|
ملتقى الأخت المسلمة كل ما يختص بالاخت المسلمة من امور الحياة والدين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() قالت لي أمي سعيدة بشار نشأت على يَدَيِ امرأة غير عادية، إنها أمي، أمي أنا، وهي امرأة غاية في الروعة (رحمة الله عليها)، أمي لم تكن تحسن القراءة والكتابة، لم تدخل المدرسة أبدًا، ولم تتعلم في كُتَّاب قريتها إلا بعض السور القرآنية القصيرة، التي كانت ترددها بصعوبة في صلواتها، ولكنها مع ذلك كانت تحمل ثروة معرفية واقعية أَثْرَى بكثير من ثروتي المعرفية النظرية، كانت تستطيع توظيف ثروتها في بيتها، وفي محيطها، وكانت ثروتها تلك تحفظ لها في الوقت ذاته يقينها الديني، وأسسها العقائدية، وثقتها المطلقة بخالقها، في قضائه وقدره وعدله، وأما ثروتي المعرفية النظرية فتبعدني عن واقعي الذي يحيط بي، وتجعلني غريبة في وسط أيِّ تجمع عائلي، فمَن سيهتم بالحديث معي عن المناهج النقدية الغربية، أو سواحل الإبداع، أو غيرها من مثل هذه المواضيع؟ تساؤل يثير السخرية، ثروتي المعرفية - أيضًا - تدفعني دومًا إلى الشك الدائم في كل شيء يلامسه وعيي؛ ولذا أجدني أتساءل دائمًا حول كل ما يحدث من حولي، أو حتى ما لا يحدث، ثروتي المعرفية النظرية - كذلك - لم تحفظ لي انسجامي مع ذاتي، ولا مع العالم من حولي، وحرمتني لذة العيش في سلام. أمي التي لا تعي من الكتابة لا دالاًّ ولا مدلولاً كانت كثيرًا ما تحدثني عن أمور أجد فيها الحكمة التي أفتقدها، ولكنها لن تستطيع يومًا أن تدوِّنها؛ ولذلك سأكتب بعض أقوالها؛ وفاءً لها واحترامًا، وحبًّا أيضًا. كانت أمي تقول: إن مسيرنا في هذه الحياة يشبه السائر في الوحل، ما إن يرفع رِجلاً عنه حتى تغوص الأخرى فيه، وهكذا حتى يحين الأجل، فلا يستغرب أحد كثرة الابتلاءات ودوامها، فالدنيا ليست الجنة، ولم نخلق فيها للراحة. كانت أمي تقول: إن رأس المؤمن مثل حجم الأرض، من حيثما وقعت أصابته، هي طبعًا تتحدث عن الابتلاءات، فمن حيث جاءت فلا بد للمؤمن أن يكون له فيها نصيب معلوم، لسنا خيرًا من الأنبياء، فإن كانوا - وهم أشرف خلق الله - قد ابتلاهم، فماذا عنا؟! طبعًا سنُبتلى. كانت أمي تقول: إن سمعة المرأة مثل المرآة، أقلُّ نَفَس فيها يؤثر في صورتها، ويا ويل من يحاول كسرها ظلمًا وتجنيًا! كانت أمي تقول: إن الذهب حتى وإن أُسقط في الوحل فإن قيمته تظل كما هي، ويكفي أن يُرفع عنه، ويُنقَّى من أثره، حتى يعود إلى صورته الأولى، وكذلك من كان في أصله وجوهره ذهبًا، حتى وإن حاول أحدهم وصْمَه بنقيصة ليست فيه، فلن يستطيع إلى ذلك سبيلاً، فالأهم هو الجوهر لا المظهر. كانت أمي تقول: إننا في هذه الدنيا نستطيع إذا سئمنا أن نغير الأماكن، وأن نبتعد عن الأشخاص إذا أزعجونا، ونستطيع - أيضًا - أن نغير أحوالنا، ولكن في الآخرة لا مفر، فالأوجب التركيز عليها. كانت أمي تقول: إنه من عادى أخاه طمَّع الناس فيه، وجعلهم أكثر جرأة عليه. كانت أمي تقول: "أزكا ضزكا"؛ أي: "غدًا قبر"، وهو مثل أمازيغي قديم، منتشر عندنا في الجزائر، نقوله حينما نحاول الإقناع بضرورة الاهتمام بأمر اليوم دون الغد، فالغد قد تكون فيه نهاية الأجل، كانت أمي تهتم باليوم الذي بين يديها، ولا تكترث كثيرًا بهموم الغد، تُبكيها أكثر آلام الأمس، ولكنها كانت تبذل جهدها لتعيش يومها. قالت لي أمي يومَ رأتني أتكاسل عن صلاة الفجر: "كنت أعتقد حينما كنت أصغر من ذلك أنني حينما أكبَر وأفرغ من أعباء التربية والحياة سأتفرغ للصلاة والصيام، لو كنت أعلم أن مصيري سيكون على هذا الفراش مع المرض والعجز والأدوية عند كل لقمة، لقضيت ما مضى من عمري أصلِّي دون توقف، وأصوم دون فتور، ولكن لم أكن أعلم، وها أنت اليوم قادرة على الصيام والصلاة، فماذا يؤخرك؟! سؤال وجيه لي ولكم، أنتم. قالت لي أمي: "حضِّري لآخرتك بيديك، لا تُعوِّلي على أحد، ولا تنتظري من أحد أن يتصدق عليك، أو أن يبذل خيرًا لأجلك، عليك أن تكوني كالجندي الذاهب إلى الحرب، كل ما سيحتاج إليه سيحمله على ظهره وحده". كانت أمي تقول: "من ترك فمه مفتوحًا فسيدخل إليه كل شيء، فاتركي فمك دومًا مغلقًا إلا للضرورة". كانت أمي تقول: "افعلي الخير ما استطعت وارميه وراء ظهرك ولا تلتفتي، يومَ تحتاجين إليه ستجدينه أمامك"... آسفة أمي، لم أستطع عدم الالتفات، ومع ذلك وجدت كثيرًا من الخير يعود إليَّ من حيث لا أتوقع، وعند الحاجة. كانت أمي تقول: "قبل أن تُشيري إلى أيٍّ كان بإصبعك اتهامًا، اذكري الثلاثة الأصابع المتبقية التي تشير إليك". قالت لي أمي الكثير، ولا يزال كلامها يجوب الذاكرة، يتفقد سلامتها، ويثبت دعائمها، يشع بين ثناياها؛ ليبدد ظلمتها، ويؤنس وحشة غربتها، ميراث لا أزال أحمله، ولا أملُّ من احتضانه، هو لي كله، ولكم قليل منه للذكرى، هو واقع أصبح لي ماضيًا، ولا قدرة لي على استرجاعه، ولكن ماذا عنكم؟
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |