|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() باكثير رائد الرواية التاريخية الإسلامية واإسلاماه نموذجا د. محمد علي غلام نبي غوري علي أحمد باكثير رائد الرواية التاريخية الإسلامية في الأدب العربي واإسلاماه نموذجا د. محمد علي غلام نبي غوري – باكستان من أبحاث مؤتمر "علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية" المنعقد بالقاهرة في 18-21 جمادى الآخرة 1431هـ/ 1-4 يونيه حزيران 2010م تحت رعاية رابطة الأدب الإسلامي العالمية تميَّزت فترة الأربعينيَّات من القرن العشرين بالذَّات بتوجُّه كُتَّاب الرواية في الأدب العربي إلى الاتجاه التاريخي؛ أمثال: عادل كامل، ونجيب محفوظ، وعبدالحميد جودة السحَّار، وعلي أحمد باكثير، ومحمد سعيد العريان، وعلي الجارم[1]، وهؤلاء الكُتَّاب تتلمَذُوا على كِبار الأدباء من الجيل الأوَّل أمثال: طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل، ومحمد فريد أبي حديد، وتوفيق الحكيم، وتفرَّدوا بالاتجاه الصادق لإنتاج روايةٍ عربيَّة تستهدف إبراز ما في تاريخنا العريق من مُثُل عُليَا ينبغي أنْ تسير على هداها أمَّتنا في جُهودها من أجل الحريَّة والاستقلال ونُصرة قَضايا الحق، وتستنير بها في نِضالها لبناء مستقبلٍ زاهر يَلِيق بماضينا التَّلِيد؛ وذلك حين يُعلون من شأن قِيَمِنا الروحيَّة والأخلاقيَّة والحضاريَّة[2]. لا شكَّ أنَّ جورجي زيدان (1861-1914م) كان رائد الرواية التاريخيَّة في الأدب العربي الإسلامي، ولكنَّه لم يكن مدفوعًا بدافعٍ قومي أو إسلامي في الالتفات إلى التاريخ العربي الإسلامي، وفي اختياره موضوعاته الروائيَّة منه؛ ولذا تجنَّب صفحاته المشرقة وأمجاده العظيمة، ولجأ إلى تصوير مواقف الصِّراع السياسي على الحكم أو مواقف المغامرة والشغب[3]، فكان كمَن يدسُّ السمَّ في العسل. ولا تُعنَى الرواية التاريخيَّة بتقديم التاريخ للقارئ بالدرجة الأولى؛ لأنَّ وثائق التاريخ كفيلة بأداء هذه المهمَّة، وإنما تكمن قيمتها في مَدَى براعة الكاتب في استغلال الحدث واعتماده إطارًا ينطلق منه لمعالجة قضيَّة حيَّة من قَضايا مجتمعه الراهنة[4]. ويُشِير جورج لوكاش مُنظِّر الواقعيَّة الاشتراكيَّة إلى أنَّ عظمة والتر سكوت تتمثَّل في قُدرته على منْح نماذجه الاجتماعيَّة التاريخيَّة تجسيدًا إنسانيًّا حيًّا[5]. فكاتب الرواية التاريخيَّة تكون عينه على التاريخ والعين الأخرى على واقعه، وخاصَّة الأديب الإسلامي الذي ينطَلِق من مُنطَلقات إسلاميَّة لا يغفل أبدًا عن واقعه، فهو إنما يستلهم التاريخ - ولا سيَّما التاريخ الإسلامي الناصع - ليُقدِّم للناس الحلول الناجعة المجرَّبة لمشاكلهم التي هم فيها غارقون؛ لعلَّهم يستَرشِدون بها في دُروبهم الحالكة، فقد كانت الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة أحد أهمِّ العوامل وراء كاتب الرواية التاريخيَّة في استمداده نماذجه الفنيَّة من بطون التاريخ؛ إذ كانت فترة الصِّراع بين الاحتلال الأجنبي والحكم الملكي الموالي له، فاندَفعُوا يحيون ماضِيَهم وأمجادهم التاريخيَّة، ويخلدونها في شكلٍ روائي[6]. "وقد ساعدت هذه الروايات على خلق عالَمٍ حالم بدلاً من الواقع المزري الذي كان يعيشُ فيه الناس، وربما كان ذلك استلهامًا للتاريخ لرفع مُعنويَّات الشعب المحطَّمة"[7]. إنَّ علم الاجتماع وعلم التاريخ - كما يقول الدكتور عبدالحميد بوزوينة - أثبَتَا أنَّ الأمَّة التي لا تاريخ لها ولا تراث مُهدَّدة بالذوبان في أُمَمٍ أخرى لها تاريخها وتُراثها، وبناءً على ذلك ظهرت مجهودات قصصيَّة هادفة تستَلهِم التاريخ، وتحاول أنْ تُعِيدَ لهذه الأجيال أمجادَ الماضي وبُطولات السلف الصالح؛ بغية غرس الصِّفات الإنسانيَّة الخالدة في النُّفوس لتَحصِينها من كُلِّ علل الانحِلال وأسباب الانقِياد الأعمى للآخَرين[8]. وهذا ما فعَلَه علي أحمد باكثير في جميع أعماله. علي أحمد باكثير: عاشَ علي أحمد باكثير زاهدًا في الأضواء، قليل الكلام عن نفسه، تاركًا أعمالَه وحدَها تتحدَّث عنه، والمعلومات المتوفِّرة عنه قليلة؛ حيث لم يُعرَف عنه إلا أنَّه من أصلٍ يمني وُلِدَ في إندونيسيا في مدينة سورابايا عام 1910م، وحين بلغ الثامنة من عمره أرسَلَه أبوه إلى اليمن ليتلقَّى تعليمَه الابتدائي، فعاش في إندونيسيا حتى أكمل مرحلة الثانوية، وفي عام 1933م سافَر إلى مصر والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، ثم التحق بمعهد التربية للمعلمين، وبعد انتهاء الدراسة فضَّل البَقاء في مصر، وتزوَّج من عائلةٍ مصريَّة محافظة، ووثَّق صلتَه برجال الفِكر والأدب فيها أمثال: العقاد، والمازني، وشكري، ومحب الدين الخطيب، ونجيب محفوظ، وصالح جودت، وفي عام 1953م حصَل على الجنسيَّة المصريَّة، وقد تُوفِّي في عام 1969م. لباكثير عدَّة مسرحيَّات تاريخيَّة، فجُلُّ أعماله مسرحيَّات؛ فقد كتب باكثير في المسرح التاريخي الشعري والمسرح التاريخي النثري والمسرح الاجتماعي والمسرح الأسطوري والمسرح السياسي والمسرح المترجم، وأمَّا رواياته فهي قليلةٌ بالنسبة إلى مسرحيَّاته، ورواياته هي: واإسلاماه (موضوع البحث) والثائر الأحمر وسلامة القس وليلة النهر (عن الموسيقار المصري فؤاد حلمي) وسيرة شجاع والفارس الجميل وعودة المشتاق، وكلها رواياتٌ تاريخيَّة عدا رواية ليلة النهر. يُعتَبر علي أحمد باكثير واحدًا من بناة الأدب العربي الحديث في مُعظَم فنونه، وهو في مجال الرواية لا يقلُّ عن كبار كُتَّاب الرواية في الأدب العربي أمثال: نجيب محفوظ، ومحمد عبدالحليم، وعبدالحميد جودة السحَّار، وقد اتَّجه في كتاباته الروائيَّة والمسرحيَّة إلى التاريخ، يغترف منه الحوادث والظُّروف المشابهة لما مرَّت به الأمَّة الإسلاميَّة في العصر الحديث[9]. كلُّ كُتَّاب الرواية التاريخية في الأدب العربي تحوَّلوا عنها إلى ألوانٍ أخرى من الرواية، فلم يستمرَّ عادل كامل ولا نجيب محفوظ ولا السحَّار في هذا المجال طويلاً، فبعد عددٍ قليلٍ من الروايات التاريخيَّة تحوَّلوا إلى اتِّجاهاتٍ أخرى، أمَّا محمد فريد أبو حديد وعلي أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان وعلي الجارم فيُوشِك إنتاجُهم الروائي أنْ يقف على هذا الجنس وحدَه دُون سواه[10]. وقد دفعتْ هؤلاء الكتاب إلى هذا الاتجاه دوافعُ شتَّى؛ فعادل كامل كتَب بدافع العِرق والنسب فالتفت إلى تاريخ مصر القديم، ونجيب محفوظ كان مشبَّعًا بالدعوة إلى الفرعونيَّة وإحياء أمجاد مصر القديمة، والسحَّار تذبذب في رواياته التاريخية بين تاريخ مصر القديم وتاريخ الأندلس وتاريخ مصر الحديث، ومحمد فريد أبو حديد آثَر تاريخ العرب قبل الإسلام ميدانًا لرواياته التاريخيَّة، على حِين شُغِفَ سعيد العريان بتاريخ مصر الإسلاميَّة، والجارم بحياة الأعلام في الشعر العربي، بينما نجد كاتبنا علي أحمد باكثير يصبُّ اهتمامَه على التاريخ الإسلامي في أوطانه المتعدِّدة بما احتوى من صِراعات سياسيَّة واجتماعيَّة[11]. وقد اتَّصف باكثير بعدَّة صِفات جعلَتْ منه رائدًا للرواية التاريخيَّة الإسلاميَّة بحقٍّ؛ فهو أولاً أديبٌ ملتزم، وهو مُتعدِّد المواهب؛ فقد كان شاعرًا ومسرحيًّا وروائيًّا وكاتبًا مُفكِّرًا، وهو غزير الإنتاج؛ فقد ألَّف أكثر من تسعين كتابًا بين رواية ومسرحيَّة شعريَّة ومسرحيَّة نثريَّة ودراسة، وكان صاحب رسالة، وكان ملتزمًا بالقِيَم والمبادئ الإسلاميَّة مع المحافظة على النواحي الفنيَّة، فلم تطغَ الخطابيَّة ولا الوعظيَّة على أعماله، فقد جمَع بين الالتِزام والفن في مزيجٍ جميل بديع، وقد عدَّه الدكتور محمد أبو بكر حميد المتخصِّص في أعماله رائدًا للاتِّجاه الإسلامي في الرواية التاريخيَّة العربيَّة[12]. ويتميَّز باكثير في كتاباته بما يلي[13]: 1- عُمق الدراسة والإحاطة بالموضوع الذي يتناوَله، فهو لم يكن يكتب في موضوع إلا بعد أنْ يُحِيط بكلِّ جوانبه، ويقتله بحثًا ودراسة. 2- روح التفاؤل: وذلك على عكس أصحاب المذاهب الأدبيَّة الحديثة - كالمذهب الطبيعي - الذين ينظُرون إلى الحياة بنظَّارة سوداء، ويرَوْن أنَّ الأصل في الإنسان هو الشر، وليس الخير إلا قشرة رقيقة تُغلِّف ذلك الشرَّ الكثير. 3- وضع الحلول للمشاكل التي يتعرَّض لها: فهو لا يكتفي بعرض المشاكل على الناس، ويقول لهم ما يقوله أصحاب الروايات الحديثة: أيها الناس، هذه مشاكلكم وهذا واقعكم، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، وإنما كان يعرض أعوَصَ المشاكل ثم يُقدِّم الحلول الناجحة لها في أعماله، وبأسلوبٍ أدبي رفيع المستوى. 4- الرؤية المستقبليَّة: فهو دائمًا يستَشرِف المستقبل رغم أنَّ أغلب أعماله تاريخيَّة تَعُود إلى الزمن الماضي. 5- استخدام الفكاهة الجادَّة. 6- التميُّز بعُنصر التشويق وبَراعة الحوار بلغةٍ عربيَّة فُصحَى لا تشوبها أيَّة شائبة من شوائب العامِّيَّة. رغم هذا كلِّه فكثيرٌ من النُّقَّاد السائرون في فلك الغرب يغمطون حقَّ هذا الكاتب العظيم والأديب البارع، بل بعضُهم لا يعدُّه أديبًا، "وكانوا يغمزون نحوَه في مجالس الأدب ومنتدياته، ويقولون عنه في سخرية: علي إسلامستان"! وكان يضحَكُ في هُدوءٍ، ويبدو بريقُ السعادة والثقة في عينَيْه خلف نظارته الطبيَّة البيضاء ويقول: "إنَّه لَشرفٌ عظيم لي أنْ أُتَّهم بالإسلاميَّة فيما أُقدِّمه من أدب"[14]. رواية "واإسلاماه": تعرَّض باكثير في روايته "واإسلاماه" للأحداث التي وقَعتْ في مصر وما حولها، والتي يطلُّ القارئ منها على المجتمع الإسلامي إبَّان غزو التتارِ العالَمَ الإسلامي في أهمِّ بلاده من نهر السند إلى نهر النيل. يقول الدكتور نجيب الكيلاني: "أمَّا علي باكثير مؤلف "واإسلاماه" فقد بدَأ حياته دارسًا للإسلام والفقه والحديث والتاريخ، أراد أنْ يكون عالِمًا مجتهدًا من عُلَماء الإسلام، وشاء الله أنْ يُصبِح أديبًا من أُدَبائه، واستطاع باكثير أنْ يُصوِّر بعض صفحات التاريخ الإسلامي الخالد، ويُعبِّر عن نماذجه الفذَّة في قصَّته "واإسلاماه" حينما تعرَّض الإسلام للغزو الصليبي والتتري، وحينما اتَّخذ شخصيَّات "ابن تيميَّة" و"العز بن عبدالسلام" وغيرهما نماذج إنسانيَّة تشبَّعت برُوح العقيدة، وانتصرَتْ لها وبها"[15]. خلاصة الرواية: نحن أمام رائعةٍ من روائع الأدب، لا أقول: الإسلامي فحسب، بل الأدب العالمي، ومن مُنطلقات إسلاميَّة واضحة المعالم وقعَتْ أحداث هذه الرواية فعلاً، وضَعَها الروائي المسرحي الإسلامي العظيم علي أحمد باكثير في قالبٍ قصصي جميل وشيق، وقد حبكها حبكة جيِّدة في نسيجٍ متماسك، وأدرج تطوُّر الأحداث فيها بهدوءٍ رزين[16]. تبدأ الرواية بنقاشٍ بين جلال الدِّين بن خوارزم شاه سُلطان الدولة الخوارزميَّة مع صِهره ممدود، يتَّضِح من خِلاله أسبابُ هزيمة خوارزم شاه أمام التتار، وأهمها تفرُّق وتشتُّت المسلمين وعدم نجدتهم بعضهم بعضًا، وتحالُفهم مع الأعداء ضد بعضهم، وتدور الحروب سجالاً بين المسلمين والتتار وفي النهاية ينتصر التتار، ويُهزَم جلال الدين إلى لهاور (وهي مدينة لاهور حاليًّا)، ويستعدُّ مرَّة أخرى لمواجهة التتار ويرسل في طلب النجدة من الممالك الإسلاميَّة المختلفة، وعلى رأسها عاصمة الدولة العباسيَّة في بغداد، ولكن لا حياة لِمَن تنادي. تدور الرواية حول شخصيَّة رئيسيَّة هي شخصيَّة محمود بن ممدود ابن أخت جلال الدين، الذي يُباع هو وابنة خاله واسمها جهاد ابنة جلال الدين، بعد افتراق محمود وجهاد عن جلال الدين يجنُّ الأخير، ويدمن الخمر، وييئس من الحياة، فيُقتَل في نهاية المطاف على يد الكردي الذي خطَف ابنيه من قبل، يُباع محمود وجهاد في سوق النخاسة أولاً في دمشق ثم في مصر بعد أنْ تغيَّر اسماهما إلى قطز وجلنار، ويفترقان في هذه الفترة عن بعض وقد كبرا، وتحوَّلا من طفلين يلهوان في براءة إلى حبيبين لا يُطِيقان الفراق، يتدرَّج قطز سريعًا في ارتقاء المنازل، من مولى من موالي الأقطاي عز الدين أيبك أحد الأركان التي كان الملك الصالح أيوب سُلطان مصر يعتمد عليها إلى منصب نائب السلطان، إلى أنْ أصبح أخيرًا سُلطانًا على مصر لتعود دورة الحياة مرَّة أخرى لتضع قطز الذي يصبح الملك المظفَّر أمام أعدائه القُدامى ألا وهم التتار، وتدورُ بينهما المعركة الأخيرة، وهي معركة عين جالوت، التي ينتصر فيها المسلمون بعد أنْ تفدي السُّلطانة جلنار زوجها بحياتها، وتسقط شهيدة في ميدان المعركة، وأثناء العودة إلى مصر يقتُل الظاهر بيبرس صديقه القديم الملك المظفر مسيئًا الظن به، بينما كان الملك المظفر ينوي اعتزال الحكم، وتسليم زمام الحكم إلى صديقه بيبرس، ورغم ذلك يسامحه الملك المظفر، ويوصيه بالعمل لصالح الإسلام والمسلمين. عناصر رواية "واإسلاماه" الفنية: أولاً: الشخصيَّات: البطل في الأدب الإسلامي هو القدوة، والنموذج الذي تتجسَّد فيه القيم الإسلامية[17]. بعكس البطل في الروايات التي تُكتَب في ظلِّ المذاهب الأدبية والنقدية الحديثة وخاصة النظريات الاشتراكية، التي تختار شخصيَّاتها من أكثر الناس انحرافًا وعلالة كالمذهب الطبيعي في الأدب، فالكاتب في ظلِّ هذه الاتجاهات هو ذلك الفنان الذي يبحث عن كلِّ المثيرات الكبيرة التي تعد شذوذًا، فكل ما يتمناه هؤلاء أن يخرجوا للناس ما تواضع المجتمع على تسميته الفضائح والخروج على العرف والانطلاق من التقاليد والاستهتار بالآداب والأخلاق العامَّة[18]. وحيث إنَّ الأدب الإسلامي واقعيٌّ فإنَّه يستخدم الشخصيَّات المنحرفة أيضًا؛ لأنَّ الحياة في واقِعها فيها الصالِحُ والطالِحُ، وفيها الخيِّر والشرير، وذلك من باب المقابلة والتضاد. يقول الدكتور مصطفى عليان: "يلجَأُ الأديب الإسلامي في مجمُوعِه إلى أسلوب المقابلة والتضادِّ؛ لما يحمل من إثارةٍ وتأثيرٍ وإقناعٍ في الوجدان والعقل؛ إذ في الأضداد تميُّز يلفت إليه الوجدان وتفرُّد يجذب به العقل"[19]، ولكنَّه يذمُّ سُلوكها ويقبح فعالها وينتقدها. تظهَر براعة علي أحمد باكثير في وصف الشخصيَّات، وخاصَّة شخصيَّة البطل محمود الذي أصبَح اسمه قطز، والذي تعهَّد خالُه جلال الدين بتربيته وتوجيهه وتعليمه الفروسيَّة وفنون القتال، وفي النهاية حين تولَّى زمام السُّلطة في مصر أصبح اسمه الملك المظفر، هذا البطل هو الذي تدورُ حوله رواية "واإسلاماه" منذ ولادته - وربما قبل ذلك، حيث تنبَّأ المنجِّم بأنْ سيُولَد في بيت السلطان ولدٌ يكون له شأنٌ في المستقبل[20] - وحتى تَولِّيه ملك مصر. وقد وصَفَها الدكتور أحمد إبراهيم الهواري بالشخصيَّة المحوريَّة في الرواية، الشخصيَّة المحاطة بهالة نوارنيَّة، تستمدُّ نُورَها من حَرارة الفِكرة الإسلاميَّة عن الجهاد[21]. ويرى أنَّ (باكثير) "قد انطَلَق من تصوُّر نظري يُؤمِن بدور الفرد في التاريخ، الإيمان بدور الفرد بوَصفِه المحرِّك الفعَّال في دفْع الأحداث وترجيح كفَّة النصر"[22]. ورغم ذلك لا نَكادُ نعثر على أيِّ وصفٍ لِمَلامِحه الجسديَّة، فلا نعرف ما إذا كان طويلاً أو قصيرًا، وكيف لون جسمه، وما شكل عينَيْه، وكيف أنفه ومنكبَيْه، وما إلى ذلك، ولكنَّنا - ومن خِلال قراءتنا للرواية - نعرف الكثيرَ عن أخلاقه ورُوحه وأحاسيسه وعواطفه، وهذه من سِمات الروايات والقصص الإسلاميَّة التي يُعتَبر باكثير رائدًا لها في الأدب العربي، بعكس الروايات والقصص المعاصرة عمومًا؛ فهي تهتمُّ بأشكال أبطالهم كثيرًا، بل يتمادَى الكتاب في وصف ملامح أبطالهم الخارجية حتى إنَّنا نكاد نراهم. شخصيَّة البطل في هذه الرواية شخصيَّة نامية، يستطيع القارئ أنْ يتتبَّع سير حياة البطل خطوةً خطوةً، ويلاحظ كيف نمتْ شخصيَّته من طفل صغيرٍ إلى عبدٍ يُباع في الأسواق، ثم إلى شخصٍ يدخُل دهاليز القُصور، ويتَّصل بأصحاب السُّلطة والنُّفوذ، ثم يتحوَّل إلى شخصٍ يكونُ له دورٌ في تسيير دفَّة الأمور في البلاد، ثم يسلُك سبيله إلى سدَّة الحكم، وأخيرًا يصبح سُلطانًا على البلاد، محققًا نبوءة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستطاع أنْ يهزم التتار بعد أنْ كان الظنُّ أنهم لا يهزمون. بهذه الشخصيَّة أراد المؤلف أنْ يعلمنا أنَّ شخصًا واحدًا يمكن أنْ يكون له دور فعَّال ومهم في توجيه دفَّة الحياة السياسيَّة، وقلب الهزيمة إلى نصرٍ، ليمتلئ شبابنا أملاً ويقينًا بقدرتهم وبطاقاتهم وبأنفسهم. كانت هذه رسالةً من الكاتب إلى شَباب الأمَّة الإسلاميَّة، أنهم يملكون طاقاتٍ هائلةً وقُدرات لا حُدود لها، فلينهَضُوا ويواجهوا أكبرَ المشاكل وأعصاها بهمَّةٍ عالية وإرادةٍ قويَّة، كهمَّة قطز وإرادته في هذه الرواية، كما سجَّل المؤلِّف تطوُّر العلاقات بين شخصيَّات الرواية، وخاصَّة العلاقة بين محمود وجلنار من طفلين يلعبان في رعاية مُتعهِّدهما جلال الدين، إلى حبيبين لا يُطِيقان الفراق، تربطهما علاقةٌ طاهرة عفيفة، وعزمٌ أكيد على الانتقام من عدوِّ الإسلام وعدوِّ أسرتهما، وأقصد بهم التتار. ورغم أنَّ هذه الرواية تاريخيَّة تدورُ حول الحروب والمعارك فإنَّه لم يفت المؤلف أنْ يُدخِل العنصر النسائي فيها، فقد كان للنساء حضورٌ متميِّز في هذه الرواية، بدءًا بشخصيَّة جهاد، وهي الشخصيَّة الرئيسيَّة الثانية التي دارت حولها الرواية، والتي أصبح اسمها جلنار بعد أنْ أصبحت أمةً وبِيعت مع العبيد والإماء، وهي ابنة السُّلطان جلال الدين سلطان الدولة الخوارزميَّة، وهنا أيضًا لا نَكاد نعثر على أيَّة ملامح خارجيَّة لها، فلا نعرف ما لونها، ولا نعرف كيف كان وجهُها، وأين مواطنُ الجمال فيها، وما مَدَى نعومة جلدها، وكيف أنفها وأذنها وخدها، وهل هي طويلة أو قصيرة أو معتدلة القوام... إلى آخِر الكلام الذي تمتلئ به الروايات التي تملأ مكتباتنا، والتي تهتمُّ بها دور نشرنا! يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |