتفريق الجوائز؛ فمُستقلٌّ ومستكثِرٌ ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيرًا سَهُل عليه كبيرًا".

وهذا خلاف السائد في أذهان الناس؛ إذ يُفضِّلون ضبطَ أطفالهم بنظام محدَّد في الاستيقاظ والنوم والأكل والشرب، وسائر أعمال اليوم.

وفي الحقيقة أن مَن تقيَّد بنظام استُعبِد به، فيثقل بعد دخول ساعة النوم، فلا يَستطيع القيام، وينهزم عند ساعة الطعام فلا يستطيع الصبر، والأضبط أن تُخالف في العوائد؛ حتى تكون العوائدُ تبعًا لك، ولا تكون تبعًا لها؛ لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يومين من الأسبوع، ويصوم حتى يُقالَ: لا يُفطر، ويُفطر حتى يقال: لا يصومُ، فلا يعتاد الجسمُ الجوعَ، ولا يعتاد الشِّبَع، بل يبقى متهيِّئًا لكل ظرف، ومستعدًّا للاستيقاظ في كل ساعة.

قال رحمه الله:

"ويُجنِّبُه فضولَ الطعام والكلام والمنام، ومخالطة الأنام؛ فإن الخسارةَ في هذه الفَضلات، وهي تُفوِّت على العبد خيرَ دنياه وآخرته".

وهذه التي عدَّها مع كثرة الضحك والهزل من مُفسِدات القلوب ومميتاته، فليحذَرْه المرء عامَّة، وليراجع كلام ابن القيم رحمه الله في أثرها في كتاباته الأخرى؛ ففيها نفعٌ عظيم.

قال رحمه الله:
"ويُجنِّبُه مضارَّ الشهوات المتعلقة بالبطن والفرجِ غاية التجنب؛ فإن تمكينَه من أسبابها، والفَسْح له فيها، يُفسِدُه فسادًا يَعزُّ عليه بعدَه صلاحُه، وكم ممَّن أشقى ولدَه وفلذةَ كبدِه في الدنيا والآخرة بإهماله وتركِ تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يُكرِمه وقد أهانه، وأنه يَرحمه وقد ظلَمه وحرَمَه! ففاته انتفاعُه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة! وإذا اعتبرتَ الفساد في الأولاد رأيتَ عامَّتَه من قِبَل الآباء".

قلت: وهذا كثير مشاهَدٌ في أيامنا هذه، وقد وضع يدَه رحمه الله على الجُرْح، فأصاب عينَ الحقيقة، فحقًّا إن معظم أسباب الغواية في الأبناء بسبب جهل الآباء، وتسخير أسباب الفتنة، ولاحِظْ أنه رحمه الله لم يَقُلْ: إن الآباء يَفتنون أبناءهم، بل يُسهِّلون أسبابها؛ فإن العاقل مَن يمنع النارَ قبل اشتعالها، ويضع أسبابَ الحماية قبل الوقوع في المصيبة، وهكذا هو الإسلام، عالجَ السبب قبل العلَّة، فمنع من النظرة والتبرُّج والسفور خشية الزِّنى، ومنع الغيبة والنميمة والغمز واللمز خشية الفتنة والقتل، ومنع المقامرةَ والرِّبى - رغم رضا الطَّرفَين - خشيةَ التخاصم والبغي، ومنع الخلوةَ خشيةَ الوقوع في الحرام، والأمثلة على ذلك كثيرة.

واليوم نرى الآباء يُمكِّنون أولادَهم، وفَلَذات أكبادِهم من أموالٍ فوق حاجتِهم، دون النظرِ في محلِّ صرفها، وأسوأ من ذا مَن يُمكِّن ابنه وابنته من الحاسوب مرسلاً مع الإنترنت، فيقضي ساعات الخلوة، زاعمًا أن ولده نشأ على تربية حسنة، وأن لديه من الثقة ما يجعله يَغضُّ الطرف عنه، وقد كذَب والله؛ فإن ابنه مهما حسُنت تربيته مجبولٌ على الشهوة وحبِّ الملذات.

فالولد - خاصة في جيل البلوغ، جيل اشتداد الشهوة وطيشان العقل وعدم تقدير العواقب - لا يملك نفسه، فإن كان تقيًّا فإنك تمكِّن له سببًا من أسباب الفساد حتى يَسهُل على الشيطان استدراجُه مع اشتداد شهوته، وقوة غريزته، وقِسْ ذلك على نفسك وقتَ التَّوقان، وأنت بفِعلك ذلك كمَن يَضَعُ أمواله على عتبَة بيته دون مانع، بحجة الثقة بالجار، والجار يراه ولا يتعدَّى عليه، حتى إذا عسر به الحال، وضاقت عليه ظروف الحياة، راوَدَتْه نفسه بالأباطيل بعد أن كان بعيدًا عن السرقة كلَّ البعد، وقديما قيل: "المالُ السائب يُعلِّمُ الناس السرقةَ"، وأقول: الفتنة السائبة تُعلِّمُ الناسَ الفساد.

وهم عندما يفعلون ذلك، إنما يفعلونه بحجة الإكرام وهو يُهينه، وبحجة الإنعام وهو يَحرمه، وبحجة الحرية وهو يُقيِّدُه بشهواته، ثم إذا نشأ وشبَّ على هذا الفساد حتى صار من المفسدين يستنقذ الأبُ أهلَ الدِّين والمعرفة: ماذا حلَّ بولدي؟ قل: هذا ما جَنَتْه يداك! والله المستعان.

فلا تنتظرْ وقوعَ ولدك في الداء لتعالِجَه، بل اقطع عنه أسبابَ الغواية، فإنه إن صبر اليوم فلن يصبر غدًا، وإن صبر غدًا فلن يصبر بعده.

قال رحمه الله:
"والحذرَ كلَّ الحذرِ من تمكينِه مِن تناوُلِ ما يُزيلُ عقلَه من مُسكرٍ وغيره، أو عِشْرةِ مَن يُخشَى فسادُه، أو كلامه له، أو الأخذ في يده، فإنَّ ذلك الهلاكُ كلُّه، ومتى سَهُل عليه ذلك فقد استسهل الدياثة، ((ولا يدخل الجنة ديوث))؛ رواه أحمد، فما أفسَد الأبناءَ مثلُ تغافُل الآباء وإهمالِهم، واستسهالهم شَرَر النار بين الثياب!

فأكثرُ الآباء يَعتمدون مع أولادهم أعظمَ ما يعتمد العدوُّ الشديد العداوةَ مع عدوِّه، وهم لا يشعرون؛ فكم من والدٍ حرَم ولدَه خيرَ الدنيا والآخرة، وعرَّضه لهلاك الدنيا والآخرة! وكلُّ هذا عواقبُ تفريطِ الآباء في حقوق الله، وإضاعتهم لها، وإعراضهم عما أوجَبَ اللهُ عليه من العلم النافع، والعمل الصالح! حرَمَهم الانتفاع بأولادهم، وحرَم الأولاد خيرَهم ونفعَهم لهم، هو من عقوبة الآباء.

ويُجنِّبُه لُبْسَ الحرير؛ فإنه مُفسِدٌ له، ومُخنِّث لطبيعته، كما يخنثه اللِّواط، وشرب الخمر، والسرقة، والكذب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حُرِّم لِباسُ الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحِلَّ لإناثهم))؛ رواه الترمذي.

والصبي وإن لم يكن مكلفًا، فوليُّه مُكلَّفٌ، لا يحل له تمكينُه من المحرَّم؛ فإنه يعتاده، ويعسر فِطامُه عنه.

ومما ينبغي أن يُعتمَد: حالُ الصبي، وما هو مستعدٌّ له من الأعمال ومهيَّأ له، فإذا رآه حسَنَ الفهم، صحيح الإدراك، جيِّد الحفظ واعيًا - فهذه مِن علامات قَبوله وتهيئته للعلم، ليَنقُشَه في لوح قلبه ما دام خاليًا، فإنه يتمكَّنُ فيه، ويستقر ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك من كلِّ وجهٍ وهو مستعدٌّ للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي، واللعب بالرمح، وأنه لا نَفاذ له في العلم، ولم يُخلَقْ له - مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرُّن عليها، فإنه أنفعُ له وللمسلمين، وإن رآه بخلافِ ذلك، وأنه لم يُخلَق لذلك، ورأى عينَه مفتوحةً إلى صَنعة مِن الصنائع، مستعدًّا لها، قابلاً لها، وهي صناعةٌ مُباحة نافعة للناس - فلْيُمكِّنْه منها، هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه؛ فإنَّ ذلك مُيسَّرٌ على كلِّ أحد؛ لتقوم حجة الله على العبد، فإنَّ له سبحانه وتعالى على عباده الحجةَ البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة، والله أعلم.

قلت: ومما نراه اليوم أن جميع الآباء يُلزِمُ ابنَه الدراسة والتعليم، ولا يَألون جهدًا في ذلك، رغم أن البعض لا يَصلُحون لذلك، فهم لا يملكون الاستعدادَ وآلةَ العلم المناسبةَ، ولو وجَّهه لصَنعةٍ أو حِرفةٍ لأجادها خيرًا من أصحاب العقول النيِّرة، فقد خلق الله في الطبيعة أعمالاً مختلفة، وخلَق بحسَبِها طباعًا ونفوسًا تُناسِبُها، ومن الحكمة وضعُ كلِّ طبيعة في محلِّها، وعدمُ إكراهها على خلاف ما تقدر.

وصدق البوصيريُّ إذ قال:
والنفسُ كالطِّفل إن تُهمِلْه شبَّ على حبِّ الرَّضاعِ وإن تَفطِمْه يَنفَطِمِ

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والله الهادي إلى سواء السبيل[1].


[1] ملاحظة: كلام ابن القيم رحمه الله نقلاً من كتاب تحفة المولود.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 61.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 60.13 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]