لا دين إلا بسنة سيد المرسلين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         دعاء الشفاء ودعاء الضائع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          تخريج حديث: رقيت يوما على بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته، مستقبل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          أسماء العقل ومشتقاته في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          كيف نكتسب الأخلاق الفاضلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: المؤمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          وقفات تربوية مع سورة التكاثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          {وما كان لنبي أن يغل} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          بين الاجتهاد الشخصي والتقليد المشروع: رد على شبهة «التعبد بما استقر في القلب» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          الإسلام والحث على النظافة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          فتنة تطاول الزمن.. قوم نوح عليه السلام نموذج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-11-2020, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي لا دين إلا بسنة سيد المرسلين

لا دين إلا بسنة سيد المرسلين (1)
د. محمد ويلالي


إن مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة تحتضن كثيراً من الخير لمن أحسن استعمالها، ولكنها تنطوي على كثير من الشر لمن أراد انتهازها ببعث رسائل التشويش إلى شباب المسلمين، لإفساد دينهم، والطعن على عقيدتهم. من ذلك بعض مقالات تروج هذه الأيام بنسيج بعض المتشيعين المغرضين، تتناول - بكثير من الذكاء والتلبيس - جملة شبه للطعن في السنة النبوية، التي - في زعمهم - ما نقلها إلا الأعاجم، مثل محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم النيسابوري، وابن ماجة القزويني، وأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النسائي، وكلهم من أبناء القرن الثالث الهجري، مما يطرح عندهم إشكال تدوين السنة قبل هذا التاريخ، ليخلصوا إلى أن لأهل البيت كتبا في الحديث قبل هذا الزمان، عبثت بها أيدي أهل السنة - في تصورهم الكاذب -، سعيا وراء تمكين أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الخلافة على حساب علي رضي الله عنه. فاتهموا جميع محدثينا الموثوقين بأنهم كذبة متحايلون، ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، لتكون النتيجة في النهاية استعاضةَ هذه الكتب بأخرى تخدم أطماعهم، أو رفضَ الجميع اكتفاء بما في القرآن الذي ثبت نقله بالتواتر جيلا عن جيل.

ولعلهم يأتون ببعض النصوص يلوون أعناقها لتساير أهواءهم. ولعلهم يزعمون أنهم من أهل الاتباع، وأنهم لا يقصدون إلا الفهم الصحيح للدين، وهم يبيتون من قصد تمزيق الأمة ما يبيتون. ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].

انتشر هذا الكلام في بعض مواقع التواصل كالنار في الهشيم، فتعالت الأسئلة حول صحته، وصار بعض شبابنا ما بين مصدق ومكذب، وشاك ومتردد، وحائر ومتوقف، ومسترجع ومحوقل.
أبنت الدهـر عندي كل بنت ♦♦♦ فكيف وصلت أنت من الزحام؟

وإن زرع مثل هذه الشبه بين الفينة والأخرى، دليل على وجود متربصين بديننا، ممن يستأجرون للتشويش علينا، ويُستعملون للتشكيك في عقيدتنا ومبادئنا، ويُدفعون لخدمة عقيدة أعدائنا ومناوئينا. ومن ثم وجب التنبيه - مرة أخرى - إلى حسن استغلال فضاء الشبكية، وإنفاق الوقت فيما ينفعنا ولا يضرنا، وسد الطريق عن كل من يحاول استفزازنا في ديننا، وبخاصة فضاءَ الفيس بوك، الذي صار يصنف أكبر دولة في العالم، حيث أصبح سكانه المشتركون فيه يزيد عن مليار و600 مليون.

إن عقيدة أهل السنة والجماعة تقضي بأن السنة شقيقة القرآن ومثيلته في الحجية والاستدلال، وأنهما مصدران للتشريع لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأنهما كلاهما وحي من الله - تعالى -، وأن السنة - كالقرآن - تؤخذ برمتها بلا تجزيئ، وأنها كلها تشريع خاضع في الدلالة للأحكام الخمسة: الواجب، والمندوب، والحرام والمكروه، والمباح. وانعقد إجماع علماء المسلمين على ذلك.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة -، أو أَقر عليه، أو فعله، ولم ينسخ، فهو تشريع. والتشريع يتضمن الإيجاب، والتحريم، والإباحة". ولذلك نعتبر أمره صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والعبادة واجبا، فهو دين، ونعتبر ترغيبه في السواك أمرا مستحبا، وهو - كذلك - دين.

وحاجة المسلم إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحاجته إلى الماء والهواء، لا يعرف دينه إلا عن طريقها، ولا يستقيم حاله إلا بها، ولا يميز بين الحلال والحرام إلا بوساطتها، بل لا يمكن أن يفهم كلام رب العالمين إلا باعتمادها.
قال الشافعي - رحمه الله -: "وما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس لله فيه حكم (أي في القرآن)، فبحكم الله سَنَّهُ".

قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]. قال الإمام الطبري - رحمه الله -: "ويعني بالحكمة: السُّنةَ التي سنها الله - جل ثناؤه - للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقال الإمام البغوي في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]: "أراد بالذكر الوحي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبينا للوحي. وبيان الكتاب يُطلَب من السنة".
وقال - تعالى -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]. قال البغوي: "أجيبوهما بالطاعة".

وحث صلى الله عليه وسلم على ضرورة العناية بنقل حديثه، والتثبت في هذا النقل، لأن الحديث دين وتشريع، فقال: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لهُ مِنْ سَامِعٍ" صحيح سنن الترمذي.
وحذر صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه، وجعل عاقبة ذلك شديدة الوخامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ. مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ" مسلم.

فكيف - مع كل هذا - بقوم ينكرون حجية السنة، ويرون الاستغناء عنها، لشبه واهية، وتخرصات عقلية؟ أولئك الذين حذرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ الله - عَزَّ وَجَلَّ -، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ" صحيح سنن ابن ماجة.

ولقد نص أهل العلم على أن من أنكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم واستغنى عنها، أو اعتقد أنها ليست مصدرا للتشريع، فقد خرج من الملة التي مدارها على القرآن والسنة. قال ابن حزم - رحمه الله -: "ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، لكان كافرا بإجماع الأمة". وقال الشوكاني - رحمه الله -: "إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالهَا بالتشريع ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حَظَّ له في دين الإسلام".

ورحم الله ابن القيم إذ قال:
يا من يريد نجاته يوم الحسا
ب من الجحيم وموقد النيرانِ

اِتبَعْ رسول الله في الأقوال وال
أعمال لا تخرج عن القرآن

وخذ الصحيحين اللذين هما لِعَق
د الدين والإيمان واسطتان

واقرأهما بعد التجرد من هوًى
وتعصبٍ وحميةِ الشيطان


لقد نسي هؤلاء الطاعنون أن منهج المحدثين في نقل الحديث وتوثيقه وتمحيصه هو من أدق المناهج العلمية، التي انبهر به بعض الغربيين - أنفسهم - فَحكَّموه في تاريخهم وأخبارهم، وجعلوه ميزان ذهب يميزون به بين الصحيح والسقيم، وبين الحق والباطل، لما طبع عليه هذا المنهج من شدة التحري والتدقيق والتثبت.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".

وكانوا يرحلون المسافة الطويلة من أجل سماع الحديث من مصدره بلا وساطة، حتى إن شعبة بن الحجاج رحل ألف فرسخ في حديث واحد. وقال الشعبي - رحمه الله -: "لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة، ما رأيت أن سفره قد ضاع". ورحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد.

واختص المسلمون - دون غيرهم - بالنقل عبر الإسناد، وهو ذكر سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث واحدا واحدا. قال محمد بن المظفر: "إن الله - تعالى - قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد".
والإسناد عند المحدثين شرط لقبول الحديث. قال عبد الله بن المبارك: "إن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".

وروى مسلم بسنده عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
واشتهرت بينهم قاعدة: "إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل".

فهل يستطيع أحد - بعد هذا - أن يشكك في المصدر الثاني للتشريع إلا أن يكون متحيزا لفئة ضالة، أو متحرفا لمنابذة أهل السنة؟

لولا الحديثُ وأهله لم يستقِم
دينُ النبي وشذَّ عَنا حُكمُهُ

وإذا استرابَ بقولنا متحذلِقٌ
فأَكَلُّ فهمٍ في البسيطة فَهمُهُ





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-11-2020, 11:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لا دين إلا بسنة سيد المرسلين

لا دين إلا بسنة سيد المرسلين (2)


د. محمد ويلالي






دار موضوعُنا في المناسبة الماضية حول السُّنة النبويَّة وأهميتِها، باعتبارها المصدرَ الثانيَ للتشريع الإسلامي، وكان الدافعُ لذلك استغلالَ بعض الجهات والطوائف لعددٍ مِن وسائل التواصل الاجتماعي، لشنِّ هجمةٍ شرسةٍ على الحديث النبويِّ الشريف وعلى كتب السُّنة، التي قيَّضها الله تعالى لنقلِ ما أُثِر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أقوال وأفعال وتقريرات، مما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم ليبلِّغَه لأمَّته؛ بيانًا لكتاب الله تعالى، وتفصيلًا لمجملِه، وتخصيصًا لعامِّه، وتقييدًا لمطلقه، بل وتأسيسًا لأحكامٍ جديدة غير موجودة فيه، مما لا يكمُلُ الدين إلا به، ولا يُفهَم كلامُ رب العالمين إلا بالاستناد إليه.

كل ذلك طعنًا على أهل السُّنة والجماعة، وتشويشًا على شبابِهم وطلاب العلم منهم، ببث الشُّبَه بينهم، وهَتْك ستار القداسة التي يُكنُّونَها لمصادر تديُّنهم، حتى يساورَهم الشكُّ في أحاديث نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، فيتحولوا إلى دواوين غيرهم، أو ينفروا من الحديث جملةً، فلا يروا التديُّن إلا في القرآن وحدَه! الذي لا يمكن فهمُه إلا في ظلِّ السُّنة المبيِّنة المفسِّرة، وهو الذي يقول فيه سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، ويقول: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].

وبيَّنَّا أن مِن شبههم تساؤلَهم عن فترةِ فراغٍ لم يُنقَل فيها الحديث في زعمهم، حتى جاء مجموعةٌ من الأعاجم؛ من أمثال البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي وغيرهم، وهم كلُّهم أبناء القرن الثالث الهجري، مما يستوجب بيانًا مُركزًا حول كيفية تدوين السُّنة النبوية!

مِن المتفق عليه أن السُّنة النبوية لم تُدوَّن بشكل كامل ورسميٍّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأسبابٍ منطقية، اقتضَتْها ظروف المرحلة وواقع الحالة؛ منها:
أن فترة النبوة بلغَتْ ثلاثًا وعشرين سَنةً، فكان يصعب أن يُدوَّن كل ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال ومعاملات طيلةَ هذه الفترة، مع ما يحتاجه التدوين مِن أدوات كانت يومَها عزيزةً نادرة، ومِن تفرُّغٍ للكَتَبة الذين كانوا معدودينَ على رؤوس الأصابع.

كانت الأولوية تقتضي الانكبابَ على تدوين القرآن الكريم وحفظه أولًا، الذي استمرَّ نزوله طيلة فترة النبوة، حتى توفي صلى الله عليه وسلم.

لو فُتِح المجال على مصراعَيْه لتدوين السُّنة، لانشغل الصحابةُ بها عن القرآن، فلم يُوفُوه حقَّه مِن العناية من الحفظ والتدبر.

الخوفُ مِن اختلاط القرآن بالسُّنة؛ لورودِ بعض العبارات النبوية هي مِن الإيجاز والدقة وجوامع الكلم، ما قد يلتبس بالقرآن؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، فمَن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليَمْحُه))؛ مسلم.

كانت ذاكرة الصحابة قويةً تستوعب حفظَ السُّنة، فتركوا كتابتَها؛ حتى لا يتَّخِذها حديثو العهد بالإسلام قرآنًا:
فعن أبي نضرة قال: قلتُ لأبي سعيد الخدري: ألا تكتبنا فإنَّا لا نحفظ؟ فقال: "لا، إنا لن نكتبكم، ولن نجعله قرآنًا، ولكن احفَظوا عنا كما حفِظنا نحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ الدارمي.

قال الخطيب البغدادي: "إن كراهة الكتاب في الصدر الأول إنما هي لئلا يُضاهَى بكتاب الله تعالى غيرُه، أو يُشتغَل عن القرآن بسواه، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميِّزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُؤمَن أن يُلحِقوا ما يجدون في الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلامُ الرحمن".

غير أن هذا النهي نُسِخ بعد أمنِ هذه المحاذير، وهو ما استقرَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، فقد همَّ صلى الله عليه وسلم أن يُدوِّن لنا كتابًا فيه أقواله وأحكامه؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أدركَتْه الوفاة، قال: ((ائتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابًا لن تضلُّوا بعده أبدًا)).

ولقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم كتابةَ الحديث في مواطنَ عديدةٍ:
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحَيْهما أن رجلًا يُدعَى أبا شاهٍ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن اليمن، فقال: اكتب لي يا رسول الله (أي: خطبة حجة الوداع)، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اكتُبُوا لأبي شاه)).

وسئل عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أي المدينتينِ تُفتح أولًا: القُسْطَنطينية أو رومية؟ فدعا عبدُالله بصندوقٍ له حلق، فأخرج منه كتابًا، فقال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب؛ إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تُفتح أولًا))؛ رواه أحمد، وهو في الصحيحة.

وكان لبعض الصحابةِ كتبٌ وصحائف كانوا يُدوِّنون فيها ما سمِعوه من حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من ذلك:
الصحيفة الصادقة لعبدِالله بن عمرو بن العاص، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب"؛ البخاري.

وينتبه بعضُ الصحابة إلى كتابة عبدالله بن عمرو، فكأنهم أنكروا عليه ذلك، قال رضي الله عنه: كنت أكتب كلَّ شيء أسمَعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظَه، فنَهَتْني قريشٌ، وقالوا: أتكتبُ كل شيء تسمعه، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلَّم في الغضب والرضا؟ فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه، فقال: ((اكتُبْ، فوالذي نفسي بيده، ما يخرُج منه إلا حقٌّ))؛ ص. سنن أبي داود.

صحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد سأله أبو جُحَيفة فقال: "هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبةَ، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في كتابه، وما في الصحيفة"، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفَكاك الأسير، وألا يُقتَل مسلمٌ بكافر"؛ البخاري.

ولجابر بن عبدالله رضي الله عنه صحيفةٌ فيها أحاديث كثيرة، أخرج منها مسلم في صحيحه في مناسك الحج ما يقرب من ثلاثين حديثًا، أطولها حديث جابر في حجة الوداع.

ويروي ابنُ سعد أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كان له حملُ بعيرٍ مِن ألواح كتب عليها شيئًا مِن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمر أنسُ بن مالك رضي الله عنه ابنَيْه - النضر وموسى - بكتابة الحديث والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والوقائعُ في كتابة السُّنة في عهد الصحابة كثيرةٌ، حتى إن أحدَ الدارسين جزم بوجود أكثر مِن خمسين صحابيًّا كتبوا الحديث، أو كُتِب لهم.

ولقد تفرَّق الصحابة في الأمصار، ونشَروا أحكام الشرع المفصَّلة كما أخذوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحل إليهم صغارُ الصحابة يعبون مِن علمهم، ثم تلقَّف التابعون هذه الكتابات والأحكام، وأفاضوا في تدوين الحديث الشريف، عبر صحف مشهورة؛ مثل صحيفة همَّام بن منبه التي أخذها عن أبي هريرة، واشتهرت بالصحيفة الصحيحة، ونسخة الأعرج عن أبي هريرة، وصحيفة أبي الزبير عن جابر بن عبدالله.
وفي عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله - المتوفى سنة 101 هـ - بدأ التدوينُ الفعلي للحديث النبوي.

قال البخاري في صحيحه: "وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظُرْ ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتُبْه؛ فإني خِفتُ دروسَ العلم وذَهاب العلماء، ولتُفشُوا العلم، ولتَجلِسوا حتى يعلم مَن لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا".

قال الحافظ ابن حجر: "وأولُ مَن دون الحديث ابن شهاب الزهريُّ على رأس المائة، بأمر عمر بن عبدالعزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف".
أما أول مَن صنف الحديث في الإسلام، فهو ابن جريج، المتوفى سنة 150هـ.
وقيل: مالك بن أنس للموطأ، وقد توفي سنة 179 هـ.
وقيل: الربيع بن صبيح، المتوفى سنة 160 هـ.

وأما دور علماء الحديث؛ كالبخاري وغيره، فيتجلَّى في التبويب البديع، والتصنيف الدقيق بحسب منهج كل مؤلفٍ في ذكر الصحاح، أو السنن، أو المسانيد، وما يستلزم ذلك من مناهجَ فريدة، استغرقت من بعضهم أزيدَ مِن عشرين سنةً، تنقيبًا وتفتيشًا وتقميشًا.

فكيف يقال بعد هذا بوجودِ فترةِ فراغٍ لم تُدوَّن فيها السُّنة، أو دُوِّنت وطُمِست، مما يَدحَضُه البحث العلمي، ويردُّه التفكير المنطقي؟


أما تثبُّت الصحابة ومَن بعدهم في قَبول الرواية، وتدقيقهم في صحة الحديث، فذاك منهج علميٌّ عزَّ نظيرُه، سيكون موضوع المناسبة القادمة إن شاء الله تعالى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 73.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.14 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.91%)]