|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() عبرة لمن اعتبر خالد برادة مما لا خِلاف فيه أنَّ حياة المرء تسمو بصُحبة زمرة من أهل الخير، الناهجين للسبيل اللاحِب، المُوصِّل إلى العزيز الواهب، فكيف بكَ إذا ازداد شرفهم بما هَفَتْ نفوسهم نحوه؛ مِن تحلُّق حول مناهل المعرفة، يَرشُفون مِن فَيْض نبعها الزاخر، ويتنسَّمون شذا عبيرها العاطر، ويحاولون جَهدَهم في التضلُّع مِن ذاك النَّبع الكوثريِّ الشريف، فاشرأَبُّوا نحو غُرَّة سناه الساطع المُنِيف، فعندئذٍ - وعندئذٍ فقط - فلْيَهْنِك صحبتهم، واحمد مولاكَ على أنك سَلَكْتَ سبيلهم. هكذا كانت سعادة صاحب هذه السطور مع زملائه الباحثين إبان الدراسات العليا في مَسلك (الماستر)؛ حيث يسمو العقلُ في آفاق الفكر عندما نجتمع على مقاعد الدرس الأكاديميِّ، ومما زادنا شرفًا وفضلًا أن دروسنا الجامعية في تلك المرحلة كان يزداد بهاؤها الوهاج بإشراف جِلَّةٍ من الأساتذة - نبتهل إلى الله تعالى أن يُديم فضلهم، ويبارك في عمرهم - الذين حازوا من خِصال الشرف أوفرَها، ومن محاسن الفضل أنبلَها، فهُم الجديرون بوافر التقدير، المستحقون مستمر التوقير. ولئن كانت وَشائج العلم تجمعنا - التي هي من أقوى الروابط وأمتنها - ضِمْن ذاك التكوين العلمي بحمد الله تعالى؛ فإنه لِزامًا علينا أن نكون مع زملائنا في جميع أحوالهم، ونشاركهم ما يَعتريهم؛ مِن فرَح أو حزن، ولقد ارتأيتُ أن أنتقي ما عَلِقَ بذاكرتي، منذ فترة غير طويلة الأمد، لأُطرِّسَه ها هنا، وأنقله إلى السادة القراء؛ وذلك يومَ أنْ وَلَجْنا كعادتنا إلى قاعة الدرس، وقد تناهى إلينا خبرُ وفاة والدِ زميلٍ طالب معنا، وهو (نور الدين)، فهزَّتْنا فُجاءة الخبر، واتفقَتْ كلمتنا على السفر عنده؛ حتى نقدِّم له واجبَ العزاء؛ حيث إنه يبعد عن مدينتنا (مدينة الجديدة المغربية) التي ندرس فيها بنحو ثمانية وسبعين كيلومترًا؛ فهو يقطُن في (مدينة الوليدية)، وما هي إلا لحظات حتى وَلَجَ الأستاذُ المحاضِر في مادة الأدب الإسلامي؛ وهو (السيد قراب)، وقبل أن يستهلَّ الحصة، انبرى أحدُ الطلاب ليُخبِر الأستاذ بذلك الخبر، مستأذِنًا منه أن ننصرف قبل إتمام الحصة، بُغية تقديم العزاء، فرحَّب الأستاذ بطلبنا، وأجابَنا مِن فَوْره، فكان موافقًا عليه، ثم أطرقَ بُرْهة، وبعدها ألقى علينا محاضرتَه، وقد سَما بنا - يومَها - في نُجُود أبياتٍ من الشعر لحسَّان بن ثابت الأنصاري، وكانت أبياتًا نظمَها بعد إسلامه، وهو الذي قامتْ شهرتُه على أنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنَّ شِعرَ حسَّان - كما يقول النقَّاد - هو مِرآة تجلَّتْ فيها أحداثُ حياته، وأحداثُ بيئته التي عاش فيها. وما هي إلا ساعة وبضع دقائق، حتى توقَّف الأستاذُ عن إتمام المحاضرة - على أمل أن يتمَّها في الحصة القادمة - نزولًا على طلبنا الذي وافقَ عليه، ثم أودعَنا أمانةَ تبليغ عزائه لزميلنا الذي فُجِع في وفاة والده؛ فخرَجْنا شاكرين له دَماثة خُلُقه، وصلَّينا العصر، ثم انطلقنا مُيمِّمين ما أزمعْنا عليه، فأقلَّت بعضُ السيارات جُلَّ الطلاب، وقد دعاني الزميلُ (صلاح الدين) لأكون من رِفاقه في هذا السفر، فرحَّبت بدعوته، وارتقَيْنا إلى سيارته شاكرين له ذلك، ثم انطلقنا مُيمِّمين صَوْب مدينة الوليدية، فسَلَكتْ بنا السيارة طريقَها على الساحل الأطلسي، فتنسَّمنا عبيرَ الجو الباسم كالعِطر الأصيل، فوصلنا - بحمد الله تعالى - مع مَغرِب ذلك اليوم؛ حيث أرخى الليل سدولَه؛ وهناك قدَّمنا العزاء لنور الدين في مُصابه، داعين اللهَ تعالى أن يَندِمل قلبُه الجَرِيح بمفارقته للأب الحاني، الذي اختطفَتْه يدُ المنون لا من علَّة - كما أفصح لنا نجلُه نور الدين - وما هي إلا لحظات حتى وصل زملاؤنا الآخرون ببعض السيارات، فهان عليهم العَناء، ليُقدِّموا العزاء لخير الأصدقاء، وكان برُفقتهم أستاذنا (السيد العراضي)، الذي شمل أدبُه جميعَ الطلاب، فجعلهم من المقرَّبين الأصحاب؛ فلم يكن وَقْع مَرآه بصحبتهم غريبًا، فلقد رأى البعيد قريبًا. ولا تُخطِئ العينُ جموعَ المُعَزِّين الوافدين لتقديم العزاء، الذين تلمح في نظراتهم ما لهذا الحدثِ الجَلَل مِن أثر قد عَمِل فيهم عملَه، وما ظنُّك بوَقْع الموت في النفوس؟ الذي يُحِيلها هادئة المشاعر، رقيقة الشعور، فيَّاضة العاطفة. استضافَنا نورُ الدين في بيته، بعيدًا عن الخيمة المُعَدَّة لاستقبال المُعَزِّين؛ فصلَّينا المغرب جماعة، ثم ارتفع نداء الحق لصلاة العشاء، فصلَّينا العشاء كذلك جماعة؛ ثمَّ جلسنا ونحن نتلو آياتٍ من كتاب الله تعالى، وكانت آيات من (سورة يس)؛ حيث تلَوْناها بأصواتنا كأنك تسمع صوتًا واحدًا، وبعدها دعَوْنا للهالك بالمغفرة والرحمة، ولذويه بأن يُكَفكِف الله ما ألمَّ بهم مِن فَقْد الغالي عندهم، وأن يُحسِن عزاءهم، ثم همَمْنا بالانصراف، ولكنَّ (نور الدين) ألحَّ علينا ليُكرِم وِفادتنا، فقدَّم لنا (الكسكس)؛ حيث دَأَبَ المغاربةُ على تقديم هذا الطعام في جُلِّ المآتم لجموع المُعَزِّين، وبينما نحن مجتمعون على مائدة العشاء، قام من بيننا زميلُنا (راجي) فانزوى وحدَه، ثم أمسكَ بناصية رأسه، فأثارَ ذلك انتباهَنا، وأخذَ مِن اهتمامنا، فسألناه عن سبب ذلك، فأفصحَ عمَّا ألمَّ به من صُداع في رأسه؛ فقدَّم له ربُّ البيت دواءً مُسكِّنًا لصُداع الرأس، وبعدها قُمْنا جميعًا - مستأذنين من نور الدين - بالانصراف، رغم أنه أهاب بنا أن نَبِيت ليلتَنا عنده، فارتأى بعضُ زملائنا أن يَستجيب لطلبه، بينما اعتذر الآخرون منه لنعود إلى بيوتنا، وكنتُ مِن بين المُعتذِرين المُفضِّلين العودةَ إلى البيت، فليس من سَدَمي المبيتُ خارجه، إلا نادرًا مما تقتضيه الضرورة المُلحَّة؛ فعُدنا أدراجَنا، وقد أقلَّتْنا نفسُ السيارة التي أوصلَتْنا إلى مكان العزاء، بعد تقديمِنا لواجب العزاء والمواساة، ذاكرين الله تعالى. وفي طريق العودة، دار بيني وبين (عبداللطيف) - الذي كان جالسًا عن شمالي - حديثٌ بصوت مهموس؛ خَشية أن نوقظ عَمَّارًا الذي كان عن يميني، وقد أخذ الكَرى يمسح جَفْنَه، وظننتُ أنَّ (راجي) - وكان يجلس في المقعد الأمامي للسيارة - على شاكلة عمَّار، بينما (صلاح الدين) يقود السيارة مُستأنِسًا بنا، ونحن في ذاك الليل الداجِي الذي يرنق في عينيه الصمتُ، فناشئة الليل هي أشد وطئًا وأقوم قيلًا؛ ولكن تبيَّن لنا أن (راجي) لم ينَمْ في تلك الآونة؛ فما هي إلا لحظات حتى أشارَ إلى (صلاح الدين)، أن يُوقِف السيارة، فظننَّا أنه يريد أن يأخذ أريحية من عناء السفر، فنزلنا معه، فلم يَلبَث إلا قليلًا حتى ضَعُفت قُواه، وتغيَّر لونُ وجهِه، فعجِبنا لقُواه التي خارت، ولكنَّا لم نجد أنفسَنا إلَّا أن ساعدناه على أن يستلقِيَ على قَفَاه في الأرض، ثم خلعتُ مِعطفي فوضعتُه تحت رأسه، فهالنا ما رأيناه، حيث جحظتْ عيناه، وفَغَر فاه، فأصابنا ذهولٌ لِمَا صار إليه في مَظهره، حتى خُيِّل إلينا أن الموت وَقَذَه[1]، وظننَّا أن ملَك الموت بين أظهُرِنا، وبينما القلوب وَجِلة، متعلِّقة بربها جَلَّ في علاه، ضارعةٌ إليه، خافِقة بنبضات من التعلق به سبحانَه، مناجِية له قائلة: يا رب، هذا عبدُك (راجي)، إنه راجٍ لطفَك في هذا الليل البهيم، ونحن عبادك يا رحمن يا رحيم. واتَّصَلْنا بإخواننا الذين هم على آثارنا، فما لَبِثوا أن وَصَلُوا إلينا؛ ويتقدَّم (عمَّار) و(أبو سفيان) لتقديم جُرْعة من الماء لـ(راجي)؛ ويتجلَّى مولانا سبحانَه على عبده، فيُوقِظه، بل يُحيِيه من غفوته، كما يُحيِي الأرضَ المَوات. أسرعنا بحَمْل (راجي) إلى السيارة، مُنطلِقِين به في سباق مع دقَّات الساعة، وقد امتزجَتْ بدقات قلوبنا الخافِقة؛ حتى نصِل إلى مدينتنا، لنتوجَّهَ به إلى أقرب مستشفى، وبينا نحن كذلك، والأصوات مرتفِعة ضارعة إلى ربها، تالِيَةٌ كتابَه، داعيةٌ بالشفاء لزميلنا، إذ به يُشِير مرة أخرى إلى (صلاح الدين) ليتوقَّف، فاستجاب لطلبِه، وأخرَجْناه من السيارة لا تحمِلُه قدماه، ليستلقِيَ على الأرض من جديد، ولَكَأنها لحظاتٌ يُودِّعُنا فيها زميلُنا إلى مثواه الأخير؛ لِما اعتراه من أَمارات الموت، على النحو الذي ذكرتُه آنِفًا، كأن موعد الرحيل أَزِف، ويحدونا أملٌ لئلا نضرب كفًّا بكف. ويشاء الله تعالى أن يُخرِج عبدَه من مصارعة المنايا، لنعود به مرة أخرى إلى السيارة، بعد أن توجَّسنا خِيفةً مِن تأخُّر وصول سيارة الإسعاف، فأسرَعْنا قدرَ الإمكان؛ حتى نَصِل قبل فوات الأوان؛ وكانت - إذ ذاك - هواتفُنا المحمولة لا تَسكُن عن الرنين، الذي يَحمِل معه وَقْع زملائنا الذين هم على آثارنا، متسائلين عن (راجي)، فنطمئِنُهم عليه، وبدا لي أن أُهاتِف (الأستاذ العراضي) الذي كان على مَتْنِ سيارة خلفَنا؛ لأسأله عن المستشفى الذي سنتوجَّه إليه بعد دخولِنا بوابة مدينة الجديدة، فاتَّصلتُ به، فأخبرني أن رجلًا سينتظرنا عند مدخل المدينة بسيارته المُنبعثِ منها أضواءُ التنبيه لِنَعرِفه، وسيُرشِدنا إلى أقرب مستشفى، فشكرتُ له ذلك؛ وألحَّ علَيَّ الأستاذ أن أطلبَ من (صلاح الدين) أن يُسرِع بكل قوة واقتدار، رغم أننا لم نكن في طريق سيَّار؛ فما السبيل - والحالة هذه - إلَّا أن تَبذُل ما في وُسعك؛ عسى أن تُوصِّل المريضَ قبل فوات الأوان؛ حتى لا تتحسَّر إن ازدادتْ حِدَّةُ عِلَّته، وضعُفت قوَّتُه وحيلتُه، أو ينفطر قلبك إن أبطأتَ به المسير؟ وتلوح في الأفق بادرةُ أملٍ لمَّا تراءت لنا مدينتُنا بأضواء شوارعها المتوهِّجة، ولكأنها تريد أن تَطوِي ثراها لتَقترِب منا، فتَحتضِن أبناءها، وما هي إلا بُرهة من الزمن حتى وصلنا إليها بحمد الله تعالى، فنجد الرجلَ الذي وصف لي الأستاذُ سيارتَه بانتظارنا، فيتوجَّه بنا إلى أقرب مستشفى من بوابة المدينة، لنكون بعد دقائقَ معدودة بداخله، يُوحِي صمتُه الحالِم في هدوء الليل أنَّ مَن فيه قد أخذتهم سِنةٌ من النوم، ولكن أنينهم لا يعلمه إلا ربُّهم، فأذهِبِ اللهم سقمَهم، آمين! يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |