|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() القيم القرآنية: قيمة التعارف أنموذجا خالد ايت ازروال مقدمة: لا تكادُ أعمالُ المؤتمرات المتخصصة في حوارِ الحضارات وتحالف الثقافات، والمؤتمرات العلمية التربوية التي تتناولُ بالدراسة والبحث والتحليل موضوعَ بناء المناهج التعليمية من الناحيتين النظرية والتطبيقية - تنفك عن الحديث عن موضوع القيم التي تحملها هذه الحضاراتُ والثقافات أو هذه المناهجُ التعليمية في سياق تقاربٍ واحتكاك غير مسبوق للنظم والأفكار، والمفاهيم والتصوُّرات عن الذات وعن الكون، وعن الحياة والمصير. ويكاد يكون الإجماعُ في التوصيات والقرارات على أهمية إيلاء القيم الأهميةَ القصوى باعتبارها موجِّهةً للتصورات، ومن ثم التوجُّهات العملية للأفراد والجماعات؛ ولذلك نجد أن كل المنظمات الدولية على اختلاف توجُّهاتها ومرجعياتها تركِّز على ضرورة ترسيخ القيم المركزية؛ كالحرية والمساواة، والإنصاف والتسامح، والتعارف والتعايش، والكرامة وغيرها، معتبرةً أنها قيمٌ إنسانية كونية لا خلاف فيها. إلا أن سؤال المرجعية يبقى مطروحًا للنقاش بين داعٍ إلى الإسناد إلى المرجعية التي تحكُم كلَّ بلد، وتَنظِم عِقْدَ قوانينه في المجالات جميعًا؛ استنادًا إلى الخصوصيات الحضارية التي تميزه من غيره في بلدان العالم، بل ينظر إلى هذه الخصوصيات باعتبارها نموذجًا مختلفًا يسهم في تعزيز ثقافة الحوار والتعايش والتعارف والتفاهم، وكلُّ أفعال المشاركة هذه قائمةٌ على قيمة نبيلة، هي قَبول الاختلاف، وقتلُ الخصوصيات أو تذويبها يُسقطنا في عقلية الإقصاء وإلغاء الآخر، ويدل على أننا عجزنا عن تدبير الاختلاف[1]. "لهذا لا ريب في أن للقيم أهميةً كبرى ومكانة عالية في حياة البشرية، أفرادًا كانوا أم جماعات أم أقوامًا؛ في تصرُّفاتهم وعلاقاتهم، ومعاملاتهم وأخلاقهم، كما أن حضورها يتجلَّى في مناحي الحياة جميعًا؛ الأسرية منها أو الروحية، أو الاجتماعية أو الثقافية، أو البيئية أو الفنية، في الميادين العلمية والفكرية، بل الفطرية والشعورية، كما أن القيم هي التي تمكِّن الأفراد من البطولات والزعامات والسلوكات المتزنة المحمودة، كما تساعد المجتمعات في الرقيِّ والتقدم؛ باعتبار هذه القيم من مرتكزات الحضارة الإنسانية"[2]. من هنا يتبيَّن أن للقيم شأنًا كبيرًا وعظيمًا في الحياة البشرية، يظهر ذلك حينما نجد أن كلَّ مجالٍ: تدخُلُه القيمُ وتَقرَع بابه، والمتصفِّحُ لتراثنا الإسلاميِّ يدرك فعلًا ما للقيم من مزايا عظيمة، وخصال نبيلة، كما أن القرآن الكريم باعتباره دستور الأمة، وباعتباره المرجع والمصدر الأول والأخير لهذه الأمة على وجه الخصوص، وللبشرية على وجه العموم - نوَّهَ بمجموعة من القيم العظيمة. وفي هذا السياق يقول محمد بلبشير الحسني: "إن القرآن الكريم تحدَّث عن خالق القيم ومصدرها الأسمى، وعن قيم الإيمان به وخشيته وتقواه، ويتحدَّث عن تعليماته لخلقه، ودعوتهم إلى التعارف والتعاون فيما بينهم، وحثهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة، والمعاملات الحسنة، وتنبيههم إلى ما أنعم الله عليهم به من طاقات فطرية ومعرفية ولسانية وعقلية وحواسية، عليهم أن يستعملوها ويُحسنوا استغلالها"[3]. فالحسنيُّ في هذا النص يبيِّن لنا مجموعة من المبادئ والقيم الكبرى التي أمرنا بها الله سبحانه وتعالى؛ لنجسدها ولنوظِّفها في حياتنا الدنيوية التي فيها معاشنا، ونبتغي بهذا التجسيد والتوظيف الدارَ الآخرة التي إليها معادنا، وأرى - والله أعلم - أن قيمة التعارف من أجلِّ القيم ومن أدقِّ المقاصد، وتعد قيمة عظيمة في حياة الناس، وهم في حاجة ملحة إلى تصفُّحها، واستيعاب معناها، وبيان مقاصدها والغايات الموجودة وراءها؛ ولهذه الأسباب وغيرها مجتمعةً ارتأيت هذا التصميم لأتحدث - وعلى الله التكلان والاعتماد - عن هذه القيمة، واقتضى مني الحال والمقام أمورًا، هي: - 1 - 1 - 1 مفهوم التعارف لغة: جاء في مقاييس اللغة لابن فارس ما يلي: "العين والراء والفاء: أصلان صحيحان يدلُّ أحدها على تتابُع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السكينة والطُّمأنينة". أما ابن منظور، فيقول في لسان العرب: "عرف: العِرفان: العلم، عرَفَه يَعرِفه عِرْفةً وعِرْفانًا وعِرِفَّانًا ومعرفةً، ورجل عَرُوفٌ: عارف، يعرف الأمور، ولا يُنكِر أحدًا رآه مرةً، والعَرِيف والعارف بمعنًى؛ مثل: عليم وعالم. وتعرَّفت ما عندَ فلان؛ أي: تطلَّبت حتى عرَفت، وقد تَعَارَفَ القومُ؛ أي: عرَف بعضهم بعضًا، والعريف: القَيِّم والسيد؛ لمعرفته بسياسة القوم، والعريف: النقيب، وهو دون الرئيس، والعُرَفاء جمع عريف، وهو القَيِّم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس، والمعروف: ضد المنكر، والعُرف: ضد النُّكر، والمعروف: النَّصَفَة وحُسن الصُّحبة مع الأهل وغيرهم من الناس"[4]. نستنتج من هذه التعاريف اللغوية أن مادة "عرف" تأتي بأوجه عدة؛ كالطيب، والعالم، والعليم، والسيد، والقيم، والحاجز، والاعتراف، والإقرار، والنقيب والرئيس، والتعارف... إلى غير ذلك. 2 - 1 - 1 - 2 مفهوم التعارف اصطلاحًا: التعارف "مبدأ إسلاميٌّ، وإستراتيجية للمستقبل الإنساني؛ فإننا نفهم تمامًا دَورَ الرسالة الإسلامية الإنسانية، الدور الذي لم يتوقَّف ولن يتوقف ولا ينقطع؛ فهو مستمَدٌّ من روح القرآن الكريم، وتدبير خالق هذا الكون والأكوان جميعًا، ودعوة القرآن الكريم للتعارف تعني تمامًا إيجاد القواسم المشتركة بين بني البشر، دعوة هي تنبيهٌ واضح لهذا المخلوق حتى يدرك طبيعتَه العقلية والنفسية أولًا، ثم طبيعتَه الإنسانية الشمولية ثانيًا، ثم دَورَه في الاستخلاف وتعمير الدنيا ثالثا"[5].. من خلال هذا التعريف الذي قدمه الدكتور حسن الباش، يتضح لنا أن التعارف قيمة نابعة أصالةً وأساسًا من القرآن الكريم، الذي أشار إلى هذه القيمة، ويُعَدُّ المؤسس الأول لمجموعة من المفاهيم والمصطلحات ذات الأبعاد الشاملة والآفاق العميقة والمتسعة؛ فدعوةُ القرآن الكريم إلى هذه القيمة - قيمة التعارف - دليلٌ على أن الإنسان مدنيٌّ بطبعه، وكائن اجتماعيٌّ بطبعه، لا يستطيع العيش بمفرده منعزلًا عن باقي البشر، بل حتى الحياة الكريمة، والسعادة الحقيقية، والطمأنينة القلبيَّة لا تتحقَّق إلا إذا خالطتَ الناس، وعشت بين أحضانهم وفي كنفهم، فالإقبالُ على الناس ومساعدتهم، والصبر على أذاهم، والعفو عن أخطائهم - من علاقات المسلم الصالح المصلح، وبذلك تتحقق المودة والألفة والرحمة، ويحصل الحوار بين البشر، الحوار الذي يخاطب العقولَ والأذهان، والقلوبَ والنفوس، يقول صاحب كتاب مناهج التعارف: "إن أمة الإسلام تؤسس بطريق التعارف بين أبناء البشرية، لكن هذه الأمة تفهم تمامًا كيف يكون هذا التعارف، فالتعارف حوار العقول والنفوس، وحوار التوجُّهات والمنعطفات والمعوقات، الحوار الذي يستمع أطرافه بعضهم إلى بعض، فيحترمون الآراء والمعاناة والتوجهات، لا أحد يصادِر رأي أحد، ولا أحد يفرِض وجهةَ نظره على الآخر فرضًا، وإذا كانت أمة الإسلام تدعو للتعارف والحوار، فإنها في الوقت نفسه تحرص على أن الهُوية التي تتمتع بها وتنتمي لها هي هوية اختارها الله سبحانه لها، فهي لا تذُوب ولا تُذوَّب، ولا تتنازل عن سماتها"[6]. قيمة التعارف: يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، فهذه الآية جاءت تنبيهًا إلى وحدة أصل الإنسان رغم تفرُّق الشعوب والقبائل، ووحدة إمكاناته واستعداداته، على تعدُّد أوصافه، وتنوُّع مكتسباته، وضرورة التعارف المؤدي إلى التآلف والتوادد المنافي لأنواع التعالي والتفاخر والتعاظم، وتحديد مقياس التفاضل الحق بين الناس، وأساسه هو التقوى، التي تعني الاستقامة على ما يحقق للإنسان سعادته في الدارين، وراحتَه وطمأنينته في الحياتين، والمقياس الذي يبعث على التنافس الجميل، لا على التحاسد البغيض، وكانت الآية تبيانًا لما تقدَّم قبلها في السورة وتقريرا له"[7]. يتبيَّن لنا أن المجتمع مجتمع تعارُفٍ ومساعدة واحترام، والله سبحانه وتعالى حذَّرنا من مجموعة من الأخلاق الذميمة والرذيلة، خاصة في سورة الحجرات، فنهانا عن سوء الظن واللمز، والفسق، والغِيبة والنميمة، وكل ما يعود على البشرية بالضرر، وتسهم في تمزيقها وتناحرها، وبعد ذلك أمَرَنا بالتعارف؛ ليدلنا على قيمته ومكانته وإسهاماته في تحقيق الوحدة، وربط الأواصر لتحقيق الأخوة الصادقة؛ لأن الله أراد منا أن نتَّحد، وحذرنا من الفُرقة والاختلاف... فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]. وبالتالي فإن في القرآن الكريم ما لا يعد ولا يحصى من الآيات التي تأمرنا بالوحدة والتماسك، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح الاجتماعيِّ والسياسي والإنساني الإسلامي. وتعد قيمة التعارف من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وهي بمنزلة قانون أو قاعدة عامة من أصول الإسلام الكبرى؛ "فالتعارف قاعدة اجتماعية عظيمة، وأصل من أصول الإسلام الكبرى لطبيعة العمران الاجتماعيِّ في الإسلام، المبنيِّ على حقائق الإيمان، إنه عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناسِ، المتعددة الشعوبِ، وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع، إنه ميزان الله المبرَّأ من شوائب الهوى والاضطراب"[8]. فالله سبحانه وتعالى خلق الناس سواسية بميزان العدل والحكمة، لا تفاضُل بينهم إلا بالتقوى، وإنِ اختلفوا في اللون والعِرق والدِّين واللغة والجنس والصفة، فميزان الله لا يعرف الفوارق ولا الطبقات، والشريف والضعيف، والهوى والاضطراب، والميل والانحياز، والظلم والغشَّ؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 9]؛ فميزان الله قائم على العدل والحق، بل حذر ووعد الذي يغش في الميزان بالويل والعذاب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3]. أوردنا هذه الآيات الكريمة؛ لنبين الحقيقة التي قام عليها ميزان الحق الإلهي؛ ليطمئن كلُّ أحد منا ويرتاح، ويخضع ويَذِلَّ أمام حكم الله وقضائه وقدره، ولنبين جزاء من سعى في الأرض عنادًا وتكبرًا وفسادًا، ولا يرضى بحكم الله وقدره، ولا يحتكم لعدله ولا ميزانه، ويعتقد جهلًا منه أنه أفضل من الآخرين، وأن له اليدَ الطُّولَى والبصمة الفضلى في كل مناحي الحياة؛ والحقيقة أنْ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى؛ فالتفاضل الحق في هذه الخصلة - التي هي التقوى - هي شعار المؤمن الحق، ورايته الحقة، من انتصبها حظي بعناية من الله، وكفى مصدقًا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2، 3]. وعلى أي حال، فالاعتزاز بالنفس والافتخار مع التكبر والعناد - من صفات الشياطين المردة، والكفار الجبابرة، ومن يحذو حذوَهم في هذه الخصال والصفات. إننا اليوم - رغم العصرنة، والتقدُّم والازدهار، والحضارة والتكنولوجيا - ما زلنا نعيش مثل هذه الأخلاق التي انتشرت في المجتمع الجاهليِّ؛ من عصبية وكبرياء، وأنفة وطيش... إلى غير ذلك، وفي هذا الصدد يقول الشاعر الجاهليُّ عمرو بن كلثوم: ملأنا البَرَّ حتى ضاق عنَّا ![]() وماء البحر نملؤه سَفِينَا ![]() إذا بلَغَ الفِطامَ لنا صبيٌّ ![]() تخرُّ له الجبابرُ ساجدينَا ![]() ألَا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا ![]() فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينَا[9] ![]() فهذا الشاعر الجاهليُّ يصوِّر لنا هذه الأخلاق الذميمة، التي ينبذها الإسلام ويرفضها، حيث يقول الله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، فالعفو والصفح من سمات عباده المتقين الذين يسعَون في صلاح أنفسهم وفي صلاح غيرهم، ويتعاونون على البر والتقوى، ويجتنبون كلَّ الطرق المؤدية بهم إلى المعاصي، مما ينسجم مع قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]. فهذا هو الإنسان الصالح؛ يحب الخير، وينبذ الشر، ويميل إلى الآخر من حيث يدري أو لا يدري، ويشاركه ويخدمه، يتقاسمون كلَّ المسرات والمضرات رغم اختلافهم في المعيشة والرزق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]. والتعاون والخدمة، وتبادل الآراء والخبرات، وتقديم التضحية والجهد من أجل الآخر - كلُّ هذا لا يتحقق إلا تحتَ ظلِّ قيمة التعارف، التي هي أصلٌ لجلِّ القيم الأخرى، والمقاصد الكبرى. والمتصفِّح للقرآن الكريم والمستقرئ لآياته، يجد أن قيمة التعارف "وسيلة من أهم وسائل قيام الضروريات الخمس (الدين، النفس، النسل، المال، العقل) وحفظها، لكننا بالرجوع إلى نصوص الشريعة نجد أن التعارف مقصد تضافرت جملة من الأحكام على تحقيقه، منها": أ - الحث على صلة الرحم: أمرنا الله سبحانه أن نتحلى بهذا الخلق العظيم والنبيل في مجموعة من آي القرآن؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، وقوله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]، وقوله: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 6]، وقوله: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [الرعد: 25]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم))[10]، وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه: "اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قُرب بالرحم إذا قُطعت وإن كانت قريبة، ولا بُعد بها إذا وُصلت وإن كانت بعيدة". [11]. كلُّ هذه الأدلة تبيِّن مكانة صلة الرحم، الذي يحصل من خلاله "التعارف العمرانيُّ الإنساني فيما بينكم؛ من أجل التعاون على البر والتقوى، وبناء الحضارة الإنسانية على توحيد الله وعبادته، وإنما يكون ذلك بتمتين روابط الأنساب، وحفظ أرحامها؛ أسرةً وقبيلةً وشعبًا"[12] فبالتعارف يحصل الحب والودُّ بيننا، والتعاون على الخير ومشاريعه، وتبادل الأفكار والخبرات والنصح، ونتَّحد صفًّا صفًّا، وبهذا المعنى نستطيع أن نبني الحضارة ونشيدها بما تَحمِل كلمة حضارة من معاني التطور والتقدم والازدهار. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |