|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الإسراء والمعراج ذكر الإسراء في القرآن الكريم د. سامية منيسي قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. وفي هذا يقول الإمام السيوطي في تفسير هذه الآيات[1]: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي ﴾ أنزه الله تنزيها وتعجبا من قدرته و﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ جعل البراق يسير بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلا ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾ لنرفعه إلى السماء فنريهُ ﴿ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾، ما فيه من العبر من عجائب الخلق وما فيه من أدلة القدرة الباهرة. فقد أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرّج إلى ملكوت الله في السموات حتى سدرة المنتهى[2]. متى كان الإسراء؟: ♦ هذا، وقد اختلف في تعيين زمن الإسراء والمعراج، فذكر أنه كان في السنة التي أكرم الله فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وهذا ما ذكره الطبري. ♦ وقيل: إنه كان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقد رجح ذلك النووي والقرطبي. ♦ وقيل: إنه كان ليلة السابع والعشرين من رجب من السنة العاشرة من النبوة، وهنا رأى محمد المنصور فوري في كتابه «رحمة للعالمين». ♦ وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة. ♦ وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة. ♦ وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول عام 13 من النبوة. وردت الأقوال الثلاثة الأولى بأن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تُفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء والمعراج[3]. أما الأقوال الثلاثة الباقية يقول المباركفوري[4]: فلم أجد ما أرجح به واحدا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدا. وفي صفوة الصفوة لابن الجوزي[5] قال: «... فلما أتت له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أسري به». حديث الإسراء والمعراج: هذا وقد ذكر ابن هشام في السيرة[6] حديث الإسراء والمعراج عن ابن إسحاق أنه قال: «ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس: إيلياء، وقد فشا الإسلام بمكة في قريش، وفي القبائل كلها». وقد ذكر ابن إسحاق رواة الحديث عن هذا الحدث العظيم، والهدف من الإسراء، فقال: «كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخُدري، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن البصري، وابن شهاب الزُّهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم، وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كُلّ يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسرى به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه ما ذكر عنه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدّق وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين، فأسرى به كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. وقد أخذ عنه ابن كثير في البداية والنهاية[7] وذكر الآراء المختلفة حول السنة التي تم فيها هذا الحدث الجلل فقال: «ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقي عن طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة، قال: وكذلك ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة. ثم روى الحاكم... عن إسماعيل السدى أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به قبل مهاجره بستة عشر شهرا، فعلى قول السدى يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول». «وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا... عن جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بُعث، وفيه عُرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، فيه انقطاع...». هذا، وقد ذكر الله جل وعلا الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفيه ما يكفينا عن الجدال في هذا الموضوع، فالإسراء مؤكد بالآيات الشريفة في سورة الإسراء والتي سُميت به، والمعراج مؤكد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. والإسراء والمعراج هو تكريم للنبي ليعوّضه الله جل وعلا عما لحقه من أذى المشركين وعنتهم في طريقه إلى غايته الكريمة[8]. وفي تفسير القرطبي لسورة الإسراء[9] قال أنه: «ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، ورُوى عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش: ممن رواه عشرون صحابيا» ثم أسرد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في هذا الصدد. وقد روى ابن كثير أحاديث عديدة عن الإسراء والمعراج لجُلة من الصحابة تتفق في مضمونها، وتختلف في تفصيلاتها اختلافا يسيرا[10]. أما ابن إسحاق[11] فقد روى الحديث عن الإسراء والمعراج عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه[12]. فقال: إنه بلغه عن قوله: «أتى رسول الله بالبراق – وهي الدابة التي كانت تُحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها – فحُمل عليها، ثم خرج به صاحُبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم الخليل، وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جُمعوا له، فصلَّى بهم. ثم أُتي بثلاثة آنية، إناء فيه لين، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسمعت قائلا يقول حين عُرضت علّي: إن أخذ الماء غرق وعرقت أمتَّه، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هُدى وهُديت أمته. قال: فأخذت إناء اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هُديت وهُديت أمتك يا محمد». ثم استطرد ابن إسحاق فروى أحاديث جلة من الصحابة كل منهم له حديث عن جانب من جوانب الإسراء والمعراج[13]. أما في الصحيحين فقد روى عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه الحديث مجملا فقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج عن صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء الدنيا.....» الحديث[14]. كما ورد في الصحيحين[15] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُتيت بالبراق وهو دابه فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين» - وفي حديث آخر أنه صلى بالأنبياء إماما. فقد ذكر القرطبي[16]. عند قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وصل إلى المسجد الأقصى «فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم أتى بإنائين...» ثم استطرد أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل اخترت الفطرة، ثم عُرج بنا إلى السماء الدنيا...». وعند القرطبي في تفسيره سورة الإسراء[17] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عن أبي سعيد الخدري في إسرائه بالبراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قال: «فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك حتى أسألك، فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يساري يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه، ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول: على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الأقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التي كانت الأنبياء، وتوثق بها، ثم دخلت المسجد وصليت فيه، فقال لي جبريل عليه السلام: ما سمعت يا محمد؟ فقلت: نداء عن يمين يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج. فقال ذلك داعي اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك. قال: ثم سمعت نداء عن يساري على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه. فقال: ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك. قال: ثم استقبلتني امرأة عليها كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها. فقال: تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة...». المعراج ومشاهده صلى الله عليه وسلم فيه: ويمضي أنس في حديثه فيقول بعد أن عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا: «فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال جبريل. وقيل ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أو قد بُعث إليه؟ قال: قد بثعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بآدم عليه السلام. ثم استفتح في السماء الثانية. قال صلى الله عليه وسلم: فإذا أنا بابني الخالة: يحيى وعيسى ابن مريم، فرحبا بي ودعوا لي بخير. ثم عرج إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأولى ففتح لنا. ويقول أبو سعيد الخدري في حديثه. فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر، قال: قلت من هذا يا جبريل قال. هذا أخوك يوسف ابن يعقوب. يقول أنس: فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. يقول أبو سعيد الخدري في حديثه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 57]. ويقول أنس. ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون، فرحب بي ودعا لي بخير، ويقول أبو سعيد الخدري في حديثه قال صلى الله عليه وسلم: فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية، عظيم العثنون – أي اللحية – لم أر كهلا أجمل منه؛ قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران. قال: ثم أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى، كأنه من رجال شنوءة، فقلت له: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران. يقول أنس عنه صلى الله عليه وسلم: فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فذكر مثله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ورفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى وإذا ورقها كأذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة وألوان متعددة باهرة. فكانت أجمل ما يكون والملائكة فيها على الشجر وفراشها من ذهب، ورأى جبريل هناك عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض؛ ولذلك يقول تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 13 – 17]. فرض الصلاة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى: ثم انتهى إلى ربه، قال صلى الله عليه وسلم: فأوحى الله إلى ما أوحى، ففرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة. يقول صلى الله عليه وسلم: فنزلت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، فقال موسى: إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي، فوضع عني عشرا، ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك، فرجعت فسألت ربي، فوضع عني عشرا، ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه، قال: فأرجع، فأسأل، حتى انتهيت إلى أن وضع ذلك عني، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة. ثم رجعت إلى موسى، فقال لي مثل ذلك، فقلت: قد راجعت ربي وسألته، حتى استحييت منه، فما أنا بفاعل. فمن أدّاهن منكم إيمانا بهن، واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة مكتوبة[18]. قطوف مما رآه صلى الله عليه وسلم في معراجه أيضا: رأى صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة في معراجه؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 18]. فرأى الجنة والنار، والملائكة، وجزاء المحسنين، وجزاء الكافرين والظالمي أنفسهم إلى آخر ذلك من الآيات التي رآها صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ذلك عدد من كتب السيرة، وعلى رأسهم ابن إسحاق في السيرة[19]... فقد قال ابن إسحاق: «وحدثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أُتي بالمعراج، ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذي يُمد إليه ميتكم إذا حُضر، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة عليه ملك من الملائكة، يقال له إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك – يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث: وما يعلم جنود ربك إلا هو...»[20]. وقال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عمّن حدّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا يقول خيرا ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا، ودعا لي بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك إليّ، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم؟ قال لي جبريل: أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك، لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك خازن النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لجبريل، وهو من الله تعالى بالمكان الذي وصف لكم ﴿ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 21]: ألا تأمره أن يُريني النار؟ فقال: بلى، يا مالك، أر محمدا النار، قال: فكشف عنها غطاءها، ففارت وارتفعت، حتى ظننت لتأخذن ما أرى. قال: فقلت لجبريل: يا جبريل، مُره فليردّها إلى مكانها، قال: فأمره، فقال لها: أخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظلّ. حتى إذا دخلت من حيث خرجت ردّ عليها غطاءها»[21]. وقال أبو سعيد الخدري في حديثه عن المعراج: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلا جالسا تُعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها إذا عُرضت عليه خيرا ويُسرّ به، ويقول: روح طيّبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عُرضت عليه: أفّ، ويعبس بوجهه، ويقول: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث. قال: قلت من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، تُعرض عليه أرواح ذرّيته، فإذا مرّت به روح المؤمن منهم سُرّ بها، وقال: روح طيبة خرجت من جسد طيب. وإذا مُرت به روح الكافر منهم أفف منها وكرهها، وساء ذلك، وقال: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث»[22]. أكلة أموال اليتامى: وقال صلى الله عليه وسلم: «ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل، وفي أيديهم قطع نار كالأفهار[23]، يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما»[24]. أكلة الربا: وقال صلى الله عليه وسلم: «ثم رأيت رجالا لها بطن لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون[25] يمرّون عليهم كالإبل المهيومة - أي العطاش - حين يعرضون على النار، يطؤونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من كانهم ذلك. قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا»[26]. الزناة: وقال صلى الله عليه وسلم: «ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب. قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرّم الله عليهم منهن[27]. صفة النساء اللاتي يدخلن على الأزواج ما ليس منهم: وقال صلى الله عليه وسلم: «ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم»[28]. أنهار الجنة: كذلك رأى صلى الله عليه وسلم أربعة أنهار في الجنة: نهران ظاهران وهما النيل والفرات، ونهران باطنان، ومعنى ذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم ستتوطن الأنهار الخصبة في النيل والفرات وأن أهلها سيكونون حملة الإسلام، وليس معنى ذلك أين مياههما تنبع من الجنة»، كما رأى صلى الله عليه وسلم في السماء نهرا آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك. يقول السيوطي هذا أنه كان في السماء الدنيا[29]. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الإسراء والمعراج هل كان يقظة أم مناما؟: اختلف كثير من العلماء حول رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للإسراء والمعراج هل كانت رؤيته له في اليقظة أم في المنام؟ وفي هذا يقول الإمام السهيلي في الروض الأنف[30]. أي هل كان الإسراء في يقظة بجسده،،أم كان نوما بروحه.. ويعتدّ بعض العلماء ومنهم ابن إسحاق بحديث عائشة رضي الله عنها، ومعاوية، أنها كانت رؤيا حتى، وأن عائشة قالت: لم تفقد بدنه، وإنما عرج بروحه تلك الليلة... ويحتِّج قائل هذا القول بقوله سبحانه: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ... ﴾ [الإسراء: 60]. وهنا يقول السيوطي في تفسيره عن ليلة الإسراء والمعراج ﴿ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ أي اختبار أو امتحانا ليتميز الطيب من الخبيث[31]. ويستطرد السهيلي فيقول: إن الله تعالى في هذه الآية لم يقل الرؤية وإنما يسمى رؤيا ما كان في النوم في عرف اللغة... وكانت رؤيا صادقة[32]. ويقول: والواقع أنها في رؤية حقيقية حيث قال أصحاب القول الثاني: قد تكون الرؤيا بمعنى الرؤية في اليقظة... قالوا: وفي الآية بيان أنها كانت في اليقظة؛ لأنه قال: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ ولو كان رؤيا نوم ما افتتن بها الناس حيث ارتدّ كثير ممن أسلم، وقال الكفار: يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس، ورجع إلى مكة ليلته، والعير تطرد إليها شهرا مقبلة، وشهرا مدبرة، ولو كانت رؤيا نوم، لم يستبعد أحد منهم هذا»[33]. هذا، بالإضافة إلى العلاقات الأخرى التي دلّت على الإسراء في حديثه صلى الله عليه وسلم[34] ولا شك في أن الآية الكريمة التي ذكرت الإسراء هي الحسم في هذا الموقف، كذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدّق، يشير إلى الإسراء والمعراج[35]. موضوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه جلّ وعلا: تكلّم العلماء أيضا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، فقد روى مسروق عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت أن يكون رآه، وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، واحتجت بقوله جل وعلا ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103][36]. ويستطرد الإمام السهيلي[37] فيقول أنه في مصنف الترمذي عن ابن عباس وكعب الأحبار أنه رآه، قال كعب: إن الله قسمّ رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نورا»، وفي حديث آخر من صحيح مسلم أنه قال: نور أني أراه؟ وليس في هذا الحديث بيان شاف أنه رآه. وعن أبي الحسن الأشعري أنه قال: رآه بعيني رأسه، وفي تفسير النقاش عن ابن حنبل أنه سئل: هل رأى محمد ربه؟ فقال: رآه رآه رآه حتى انقطع صوته. ويقول السهيلي: وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وذكر إنكار عائشة انه رآه، فقال الزهري: ليست عائشة أعلم عندنا من ابن عباس، وفي تفسير ابن سلام عن عروة أنه كان إذا ذكر إنكار عائشة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه يشتدّ ذلك عليه. وقول أبي هريرة في هذه المسألة كقول ابن عباس أنه رآه؟ روى يونس عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: سأل مروان أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم رآه، فقال ابن عمر: وكيف رآه؟ فقال ابن عباس كلاما كرهت أن أورده بلفظه لما يوهم به التشبيه ولو صحّ لكان له تأويل والله أعلم»[38]. ثم يجمع السهيلي[39] الرأي القاطع فيقول: «والمتحصل من هذه الأقوال – والله أعلم – أنه رآه لا على أكمل ما تكون الرؤية على ما نحو ما يراه في حظيرة القدس عند الكرامة العظمى والنعيم الأكبر، ولكن دون ذلك، وإلي هذا يوحى قوله: رأيت نورا. ونورا آنى أراه في الرؤية الأخرى والله أعلم». أما عن الدنو والتدلي فيقول السهيلي أيضا[40] «فهما خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المفسرين، وقيل إن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام، تدلى إلى محمد حتى دنا منه، وهذا قول طائفة أيضا. وفي الجامع الصحيح في إحدى الروايات منه فتدلى الجبار، وهذا مع صحة نقله لا يكاد أحد من المفسرين يذكره لاستحالة ظاهره، أو للغفلة عن موضعه، ولا استحالة فيه؛ لأن حديث الإسراء إن كان رؤيا رآها بقلبه وعينه نائمة – كما في حديث أنس، فلا إشكال فيما يراه في نومه عليه السلام، فقد رآه في أحسن صورة ووضع كفه بين كتفيه، حتى وجد بردها بين ثدييه. رواه الترمذي عن طريق معاذ في حديث طويل.. ويقول ابن القيم[41]: وأما قوله تعالى في سورة النجم: ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة، وابن مسعود، والسياق يدلّ عليه. وأما الدنو والتدلي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين، مرة في الأرض، ومرّة عند سدرة المنتهى. والله أعلم. ثم يقول السهيلي[42]: «.. ولما كان هذه رؤيا لم ينكرها أحد من أهل العلم، ولا استبشعها.. وكان الإسراء بجسد، فيقال فيه من التأويل ما يقال في قوله: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، فليس بأبعد منه في باب التأويل.. ويقوي ما ذكرناه من معنى إضافة التدلي إلى الربّ سبحانه كما في حديث البخاري ما رواه ابن سنجر مسندا إلى شريح بن عبيد، قال: لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فأوحى إلى عبده ما أوحى فلما أحسّ جبريل بدنو الرب خرّ ساجدا، فلم يزل يُسبح رب الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى قضى الله إلى عبده ما قضى، قال: ثم رفع رأسه، فرأيته في خلقه الذي عليه منظوما أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت، فخيّل إلى أن ما بين عينيه قد سدّ الأفقين، وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صور مختلفة، وكنت أكثر ما أراه على صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان أحيانا لا يراه قبل ذلك إلا كما يرى صاحبه من وراء الغربال. أما ابن كثير في البداية والنهاية[43] فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في سدرة المنتهى «جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض، وهو الذي يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 13 – 17]. أي ما زاغ يمينا ولا شمال ولا ارتفع عن المكان الذي حدد له النظر إليه، وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم، وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها كما نقله ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو ذر، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. والأولى هي قوله تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 5 – 10]. وكان ذلك بالأبطح، تدلىّ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سادا أعظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم. وفي تفسير ابن كثير عند قول الله تعالى: ﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: 16] قال عن الحافظ البيهقي عن ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا المقحمات، يعني الكبائر[44]. أما الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن[45] فإنه يقول عند تفسير الآية الكريمة من سورة الإسراء: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. قال: «سبحان» معناه التنزيه والبراءة لله عزّ وجل من كل نقص، فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره.. وقوله تعالى: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ و«أسرى» فيه لغتان: سرى وأسرى، وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره، والأول أعرف. وقوله تعالى: ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ بعبده قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلّية. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعا للأُمّة. وأضاف الإمام القرطبي فقال: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، ورُوي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاشي: ممن رواه عشرين صحابيا...[46].. وقال: «واختلفوا في تاريخ الإسراء وهيئة الصلاة، وهل كان غسراء بروحه أو جسده، فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهي مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهي أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى. فأما المسألة الأولى: وهي هل كان إسراء بروحه أو جسده، اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وإن كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق، ذهب إلى هذا معاوية وعائشة. وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، وقالوا: لو كان الإسراء بجسده زائدا على المسجد الأقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد في اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم أسرى بجسده. وعلى هذا تدلّ الأخبار التي أشرنا إليها والآية، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة.. ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]. يدلّ على ذلك، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت أم هانئ: لا تُحدّث الناس فيكذبوك، ولا فُضّل أبو بكر الصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتدّ أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكره...[47]. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ... ﴾ [الإسراء: 60]. يقول القرطبي... «وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا... ﴾ قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس[48]. وفي تفسير سورة النجم يقول الإمام القرطبي[49]: قوله تعالى: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين، سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: ﴿ ذُو مِرَّةٍ ﴾ على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة، والقوة من صفات الله تعالى، وأصله من شدّة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحلّ، ثم قال «فاستوى» يعني الله عزّ وجل، أي استوى على العرش. روى معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: ﴿ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾ أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام.. ومعنى الآية: استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى.. وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوى جبريل فمعنى «ذو مرّة» في وصفه ذو منطق حسن، وقال ابن عباس. وقال قتادة: خلق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرَّة سوّى»[50]. واستطرد القرطبي فقال: وقد قيل: «ذو مُرَّة» ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدّة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن لوط من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم قلبها... وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف.. وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله أئتمنه على وحيه إلى جميع رسله.. وقال مجاهد وقتادة: «ذو مُرّة» ذو قوة... فالقوة تكون من صفة الله عزّ وجل، ومن صفة المخلوق «فاستوى» يعني جبريل على ما بينّا، أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علَّم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المُسيب وابن جبير، وقيل: «فاستوى» أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين... حيث إن له ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب... ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ [التكوير: 23]. أما في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم... قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾ [النجم: 7] معناها: فاستوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية من السماء وجمعه آفاق... والصحيح: استوى جبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية؛ لأنه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحبّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يراه في صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق[51]. وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ﴿ فَتَدَلَّى ﴾ فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى: أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك ردّه الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ﴾ يعني أوحى الله إلى جبريل، وكان جبريل «قاب قوسين أو أدنى». قاله ابن عباس أيضا في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾ أن معناه أن الله تبارك وتعالى ﴿ دَنَا ﴾ من محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فَتَدَلَّى ﴾، وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه.. وأصل التدلّي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب... وذهب الفرّاء إلى أن الفاء في «فتدلى» بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلّى جبريل عليه السلام ودنا... ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا..[52]. وقال ابن عباس: تدلّى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه.. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة فتدلىّ: أي هوى للسجود وهذا قول الضحاك[53]. ويقول الإمام القرطبي: قوله تعالى: ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ أي على تقديركم.. وقال سعيد بن جبير وعطاء [وغيرهم] أي قدر ذراعين. وقال القاضي عياض: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرّة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» على أحد الوجوه: نزول: جمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التخفي، وإنافة المنزل والقرب من الله، ويتأول فيه ما يتأول في قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه فيما يرويه عن ربه: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»، قرب الإجابة والقبول، وإتيانا بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: «ثم دنا» جبريل من ربه ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ قال مجاهد...[54]. وقوله تعالى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ﴾ تفخيم للوحي الذي أوحى إليه.. والوحي هو إلقاء الشيء بسرعة.. والمعنى: فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحي. وقيل: المعنى ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ﴾ جبريل عليه السلام ﴿ مَا أَوْحَى ﴾ قيل: المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه ربه.. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك[55]. ويستطرد الإمام القرطبي فيقول: قوله تعالى: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل لله تلك الرؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقية بالبصر، والأول مروى عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه، وهو قول أبي ذرّ وجماعة من الصحابة، والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخُلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروى أيضا عن ابن عباس أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول: إن محمدا رأى ربه مرتين.. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك». وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل رأيت ربك؟ قال: نور أنىّ أراه، المعنى: غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته[56]. وقوله تعالى: ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾ أي: أتجحدونه وتريبونه وتشككونه في أنه رأى الله [جل وعلا]. يتبع
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى. وروي مسلم عن أبي العالية عنه قال: رآه بفؤاده مرتين، فقوله: ﴿ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾، يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان له صعود ونزول بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة. أما ابن مسعود، وأبو هريرة فقالا في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ أنه جبريل، ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدرّ والياقوت» ذكره المهدوي. وقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾.. وهي السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: ﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ قال: فراش من ذهب قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا..... انظر إلى آخر سورة النجم[57]. وفيها قوله تعالى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ﴾ ذكر أنها سميت بذلك أيضا لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء ويعزب علمهم عما وراءها، وأن الأعمال تنتهي إليهن وتُقبض منها، ولانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها، ولانتهاء أرواح الشهداء إليها وأرواح المؤمنين، وهي شجرة على رؤوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق. يقول القرطبي: يريد – والله أعلم – أن ارتفاعها وأعالي أغصانها جاوزت رؤوس حملة العرش، ودليله على ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رؤوس حملة العرش. وعن أبي هريرة: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك – وروى ذلك أيضا بلفظ آخر علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذلة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها والورقة منها تعطي الأمة كلها، ذكره الثعلبي[58]. وقوله تعالى: ﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ تعريف بموضع الجنة عند سدرة المنتهى، وقيل إنها جنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هي التي صير إليها المتقون، وأرواح الشهداء، وهي على قول ابن عباس: على يمين العرش، وقيل هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة. وقيل إنها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فينعمون بنعيمها ويتنسمون ريحها الطيب، وقيل: لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «غشيها نور رب العالمين فاستنارت» وفي خبر آخر: «غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها». ويقول السيوطي عن ابن عباس: الملائكة. ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ أي لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمد بصره يمينا أو شمالا إلى غير ما رأى ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ وقد اختلفت الأقوال في ذلك وكلها تدور حول رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته الحقيقية في حُلة رفرف أخضر، قد ملأ ما بين السماء والأرض، وقيل الرفرف: البساط ويقال: الفراش.. إلى غير ذلك من التفسيرات[59]. موقف كفار قريش من حديث الإسراء والمعراج: أما عن موقف كفار قريش من حديث الإسراء والمعراج فقد ذكره ابن هشام في السيرة في حديث على لسان أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، واسمها: هند، حيث قالت: «ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلم كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح، وصلينا معه، قال: «يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين، ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه كأنه قبطية مطوية، فقلت له: يا نبي الله، لا تحدّث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك، قال: والله لأحدثنهموه. قالت: فقلت لجارية لي حبشية: ويحك اتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له...» إلى آخر الحديث[60]. وملخص الحديث أن الهادي البشير محمد صلى الله عليه وسلم أخبر قومه بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتدّ تكذيبهم له وأذاهم، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فأظهره الله له حتى عاينه، وأخذ يخبرهم عن آياته، كما أخبرهم عن عير من أهل مكة في مسراه ورجوعه، وكانت عائدة إلى مكة، وقد دلّهم على بعير شرد منهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وكان ذلك دليلا على صدق دعواه ليلة الإسراء. كذلك أخبرهم عن وقت قدوم العير، والبعير الذي يقدمها، فقال: «إن عيرهم الآن عند ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء، ورغم ذلك، ورغم تحققهم من القافلة من صدق قوله، إلا أنهم لم يزدادوا إلا نفورا له وتكذيبهم إياه. وحينما بلغ أبو بكر الصدّيق ما ذكره صلى الله عليه وسلم «عن العير» قال: إن كان قد قال فقد صدق، فسُمّي منذ ذلك اليوم بالصدّيق. وقد كان لأقوياء العقيدة والإيمان تأثرهم بهذا الحديث فزادهم إيمانا على إيمانهم، بينما ارتدّ بعض ضعاف الإيمان[61]. كما كثر استهزاء المشركين بالهادي البشير رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدادوا بعدا عن دعوته وإنكارهم لقوله[62]. ويقول ابن إسحاق في السيرة[63]: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله تعالى صابرا محتسبا، مؤديا إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء. فلما تمادوا في الشر وأكثر من استهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله الكريم: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]. وكان على رأس المستهزئين خمسة ذوو أسنان وشرف في قومهم وهم: الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة فرمى النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه بورقة خضراء فعمي بصره، والأسود بن عبد يغوث بن زهرة، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطنه فاستسقى ومات، والوليد بن المغيرة المخزومي فأشار إلى أثر جرح قديم بأسفل كعب رجله فانتفض الجرح فقتله وكان قد أصابه من سنين، والعاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أخمص رجله فدخلت فيه شوكة قتلته، والحارث بن الطلالة من بني لؤي بن ملكان، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله[64]. وبذلك انتقم الله تعالى لحبيبه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم[65]. تعقيب المباركفوري على رحلة الإسراء والمعراج: ويقول المباركفوري في الرحيق المختوم[66]: «وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1]. وهذه سُنة الله في الأنبياء، قال: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75] وقال لموسى: ﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴾ [طه: 23]. وقد بين مقصود هذه الإرادة بقوله: ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾. فبعد استناد علوم الأنبياء إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين اليقين ما لا يقادر قدره، وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل الله ما لا يتحمل غيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ما تدول عليهم بالمحن والعذاب». ثم يستطرد المباركفوري[67] فيذكر المغزى من سورة الإسراء من وجهة نظره – فيقول: «يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية، لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبرّ والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم». ثم يقول المباركفوري: «ولكن كيف تنتقل هذه القيادة والرسول يطوف في جبال مكة مطرودا بين الناس، هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن دورا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك على النهاية والتمام، وسيبدأ دور آخر يختلف عن الأول في مجراه؛ ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة للمشركين ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]. ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17]. ويجنب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي يبتني عليها مجتمعهم الإسلامي، كأنهم قد أووا إلى الأرض، تملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيه إشارة إلى أن الرسول سيجد ملجأ ومأمنا يستقر فيه أمره، ويصير مركزا لبث دعوته في أرجاء الدنيا. هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة... ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الأولى أو بين العقبتين، والله أعلم». وقفة مع الإسراء والمعراج[68]: وهنا لنا وقفة مع الإسراء والمعراج.. فقد كرم الله تعالى أنبياءه بمعجزات كثيرة اخترقت العادة الموجودة في حياة البشر في عهودهم وعصورهم، فقد كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى بإذن الله تعالى ويبرئ الأكمه – الأعمى – والأبرص بإذن الله تعالى، بل كان مولده هو معجزة في حد ذاتها. كما سخّر الله جل وعلا لسليمان الريح تحمله وتجري بأمره حيث شاء، وكانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، وكانت عصا موسى تبطل السحر في عهده - وكان عصر السحر... إلى غير ذلك من المعجزات والآيات التي كرّم الله بها تعالى أنبياءه ورسله على قومهم. فلماذا لا نؤمن بمعجزة الإسراء والمعراج كآية خالدة كرّم الله جل وعلا بها خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم. كذلك فإن الاختراعات الحديثة التي نحيا بين جنباتها والتكنولوجيا الحديثة لم تكن موجودة منذ آلاف السنين في كل مجالات الحياة كما هي الآن حيث قام الإنسان باختراعها مع تطور التقدم البشري.. فما بال قدرة الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بمعجزة خارقة، فإنه جل وعلا خالق الكون كله، وهو على كل شيء قدير، فإن الإسراء والمعراج أهون عليه في خلقه العظيم[69]. [1] انظر: تفسير وبيان مفردات القرآن للإمام السيوطي ص282 عند سورة الإسراء. [2] المؤلفة. [3] انظر هذه الأقوال في زاد المعاد ج2 ص49، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي، مصر، المطبعة السلفية، 1379هـ ص148، 149، ورحمة للعالمين للمنصورفوري: محمد سليمان سلمان، حنيف بكديودلي، 1930م، ج1 ص76، الرحيق المختوم، ص137. [4] الرحيق المختوم ص137. [5] ابن الجوزي: جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي «597هـ» صفوة الصفوة، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، ص21، 1413هـ/ 1992م، مج1 ج1 ص49. [6] ج2 ص187، مجلد مع الروض الأنف. [7] ج3 ص119، الطبعة الملونة، بيروت، دار المعرفة. [8] القول المبين ص118. [9] انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، مج5 ج10، طبعة بيروت، دار الكتب العلمية، ص135. [10] المصدر السابق لابن كثير. [11] السيرة ج1 ص396، 397 طبعة ابن كثير. [12] وقد روى ابن إسحاق جُلّة من الصحابة رووا حديث الإسراء ثم روى عن ابن مسعود. [13] المصدر السابق لابن هشام ج1 ص397 – 408. [14] صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، وصحيح مسلم كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا انظر صفة الصفوة لابن الجوزي مج1 ص49. [15] المصدر بن السابقين. [16] الجامع لأحكام القرآن، سورة الإسراء. [17] الجامع لأحكام القرآن مج5 ج10 ص135. [18] انظر: السيرة ج2 ص396 – 408، البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص119 وما بعدها، وانظر أيضا تفسير سورة الإسراء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي مجلد5 ج10 ص135 – 137، وانظر أيضا تفسير سورة الإسراء في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر «ت911هـ» ج4 ص257 وما بعدها، بيروت، دار الكتب العلمية. [19] ج2 ص403 – 406 طبعة ابن كثير، الروض الأنف للإمام السهيلي، ج2 ص144 – 162، البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص108 وما بعدها. [20] المصدر السابق لابن هشام ج2 ص403. [21] نفس المصدر لابن هشام ص404. [22] السيرة ج2 ص405 طبعة ابن كثير. [23] المشافر: جمع مشفر، ومشفر الإبل، شفته، والأفهار: جمع فهر، وهو حجر على مقدار ملء الكف. [24] السيرة ج2 ص405 طبعة ابن كثير. [25] خصّ آل فرعون، لأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾. [26] نفس المصدر لابن هشام ص405. [27] نفس المصدر ص406. [28] السيرة ج2 ص406، والروض الأنف ج2 ص141 – 162، بيروت، طبعة دار الفكر، بيروت 1409هـ/ 1989م، وأيضا البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص118 – 122. [29] انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي عند سورة الإسراء ج4 ص257، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، وأيضا الرحيق المختوم ص139، 140. [30] الروض الأنف ج2 ص148، 149. [31] تفسير وبيان مفردات القرآن ص288 عند تفسير هذه الآية من سورة الإسراء. [32] الروض الأنف ج2 ص148، 149. [33] الروض الأنف ج2 ص149. [34] المؤلفة. [35] المؤلفة، وانظر أيضا رأى ابن القيم في زاد المعاد بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا، ج2 ص47، 48، الرحيق المختوم ص138، 139. [36] الروض الأنف ج2 ص156. [37] الروض الأنف ج2 ص156. [38] السهيلي: الروض الأنف ج2 ص156. [39] المصدر السابق ص156. [40] الروض الأنف ج2 ص156، 157. [41] زاد المعاد ج2 ص47، 48، والرحيق المختوم ص139، وانظر أيضا صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة النجم، باب حدثنا يحيى وحدثنا وكيع، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء. [42] الروض الأنف ج2 ص156، 157. [43] ج3 ص122. [44] انظر تفسير ابن كثير عند سورة الإسراء/ آية1، ودلائل النبوة للبيهقي ج2 ص372، وأيضا صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر أيضا الدر المنثور في التفسير المأثور للإمام السيوطي عند سورة الإسراء الآيات 1 – 8. [45] مج5 ج10 ص134 وما بعدها. [46] الجامع لأحكام القرآن، طبعة بيروت، دار الكتب العلمية، مج5 ج10 ص134 – 135، والنقاش: هو الفقيه إسماعيل بن عبد الله بن علي النقاشي، منتخب الدين، فقيه أصول ذاعت شهرته، أصله من حلب ولد فيها ورحل إلى مكة ثم اليمن، وتردد ذكره هنا وأجلته الولاة والملوك، وتزوج السلطان الملك المؤيد «صاحب اليمن» ابنته فولدت له المجاهد فأقام في زبيد إلى أن توفى عام «711هـ/ 1311م». [47] الجامع لأحكام القرآن مج5 ج10 ص134 – 137. [48] المصدر السابق ص183. [49] نفس المصدر مج9 ص17 سورة النجم ص57 وما بعدها. [50] نفس المصدر ص57، 58. [51] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي مج9 ج17 ص59. [52] المصدر السابق ص59. [53] نفس المصدر ص66. [54] نفس المصدر ص60، 61. [55] نفس المصدر ص61. [56] تفسير الإمام القرطبي الجامع لأحكام القرآن مج9 ج17 ص61، 62. [57] تفسير الإمام القرطبي من سورة النجم في الجامع لأحكام القرآن مج9 ج17 ص63، وما بعدها، وأيضا: الدر المنثور في التفسير المأثور للإمام السيوطي ج6 ص153 وما بعدها. [58] انظر الجامع لأحكام القرآن ج17 ص63، 64. [59] انظر الجامع لأحكام القرآن ج17 ص64 – 65، والدر المنثور للإمام السيوطي ج6 ص153 – 162، وانظر أيضا: زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج3 ص34 – 42، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط طبعة 1407هـ/ 1987م، ومختصر زاد المعاد في هدى خير العباد، اختصار الشيخ محمد عبد الوهاب، بيروت، دار البيان، 1413هـ/ 1994م، ص165 – 170. [60] انظر السيرة ج2 ص144، مجلد مع الروض الأنف، طبعة بيروت، دار الفكر، وأيضا ج2 ص402، طبعة ابن كثير. [61] الرحيق المختوم ص140، القول المبين ص118 – 122. [62] المؤلفة. [63] ج2 ص408 – 410، ج2 ص163 مجلد مع الروض الأنف. [64] نفس المصدر. [65] المؤلفة. [66] ص141 – 142. [67] نفس المرجع ص141. [68] المؤلفة. [69] المؤلفة، وانظر أيضا القول المبين ص120، 121.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |