
23-06-2021, 03:16 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,513
الدولة :
|
|
أم "أبي العلاء"
أم "أبي العلاء"
د. عبدالحكيم الأنيس
أديبٌ فيلسوفٌ، تجاوزتْ شهرتُه الآفاق، ودَرَسَ أدبَهُ وفلسفتَهُ علماءُ وباحثون ودارسون مِن الشرق والغرب، وعرف بـ "رهين المحبسين".
ذلك هو "أبو العلاء المعري" ومَن منَّا لم يَسمع بأبي العلاء؟
* * *
وُلِدَ في معرّة النُّعمان (بين حلب وحماه) يوم الجمعة في ربيع الأول سنة (363هـ)، وتوفي يوم الجمعة في ربيع الأول سنة (449هـ).
وعلى مدى (85) سنة عاشها لم يعرِفْ سوى العلم والأدب، فلا زوجةَ ولا ولد، ولا نزهة ولا متعة، ولكن جدٌّ وحزمٌ وعكوفٌ على الإملاء والتدريس وتقوُّتٌ على النبات فحسب!
وُلِدَ صحيحاً، وعمي من الجدري وله أربع سنين، غشى يمنى عينيه بياضٌ، وذهبت اليسرى تماماً...
وقام أبواه عليه ولم يدعاه، فقد قرأ على أبيه النحوَ واللغةَ في المعرة، ورعتْهُ أمُّهُ رعايةً لا نظيرَ لها، عرفنا هذا مِنْ قصيدته الطويلة التي رثى فيها أُمَّه وبكاها، إذ تُوفيتْ سنة (400هـ) وهو في طريق عودته من العراق، بعد أن أقام في بغداد سنة وسبعة أشهر.
* * *
تبلغُ هذه القصيدة (64) بيتاً - ولعل هذا العدد عمر أمه - أودع فيها مشاعرَه الأولى حين طرقت أنباءُ رحيلها سمعَه، ثم ختمها معظِّماً فضلَها ونعمتَها عليه، وفي القصيدة معانٍ رائعة، وصورٌ مبتكرة، وحزنٌ عميق، يُظْهِر تعلُّقَ أبي العلاء بأمه، وأثرَها البالغَ عليه، ورعايتَها الكبرى له، حتى إنه يشعر حين رحيلها أنه رضيعٌ في حضنها مع أنه في السابعة والثلاثين من عمره:
مضتْ وقد اكتهلتُ فخلتُ أنّي ♦♦♦ رضيعٌ ما بلغتُ مدى الفطامِ!
ويصوِّر فضلَها عليه تصويراً رائعاً فيقول:
ولو أنَّ النخيلَ شكيرُ جسمي ♦♦♦ ثناه حَمْلُ أنعُمُكِ الجسامِ
يقول: إنَّ جسمي لو كان عظيماً ضخماً حتى يكون النخلُ أمامه كالشَّعْر فيه لما استطاع أن يحملَ أنعُمَكِ الجسامَ عليه!
فأيُّ رعاية هذه الرعاية التي أولتها أمُّ "أحمد" له؟
حقاً إنها رعايةٌ عظيمة خلَّدتها عظمتُها أكثرَ مِنْ ألف سنة، وستظل تُذكر وتُشكر ما بقي شعرُ أبي العلاء يُقرأ ويُدرس في أنحاء الدنيا.
* * *
ومن الجميل الآن أنْ نقتطف أبياتاً من هذه المرثية الحزينة:
1- سمعتُ نعيَّها صمِّي صَمَامِ ♦♦♦ وإنْ قال العواذلُ لا هَمَامِ
سمعتُ بنبأ وفاة أمي، وهو الداهية الشديدة، التي يحقُّ للإنسان أن يَصَمَّ ولا يسمع بها، وإنْ قلل العواذلُ مِنْ وقع النبأ وقالوا: لا هَمَّ.
2- وأمَّتْني إلى الأجداثِ أمٌّ ♦♦♦ يعزُّ عليَّ أَنْ سارتْ أمامي
تقدَّمتني إلى القبور أمٌّ غالية، كنتُ أتمنى أنْ أموتَ قبلها، ولا أشهدَ يوم وفاتها.
3- وأُكبر أن يُرَثِّيها لساني ♦♦♦ بلفظٍ سالكٍ طُرُقَ الطعامِ
وشديدٌ عليَّ أنْ أرثيها بألفاظٍ تخرجُ من طريق الطعام، فحقُّها أكبرُ من ذلك، لو كانتْ هناك ألفاظ غير هذه الألفاظ.
4- يُقال فيهتِم الأنيابَ قولٌ ♦♦♦ يباشرُها بأنباءٍ عظامِ
إنَّ الإنسان يلفظ بفمه، ويأكل به الطعام، فإذا مرَّ لفظُ المرثية بالأسنان كسرها وألقاها لعظمه وثقله عليها.
5- كأنَّ نواجذي رُدِيَتْ بصخرٍ ♦♦♦ ولم يمرُرْ بِهِنَّ سوى كلامِ
كأنَّ أضراسي رُميت بصخرٍ فانكسرتْ، مع أنّه لم يمرر بهن سوى هذا الكلام.
ويريد الشاعرُ مِن هذه المبالغة أنْ يبيِّن أنَّ هذا الكلام الذي يقوله في رثاء أمه عظيمٌ شديدٌ، أودعه حرقةَ قلبه ولهفةَ نفسه بحيث أصبح يكسِر النواجذ.
6- ومَن لي أنْ أصوغَ الشُّهْبَ شعراً ♦♦♦ فأُلبِسَ قبرها سِمْطَي نظامِ
مَنْ يساعدني لأجعل النجومَ شعراً كالقلادتين، أُحيط بهما قبر أمِّي؟
7- مضتْ وقد اكتهلتُ، فخلتُ أني ♦♦♦ رضيعٌ ما بلغتُ مدى الفطامِ
رحلتْ أمي وأنا قد صرتُ كهلاً، ولكني ظننتُ نفسي ما زلتُ رضيعاً في حضنها، لم أبلغ سن الفطام.
8- فيا ركبَ المنونِ أما رسولٌ ♦♦♦ يبلِّغُ روحَها أَرَجَ السلامِ
9- ذكياً يُصْحَبُ الكافورُ منه ♦♦♦ بمثل المسكِ مفضوضَ الختامِ
يا ملائكةَ الموت هل أحدٌ منكم يبلِّغ روحَ أمي السلامَ الطيِّبَ المُعَطَّر برائحة الكافور والمسك المفتوح؟
ثم يقول:
15- سألتُ متى اللقاءُ؟ فقيل: حتى ♦♦♦ يقوم الهامدون مِن الرجامِ
16- ولو حدُّوا الفراقَ بعُمْر نَسْرٍ ♦♦♦ طفقتُ أعدُّ أعمارَ السِّمامِ
17- فليت أَذين يومِ الحشرِ نادى ♦♦♦ فأجهشتِ الرِّمامُ إلى الرِّمامِ
تساءلتُ متى سألتقي بأُمِّي مرة ثانية؟
فكان الجواب: لا لقاءَ إلى أن يُبعث الأمواتُ من قبورهم، وهذا وقتٌ طويلٌ، فلو حدَّدوا الوقت بعمر النسر ـ وهو معروف بطول العمر ـ لذهبتُ أعدُّ أعمارَ السمام ـ وهو نوعٌ من الطير لا يُوصف بطول العمر ـ على أمل أنْ أصلَ إلى عمر النسر، ولكن لا تحديد ولا علم بذلك، فليت المؤذِّن الذي يُعْلِمُ بيوم الحشر نادى مُعلناً بدءَ يوم الحشر، فاجتمعتِ العظامُ الباليةُ وتلاقتْ، لنقوم إلى الحشر وأرى أُمِّي هناك.
ثم يقول:
59- ولو أنَّ النخيلَ شكيرُ جسمي ♦♦♦ ثناه حَمْلُ أنعُمُكِ الجسامِ
وقد مضى شرحُه، وهو بيتٌ صادقٌ، يمثِّل فضلَ كلِّ أمٍ على ولدها، وقد اهتدى أبو العلاء إلى هذه الصورة الشعرية الجميلة لما في نفسه تُجاه أمه مِن شعور بالامتنان الكبير.
60- كفاني ريُّها مِنْ كل رِيٍّ ♦♦♦ إلى أن كدتُ أُحسَبُ في النَّعامِ
يقول: لقد كفاني حبُّ أُمِّي لي، وفضلُها علي، وإنعامُها إلي، عن الناس.
وعبَّر عن هذا كله بالري، فهو مرتوٍ منها لا يحتاج إلى ماء مِنْ سواها، حتى كاد يُحْسَبُ من النعام، والنعامُ يُوصف بأنه لا يَشرب الماء.
أرأينا إلى فضل هذه الأم التي أغنت ولدَها عن كل أحد سواها!
ثم ذهبَ يدعو لأمِّه ويقول:
63- سقتكِ الغادياتُ فما جَهامٌ ♦♦♦ أطلَّ على محلَّكِ بالجَهامِ
64- وقطرٌ كالبحار فلستُ أرضى ♦♦♦ بقَطْرٍ صابَ مِن خلَلِ الغمامِ
سقتْ قبرك يا أُمِّي السحائبُ، والجهامُ ـ وهو السحابُ الذي قد أراق ماءَه - هذا الجهام إذا مرَّ بقبرك صار فيه ماءٌ جديد، فمطر به.
وسقى قبرَك ماءٌ كمطر البحار، فلستُ أرضى بقطرٍ قليلٍ متقطع.
* * *
هذه لوحةٌ شعريةٌ صادقةٌ لتلك الأم العظيمة التي مرض ولدُها بالجدري، وذهب بعينيه، فجعلتْهُ بحبها وحنانها ورقة أحاسيسها يكتفي بها عمَّن سواها من كل الدنيا.
طيَّب اللهُ ثراك يا أم "أحمد".
فلقد كنتِ مثالاً عظيماً للأم التي ابتُلِيت فصبرتْ وصابرتْ، وكانت لابنها الأملَ والحبَّ والرجاء.
وهل تعلمين أنَّ ابنك حين مات وَقَفَ على قبره (84) شاعراً يرثونه؟
وهل تعلمين أنَّهم حين يرثونه ويعظمونه أنَّهم يرثونك أنتِ ويعظِّمونك؟
ومَنْ يدري فلعلكِ لو لم تكوني وراءه وإلى جانبه لما صار (أبا العلاء المعري)... ولولا رحيلُك لما لزم البيتَ وسمَّى نفسَه "رهين المحبسين".[1]
[1] المصادر:
-"وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/113).
-"الأعلام" للزركلي (1/175).
-"سقط الزند وضوءُه" للمعري ص603 - 632.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|