مقياس الكثرة ودلالاته الموضوعية في النقد الأدبي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1249 - عددالزوار : 136612 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 5543 )           »          السَّدَاد فيما اتفقا عليه البخاري ومسلم في المتن والإسناد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 8176 )           »          ميزة جديدة لمتصفح كروم بنظام أندرويد 15 تتيح إخفاء البيانات الحساسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          كل ما تحتاج معرفته عن ميزة الصورة المستطيلة بإنستجرام.. اعرف التفاصيل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتفى iPhone 14 Plus وGoogle Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          احمِ أطفالك من الإنترنت.. احذر ألعاب الفيديو لحماية أبنائك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          أبل تعمل على جهاز بشاشة تشبه شاشة الآيباد مع ذراع آلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          طفلك يستخدم تطبيقات الموبايل سرا دون علمك.. كيف تكتشف ذلك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أدوات مهمة هتساعدك للحد من استخدام طفلك للإنترنت.. جربها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 24-05-2021, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,985
الدولة : Egypt
افتراضي مقياس الكثرة ودلالاته الموضوعية في النقد الأدبي

مقياس الكثرة ودلالاته الموضوعية في النقد الأدبي


عبدالله بن صالح العريني



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


أما بعد:
فليس ثمة خلاف حول أهمية عنصر النوعية في العمل الأدبي، وأن الكيف هو الأهمُّ في تقدير قيمة النص شعرًا كان أم نثرًا، لكن الملاحَظ أن الإلحاح على أهمية ذلك العنصر يُوحِي بأن عنصر الكم لا وزن له ولا قيمة، وكأن مقياس الكثرة مقياس غير معتدٍّ في الحياة الأدبية، ومن هنا راح هذا البحث يتساءل:
هل عنصر الكثرة عنصر هامشي؟
أليس لعنصر الكثرة دلالة على النوعية بوجه من الوجوه؟
وإذا كان لمقياس الكثرة قدرٌ من الأهمية فما درجة تلك الأهمية؟
وما مظاهر الاهتمام بهذا المقياس؟
وما المجالات التي يبدو فيها مقياس الكثرة مؤثِّرًا فاعلاً؟


إن في تراثنا النقدي ما يدلُّ بوضوح على الاهتمام بعنصر الكم والاعتداد به، والتعويل عليه؛ حيث نجد الناقد العربي أبا سعيد عبدالملك بن قريب (الأصمعي) قد ربط ربطًا وثيقًا بين عنصر الكثرة الشعرية، وبيَّن استحقاق الشاعر لقب (الفحولة)، ولم يكن أخذه بهذا المقياس أمرًا عارضًا، بل بدا حكمًا نقديًّا مقصودًا ركَّز عليه كثيرًا، وجعله أساسًا لإطلاق صفة الفحولة على الشاعر، أو سلبها منه.

فهو يرى أن الشاعر لا يستحقُّ وصفه بالفحولة إذا قال قصيدة واحدة، مهما بدت رائعة بديعة، بل يؤكِّد مرات متعددة، على أن عنصر الكثرة له أثره ومكانته في استحقاق الشاعر تلك الصفة، (فالحويدرة) لو قال مثل قصيدته خمس قصائد كان فحلاً.

و(ثعلبة بن صُعير المازني) لو قال مثل قصيدته خمسًا كان فحلاً[1]، و(معقر البارقي) لو أتمَّ خمسًا أو ستًّا لكان فحلاً[2].

وكان ذلك التأكيد المتتابِع لأهمية عنصر الكثرة من ناقد له خطره كالأصمعي دليلاً على أن جانب الكثرة في الشعر ليس أمرًا ثانويًّا، بل هو عامل حاسم مهمٌّ في استحقاق الشاعر منزلة عالية، وإدراج اسمه ضمن الفحول من الشعراء.

ولم أكن أتوقَّع لهذا المقياس ذلك الحضور، وتلك الأهمية في المصطلح النقدي، والأحكام النقدية المختلفة، فإذا بي أجده عنصرًا مؤثرًا، جديرًا بأن يلقى عناية الدارسين والباحثين في الدراسات النقدية.

ولكن يبدو أن المفاضلة المطلقة بين عنصري(الكم) و(الكيف) في العمل الأدبي قد أدَّت إلى غمط هذا المقياس حقَّه، وكان من المتوقَّع أن يُنظَر إليهما على أنهما وجهان لعملة واحدة، تمامًا مثلما يُنظَر إلى كل واحد من اللفظ والمعنى في النص الأدبي.

والمقصود بالكثرة في هذا البحث ما يُقابِل القِلَّة في أيِّ قضية أو مصطلح، أو منحًى نقدي، وهي بهذا المعنى تمثِّل قيمة معيارية ذاتية يهدف هذا البحث إلى إيضاح أهميتها وتجليته، وإبراز أن هذا العنصر له دلالته واعتباره في النقد الأدبي.

ونظرًا لعدم وقوفي على دراسة علمية في هذا الشأن، فقد كان من الضروري استقراء هذا الموضوع بمراجعة كتب النقد الأدبي لأخذ المادة العلمية لهذا البحث منها، وترتيبها ضمن المباحث المتعددة، وإثرائها بالشواهد النقدية والشعرية، وتحليلها ودراستها للوصول إلى الرأي العلمي المناسب.

ولعل في هذا البحث المتواضِع ما يكشف عن أهمية مقياس الكثرة، ومنزلته التي يحتلُّها في الأحكام النقدية ومناهج النقد وقضاياه، ويعطيه مكانته التي أبانت عنها مباحثه على النحو التالي:
مقياس الكثرة وأثره في المصطلح النقدي.
مقياس الكثرة وأثره في الفن الشعري.
مقياس الكثرة وأثره في المناهج النقدية.
مقياس الكثرة وأثره في قضايا النقد الأدبي.
مقياس الكثرة وأثره في مجالات الحكم النقدي.
هذا، وأسأل الله - تعالى - أن ينفع بهذا البحث، وأن يجعل فيه إضافة طيبة لمكتبة النقد الأدبي.
والله الموفِّق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


المبحث الأول: مقياس الكثرة وأثره في المصطلح النقدي:
يقوم عددٌ من المصطلحات النقدية في النقد العربي القديم على أساس عنصر الكثرة؛ ولذلك فهو عامل أصيل مهمٌّ في تكوينها وبنائها، ومن ذلك المصطلحات النقدية التالية:
1- السبع الطوال:
وهي المعلقات السبع، ولفظ الطول هذا مُؤذِن بكثرة الأبيات التي تقوم عليها كل معلقة من تلك المعلقات السبع، قال أبو عبيدة: "امرؤ القيس أشعر الناس، ثم زهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة، قال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال"[3].

وهي المعلقات السبع، ولا شك في أن وفرة تلك الأبيات وكثرتها قد زاد من أهمية المعلقة الواحدة، فامتدَّ الجمال الشعري والإبداع الرائع عبر أبيات كثيرة جعلت تلك القصيدة مطوَّلة من المطوَّلات الشعرية في العصر الجاهلي، ولربما لو لم تكن أبيات المعلقات كثيرةً تمنحها طولاً ونفسًا شعريًّا كبيرين، لما حظيت تلك القصائد بما حظيت به من إقبال النقَّاد ومتذوِّقي الأدب لها، وجميعها في الذروة من شعر العصر الجاهلي[4].

2- سيرورة الشعر:
وذلك يعني كثرة الذين يتناقلون نصًّا شعريًّا ويرْوُونه، ومِمَّن شُهِد له بسيرورة الشعر جريرٌ، وقد أقرَّ له بذلك الأخطل.

فحين تذاكر الفرزدق والأخطل جريرًا، قال الأخطل: "والله إنك وإياي لأشعر منه، غير أنه قد أُعطِي من سيرورة الشعر شيئًا ما أُعطِيه أحدٌ"[5]، وكثرة محبِّي الشاعر تقضي له بالسيرورة والانتشار ووفرة أعداد المشجِّعين الذين يميلون إليه، ويفضِّلونه على الشعراء الآخرين.

ولابن رشيق قولته المشهورة: "... ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس"[6]، وهي عبارة نقدية تضمَّنت حكمًا لأبي الطيب، وأن شعره كثير التداوُل بين الناس، بل لعل الشاعر عرف ذلك فقال مدلاًّ بذلك ومباهيًا به:
أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقَ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ [7]

3- الشاعر المكثِر:
وفي هذا المصطلح نرى التأكيد على وجود عنصر الكثرة في شعر شاعر، أو عدد من الشعراء، وقد ورد ذلك المصطلح في قول الآمدي: "... وربما سَلِم الشاعر المكثر من ذلك البتة"[8].

كما وصف الآمديُّ أبا تمام والبحتريَّ بأنهما: "شاعران مكثران"[9].

4- طول النفس:
وهو يدلُّ على كثرة الأبيات في القصيدة الواحدة؛ إذ إن الشاعر المقتدر لا تضطرب دلاؤه، ولا يكدي بمجرَّد قول بضعة أبيات، بل يمضي في شعره متنقِّلاً من بيت إلى آخَر في رحلة شعرية طويلة تدلُّ على أن مخزونه الشعري وفير، وأن ذخيرته الإبداعية ثرَّة، حتى إن أبا العتاهية كثيرًا ما يفتخر بقصيدته ذات الأمثال التي اشتملت على أربعة آلاف مثَل، وهي قصيدة طويلة ضاع أكثر أبياتها[10]، ومن ذلك وصف ابن بسام لعبدالرحمن الخطابي بأنه "شاعر طويل النفس"[11].

ويؤكد عز الدين إسماعيل أن هناك علاقة بين "الطول في الأعمال الفنية وبين التعقيد والعظمة، ويمكن الانتهاء إلى قاعدة عامة هي أن السطر الواحد من الشعر أو القطعة الواحدة تتهيَّأ لها فرصة أوسع لأن تكون عظيمة إذا هي جاءت في عمل شعري طويل، ومعنى هذا أن التعقيد يصعب تحقيقه في الحيز المحدود"[12].

5- الظاهرة الأدبية[13]:
والأصل في صحة إطلاق الوصف بالظاهرة كثرة الشيء؛ إذ لو بقي الأمر في صورة ضعيفة ووجود قليل لما استحقَّ أن يطلق عليه (ظاهرة)، فمقياس الكثرة حاسم في تسمية الشيء بالظاهرة، سواء أكان ذلك في إطار شعر شاعر أو شعر مدرسة معيَّنة، أو عصر من العصور بحيث يمكن ملاحظتها[14]، ومن ذلك أمكن أن يُقال على سبيل المثال:
1- ظاهرة التأثر والتأثير في الأدب العربي[15].
2- ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي[16].
3- ظاهرة الكدية في الأدب العربي[17].

6- الفحولة:
وسياق هذا المصطلح يدلُّ على عظمة الشاعر واقتداره، ومكانته الشعرية العالية، وأن له مزية على غيره[18].

وقد ربط الناقد العربي (الأصمعي) بين استحقاق هذا اللقب وعنصر الكثرة الشعرية ربطًا وثيقًا؛ لأن الإبداع كما يراه هذا الناقد لا يصحُّ أن يبدو كبرق خلب في سماء الأديب، وإنما المنتظَر منه أن يدعم إبداعه بإنتاج وفير، فصاحب القصيدة الواحدة أو القصيدتين لا يستحقُّ أن يُطلَق عليه لقب فحل الذي من شرطه كثرة الإبداع، وتبعًا لهذا المقياس قام الأصمعي بتصنيف الشعراء بحسب درجة قربهم من رتبة الفحولة أو بُعْدِهم عنها، فمن ذلك قوله عن أوس بن غلفاء الهجيمي[19]: "لو كان قال عشرين قصيدة لحق بالفحول، ولكنه قُطِع به..." [20].

وقوله: عن سلامة بن جندل[21]: "لو كان زاد شيئًا كان فحلاً"[22].

وقوله: عن الحويدرة[23]: "لو قال مثل قصيدته خمس قصائد كان فحلاً"[24]، ورأيه في مهلهل[25] أنه ليس بفحل: وأنه لو قال مثل قوله:
أَلَيْلَتَنَا بِذِي جُشَمٍ أَنِيرِي = ....................
خمس قصائد كان أفحلهم[26].

وقوله عن ثعلبة بن صُعير المازني[27]: "لو قال مثل قصيدته خمسًا كان فحلاً ..."[28].

وقوله عن معقر البارقي[29]: "لو أتمَّ خمسًا أو ستًّا لكان فحلاً ..."[30].

7- كثرة الافتنان:
ومن ذلك ما وُصِف به أبو العتاهية من أنه كثير الافتنان[31]، فهو يسلك في الشعر أفانين وأنواعًا متعددة يخرج بها شعره عن الصورة النمطية، وبغضِّ النظر عن صحة هذا الحكم وصدقه في شعر ذلك الشاعر فإنه مؤشِّر واضح أن عنصر الكثرة في هذا الأمر يمثِّل قيمة نقدية معتبَرة.

8- كثرة ماء الشعر:
ومن شواهد ذلك قول أنس: "إن الأخطل أكثرهم ماء شعر"، إنما المراد به الرونق، كما يقال: ثوب له ماء، ويقصد بذلك رونقه[32]، ويصف ابن سنان الخفاجي شعر البحتري بأنه الشعر (الخضل)، ويعلل ذلك لكثرة مائه[33].

وقال الآمدي بعد أن ذكر قول البحتري:
أَصَبَا الأَصَائِلِ إِنَّ بُرْقَةَ مُنْشِدِ
تَشْكُو اخْتِلاَفَكِ بِالهُبُوبِ السَّرْمَدِ



"ما زلت أسمع الشيوخ من أهل العلم بالشعر يقولون: إنهم ما سمعوا لمتقدِّم ولا متأخِّر في هذا المعنى أحسن من هذا البيت، ولا أبرع لفظًا، ولا أكثر ماء ولا رونقًا، ولا ألطف معنًى"[34].

وضدُّ ذلك يقال: "ناشف الماء قليل الرونق"[35].

المبحث الثاني: مقياس الكثرة وأثره في الفن الشعري[36]:
يدخل مقياس الكثرة في تحديد القدر الذي يُعَدُّ شعرًا، فهناك مَن يرى أن الشعر ما جاوز بيتًا، وممَّن يرى ذلك ابن سنان الخفاجي الذي صرَّح بأن أقلَّ ما يقع عليه اسم الشعر بيتان، وعلَّل ذلك بأن التقفية لا تمكن في أقل منهما، ولا تصحُّ في البيت الواحد، ولذا فهو يُعارِض ما ذهب إليه العروضيُّون من أن أقلَّ ما يُطْلَق عليه اسم الشعر ثلاثة أبيات[37].

ثم هناك جوانب فنية في الفروق بين أنواع الشعر وألوانه المختلفة؛ حيث نجد مقياس الكثرة ملحوظًا معتبَرًا في تحديد شخصية كلِّ فنٍّ من الفنون الشعرية التالية وهي:
1- القصيدة.
2- المقطعة.
3- الملحمة.

1- القصيدة: ولا يطلق على مجموعة الأبيات اسم (قصيدة) حتى تبلغ سبعة أبيات فأكثر[38]، ومن النقَّاد مَن لا يعدُّها كذلك إلا إذا بلغت عشرة أبيات، أو جاوزتها ولو ببيت واحد[39].

2- المقطعة: وهي ما نقصت أبياتها عن سبعة أبيات، وهو حكم نقدي يتَّضح من مفهوم المخالفة لعدَّة أبيات القصيدة في المصطلح السابق.

3- الملحمة: وهي قصيدة قصصية مُفرِطة الطول، تدور حول موضوع أسطوري خارق للعادة[40]، ووصف الملحمة بأنها مُفرِطة في الطول يدلُّ على أن كثرة الأبيات شرطٌ أساسٌ من شروطها، وهذا لا يعني بالضرورة أن الشروط الأخرى لا قيمة لها؛ ولذا فإن النص الشعري الذي يقوم على أبيات قليلة لا يمكن أن يندرج تحت اسم هذا الفن الشعري المميَّز، فلا غرابة بعد ذلك أن تبلغ أبيات (الإلياذة) و(الأوديسا) ما يُقارب (27800) بيت[41]، وأن تبلغ الملحمة الهندية المسمَّاة بـ(المهابهارتا) (100,000) مائة ألف بيت[42].

ونظرًا لظاهرة الإفراط في كثرة أبيات الملحمة، فقد رفضت الذائقة العربية تطويل القصيدة؛ لما في الشعر العربي من إحكام شديد في بناء البيت الواحد فضلاً عن القصيدة، ولِمَيل العرب إلى الإيجاز، وإقامة الشعر على اللمحة الذكية، حتى قال ابن رشيق في ذلك: "والفلسفة وجرُّ الأخبار بابٌ آخر غير الشعر فإن وقع فيه شيء منها فبقدر"[43].

المبحث الثالث: مقياس الكثرة وأثره في المناهج النقدية:
من أبرز المناهج النقدية التي تتجلَّى فيها أهمية مقياس الكثرة منهجان نقديان هما: منهج المقاصة، والمنهج الإحصائي:
1- منهج المقاصة:
ويقوم منهج المقاصة على وضع ميزان عدل، تُوضَع فيه سيئات شعر الشاعر وأخطاؤه في كفَّة، ثم تُوضَع حسنات شعره في الكفَّة الأخرى، فأيَّتهما رجحت بالأخرى كان لها الحكم، ولذا نرى في هذا المنهج الاتِّزان والبعد عن الذاتية التي تُوقِع صاحبَها في شرَك التحيُّز للشاعر، أو ضده، وواضح قيام (المقاصة) على ملاحظة الكثرة والقلة في شأن حسنات الشاعر وسيئاته، وأن مقياس الكثرة له تأثيره في عمل هذا المنهج النقدي.

وقد بدت إشارة سريعة إلى هذا المنهج في قول ابن قتيبة: "لا أحسب أحدًا من أهل التمييز والنظر نظر بعين العدل وترك طريق التقليد - يستطيع أن يقدِّم أحدًا من المتقدمين المكثِرين على أحد، إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره"[44].

وهذا المنهج كما نصَّ عليه القاضي الجرجاني في دفاعه عن المتنبي[45] يرتبط بمقياس الكثرة في جانبين:
الأول: قياس أخطاء المتنبي على أخطاء الفحول من الشعراء الأوَّلين، والتأكيد على أن كلاًّ قد ناله شيء من الخطأ والضعف والقصور، وأن المتنبي لم ينفرد بالأخطاء وحده، فالناقد الذي يتحرَّى الإنصاف عليه قبل أن يفرد عيوب شاعر أو حسناته بالتمييز، أن يقيسه على ما كان في تاريخ الشعر والشعراء، فلا يستهجن خطأه في اللفظ؛ لأنه قلَّما تجد شاعرًا سلم من هذا الخطأ، ولا يستنكر خطأه في المعنى، فكم عدد العلماء من صنوف هذا الخطأ في شعر الأقدمين، ولا يسقطه بسبب التفاوت في شعره، ولينظر إلى أكابر الشعراء مثل أبي نواس وأبي تمام، وليحكم هل خلا شعرهم من تفاوت؟[46].

والثاني: قياس حسنات الشاعر إلى زلاَّته وأخطائه، فإن رجحت كِفَّة الحسنات وقلَّت كِفَّة المآخِذ والزلات فهو شاعر مُحسِن مُجِيد وضد ذلك إن كانت المآخِذ على الشاعر أكثر من جوانب الجودة في شعره.

وتبعًا لهذا المنهج ترى القاضي الجرجاني يبيِّن كثرة حسنات أبي الطيب المتنبي في مقابل ما أُخِذ عليه؛ اعتمادًا على موازنة فضائله بعيوبه، ويذهب في طلب الحيدة مذهبًا كبيرًا؛ فبعد أن يؤكِّد أن المرء لا يعدم وجود الأخطاء لدى أوائل الشعراء، ولا يخلص له شعر أحدهم من شائبة - فإنه يقبل مخاطبًا مَن عاب المتنبي لكثرة زلاَّته وقِلَّة إحسانه، واتِّساع معايبه، وضيق محاسنه فيقول: "هذا ديوانه حاضرًا وشعره موجودًا ممكنًا، هلمَّ نستقرئه ونتصفَّحه، ونقلِّبه ونمتحنه، ثم لك بكلِّ سيئة عشر حسنات، وبكلِّ نقيصة عشر فضائل، فإذا أكملنا لك ذلك واستوفيته، وقادك الاضطرار إلى القبول أو البهت، ووقفت بين التسليم والعناد - عدنا بك إلى بقية شعره فحاججناك به، وإلى ما فضل بعد (المقاصة) فحاكمناك إليه.

وقد نجد كثيرًا من أصحابك ينتحل تفضيل ابن الرومي ويغلو في تقديمه ونحن نستقرئ القصيدة من شعره وهي تناهز المائة، أو تربو أو تضعف، فلا نعثر فيهما بالبيت الذي يروق أو البيتين، ثم قد تنسلخ قصائد منه، وهي واقفة تحت ظلِّها، جارية على رسلها، لا يحصل منها السامع إلا على عدد القوافي وانتظار الفراغ، وأنت لا تجد لأبي الطيب قصيدة تخلو من أبيات تُخْتَار، ومعانٍ تُسْتَفاد، وألفاظ تروق وتعذب، وإبداع يدلُّ على الفطنة والذكاء، وتصرُّف لا يصدر إلا عن غزارة واقتدار، ولو تأمَّلت شعر أبي نواس حقَّ التأمل، ثم وازنت بين انحطاطه وارتفاعه، وعدد منفيِّه ومختاره - لعظَّمت من قدر صاحبنا ما صغَّرت، ولأكبرت من شأنه ما استحقرت[47].

ويمضي من خلال هذا المنهج إلى إعطاء الخصم حريةً كبرى، ثقة من القاضي بكثرة حسنات أبي الطيب، ولذا يقول لِمَن افترض أنه خصم للمتنبي وأدار معه هذا الحوار:
"وقد جعلنا لك أن تحذف منه ما أحببت، وأبحنا لك أن تسقط ما أردت، فإن الذي يفضل نقدك منه، ويوافقنا رأيك عليه، ينجز وعدك، ويبقى ما وقعت الموافقة عليه بيننا وبينك، ثم طالِع بقية شعره، وتصفَّح فضالة ديوانه؛ لتعلم أنَّا لم نقصد استيعاب عيونه، وأخْذ صفوته ولبابه، وأن فيما غادرنا منه ولم نعرض له ما يمكن فيه محاكمتك ولا تضعف معه محاجتك"[48].

وقد رصد أحد الباحثين النماذج الجيدة والرديئة التي نبَّه إليها الجرجاني من شعر أبي الطيب المتنبي، وكانت الموازنة بين تلك النماذج معتمدة على مقياس الكثرة؛ حيث ذكر المتنبي (126) بيتًا رديئًا مقابل (638) بيتًا جيدًا، ثم عرج على المستكره من تخلُّصه والمعاب من ابتدائه فذكر خمسة أبيات أساء فيها المتنبي التخلُّص، كما ذكر (130) مطلعًا معابًا مقابل مثلها من المطالع الجيدة، وعدَّد له (130) بيتًا من أفراد شعره مقابل (17) بيتًا تحمل معاني فاسدة و(6) أبيات ذات معانٍ فلسفية[49].

ويطالب القاضي الجرجاني خصم أبي الطيب بأن يبتعد عن الهوى والعصبية، مؤكِّدًا أنه قد استبان فضل الشاعر وكثرة إحسانه وقِلَّة المآخِذ عليه، يقول القاضي الجرجاني:
"ولكن الذي أطالبك به وألزمك إيَّاه ألا تستعجل بالسيئة قبل الحسنة، ولا تقدِّم السخط على الرحمة، وإن فعلت فلا تهمل الإنصاف جملة، وتخرج عن العدل صفرًا، فإن الأديب الفاضل لا يستحسن أن يعقد بالعثرة على الذنب اليسير مَن لا يحمد منه الإحسان الكثير، وليس من شرائط النصفة أن تنعي على أبي الطيب بيتًا شذَّ، وكلمة ندرت، وقصيدة لم يسعده فيها طبعه، ولفظة قصرت عنها عنايته، وتنسى محاسنه وقد ملأت الأسماع، وروائعه وقد بهرت، ولا من العدل أن تؤخِّره الهفوة المنفردة، ولا تقدِّمه الفضائل المجتمعة، وأن تحطه الزلة العابرة، ولا تنفعه المناقب الباهرة[50].

وهكذا انتهى القاضي الجرجاني إلى بيان منزلة أبي الطيب من خلال منهج المقاصة بعد أن جعل من نفسه قاضيًا يفصل بين خصوم الشاعر وأنصاره، وبدا مقياس الكثرة كما رأينا في طبيعة تكوين هذا المنهج.

2- المنهج الإحصائي:
وهو منهج علمي يمثِّل قيمة ذاتية في نتائجه، سواء أكانت هذه النتائج دالَّة على القِلَّة أم الكثرة، إلا أن وجود عنصر الكثرة والاعتداد به في هذا المنهج يمثِّل مسوغًا علميًّا للدلالة على تأثير هذا المقياس في هذا المنهج.

ومع تطوُّر استعمال الحاسب الآلي أصبحت فهرسة أبيات الشعر واستخراج الإحصاءات المختلفة منه أمرًا ميسورًا؛ بحيث تقوم الأحكام النقدية على حصر فعلي عددي، وليس على مجرد ضرب أمثلة فقط.

على أننا ونحن بصدد ما تمَّ إنجازه بالفعل في مجال استعمال الإحصاء - نشير إلى دراستين رائدتين للدكتور: علي الجندي اعتمد فيهما على هذا المنهج الإحصائي وذلك في كتابيه "شعر الحرب في العصر الجاهلي"[51]، و"الشاعر الجاهلي الشاب: طرفة بن العبد"[52].

ففي الكتاب الأول اختار عيِّنة شعرية بلغت (5080) بيتًا، ثم راح يدرسها ويحلِّلها من خلال الجوانب النقدية المختلفة؛ فبدت لغة الأرقام قادرة في منهجه على تقديم حكم موضوعي محدَّد بعيد عن سلبيات التعميمات الخاطئة، ولدى دراسته جانب الصورة الشعرية في شعر الحرب في العصر الجاهلي - نرى أنه لم يحكم على أنواع الصور وكثرتها بمجرَّد التوقُّع فحسب، لكنه عمد إلى تلك العينة فوجدها تضمُّ (838) صورة شعرية، ثم سجَّل موضوعات تلك الصور مرتَّبة بحسب كثرة ورودها، مما يعطي حكمًا دقيقًا في معرفة أكثر الموضوعات دورانًا في شعر الحرب وَفْق الجدول التالي:
موضوع الصورة عدد الصور الخيل
الأسلحة والمعدات الحربية
البطل
الكتيبة والجيش
ما حدث للأعداء
الحرب
الموقعة
الغارة
الإبل 193
142
118
113
108
99
46
11
8[53]

ثم مضى عبر هذا المنهج الإحصائي الدقيق ليقدم إحصائية لصلة الصور الشعرية بالحواس، فذكر أنها كانت على النحو التالي:
نوع الصورة
عدد الصور
صورة بصرية
صورة ذوقية
صورة سمعية
صورة لمسية
752
39
24
23[54]


يقول الدكتور الجندي معلقًا على الجدول السابق: "ولم يوجد فيها ما يتَّصل بحاسة الشمِّ، ومعنى هذا أن الشعراء كانوا يتَّجهون في تصويرهم إلى الأشياء الحسية التي يمكن رؤيتها بالعين أكثر مما يتَّجهون إلى ما يُدْرَك بغيرها من الحواس"[55].

ولكي يصل إلى الحكم بأن العربي كان يميل بطبعه إلى الفخر، فإنه لا يلقي هذا الحكم في صورة تعميم أو ملاحظة عابرة، بل يمضي إلى استنتاجه من واقع ذلك الشعر معتمدًا في إظهار صحة ما يذهب إليه على لغة الأرقام؛ للإفادة من دلالتها الموضوعية الدقيقة؛ حيث وازَن بين عدد الأبيات في كلِّ غرض؛ فظهر أن أبيات الفخر بلغت (2340) بيتًا من مجموع أبيات الدراسة وعددها (5080) بيتًا؛ أي: بنسبة 64 %، وهذه النسبة تؤكِّد صحة الحكم النقدي السابق[56].

ثم ينتقل إلى الحديث عن الموضوعات الجزئية لذلك الفخر؛ حيث يقدِّم عرضًا إحصائيًّا لمعاني الفخر التي نسبها الشاعر العربي لنفسه، أو لقبيلته، وجاء ذلك ضمن جدول يوضِّح عدد المرات التي تكررت فيها كلُّ صفة من صفات الفخر وفاق الجدول التالي:
معنى الفخر عدد مرات تكرره الشهامة والمروءة
الإيقاع بالعدو
الشجاعة
القوة
مثل العظماء
الكثرة
الخبرة الحربية
المجد الحربي
الدفاع
الرئاسة
التضحية بالنفس
الصبر 153
147
140
101
70
59
55
43
42
30
23
20[57]

وهكذا يمضي الدكتور الجندي في دراسته الرائدة مستقيًا أحكامه النقدية من خلال الجداول والإحصاءات المتعدِّدة التي تشهد بما لدلالة الكثرة من أهمية في تقديم الحكم النقدي الصحيح.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 179.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 177.88 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.96%)]