|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() بناء شخصية البطل حمدان في رواية الثائر الأحمر لعلي أحمد باكثير د. عبدالقوي الحصيني تُعَدُّ رواية "الثائر الأحمر" أكثرَ رواياته التاريخيَّة إثارةً للجدل النقدي؛ سواء من حيث الموضوع الذي يمثِّل معادلاً موضوعيًّا للفكر الاشتراكي وتطبيقاته التي لَم تكن بعدُ قد وصَلت إلى أيٍّ من أجزاء الوطن العربي عام 1949م، أو باستباقه التنبُّؤي لنتائج تطبيق هذا الفكر[1]. إنَّ بطل الرواية - الشخصيَّة الرئيسة - الذي تدور أحداث السرديَّة حوله - أو من خلاله - يَظلُّ أيضًا بابًا مفتوحًا لتعاطي مختلف التفسيرات والتحليلات لشخصيَّته، واستثارة جُملة من الاستفسارات حوله؛ إمَّا على مستوى المقاربة بين حقيقته التاريخيَّة كما رَوَتْها المصادر، وصورته التخيُّلية كما جاءَت في السردية، وإمَّا على مستوى التوافُق في رسْم هذه الشخصية - شخصية البطل - مزدوجة مع الفكرة التجريديَّة التي يريد السارد نقلَها "مُشَخْصَنَة" لنا عَبْره. المبحث الأول: تكنيك بناء شخصية البطل حمدان في الثائر الأحمر: سلَك السارد مسلكًا صعبًا في بناء الشخصيَّة الأولى في السرديَّة "شخصيَّة البطل حمدان"، وقد تناوَشت السارد عوامل عدَّة وهو يتهيَّأ لتكوين شخصيَّته الرئيسيَّة، ويَعبر بها الفجاج المتعرِّجات، أو يَصعد بها القِمم المرتفعات، أو وهو حتى يسير معها في الفضاءات الرَّحبة الفساح، ولعلَّ أهم الضغوط التي وقَع السارد تحت وطْأَتها هو التنازع الأيديولوجي بين "الراوي" و"البطل". من المعلوم أنَّ السرديَّة تَهدف إلى معالجة موضوع مهمٍّ، كانت تلوح معالِمُه في أُفق الأُمَّة العربية والإسلاميَّة آنذاك، ويتحسَّس طريقه في منعرجات بيئاتها الثقافيَّة، وعقول مثقَّفيها، بل ومراكز القيادة فيها. وعلى الرغم من أنَّ الموضوع زمنيًّا يتولَّد في القرن العشرين، فإن المعالجة السردية لَم تشأ الولوج إليه من المدخل المعاصر، بل عادَت إلى الوراء إلى التاريخ؛ لتستمدَّ من تجاربه الواقعيَّة في الماضي - القرن السابع الهجري - ما يمكن أن يكون دليلاً عليه في الحاضر. إذ إنَّ الصورة كانتْ واضحة أمام السارد، ألا وهي عرْض تجربة تطبيقيَّة للأيديولوجيَّة الاشتراكيَّة؛ لبيان فشلِها عمليًّا، واستحالة تطبيقها في البلدان الإسلاميَّة، وذلك لسببين حسب السارد والسردية: الأول: تناقُض مبادئ هذه النظرية مع الثوابت الإسلاميَّة التي يؤمن بها المجتمع المراد تطبيق النظرية فيه. الثاني: وجود نظرية أو أيديولوجيَّة في هذه البلدان أقوى وأصلح منها لو طُبِّقت، فهي أعدلُ وأشمل وأقْومُ من أيِّ نظرية أخرى. ومن هنا تخلق عنصر التضاد بين "السارد، وبطل السردية" بما يعتور وجودهما في العملية السرديَّة من تماهٍ وعدم افتراق، أو بشكلٍ أوضح عدم القُدرة على التمييز أو الفصل بينهما في التجربة العملية السرديَّة. ونتيجة لهذا التضاد الأيديولوجي أو الغائي...، وقَع السارد في تشوُّش الرؤْية، فهو بين أن: • يتَّخذ قراره منفردًا في التجربة السردية، فيتمايَز عن بطله. • أو أن يتماهى معه، فيُرافقه الرحلة والعبور في فضاء السرديَّة، وأن يظلَّ مُحتفظًا بانفصاله عنه شعوريًّا. ورأى السارد أنَّ سيرَه مع بطله سيكون أكثر نفعًا لتوصيل الرؤية المرادة من السرد، وأيضًا ستمكِّنه هذه المرافقة من الإمساك بزمام المبادرة في مسيرة بطله، وعدم إتاحة الفرصة لهذا البطل للخروج عن المسار المحدَّد له، أو التحرُّك في غير الإطار المرسوم والمسموح له، ليُوَصِّله في النهاية إلى هدفه هو - راوي السردية - وليس إلى هدف بطلها. ويتولَّد شتاتٌ آخرُ في ذهْن السادر، فالمرافقة تقتضي الموافقة، وشتَّان بين مشرق ومغرب: • السارد يتبنَّى الرؤية الإسلامية في العدالة الاجتماعية. • السردية - بطلها - تتبنَّى النظرية الاشتراكية، "العدل الشامل حسب مفهوم عصْرها". ولَم يتحيَّز السارد كثيرًا في اختيار الحل المناسب للتعامل مع هذا الشتات الذي يكاد يَعصف بمحكم بناء السرديَّة، ببطلها بالتحديد، فلجَأ إلى تكنيك التوحُّد معه: التماهي ببطله، ومِن ثَمَّ التماهي أيضًا برؤية بطله؛ مما أتاح للسارد الوصولَ إلى هدفه بخُطة أكثر مرونة وسلاسة، بل وإقناع وإمتاع. واستفادَ السارد من هذا التكنيك في التعامل مع بطله "المرافقة - التماهي"، كما استفادَ البطل أيضًا. ففي الوقت الذي حقَّق فيه السارد مُراده من بطله، وحُسن السيطرة على مساره داخل البنية السرديَّة، تمكَّن البطل من الحصول على علاقة متميزة بالسارد، وفَّرت له قدرًا لا بأْس به من تعاطُف صانعه "الروائي"، تلك العلاقة التي سيكون لها دورٌ فاعل في تكوين وبناء شخصيَّة البطل، أو الانتقال به بسلاسة ويُسر في مختلف أطوار بنائه التكويني، وعَبر 59 وحدة سرديَّة امتلأَتْ بالخُطوب والأهوال، تمكَّن فيها السارد من حماية بطله والحَدَب عليه، ويَظهر ذلك جليًّا في ضوء مراحل التكوين المختلفة للبطل. البطل - السارد: مرحلة التكوين الأولى: يلتقي السارد ببطله "حمدان" في مزرعته الواقعة في إحدى ضواحي قرية "الدور" من أعمال الكوفة، فلاحًا بسيطًا يحرثُ أرضه بثوْره، تساعده أُختاه: "عالية" الكبرى و"راجية" الصغرى في أعمال الفلاحة، فيما تظلُّ أُمُّه جالسة على مسطبة أمام الكوخ تُجهِّز أعلاف المواشي، وتنشغل الزوجة برعاية ابنتها "فاختة" وابنها الصغير "الغيث" داخل الكوخ، وتجهيز الطعام وبقيَّة متطلبات الأُسرة. هذا هو التكوين الأوَّلِي لبطل السردية: "فلاح" مكافح، لَديه أُسرة متعددة الأفراد، يتحمَّل مسؤوليَّتها وحْده، أبوه متوفًّى وليس له إخوة، لَدَيه ابن عمٍّ "عبدان" صاحب دُكَّان في القرية. ويُمكن أن تنتهي حياة "حمدان" كحياة أبيه فلاَّحًا، لكن السارد لا يُريد ذلك؛ إنه يريد أن يصنعَ منه بطلاً بطريقة ما؛ ولذا فقد بدأ يتعامل مع هذا الفلاح بطريقة تختلف عن التعامل مع أيِّ فلاح. إنَّ "حمدان" فلاح من نوع آخرَ؛ ولذا فقد تعامَل السارد مع بطله في إطار ثلاثة مكوِّنات: الأوَّل: المكون الذاتي "النفسي - الجسمي": صحيح أنَّ حمدان فلاح، لكنَّه يختلف عن أيِّ فلاح، إنه فلاح صاحب مشاعر خاصة، إن السارد يُباشرنا من مطلع الوحدة السرديَّة الأولى "السفر الأول" بكشْف مشاعر فلاحه: "طَفِق حمدان يمسح بأطراف أصابعه العَرَق المُتَصبب من جَبينه، وهو يعمل في حقْله، وإحدى رِجْليه على سنِّ المحراث، والأخرى يرفعها عن الأرض حينًا، ويَلمس بها الأرض حينًا، وقد أمسَك بخِطام الثور الذي يسير أمامه، يجرُّ خطوه جرًّا ثقيلاً، والسوط في يمينه يَنكت به مترفِّقًا على ظهْر صاحبه الأعجم كلما توقَّف عن المسير، أو تثاقَل فيه، وكأن لسان حاله يقول: "أيها الثور الحبيب، كلانا محكوم عليه أن يعيشَ في هذا الشقاء، وهذا السوط في يميني ويعزُّ عليّ أن يقعَ على ظهْرك، فلا تحوجني إلى استعماله"[2]. إذًا فالسارد من مطلع السردية أو افتتاحيَّتها يرسم لنا صورة فلاَّحه أو بطله "حمدان"، رجل مُجتهد في عمله، مُؤدٍّ لواجبه، حاسٌّ بشَقائه؛ "كلانا محكوم عليه أن يعيش في هذا الشقاء"[3]. يتعاطف مع الحيوان الذي يعمل معه بحُكم هذه المشاعر الحسَّاسة، وفي ضوء التماثُل بين حاله وحال ثوْره "الحبيب"، الذي يعزُّ عليه أن يوقِع سوْطه على ظهْره، وبهذا يلفت نظرنا السارد إلى الاستعداد الذاتي لتوقُّع تحوُّل ما في هذه الشخصيَّة الحساسة، الشاعرة بالظلم، العازفة عن ظُلم الآخر - ولو كان مجرَّد حيوان، ولا يكتفي السارد بذلك، بل ينقل لنا عاملاً ذاتيًّا آخر يجتاح مشاعر هذا البطل تُجاه مالك الأرض التي يعمل فيها: "وما ينسى حمدان من الأشياء، فلن ينسى أنَّ والده كان أحدَ أولئك المُلاَّك الصغار الذين سقطتْ أملاكهم في يد ذلك المالك الكبير"[4]. إنه يريد أن يولد مشاعر الكراهية والحِقد والشعور بالمأساة، مشاعر تختلف عن الأولى، لكنَّها تصبُّ معها في تكريس وبَلْورة "عُقدة" السرديَّة، وخَلْق عنصر "الصراع"، ومنْح "الفلاح" حمدان دوافعَ ذاتيَّة للتحوُّل. ويسوق السارد "حدثًا" مهمًّا يقتحم حياة "حمدان" - القانع بها على بؤْسها - ليخلط أوراق السردية، وليحقِّق النقلة النامية للسردية باتجاه التحوُّل للمرحلة الثانية من مراحل تكوين البطل "حمدان"، تلك هي حادثة اختطاف "عالية" أُخت حمدان الكبرى، وعالية هي أجمل الأختين "خَلْقًا" و"خُلقًا"، وكان قد تقدَّم لخِطبتها ابن عمِّها "عبدان"، وتتهيَّأ الأسرة لزفِّها إلى منزل الزوجيَّة، حين تحدث عمليَّة اختطافها؛ لتتحوَّل حياة الأسرة - ومعها البطل بالطبع - إلى حياة أخرى تتَّسم بالتوتُّر والقلق، والأسى والألم...إلخ، وهي نقْلة قويَّة باتجاه تكوين البطل "حمدان"؛ إذ كوَّنت هذه الحادثة نقطة فاصلة بين حياة "الأسرة - البطل" السابقة الهادئة المستقرة السعيدة المتماسكة - برغم حالة الشقاء والعَناء والحاجة والعَوَز- واللاحقة بكلِّ مُنغصاتها ومُقتضياتها، ولَم تَعُد "الأسرة - البطل" بعدها إلى حالتها الأولى، ولَم يَعُد بطلها مجرَّد فلاح فحسب، ويتعزَّز التأجيج للمكوِّن الذاتي "النفسي" للبطل بشكلٍ صريح في منزل ابن الحطيم "سيِّده". لنُطالع مُقتطفات من الوحدة السرديَّة الخامسة: "مضى أسبوع منذ اخْتفت عالية، لَم يهدأ لحمدان جَنبٌ، ولَم يَقرَّ له قرار..، وبدا له أن يزورَ سيِّده ابن الحطيم؛ ليشكوَ له ذات أمره، ويستعين بجاهه ونفوذه"[5]. "واستأْذَن عليه في القصر الكبير الواقع في الطرف الشمالي من القرية، فقابَله قَيِّمُ القصر، وأخبرَه أن سيِّده في قصره بالكوفة منذ أسبوع، ولا يدري أحدٌ متى يعود"[6]. كان ذاك بداية احتكاك البطل بسيِّده ابن الحطيم، وأوَّل تجربة مُرَّة يخوضها معه مواجهة؛ مما سيشكِّل نموًّا قويًّا في التكوين الداخلي لمشاعر البطل تُجاه أحد أعمدة النظام، وهي "المُلاَّك - المال - الإقطاع"، وتتولد رَدَّة الفعل هذه بمشاعر الخيبة - خيبة الأمل - التي تكوَّنت بفعْل عدم لقاء "السيِّد"، وتثبيط القَيِّم لحمدان عن الذهاب للقائه في قصره بالكوفة، تولَّدت حسرةٌ وأسف لدى البطل بفعْل هذا الحدث الذي ساقه الراوي بحِكمة وقصْدٍ، ومهَّد به للنقلة الأخرى الأشد وقعًا على "البطل"، والناتجة بفعْل الزيارة الثانية لابن الحطيم: "وبلَغه ذات يوم أنَّ ابن الحطيم في القرية، فخفَّ إليه وانْطَلق إلى قصْره الكبير ليُقابله، فلمَّا استأْذَن عليه، برَز له قَيِّمُ القصر، وقال له: إن سيِّده مُتعبٌ، لا يريد أن يقابلَ أحدًا". "فلمَّا ألَحَّ إليه في طلب مقابلته، نَهَره القَيِّم وتأفَّف منه، وقال له: إنه قد أوْصى العامل بالاهتمام بأمر أُخته الضائعة"[7]. ويتأزم المشهد، وينطلق الحوار. ولَم يقتنع "حمدان" بهذا الردِّ، ويُلح على القَيِّم أن يسمحَ له بمقابلة "سيِّده"، فيتهكَّم به القَيِّم، ويسخر منه، وتمضي السرديَّة في إدارة حوار يتأزَّم شيئًا فشيئًا إلى أن يبلَغ مَداه بالكشف عن الشخصيَّة "الخفيَّة" لبطل "السردية - الرواية" الذي يعده "السارد - الراوي" للمتلقِّين في قابل الحكاية السرديَّة. كان ذلك التكوين الأَوَّلِي للبطل على المستوى الذاتي، وقد رأينا كيف تدرَّج السارد في إعطائنا المبررات؛ لتحويل بطله من فلاح عادي إلى إنسان يَشعر بالظلم الواقع عليه، إلى إنسان يحمل ثأرًا شخصيًّا من مالك الأرض التي هي أصلاً ملك حمدان، استولَى عليها من أبيه، إلى مجروح متحفِّز يدفعه الحَنَق - ورُبَّما الحِقد - على خاطف أُخته، مستنفر للبحث عنها وإعادتها بكلِّ الوسائل والطرق، إلى مجروح متأزِّم من احتقار سيِّده له، وعدم تعاونه معه للعثور على أُخته. وكما هيَّأ السارد المسرود له لقَبول التحوُّل في شخصيَّة فلاحه، من خلال المكوِّن "الذاتي - النفسي"، فإنه كذلك عاضَد خلْقَ الاستعداد لقَبول هذا التحول عبر المكوِّن "الذاتي- الجسمي"، أو الوصف الخارجي لشخصيَّة البطل، فهو "في نحو الخامسة والثلاثين من عُمره، قَوِي البنية، جَلدٌ على العمل، لا تكاد الابتسامة تُفارق شَفتيه، حتى في أحْلك الساعات، وأهول الخطوب"[8]. ويركِّز السارد على سِمة احمرار عين حمدان، وهي السِّمة التي وَرِثها عن أبيه "الأشعث"، والذي لُقِّب "قرمط"؛ لاحمرار عينيه مع ما تَحمله هذه الصفة من دَلالات وإيحاءات تتعلَّق بالشخصية؛ إذ من المعلوم الدلالةُ الرمزيَّة للون الأحمر التي تدلُّ على الدم والعُنف، والحرية والثورة والتطرُّف...إلخ. وهو ما يودُّ السارد نقْلَه للمتلقي بالدَّلالة الرمزيَّة لا السردية، ويهيِّئ السارد بطله جسديًّا؛ لتحمُّل التبعات والمهام الصعبة كما هيَّأه نفسيًّا وشعوريًّا ودافعيًّا، فقد جعَله في قوَّة اثنين: "فترَك عمله في المزرعة لاثنين من الأُجراء يتناوبان القيام به"[9]. وجعَله من قوَّة التحمُّل، بحيث لَم يبكِ على فقْد أُخته، "تتخلَّل ذلك كله ذكريات مؤثِّرة يتبادلون حديثها عن عالية، فتفيض عيونهم بالدمع، ما خلا عيني حمدان الحمراوين، فليس للبكاء إليهما من سبيل"[10]. هكذا تعاضد النفسي والجسمي في المكوِّن الذاتي للبطل، ومنه تتَّضح الفكرة التي يريد السارد إيصالها لنا، وهي قبول وإمكانية تحوُّل بطله من فلاح بسيط إلى رجل صاحب قضيَّة. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |