|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() قراءة في وصية أبي تمام للبحتري سعيد بكور نص الوصية كما ورد في العمدة: "قال أبو عُبادةَ الوليدةُ بن عبيدٍ البُحْتري: كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرجِعُ فيهِ إلى طَبْع، ولَمْ أكُنْ أقِفُ على تَسْهيلِ مَأْخَذِه، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه؛ فكانَ أوَّل ما قال لي: يا أبا عُبادة؛ تَخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُموم، صِفْرٌ من الغُموم، واعْلَمْ أنَّ العادةَ في الأوقاتِ أن يَقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَر؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أخَذَتْ حَظَّها مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ، فإنْ أردتَ التنسيب؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَقيقًا، والمعنَى رَشيقًا، وأَكثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابة، وتوجُّعِ الكآبَة، وقَلَقِ الأَشْوَاق، ولَوْعَةِ الفراق، وإذا أَخَذْتَ في مَدحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَه، وأظهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَه، وشرِّفْ مقامَه، وتقاضَ المعانِي، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها، وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الزريَّة، وكنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسام، وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَك، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغ القَلْب، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلى حُسْنِ نَظْمِه؛ فإنَّ الشَّهْوةَ نِعْمَ المُعِين، وجُمْلَة الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضين، فما اسْتَحسنَ العُلَماءُ فاقْصِدْه، وما تَرَكوهُ فاجْتَنِبْه؛ تَرْشدْ - إن شاءَ اللهُ تعالى"[1]. تقـديم: وردَتْ وصية أبي تَمَّام للبحتريِّ في مَظانَّ كثيرةٍ، بينها تَفاوُتٌ في المَتْن، مرَدُّه بالأساس إلى الزِّيادات التي كان يضيفها الشُّراح والعلماء بغاية شرح أمورٍ غامضة لطُلاَّبِهم، ومن المصادر التي ضمَّت بين ثناياها هذه الوصيَّة نذكر بالترتيب الزَّمنِي: • "زهر الآداب وثمر الألباب"؛ للحصري (ت: 453هـ). • "العمدة في محاسن الشِّعر وآدابه ونَقْده"؛ لابن رشيق (ت: 456هـ). • "شرح مقامات الحريري"؛ للشريشي (ت: 619هـ). • "تحرير التحبير في صناعة الشِّعر والنثر، وبيان إعجاز القرآن"؛ لابن أبي الأصبع المصري (ت: 654هـ). • "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"؛ لحازم القرطاجنِّي (ت: 684هـ). • "خزانة الأدب وغاية الأرب"؛ لابن حُجَّة الحموي (ت: 837هـ). وقد قطع نصّ الوصيَّة رحلات متواصلة في كتب النُّقاد محتفِظًا تارةً بِمَتنه الأصليِّ، ومُضافًا إليه تارة أخرى أشياءُ ليست منه؛ لعدَّة أسبابٍ تعود بالأساس إلى إيضاح الغامض للطُّلاب، وما يستدعيه ذلك من تفصيلٍ وتقييد، وإضافاتٍ وشَرْح، إضافةً إلى اختلافِ فُهوم الطَّلبة؛ حيث يدرجون أمورًا ليست من النَّص الأصليِّ، ويكتبونها في مصاحفهم، ونجد مصدرًا آخَر من مصادر الزيادة يتمثَّل أساسًا في زيادات النُّساخ والورَّاقين، والشارحين والدارسين، دون تمييزٍ بين النصِّ الأصلي والمضاف[2]. والوصيَّة في عُمومها كلامٌ يَروم منه المُوصي نُصْحَ الموصَى له وتوجيهَه إلى الصواب من الأمور، وقد تتناول الوصيةُ أمورًا تتعلَّق بالدِّين أو الأدب أو الحياة، وعليه؛ فهي تختلف تبَعًا لاختلاف المَجال والمقام، وفيما يخصُّ وصية أبي تَمَّام؛ فقد وردَتْ في سياق توجيه البحتريِّ التلميذ إلى الطريقة السَّليمة لِنَظْم الشِّعر، ورَصْف مبانيه، وإتقان نسجه، وتتضمَّن توجيهاتٍ وضوابطَ عامَّة، يمكن للمطبوع أن يسترشد بها في مجال إبداعه الشِّعري، وهي في عمومها موجَّهةٌ إلى كلِّ مبدع شاعر؛ لِما فيها من نصائِحَ وتعليمات وتوجيهاتٍ ذهبيَّة، تتناول الأمورَ الجوهريَّة التي تخصُّ شروط الإبداع الصحيح، ولعلَّ ما يميِّز الوصية هو اختزالُها اللَّفظي واقتصادها اللُّغوي، لكنه اقتصادٌ فيه ثراء وغِنًى مِن حيث الزَّخمُ التوجيهيُّ الذي تزخر به. 1 - ظروف الوصيَّة: الراوي في الوصيَّة هو نفسه الموصى له، وهو "التلميذ" البحتري، ويُستفاد من مَتْن الوصية أنَّه تلقَّى من أستاذه أبي تَمَّام الوصية وهو في سنٍّ صغيرة: "كنتُ في حداثتي أَرُوم الشِّعر"، ويشير النُّقاد إلى أن أبا تَمَّام قال وصيَّتَه هذه في سنواتِه العشر الأخيرة، وقد نتساءل عن سبب قيام الأستاذ أبي تمام بتدبيج هذه الوصية الثمينة للبحتريِّ دون غيره من الشُّعراء الذين قد تتلمَذوا على يديه، ولعلَّ السبب في ذلك يعود إلى: • اعتماد البحتريِّ على طبعه في نظم الشِّعر، حيث يركِّز على موهبته وطبيعته، دون الاعتماد على الصَّنعة والتنقيح ومراجعة الإبداع بالرعاية والنَّظَر. • عدم استطاعة البحتريِّ الوقوفَ على تسهيل المأخذ ووجوه الاقتِضاء؛ ومعنى ذلك أنَّه كان يقول الشِّعرَ دون اعتمادٍ على طريقةٍ تُساعده على إبداع الجيِّد. • تلمُّس أبي تَمَّام علائمَ النُّبوغ الشعريِّ على البحتري من خلال مصاحبته إيَّاه. ويظهر من كلام البحتريِّ أنه تتلمذ على يد أبي تَمَّام ردحًا من الزمن ليس باليسير، عبَّ فيه من مَعينِ شعره، واتَّكل في تعريفه عليه، وكان طبعيًّا أثناء مدَّة التلمذة أن يُلاحظ أبو تمام بِعَين الناقد الخبير الحصيف علائمَ النُّبوغ ومَخايل الذكاء على تلميذه البحتريِّ؛ حيث تيقَّن من موهبته الشعريَّة الفذَّة، فقرَّر أن يُوجِّهه الوجهةَ التي يراها مُناسبةً لِمَوهبته، وليس الوجهة التي تتَعارض معها وتتنافَى. 2 - عناصر الوصيَّة ومحتوياتها: أ - أوقات الإبداع: يبيِّن أبو تمامٍ الناقدُ في وصيته عن حنكة نقديَّة، وتجربة إبداعيَّة، تُظهِر تَمكُّنَه وتمرُّسه بالمَجالَيْن، وتظهر هذه الحنكةُ جليَّة في إشارته إلى أهمِّ الأوقات التي يكون فيها المبدعُ مُتَهيِّئًا نفسيًّا وفكريًّا؛ لِيُخرج ما في جعبته من إبداع صافٍ برَّاق، لا تَشُوبه شائبة ضعفٍ أو تكلُّف أو تكلان، فهو يوصي تلميذه بقوله: "تخيَّر من الأوقات وأنت قليل الهموم، صِفْر من الغموم"، وهنا يضع أبو تَمَّام يده على جوهر الإبداع؛ ذلك أن خُلوَّ الذِّهن من المشاغل والمشاكل، والقلب من الهموم والبَلْبال، يجعله قادرًا على القول في غير اعتياص، مقبِلاً عليه إقبالَ الظَّمآن على الماء إذا توفَّرَت دواعيه وبواعثه، ومعلومٌ أنَّ الهموم والغموم كما تُهَيمن على الذِّهن، فهي تشغل القلب، وتُعكِّر صفو الخاطر، وتُنغِّص على النفس، فتُخيِّم بظِلالِها السوداء على المبدع، وتَمْنع - نتيجةً لذلك - شمسَ إبداعه من الإشراق، وجمرته من التوقُّد، وسَيْله من التدفُّق، وحتى لو كُتب له التدفُّق فإنه سيخرج أعرج معاقًا لفظًا ومعنى. إنَّ الخلوَّ من الهموم والتطهُّر من الغموم يجعل الذِّهن صافيًا متوقِّدًا، ومتهيئًا للإبداع الجيِّد، الخالي من أود النَّظْم، ولا شكَّ أن الخلُوَّ من الهُمُوم لا يتيسَّر للمبدِع، إلاَّ في وقت معيَّن من اليوم، هو "وقت السَّحَر"؛ لذلك ينصح أبو تمام تلميذَه بضرورة تحَيُّن هذا الوقت المساعِد على إخراج الدفين من المعاني والدُّرر، ولا يَقتصر الأمر على التأليف، بل يشمل الحفظ أيضًا، "واعلم أنَّ العادة في الأوقات أن يقصد الإنسانُ لتأليف شيءٍ أو حفظه في وقت السَّحَر"؛ لأن النَّفْس في هذا الوقت بالذاتِ تكون قد "أخذَتْ حظَّها من الراحة وقسْطَها من النوم"، ويترتَّب عن ذلك صفاءُ ذهن، وشهوةُ نَفْس، وإقبالٌ على الإبداع، فالنفس تكون في قمَّة نشاطها وفراغها وصفائها بحيث تتقبَّل ما يُلقى إليها (الحفظ)، وتفجر ما بها من براكين الإبداع الثاوية تحت رماد العجز (التأليف). ويمكن الوقوفُ من خلال إشارة أبي تَمَّام على الأوقات المواتية للإبداع على أمرين ذوَيْ أهميَّة، هُما: • التهيُّؤ النفسي: ويُراد به استعدادُ النَّفس لإخراج ما بداخلها من إبداع، ويتمُّ ذلك بخلوِّ النفس من الغموم التي تحجب شمس الإبداع المشرقة، ويكون التهيُّؤ النفسيُّ حاضرًا ساعةَ السحر تحديدًا؛ لأنَّ النفس تكون قد أخذَتْ قسطها من الراحة والنَّوم، وصارت قادرةً على العطاء والتقبُّل؛ ذلك أنَّ النفس لا تكون متهيِّئة إلا إذا خلَتْ مما ينغِّص عليها ويُكدِّرها. • التهيُّؤ الفكري: ويتمُّ بدوره بخلُوِّ الذهن من المشاغل التي تؤثِّر سلبيًّا على تركيز الشاعر، لا سيَّما وأن المشاكل والمشاغل تُفقِد المبدع تركيزَه، ويَظلُّ مشوشًا لا يستطيع إبداع شيء ذا قيمة عليه علائمُ الجودة، وجديرٌ بالذِّكر أن إشارة أبي تمام الذكيَّة إلى أوقات الإبداع تُظهِر تَمرُّسه بمجال الإبداع الشعري، وكذا حنكته بالميدان النَّقدي. ب - ضوابط الأغراض الشعريَّة: لَم يتطرَّق أبو تمام في وصيته إلى كلِّ الأغراض الشعرية المعروفة، بل اقتصر على ذِكْر غرَضين، مبيِّنًا ضوابطهما اللَّفظية والمعنوية، ولنا أن نتساءل عن سبب التغاضي عن الأغراض الأخرى من رثاءٍ، وهجاء، ووصف، والاقتصار فقط على المَدْح والغزَل، لعلَّ الداعي إلى ذلك من وجهة نظري أنَّ أبا تَمَّام من خلال خبرته الطويلة في ميدان الشِّعر لاحظَ بنظرته الثاقبة أنَّ "طَبْع" البحتريِّ يَميل إلى المدح والغزَل دون غيرهما؛ لذلك ساق له مجموعةً من النَّصائح الضَّابطة لهذين الغرَضين، والنَّاظر في شعر البُحتري يلمس هذا المُعطَى، وكيف أنَّه في شِعره لم يَبْرُع في الفخر والهِجاء. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |