|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
![]() لبـاس التقـــــوى
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذَّكرون . الأعراف 26 . اللباس اثنان : مادي ونوراني : ================= لننظر أولاً في هذه الآية الكريمة التي صدَّرنا بها الفصل والتي من دلالاتها أنَّ اللباس اثنان : مادي ونوراني . فالقسم الأول المادي في الآية : قوله تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا إليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً } وهو خطاب للبشرية في جميع مراحلها وحتى قيام الساعة ،قوله تعالى : يا بني آدم . أما قوله : قد أنزلنا إليكم لباساً ، فواضح أنه أمرٌ باللباس الغاية منه هنا ، ليس تلافي حرٍّ أو برد ، وإنما قيده في الآية أن يواري السوءات ، أي يستر عوراتكم . وهو من مثل الأمر في استعمال الحديد سلاحاً ـ في جملة ما يستعمل ـ لينصر به دينه وينصر رسله . قال تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز . سورة الحديد آية 25 } فليس المقصود بقوله تعالى : أنزلنا الحديد ،أنه أنزله من السماء ، ولكن المعنى أنه قضاه أمراً منزلاً من عليائه . وكلمة أنزلنا لا تعني دائماً ـ في القرآن ـ الحالة المكانية من حيث العلو والسفل ، وإنما تعني تعالي الله سبحانه عن خلقه ، وكبرياءَه في أرضه وسماواته وعرشه العظيم : ففي ختام سورة الجاثية قوله عز وجل : { فلله الحمد ربِ السماوات وربِ الأرض ربِ العالمين. وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } . أما كلمة { ريشاً } في اللغة ، فالمقصود بها " الخصب والمعاش والمال والأثاث واللباس الحسن الفاخر " كما جاء في لسان العرب لابن منظور . وقد خصَّ القرآن الكريم البالغين بهذا اللباس الساتر للبدن عامة في سورة النور ، قوله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلواة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلواة العشاء ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم . سورة النور 58 و 59 } . إلا أن الله سبحانه أراد للمرأة خاصة أن تحفظ أنوثتها وما في عامة جسدها من مستدعيات الإثارة التي ميزها الله بها ، أن تحفظها كما يحفظ الدرُّ في المحار وأنواع الجواهر في علبها وخزائنها ، حتى لا يعبث بها ويحط من قيمتها وكرامتها ، كما هو الحال اليوم ، حيث باسم الحضارة والحرية اللاواعية ، تمتهن المرأة وتسترخص ، وتشترى وتباع ، وتفضح على الجدران وشاشات التلفاز ، ناهيك بسحق كرامتها وقتلها المعنوي بين المخدِّر والمسكر وأنياب الذئاب . عرَّوا المرأة من ثيابها ، مخالفين أمر الله ، وعرضوها أو عرضت نفسها لتكون في الدنيا من مستدعيات غضب الله وفي الآخرة طعاماً لنيران الجحيم . الله عز وجل أراد للمرأة عِزَّ طاعته لا أن تذلَّ بمعصيته ، وأراد لها عنفوان الحرائر لا استكانة العبيد . أراد سترها لا افتضاحها ، ثم لها هي أن يكون مصيرها إما من الحور العين ، أو من الأفاعي والزحافات . وكما رأينا في آيات الحشمة في سورة النور : وجوب الاستئذان على الأهل في غرفهم ثلاث مرات في اليوم ، في الأوقات التي لا بد لهم منها من خلع بعض ثيابهم استعداداً للوضوء كمقدمات للصلاة . أي أن الأبوين في البيت وجميع أفراد الأسرة كباراً وصغاراً وكذلك الخدم ، كل هؤلاء ملزمون بالتعليم الإلـهي : الراشدون يحتجبون أثناء خلع ثيابهم والآخرون أطفالاً وكباراً يستأذنون عند ضرورة الكلام معهم أو الحاجة إليهم . ذلك كله ، لكي لا يطَّلع أحد على عورة أحد ، ولا سيما الأولاد على عورات الأبوين . ومعلوم في فقهنا الإسلامي أن بدن المرأة كله عورة . فالمرأة المسلمة في البيوت الفاضلة ، نجدها دائمة الحشمة والحرص على ستر جسمها حتى أمام أولادها وعامة أرحامها . إلا أننا نجد المفارقة العجيبة بين هذا التعليم الإلـهي المعمول به في البيوت الفاضلة ، وبين سلوك أدعياء الحضارة والتحرر ، حيث لا يبالي الآباء ولا يتحرجون من الظهور أمام أولادهم شبه عراة ، وبـ ( الشورتات ) التي أصبحت الزي السائد داخل البيوت وحتى خارجها ، وقد تكون النساء ـ كما ينقل إلينا ـ أسرع إلى ارتداء ( الشورت ) وتعرية الصدر بمعظمه والكتفين ، بحجة الحرِّ أو بحجة التحرر . هذا التحرر المزعوم ، ينتج عقداً ، في الأولاد والأحفاد وكل من له علاقة بالأوضاع المنفلتة ، عقداً لا يعلم مداها ومدى الأضرار التي فيها إلا واضع القانون ، قانون الحشمة ، رب العالمين . ولسنا بحاجة لكبير جهد لإثبات ما نقول ، فتكفي نظرة استطلاع لأحوال المجتمعات ، على أبواب الألف الثالث للميلاد ، لنرى مدى الانهيار الأخلاقي ، ابتداء بتفسخ الأسرة ، وحتى انعدام الأسرة الشرعية ، مروراً بالشذوذ بين الجنسين ، وانتهاءً بالإيدز القتَّال الذي ما كان إلا نتيجة للعهر والتسيب ، والتفلت من الدين ، أي من وصايا رب العالمين . ولا يظننَّ أحد أن الدين المسيحي أكثر حرية أو تحرراً من اللباس ومن الثياب ومن الحرص على الحشمة بارتداء الثياب الساترة والطويلة الفضفاضة . ولو كان الأمر كذلك لما رأينا راهبات الأديرة على امتدادها في الشرق والغرب ، بأزيائهن الداعية إلى التوقير والإحترام . والحقيقة أنهنَّ ما ارتدين مثل هذه الأثواب إلا اقتداءً بالسيدة مريم أم يسوع المسيح عليهما السلام . وهي التي ، في أصل العقيدة المسيحية ، ينبغي أن تقتدي بها كل أمرأة أو فتاة تدين بدين السيد المسيح وأمه القديسة البتول . ولكن النصارى خالفوا تلك الوصايا الملزمة ـ كما رأينا ـ لجميع البشر ، في جميع عصورهم وحتى قيام الساعة . واليهود كذلك خالفوا وعصوا ، ـ وما أكثر ما خالفوا وعصوا ـ تقول الراهبات " الحبيسات (*) " وهو الإسم الذي يطلقنه على أنفسهن : إن تاريخ " رهبنة الكرمليت " يعود إلى ما قبل الميلاد ، إلى أيام النبي إيليا ، وكان هذا الدير قد أقيم على جبل الكرمل المطل على مدينة حيفا في فلسطين قبل مجيء السيد المسيح عليه السلام . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) الراهبات الكرمليين ومركزهم في أسبانيا ولهم فرع في لبنان . فالقرآن الكريم ، والمسلمون لم يتشدَّدوا بشأن الحجاب ولزوم الإحتشام كما يظن عامة الناس . القرآن الكريم إنما جاء مذكراً بهذا التعليم الإلـهي الملزم لجميع البشر منذ وجود المجتمعات الإنسانية على الأرض ، وذلك في قوله تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ... الآية } . إلا أن القرآم الكريم ، لأنه مصدق لما بين يديه من الكتب ومهيمن عليه فقد فصَّل ودقَّق في قضية ستر السوآت والاحتجاب . قال الله سبحانه : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ـ سورة النور الآية 30 } . هذا للرجال , وغضُّ البصر هو عن عورات النساء ، وعورات الرجال وعن كل حرام ، أما قوله تعالى : ويحفظوا فروجهم ، الأصل حفظها عن الزنى ، إلا أن المقصود هنا باعتبار السياق كما سنرى في الآية التالية والمتعلقة بستر النساء ـ المقصود ستر العورات . ثم بعدها مباشرة قوله تعالى مخصصاً ومفصِّلاً عن النساء ، مما يوجب النظر والخوف من الله بسبب ما وصلت إليه المرأة بشكل عام من التفلت ـ عالمياً ـ من حكم الله سبحانه ، ومن الخروج عن إرادته . قال تبارك وتعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلا لبعولتهنَّ أو آبائهن أو آباء بعولتهنَّ أو أبنائهن أو أبناء بعولتهنَّ أو إخوانهنَّ أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهنَّ ليُعلم ما يخفين من زينتهن ، وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّه المؤمنون لعلكم تفلحون . سورة النور الآية 31 } . بالمقارنة بين الأمرين : أمر الرجال وأمر النساء فيما يتعلق باللباس والإحتشام ، نلاحظ عناية مميزة ودقيقة بأمر النساء . ففي مطلع الآية الثانية ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ..) هو نفس الأمر الذي يتساوى به الرجال مع النساء ، أي غض البصر ، وهو يعني إنشاء حاجز من الشرف والتعفف وخشية الرقيب السميع البصير الذي هو الله سبحانه . يرتاح معه ضمير الرجل ، ويرتاح معه ضمير المرأة ، وينجو كل منهما ـ مع غض بصره ـ من خيانة الله وخيانة نفسه وخيانة غيره ، أي أنه ينجو من لعنة الله وعقوبات الدنيا والآخرة . وكذلك القول في ( ويحفظن فروجهن) إلا إذا اعتبرنا فيها معنى الزنى ، فتكون من الذنوب العظيمة ، أي ما يعتبره التشريع الإلـهي عامة من الكبائر . وكذلك هذا ـ كما قدمنا ـ يتساوى ، من حيث الحكم فيه ، الرجل والمرأة . ثم تعظم العناية في أمر ستر النساء زيادة عن الرجال ، وتأتي مفصَّلة مدققة : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) مثل الكحل والخضاب والخاتم ، وهو ما لا يجب ستره لا في الصلاة ولا في غيرها . أما ما يجب ستره في الصلاة ، فهو كذلك ما يجب ستره على غير المحارم المذكورين في الآية ، وتفصيله هكذا ( وليضربن بخمرهنَّ على جيوبهن ) الخمر وتسمى أيضاً المقانع ، جمع خمار وهو لباس للرأس ، الشرعي فيه أن ينسدل على الصدر مغطيا العنق والصدر وكل حَنِيَّة ٍ تظهر إغراءً فيه وهذا معنى ( على جيوبهنَّ ) فالجيوب الثغرات والفجوات . ثم قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) يعني مواضع الزينة بالضرورة لأنَّ الزينة لا تبدو إلا إذا بدت مواضعها ، وهي الأقراط في الأذنين والعقود في الأعناق والأساور في المعاصم ، وقبلاً كن يلبسن الخلاخيل في الأقدام . وواضح أنه لا يبقى من المسموح بظهوره إلا الوجه والكفين والقدمين . ثم يعدد المحارم الذين تجوز لهم رؤية مواضع الزينة وهم أزواجهن قوله ( إلا لبعولتهن ) ( أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ) والأجداد آباء وإن علوا ، والأحفاد أبناء وإن سفلوا ويدخل في ذلك أجداد الأزواج ، وهؤلاء جميعاً كما هو معلوم يحرم عليهم نكاحهن ، فكل واحد منهم ذو محرم إما بسبب وإما بنسب . ثم قوله تعالى : ( أو نسائهن ) يعني المؤمنات . وقوله ( أو ما ملكت أيمانهم ) من الإماء جمع أمة وهي الجارية المملوكة ومن العبيد الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال . وقوله ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) وهم أنواع البله أو الخصيان المجبوبين أو العجزة وكل من ليس له رغبة في النساء وهذا معنى ( غير أولي الإربة ) والإربة أو الأرب الرغبة والحاجة . ثم قوله تعالى : ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) يريد بالطفل هنا الأطفال إذ يصح لغة في الطفل معنى الجمع ، وهم الصبيان الذين لم يبلغوا مبلغ الشهوة ولم يعرفوا عورات النساء . ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) كانت المرأة تلبس الخلخال ، فإذا مشت وضربت برجلها يتبين خلخالها ويسمع رنينه . فنهاهنَّ عن ذلك . ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) التوبة إلى الله الرجوع إليه سبحانه والتوجه إليه بنية صادقة ، مع إبراء الذمة من أي إخلال أو عصيان لأوامره ، وبذلك يكون الفلاح والسلامة في الدارين : الدنيا والآخرة . هذه الآية في سورة النور ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن ... ) تعتبر آية الحجاب الرئيسية الجامعة الشاملة الملزمة . وهي مكملة لآية سورة الأحزاب : ( يا أيها النبي قل لأزواجك .. ) ورافعة لمرحليتها . لأن ظرف نزول آية الأحزاب ، كان متعلق بتركيب إجتماعي ، موجزه أن الإماء كن يخرجن في قضاء حاجات أسيادهنَّ حاسرات الرؤوس ، ولأنهن لا يتميزن بعنفوان الحرائر وحصانتهن ، كان يتعرض لهن أهل الريب ، فيغمزونهن ويمازحونهن . وكانوا ربما يتعرضون للحرَّة إذا لم تكن منقبة ومتجلببة ، فيتجاهلون حقيقتها ويتحرشون بها ، مما يسبب لها أذىً في نفسها وشرفها وعنفوانها ، فجاءَت الآية تعالج هذه الحالة الظرفية ، وهي قوله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) أي ذلك أقرب إلى أن يعرفهن أهل الريب من السوقة ، فيتهيبونهن ولا يقدمون على غمزهن أو ممازحتهن . أما وأنَّ الظرف يتبدل ، والأحوال الإجتماعية تتغير بتغير الأجيال والأزمنة والعادات والحضارات ، والله سبحانه أعلم بهذا ، يعلم ما كان وما سيكون. فقد أنزل آية تلزم النساء بلباس الحشمة الذي يحجب جميع أبدانهن ، فيحفظ للمرأة المطيعة لأمر ربها ، شرفها وعنفوانها ، ونقاء ضميرها ، وسلامتها من غضبه ولعنته في الدنيا ، ونجاة ما قد تبديه من بدنها ـ خلافاً لأمر الله ـ من حريق النار في الآخرة . أما الآية الملزمة والتي هي لجميع الظروف والأزمنة والحضارات ، فهي هي التي توقفنا عندها أكثر ما توقفنا ، قوله تبارك وتعالى : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن ... ) أما بقية الآيات المتعلقات بالحجاب ، فهي من باب توكيد هذه الآية ، أو شرحها أو التنبيه إلى مضامينها ، مكمَّلات بها متداخلات معها ، ولا سيما الآية التي توجنا بها هذا الفصل وجعلناها مدخلاً لبحثنا والتي هي ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم .. ) فهي في علوم القرآن من باب المجمل ، بينما آية ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ... ) هي من باب المفصَّل . القسم الثاني النوراني : في آية : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلَّهم يذَّكرون ) هو قوله تعالى : ( ولباس التقوى ذلك خير ) . لباس التقوى هذا المنوه عنه في هذه الآية الكريمة ، هو لباس حقيقي للبدن ولكنه غير مادي ، هو نوراني ، موجود تحت الثياب وموجود فوق الثياب ، وهو ليس من الثياب في شيء . ولباس التقوى هذا ، ما دام نورانيا ، هل يشاهد بالعين المجردة ، وفي اليقظة ، وهل تلتقطه آلة التصوير ؟ يقول العرفانيون ـ ونحن نقرُّهم ونحترمهم جداً ـ يقولون نعم يرى في اليقظة وإنما بالعين الداخلية ، عين القلب ، أو البصيرة ، وهو ما يسمونه الكشف ، وأكثر ما يتم أثناء الذكر والعبادة . وأثناء الهجرة إلى الله تبارك وتعالى ، إذا خلَّف المهاجر وراءه مضامين الدنيا والآخرة ، ويمَّم وجه الله الحبيب وحده دون أدنى عقدة من عقد الشرك الظاهر أو الشرك الخفيّ . أما هل تلقطه آلة التصوير ؟ إذا استطاعت يوماً ما أن تصوِّر أشخاص الملائكة أو تمثلاتهم . ومعلوم عند جميع المسلمين وكذلك أهل الكتاب ، أن وجود الملائكة مع الناس وبينهم ، من الحقائق الدينية التي لا تناقش . أما ما هي الصلة بين نورانية الملائكة ونورانية من يتفضل الله عليهم بكسوتهم من نوره ، فنقول هي المجانسة . قال تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون . نزلاً من غفور رحيم . سورة فصلت آية 30 ـ 32 } . وزيادة في إيضاح ثياب النور أو لباس التقوى الذي هو خير كما وصفه الله سبحانه . نقول هو اللباس النوراني الذي كان ألبسنا الله إياه في الجنة ، ثم خسرناه بالمعصية ، ثم تاب الله سبحانه علينا ، ثم وهب لنا فرصة استرداده بالتقوى . أما متى وكيف كان ذلك ؟ فينبغي الرجوع إلى الآيات البينات ذات العلاقة بهذا الموضوع . قال الله تبارك وتعالى : { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما إني لكما من النَّاصحين . فدلاّهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنَّ الشيطان لكما عدو مبين . سورة الأعراف الآيات 19 ـ 22 } . دليلنا من الآيات هذه ، إلى أن لباس التقوى هو ثوب نوراني، قوله تعالى : ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) وواضح أنه لا الثوب الحريري ولا الثوب الصوفي ولا أي ثوب من أي نسيج مادي ، يسقط أو يزول أو يتبخَّر، لمجرد وقوع لابسه أو لابسته في معصية الله . فلباسهما إذن كان لباس التقوى الذي أشار إليه تعالى بقوله ( ولباس التقوى ذلك خير ) . وقوله (ذلك ) لا بدَّ أن يكون إشارة إلى الثوب الذي كان نورانياً في الجنة ، وكان حينذاك لباس التقوى ، ولذلك كانت الإشارة تفريقاً بينه وبين الثياب العادية ، أما وقد زال حينها ثوب التقوى بسبب المعصية ، وكان الإهباط نتيجة لذلك ، فقد كان لا بد للإنسان رجلاً كان أو أمرأة ، من الاستتار ومواراة السوءات ، بأشياء غير ورق الجنة ، وأين منهما ورق الجنة . فلذلك أنزل الله أمره وتعليمه بالثياب وصنع الثياب : قوله تعالى : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ... ) ولو كان الله سبحانه أراد أن ( لباس التقوى ) هو هذا الذي أنزله لكان قال ولباس التقوى ( هذا ) بدلاً من ( ذلك ) ، ومعلوم أن ( هذا ) إشارة للقريب و ( ذلك ) إشارة للبعيد ، وهو سبحانه إنما يخاطب الناس حسب فهمهم للغتهم . ثم دليل ثالث على أن الثوب كان نورانياً ، وأنه زال فوراً بمجرد الوقوع في المعصية ، كلامه تبارك وتعالى في سياق آخر مختلف العبارات في سورة طـه ، ولكنه يستعمل نفس العبارة بحرفيتها تقريباً عندما يخبر عن وقوعهما في المعصية ، وانكشاف سوءاتهما تبعاً لذلك . قال تبارك وتعالى : { فقلنا يا آدم إنَّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . إن لك ألاَّ تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى . فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى . سورة طه الآيات 117 ـ 121 } . فقوله تعالى هنا : ( فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) مطابق لقوله في فورية زوال اللباس ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) هذا مع اختلاف العبارات البلاغية بين السورتين في وصف الواقعة ، بغية إظهار الحقيقة كاملة لأولي الألباب . أما وهل يعبَّر عن النور بأنه نوع من اللباس ؟ نعم ، وقد قال تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. سورة النحل آية 112 } وقال سبحانه : { لما تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون . سورة آل عمران الآية 71 } . ثم قوله تبارك وتعالى : ( لك فيها ألا تجوع ولا تعرى ) دليل على أن لباس التقوى ذلك الذي هو خير ، أي أفضل إطلاقاً ، هو لباس نوراني ، لأنه وعد من الله سبحانه ألا يعرى ، ومعاذ الله أن يكون في وعد الله خلف أو نقص أو خلل . وهو لو كان لباساً مادياً لكان لا بدَّ فيه من عري صاحبه بين خلع ٍ وتبديل وما شابه . ثم مفتاح يُستأنس به ، وقد يولج به إلى بحر أحدية الله وبحار أنواره ، وتجليات أنواع النور وألوانه ، والشفاء به والعافية ، ووضوح رؤيته وانكشاف حقائقه ، والترقي به ، كلما انخلع المستنير بنور الله من الدنيا وحتى من المطمع بالآخرة ، وحصر همه بربه الحبيب العظيم ، الحليم الكريم ، والرحمان الرحيم ، وكان هو وحده غايته ، ونعيمه وجنته ، ودنياه وآخرته ، داعياً إليه ، صابراً به ثابتاً على طاعته ، حريصاً شديد الحرص على رضاه وتقواه ، فلعله تعالى يبلغه به عليا درجات رضاه وحبه وقربه ، وهو قوله تبارك وتعالى : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكواة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دريٌّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم . في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبِّح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتاء الزكواة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيده من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب. سورة النور الآيات 35 ـ 38 } . ثم قوله جلَّت عظمته : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. سورة النور الآية 40 } . في بعض وجوه هذه الآية ، لباس التقوى ، أو اللباس النوراني ، وبديهي أن يجعله الله سبحانه لأهل طاعته من الرجال ومن النساء ، يعني لأهل الحشمة ، الذي يوقرون الله ملتزمين بأوامره منتهين بنواهيه . وعلى هذا ، يستحيل على رجل متهتك في سلوكه ، أو امرأة متهتكة أن يجعل الله لأحد منهما نوراً يستنير به في ظلمات الدنيا وظلمات الآخرة ، ولا سيما ظلمات يوم القيامة. قال تبارك وتعالى يصوِّر مشهداً من مشاهد هذا اليوم العظيم ، مشهداً ينبغي أن يستوقف من كان له ولو بعض البصر وبعض البصيرة ، لشدة ما فيه من الهول ومن عظيم العبرة قال سبحانه : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبله العذاب . ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأمانيُّ حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير . سورة الحديد الآيات 13 ـ 15 } . هذا المشهد من مشاهد يوم الحشر الطويل ، يبدو أنه في بقعة من الأرض مظلمة كثيرة الصخور والأشواك والعقبات ، يتخللها بعض الممرات والطرق ، بحيث أنه من لم يكن معه نور يستهدي به طريق النجاة ، لا بدَّ أن يتوقف عن السير ، أو أن يرتطم بصخرة أو شجرة ، أو ربوة ، أو يتعثر بصعود أو نزول ، شأن الأعمى الملزم بالسير في منطقة جبلية وعرة ، ولا بصيص نور ولا بصيص أمل ولا صديق حميم . فإذن ، في هذا المشهد ، ينقسم الناس فريقين ، فريق ( يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) فيضيء لهم مواطىء الأقدام ، وعامة الأرض وتضاريسها ومطباتها وطرق النجاة فيها ، هذا الفريق من البديهي أن يتقدم على الفريق الآخر الذي ( لم يجعل الله له نورا ) وهو ـ حسب الآيات ـ فريق المنافقين والمنافقات والكافرين والكافرات . هذا الفريق الظلماني يشاهد أهل النور يتقدمون ناشطين في دروب النجاة ، فينادونهم أن قفوا حتى نصل إليكم ونستفيد من نوركم . ينادونهم وقد شعروا بالداهية الدهياء التي هم فيها وبالغصص في حلوقهم ، فيسمعون صوتاً فيه نبرة الهزء والتحدي وإفهامهم أن نداءَهم دون جدوى ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ) ومن أين لهم النور ، ولم يجعل الله لهم نوراً أيام زمان ، أيام الحياة الدنيا ، ليكون برفقتهم وليكون لباسهم المضيء ، في ظلمات الحشر وأهوال يوم القيامة . وفوق هذا كله ، ولكي لا يستفيد الظلمانيون أية استفادة من أهل نور الله ، يرتفع بينهم جدار يفصل بين الفريقين ، جدار عال ٍ له بابٌ ، لإمكان أن يلجه من كان متخلفاً من أهل النور لسبب أو لآخر ، أو لقلة النور التي معه . أما باطن الجدار الذي من جهة المستنيرين بأنوار الله ، ففيه الرحمة ، أي الطمأنينة والسعادة ، وعناية الله ورعايته ورأفته وكرمه ، وأما ظاهر الجدار المقابل لأهل الظلام ، فيأتيهم من قبله العذاب ، ومن أنواعه الفزع القابض على الأعناق ، والعمى المفروض عليهم بسبب عدم وجود النور وبالتالي انعدام الرؤية . ثم الصدمة من جواب إخوانهم الذين من الواضح أنهم معروفون لديهم في الحياة الدنيا : ( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأمانيُّ حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغَرور ) والغرور هو الشيطان الرجيم . أما مصير الذين جعل الله لهم نوراً وألبسهم لباس التقوى ، فنعيم الله تبارك وتعالى ، ورضاه ورضوانه . وأما الذين لم يجعل الله لهم نوراً ، فقد خاطبهم سبحانه بقوله في سياق الآيات التي رأينا : ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير . ) . الحجاب والمجتمع : أيهما أكثر دلالة على المجتمع الفاضل ، نساء محتشمات عاملات بتعاليم الله من حيث المظهر والمسلك ؟ أم نساء هن أقرب إلى العري الفاضح ، الذي من جهة يسبب أذىً شديداً للفضلاء والأتقياء ، ومن جهة ثانية إغراءً للمراهقين وضعاف النفوس، يفعل فيهم فعلاً سلبياً بدءاً بتخريب نفوسهم مروراً بتخريب أبدانهم وانتهاء بما نرى من الفوضى الأخلاقية والإجتماعية التي تمارسها حضارة القرن العشرين وما يليه ، تحت عنوان الحرية ، ولكن تبين حتى عند كثير من أنصارها من المنصفين الشجعان أنها حرية مدمِّرة وقاتلة . فلتصلي شكراً لله ، كل امرأة وكل فتاة لم تركب قطار هذه الحرية الذاهب بالذين ركبوه من النساء والرجال .. إلى الجحيم . وليصلِّ شكراً لله ، كل رجل تعقَّل وتبصَّر واستجاب لأمر الله تبارك وتعالى ، فنجا من الحريق والغرق ، وأنجى من معه في دائرة مسؤوليته ، فكان مصداقاً حراً لقول الله جلَّ شأنه : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملآئكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . سورة التحريم الآية 6 } .
__________________
سماحة العلامة الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين لبنان - جبل عامل - عربصاليم |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |