اعتبارات قَبُولِ الأحاديث الضعيفة. الشيخ الدكتور/ ذياب بن سعد الغامدي. - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4938 - عددالزوار : 2028008 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4513 - عددالزوار : 1304721 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 959 - عددالزوار : 122017 )           »          الصلاة دواء الروح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          أنين مسجد (4) وجوب صلاة الجماعة وأهميتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          عاشوراء بين ظهور الحق وزوال الباطل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          يكفي إهمالا يا أبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          فتنة التكاثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          حفظ اللسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          التحذير من الغيبة والشائعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى الاحاديث الضعيفة والموضوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الاحاديث الضعيفة والموضوعة ملتقى يختص بعرض الاحاديث الضعيفة والموضوعه من باب المعرفة والعلم وحتى لا يتم تداولها بين العامة والمنتديات الا بعد ذكر صحة وسند الحديث

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 10-06-2021, 04:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي اعتبارات قَبُولِ الأحاديث الضعيفة. الشيخ الدكتور/ ذياب بن سعد الغامدي.

اعْتِبَارَاتُ قَبُولِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ

مِنْ خِلالِ مَا مَضَى ذِكْرُهُ؛ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ على أدْعِيَاءِ الحَدِيْثِ الَّذِيْنَ تَنَاكَدَ عِلْمُهُم بأبْجَدِيَّاتِ «عِلْمِ العِلَلِ»؛ فَضْلًا عَنْ أغْوَارِهِ وأسْرَارِهِ، فمِنْ هُنَا كَانَ لَهُم تَغْبِيْرٌ مِنْ خِلالِ مُنَاكَفَةِ أحَادِيْثِ كُتُبِ السُّنَّةِ تَضْعِيْفًا ورَدًّا، بحُجَّة وُجُودِ عِلَّةٍ ذَكَرَهَا فُلانٌ وفُلانٌ، ولَوْ كَانَتْ خَفِيَّةً، لا تَصِلُ إلى القَدْحِ المُعْتَبَرِ!
حَتَّى إذَا غَبَرَ الزَّمَانُ، وطَالَ بالنَّاسِ الأمَدُ: انْتَشَرَ الجَهْلُ، وقَلَّ العِلْمُ، وكَثُرَ القُرَّاءُ وقَلَّ الفُقَهَاءُ... وهَكَذَا حَتَّى إذَا تَقَالَلْتَ المُحَدِّثِيْنَ ، وتَكَاثَرْتَ المُحْدَثِيْنَ: مَسَّ كَثِيْرًا مِنْ مُحَدِّثِي عَصْرِنَا ـ هَذِهِ الأيَّامَ ـ طَائِفٌ مِنَ الجَهْلِ بمنَاهِجِ المُحَدِّثِيْنَ في مَعْرِفَةِ قَبُوْلِ الأحَادِيْثِ النَّبَويَّةِ ورَدِّهَا؛ ولاسِيَّما فِيْمَا كَتَبُوهُ في دَوَاوِيْنِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ تَظَاهَرَ كَثِيْرٌ مِنْ إخْوانِنَا اليَوْمَ على تَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ النَّبَويَّةِ مُظَاهَرَةً لَيْسَ لهَا سَابِقَةٌ في تَارِيْخِ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ، تَحْتَ دَعَاوِي عَرِيْضَةٍ: كتَمْيِيْزِ الصَّحِيْحِ مِنَ الضَّعِيْفِ، ودَعْوَى أنَّ الصَّحِيْحَ يُغْنِي عَنِ الضَّعِيْفِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّعَاوِي الَّتِي ظَاهِرُهَا حَقٌّ، وبَاطِنُهَا دَعَاوِي عَرِيْضَةٌ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ!
وكُلُّنَا يَعْلَمُ الفَرْقَ بَيْنَ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ المُعْتَبَرِ ضَعْفُهُ، وبَيْنَ الضَّعِيْفِ المَعْرُوفِ وَضْعُهُ، أو فِيْهِ مُتَّهَمٌ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يَخْتَلِفُ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ في رَدِّهِ، وعَدَمِ الاحْتِجَاجِ بِهِ.
لِذَا؛ فَإنَّكَ تَجِدُ فَرْقًا ظَاهِرًا بَيْنَ المُتَقَدِّمِيْ نَ والمُتَأخِّرِيْ نَ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ في طَرِيْقَةِ التَّعَامُلِ مَعَ الأحَادِيْثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الضَّعْفُ، وهُوَ أنَّ غَالِبَ المُتَأخِّرِيْن َ رَدُّوْهَا مِنْ أصْلِهَا، وأسْقَطُوا دَلالاتِهَا، بدَعْوَى وُجُوْدِ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ، ولَوْ كَانَتْ خَفِيَّةً، وهُم مَعَ هَذَا يَظُنُّوْنَ أنَّهُم على جَادَّةِ المُتَقَدِّمِيْ نَ، وعَلَيْهِ نَصَّبَ بَعْضُهُم خِلافًا بَيْنَ مَنْهَجِ المُتَقَدِّمِيْ نَ والمُتَأخِّرِيْ نَ!
وما عَلِمَ أكْثَرُهُم أنَّ مَنْهَجَ المُتَقَدِّمِيْ نَ: هُوَ في حَقِيْقَتِهِ دَلِيْلٌ لأهْلِ الاعْتِدَالِ في تَعَامُلِهِم مَعَ الأحَادِيْثِ رَدًّا وقَبُولًا، بَلْ إخَالُهُ دَلِيْلًا على قَفْلِ بَابِ التَّضْعِيْفِ أمَامَ المُتَسارِعِيْن َ إلى تَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ الَّتِي لَيْسَ ضَعْفُهَا شَدِيْدًا، أو مُنْكَرًا، أو شَاذًّا، أو نَحْوَهُ مِمَّا لا يَصْلُحُ للاحْتِجَاجِ والاعْتِبَارِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ للجَمِيْعِ.
أمَّا المُتَقَدِّمُون َ فَكَانَ لهُم مَنْهَجٌ دَقِيْقٌ في تَعَامُلِهِم مَعَ قَبُوْلِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ والاحْتِجَاجِ بِهَا، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ اسْتِضَاءَاتٍ مَنْهَجِيَّةٍ، واعْتِبارَاتٍ حَدِيْثِيَّةٍ لا يُحْسِنُهَا بَعْضُ المُتَأخِّرِيْن َ، فمِنْ تِلْكُمُ المَنَارَاتِ المَنْهَجِيَّةِ ، والاعْتِبَارَات ِ الحَدِيْثِيَّةِ ، مَا يَلي باخْتِصَارٍ:
الاعْتِبَارُ الأوَّلُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي لَها أصْلٌ صَحِيْحٌ مِنَ القُرْآنِ، أو السُّنَّةِ، أو الإجْمَاعِ، كَمَا هُوَ ظِاهِرُ أكْثَرِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ، ولاسِيَّما الَّتِي بَابُهَا الفَضَائِلُ... مَعَ اعْتِبَارِ عَدَمِ مُخَالَفَتِهَا لشَيءٍ مِنَ الحَقِّ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الاعْتِبَارَاتِ الَّتِي لا يَسَعُهَا هَذَا المقَالُ المُخْتَصَرُ، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا بعْضُهُ.
قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في مُقَدِّمَةِ «التَّمْهِيْدِ» (60): «ورُبَّ حَدِيْثٍ ضَعِيْفِ الإسْنَادِ؛ صَحِيْحُ المَعْنَى».
* * *
الاعْتِبَارُ الثَّاني: أنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ في بَابِ الفَضَائِلِ.
فعِنْدَئِذٍ إذَا جَاءَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ في بَابِ الفَضَائِلِ، فَيَسِّرْ ولا تُعَسِّرْ، مَا لم يَكُنْ مَوْضُوْعًا، أو شَدِيْدَ الضَّعْفِ، أو مُخَالِفًا لشَيءٍ مِنَ الأُصُولِ.
ويَدُلُّ على هَذَا المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الحَدِيْثيِّ مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ العُجَابِ «إعْلامِ المُوقِّعِيْنَ» (1/25) عَنِ الأُصُولِ الفِقْهِيَّةِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الإمَامُ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ: «الأصْلُ الرَّابِعُ: الأخْذُ بِالمُرْسَلِ والحَدِيثِ الضَّعِيفِ، إذَا لَمْ يَكُنْ في البَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ، وهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ على القِيَاسِ، ولَيْسَ المُرَادُ بِالضَّعِيفِ عِنْدَهُ البَاطِلَ، ولا المُنْكَرَ، ولا مَا في رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيْثُ لا يَسُوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالعَمَلُ بِهِ... ـ ثُمَّ قَالَ ـ: ولِلضَّعِيفِ عِنْدَهُ مَرَاتِبُ، فَإذَا لَمْ يَجِدْ في البَابِ أثَرًا يَدْفَعُهُ، ولا قَوْلَ صَاحِبٍ، ولا إجْمَاعَ على خِلَافِهِ: كَانَ العَمَلُ بِهِ عِنْدَهُ أوْلَى مِنَ القِيَاسِ، ولَيْسَ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ إلَّا وهُوَ مُوَافِقُهُ على هَذَا الأصْلِ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةِ، فَإنَّهُ مَا مِنْهُمْ أحَدٌ إلَّا وقَدْ قَدَّمَ الحَدِيثَ الضَّعِيْفَ على القِيَاسِ» انْتَهَى كَلامُهُ.
وقَالَ الفُتُوحِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «شَرْحِ الكَوْكَبِ المُنِيْرِ» (2/573): «وقَالَ الخَلالُ: مَذْهَبُهُ ـ يَعْنِي: الإمَامَ أحْمَدَ ـ أنَّ الحَدِيثَ الضَّعِيفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ قَالَ بِهِ.
وقَالَ في كَفَّارَةِ وَطْءِ الحَائِضِ: مَذْهَبُهُ في الأحَادِيْثِ، إنْ كَانَتْ مُضْطَرِبَةً، ولَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ، قَالَ بِهَا.
وقَالَ أحْمَدُ في رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ: طَرِيقَتِي لَسْتُ أُخَالِفُ مَا ضَعُفَ مِنَ الحَدِيْثِ إذَا لَمْ يَكُنْ في البَابِ مَا يَدْفَعُهُ» انْتَهَى.
وبنَحْوِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ في «نُكَتِهِ» (2/313): «الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ العَمَلِ بالضَّعِيْفِ في الأحْكَامِ، يَنْبَغِي أنْ يُسْتَثْنى مِنْهُ صُوَرٌ:
أحَدُهَا: ألَّا يُوْجَدَ سِوَاهُ.
1ـ وقَدْ ذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ أنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ بالمُرْسَلِ إذَا لم يُوجَدْ دِلَالَةٌ سِوَاهُ، وقِيَاسُهُ في غَيْرِهِ، ومَنِ الضَّعِيْفِ كَذَلِك.
2ـ وقَدْ نُقِلَ عَنِ الإمَامِ أحْمَدَ: أنَّهُ يَعْمَلُ بالضَّعِيْفِ إذَا لم يُوجَدْ في البَابِ غَيْرُهُ، ولم يَكُنْ ثَمَّ مَا يُعَارِضُهُ.
قَالَ الأثْرَمُ: رَأيْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ إذَا كَانَ الحَدِيْثُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في إسْنَادِهِ شَيْء يَأْخُذُ بِهِ إذَا لم يَجِيء أثْبَتَ مِنْهُ، مِثْلُ حَدِيْثِ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، وإبْرَاهِيْمَ الهَجْريِّ، ورُبمَا أخَذَ بالمُرْسَلِ إذَا لم يَجِدْ خِلَافَهُ.
3ـ وقَالَ القَاضِي أبُو يَعْلى: «قَدْ أطْلَقَ أحْمَدُ القَوْلَ في الأخْذِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيْفِ».
فَقَالَ مُهَنَّا: «قَالَ أحْمَدُ: «النَّاسُ كُلُّهُم أكْفَاءُ إلَّا الحَائِكَ والحَجَّامَ والكَسَّاحَ»، فَقيْلَ لَهُ تَأْخُذُ بِحَدِيْثِ «كُلِّ النَّاسِ أكْفَاءُ»، وأنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ فَقَالَ: «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ».
4ـ وكَذَلِكَ قَالَ في رِوَايَة ابْنِ مُشَيْشٍ ـ وقَدْ سَألَهُ عَمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ ـ إلى أيِّ شَيءٍ تذْهَبُ في هَذَا؟ فَقَالَ: «إلى حَدِيْثِ حَكِيمِ بنِ جُبَيرٍ»، قُلْتُ: حَكِيمٌ ثَبْتٌ عِنْدَكَ في الحَدِيْثِ؟ قَالَ: «لَيْسَ هُوَ عِنْدِي ثَبْتًا في الحَدِيْثِ».
قَالَ القَاضِي: قَوْلُ أحْمَدَ: «ضَعِيْفٌ»، أيْ: على طَريقَةِ أصْحَابِ الحَدِيْثِ؛ لأنَّهُم يُضَعِّفُونَ بِمَا لا يُوْجِبُ تَضْعِيْفَهُ عِنْدَ الفُقَهَاءِ، كالإرْسَالِ، والتَّدْلِيْسِ، والتَّفَرُّدِ بِزِيَادَةٍ في الحَدِيْثِ.
وقَوْلُهُ: «والعَمَلُ عَلَيْهِ»، مَعْنَاهُ: طَريقَةُ الفُقَهَاءِ.
5ـ وقَالَ مُهَنَّا: «سَألْتُ أحْمَدَ عَنْ حَدِيْثِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «أنَّ غَيْلَانَ أسْلَمَ وعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ»، فَقَالَ: «لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، والعَمَلُ عَلَيْهِ، كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسْلًا» انَتْهَى كَلامُ الزَّرْكَشِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
قُلْتُ: إنَّ قَوْلَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ»: فِيْهِ رَدٌّ على كَثِيْرٍ مِنَ المُعَاصِرِيْنَ مِمَّنْ شُغِفَ بتَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ ولو بِوَجْهٍ عَلِيْلٍ!
وبِهَذَا تَعْلَمُ خَطَأ مَا جَنَحَ إلَيْهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ بأنَّ المَقْصُوْدَ بالضَّعِيْفِ عِنْدَ الإمَامِ أحْمَدَ: هُوَ الحَسَنُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ.
بَلِ الضَّعِيْفُ الَّذِي قَصَدَهُ أحْمَدُ: هُوَ الضَّعِيْفُ الاصْطِلاحِيِّ، والمُرَادُ بالاصْطِلاحِيِّ هُنَا: الضَّعِيْفُ اليَسِيْرُ المُعْتَبَرُ في الشَّوَاهِدِ والمُتَابَعَاتِ ، واللهُ تَعَالى أعْلَمُ.
وقَالَ الحَافِظُ البَيْهَقِيُّ في «دَلائِلِ النُّبُوَّةِ» (1/32): «فَصْلٌ: ومِمَّا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ في هَذَا البَابِ أنْ تَعْلَمَ: أنَّ الأخْبَارَ الخَاصَّةَ المَرْوِيَّةَ على ثَلاثَة أنْوَاعٍ:
نَوْعٌ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ بالحَدِيْثِ على صِحَّتِهِ، وهَذَا على ضَرْبَيْنِ:
أحَدُهُمَا: أنْ يَكُوْنَ مَرْوِيًّا مِنْ أوْجُهٍ كَثِيْرَةٍ، وطُرُقٍ شَتَّى؛ حَتَّى دَخَلَ في حَدِّ الاشْتِهَارِ، وبَعُدَ مَنْ تَوهُّمِ الخَطَأ فِيْهِ، أو تَوَاطَؤ الرِّوَايَة على الكَذِبِ فِيْهِ.
فهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الحَدِيْثِ يَحْصُلُ بِهِ العِلْمُ المُكْتَسَبُ... ثُمَّ ذَكَرَ أمْثِلَةً لهَذَا الضَّرْبِ.
والضَّرْبُ الثَّاني: أنْ يَكُوْنَ مَرْوِيًّا مِنْ جِهَةِ الآحَادِ، ويَكُوْنَ مُسْتَعْمَلًا في الدَّعَوَاتِ، والتَّرْغِيْبِ والتَّرْهِيْبِ، وفي الأحْكَامِ، كَمَا يَكُوْنُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ مُسْتَعْمَلَةً في الأحْكَامِ عِنْدَ الحُكَّامِ، وإنْ كَانَ يَجُوْزُ عَلَيْهَا وعلى المُخْبِرِ الخَطأُ والنِّسْيَانُ، لوُرُودِ نَصِّ الكِتَابِ بقَبُوْلِ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ، ووُرُودِ السُّنَّةِ بقَبُوْلِ خَبَرِ الوَاحِدِ إذَا كَانَ عَدْلًا مُسْتَجْمِعًا لشَرَائِطِ القَبُولِ فِيْمَا يُوْجِبُ العَمَلُ.
ثُمَّ قَالَ: وأمَّا النَّوْعُ الثَّاني مِنَ الأخْبَارِ، فَهِيَ أحَادِيْثُ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ بالحَدِيْثِ على ضَعْفِ مَخْرَجِهَا، وهَذَا النَّوْعُ على ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٌ رَوَاهُ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بوَضْعِ الحَدِيْثِ، والكَذِبِ فِيْهِ.
فهَذَا الضَّرْبُ لا يَكُوْنُ مُسْتَعْمَلًا في شَيءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّيْنِ إلَّا على وَجْهِ التَّلْيِيْنِ.
ثُمَّ قَالَ: وضَرْبٌ لا يَكُوْنُ رَاوِيْهِ مُتَّهَمًا بالوَضْعِ، غَيْرَ أنَّهُ عُرِفَ بِسُوءِ الحِفْظِ، وكَثْرَةِ الغَلَطِ في رِوَايَاتِهِ، أو يَكُوْنُ مَجْهُولًا لم يَثْبُتْ مِنْ عَدَالَتِهِ، وشَرَائِطِ قَبُوْلِ خَبَرِهِ مَا يُوْجِبُ القَبُولَ.
فهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الأحَادِيْثِ لا يَكُوْنُ مُسْتَعْمَلًا في الأحْكَامِ، كَمَا لا تَكوْنُ شَهَادَةُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ مَقْبَوْلَةً عِنْدَ الحُكَّامِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في الدَّعَوَاتِ والتَّرْغِيْبِ والتَّرْهِيْبِ، والتَّفْسِيْرِ، والمَغَازِي فِيْمَا لا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ».
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، أنَّهُ قَالَ: «إذَا رَويْنَا في الثَّوابِ والعِقَابِ وفَضَائِلِ الأعْمَالِ، تَسَاهَلْنَا في الأسَانِيْدِ، وتَسَامَحْنَا في الرِّجَالِ، وإذَا رَوَيْنَا في الحَلالِ والحَرَامِ والأحْكَامِ، تَشَدَّدْنَا في الأسَانِيْدِ، وانْتَقَدْنَا الرِّجَالَ».
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ يَحْيَ بنِ سَعِيْدٍ ـ يَعْنِي القَطَّان ـ: «تَسَاهَلُوا في التَّفْسِيْرِ عَنْ قَوْمٍ لا يُوثِّقُونَهُم في الحَدِيْثِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَيْثَ بْنَ أبِي سُلَيْمٍ، وجَويْبِرَ بنَ سَعِيْدٍ، والضَّحَّاكَ، ومُحَمَّدَ بنَ السَّائِبِ ـ يَعْنِي الكَلْبِيَّ ـ، وقَالَ: «هَؤلاءِ لا يُحْمَلُ حَدِيْثِهِم، ويُكْتَبُ التَّفْسِيْرُ عَنْهُم».
قَالَ البَيْهَقِيُّ: وإنَّما تَسَاهَلُوا في أخْذِ التَّفْسِيْرِ عَنْهُم؛ لأنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ ألْفَاظَهُ تَشْهَدُ لَهم بِهِ لُغَاتُ العَرَبِ، وإنَّمَا عَمَلُهُم في ذَلِكَ الجَمْعُ والتَّقْرِيْبُ فَقَطُ» انَتْهَى كَلامُ البَيْهَقِيِّ باخْتِصَارٍ.
قَالَ الحَافِظُ ابنُ الصَّلاحِ رَحِمَهُ اللهُ في «شَرْحِ التَّبْصِرَةِ» (1/349): «ولم يَرَوْا فُتْيَا العَالمِ على وَفْقِ حَدِيثٍ حُكمًا مِنْهُ بصِحَّةِ ذَلِكَ الحَدِيْثِ؛ لإمْكَانِ أنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أو لدَلِيْلٍ آخَرَ وَافقَ ذَلِكَ الخَبَرَ».
وقَالَ الحَافِظُ أبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ الإشْبِيليُّ رَحِمَهُ اللهُ في خُطْبَةِ كِتَابِهِ «الأحْكَامِ الوُسْطَى» (1/66): «ولم أتَعَرَّضْ لإخْرَاجِ الحَدِيْثِ المُعْتَلِّ كُلِّهِ، وإنَّمَا أخْرَجْتُ مِنْهُ يَسِيْرًا مِمَّا عُمِلَ بِهِ، أو بأكْثَرِهِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، واعْتُمِدَ عَلَيْهِ، وفُزِعَ عِنْدَ المُحَاجَّةِ إلَيْهِ» انَتْهَى.
قُلْتُ: وهَذِهِ طَرِيْقَةُ أبي دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ ، والنَّسَائِيِّ، وغَيْرِهِم: فَإنَّهُم يُوْرِدُوْنَ الأحَادِيْثَ الضَّعِيْفَةَ في الأحْكَامِ لأغْرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
ومَشَى على هَذِهِ الطَّرِيْقَةِ ـ إيْرَادُ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ مَعَ الصَّحِيْحِ والحَسَنِ ـ مَنْ جَاءَ بَعْدَ عَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيليِّ رَحِمَهُ اللهُ مِمَّنْ صَنَّفَ في أحَادِيْثِ الأحْكَامِ المُعَلَّقَةِ الأسَانِيْدِ، كالجَدِّ ابنِ تَيْمِيَّةَ في «مُنْتَقَى الأخْبَارِ»، وابنِ رُشْدٍ في «دَلائِلِ الأحْكَامِ»، وابنِ عَبْدِ الهَادِي في «المُحَرَّرِ»، وابنِ حَجَرٍ في «بُلُوغِ المَرامِ»، وغَيْرِهِم مِنْ أصْحَابِ كُتُبِ أحَادِيْثِ الأحْكَامِ.
* * *
الاعْتِبَارُ الثَّالِثُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عَمَلُ المُسْلِمِيْنَ جِيْلًا بَعْدَ جِيْلٍ، ومِثْلُ هَذَا كَثِيْرٌ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ.
قَالَ مُهَنَّا: «سَألْتُ أحْمَدَ عَنْ حَدِيْثِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «أنَّ غَيْلَانَ أسْلَمَ وعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ»، فَقَالَ: «لَيْسَ بِصَحِيْحٍ، والعَمَلُ عَلَيْهِ، كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَقُولُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسْلًا».
فَقَالَ مُهَنَّا: «قَالَ أحْمَدُ: «النَّاسُ كُلُّهُم أكْفَاءُ إلَّا الحَائِكَ والحَجَّامَ والكَسَّاحَ»، فَقيْلَ لَهُ تَأْخُذُ بِحَدِيْثِ «كُلِّ النَّاسِ أكْفَاءُ»، وأنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ فَقَالَ: «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ»، كَمَا مَرَّ مَعَنَا آنِفًا مِنْ كَلامِ الزَّرْكَشِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
قُلْتُ: إنَّ قَوْلَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ «إنَّمَا يُضَعَّفُ إسْنَادُهُ، ولَكِنَّ العَمَلَ عَلَيْهِ»: فِيْهِ رَدٌّ على كَثِيْرٍ مِنَ المُعَاصِرِيْنَ مِمَّنْ شُغِفَ بتَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ ولو بِوَجْهٍ عَلِيْلٍ!
فمَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ هَذِهِ الدَّلالاتِ والاعْتِبَارَات ِ في التَّعَامُلِ مَعَ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أئِمَّةُ الحَدِيْثِ، فَسَوْفَ يَقَعُ في مُغَالَطَاتٍ مَنْهَجِيَّةٍ تَدْفَعُهُ ضَرُوْرَةً إلى مُشَارَبَةِ مُحْدَثَاتِ «تَضْعِيْفِ الأحَادِيْثِ»، واللهُ الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
انْظُرْ كِتَابَ: «كَشْفِ اللِّثَامِ عَنِ الأحَادِيْثِ الضَّعِيْفَةِ في الأحْكَامِ المَعْمُولِ بِهَا عِنْدَ الأئِمَّةِ الأعْلامِ» للشَّيْخِ سَعِيْدٍ باشَنْفَر، وهُوَ كِتَابٌ جَيِّدٌ في بَابِهِ؛ إلَّا أنَّهُ مُقْتَصِرٌ على الأحَادِيْثِ الَّتِي أعَلَّهَا التِّرْمِذِيُّ، وعَمِلَ بِهَا العُلَمَاءُ أو بَعْضُهُم، كَمَا ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ نَفْسُهُ.
* * *
الاعْتِبَارُ الرَّابِعُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي وَقَعَ الإجْمَاعُ على العَمَلِ بظَاهِرِهَا.
وهَذَا الاعْتِبَارُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، باعْتِبَارِ حُجِّيَّةِ الإجْمَاعِ بغَضِّ النَّظَرِ عَنْ ضَعْفِ الحَدِيْثِ؛ لِذَا كَانَ على مَنْ ظَهَرَ لَهُ ضَعْفُ حَدِيْثٍ في مَسْألَةٍ مِنَ المَسَائِلِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ الإجْمَاعُ عَلَيْهَا: ألَّا يَقْتَصِرَ على ضَعْفِ الحَدِيْثِ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يُقَوِّيَ ضَعْفَهُ بدَلالَةِ الإجْمَاعِ، أو أنْ يَذْكُرَ ضَعْفَهُ والإجْمَاعَ القَائِمَ مَعًا؛ لتَبْقَى المَسْألَةُ في أصْلِهَا مَشْرُوعَةً طَلَبًا أو مَنْعًا.
فمِنْ أجْلِ هَذَا؛ فإنِّنَا قَدْ وَجَدْنَا أحَادِيْثَ ضَعِيْفَةً كَثِيْرَةً قَدِ انْجَبَر ضَعْفُهَا بحِكَايَةِ الإجْمَاعِ على دَلالاتِهَا، سَوَاءٌ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بالفَضَائِلِ، أو بالأحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ، أو بالمَسَائِلِ العَقَدِيَّةِ.
لِذَا؛ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّصِيْحَةِ الإيْمَانِيَّةِ : الاقْتِصَارُ على ذِكْرِ ضَعْفِ حَدِيْثِ المَسْألَةِ دُوْنَ ذِكْرِ أصْلِ مَشْرُوعِيَّتِه َا بطَرِيْقِ الإجْمَاعِ الثَّابِتِ.
انْظُرْ كِتَابَ «أحَادِيْثَ ضِعَافٍ وعَلَيْهَا العَمَلُ بغَيْرِ خِلافٍ» للأخِ عَاطِفِ بنِ حَسَنٍ الفَارُوقيِّ، فَهُوَ كِتَابٌ جَيِّدٌ في تَحْرِيْرِ هَذَا الاعْتِبَارِ، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا.
* * *
الاعْتِبَارُ الخَامِسُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي صَحَّ العَمَلُ بِهَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ، أو التَّابِعِيْنَ، وهَذِهِ طَرِيْقَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في تَقْوِيَةِ المُرْسَلِ.
قَالَ البُلقِينيُّ في «مَحَاسِنِ الاصْطِلاحِ» (138): «وأطْلَقَ قَوْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أنَّهُ يَحْتَجُّ بالمُرسَلِ إذَا أُسْنِدَ أو أُرْسِلَ مِنْ طَرْيقٍ آخَرَ، أو عَضَدَهُ قِيَاسٌ، أو قَوْلُ صَحَابيٍّ، أو فِعْلُ صَحَابيٍّ، أو يَكُوْنُ قَوْلَ الأكْثَرِيْنَ، أو يُنْشَرُ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ، أو عَمِلَ بِهِ أهْلُ العَصْرِ، زَادَ المَاوَرْدِيُّ: أنَّ المُرْسَلَ يُحتَجُّ بِه إذَا لم تَوْجَدْ دَلالَةٌ سِوَاهُ».
قُلْتُ: مِمَّا لا شَكَّ فِيْهِ أنَّ الإمَامَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ هُوَ مِنْ أوَائِلِ المُحَدِّثِيْنَ الَّذِيْنَ أصَّلُوا مَسْلَكَ تَقْوِيَةِ الحَدِيْثِ الضَّعِيْفِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ تَقْوِيَتِهِ للحَدِيْثِ المُرْسَلِ، الَّذِي يُعَدُّ عِنْدَهُ حَدِيْثًا ضَعِيْفًا، على خِلافِ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ ، كالإمَامِ مَالِكٍ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ لأسْبَابٍ، مِنْ أهَمِّهَا عِلْمُهُ بمَخْرَجِهِ، واتِّصَالُهُ مِنْ أوْجُهٍ، وغَيْرُ ذَلِكَ.
ويُوَضِّحُ لَنَا الإمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مَنْهَجَهُ في تَقْوِيَةِ المُرْسَلِ بكَلامٍ طَوِيْلٍ مُفَصَّلٍ لا تُخْطِئُهُ الحَقِيْقَةُ والصَّوَابُ؛ حَيْثُ قَالَ في كِتَابِهِ «الرِّسَالَةِ» (461) جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: فَهَلْ تَقُوْمُ بالحَدِيْثِ المُنْقَطِعِ حُجَّةٌ على مَنْ عَلِمَهُ؟ وهَلْ يَخْتَلِفُ المُنْقَطِعُ؟ أو هُوَ وغَيْرُهُ سَوَاءٌ؟
فقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: «المُنْقَطِعُ مُخْتَلِفٌ: فَمَنْ شَاهَدَ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ مِنَ التَّابِعِيْنَ، فَحَدَّثَ حَدِيْثًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّبِيِّ: اعْتُبِرَ عَلَيْهِ بأُمُورٍ:
مِنْهَا: أنْ يُنْظَرَ إلى مَا أرْسَلَ مِنَ الحَدِيْثِ، فإنْ شَرِكَهُ فِيْهِ الحُفَّاظُ المَأمُونُونَ، فأسْنَدُوهُ إلى رَسُولِ اللهِ بمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى: كَانَتْ هَذِهِ دِلالَةً على صِحَّةِ مَنْ قَبِلَ عَنْهُ وحِفْظِهِ.
وإنِ انْفَرَدَ بإرْسَالِ حَدِيْثٍ لم يَشْرَكْهُ فِيْهِ مَنْ يُسْنِدُهُ قُبِلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.
ويُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بأنْ يُنْظَرَ: هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلُ غَيْرِهِ مِمَّنْ قُبِلَ العِلْمُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ رِجَالِهِ الَّذِيْنَ قُبِلَ عَنْهُم؟
فَإنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَتْ دِلالةً يَقْوَى لَهُ مُرْسَلُهُ، وهِيَ أضْعَفُ مِنَ الأُوْلى.
وإنْ لم يُوْجَدْ ذَلِكَ نُظِرَ إلى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ قَولًا لَهُ، فَإنْ وُجِدَ يُوافِقُ مَا رَوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ كَانَتْ في هَذِهِ دِلالةٌ على أنَّهُ لم يَأخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عَنْ أصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللهُ.
وكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامٌّ مِنْ أهْلِ العِلْمِ يُفْتُونَ بمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ يُعْتَبَرُ عَلَيْهِ: بأنْ يَكُوْنَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لم يُسَمِّ مَجْهُولًا، ولا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، فيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ على صِحَّتِهِ فِيْمَا رَوَى عَنْهُ.
ويَكُوْنَ إذَا شَرِكَ أحَدًا مِنَ الحُفَّاظِ في حَدِيْثِ لم يُخَالِفْهُ، فإنْ خَالَفَهُ وُجِدَ حَدِيْثُهُ أنْقَصَ: كَانَتْ في هَذِهِ دَلائِلُ على صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيْثِهِ.
ومَتَى مَا خَالَفَ مَا وَصَفْتُ أضَرَّ بحَدِيْثِهِ؛ حَتَّى لا يَسَعْ أحَدًا مِنْهُم قَبُولُ مُرْسَلِهِ.
قَالَ: وإذَا وَجَدَّتَ الدَّلائِلَ بِصِحَّةِ حَدِيْثِهِ بِمَا وَصَفْتُ أحْبَبْنَا أنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ، ولا نَسْتَطِيْعُ أنْ نَزْعُمَ أنَّ الحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بالمُوتَّصِلِ.
وذَلِكَ أنَّ مَعْنَى المُنْقَطِعِ مُغَيَّبٌ:
يَحْتَمِلُ أنْ يَكُوْنَ حُمِلَ عَنْ مَنْ يُرْغَبُ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إذَا سُمِّي.
وإنَّ بَعْضَ المُنْقَطِعَاتِ ـ وإنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ ـ فَقَدْ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُوْنَ مَخْرَجُهَا وَاحِدًا، مِنْ حَيْثُ لَوْ سُمِّيَ لم يُقْبَلْ.
وأنَّ قَوْلَ بَعْضِ أصْحَابِ النَّبِيِّ ـ إذَا قَالَ برَأيِهِ لَوْ وَافَقَهُ ـ يَدُلُّ على صِحَّةِ مَخْرَجِ الحَدِيْثِ، دِلالةً قَوِيَّةً إذَا نُظَرَ فِيْهَا، ويُمْكِنُ أنْ يَكُوْنَ إنَّمَا غَلِطَ بِهِ حَيْنَ سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ أصْحَابِ النَّبِيِّ يُوَافِقُهُ، ويَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا فِيْمَنْ وَافَقَهُ مِنْ بَعْضِ الفُقَهَاءِ.
فأمَّا مَنْ بَعْدَ كِبَارِ التَّابِعِيْنَ الَّذِيْنَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُم لبَعْضِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ: فَلا أعْلَمُ مِنْهُم وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ لأُمُورٍ:
أحَدُهَا: أنَّهُم أشَدُّ تَجَوُّزًا فِيْمَنْ يَرْوُونَ عَنْهُ.
والآخَرُ: أنَّهُم يُوْجَدُ عَلَيْهِم الدَّلائِلُ فِيْمَا أرْسَلُوا بضَعْفِ مَخْرَجِهِ.
والآخَرُ: كَثْرَةُ الإحَالَةِ، كَانَ أمْكَنَ للوَهَمِ وضَعْفِ مَنْ يُقْبَلُ عَنْهُ» انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى.
قُلْتُ: وكَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ هُنَا لا يَحْتَاجُ إلى مَزِيْدِ بَيَانٍ، ولا إلى تَوْضِيْحِ مَعَانٍ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ الإمَامَ الشَّافِعِيَّ نَفْسَهُ، قَدْ مَثَّلَ لكَلامِهِ هَذَا بأحَادِيْثَ كَثِيْرَةٍ جِدًّا، بَعْضُهَا في كُتُبِهِ، وبَعْضُهَا فِيْمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ أصْحَابُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشَّيءُ الَّذِي لا مَزِيْدَ عَلَيْهِ.
* * *
الاعْتِبَارُ السَّادِسُ: أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الضَّعِيْفُ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا المَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ، أو القَواعِدُ الفِقْهِيَّةُ العَامَّةُ المُعْتَبَرةُ، مِثْلُ حَدِيْثِ الدُّخُولِ بالرِّجْلِ اليُمْنَى والخُرُوجِ باليُسْرَى، كدَخُولِ المَسْجِدِ والبَيْتِ ونَحْوِهِمَا، وكَذَا الاقْتِصَارِ على عَقْدِ أنَامِلِ اليَدِ اليُمْنَى في أذْكَارِ الصَّلاةِ بَعْدَ السَّلامِ.
قُلْتُ: لَقَدْ وَرَدَتْ بَعْضُ الأحَادِيْثِ الدَّالَةِ على مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ بالرِّجْلِ اليُمْنَى والخُرُوجِ باليُسْرَى فِيْمَا حَقُّهُ تَقْدِيْمُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، كالمَسْجِدِ والبَيْتِ ونَحْوِهِمَا؛ إلَّا أنَّ بَعْضَهَا لم يَسْلَمْ مِنْ تَضْعِيْفِ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ؛ لكِنَّهَا أحَادِيْثُ قَدْ تَقْوَى مِنْ وُجُوهٍ اعْتِبَارِيَّةٍ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيْثِ، كَمَا أنَّهَا تَتَقَوَّى أيْضًا ببَعْضِ القَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، الأمْرُ الَّذِي دَفَعَ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ إلى تَصْحِيْحِهَا أو تَحْسِيْنِهَا، كَمَا سَيَأتي ذِكْرُ بَعْضِهِ.
قُلْتُ: ثَبَتَ مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ: أنَّ اليَدَ والرِّجْلَ اليُسْرَى تُشَارِكُ اليُمْنَى فِيْما لا يَتِمُّ إلَّا بذَلِكَ، كالدُّخُولِ للبَيْتِ والمَسْجِدِ، وكالرَّفْعِ في الدُّعَاءِ وعِنْدَ التَّكْبِيْرِ للصَّلاةِ وغَيْرِهِ، ومَا جَازَ فِيْهِ التَّخْيِيْرِ فاليُمْنَى لهَا مِنْهُ التَّكْرِيْمُ، واليُسْرَى لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأذَى ونَحْوِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في «المِنْهَاجِ» (3/160): «قَوْلهَا: «كَانَ ﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ في طُهُوْرِهِ إذَا تَطَهَّرَ، وفي تَرَجُّلِهِ إذَا تَرَجَّلَ، وفي انْتِعَالِهِ إذَا انْتَعَلَ»: هَذِهِ قَاعِدَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ في الشَّرْعِ، وهِيَ إنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ والتَّشْرِيفِ: كَلُبْسِ الثَّوْبِ والسَّرَاوِيلِ والخُفِّ ودُخُوْلِ المَسْجِدِ والسِّواكِ والِاكْتِحَال، وتَقْلِيمِ الأظْفَارِ، وقَصِّ الشَّارِبِ، وتَرْجِيْلِ الشَّعْرِ وهُوَ مَشْطُهُ، ونَتْفِ الإبِطِ، وحَلْقِ الرَّأْسِ، والسَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ، وغَسْلِ أعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، والخُرُوجِ مِنَ الخَلَاء، والأكْلِ والشُّرْبِ، والمُصَافَحَةِ، واسْتِلَامِ الحَجَرِ الأسْودِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ في مَعْنَاهُ: يُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِيْهِ.
وأمَّا مَا كَانَ بِضِدِّهِ: كَدُخُولِ الخَلَاءِ والخُرُوجِ مِنَ المَسْجِد والامْتِخَاطِ والِاسْتِنْجَاء ِ وخَلْعِ الثَّوْبِ والسَّرَاوِيلِ والخُفِّ ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ التَّيَاسُرُ فِيهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ بِكَرَامَةِ اليَمِينِ وشَرَفِهَا، واللهُ أعْلَمُ» انْتَهَى.
وقَدْ حَرَّرَ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ القَاعِدَةَ بِما فِيْهِ كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ، وذَلِكَ في التَّعَامُلِ مَعَ الأفْعَالِ باعْتِبَارِ اسْتِعْمالِ اليُمْنَى أو اليُسْرَى، كمَا يَلي:
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ في «مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى» (21/108): «والأفْعَالُ نَوْعَانِ: أحَدُهُمَا: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ العُضْويْنِ.
والثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِأحَدِهِمَا.
وقَدْ اسْتَقَرَّتْ قَواعِدُ الشَّرِيعَةِ على أنَّ الأفْعَالَ الَّتِي تَشْتَرِكُ فِيهَا اليُمْنَى واليُسْرَى: تُقَدَّمُ فِيهَا اليُمْنَى إذَا كَانَتْ مِنْ بَابِ الكَرَامَةِ؛ كَالوُضُوءِ والغُسْلِ والِابْتِدَاءِ بِالشِّقِّ الأيْمَنِ في السِّواكِ؛ ونَتْفِ الإبِطِ؛ وكَاللِّبَاسِ؛ والِانْتِعَالِ والتَّرَجُّلِ ودُخُولِ المَسْجِدِ والمَنْزِلِ والخُرُوجِ مِنَ الخَلَاءِ ونَحْوِ ذَلِكَ.
وتُقَدَّمُ اليُسْرَى في ضِدِّ ذَلِكَ كَدُخُولِ الخَلَاءِ وخَلْعِ النَّعْلِ والخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 139.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 137.67 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]