الإنصاف خلق جميل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 511 - عددالزوار : 22726 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 72972 )           »          حكم الإيثار بالقربات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          إفراد شهر رجب بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          حب المال وجمعه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          الزكاة والمجتمع المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          حسر الإنسان عن رأسه ليصيبه المطر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          قضاء أيام رمضان في الشتاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          مسألة في النذر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          الغسل يجزئ عن الوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-07-2021, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,584
الدولة : Egypt
افتراضي الإنصاف خلق جميل

الإنصاف خلق جميل


إبراهيم بن محمد الحقيل



{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فَاطِرٍ: 1] نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَضَى بِالْعَدْلِ وَأَمَرَ بِهِ، وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَمَرَ بِالْإِنْصَافِ، وَنَهَى عَنِ الْأَثَرَةِ وَالْجَوْرِ فِي الْأَحْكَامِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 112].

أَيُّهَا النَّاسُ:
الْإِنْصَافُ خُلُقٌ نَادِرٌ عَزِيزٌ، يَدُلُّ عَلَى عَدْلِ مَنْ تَخَلَّقَ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ. فَالْإِنْصَافُ جُزْءٌ مِنَ الْعَدْلِ، وَهُوَ قِيمَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا يَجْرِي عَلَيْهَا أَيُّ اسْتِثْنَاءٍ، وَيُقَابِلُهُ الظُّلْمُ، وَهُوَ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا، وَلَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنْهُ أَبَدًا. وَكُلُّ أَمْرٍ بِالْعَدْلِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْإِنْصَافَ، وَكُلُّ نَهْيٍ عَنِ الظُّلْمِ فَيَدْخُلُ فِيهِ عَدَمُ الْإِنْصَافِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْإِنْصَافِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [النِّسَاءِ: 135]، وَيَتَنَاوَلُ الْأَقْوَالَ {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الْأَنْعَامِ: 152]، كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النِّسَاءِ: 58].

وَيَكُونُ الْإِنْصَافُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ النَّفْسِ، وَمَعَ النَّاسِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ وَمَنْ بَعُدَ، وَمَنْ وَافَقَ مِنْهُمْ وَمَنْ خَالَفَ. فَالْإِنْصَافُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِصَرْفِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَالشِّرْكُ أَفْحَشُ الظُّلْمِ وَأَغْلَظُهُ، وَهُوَ يُجَافِي الْإِنْصَافَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13]، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ مُجَافٍ لِلْإِنْصَافِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْعَبْدِ وَرَازِقُهُ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَوَجَبَ الْإِنْصَافُ مِنَ النَّفْسِ مَعَهُ بِمُقَابَلَةِ جَمِيلِهِ عَلَى عَبْدِهِ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ.

وَالْإِنْصَافُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْدِيقِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ، وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي دَلَّ الْعَبْدَ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ. وَإِنْ نَجَا الْعَبْدُ وَفَازَ بِالْجَنَّةِ فَإِنَّمَا يَنْجُو بِسَبَبِهِ بَعْدَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالذَّبُّ عَنْهُ، وَالِانْتِصَارُ لَهُ مِمَّنْ شَنَأَهُ، وَبُغْضُ مَنْ عَادَاهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْإِنْصَافُ مَعَ النَّفْسِ بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُجَنِّبَهَا مَا يَضُرُّهَا؛ وَلِذَا حُرِّمَ الِانْتِحَارُ وَإِتْلَافُ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ. كَمَا أَنَّ الْإِنْصَافَ مَعَ النَّفْسِ يَقْتَضِي اجْتِنَابَ مَا يُسَبِّبُ لَهَا الْعَذَابَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَمَلَ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى سَعَادَتِهَا فِي الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ. كَمَا أَنَّ الْإِنْصَافَ مَعَ النَّفْسِ يَقْتَضِي تَمَتُّعَهَا بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكَحِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مِنَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ. وَمِنَ الْإِنْصَافِ مَعَ النَّفْسِ أَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهَا فِي الْعِبَادَةِ مَشَقَّةً تَضُرُّهَا أَوْ تَضُرُّ مَنْ لَهُ صِلَةٌ بِهَا؛ وَلِذَا حُرِّمَتِ الرَّهْبَنَةُ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَعَظَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي إِنْصَافِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَأَمَّا الْإِنْصَافُ مَعَ النَّاسِ فَكَلٌّ بِحَسَبِهِ: فَالْإِنْصَافُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ حَقٌّ لَهُمَا، فَمِنْ إِنْصَافِهِمَا أَدَاؤُهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الْإِسْرَاءِ: 23]. وَالْإِنْصَافُ مَعَ الرَّحِمِ وَصْلُهَا وَعَدَمُ قَطْعِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» (روَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَالْإِنْصَافُ مَعَ الزَّوْجَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى حَسَنَاتِهَا فِي حَالِ الْغَضَبِ عَلَيْهَا أَوْ كَرَاهِيَةِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ أَيْ: لَا يَبْغَضُهَا لِمَا كَرِهَهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ فِيهَا مَا يُعْجِبُهُ، فَمِنَ الْإِنْصَافِ أَنْ يُوَازِنَ وَلَا يَظْلِمَ. وَالْإِنْصَافُ مَعَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْهِبَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ). وَالْإِنْصَافُ مَعَ الْجَارِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَالْإِنْصَافُ مَعَ أَيِّ مُسْلِمٍ فِي مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُ كَمَا تُحِبُّهُ لِنَفْسِكَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَحَتَّى الْمُخَالِفُ فِي الدِّينِ؛ كَالْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَالْمُبْتَدِعِ يَجِبُ إِنْصَافُهُ وَلَوْ كَانَ عَدُوًّا، فَعَدَاوَتُهُ وَمُخَالَفَتُهُ فِي الدِّينِ لَا تُبِيحُ ظُلْمَهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [الْمَائِدَةِ: 8]. وَاللَّهُ تَعَالَى حِينَ ذَمَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ أَنْصَفَ أُنَاسًا مِنْهُمْ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 113-114]، وَأَنْصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ فَذَكَرَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ مِنْهُمْ، كَمَا ذَكَرَ أَهْلَ الْخِيَانَةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آلِ عِمْرَانَ: 75]، وَأَنْصَفَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فِي خَيْبَرَ يَخْرُصُ التَّمْرَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَالْإِنْصَافُ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يُسْتَثْنَى مِنَ الْقِيَامِ بِهِ أَحَدٌ، وَوَاجِبٌ لِلْجَمِيعِ فَلَا يُخْرَجُ مِنْهُ أَحَدٌ.

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا الْبَغْيَ وَالظُّلْمَ وَالِاعْتِدَاءَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...



الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 281].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
رَغْمَ أَنَّ الْإِنْصَافَ خُلُقٌ جَمِيلٌ، يُقْضَى بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْخِلَافِ، وَتُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَوَدَّةُ؛ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَيَقِلُّ فِيهِمْ زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ، قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَا فِي زَمَانِنَا شَيْءٌ أَقَلُّ مِنَ الْإِنْصَافِ». يَقُولُ ذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ زَمَنِهِ وَهُوَ قَدْ عَاشَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي الْهِجْرِيِّ، حَيْثُ كَثْرَةُ التَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ؛ مِمَّا حَدَا بِالْمُفَسِّرِ الْقُرْطُبِيِّ -وَهُوَ قَدْ عَاشَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ- أَنْ يَنْقُلَ قَوْلَ مَالِكٍ وَيُعَلِّقَ عَلَيْهِ قَائِلًا: «هَذَا فِي زَمَنِ مَالِكٍ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ الَّذِي عَمَّ فِينَا الْفَسَادُ وَكَثُرَ فِيهِ الطُّغَامُ! وَطُلِبَ فِيهِ الْعِلْمُ لِلرِّئَاسَةِ لَا لِلدِّرَايَةِ، بَلْ لِلظُّهُورِ فِي الدُّنْيَا وَغَلَبَةِ الْأَقْرَانِ بِالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ الَّذِي يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُورِثُ الضَّغَنَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْمِلُ عَلَى عَدَمِ التَّقْوَى وَتَرْكِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى». فَمَاذَا عَسَانَا أَنْ نَقُولَ وَنَحْنُ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْهِجْرِيِّ؟!

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا أَحَبَّ أَسْرَفَ فِي حُبِّهِ، ثُمَّ أَسْرَفَ فِي مَدْحِهِ. وَإِذَا كَرِهَ أَسْرَفَ فِي كُرْهِهِ، وَأَسْرَفَ فِي ذَمِّهِ، وَلَا يُنْصِفُ أَبَدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا غَضِبَ عَلَى أَحَدٍ نَشَرَ مَعَايِبَهُ وَطَوَى مَحَاسِنَهُ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ سِيرِينَ: «ظُلْمًا لِأَخِيكَ أَنْ تَذْكُرَ فِيهِ أَسْوَأَ مَا تَعْلَمُ مِنْهُ، وَتَكْتُمَ خَيْرَهُ». وَوَضَعَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ مِيزَانًا دَقِيقًا يُعِينُ عَلَى الْإِنْصَافِ فَقَالَ: «مَنْ أَرَادَ الْإِنْصَافَ، فَلْيَتَوَهَّمْ نَفْسَهُ مَكَانَ خَصْمِهِ؛ فَإِنَّهُ يَلُوحُ لَهُ وَجْهُ تَعَسُّفِهِ». وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: «الْإِنْصَافُ أَنْ تَكْتَالَ لِمُنَازِعِكَ بِالصَّاعِ الَّذِي تَكْتَالُ بِهِ لِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفَاءً وَتَطْفِيفًا».

وَمِنْ أَكْثَرِ مَا يَقَعُ مِنَ الظُّلْمِ وَمُجَانَبَةِ الْإِنْصَافِ أَنْ يُدَافِعَ الْمَرْءُ عَمَّنْ يُوَافِقُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ، وَيُهَاجِمَ مَنْ يُعَارِضُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى حَقٍّ، وَأَنْ يَقْرَأَ كَلَامًا حَسَنًا فَيُبْدِي إِعْجَابَهُ الشَّدِيدَ بِهِ، ثُمَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لِفُلَانٍ مَزَّقَهُ وَذَمَّهُ، أَوْ يَقْرَأَ كَلَامًا قَبِيحًا فَيَمْتَعِضَ مِنْهُ، ثُمَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لِفُلَانٍ اسْتَحْسَنَهُ أَوْ تَأَوَّلَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: «وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَرُدُّ الْحَقَّ إِذَا جَاءَ بِهِ مَنْ يُبْغِضُهُ، وَيَقْبَلُهُ إِذَا قَالَهُ مَنْ يُحِبُّهُ، فَهَذَا خُلُقُ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: اقْبَلِ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ وَإِنْ كَانَ بَغِيضًا، وَرُدَّ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ قَالَهُ وَإِنْ كَانَ حَبِيبًا».

فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْإِنْصَافِ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْمَلِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنْ يُنْصِفَ غَيْرَهُ مِنْ نَفْسِهِ، كَمَا يُنْصِفُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 57.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 55.64 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.92%)]