|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() اللغة/ الكلمة من منظور الأدب الإسلامي مصطفى بن عمور 1 - هناك إجماع شامل عند المفكِّرين والعلماء والأدباء - وحتى عند أبسط الناس - على أن الإنسان كائنٌ لغوي، وأنَّ اللغة خصِّيصة إنسانية متميِّزة ومميِّزة؛ بكسر الياء: متميزة لأنها ذاتُ طبيعة خاصة، لها القدرة على التعبير عن كينونة متكلِّمها، والتأثير في ذاته وفي ذوات الآخرين، كما أن لها سلطةً قوية في تكوين الإنسان وتوجيهه، وربطه بعلائقَ متواشجةٍ وشديدة مع غيره من أفراد المجتمع الواحد، ومع الكون من حوله، بل وتربط الحاضر بالماضي السَّحيق وبالمستقبل البعيد. ومميزة لأنَّ بفضلها يَتخذ الإنسان موقعًا خاصًّا لا يَشرَكه فيه مخلوقٌ آخر، ويَبين بها عمَّا يُحيطه من الوجود، ويستطيع بواسطتها تكوينَ ذاته، وتأسيسَ ذاكرته وتاريخه، وحضارته؛ "فالإنسان دون لغة يَستحيل إلى لا كائن... إلى لا شيء"؛ عبدالملك مرتاض - في نظرية الرواية - عالم المعرفة، 240. ترى ما الذي أعطى اللغة خصوصيتها تلك؟ أيُّ سرٍّ ذاك الذي سرى في كيانها فأحالها إلى لغز يَرفعها إلى مقام الغيب، رغم أنَّ مادتها من عالم الشهادة والحسِّ؟! ما الذي جعل الفلاسفةَ والمفكِّرين يحسبون لها كلَّ حساب، ثم يخرجون من عَوالمها وعلاماتُ الدهشة والاستغراب منطبعةٌ على فِكرهم كما تنطبع على قسمات وجوههم؟! لماذا هذه الدهشة المستمرَّة التي تُفاجئ الإنسانَ كلَّما فكَّر في لغته؟! عن أصلها.. عن طبيعتها.. بل عن العالم الذي انبجَسَت منه أو نجمَت عنه؟! إنها آية.. سر.. أو كأنها سِحر! إنها كالروح؛ قريبة بعيدة، جليَّة غامضة، معلومة مجهولة. ولعل هذا ما دفَع كثيرًا من المفكرين إلى التنبُّه إلى خطورة اللغة وشدة بأسها وقوة شكيمتها... حتى جعَلها البعض أشبهَ بقَدر ملزِم يتحكَّم في الإنسان أفرادًا وجماعات؛ يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في حوار أجرته معه مجلة telquel - تيل كيل - الفرنسية: "أعتقد أن عددًا منا - بمن فيهم أنا - يرَون أن الحقيقة لا وجود لها، وأن اللغة فقط هي الموجودة"، ويقول في موضع آخر بوضوح ٍأشدَّ: "يعتقد البشر أن كلامهم في خدمتهم، لكنهم لا يدركون أنهم يُخضِعون أنفسهم لمطالبِه"؛ عبدالعزيز حمودة - المرايا المحدبة - عالم المعرفة. بل وتصل عند الفيلسوف الألماني هيدغر إلى درجة أعلى وأقوى؛ فهي عنده تَسبق الذَّات المفردة.. إنَّها تصنَعُنا.. إنها أكبر من ذواتنا.. هي حياة كل البشر، كل الذوات، بل هي الحقيقة، فوق الأفراد الذين يشاركون فيها مشاركة جزئية؛ بل لقد اندفع في كتابه "الكينونة والزمن" يطرح تساؤلاتٍ هامةً وقويَّة؛ أبرزُها: ما الذي يَسبق الآخر: الكينونة أم اللغة؟ وهل نولد في الكينونة أم في اللغة، وهل تَسبق الكتابةُ الوجودَ أو العكس... حيث يَخلُص في النهاية إلى: أن اللغة والتفكير يَكشفان عن الكينونة، ومن دون اللغة لا يستطيع الإنسان أن يُدرك الكينونة، ومعناه أن الكينونة لا تُفصِح عن ذاتها إلا باللُّغة؛ ولذلك يَنتهي المطاف بالمفكِّر "بيرمان" إلى القول: يرى البِنيَويُّون الفرنسيُّون المحدَثون أنه إذا كانت اللغة هي التي تقوم بتشكيل وصياغةِ ما نَعرفه عن العالم فإنه يمكن القول: بأن اللغة تشكِّل معرفتنا بالعالم، ما نعرفه إذًا ليس العالمَ كما هو في الواقع، بل اللغة ذاتها"؛ عبدالعزيز حمودة - نفسه. ولقد استطاع بنجامين لي هورف بعدَ المقارنة بين اللغة الإنجليزية ولغات هنودِ أمريكا أن يكشف بأن بِنيَة لغةٍ من اللغات تؤثِّر على طريقة فَهمِ صاحبها للواقع؛ رينيه ويلك - مفاهيم نقدية - عالم المعرفة. هذا بالنسبة للمفكرين في عصرنا، بيد أننا إذا انطلَقْنا من رؤيتنا الإسلامية الأصيلة، فسنكتشف موقفًا آخر يُزيل تلك الغرابة، ونورًا يَمحو معالم تلك الدهشة، وما يقربنا من حقيقة اللغة/ اللغز كخصِّيصة إنسانية بامتياز، ويُميط عنها تلك الحجُبَ التي تجعلها غامضةً مدهشة تُبلبِل الفكر وتحير الظنون، كما سنَكشف عن دورها وخطورتها في حياة الإنسان عمومًا. ها نحن أولاء في رحاب الملأ الأعلى.. وقد اكتمل خلق آدم الجسدي/ الترابي، ولم يبقَ غيرُ نفخ الروح المقدس فيه.. ها هو ذا الجسد الترابي جامد لا يتحرك، مجهولٌ لا يُعرَف، صامت لا يَنطق... فجأة.. فجأة.. يُنفَخ فيه الروحُ المقدس، فإذا هو متحرِّك بعدَ جمود، معروفٌ بعد نُكران، ناطق بعد صمت...) وï´؟ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ï´¾ [البقرة: 33] (فأنبأ آدم بالأسماء؛ بالحروف والكلمات.. باللغة، وحينَها اكتملت شخصية آدم وظهرَت كينونته المتميزة/ المميزة) ï´؟ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ï´¾ [الرحمن: 1 - 4] (وتجلى كائنًا يستحقُّ التكريم والاحترام، إنه كائنٌ ذو روح، ولغة، ولولا الروحُ ما كانت اللغة، ولولا اللغةُ ما كَشفَت الروح عن نفسها ولظلَّت مطمورة محجوبة. تتصل الروح باللغة وباسمها تنطق، وتضَع الروح ثقتَها في اللغة لتتحدث باسمها، وعلى اللغة أن تتذكر دائمًا ذلك الفضاءَ الرفيعَ المقام الذي وُلِدت فيه، وأفصحَت عن نفسها في ميدانه، عليها أن تعود إليه كأصلٍ منه انبجَسَت، ومن عينه سالت، ومن هيولاه تشكَّلَت، كذاكرةٍ منها يتأسَّس وجودُها الحقيقي، فاذا انفصلَت عنها أصبحَت كالشريد، كاللقيط الذي لا انتماء له، أو كالعضو المشطور من الذات، لا قيمة له ولا غاية، بل يتحول كيانها إلى وجود وهمي.. إلى سراب! الإنسان أساسًا هو الروح، والروح هي ذاكرة اللغة الأولى وأصلها، وحين تَنفصل اللغةُ عن ذاكرتها وأصلِها الأولِ تغدو ضدَّ الإنسان، وضد وجوده؛ لأنها ستَسوقه إلى التِّيه الأبدي؛ فما لا أصل له لا غايةَ له، ولا طريقَ يملكها لاحِبَة، تحضن خُطواته وتوجِّه سَيره... وإنما سيكون المجهول مصيره، ذلك المجهول الذي يملأ الذاتَ حيرة وضلالاً، وقلقًا مقيتًا.. ومميتًا. 2-إن اللغة هي الرَّحِم التي تحتضن مستوياتٍ عديدةً من نشاط الإنسان؛ إنها تستقبل بُذور التصورات والمعتقدات، وتربِّيها تربيةً خاصة، كما أنها تمتلك رحمًا للتاريخ والعلوم، ورحمًا خاصةً بتفاهات الإنسان وكذلك عزماته وشؤون حياته؛ صَغُرت أو كَبُرت، وهي تلبِّي كل ذلك بمختلِف مستوياته؛ لأن كيانها خُلق لأداء كلِّ هاتيك المهمات المتفاوتة. ولأن الإنسان متعدِّد الإدراك فإنه يدرك المشهودَ كما يدرك المَغيب، ولغته التي تعبِّر عن الأول ليست هي نفسَها التي تَكشِف عن الثاني أو تتصل به؛ إنَّ بينهما لفَرقًا شاسعًا.. الأولى لغة الاستعمال العادي (من العادة) الذي يحتكُّ بالأشياء ويتقمَّصها كما تتقمَّصه كأنهما شيء واحد، فتُصاب اللغة بالجمود والتحجر، وتصبح غيرَ قادرة على التطور المنفتح، أو التعبير عما فوق طاقتها المحدودة، أما اللغة الثانية فهي مترفِّعة متمنعة وعصيَّة على الجمود، ورافضةٌ للتقوقع في شرنقة العادة الخانقة؛ إنَّ لها عالَمًا آخرَ تتصل به، وتسعى للاحتكاك به والتعبير عنه، عالمًا واسعًا هو عالَم الروح؛ أصلها الأول وذاكرتها التي تطمح لربط علائقَ قوية ووثيقةِ العرى بها، لا تنفصم ولا تهترئ؛ لذلك تبقى مُنفتحة على الماضي والحاضر والمستقبل، وتَظَل محتفظة بحيويتها وديمومتها المتجددة التي تتجاوز الزمن؛ لأنه قيد، وتتجاوز منطق العقل؛ لأنه متغيِّر متقلب، وتتجاوز الغرائز؛ لأنها جامدة منغلقة، وتتجاوز تفاهات الإنسان؛ لأنها لا تملك قيمةً عالية في بناء الإنسان: إنسان الروح المكرم المحترم، وهذه هي اللغة الأصيلة للأدب، وهي التي تُعطيه قيمته الحقيقية، وتميزه عن باقي نشاطات الإنسان اللغوية التي لا طاقة لها للتعبير عن أشواق الإنسان ومشاعره ومواجيده التي تُفرزها غدد الروح الخفية. إنَّ الكشف عن الروح باللُّغة المبدعة هو مطلبُ الأدبِ الأساسُ، وإلا فهو لَغْو وتزجيةُ فراغ، ودعوةٌ للدوران في حَلْقة مفرَغة: حَلقة الغرائز والعوائد؛ سواء اجتماعية، أو فكرية، أو ثقافية... والكشف عن الروح الإنسانيِّ هو الرغبة الملحَّة التي تسكن عُمْق الأدب ولغتَه التي لا تصبح مجردَ وسيلة، وإنما تجليًا خالصًا للروح إلى درجة التَّماهي والاندِماج، إن اللغة بهذا المعنى هي التي تدل الإنسان على حقيقته الإنسانية بإشراقاتها الروحية وسموها النوراني، فهي ليست شيئًا مدنسًّا ولا مبتذَلاً ولا ينبغي أن تكون، إنها خلاصة روح الإنسان وأعظم قيمة تجسد كيانه الذي خلق طاهرًا مكرمًا، وحين يَشعر الأديب الحقُّ والمبدع الأصيلُ بكرامة اللغة المستمَدَّة من قداسة الروح فإنه يحرص جهده على حِفظها من الضَّياع، وعلى استعمالها بما يُرضي كرامتها تلك، ولا يُقيِّدها في سجن العادة ولا يَربطها بحبل إلى حجر الغريزة الجامد، فتجمد بدورها وتتحجر. إن الأدب من المنظور الإسلامي لا يحجر على اللغة الأدبية، ولا يمنع قواها الداخلية من الانبثاق والعطاء، بل يريد منها أن تكون مخلصة للإنسان، وأن تكون وفيَّة لروحه ووجوده، وللقيم العالية وللمبادئ السامية الطاهرة، يطلب منها فقط أن تكون مسؤولة عن حركتها في واقعه الظاهر والباطن. 3- على الأديب الأصيل - وخاصة الأديب المسلم - أن يكون عالمًا بذلك الصراع المرير بين الغرائز المنحرفة من جهة، والروح من جهة أخرى؛ من أجل اكتساب موقع خطير مؤثِّر في كيان الإنسان المعرفي والروحي والثقافي؛ للتحكم فيه وتوجيه مساراته ونشاطاته، وخصوصًا نشاطه اللغوي، لقد استطاعت الغريزة باتفاق متقن مع كهَّانها وسدَنتها من المفكرين الظلاميِّين والكتاب المنحرفين عبر التاريخ أن تُزيح الروح الحقيقية جانبًا، والأخطر من ذلك أن تتلفَّع بردائها وتتقمص شخصيتها وتستعير لبوسها. وقد أفسح الناسُ لِلُغة الغريزة كلَّ باب، وفتحوا لها كل منفذ، حتى طغَت على لغة الروح وقِيَمها، فإن تعجَب فاعجب من الذين يدَّعون أن الغريزة مكبوتة بفِعل الواقع، ووصايةِ الروح وقيمها، وأنَّ من حقها الآن أن تنفجر وتتحرَّر، وأن تنطق بلغتها الخاصة حتى تُطلِق سراح مكبوتها وتفكَّ قيودَ أسرها! فما أكذَب هؤلاء الناعقين زورًا! وما أفضح إفكهم حين يُلغون حقائق التاريخ! وما أقبح افتراءهم حين يقلبون الواقع المبين، ويُسدِلون عليه ستار التمويه والخداع! ألم تنطلق الغريزة منذ انحرافها عن فطرتها القويمة لتدمِّر وتنهب، وتعيث بفسادها الأكبر في الأرض كأنها على ظهر شيطان أو على ظهرها شيطان؟! ألم تسيطر أحقابًا وعهودًا على نشاطات وسلوك الإنسان في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن؟! فمن يُعاني من الكبت إذًا؛ هل هي لغة الغريزة أم لغة الروح؟! إننا لو أردنا أن نُشير إلى الجانب الذي ظل مقهورًا في حياة الإنسان ونشاطاته لأشارَت أصابع فكرنا وأصابع التاريخ إلى جانب الروح ولغته. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |